أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جواد المظفر - التلقي في القرآن الكريم















المزيد.....



التلقي في القرآن الكريم


جواد المظفر

الحوار المتمدن-العدد: 4236 - 2013 / 10 / 5 - 01:36
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    




-;- التلقــي فــي الْقُرْآَن الكريـــم
-;- جواد المظفر

أَسَّسَ النَّصُّ الْقُرْآَني مَنْظُوْمَةً فِكِرِيَّةً تَحْتَرِمُ العَقْلَ الإِنْسَانِيَ وَتَحفَظُ لَهُ مَكَانَتَهُ، الَّتِي كَرَّمَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى بِها ﴿-;-وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾-;- الإسراء:70، وَجَاءَ عَلَى مُسْتَوىً بَلَاغِيٍّ لَمْ يَألَفْهُ العَرَبُ، بِرَوْعَةِ بَيَانِهِ وَسُهُولَةِ أَلْفَاظِهِ، وَدِقَّةِ مَعَانِيهِ، (وَقَطَعَ بِمُعْجِزَ التَّألِيفِ أَطمَاعَ الكَائِدينْ، وأبانه بعجيب النظم عن حيل المُتكلمين، وجعله متلوًّا لا يمل على طول التِّلاوة، ومسموعًا لا تمجه الآذان، وغضًّا لا يخلَق على كثرة التّرداد، وعجيبًا لا تنقضـي عجائبه، ومفيدًا لا تنقطع فوائده... وجمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه)( )، فَسَحَرَ مُنْذُ اللحَظَةِ الأُولى ﴿-;-مَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ أَوْ جَعَلَ عَلَى بَصَـرِهِ مِنْهُم غشاوة)( )، وَكَانَ سَبَبَاً لإِيْمَانِ مِن آمَنَ فِي بِدَايَةِ الدَّعوَةِ يَوْمَ لَمْ يَكُن لمُحَمَّدٍ حَولٌ وَلَا طَوْل، وَلَمْ يَكُنْ لِلإِسْلَامِ قُوَّةٌ وَلَا مَنعة( )، (وَلِأَنَّ العَرَبَ أُمَةٌ جُبلت عَلَى ذَكَاءِ القَرَائِحِ وَفطنة الأفهام، فَعَلى دعامة فطنتهم، وذكائهم، أقيمت أساليب كلامهم، وبخاصة، كلام بلغائهم، لذلك كان الإيجاز عمود بلاغتهم لاعتماد المتكلمين عَلَى إفهام السَّامعين)( )، فكان معجزاً في أسلوبه، لأنه أودع في معانيه مِنَ المَقَاصِدِ أَكثَرَ مِمَّا تَحتَمِلُه الأَلفَاظُ، فَكَانَ دُخول الأوائل يَعُودُ بِسَبَبِ الْقُرْآَنِ، فَإِسلَامُ عُمَرَ بن الخَطَّابِ «-;-» وَإِن اختلفت الرِّوايات إلا أنَّها تجمع أنه سمع أو قرأ آيات مِن الْقُرْآَن( )، فَأَدْرَكَ كَمُتَلَقٍ وَاعٍ أنَّ هَذهِ الكَلِماتِ لَا تَصدر عن بشـرٍ، وهذا الوليدُ بن المغيرة، يجيب قريش: (لَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ، فَمَا هُوَ بِالشِّعْر قَالُوا: فَنَقُولُ: سَاحِرٌ؛ قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرِ، لَقَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا عَقْدِهِمْ؛ قَالُوا: فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟ قَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَعَذِقٌ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجُنَاةٌ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ لَغَدِقٌ - وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِن هَذَا شَيْئًا إلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لَأَنْ تَقُولُوا سَاحِرٌ، جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ الجزء الأول وَزَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ)( ).

فَالتَقَتْ (قِصَّةُ الكُفر بقصة الإيمان، في الإقرار بسحر هذا الْقُرْآَن؛ [...] فَتَشْـرَحُ التَّقوى صَدْرَ عُمَر للإسلام، وتصد الكبرياء الوليد عن الإذعان؛ ويذهبان في طريقهما مُتدابرين؛ بعد أنْ يَلتَقِيَا فِي نُقْطَةٍ وَاحدة: نقطة الإقرار بسحر الْقُرْآَن)( )، وكذلك حال الجميع في تلقيهم للقرآن، فبين مُنْكِرٍ أوْ مُصدق، ولم يشغلهم في بادئ الأمر (مَا وَرَاءَ النُّصوصِ) بل كان جل تركيزهم عَلَى القراءة الأولى التي سحرتهم فـ(تلك مرحلة التذوق الفطري للفنون)( )، فركز النَّص الْقُرْآَني عَلَى الاستجابة الفطرية للنص مِن خلال (اللفظ/ الإيقاع والنبر/ الفاصلة/ التصوير...)، والانطباع العام الذي يتركه كُل نص في ذهن المتلقي، وإن كان هذا الانطباع غير واضح المعالم، فكان التَّأثير أولا يكمن في النَّسق الْقُرْآَني ذاته لا في الموضوع( )، فالآيات المكية كانت تمتاز بقصرها وقوة الألفاظ وإيجاز اللفظ مع بلاغة المعنى وتجانسها الصوتي، لأن المقام كان لمحاججة المُعانِدين، الذين لا يرغبون سماع القرآن (خوفاً أو كبراً)، ولا تصلح الآيات الطوال لمثل هذا المقام.

-;- القرآن والدراســــة اللغويـــــة

نشأت كُلُّ الدِّراسات اللغوية والبلاغية في أحضان النَّص الْقُرْآَني، فقد أثار نزوله حركة فكرية لدى المؤيدين والمعارضين على حد سواء، وكانت البدايات في عصـر الرسول حين كان يمارس دوراً تفسيرياً لبعض الآيات مُجيباً أو معلقاً أو شارحاً، وقد نهي الرسول «-;-» عن تدوين غير الْقُرْآَن خشية التباسه بغيره، فروي عن علي بن أبي طالب«-;-» (ما كتبنا عن النبي«-;-» إلا الْقُرْآَن) الأعراف: 204، فكانت علوم الْقُرْآَن تنتقل مشافهة، لعدم حاجة العرب في ذلك العَصْرِ إِلى تَفْسِيْرٍ مُدَوَّنٍ كَونه قَد نَزَلَ بِلُغَتِهم، ﴿-;-وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) إبراهيم: 4، ولاعتقادهم أنَّ الله تكفل حفظ القرآن، ﴿-;-لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ) القيامة: 16-17، إلا أن الحال تغيرت بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية، وكان لابد أن يتعلم غير العرب اللغة العربية ولاسيما أن بعض العبادات تشترط (العربية)، كالصلاة وجعل الله من (التِّلاوة) عبادة يتقرب بها المُسلم إلى ربه، فكان لابد لغير العرب أن يتعلموا (اللغة العربية)، ولأن السليقة العربية بدأت تضعف بفعل الاختلاط وظهور اللحن على ألسنة الناس حتى وصل الأمر إلى القرآن الكريم، فظهرت محاولاتهم لتدارك هذا الأمر، فكانت جهود الأوائل تفسيرية تهدف إلى فهم (النَّص القرآني) متخذين من أحاديث الرسول«-;-» في تفسير بعض الآيات، وسار من بعده على هذا النهج بخطى حذرة خوفاً من التفسير بالرأي الذي نهى عنه الرسول، وكانت محاولتهم الأولى لكشف دلالات هذا النَّص وأبعاد ه، وفهم غريبه، ومعانيه،

وبدأ العلماء بتدوين شروح الْقُرْآَن في عصـر الدَّولة الأموية، فظهرت لدينا مصنفات عدة منها (مجاز القرآن لابي عبيدة) و(مُشكل القرآن لابن قتيبة) وتلتهم (أسباب النزول لابن المديني، وفي النَّاسخ والمنسوخ لابن سلام، وفي غريب الْقُرْآَن للسجستاني،...) فكان للقرآن الدور المهم في تحويل الثَّقافة العربية مِن الشفاهية إلى التدوين. حيث بدأت حركة التفسير الْقُرْآَني ومحاولات الكشف عن مواضع الإعجاز فيه، وأغلب الدراسات الْقُرْآَنية كانت تركز عَلَى (البلاغة والنحو)، لان البلاغة تبقى على علاقة وثيقة مع المتلقي، أما النحو فأساس النظم الذي يحفز عملية التلقي بتماسكه وسحره، وبروعة الفن الذي يتشكل فيه ومن خلاله. من هنا أوْجَدَ الْقُرْآَن فضاءً جَديداً للتَّعامل بين النَّص وَالمُتَلَقي، فأول آية نزلت مِن الْقُرْآَن هي ﴿-;-اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾-;- العلق:1، والقراءة باب لكل سؤال تعليلي، فالقراءة الواعيةُ كفيلةٌ بوضع أجوبة تفسيرية لكل إشكاليات الكون وفهم وجوده وذاته محاولاً مِن خلالها فك الإبهام والكشف عن الغموض، و وأفعال الأمر المُتتالية في قوله ﴿-;-وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾-;- الأعراف: 204، إذ يطلب سبحانه وتعالى مِن المؤمنين، الإنصات إلى الْقُرْآَن فالطلب واضح: (أصغوا له سمعكم لتتفهَّموا آياته، وتعتبروا بـمواعظه، وأنصتوا إلـيه لتعقلوه وتتدبروه، ولا تلغوا فـيه فلا تعقلوه، ﴿-;-لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾-;- يقول: لـيرحمكم ربكم بـاتعاظكم بـمواعظه، واعتبـاركم بعبره، واستعمالكم ما بـينه لكم ربكم مِن فرائضه فـي آية) ( )، وكل ذلك قائم على أهمية التلقي المتأني والمتأمل. الذي استندت عليه الدعوة في تأسيس أركانها، إذ كانت عملية الإقناع التي لا تخاطب العقل حسب، بل تهدف الى التأثير في المشاعر والعواطف محاورة وجاذبة، ويذهب الرَّازي إلى (أنَّ النَّبي عليه الصلاة والسَّلام إذا قرأ الْقُرْآَن عَلَى أولئك الكفار استمعوا له وأنصتوا حتى يقفوا عَلَى فَصَاحَتِه، ويحيطوا بما فيه مِن العلوم الكثيرة، فحينئذ يظهر لهم كونه مُعجزاً دالاً عَلَى صدق محمد «-;-»، فيستعينوا بهذا الْقُرْآَن عَلَى طلب سائر المُعجزات، ويظهر لهم صدق قوله في صفة الْقُرْآَن: إنه بصائر وهدى ورحمة)( )، والإنصات: السكوت للاستماع والإصغاء والمراعاة)( )، وكل هذه المفردات إنما تشتغل بمثابرة في حقل التلقي. وذهب ابن عاشور إلى أن الله سبحانه وتعالى أمر بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته؛ للانتفاع به وتدبر، ما فيه مِن حكم ومصالح، فالاستماع والإنصات المأمور بهما هما المؤديان بالسامع إلى النظر والاستدلال، والاهتداء بما يحتوي عليه الْقُرْآَن مِن الدلالة على صدق الرسول«-;-» المقتضي إلى الإيمان به)( )، فيطلب الله سبحانه وتعالى الإنصات إلى الْقُرْآَن مِن أجل قراءةٍ واعيةٍ مُتَأنيَةٍ دَقِيقَةٍ لِتَمَعُّنِ آيَاتِه وَتَدَبِّرِ مَعَانِيِهِ.

﴿-;-فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ﴾-;- القيامة: 18 أي (إذا تُلي عليك فاتبع ما فيه مِن الشرائع والأحكام)( )، ولا يكون الاتباع إلا بالتلقي الواعي والمدرك لحقيقة النَّص المتلو، (واسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ)( )، وفي موضع آخر يركز على التدبر بقوله تعالى: ﴿-;-أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾-;- محمد:24، فهو يريد أن (يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القُرآن الذي أنـزله على نبيه عليه الصلاة والسلام , ويتفكَّرون في حُججه التي بيَّنها لهم في تنـزيله) ( )، (والاستفهام تعجيب من سوء علمهم بالقرآن ومن إعراضهم عن سماعه. وحرف (أم) للإضراب الانتقالي. والمعنى: بل على قلوبهم أقفال) ( ). والأقفال هنا دليل على إمكانية الفتح، فبفتح الأقفال يشـرع العقل والقلب أبوابهما للفهم والإدراك في التقبل الذي اطلقت عليه نظريات القراءة : التلقي الجاد، ﴿-;-أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَن وَلَوْ كَانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء:82، فالدعوة هنا صريحة لتأمل (اتِّساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضه بعضًا بالتَّصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض) ( ). ولذلك حثَّ الْقُرْآَن على قراءة آياته قراءة دقيقة متمعنة، مرغبا أتباعه، ومتحديا أعداه، وآيات الترغيب عَلَى قراءة الْقُرْآَن بتأنٍ وتمعن آياته، كثيرة ﴿-;-وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾-;- الذاريات:20، ﴿-;-إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾-;- الرَّعد: 3، ﴿-;-لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾-;- النور:1، ﴿-;-وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً﴾-;- الفرقان:50، ﴿-;-لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾-;- البقرة: 221﴿-;-لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾-;- النور: 1، ﴿-;-أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾-;- الأنعام:80، ﴿-;-وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا﴾-;- الفرقان:50، ﴿-;-إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾-;- الزخرف:30،﴿-;-أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَن﴾-;- محمد: 24،﴿-;-وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا﴾-;- الفرقان:50، ﴿-;-إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾-;- النحل:12.

فالحث والترغيب عَلَى قراءة الْقُرْآَن (تَعَلُّمَاً وَتَعْلِيْمَاً) لتدبر آياته، إذ أثبت طريقة في الإصغاء حين أوجب طريقة لقراءته كأن يكون مُرتلاً، أو مقروءاًَ بطريقة خاصة، ليمنح مُتلقيه حرية اكتشاف مدلولاته المُتجددة بتأمل ما يسمع، مما يُظهر لذَّة الاكتشاف لدى المتلقي، أمام النُّصوص المَفتوحة القابلة لقراءات متباينة، فنجد تركيزاً عَلَى (وعي المُتلقي) لفتح آفاق الدلالات أمام القارئ، بل أوجب التدبر بآياته في أماكن عدة نحو قوله تعالى: ﴿-;-وَلَقَدْ يَسّـَرْنَا الْقُرْآَن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾-;- القمر: 17، والمدكر المُتَّعِظ ( )، فيقول سبحانه وتعالى لقد سهلنا الْقُرْآَن، بيناه وفصلناه للذكر، لمن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ ويسـرناه أي هَوَّنَّاهُ وبيناه فهل مِن معتبر متعظ يتذكر فيعتبر بما فيه مِن العبر والذكر( )، فالاستفهام المجازي فيه حث عَلَى الادكار ودعوة إلى التَّدبر وتأمل ما في هذا الْقُرْآَن مِن عظمة وعظات( ).
فالْقُرْآَن يبحث عن قارئ منتج لا مستهلك لأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد لكتابه البقاء، فهو معجزة خاتم رسله، أي لا رسالة بعده ولا إعجاز، فكان الأولى به أن يكون قادراً عَلَى تجاوز رقاب السِّنين مُتجدداً مع كل قراءة جديدة، لينتج لنا فضاءً جديداً متعدد المعاني مِن خلال إنتاج دلالات متجددة تتسق وتجدد الحياة الدائم، فهو المعجزة التي كتب لها البقاء دون غيرها مِن معجزات الأنبياء•، فالْقُرْآَن جاء للبشـرية جمعاء، ﴿-;-وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾-;- سبأ: 28. (أي عامة للناس)( )، وقال القرطبي (وما أرسلناك إلا للناس كافة أي عامة)( ). فنجده يوجه خطابه للناس كافة ﴿-;-يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِن رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾-;- المائدة: 174، فالناس كما يفسـرها الطبري (جميع أصناف الأمم، يهودها ونصاراها ومشركيها)( )،وجاءكم بحجة وبينة، ﴿-;-وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾-;-، أي مبيناً لكم سبل الهداية والنجاة، لتسلكوه وتستنيروا بنوره وهدايته.

وهناك آيات كثيرة تؤكد عَلَى شمولية الإسلام للبشـرية جمعاء، مثل قوله تعالى: ﴿-;-قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾-;- الأعراف: 158 والخطاب في ﴿-;-يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾-;- (لجميع البشـر) ( ) والتوكيد بـ(إنَّ) لرفع احتمال تخصيص رسالته بقوم دون آخرين. وفي قوله تعالى: ﴿-;-وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾-;- الأنبياء، 107. تشتمل هذه الآية بإيجازها عَلَى مدح للرسول «-;-» ومرسله سبحانه وتعالى، ورسالته التي شملت العالمين ولم تكن مخصصة بأمة أو زمان أو مكان، كانت الرسالة احدى مظاهر رحمة الله بخلقه ( ).
ولأنَّ الْقُرْآَن جاء للبشرية كافة، فهذا يعني أن كل قارئ سينتج لنا قراءة نابعة مِن ثقافاته وبيئته الاجتماعية، فالقارئ ابن الظروف الاجتماعية، والمعيار الجمالي يختلف باختلاف المجتمع والثقافات، وبهذا ستتعدد القراءات وتختلف كل حسب بيئته وثقافته وأفق توقعه .


الإيقــاع الصَّــوتـــي:

للإيقاع الصوتي أهمية كبيرة في تشكيل الدلالة، سواء في الشعر أو في النثر الأدبي، فلا شعرية ولا أدبية بلا إيقاع، وقد اتسم أسلوب القرآن الكريم بإيقاعات داخلية بالغة الدقة والتأثير، فالإيقاع في القرآن لا يحدث بوجود الوزن والقوافي كما في الشعر، بل هو قائم على مؤثرات أخرى داخلية أكثر خفاء من الوزن والقافية، مؤثرات لا يمكن الإمساك بها إلا من خلال قراءة فاحصة ذوقية ومعرفية معا.

ولَو تَأمَّلنا آياتِ القُرآنِ الكريم، لَما وَجَدْنَا لَفْظَاً مُتَنَافِراً في بنيته ولا ناشزا مَعَ غَيره، فالإيقاع القرآني يظهر لنا في مستويات عدة، من نسق الكلمة التي تشكلها أصوات الحروف إلى بنيتها وملاءمتها للتركيب والسياق،ويختلف تأثير الإيقاع باختلاف الفواصل، وتكرارها الموقَّع الذي (ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، ومرده إلى الحس الداخلي، والإدراك الموسيقي، الذي يفرق بين إيقاع موسيقى متناسق وإيقاع مضطرب)( )، فالإيقاع الصوتي من خلال تعاقب المقاطع الصوتية انخفاضاً وارتفاعاً -حسب السياق-، منتج لدلالاتٍ تهيئ الذهن لتعاقب مستمر موقع، وقد تعلو وتنخفض نبرة الإيقاع حسب مقتضـى السياق، ويعتمد على تناسق الحروف، مخارجاً وصفةً، وحركة، فجمال المفردة القرآنية ينبع من جمال الحرف وتناسق الكلمة وسبك الأسلوب الذي يؤثر في (القارئ/المُتلقي)، ويخاطب مشاعره من خلال إيقاع مؤثر مرهف، يسهم في تكوين الأثر الجمالي في نفس المتلقي، من خلال اعتماد الجانب الصوتي (موسيقى الحرف) النَّاتج عن تناسق الحروف مع بعضها وتجاوبها مع المعنى الذي تحمله، فلدلالة إيقاع الحرف دور موسيقى وآخر فكري يسهم في إنتاج المعنى، وتظهر عناية القرآن الكريم بالإيقاع الصوتي من خلال عنايته بالفواصل لتأثيرها الكبير على النفوس لما يحدثه تكرار المقاطع الصوتية من أثر في إنتاج الدلالة من خلال ملاءمتها للموضوع، وتكرار الفاصلة ليس بالأمر الغريب عن العرب، يلجَؤُون إليه من أجل التوكيد والإفهام، والغاية من التكرار، إشباع المعنى والاتساع في الألفاظ( )، وللتكرار وظائف بلاغية ذكرها ابن رشيق منها: التشوق والاستعذاب والتنويه والتعظيم... وغيرها، وللفاصلة جمال وإيقاع صوتي، فهو ضرب من التنوع الموسيقي الذي يشد الأسماع، ونلحظ أن الفواصل القرآنية ليست غرضاً جمالياً فقط بل أن هناك ملائمة بين المعنى والإيقاع، فللفواصل دور في جمالية الموسيقى والمعنى، فإذا تأملنا قوله تعالى: ﴿-;-الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) الحاقة: 1-3، نجد أن (إيقاع اللفظ بذاته أشبه برفع الثقل ثم استقراره في قرار مكين. فالرفع سفي مدّه الحاء بالألف والجدّ في تشديد القاف بعدها واستقراره في قافية الفاصلة المكررة وذلك بالانتهاء بالتاء المربوطة التي تنطق هاءً للسَّكْت) ( )، فضلاً عن أن افتتاح السورة بهذه الكلمة فيه (ترويع للمشركين)( ).وما في ذلك من دلالة التَّهويل في الاستفهام ﴿-;-مَا الْحَاقَّةُ)،﴿-;-وَمَا أَدْرَاكَ)، (وإعادة اسم المبتدأ في الجملة الواقعة خبراً عنه تقوم مقام الإضمار لقصد ما في الاسم من التَّهويل)( )، ثم تنوع (المفردة/الفاصلة)،التي تمثل إيقاعاً موسيقياً محكوماً بنسق الآية وسياقها، فضلاً عن دلالتها التي تكتمل معها الصورة التي تحاول الآية أن ترسمها، فتأتي، مطابقة لأفق توقع المتلقي.

وجمال الإيقاع والتناغم الصوتي يتجلى في قوله تعالى: ﴿-;-فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ* قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) (أي يقول ذلك ثقة بالإسلام وسرورا بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح)( ) فالسَّعادة والبشـر تطفح من جوانب النَّص، معلنة في بهجة وحبور (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)، (فإنَّ المعنى الكنائي هنا هو الغرض الأهم من ذكر العرض)( )، وتنبه ابن عاشور للمعنى الجمالي للفواصل تعليلاً لحالة الفرح والبشـر والبهجة، ﴿-;-إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ)﴿-;-فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ)﴿-;- فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ)، فإيقاع الفواصل (كِتَابِيَهْ–حِسَابِيَهْ–عَالِيَةٍ–دَانِيَةٌ - الْخَالِيَةِ)، أسهم في تكوين تناسق تصويري منسجم مع الحالة، ولأن هذه الكلمات تعد في (حالة الوقف مثل القوافي، فلو قيل: أقرأوا كتابي، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَ، سقطت فاصلتان وذلك تفريط في محسنين) ( )،

وفي الجانب الآخر صورة مخالفة تطغى عليها الحسـرة والندامة: ﴿-;-وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)،لتستمر الصورة في رسم مشهد الشدة والقسوة والعذاب في قوله: ﴿-;-خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ)، نجد أن الإيقاع الصوتي متلائم مع الحالة التي أراد القرآن بيانها، فللسكينة موضع يتجلى في نغم هادئ، وللحسـرة والندم إيقاع، وتحدث الرماني عن (تلاؤم الحروف) وأثره في النفس، ويذهب إلى أن النَّص القُرآني هو أعلى مراتب التلاؤم( ).وحين يتحدث عن الفواصل فيعرفها بقوله: (حروف مُتشاكلة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعنى)( ). فتركيزه هنا على دور النَّص وعي المتلقي في استجلاء غاياته، ويصنف الرماني -كعادته- الفواصل إلى (حروف متجانسة وحروف متقابلة)( ). فالمتجانسة( ) كقوله تعالى: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) طه: 1-3، أو كقوله: (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) الطور: 1-4، والمتقاربة( ) فكالميم من النون ( )، كقوله تعالى: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) الفاتحة:3-4، وكالدال من الباء نحو: (ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) ق: 1-2.

-;- من أساليب تفعيل التلقي

والمُتدبر في آيات الله يجد أن الْقُرْآَن ركز في كثير مِن المواضع عَلَى (المُتلقي) وبأساليب عدة، وقسم الرماني البلاغة القرآنية أقسام هي( ): الإيجاز، والتَّشبيه، والاستعارة، والتَّلاؤم، والفواصل، والتَّجانس، والتصـريف والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان، وأفرد لكل قسم باباً خاصاً وبين أثر كل قسم ووقعه في نفس المتلقي، وما يستوقفنا منها تركيز هذه الأساليب على ذكاء المتلقي وفطنته، فالحذف مثلاً: (قوله تعالى: ﴿-;-وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾-;-أي أهلها، ﴿-;-وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) البقرة:93، أي حبه﴿-;-الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) البقرة:197 (أي وقت الحج)( )، ومنه ﴿-;-وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾-;- ومنه ﴿-;-طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾-;-، أو حذف الأجوبة: وهو أكثر بلاغة من ذكر المحذوف، ومن ذلك: أن يأتي بالكلام مبنياً على أن له جواباً، فيحذف الجواب اختصاراً لعلم المخاطب به كقوله سبحانه وتعالى: ﴿-;-وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾-;-أراد لكان هذا القرآن، فحذف الجواب تفخيما للمعنى، وبحثا عنه وتأملا لجماله، وكذلك قوله: ﴿-;-وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا﴾-;- أراد لعذبكم فحذف( )، أو قوله: ﴿-;-وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾-;- الزمر: 71، وقد يحذف جواب القسم إذا دل ما بعده عليه كقوله تعالى: ﴿-;-ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)( ).

وأمثلة الحذف كثيرة في القرآن، فمتلقي الْقُرْآَن ليس متلقياً ساكناً للنَّص بل هو عنصـر مفكر مُتدبر فيه، إذْ يوقظ الْقُرْآَن الوعي ويُنبه الفكر ليكون القبول قائماً عَلَى الوعي وإعمال الذهن. لا أن يكون مُستقبلاً لِنَصِّ مُغلقٍ ما دام الْقُرْآَن كتاب البشرية كلها مذ نزل وحتى قيام الساعة وما دامت أحكامه وتشـريعاته صالحة لتقويم أحوال الخلق عموما فهو مشروع قراءة وتأويل دائمين، فالقارئ الجاد هو الَّذي يضع جواباً تكون آفاقه أكبر مِن الجواب لو وضع في لغة (محدودة)، فحذف تفصيل وصف جهنم لأن الحذف (يشحن ذهن المتلقي ويحرضه عَلَى البحث عن التوجهات الدَّلالية التي يمكن تقدير المحذوف مِن خلالها ويبقى الحذف خروجاً عَلَى السُّنن المُتبعة في التَّعبير، ولذلك لا يتواجد إلا في الخطابات ذات الطبقات المتعددة التي تحتاج إلى متلقٍ يمتلك أدوات لغوية وفنية وحساً جمالياً يمكنه مِن مقاربة نص فني يتسم بالوعي والثَّراء)( )، فالنَّفس تخشى كل مجهول أمامها، وترك التَّفصيل زيادة في التَّهويل والتَّخويف، ليشحذ المُتَلَقي خياله ويوقظ ذهنه وخياله، (فالغائب يدفعنا إلى البحث طلبا لوجوده المفقود، وغيابه يمنح المتلقي حرية واسعة في حركته التأويلية ( )، فدون وجود المحذوف، يكون الجواب أبلغ، لأن النفس تذهب في تفسيره كل مذهب. ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان.

أما القصر فهو أكثر غموضاً من الحذف، ويستوجب متلقياً أكثر وعياً لإدراك المعنى واستنباطه ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿-;-وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة) البقرة: 179وقوله﴿-;-يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) النجم:23 وقوله﴿-;-إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُس) المنافقون: 1، ومنه ﴿-;-وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) فاطر:43، وفي القرآن شواهد كثيرة لهذا الضرب.

-;- التصوير وأثـــره فـــي عمليــــة التلقـــي

وللتصوير في القرآن الكريم جماليات فنية تؤثر في المتلقي لتفتح الأذهان والإدراك حيث يكون للصورة تأثير يتظافر مع جمال اللفظة والإيقاع لخلق معنى أعمق له قدرته على النفاذ لعمق النفس البشرية مؤثرة فيها.
وفتح الْقُرْآَن آفاق استقبال عدة، كي يلج (القارئ) في دروبه، ويتلمس جوانب إعجازه، مِن خلال استنطاق جديد للنَّص الْقُرْآَني، يتجدد بكل قراءة جديدة واعية ناضجة، فـ(الموقع الفعلي للعمل يقع بين النص والقارئ)( )، فاستخدم النص القرآني أسلوب التصوير، موضحاً فيه بعض المشاهد التي يرغب في تفصيلها للمتلقي، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿-;-وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الأعراف: 57، فنجد التعبير من خلال تصوير المعاني فالمعنى إن الله (الذي يرسل الرياح ليّنًا هبوبها، طيبًا نسيمها، أمام غيْثه الذي يسوقه بها إلى خلقه، فينشئ بها سحابًا ثقالا [...] ساقه الله لإحياء بلد ميت، قد تعفَّت مزارعه، ودَرَست مشاربه، وأجدب أهلُه، فأنـزل به المطر، وأخرج به من كل الثمرات)( )، فأراد أن يصور لنا -بصورة محسوسة- كيفية إحياء ارض ميتة ومقارنتاها بكيفية (إخراج الموتى و إحيائهم)، فترك للمُخاطب أن يرسم في خياله صورة (السحاب/المطر/إحياء الأرض بعد موتها)، ليفسح المجال للمخاطب لرسم صورة أخرى (للنشور)، بل أنه في معرض حديثه عن إعجازه، وخطابه للمعاندين الرَّادين دعوة رسوله، الزاعمين كذبه، فقوله تعالى: ﴿-;-أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مِن اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾-;- يونس: 38.، فجعل سبحانه وتعالى (النَّص/ الْقُرْآَن) فَيْصَلاً بَيْنَهُم وَطَلَبَ عَرْضَهُ، عَلَى أهل الفَصَاحَةِ وَالبَلَاغَةِ، ليحكموا فيه، فإن قلتم (أن محمداً افتراه، فأتوا بسورة مثله مِن جميع مِن يعينكم عَلَى الإتيان بها، فإن لم تفعلوا ذلك فلا شكّ أنكم كذبة في زعمكم أن محمداً افتراه لأن محمداً لن يعدو أن يكون بشراً مثلكم، فإذا عجز الجميع مِن الخلق أن يأتوا بسورة مثله، فالواحد منهم عن أن يأتي بجميعه أعجز)( )، (واستعينوا بمن وجدتموه مِن علمائكم، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به، فيكون الردُّ، عَلَى الجميع أوكد في الحجة عليهم)( )
ولو أراد أهل مكة أن يأتوا بسورة مثل سور الْقُرْآَن كان عليه قراءة وتدبر آيات الْقُرْآَن كي يأتوا بمثله، و تقديرا لأهمية قضية التَّلقي التي ستقود أكثر الأحيان إلى الإيمان، فهذه دعوة لقراءة الْقُرْآَن والتَّدبر في آياته، وأخرى مُضمرة أرادت(تعدد قراءات) لزيادة آفاق التَّلقي، فكل قارئ سيطلع عَلَى النص بمرجعياته الثَّقافية وما يمتلك مِن آفاق التوقع أو التلقي التي تكمن فيها كل معارف القارئ وثقافته وخبراته وتأملاته التي تلقي بظلها عَلَى الدلالات التي ستخرج بها القراءة في النهاية، وكلما خالف النَّص آفاق الانتظار والتَّوقعات، ظهرت آفاق جديدة مغايرة وزيادة في (المسافة الجمالية) كما يدعوها ياوس، والتي يمكن قياسها، بردود أفعال القراء، لتشكيل التوتر بين أفق النص وافق انتظار الجمهور، فكلما خيب النص أفق الانتظار في النصوص الاعتيادية، دلَّ عَلَى اختراق السَّائد، مُثيراً دهشةً وحب معرفة جديدة، مما يعني تأويلاً جديداً، وتلاقح أفكار المتلقين الآخرين، ليزهو النَّص بمعنى جديد في كل قراءة.


المصادر والمراجع
-;- الأداء التصويري وإيقاع الفواصل في القرآن الكريم، محمد قطب عبد العال، مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، ذو القعدة 1430 هـ = نوفمبر 2009 م، العدد : 11، السنة : 33.
-;- تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، تحقيق: أحمد صقر، دار التراث، مصر، ط2، 1973.
-;- التَّحرير والتَّنوير، تأليف محمد الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للنشـر، 1984.
-;- التَّصوير الفني في القرآن، سيد قطب، دار الشـروق، القاهرة، ط16، 2002.
-;- التفاعل بين النَّص والقارئ، فولفغانغ آيزر، (القارئ في النص)، مقالات في الجمهور والتأويل، تحرير: سوزان روبين سلمان، إنجيكروسمان، ترجمة: د. حسن ناظم، علي حاكم، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2007.
-;- تفسير الطبري، لابي جعفر محمد بن جرير الطبري(310)، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة،، ط1، 2001.
-;- تفسير الفخر الرَّازي، التَّفسير الكبير و مفاتيح الغيب،، الفخر الرَّازي (ت604)، دار الفكر للطباعة والنَّشـر والتوزيع، لبنان، بيروت، ط1، 1981: 15: 109.
-;- ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله احمد، دكتور محمد زغلول سلام، دار المعارف، مصر ، ط 3 ، 1976 .
-;- الجامع الصحيح، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، دار طوق النجاة، بيروت – لبنان، ط1.
-;- الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان، تأليف: أبي عبد الله محمد بن احمد بن أبي بكر القرطبي ت(671هـ) تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان، 2006.
-;- الحب وإشكالية الغياب، أ. د. بشرى البستاني، دار التنوير، الجزائر ، 2013 .
-;- سورة القمر، قـــــراءة سيميائيـــة فــي الـدَّلالات والعـــبر، أ. د. بشـرى البستاني (مخطوط).
-;- السِّيرة النَّبوية لابن هشام، حققها وضبطها، مُصطفى السَّقا، إبراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي، ج1، ص270-271 ، د.ط ، د.ت .
-;- شعرية السرد بالكاميرا ، قراءة في قصيدة ياسين طه حافظ " عالم آخر " مجلة اللحظة الشعرية ، الكترونية ، العدد 16 لسنة 2009.
http://fawzikarim.com/poetry_moment/issue_16_2009/poetry_momentl_issue_16_11.htm
-;- اللآلئ الحسان في علوم القرآن، د. موسى شاهين لاشين، دار الشروق، القاهرة، 2002.
-;- لطائف البيان في أحكام وعلوم القرآن، صابر غانم المنكوت، إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر، 1988 .



#جواد_المظفر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عودة الفلوص
- انهم يسرقون أموالنا
- اساطير الأولين


المزيد.....




- إعلام: وفد مصري إلى تل أبيب وإسرائيل تقبل هدنة مؤقتة وانسحاب ...
- -أنصار الله- تنفي استئناف المفاوضات مع السعودية وتتهم الولاي ...
- وزير الزراعة الأوكراني يستقيل على خلفية شبهات فساد
- ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب عنف- في ...
- دراسة حديثة: العاصفة التي ضربت الإمارات وعمان كان سببها -على ...
- -عقيدة المحيط- الجديدة.. ماذا تخشى إسرائيل؟
- مصر: بدء التوقيت الصيفي بهدف -ترشيد الطاقة-.. والحكومة تقدم ...
- دبلوماسية الباندا.. الصين تنوي إرسال زوجين من الدببة إلى إسب ...
- انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض ...
- الخارجية الأمريكية لا تعتبر تصريحات نتنياهو تدخلا في شؤونها ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جواد المظفر - التلقي في القرآن الكريم