أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أبو الحسن سلام - مباهج الفرجة الفنية بين تقنيات الكولاج وتقنيات الكليب















المزيد.....



مباهج الفرجة الفنية بين تقنيات الكولاج وتقنيات الكليب


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 4072 - 2013 / 4 / 24 - 00:26
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    




أولا: مقدمة البحث : يتعرض هذا البحث لأشكال الفرجة المسرحية وتقنياتها التجريبيـة في العروض المسرحية ما بعد الحداثية ، ومنها نماذج من تضافر فنون السينما مـع فنون المسرح في العرض المسرح ونماذج من فنون الكولاج المسرحي ومنها نماذج للفرجة بتقنيات الكليب ؛ تطبيقا على نمـاذج فنية من عروض مسرحية حداثية ومن تأثيرات دراما الفوازير على المسرح.
ثانيا: إشكالية البحث : مع تداخل أشكال الفرجـة وعناصرها الفنية والشعبية في العروض المسرحية وفي فنون درامـا الشاشة فيمـا بين أشكال فرجوبة شعبية وأشـكال فرجويـة سينمسـرحية وأشكال كولاجية وأشـكال كليباتية ؛ أصبحت هناك ضرورة لبحث مظاهر التجديد التي أدخلت على الصورة المسرح وطبيعة التغير التي طرأت على الفرجة الفنية ؛ باعتبار هذا التوجه البحثي توجها غير مسبوق في تناول هذه الـزوايا الجديدة تناولا منهجيا .
ثالثا: الهدف من البحث : الوقوف على ملامح الصورة الفـرجاوية في العروض الحداثية وما بعد الحداثية ودورها في إضفاء مزيد من صور البهجة وعناصر الامتاع وعناصر الإقناع .
رابعا: مصطلحات البحث : ( الفرجة – الحكي – السينمسرحية -
الكولاجية – الكليباوية )
خامسا: الهدف من البحث : اكتشاف دور الفرجة في تحقيق حالة الإمتاع مدخلا ضروريا لتحقق حالة الإقناع وصولا إلى تفعيل التأثير الدرامي والجمالي تطهيرا عبر مشاركة وجدانية أو تغييرا عبر مشاركة إدراكية واعية.
منهج البحث : المنهج السيميائي
سادسا:عتبة البحث : حفل المسرح العربي بالعديد من عناصر الفرجة الشعبية استلهاما من الطبيعة الاحتفالية في ثقافتنا ، تلك الطبيعة التي تتميز بالحميمة، والدفء القبلي، وروح المبادرة ومشاركة الآخرين في أفراحهم وأتراحهم . وقد فجرت تلك المشاركات الحميمة مواهب الشيوخ والشباب فتفتقت عن صور وجماليات قولية موقعة أو مغناة ، وصور حركية فيها من المهارة والبلاغة في التعبير ، والمعني البليغ الذي يتمحور حول أمثولة أو فزورة أو حزورة أو أحجية. كما تفجرت طاقة الحكي الشعبي الملتبس بخرافة أو أسطورة يشخصها اللاعب بمهارته بالغـناء أو بالإلقاء الموقع بمصاحبة آلة شعبية كالربابة أو الناي أو بالنقر على طبلة أو آلـة إيقاعية أو بتحريك العروسة أو بالتخفي وراء قناع حيوان أو كائن غريب أو طائر، مستعينا بملحقات تعينه على تشخيص دور أو إعادة إنتاج صـورة مـن واقعه المعيش أو الافتراضي المتخيل ، منوعا بين أساليب الحكي بفن الموال وفن الرواية وفن التشخيص وفن التقليد الكاريكاتيري . وقد انتفع كتاب المسرح العربي بالكثير من تلك الفنون التشخيصية الشعبية مما حفظه تاريخ الثقافة العربية من آدابها وفنونها. ولعل من أبرز الكتابات المسرحية التي حفلت بعناصر الفرجة الشعبية ، نجيب سرور والفرجة التأملية عند توفيق الحكيم و يوسف إدريس والفريد فرج في مصر وعند عبد الكريم برشيد وعبد الرحمن بن زيدان في المغرب ، وعز الدين المدني في تونس وعبد العزيز حمودة ويسري الجندي وأبو العلا السلاموني في مصر، ونادر عمران وغنام غنام في الأردن و محمد العثيم في السعودية وسعد الله ونوس وعبد الفتاح قلعجي في سوريا. بالإجمال لم يسلم كاتب مسرحي عربي من داء التراث ، ابتلي كتابنا ومخرجونا وسينوغرافيونا المسرحيون بداء التراث ، فلم ينج نص أو عرض من لطشة تراثية في صورة أو تعبير من داء التراث ؛ إن لم يكن كلاما فهو غناء أو مفردة من منظر أو جانبا من سيرة بطولية ، وهو ما يستلفت النظرة السيميولوجية الناقدة ، التي يطل بها هذا البحث التأصيلي ؛ بالتركيز على تقنيات الكولاج وتقنيات الكليب ودورها في تجديد أشكال الفرجة الفنية في إطار العروض الحداثية وعروض ما بعد الحداثة في فنوننا الدرامية .
سادسا: أقسام البحث:
1- مفهوم الفرجة.
2- الفرجة المسرحية وتجليات نظريات التطهير.
3- الفرجة المسرحية وتجليات نظريات التغيير :
4- مباهج الفرجة السينمسرحي بين النص والعرض .
5- مباهج الفرجة الكولاجية في العرض المسرحي .
6 – مباهح الفرجة الكليباتية في درامـا الفوازير .
7- مباهج الفرجة السينوجرافية .
1- مفهوم الفرجة:
الفرجة من الانفراج ، وهي عكس الكبت ، وعكس التأزم. والفرجة هي (الخلوص من الشدة. وعند المولدين اسم لما يتفرج عليه من الغرائب) وهي المشاهدة.
والانفراج شأنه شأن الأزمة ، وشأن الذروة عنصر من عناصر الحبكة في البناء الدرامي التقليدي . والانفراج هدفه الكشف والتنوير والحل بعد وصول الأزمة إلى ذروتها في أي حدث درامي تقليدي.
ولا شك في أن الانفراج شيء مريح للمتلقي ، إذ هو نهاية لصراع ما .. ترتب عليه توتر وتشويق.
والفرجة نوع من أنواع الخروج بالمتلقي من حالة إلى حالة أخرى ، كأن تكون في حالتها الطبيعية المنطقية المعتادة ؛ فتحلق مع الشخصية المسرحية في أحلامها أو تشف عندما تشف الشخصية. ويحدث هذا الخروج أو الانتقال بالمتلقي من حالة إلى حالة أسمى أو أرقى عبر عناصر التعبير الدرامي بالصورة المرئية وبالصورة السمعية أيضاً ؛ بمعنى أن الفرجة ليست مقصورة على المرئيات ولكنها تنسحب على المسموعات أيضاً.
والفرجة تكون في كل ما هو غريب. فكل غريب مثير للفرجة . لأنه يجذب المتلقي له، ويستوقفه ويشغله عما عداه ، ولو للحظة .. فغرابة الصورة الفنية عندما تستوقف المتلقي .ففي هذا الاستيقاف خروج عن طبيعة التلقي المعتاد .. فيه دعوة للفرجة التي تحقق البهجة أو اللذة والإمتاع ؛ أو هي تستدعي التأمل في حالات تزاوجا مع الفكرة ومن ثم يتحقق الإقناع بدلالته ومن ثم التأثير الدرامي مغلفا بجمالية الفرجة.
2- الفرجة المسرحية وتجليات نظريات التطهير
تخضع حركة التجريب في الآداب والفنون قديما لحركة الفاعل الاقتصادي ، متقنعا خلف الكاهن أو الحاكم ( الفرعون أو الملك)، لذا صور الفعل الدرامي في المسرح القديم محمولاً على لسان ممثل الآلهة أو ما قرره الفرعون أو الحاكم .
ولأن الفاعل الحضاري عند اليونان تمثل فيما ينتهي إليه الحوار مع الآخر، دون أن يتعارض مع ما تمليه الآلهة ؛ لذلك سيطر عالم الغيب على عالم الحياة المعيشة، فيما عبر عنه المسرح ، كما في (أوديبوس حاكما ) لسوفوكليس.
ولأن الفاعل الحضاري عند الرومان تمثل فيما يمليه القانون المدني مقصوراً على المواطن الروماني دون غيره من مواطني المستعمرات الامبراطورية المترامية الأطراف ، فقد تمثل ذلك في أعمال سينيكا المسرحية وفي أعمال تيرانس. ولأن الفاعل التاريخي في العصور الوسطى قد تمثل فيما يمليه فهم الكهنة والكهانة والمشايخ للكتب الدينية السماوية ، لذا سخر المسرح مطية للخطاب الديني كما في مسرحية (آدم) أو (إيفري مان ) أو مغلفاً بألوان الخرافة.
ولأن الفاعل الحضاري في عصرالنهضة قد تمثل فيما يمليه العلم سواء بالاستدلال الاستنباطي محمولاً على قياس الكل الغائب على الجزء الحاضر أو بالاستدلال التجريبي محمولاً على أسبابه المادية ، لذلك زاحم المنطق الصورة الأدبية والفنية وتغلغل متقنعاً خلفها.
ولأن الفاعل التاريخي في عصرنا الحالي يتمثل فيما تمليه القوة الغاشمة المنفردة بالسيطرة على الميديا والفضاء الخارجي والثورة المعلوماتية لذلك سيطر فكر التفكيك وما بعد الحداثة ولا مركزية الخطاب ونفي الأنساق البنائية بالتشظي والتداخل المكاني والزماني على الإبداع الأدبي والفني والنقدي وسادت ثقافة الـ(كليب) في كل مناحي الثقافة والفكر والإبداع .
وتبعاً لتغير الفاعل الحضاري عبر العصور وتعدد صور التعبير الإنساني أدبياً وفنياً ؛ بتعدد صور التعبير المسرحي ما بين عرض مسرحي وعرض آخر تبعاً لتعدد العامل والتصور فهناك الفاعل الفرجوي في التعبير المسرحي ، وهناك الفاعل الفلسفي والفاعل التاريخي والفاعل الأنثروبولوجي ، الفاعل الإثنولوجي ، وهناك الفاعل النفسي والفاعل الديني والفاعل الجمالي والفاعل الفرجوي التعبيري أو السردي أو التشكيلي التجريدي أو التجسيدي.
ومع أنه لا تصور بدون صورة ولا صورة بدون تصور ؛ إلاّ أن لكل منها مفهوماً مغايراً لمفهوم الأخرى فهيجل يفصل بين التصورات والصور ؛ إذ يرى أن التصورات مجالها الفكر المجرد ومجال الصور هو الحياة المجسدة والتجريد وقوده التأمل ، والتأمل منبعه إيجابية الروح عند النظر إلى الغائب ومحاولة استحضاره في حين أن التجسيد وقوده التخييل ، والتخييل . والتخيل منبعه العقل عند النظر إلى الحاضر الموجود ومحاولة استبدال صورته الحقيقية بصورة حقيقية بديلة ، إذ أن لكل صورة ذات ، أي وجود حقيقي وجود ذاتي . وجود بالإمكان أصبح واقعاً . في حين أن التصور وجود عيني ، وجود في ذاته ، وجود بالقدرة ؛ وجود الموضوع الذي سيصبح وجوداً ذاتياً . والتصور يستحيل إلى صورة تستهدف التعبير وصولاً إلى التأثير . وللتعبير بالتصور وبالتصوير باعث قد يكون إنثربولوجيا ، وقد يكون جمالياً وقد يكون فرجوياً سردياً أو تشكيلياً.
والباعث الفرجوي سردياً كان أم تشكيلياً حتمي في مجال الفن عامة . وفي مجال المسرح خاصة ، فإن الباعث الفرجوي يكون تعبيراً درامياً فرجوياًَ ، حضوري الإرسال والتلقي.
والباعث في كل أنواعه ليس سوى سلوك أو انفعال بشري إبداعي عن حالة أو عدد من حالات الضعف فيما رأى " جيمس " – رائد البراجماتيك - وهو حالة من حالات سوء التكيف ودلالة على الفشل وهنا يجب التأكيد على أن السلوك في الصورة ما هو إلاّ لون من ألوان الخيال فلا فن إذا انتفى الخيال ولا أدب ، بل لا علم بدون خيال يتشكل عبر منطلقات الدهشة بإزاء ما يغاير مدركاتنا . والخيال كما يرى سارتر ما هو إلاّ نسخة ثانية من واقع محتمل ، وهو إعادة تجسيد صورة ما تجسدت في الذهن أولاً ، قبل تجسدها المادي . يقول إيسر : "من القوانين العامة أن كل ناتج مفترض للتصور تليه سلسلة من الصور الذهنية تستنسخ كل منها مضمون سابقتها ولكن بحيث تضفي على الدوام صفة الماضي على الصورة الجديدة .. ومن هنا فإن الخيال يثبت خصوبته ".
الفرجة وصور التعبير عن السلوك في المسرح
تتغير مباهج الفرجة وتتنوع مع تغير التعبير عن السلوك مسرحياً تبعاً للباعث النفسي أو الاجتماعي أو الأنثروبولوجي أو الاحتفالي أو الجمالي أو الإثنولوجي أو الفرجوي سرداً أو تشكيلاً أو تجريداً أو تجسيداً تعبيرياً.
أولاً: السلوك النفسي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور فردية ذات بواعث ذاتية ، وخير مثال له في المسرح قائم في التعبيرية ، ومثالها (القرد الكثيف الشعر) ، (بيرجنت) ، (عربة اسمها الرغبة) ، (الأميرة تنتظر) . يقول فرويد عن الشعراء والروائيين: " هم في معرفة البشرية معلمونا وأساتذتنا نحن معشر العامة لأنهم ينهلون من موارد لم نفلح بعد في تسهيل ورودها على العلم " .
ثانياً : السلوك الاجتماعي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صورة متكررة من فرد إلى آخر . وسط اجتماعي محدد زماناً ومكاناً وخير مثال له المسرح الواقعي والمسرح الطبيعي. مثال: (مس جوليا) ، (بيت دمية) ، (مشهد من الجسر) ، (الحضيض) ، ( الناس اللي تحت) ، (الجنزير) ( الناس اللي تحت ) ، ( المحروسة) .
ثالثاً: السلوك الأنثروبولوجي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور متكررة لدى الإنسان وفق العادة تلازمه منذ نشأته ، حيث تتواصل معه عبر الأجيال ومنها : (العقوق – الغيرة – التفاؤل – التشاؤم – الانفلات – الحقد – الغيرة – الفخر – العدوان – الاستحواز – التصابي - الثأر) وخير مثال له المسرحية الشعبية ( الهلالية – علي الزيبق – الظاهر بيبرس – يا عنتر – حسن ونعيمة – اليهودي التائه – يهودي مالطه – تاجر البندقية – منين أجيب ناس – شفيقة ومتولي - أرض لا تنبت الزهور – زانوبيا في موكب الفينيق ).
رابعاً : السلوك الاحتفالي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور متكررة في المناسبات وفي العروض التى تترسم أساليب الاحتفلات المناسباتية كنصوص برشيد الاحتفالية، وفي فنون الأداء الاستعراضي وفي المسرحية العرائسية مثل (الليلة الكبيرة ) والاستغراضية (القاهرة في ألف عام) والمسرحية الاستعراضية وفي فنون دراما الفوازير التي تعتمد على المبالغة بالتضخيم أو التصغير للإيهام بحالة الانتشاء بالفرجة الجمعية أو الطقسية . وفي العروض التي يتلاحم فيها المرسل والمستقبل في حالة فرجة تشاركية آنية التأثير.
خامساً : السلوك الجمالي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور تتخذ مواضع معينة قائمة على الاحتمال لا الضرورة ، وهي جالبة للمتعة عن طريق التناسب والتماثل والغرابة وأفق التوقعات . وخير مثال له عروض الباليه وعروض الرقص المسرحي الحديث ، والمسرحية الرومنتيكية ، ومسرح السرد التشكيلي (الصورة) كعروض (وليد عوني وكانتور وشاينا ومونجييك وباربا وفيدا ) .

سادساً : السلوك الإثنولوجي للتعبير المسرحي :
يتمثل في الصورة المتنوعة المحدودة بالطبيعة العرقية والتراثية. وخير مثال له في المسرحية المعتمدة على الأسطورة والخرافة والمسرحية الكلاسيكية والمسرحية الرمزية ، وفي مسرح الكابوكي ومسرح النو والمسرحية الدينية والانثربولوجية: (آدم– كل إنسان - كرنفال الأشباح – منين أجيب ناس).
سابعاً : السلوك الفرجوي للتعبير المسرحي : (spectacle)
تتمثل في الصور الكرنفالية القائمة على التفاخر والتباهي ، وفيها يميل التعبير نحو لغة الجسد على حساب لغة الكلام ، وهو جمالي في الأساس ؛ يعلي من شأن الصورة على المادة سواء بالمعنى الأرسطي أو بغيره . كما يتمثل في عروض المسرح الشامل حيث تتعدد الفنون الأدائية والتشكيلية والأكروباتية والموسيقية وتتداخل بتعدد الأنا الخاصة بالفنان من خلال الشخصية المسرحية نفسها . إذ أن الذات المتصدعة المنقسمة للفنان الحداثي تتلبس أصوات شخصيات مختلفة وحركاتها النابعة من الذات الواحدة . وفي المسرحية المابعد الحداثية حيث تتشظى الصور وتتداخل لتكشف عن تناقض الدلالات وإساءة القراءة وإرجاء الاختلاف على المعنى التام للعرض المسرحي .
3- الفرجة المسرحية
بين نظريات التطهير ونظريات التغيير
لاشك أن الإخراج المسرحي شأنه شأن كل نشاط إنساني يتقوى بالعلم ويحصن مصداقيته بمساراته لذا ينهج الإخراج التعبيري نهجاً تأصيلياً في اتجاه التواصل إلى ما وراء الفعل من بواعث نفسية ومدى تفعيلها لتحقق الأثر التطهيري. إن عرض مسلك الفعل على المسرح يستهدف التطهير ، عندما يقترن بناؤه أدائياً بدراسة تأثيره على أداء الممثل وعلى جمهوره ؛ يحيل المخرج في وجهته التعبيرية نحو دراسة النظريات العلمية التي ترتب محددات التطهير في منظومات علمية ، لكل منها منطلقاتها الفكرية والمنهجية . وفي تحليل المخرج المسرحي لمناط الفرجة وتأكيد مباهجها في تصويره لشخصية مثل (جوليا) سترنبرج ، أو (بلانش) تينسي وليامز ، أو " ميديا" يوربيديس أو ميديا " سينيكا " أو ميديا " أو " ليدي ماكبث " أو "عطيل " أو " إلكترا " أو إحدى شخصيات (كافكا) عليه أن يدرك الفرق بين اختلاف مباهج الفرجة عند تحليل المخرج المسرحي الدارس لنص درامي يشرع في إخراجه ؛ تحليلا أدائيايركز على مباهج الفرجة التي يمكن التركيز عليها اعتمادا على فهمه لمساحة الاتفاق أو الاختلاف بين النظريات العلمية ؛ حيف يختلف فهم ( النظرية السادية للتطهير عن فهم النظرية الإحلالية واختلافهما عن النظرية التعليمية وعن النظرية الطبية ، وعن النظرية التجريدية وعن النظرية التماثلية ، وعن النظرية المقارنة) ومن ثم جهد ذلك المخرج في تأصيل تحليله المجسد لأي من تلك الأدوار عن قناعة منه بأن أصداء تلك النظريات حول فهمها المتمايز لفكرة التطهير ودوره في توهج حالة الفرجة المسرحية ؛ تحوم بقوة تحليقها في فضاء النظرية الدرامية ، باعتبارها ملتقى الأصداء الكونية في الحياة البشرية ، وأن دقة فهم المخرج لمسارات فهم مسألة الأثر التطهيري مهمة في أداء دور من تلك الأدوار المعقدة أداء يوهج أثر الفرجة المسرحية .
إن فهم الإخراج التعبيري – على سبيل المثال- عندما يتصدى ذلك التعبير لمسرحية تنتمي لأسلوب مسرح القسوة أو مسرحية فيها سمة منه ؛ ينتمي ذلك الفهم إلى سمات النظرية السادية ، باعتبارها الأنسب في تأصيل جذور الصورة في مسرح القسوة وفي فنون التصوير والتشكيل. باعتبار عملية تأصيل دلالة الصورة المسرحية ارتكازا على نظرية علمية كتلك النظرية ؛ يحقق مصداقية حضورها التجسيدي ؛ ومصداقية تحليل المخرج للنص الذي بين يديه تضع يده على مناط الفرجة في الحدث وفي تنقل الشخصية في محاولات تحقيق إرادتها من خلال فقر استطاعتها مما يؤدى إلى كسوف شمس مشاعرها . وفيما بين حماسة الإرادة وفقر الاستطاعة الداعمة لها تتنوع صور الفرجة المسرحية عبر الحضور المتفاعل بين الممثل وجمهوره .
وهذا البحث معنى بالبحث عن مناطات التعبير المسرحي عند المخرج المتفرد الموهبة المتوج لموهبته بالتنقيب والبحث والدرس مستعينا بالنظريات العلمية في تأصيل الصورة المسرحية ودورها في بزوغ ضوء الفرجة المسرحية وأثرها المبهج لدى الفنان المسرحي ولدى جمهوره . وهو بحث وإن بدأ بالتطهير وجمالياته ؛ فإنه لا يتوقف دون أن يعاين الصورة المسرحية الكولاجية والصورة المسرحية الكليباواتية فيما يقدمه المسرح الحداثي وما بعده .
النظرية السادية ومباهج الفرجة : ترى أن التطهير يحدث في نفس مشاهد المسرحية المأساوية عندما يتمتع برؤية الآخرين يتعذبون أمامه ، وتتضاعف هذه المتعة أو الفرجة ، حين يتحقق المتفرج من أن ما يراه فوق خشبة المسرح ما هو إلاّ تمثيل في تمثيل وليس الحياة المعيشة .. فمن خلال ذلك الفهم يتمكن مخرج عرض مسرحية ( مارا- صاد ) من توجيه الممثل نحو التحليل الأدائي الأكثر دقة لفهم دور (المركيز دي صاد) أو فهم دور الزباء في معالجات " محمود دياب" أوفي فهم رمزية ( زنوبيا) ) برؤية " بن زيدان " لها – في موكب الفينيق - أو فهم بواعث (ميديا) يوربيديس في ذبح فلذتي كبدها على مرأى من أبيهما وأثر التوحش الفرجوي غير المبهج على المتفرج .
أما فهم المخرج الذي يتبع أسلوب التغريب الملحمي الذي يركز على الصفة الاجتماعية للدور المسرحي ؛ فإنه سيجد في النظرية الإحلالية مدخلاً لرؤيته الإخراجية بملامحها الأيديولوجية المسار ؛ تلك النظرية الإحلالية التي ترى أن المتفرج عادة ما يتمثل إحدى الشخصيات المأساوية التي تعاني الأزمة المعذبة ، وبعدما تنتهي المسرحية ، يداخل المتفرج نوع من السرور الناتج عن شعورين:
أ‌) شعور بأن الأحداث المفجعة لم تحدث له حقيقة
ب‌) شعور مترتب على الشعور الأول يتمثل في أن متاعبه الشخصية ليست كارثية ، كتلك التي رأها تحدث للشخصية المسرحية التي شاهدها ، وهي محتملة الحدوث .
وفي كلا الشعورين تتحقق مباهج الفرجة المسرحية ؛ وذلك ما يحدث لعامل شاهد مسرحية (الاستثناء والقاعدة) لبريشت ؛ وتمثل شخصية (الأجير) أو شاهد (السيد بونتيلا وتابعه ماتي) وتمثل شخصية خادمه (ماتي) أو تمثل مشاهدة الأم في (الأم شجاعة) . وينطبق ذلك أيضاً بالنسبة لمخرج أحد تلك العروض ؛ بوصفه مخرجاً أيديولوجيا ؛ حالة ارتكازه على النظرية التعليمية.
النظرية التعليمية ومباهج الفرجة : ترى أن المشاهد لموقف درامي تطهيري عندما يشاهد معاناة البطل المأساوي، فإنه يتعلم عن طريق أحاسيس الخوف والشفقة المستثارة – أن انفعالات البطل الشرير كما هو حال "ياجو" أو " شايلوك" عند شكسبير، أو حال "يهودي مالطه" في مسرحية (مارلو) ومن ثم عليه أن يتجنبها. وفي وعيه بضرورة تجنب تلك الانفعالات الشريرة يحقق في ذاته مباهج الفرجة المسرحية .
أما تصدي مخرج مسرحي لإخراج (سوء تفاهم) ألبير كامي ؛ فهي تحتاج منه إلى استظهار (النظرية الطبية : السايكودراما العلاجية ) .
نظرية الدراما العلاجية ومباهج الفرجة : تلك النظرية التي ترى أن عاطفتي الخوف والشفقة تزيد في نفوس بعض المتفرجين على الدرجة أو الكمية التي لهاتين العاطفتين ، بما يترتب عليه إحداث باثولوجية ؛ انطلاقاً من الفكرة التي تقول : (وداوني بالتي كانت هي الداء) ومن ثم يشعر المتفرج غير المتوازن انفعالياً بالامتاع الذي يعيد إليه توازنه الانفعالي الصحيح. وفي حالة التوحد أو الحلولية تلك ؛ تسكن مباهج الفرجة في المتفرج كما تسكن في الشخصية المسرحية نفسها. وربما التصقت تلك الحالة أكثر فأكثر بشخصية المريض النفساني في عروض السايكودراما وبالطبيب النفساني المعالج له بأسلوب سايكودرامي ؛ بوصفه معالجا ودراماتورجيا ومخرجا للبوح الإسقاطي الذاتي الذي سجله لمريضه من خلال اعترافاته خلال الجلسات الاستماع الأولى قبل الشروع في عملية العلاج الدرامي التي تقوم على استدعاء المريض نفسه لشخصيات ومواقف أو أحداث وأماكن كانت سببا في أزمته المرضية ؛ ومن ثم يعيد ذلك الطبيب الدراماتورج المخرج تشخيص الحالة باستدعاء الشخوص التي تسببت في امراض مريضه ليعيد تشخيص الموقف نفسه كما حدث في مكان حدوثه ، وهي طريقة العلاج النفساني بالدراما وفق نظرية (جاكوب مورينو) الشهيرة . وعلى ذلك يمكن القول إن مباهج الفرجة تتحقق عند الطبيب الدراماتورجي المعالج وعند الشخصيات الحقيقية المستدعاة طواعية لإعادة تشخيص الفعل الذي تسبب في إمراض المريض ؛ مساهمة في شفائه ؛ فحالة وعيهم بأنهم يشخصون صورة أو فعلا أوقع الضرر بعزيز لديهم أو عن رغبة في مساعدة شخص أوقعوا به ضررا تحقق لهم راحة نفسية ؛ من هنا يقدمون على استعادة فعلهم الحقيقي مرة أخرى .
النظرية الدرامية التجريبية ومباهج الفرجة: في هذه النظرية ؛ ترى أن تحقق الفرجة مرتهن باستمتاع المتفرج بخوض تجربة الانفعالات المقدمة له عبر منظومة متشظية لصور غير مألوفة وغير مسبوقة لمشاهد الخوف والشفقة دون أدنى إحساس منه بأنه مطالب بالتوحد مع ما يعرض عليه . وبذلك يرى نفسه في منأى عن أية أضرار شخصية يمكن أن تقع عليه . وتدخل في إطار تلك النظرية كل العروض المسرحية الحداثية التي تتعدد دلالات تلقيها إلى جانب العروض المسرحية المابعد الحداثية التي تفكك الخطاب وتفكك الأنساق الفنية في بنائها المتشظي ، والذي تتداخل أزمنة أحداثه وأمكنتها .
وعلى الرغم من أن النظرية التطهيرية المقارنة التي تأسست على مآخذ أفلاطون وهجومه على المسرحية المأساوية بدعوى أنها تثير في نفس مشاهدها عاطفتي الخوف والشفقة ؛ الأمر الذي يضعفه انفعالياً ، ومقارنة مآخذ أفلاطون تلك بالردود التي عارض بها أرسطو أستاذه حيث رأى أن إثارة هاتين العاطفتين في نفسية المشاهد تخلصه منهما ، ومن ثم تحدث عملية التطهير، فرجة تجعل المتفرج أفضل صحياً وأقوى انفعالياً .
إن دارسي المسرح الدرامي في اعتمادهم على النظريات العلمية المتصلة بنظرية التطهير يتوجهون بأنظارهم نحو تلك النظريات تبعاً لقرب إحداها من طبيعة الأسلوب الذي تنبني عليه المسرحية في اتجاه تحقيق أثر الفرجة التطهيرية درامياً وجمالياً.
النظرية التماثلية ومباهج الفرجة: ترى أن التطهير يجب أن يقع بطريقة مماثلة لشخصيات المسرحية ذاتها قبل أن يؤثر في الجمهور المشاهد. ومعنى هذا أن الشخصيات تحمل في ذاتها مباهج الفرجة التي تنتقل وجدانيا عبر التعبير المرئي أو التعبير المسموع المرئي إلى المتفرج ؛ ولنا أن نلاحظ حالتي الخوف والشفقة اللتين تشعان على هاملت قبل أن تؤثر على متفرجيها ، وسيطرتهما على (أوديب) وعلى (بيكيت) وعلى (مس جوليا) وعلى (كوراج) في (الأم شجاعة) لبريخت على الرغم من بنائها التغريبي وعلى (جولييت) وعلى (ديدمونة) كذلك تتماثل حالة التطهير ما بين جمهور (جريمة قتل في الكاتدرائية) وجمهور(بيكيت أو( شرف الله) وكلتاهما تتناول حياة القديس توماس بيكيت قبل تعيينه قديساً لانجلترا (رئيساً لأساقفة كانتبري) حيث يتطهر من رذائل ماضيه في مصاحباته العربيدة مع الملك هنري الثامن ؛ فور تعيين الملك له رئيساً للأساقفة.
إن مناط الفرجة في الهزة التي تعتري " بيكيت " مع بدء فعل التحول من حياة العربدة التي عاشها (توماس بيكيت) عندما كان صاحباً للملك هنري الثامن إلى حياة الطهر والتقى فور تعيينه رئيساً للأساقفة ، حيث لم يكن متوقعاً من قبل صديقه الملك الذي عينه ليؤمم له أموال الكنيسة الإنجليزية وأوقافها التي تؤول حصيلتها إلى الكنيسة الأم في روما ؛ وفي صدمة الملك الفجائية ، في تحول صديقه بيكيت من حالة العربدة إلى التقى ؛ لذلك يصاب الملك بحالة من الإدهاش نظراً لوقع المفاجأة عليه ، كذلك تصيب المتفرج حالة من الإدهاش التي تحقق مباهج الفرجة ، نظراً لمتانة الرابطة التي رأها في علاقة (بيكيت) بـ(الملك) وفي ذلك إبطال لأفق التوقعات الذي ركن إليه المتفرجون ، كما ركن "الملك" نفسه إليه ومناقضة التوقع تحدث الصدمة ، وتحرك الشعور المتلقي للصورة أو الموقف ، لأنه يكشف عما وراء المظهر الذي يتسم به الفعل الدرامي بطريقة غير سابقة التخطيط ، وهي في الوقت ذاته تشي باحتمال تدبرها وفق تخطيط سابق في ضمير الشخصية ؛ وفي ذلك الوشي المحتمل تكمن مباهج الفرجة ، يقول أرسطو " الإدهاش المتولد ، يكون أعظم مما لو وقعت هذه الأحداث من تلقاء ذاتها ، أو بالمصادفة . وحتى الأحداث التي تقع اتفاقاً ، أو بالمصادفة تبدو أكثر إدهاشاً عندما تتم ، وكأنها وقعت عن سابق تخطيط " ؛ فالتأثير الأمثل للحدث في التراجيديا من حيث إثارة الخوف والشفقة يتحقق بتحقق عنصرين – وفق أرسطو-:
أ - الوقوع الفجائي ، غير المتوقع للحدث
ب - تتابع الفعل وترتب كل فعل على فعل آخر في الوقت ذاته .
على أن التماثل في المثير الشعوري بالتعاطف والتخوف مع الشخصية المسرحية لا يتحقق عن طريق التحول المتماثل ما بين الشخصية والمتفرج إلاّ إذا تشابه المتفرج مع الشخصية . وذلك شرط التحول التراجيدي كما نص عليه أرسطو .
وهنا يجوز لنا القول بأن فكرة التوحد أو عدوى الاندماج بين الممثل وجمهوره وفق شروح النظرية الأرسطوية، تتناقض مع ذلك الشرط الأساسي للتحول عند المتفرج ، ذلك أن التحول ، الذي لا يتحقق عند المشاهد غير المتشابه مع الشخصية التراجيدية المعروضة أمامه بالتجسيد الأدائي . وهنا تسقط نظرية الاندماج أو التوحد الجماعي بين جمهور العرض المسرحي مع الشخصية إذ يقتصر ذلك على المتفرج المناظر للشخصية المعروضة .

4- مباهج الفرجة الكولاجية
في فنون العرض السينمسرحي

* فن الكولاج : " فن الكولاج" : ؛ (فن القص واللصق) . وقد وظف بكثرة في العروض المسرحية وفي الإحراج الدرامي والاستعراضي على شاشة التليفزيون ؛ حيث تجميع عدد كثير من الصور أو المواقف المختلفة وربطها معا في وحدة مشهد أو حلقة بهدف خدمة فكرة واحدة محددة .
الفرجة التجريبية بين عروض الحكي التشكيلي وعروض المحاكاة:
تنوعت أساليب الحكي فكان منها الحكي القولى السردي بوساطة جمالية فن الإلقاء الذي يعتمد على التعبير الصوتي المستعيد لمواقف من حكايات تراثية أو اجتماعية محمولة على عناصر الفرجة الشعبية تشخيصا أدائيا تتخلله – أحيانا – عناصر من الأداء الغنائي الموقع ، ومنها ما كان حكيا تمثيليا ، ومنها ما كان حكيا بوسائل السرد التعبيري التشكيلي عبر صور متجاورة يتشارك في نسجيتها التعبيرية فن الرقص وفن البانتومايم الكاريكاتيري وفن السيونوجرافيا وفن الغناء التراثي أو الشعبي . وقد عرف هذا اللون من الفن الكولاجي غالبا ، مع تداخل صور فنية كليباتية فيما أنتجه مخرجو المسرح السينوجرافي في بولندا مثل ( كانتور – باربا- شينا – مونجييك – مونشكين ) وكذلك المخرجة الألمانية بينا باوش( بينيتا باوش ) باعتمادها على ما يعرف بأسلوب ( التانزا تياتر ) والحركة الشطرنجية ، التاي تستعيد بهما أعملا مسرحية كلا سيكية شكسبيرية وملحمية بريختية . وقد قدمت فرقة الرقص المسرحي بدار الأوبرا في مصر في عشرين السنة الماضية بدءا من 1990 هذا اللون من عروض المسرح ما بعد الحداثي ؛ فقدمت لنا عشرات من تلك العروض المسرحية الكولاجية والكليباتية مثل ( الأفيال تختبئ لتموت) ،(حلم نحات) ، ( كلارا والرمال المتحركة) ، ( صحراء شادي عبد السلام) ، ( الفراشة العذراء) ، ( الفجر والغسق) ، ( بنات بحري) ، ( رائحة الثلج) ، ( صوف رابعة) وعرض (قاسم أمين) وغيرها. كما ظهر تأثير ذلك التيار المسرحي على عدد غير قليل من مخرجينا الشبان في مصر وفي بعض التجارب المسرحية العربية ؛ التي تأثرت صورها الفرجوية بألوان الفرجة التي تخلقت من خلال عروض تلك الفرقة. ومن بين من تأثر بذلك التهج – على سبيل المثال- " د. محمود أبو دومه " في مصر . ففي عرضه المسرحي ما بعد الحداثي الذي قدم بمسرح الجراج بمركز الجزويت بالإسكندرية وهو عرض ( في قلبي ) الذي عالج فيه مسرح سترندبرج معالجة كولاجية ؛ ليوصل إلى جمهوره فكرة موت مسرح سترندبرج ؛ مرتكزا على بعص الصور والموتيفات السيميائية المقتبسة من نصوص أوجست سترندبرج ؛ من خلال فنون الكليب Clips ؛ التي تدل على أهم عناصر يرتكز عليها مسرح سترندبرج ( طقس الرقص – فكرة التمرد النسوي) إذ اقتبس من مسرحياته أهم العلامات الدالة : ( صورة ورمزا وإشارة وأيقونة ) على معنى من معاني هذه المسرحية أو تلك ؛ من مجمل مسرحيات سترندبرج التي توقف عندها ذلك العرض الذي قدم على مسرح (الجراج) الجزويتي 2007. ومن ثم ترك للمتفرج الاستدلال على أن دخول ممثل في زي " ردنجوتي " لخادم أنيق يحمل على كفه ( صينية عليها حذاء لامع من أحذية الصيد ؛ هو حذاء الكونت ، وجوانتي نسائي ، يرمز لمس جوليا ، وبيده الأخرى جرس صغير ؛ يرمز إلى الوسيلة التي يستدعي بها الكونت خادمه جان ) وجميعها تشكل منظومة سيميائية دالة على مسرحية ( مس جوليا) . كما يستدل على " تيمة الرفض والتمرد النسوي " برفض جلوس الممثلة التي تشخص نماذج من شخصياته النسائية ، على مقعد قام ممثل دور أحد الشخصيات الذكورية ضبطه لها قبيل جلوسها عليه ؛ إذ تحتد وتعيد ضبط وضع المقعد حسبما ترى ، وهى تقول : " أنا أكره عباد الشمس " وتتلو عليه وعلى المتفرجين قائمة بما تكره من كل شئ يحمل صفة عبد أو يتصدر اسمه بثلاثة حروف هي ( عين – باء – دال ) وتلك لمن يعرف إحدى خصائص مسرح سترندبرج ؛ دلالة على خاصية التمرد النسوي عنده . هكذا يفكك هذا العرض خطاب ستؤتدبرج المسرحي وبفكك أنساقه .
وهكذا يستعيد العرض صورا من نصوص سترندبرج تدل على أهم خصائص ذلك المسرح ؛ حيث يتم تمثيل تلك الصور الكولاجية المتجاورة ، بالسرد الأدائي التمثيلي التشكيلي في آن أمام تابوت أبنوسي أنيق في خلفية فضاء منصة التمثيل الكروية ؛ حيث يدور العرض من البداية حتى النهاية داخل غلاف كروي يرمز للكرة الأرضية ؛ فيراه المتفرجون منذ دخولهم قاعة العرض في باطن كرة بلاستيكية قبل بدء العرض ؛ ومع بداية العرض تسقط بالتتابع على سطح تلك الكرة شرائح فيلمية Slides من عروض مسرحية وأفلام لمسرحيات عالمية شكسبيرية – غالبا- ؛ ينفرج شطرى الكرة الضخمة عن مشهد الخادم حامللا صينية العلامات المستعادة من مسرحية ( مس جوليا ) ؛ ويثبت وضع شطري الكرة منفرجتن على هيئة هلالين كبيرين يحوطان بالصور الكولاجية المتشظية المقتبسة من مسرح سترندبرج والمؤداة أمام ذلك التابوت الأبنوسي اللامع الأنيق الملقى على أرضية المنصة في خلفية الصور المؤادة بأسلوب عرض أفقي . وعند انتهاء الممثلين من أداء تلك الصور السيميائية المنتقاة بعناية لتعبر بعلامات مختزلة ، دالة ومعبرة عن أهم خصائص مسرح سترندبرج يتقدم مؤد بيده منشار يدوي لينشر التابوت الأبنوسي الذي يحمل اسم أوجست سترندبرج وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته ؛ ليقطع التابوت إلى ثلاثة أجزاء .
فإذا توقفنا أمام تلك الدوال التي تمثلها عملية تجزئة تابوب سترندبرج كان لنا أن تساءل عن مناط الفرجة التي أصاب منها المتفرج غير المتخصص وغير المؤهل لفك تلك الشفرات التي نسجت الصورة الكلية لذلك العرض ؛ دون اهتمام بما تعنيه تلك العلامات أو الدوال ؛ وأصاب من مباهجها المتفرج المدرك لمسرح سترندبرج خصائصه الفنية . أما مناط الابتهاج الفرجوي للمتفرج المثقف العادي فقائم في رؤيته للون مبتكر من ألوان العرض المسرحي ، إذ هو يرى أمامه وهو جالس قبل بدء العرض كرة ضخمة ، توحي له بشكل الكرة الأرضية ، وهو أمر لم يعتد رؤيته في المسرح ، حيث لا ستار ولا حاجب يحجب عنه ما على المنصة ؛ فكشافات الإضاءة ( بروجكتورز projectors) مكشوفة ؛ بما يوحي للبعض بأن العرض يوظف نظرية التغريب الملحمي . غير أن أفق توقعاته ينتهي عندما تسقط صورا من شرائح فيلمية مختلفة من عروض شكسبيرية أو غيرها ، فالفرجة تصيبه بالبهجة حتى وإن لم يدرك أنها من مسرحيات شكسبيرية أو غير شكسبيرية لأن الدهشة أصابته بالمتعة الناتجة عن مغايرة ماتوقع ؛ أما المتفرج المتخصص أو المدرب على الفرجة الفنية والمسرحية بما لديه من مخزون ثقافي ومعرفي وحس نقدي وذائقة فنية ؛ فقدرته على فك رموز الصور التي تعرض ؛ وربطها بعلامة الكرة الأرضية ؛ التي تسقط عليها ؛ سيدرك أن العرض يتعرض لظاهرة المسرح العالمي فلما ينفرج شطرى الكرة الأرضية تلك ويتكشف المتفرج المثقف الدارس لمسرح سترندبرج ، أن المخرج الدراماتورجي التفكيكي الأسلوب قد خدعه بتقديم شرائح ونماذج من صور عروض لظاهرة المسرح العالمي ؛ وتسلل إلى باطن تلك الظاهرة العالمية ليعرض عليه مقتبسات من صوؤ سيميائية منتقاع من عروض خاصة بأحد الكتاب العالميين البارزين المؤثرين في الظاهر المسرحية العالمية ؛ مركزا على أخص خصائص مسرحه ؛ عند ذلك يتشرب وجدانه مباهج الفرجة ؛ والشعور بالتسامي ؛ حتى أنه أحس بأنه يحلق في فضاء الفرجة بأجنحة التأمل ، وقوة المقاربات المعرفية التي وفرتها لها قوة إدراكه للدلالة الكلية للفكرة التي دفعته قراءته التحليلية التأملية لمنظومة علامات الفكرة التى رمى إليها المخرج الكولاجي المبدع ؛ للدلالة على أن مثل ذلك الفن المسرحي قد مات . وهي دلالة – ليست متوحدة عند كل المتفرجين ؛ بل هي أقرب إلى ما طرحه "جاك دريدا" حول ما يعرف بإساة القراءة ؛ ومن ثم إنتفاء وجود دلالة كلية -
ومع ذلك فإن مباهج الفرجة في هذا العرض مباهج متضاعفة ؛ ومتعددة بتعدد متفرجي العرض طوال فترة استمراره ؛ حيث تتصل بهجة الفرجة بوعي كل متفرج من المتفرجين بالقدر الذي يمكنه من فك شفرات العرض ؛ عندما يصل إلى الموقف الذي يبدأ فيه ممثلان في نشر تابوت سترندبرج الأبنوسي الأنيق اللامع بمنشار ليشطر إلى ثلاثة أقسام ؛ فعندما يدرك ذلك المتفرج الدارس المتخصص أنه – غالبا- هو وحده ،. وليس هناك أحد غيره قد أدرك وعي المخرج الدراماتورجي الكولاجي "محمود أبو دومة" بأن مسرح أوجست سترندبرج قد مر بثلاثة مستويات أو مراحل فنية ؛ وتلك دلالة تقطيع أو فصل تابوت سترندبرج ( مسرحه) إلى ثلاثة أجزاء . ويدرك دلالة مقصد ذلك المخرج الدراماتورجي من مجمل عرضه ، دلالة موت مسرح سترندبرج وتحوله إلى ذلك المسرح الذي وصفه " فريدريش دورنمات " – في أواخر عمره ؛ بالمسرح المتحفي –
وخلاصة الأمر هنا أننا بإزاء نوعين من المباهج الفرجوية : فرجة تصيب المتفرج بالبهجة لمغايرتها لأفق توقعاته ؛ وفرجة يصيبها المتفرج المتأمل المدرك بقدرته على الترجمة الفورية لمنظومة شفرات العرض الذي يعرض عليه ؛ وهي فرجة لا يتوحد فيها المتفرج مع العرض ؛ ولا يندمج مع صورها ؛ لأن هذا النوع من الفرجة ؛ هو نتاج محصلة ثقافة المتفرج مع محصلة ثقافة العرض نفسه :
( خطابا ونسقا كولاجيا ) .
مباهج الفرجة المسرحية
وجماليات الكليب Clip في عروض المسرح المصري
بين عروض الحكي وعروض المحاكاة في المهرجان التجريبي الأخير دارت عجلة السرد التمثيلي مشتبكا مع السرد التشكيلي في ثلاثة عروض أخرج من المسابقة العرض الأكثر تجريبا بعد المشاهدة الترشيحية ؛ لأن الصورة المسرحية فيه ـ ربما ـ لم تكن مسرحية خالصة ؛ ولم تكن سينيمائية خالصة .. فهو عرض سينمسرحي بحق. وهو محمّل بفكرة تجريبية عبقرية لا تخرج إلاّ من مبدع مفكر ؛ متملّك لأدواته ؛ يتلاعب بها تلاعب المتمكن ؛ القابض علي لجم براق الفرجة المسرحية ؛ ليحلق به عاليا في محاولة اصطياد فراشة الطرب القديم المتجدد دوما علي آهات المطربة ( حبيبة التونسية ـ اليهودية الديانة) التي عاصرت ( سيد درويش ) وأبدعت في غنائها لطقطوقته الخالدة ( زوروني كل سنة مرة) فشنفت الآذان بغنائها ؛ حتي بعد اتهامها ظلما بقتل أحد الخواجه (دولباني: صاحب كازينو بشارع عماد الدين ) الذي انتقلت للعمل فيه واقتراب حبل المشنقة من عنقها ؛ لولا اعتراف القاتلة الحقيقية ( عشيقته) بقتله ؛ قبل النطق بالحكم مباشرة.
والغريب خروج هذا العرض - الفرجوي باقتدار- من المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبي الثامن عشر ؛ لأن اللجنة الدولية التي شاهدته قد التبس عليها الأمر؛ فلم تعرف – ربما- هل هي بإزاء فرجة سينمائية علي فيلم من الأفلام المصرية القديمة الصامتة التي يشكل الصوت فيها مصاحبة تعليقية خارجية بالسرد الصوتي سواء بالغناء أو بكلمات أو مقاطع مبتسرة من الحوار المسجل كلاما علي شريط سينمائي بأسفل الصور المتحركة ؛ أم هو يشاهد عرضا مسرحيا حيا يؤدى فيه الممثلون أدوارهم بأسلوب المايم وفق منهج " إيتيان داكرو " رائد فن (التمثيل الصامت الغبي ) الذي يقوم فيه الممثل بدور دراماتورجي لسيناريو أدائي تتضافر فيه فنون الارتجال والغناء والمايم .
فإذا لم يكن هذا الالتباس الفرجوى المقصود تجريبا يحرك مشاعر المتفرج وينشط أفق توقعاته ؛ ويستفز إدراكه بما هو مغاير لما هو موجود ؛ فما يكون التجريب إذنّ
خرج عرض الفراشة العذراء وخرجت حبيبة التونسية من قائمة الجوائز بعد مشاهدة أولية ؛ لا لأنها يهودية !! ( واللجنة ضد التطبيع ) وحبيبة كذلك ليست إسرائيلية فاسرائيل لم تكن قد ولدت دولة مغتصبة لحقوق شعب فلسطين بعد !! كما أنها (حبيبة) قد شبعت موتا .. ولكن لأنها ظهرت بالتشخيص السينمسرحي ( ربما لأن مثل هذا العرض يشف عن دعوة مغلفة لثقافة التسامح التي هي شعار برنامج المرشح المصرى لإدارة اليونيسكو ) مع أننا شاهدنا عرضا سينمسرحيا سابقا بالمسرح القومي
خرجت الفراشة ( تحفة الحكي التشكيلي السينمسرحية ) من سباق جوائز المهرجانا لتجريبي إذن .. لا لأن بها بعض لقطات محدودة ذات إيقاع متباطيء؛ بأداء تمثيلي صامت مع مصاحبات غنائية بعضها تراثي وبعضها بأصوات بعض من رواد الغناء العربي ( سيد درويش – الشيخ على محمود – أم كلثوم- والمغنيين الشعبيين : حفني أحمد حسن ومتقال ) ولكنها خرجت بقرار لجنة المشاهدة الأولي للعروض المسرحية المصرية المتقدمة للمسابقة ؛ ( محمولا علي أسبابه !!) وتبقيّ عرضان من إنتاج مركزي الإبداع بالقاهرة وبالإسكندرية .. أحدهما يعود بنا إلي تجربة مسرحة عمل أدبي – وهي التجربة التي افتقدها المسرح المصرى والعربي في ثلاثين السنة الفائتة - حيث مسرحت رواية : ( خالتي صفية والدير ) للأديب الكبير ( بهاء طاهر ) بإعداد مسرحي شبابي لشاب سكندري موهوب هو( حمدي زيدان) بإخراج شاب متميز الموهبة (محمد مرسي) من خريجي قسم المسرح بجامعة الإسكندرية وبطولة شاب متميز حيل بنه ودخول قسم المسرح طالبا هذا العام ؟
نجح المخرج الشاب ( محمد مرسي ) في تضفير الصورة المسرحية تضفيرا تعبيريا مابين تجميد حركة أبطال الرواية في الخلفية من وراء شرائح شفافة ؛ تسقط عليها الإضاءة في جمالية ذات أثر درامي في توقيتات محسوبة لنري الشخصيات المسترجعة إلي حالات التشخيص الحاضر كما لو كانت دمي بشرية أو مومياوات بشرية مازالت تحتفظ بحيويتها وأحداث يستردها الراوى المعاصر ؛ ويعيد بعثها أبطالا ليعيد كل منهم تصوير الموقف الدرامي الذي شارك فيه في حياته ؛ مما يتصل بالحدث الرئيسي ؛ ثم يعود بعدها إلي عالم الشهادة خلف ستائر النسيان .
علي أن الحركة الدينامية والتحريك المسترد لدقائق معدودات تشع بالفرجة الشعبية غناء وتحطيبا ودروشة وطقسا بالصلاة عبر صور مقارنة بين صلوات المسلمين وصلوات المسيحيين ، وحلقات ذكر وصخب مدائح وتداخل تعبيرات تشخيصية بلهجات صعيدية حميمية ذات أجروميات سيميائية تشف عن دموية الذروة الدرامية مع سماحة أناس قبعوا خلف أسوار الدير. . وتعنف عند من غلبته فكرة الانتقام والثأر علي نفسه ؛ فمات كمدا دون تحقق هدفه السوداوي ( صفية) . دار هذا كله دورة جماعية في منظومة متناغمة ؛ حتى مع بعض الملل المصاحب غالبا لأسلوب الحكي التمثيلي ، ومع النهاية الميلودرامية الفاجعة علي طريق : تعيدنا إلى فرجة ميلودرامية من تراث ( يوسف بك وهبي وأمينة هانم) .
أما تجربة الحكي التمثيلي الحوارى الثانية التي دخلت حلبة السباق وهي( قهوة سادة ) في مأتمنا المصرى الحضارى المعاصر قبيل انتفاضة 25 يناير 2011 بشهور قليلة ؛ فقد قام ذلك العرض أيضا علي تجربة استعادة صور سلبية مضت من واقعنا المعيش مع صور مازالت حاضرة ؛ ليجرى العرض مقارنة بين ماكان وما هو كائن مّنا وعلينا ؛ ليضع المتفرج أمام موقف ما عليه أن يقفه ؛ موقف يدعوه لاحتساء فنجان (قهوة سادة) حزنا علي حالنا الذي أصبح على غير ما يرجوه وطني مصري صادق .
والعرض مسبوق بزفة إعلامية يستحقها بالطبع ؛ لأنه حالة إسقاط نقدى علي الواقع الاجتماعي المعيش. وقد أتيحت له كل الإمكانات الإعلامية .
أما من ناحية الفكرة والأسلوب فقد قامت علي الارتجال المدروس . وقد ذكرني ذلك العرض بما كان يفعله المخرج البولندى ( تادووش كانتور) حيث كان يطرح علي طلابه الممثلين فكرة ما ويترك كلا منهم مع خياله وتخييلاته في ارتجال صورة كولاجية حركية مسموعة أو مرئية تشخص الفكرة التي طرحها كانتور على طلابه ؛ ثم يعمل الأستاذ المخرج علي تنسيق ما يرى صلاحيته من بين مجموعة الصور التي شخّصها ممثلوه بالارتجال الحر الخلاق ؛ دون أن يضع اسمه علي مجهودات طلابه وممثليه الإبداعية بوصفه مخرجا للعرض . وتتخلق الفرجة في هذا العرض من توحد الصور المستعادة بالتشخيص التمثيلي النقدي مع ما يقابلها من واقع المتفرج المعيش .
هكذا تباينت مباهج الفرجة فيما بين العروض الثلاثة ؛ حيث تضافرت فنون المايم مع فنون العرض السينمائي بأسلوب الفيلم غير الملون وبأداء دراماتيكي ميلودرامي الطابع وخلفيات مرسومة (فوندو) متحركة مع مصاحبات غنائية ؛ تشارك جميعها في تشخيص قصتي امرأتين إحداهما من صعيد مصرهي( شفيقة التي ارتبط مصيرها بمتولى في الملحمةا لشعبية المصرية) والأخرى تونسية مصرية يهودية هب (حبيبة) وهي مطربة مشهورة في العشرينيات ؛ وقد جمع بين القصتين المخرج الدراماتورجي السينوجرافي (وليد عوني) جمعا لا منطق فيه ؛ حيث يبدأ عرضه المسرحي بعرض صاحب صندوق الدنيا التراثي لقصة هروب (شفيقة) التي غير المخرج اسمها إلى (زهرة) على الصبية المتفرجين في ساحة ما ؛ حيث تبدأ قصة فيلم صندوق الدنيا ؛ بعرس (زهرة وحسين الذي هو في الأصل الشعبي : متولي) ؛ بين رقص وزمر وغناء مصاحب بأداء شعبي على طريقة أهل الصعيد ثم دخول والد العروسا لفجائي بعد أن أخبرنه إحدى المتربصات بشفيقة ؛ حيث يضبطهاعروسا لرجل هو ( حسين) دون علمه ؛ لتدور معركة يشهر فيها الأب بندقيته في وجه العريس ؛ غير أن جنديينم ن جنود الاحتلال الإنجليزي لمصر يقتحمان المشهد ويطلقان الرصاص على والد الفتاة ؛ فيختطف العريس البندقية من القتيل ليطلق الرصاص على الجنديين ؛ ويصيبه أحدهما بطلقة نارية . وهكذا يتحول المشهد إلى مشهد ميلودرامي باقتدار ؛ وهنا تهرب العروس إلى القاهرة ؛ ىلتعمل بالغناء في أحد ملاهي الأزبكية .
ولأن البناء الدراميل لعرض بناء ميلودراميا لذا اعتمد على التلفيقية ؛ بالقفز الفجائي ؛ غير الممنطق لتتحول ( زهرة) تحولا فجائيا فتصبح ( حبيبة) المغنية اليهوديةالت ونسية الأصل ؛ بعد أن اشتهرت وارتقت لتصبح من مغنيات ملهى المسيو (دولباني) بشارع عماد الدين – شارح المسارح الشهير في العشرينيات – ترتبط ( زهرة/ حبيبة) بعد التحول بقصة حب مع (أنور) الضابط بالجيش المصري وهو ابن أحد الباشوات ؛ يعرضها على أسرته في حفل بقصر والده ؛ فلا تجد لديهمق قبولا لطبيعة عملها في الملاهي ؛ يذهب لحرب فلسطين لتخليصها من غزو العصابات الصهيونية ؛ تتهم هي بجريمة قتل مخدومها مسو (دولباني) الذي تقابله في الملهي نهارا لإجراء تدريبات فنية ؛ فتفاجئ به يتحرش بها ؛ وفي تلك اللحظة تقتحم عشيقته الخوجاية المكان وتضبطهما فتطلق عليه الرصاص وترديه قتيلا . تقدم شفيقة أمام المحكمةم تهمة بقتل ( دولباني) وقبل الحكم عليها بالإعدامت قتحم العشيقة القاتلة قاعة المحكمة صارخة باعترافها بقتل مسيو (دولباني) فيفرج عن ( حبيبة – التي كانت زهرة في بدايةالعرض ) تهجر مهنة الغناء ؛ مع أنها لمعت فيه وغنت مع سيد درويش لحنه الذائع الصيت ( زروني كل سنةمر ة) لتعمل ممرضة ؛ تلتقي بالضابط أنور من جديد ؛ يقنعها بالسفر معه إلى فلسطين لإسعاف جرحي الجيش المحارب للعصابات الصهيونية فتوافق ، ويرتبطا بالزواج ؛ وهنا تنتهي القصة . هكذا تتخلق مباهج الفرجة من خلال إدراك المتفرج لصنعة التلفيق الميلودرامي بين قصتين لا رابط بينهمام ن حيث تاريخ حدوث كل منهما ، ومغايرة مكان الحدث ؛ وظروف وقوعه . هذامن حيث البناء الدراميل قصة العرض السينمسرحي ؛ فماذا عن مباهج الفرجة في توظيف تقنيات توظيف شاشة عرض سينمائي في إخراج عرض مسرحي بأداء تشخيصي حي وحاضر في مواجهة مباشرة أمام جمهور !!
مباهج الفرجة التوليفية
بين الواقع التاريخي والتخيل المسرحاني
يذهب العرض التجريبي السينمسرحي " قصة الفراشة العذراء" إلى تأكيد رسالة التسامح الحضارى جنبا إلي جنب مع عرض ( خالتي صفية والدير) وقد كان قيمة من قيم المدنية في المجتمع المصري منذ ثورة 1919 ؛ حيث لا فرق بين مصري مسلم ومصري مسيحي ومصري يهودي فالجميع مصريون يتمتعون بحقوق المواطنة دون تمييز بين مصري ومصري آخر مع اختلاف دين كل منهما . ولأن افتقاد قيمة أصيلة من قيم المدنية ؛ تستلفت نظر الفنان بوصفه مثقفا وطنيا يؤمن بحقوق المواطنة ويؤكد على فكرة قبول الآخر ؛ لذلك شغلت ظاهرة غياب تلك القيمة بعض الأدباء والفنانين ، فكانت رواية ( خالتى صفية والدير) لللأديب الروائي بهاء طاهر ؛ التي وجد فيها أحد شباب المسرح المصري ضالته في إعدادها للمسرح وتقديمها ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي 2009 ، وفي التوقيت نفسه قدم المخرج السينوجرافي وليد عوني عرضا دراماتورجيا سينمسرحيا من توليفه وإخراجه ضمن فعاليات المهرجان التجريبي نفسه ( قصة الفراشة العذراء) وهو عرض كولاجي لأنه مجموعة من القصص الميلودرامية ؛ جمّعها خيال وليد عوني تجميعا تأسس على أسلوب الصراع الواثب الذي يتقافز تقافزا تغيب عنه منطقية انتقال الأحداث في تجاورها الملتبس بين البنية الأفقية والبنيةال رأسية ؛ دون تفعيل منطقي لتقنية التخلص الدرامي فيما بين حدث وحدث آخر أو صورة مسرحية وصورة مسرحية تالية لها؛ في منهج أقرب إلى نظرية التغريب الملحمي – حتى وإن لم يكن ذلك مقصد العرض –
كولاجية بناء مضمون العرض : يجمع العرض بين قصتين حقيقيتين لامرأتين، اكتسبت قصة كل منهما شهرة بين جمهور مجتمع العشرينيات في القرن الماضي وما بعده لسنوات طويلة بعد ذلك التاريخ ، فلقد كان لكل قصة منهما صدى واسعا في مجتمعنا المصري .
دارت الأولى في عصر الخديو سعيد ؛ الذي فرض السخرة على الفلاحين المصريين في حفر قناة السويس . وهي قصة تدور حول فتاة من صعيد مصر هي ( شفيقة ) التي عاشت وحيدة مع جدها العجوز بعد إجبار أخيها ( متولى) على ىالتجنيد في الجيش ؛ في وحدة عسكرية تتابع عمليات السخرة وحفر القناة. عرفت تلك القصة بـ( شفيقة ومتولى) وقد تحولت إلى ملحمة شعبية يتغنى بها المغني الشعبي المصري على ربابته ، ويسترزق عن طريق غنائها في قرى مصر ونجوعها لفترة طويلة ؛ متباهيا بحرص الرجل على الشرف في صعيد مصر ؛ حيث يعالج متولى انحراف سلوك أخته شفيقة في غيابه مجندا ؛ بقتلها ؛ صونا لشرفه _ وتلك رواية من الروايات الشفهية التي يتغنى بها المغني الشعبي في صعيد مصر ، بينما هناك وجه آخر لتلك الحكاية ؛ تربط مصير الفتاة المنحرفة ؛ منتهكة الشرف في غيبة شقيقها المجند الذي يرعى سخرة أبناء وطنه من فلاحي مصر المنتهكة كرامتهم وآدميتهم في حفر الفلاحين المصريين لقناة السويس ؛ بمعنى أن الحس الشعبي قد ربط إنتهاك شرف الفتاة المصرية بانتهاك كرامة الفلاح المصري وآدميته عن طريق السخرة
أما الحكاية الثانية التي تضمنها سيناريو ذلك العرض السينمسرحي ( قصة الفراشة العذراء) فهي قصة مغنية تونسية الأصل يهودية الديانة اسمها ( حبيبة) عاصرت فنان الشعب الموسيقار سيد درويش وتغنت ببعض ألحانه وشاركته في غناء طقطوقته الشهيرة ( زروني كل سنة مرة)
ومن حيث الواقع التاريخي لم يكن بين القصتين ثمة ارتباط ما ليس بينها ارتباط في واقعنا الحياتي المعيش إحداها قصة تراثية شهيرة تتردد في غناء منشدنا الشعبي على الربابة ، وهي قصة( شفيقة ومتولي) التي دارت أحداثها فس صعيد مصر . أما القصة الثانية فيهي قصة المغنية التونسية اليهودية (حبيبة) التي عاشت في مصر وغنت لسيد درويش وشاركته في طقطوقته الشهيرة (زروني كل سنة مرة)
كولاجية تقنيات العرض: وظف المخرج شاشة عرض سينمائي ؛ وأسقط عليها ما يؤكد للمتفرج أنه يحضر فيلما سينمائيا من أفلام ( أبيض – أسود) مع ما يؤكد أن القيلم الذي سيشاهده الجمهور هو فيلم قديم ؛ حيث تظهر خربشات وتشوهات وخطوط سوداء على الشاشة بالتزامن مع تصاعد وتيرة صوت آلة العرض السينمائي ؛ لتأكيد قدمها ؛ ولتأكيد أن العرض يتم في دار سينما بحي شعبي ؛ وذلك أول أسلوب لكسر أفق توقعات المتفرج ؛ الذي جاء ممهدا نفسيا لمشاهدة عرض مسرحي معلن عنه ؛ ضمن مهرجان دولي لعروض المسرح التجريبي ؛ لذا تصيبه الدهشة التي يحقق بها هذا الاستهلال صدمة فرجوية – إن جاز لنا أن ننحت مصطلحا كهذا - وتتأكد لعبة إيهام المتفرج بأن ما يشاهده هو فيلم سينمائي قديم متهالك من الأفلام الصامتة ظهور عناوين تفصل بين المشاهد ؛ بين وقت وآخر ، وظهور أحد ممثلي الذين يظهرون في مشهد على الشاشة –إيهاما ؛ بينما هو من خلف الشاشة حقيقة- ليحدث بالأداء الصامت نفسه أو شخصه الذي هو نفسه على شاشة العرض السينمائي ؛ ذلك في محاولة من المخرج السينوجرافي في كسر إيهام التشخيص الملتبس سينمائيا على الشاشة ؛ وهنا تتحقق الفرجة الملتبسة فيما بين تقنية الإيهام وتقنية التغريب ؛ المهمش للإيهام السينمائي ؛ لتتضح قصدية الفرجة السينمسرحية . التي بدأت بدخول لاعب صندوق الدنيا التراثي ؛ الذي يبدأ بالغناء معلنا عن قدومه ؛ تحفيزا للصبية ؛ ليتواكبوا على مشاهدة الشرائح الفيليمية للقصة الشعبية ( شفيقة ومتولي) ؛ فإذا بعرض صندوق الدنيا يتحول إلى عرض لفيلم سينمائي ؛ يبدأ بحفل عرس صعيدي بمناسبة زواج ( شفيقة وحسين) الذي ينتهي نهاية مأساوية مفتعلة (ميلودرامية) – على نحو ما بينا في التمهيد السابق -
وما بين توظيف تقنيات لعبة صندوق الدنيا وتحولها إلى تقنية العرض السينمائي تتكشف لنا ؛ الوعي الفرجوي لعملية توالد فن السينما من الفن التراثي صندوق الدنيا الذي يعرض – غالبا- صورا من فن خيال الظل التراثي بوصفه أصل فن السينما – ولأن صور خيال الظل مقصورة على اللون الأسود ؛ لذا كان الانتقال الصورة التشخيصية لحفل الزفاف الشعبي بالصورة غير الملونة ؛ انتقالا محمولا على تقنية التخلص الدرامي الناعم ؛ الذي لا يشعر المتفرج بالنقلة الحضارية بين تقنية صندوق الدنيا وتقنية العرض السينمائي . مع أن مباهج الفرجة في إدراك مغزى تلك النقلة المعرفية ؛ الكاشفة لفضل فنون خيال الظل التي شهرت في مصر على عصر السلطان بيبرس في القرن الثامن الهجري ؛ الموافق للقرن الرابع عشر الميلادي ؛ وهي تلك الصنعة الفرجوية الفنية التي شهرت عصرذاك على يد رائدها الموصلي محمد بن دانيال . إن بهجة الفرجة على النقلة في المشهد فيما بين تقنيتين أو صناعتين في تاريخ فن العرض بالصور عبر وسيط ( الأول : صندوق الدنيا والثاني آلة العرض السينمائي ) لا تصيب إلا مثقف مدرك متابع لتطور صناعة الصورة الظلية .
تقنيات الكتابة السينمسرحية في تسابيح " أدّول" النيلية

يجود الفن الحقيقي بما فيه من قوة ؛ ليبلغ غرضاً لم يصل إليه سواه وهو يتخطى المعتاد طامحاً إلى أن يكون موسيقياً ، ولأن المرء لا يستطيع أكثر مما يعرف ولا يعرف أكثر مما يستطيع فكثيراً ما يكتفي الفنان بخلق الموسيقى الداخلية في إبداعه وذلك بعقد قران غير شرعي بين الشعر والموسيقى على فراش النثر.
ولقد سعى أدول عبر تسابيحه النيلية لنقل معرفته على قدر استطاعته واستطاع تحقيق ذلك على قدر معرفته وهي غير قليلة فجاء ما صوره شبيهاً به من حيث الجدة والأصالة ، ولم يكن في حاجة إلى اصطياد الألفاظ لأن لديه شيئاً يقوله . ومع أن الوصول إلى الينابيع والأصول يحتاج إلى وسائل يصعب الوصول إليها - بتعبير فاجنر – إلاّ أننا وجدنا أدول يصل إلى منابع تراثه وأصوله بيسر ، وذلك مرجعه معايشته لمنابعه فهي كما هو واضح تسكنه ومن ثم تسكن كل أعماله بدءاً من (ناس النهر) غير أن روح العصر تفرض ألواناً من التعبير تلائم إيقاعاتها المتسارعة ولذلك ينسج أدول تسابيحه النيلية في شكل خليط بين المسرح والسينما بحيث يعطي أولوية التعبير للغة الصورة.
يقول ستانسلافسكي : " إن الاستسلام لسلطة القوالب الجامدة لا يكلف شيئاً " وفي نص (تسابيح نيلية) لم أجد المؤلف مقيداً إلى قوالب جامدة .
ويقول بيكاسو : " أنا لا أنقل من الطبيعة بل أعمل معها وأمامها" ولم أجد حجاج أدول في نصه هذا إلاّ عاملاً مع الطبيعة وأمامها . ويقول باختين:" إن جميع الكلمات توجد بثلاثة وجوه : كلمة محايدة في اللغة لا تنتمي لأي شخص ، وكلمة تنتمي لشخص آخر وهي محملة بصدى ما ينطق به هذا الشخص . أما الكلمة الثالثة فهي التي تحمل ما أعبر عنه " وأرى أن كلمة حجاج أدول في نص تسابيح نيلية الكلمة الأولى إلى كلمة ثالثة وإذا كانت (كل الكلمات تشتمل على اقتباس من كلمات سابقة حيث لا وجود لاقتباس متطابق مع الأصل أبداً لأن المضمون لا يتوقف عن التغيير) - بتعبير باختين – فقد رأيت ذلك ماثلاً في نص (تسابيح نيلية) خير مثول فالكلمات فيها وإن كانت مقتبسة من كلمات التراث الديني والطقوس الشعبية المصرية إلاّ أنها تتطابق مع الأصل التراثي بل تصب في مضمون أراده أدول نفسه. وإذا علمنا أن في مجال النص المسرحي توجد نصوص مترابطة ونصوص تقوم على الترابط النص ونصوص غير مترابطة
وأن النص المترابط : يقوم على الروابط التي تصل بين مختلف أجزاء النص ومكوناته ومن أمثلته وجود راوٍ أو كورس أو غناء يربط بين المشاهد دون سعي إلى خلق اكتمال فني مثل الملحمية
وأن الترابط النصي : هو سمة التفاعل المميزة للنص وهي خاصية عدم الاعتراف بفكرة موت المؤلف وفيه سعي ظاهر للوصول إلى الاكتمال الفني
وأن النص غير المترابط : هو نص يتقصد عدم النزوع إلى الترابط مثل الدادية ، السيريالية ، العبثية ، نصوص ما بعد الحداثة) فهي تتقصد اللااكتمال فنياً .
فإن قراءتنا لنص (تسابيح نيلية) تكشف عن أنه ينتمي لنوعية النص غير المترابط، لأنه يتجاوز شروط فن المسرح دون أن يعتدي عليها ليزاوج بينها وبين فن السيناريو الذي يقوم على الصورة واللغات غير الكلامية ويجعل لغة الكلام مجرد لغة موازية وهو أمر سوف نقيم عليه الدليل بشواهد من النص نفسه.
السمات المركزية لنص " تسابيح نيلية "
كل نص يتأسس على سمات مركزية هي : (الشبكة – الروابط – النسيج – انفتاح النص)
الشبكة : وتتكون من منظومات الفكر والشكل والتعبير ومنظومة التناص والمقاربات المعرفية اليقينية والمظنونة ونص (تسابيح نيلية) يتمثل تلك المنظومة خير تمثيل.
الروابط : وتتكون من عناصر الربط المتقن بين منظومة المادة والشكل والتعبير أي في اختيار المادة وفي البنية الصغرى (المشاهد) وفي البنية الكبرى التعبير النهائي الذي تنتجه المسرحية . وقد وجدت أن نص (تسابيح نيلية) غير متقصد لصنع روابط متقنة
النسيج : وهو نتاج تفاعل البعد الفكري مع البعد اللغوي والبعد الدلالي والبعد النحوي والبعد التعبيري والإحالات المعرفية التداولية والسياقية . والنسيج في مسرحية أو سينمسرحية ( تسابيح نيلية) لا يتأسس على اللحمة وسداها بل يقوم على تقنية القطع والوصل والقطع والمزج . وهي تقنية في التصوير السينمائي والتليفزيوني.
تجليات الفرجة في نص (تسابيح نيلية(:
نعرف أن لكل إبداع تجلياته التي لا يسمى إبداعاً بدونها . وتتمثل تجليات نص (تسابيح نيلية) في عدد من المظاهر منها :
( توليد الصور – توليد الدلالات في الصورة الواحدة – جماليات الصورة – عمق التصوير – تلقائية التعبير وغيرها مثل:
• تراكيب البنية: وتفاعلها دلالياً وتداولياً ومعجمياً مع الموقف لتحقيق الأثر الاحتفالي والطقسي الممتع.
• تقنية التفكيك المتعمد لمواريث اعتقادية
• تقنية المناجاة بمستوياتها المتباينة من حيث الغرض : ( مناجاة ابتهالية ترديدية فردية أو جماعية لنص ديني – مناجاة إعلامية – مناجاة تعليمية) وكلها تهدف إلى تأصيل الموروث التديني ( الفرعوني – المسيحي – الإسلامي)
• تفاعل النص مع نصوص أخرى: وقد حفل نص تسابيح نيلية بغير القليل من نصوص دينية ومدائح وتسابيح هي جزء لا يتجزأ من منظومة المعارف غير اليقينية (الظنية) المتجذرة في الوجدان الشعبي المصري منذ آلاف السنين ومن أمثلتها مناجاة كل من الكاهن الفرعوني والقس ورجل الدين المسلم فكل منهم يترنم بترديد نص من نصوص عبادته وفق شريعته ووفق وجهته التدينية
• تنويع العلامات وطرق تشكلها: وسبل تواصلها بعضها بعضاً وسبل تواصل المتلقي معها وفق مستويات التلقي . ولا شك أن العلامات في نص (تسابيح نيلية) من الوفرة في طرق التشكل وسبل التواصل بحيث تحسب لحجاج أدول ولإعادة بعثة للدراما الطقسية فتوالد قصة موسى وتشخيص أهل النوبة لها مع ولادة كل مولود بتكرار الاحتفالية حيث يلقي نموذج مركب صغير في النيل وتنثر بداخل حبوب القمح وتضاء شمعة وتوالد قصة إيزيس وأوزوريس وست وحورس في مشهد احتفالي تشخيصي يؤديه أهل النوبة وغياب شخصية آدم بعد ولادة ابنه إدريس وبقاء هوّا (حواء) منفردة مع فتيات ونساء وحبيبة لمقاومة ست الذي يتخذ أشكالاً متعددة ومتباينة لغزاة وطئوا أرض النيل كلها صور متوالدة ينسجها أدول بمهارة ويربط بينها بمهارة.
ولأنه عاشق للنيل لذلك نجد أن اللطبيعة لها الأولوية ويقدم الزمان على المكان في المشهد الافتتاحي لتظهر مؤثرات الميديا في المسرح فكان البدء بتحديد الزمان بدقة دون تحديد دقيق للمكان وكان البدء بصورة الأفق قبل وقوع عين الكاميرا على الأرض وهو يبدع ذلك بتقنيات السينما
- بداية الغروب الشفق يصبغ المشهد بألوانه الشفقية : لقطة عامة بانوراميةخاصة على شواشي النخيل : (لقطة قريبة)
الصورة وتقنية القطع والمزج في صناعة الفرجة :
• " يتلاشى الغروب مع بزوغ القمر. جانب من نهر النيل وضفته ونخيل رشيق" تحديد المكان ثم تحديد عناصره المصنوعة للبيئة وخصوصيتها وصولاً إلى الإنسان . حلت عين المؤلف بديلاً لعين الكاميرا : تركيز عين الكاتب على الغروب في السماء هو تركيز على المطلق وعلى اللامكان فالسماء في مواجهة كل مكان من الأرض لأنها غلاف لها . وبتقنيات القطع والمزج تحقفت الفرجة:
• بدء الصورة بالعام المطلق ، فالعام المحدد (السماء ثم الأرض) ثم الخاص البيئي فالخاص الذاتي (الزي- الغناء)
• عودة للعام المقيد ( مجموعة من الفتيان والفتيات في هرولة ضاحكين) (راقصين رقصات نوبية)
هكذا تتخلق الفرجة عبر جمالية الفعل ورد الفعل.. جمال الطبيعة على ضفاف النيل في النوبة دفعت شباب النوبة إلى الانتشاء والانطلاق تعبيراً عن الفرحة التي اتخذت من الغناء والرقص مظهراً تتنوع أشكاله ما بين الذاتية والعمومي ؛ وفي ذا التنوع تكمن مباهج الفرجة .
تقنيات السيناريو:
الوصف : برسم حركة الكاميرا بوصفها العين المسجلة أو الناقلة لانعكاس الطبيعة على الفرد وعلى الجماعة في مجتمع ما . والطبيعة هنا السماء والأرض سماء تغلف بقعة من نيل مصر وريفها في النوبة
فالكاميرا في السينما أو الفيديو تتسع حدقتها وتضيق ويبتعد مدى إبصارها ويقترب، تستيقظ وتغفو ، تلمح وتحدق ، تماماً مثلما تفعل العين البشرية . أي أنها تحس وتشعر ، تحنو وتحتد ، تغض الطرف وتتلصص غير أنها مأمورة بإرادة الفنان وبوجدانه
ولقد أحل " حجاج أدول " عينه محل الكاميرا فكان لها ما كان للكاميرا السينمائية لتسجل للقارئ فعل الطبيعة في تحريك الفعل الإنساني في اتجاه الاستمتاع بتلك الطبيعة الخلابة
لكن أين الدراما وهي الأصل في فن المسرح وفي فنون الشاشة ، ومعلوم أن لا دراما بدون صراع لعاطفة بشرية مع أخرى وصراع لإرادتين بشريتين في حالة من النمو – بغض النظر عن تعدد أشكاله ودرجاته – وعندما نقول النمو فقصد التدرج في الفعل ورده ، في تفاعلهما إيجاباً أو سلباً
من هنا يخلص " أدول " في تصويره من العام المطلق إلى العام المقيد متدرجاً أو مقترباً عبر نظرته البانورامية للطبيعة الكونية مروراً بالطبيعة البيئية هابطاً من علٍ إلى أرض ريف النوبة بجمالياته ليركز نظرته أو نظرتنا من خلال عينه الفنانة على "هوّا " أو حواء و "آدم"
ومع أن تلك الوقفة التي انتهت إليها عين الكاميرا البشرية لحجاج أدول إلى نقطة اللقاء الذي هو بداية التلاحم إيجاباً أم سلباً مما يعد البداية الحقيقية لأي صراع ، إلاّ أن ذلك مع ما لازمه من جماليات التصوير ، ولزمه من ضرورات التأسيس الدرامي للفعل ، إلاّ أن تقنية التشوف عن بعد ، تعميقاً للصورة وتأكيداً لبلاغتها ، لا تبوح بالمسكوت عنه إلاّ لعين متأملة وباحثة ؛ تزن الصورة بميزانها فتقدر أو تثمن عمق تصوير الكاتب حجاج أدول ؛ فهبوط الكاميرا البشرية (عين الكاتب) من السماوات العلى مع بداية غروب في اتجاه الأرض ، هو إحالة معرفية تراثية معادلة لهبوط (آدم وحواء) من الجنة عندما أفل نجمهما بعد تذوقهما لطعم المعرفة. وبهبوطهما الاضطراري إلى الأرض كانت بداية الصراع . صراع الأنا مع الآخر أو حواء (هوّا) و (آدم) الذي تنوع وتكاثر فأصبح آدم أكثر من آدم وأصبحت حواء أكثر من حواء ومعادله الفتى في نص (تسابيح نيلية) ماثل في تحول رقص (آدم) و(هوّا) إلى رقص جماعي لمجاميع شبابية من الجنسين.
هكذا ينقل لنا حجاج أدول ما وراء الصورة ، دلالة التعبير الأدبي والفني فهو يوحي بأن بدء الخليقة ، بدء الحياة الآدمية قد وقعت في النوبة على ضفاف نيل مصر العظيمة. وهو بتلك الإحالة الإيحائية يسحب البساط من تحت أقدام الزعم الهندي الشائع بأن هبوط آدم وحواء قد كان على جزيرة سيريلانكا
الفرجة بين الفكرة والشكل والأسلوب:
يوظف المؤلف تقنيات كتابة السيناريو ليكشف لنا النص المسرحي عن تأثيرات فنون الفيديو والكتابة السينمائية على المسرح . حيث التركيز على الصورة بوصفها لغة غير كلامية . لذا نجد عين الكاتب بديلاً لعدسة الكاميرا ونجد بعض تقنيات السيناريو ماثلة في نص (تسابيح نيلية) بصفتها الوسائل الدرامية والجمالية الأكثر تحقيقاً لبلاغة خطاب أدول الفكري الذي يتمحور حول النوبة بوصفها مهبط (حواء وآدم) من الجنة إلى الأرض لإعمارها. وهو خطاب لو وظف الكاتب له اللغات الحوارية وغير الكلامية لفقد جمالياته وفقد بلاغته وتحول إلى خطاب دعائي مباشر ؛ وبذلك يفقد تأثيره ومن ثم مصداقيته ولا يتبقى له إلاّ مجرد الحفظ بين دفتي المطبوعة التي حوته.
فتوظيف أدول للغة غير الكلامية لغة التصوير المرئي تتيح للتلقي تعدد الدلالات ، وهو بذلك يقف تحت راية الحداثة ، ومن ثم يعد بعمله هذا مجدداً في الشكل الفني للكتابة المسرحية من منطلق الضرورة التي يحتمها الموضوع أو الفكرة التي انطلق منها.
والكاتب المسرحي قد ينطلق من فكرة وقد درج مسرح الفكر عند جورج برنارد شو، وعند بريشت ، وعند سارتر، وعند كامي ، وعند كتاب العبث وكذلك الأمر عند توفيق الحكيم ويوسف عز الدين عيسى ومهدي بندق ويوسف إدريس في (المخططين)
وقد ينطلق من الحدث كما فعل كتّاب المسرح اليوناني وقد ينطلق من الشخصية كما فعل شكسبير وكما فعل ألفريد فرج في مصر . وقد ينطلق من حالة يعيشها غير أنه في جميع الحالات يمد الشخصيات بما تحتاج إليه لتعبر عن جوهر ما تريد وعن جوهر ما تشعر به ، دون أدنى تدخل ، حتى مع تقنعه أحياناً خلف شخصية من شخصياته – خاصة في المسرح الفكري- وحجاج أدول ينطلق من فكرة ، غير أنه لا يعين لها لغة الحوار الكلامية وسيطاً اتصالياً محمولاً على ألسنة شخصية هنا أو هناك في حالة متنامية من الصراع والمعارضات ، وإنما يترك للعين المتلقية لصور المسرحية والجمالية مهمة الاتصال رؤية لا سماعاً ليتيح للذهن المتلقي تأمل ما وراء الصورة من معنى أو دلالة تبعاً لخبرته البصرية وقدرته المعرفية على تفسير علاماتها في ترابطها أو كليتها. وبذلك يكون أدول مغايراً في تحقيقه للفكرة المنطقية الأساسية التي يقوم عليها تسابيحه النيلية الراقصة.
تقنيات الصورة في المشهد الافتتاحي :
لم يحو المشهد الافتتاحي (الأول) من الحوار سوى أربعة أسطر يحوي كل سطر منها كلمتين أو ثلاث كلمات وضعها أدول متفرقة على ألسنة مجموعة الفتيات :
- هوّا . هوّا
- انتبهي يا هوّا
- سيمسك بك آدم
- إنه خلفك "
بالإضافة إلى ثلاثة أسطر على ألسنة متفرقة لمجموعة الفتيان المشجعين لجنسهم ممثلاً في شخصية (آدم) :
- آدم ، لا تتركها
- تريدها ؟ خذها
إنها فقط تتدلل "
حياة تقوم على الفطرة وربما على المشاعية البدائية ، فلا قيود عند وجود رغبة عاطفية متبادلة ، فالمجتمع إذ يبارك التبادل العاطفي بين ذكر وأنثى فهذا كاف دون حاجة إلى أية قيود أو تقاليد وطقوس ، يكفي طقس الاحتفال كإطار ابتهاج بتحقيق رغبة ذكر في أنثى مع رغبتها المتبادلة مع رغبته ، فرغبتهما عندئذٍ هي رغبة جماعية – رغبة الفطرة )
إن الكلمات القليلة لمجموعة الفتيات المشجعات على مراوغة (حواء) التدللية وفي مقابلها الكلمات المبتسرة لمجموعة الفتيان المشجعين لمطاردة (آدم) لحواء تتخذ أسلوب المبارة والمشجعين ، حيث يشجع فريق من المشاهدين فريقاً وتشجع الفريق الآخر مجموعة أخرى . فأسلوب إقامة الصورة الدرامية على ركائز المقاومة وليس على ركائز الصراع هو نفسه أسلوب مسرح الفكر عند سارتر حيث تقاوم الأنا الآخر في سبيل تحقيق كل منهما لهويته بعد أن أوجد وجوداً جبرياً وبذلك يتحقق الوسط الذهبي حيث لم يصبح الآخر هو الجحيم وهو نفسه أسلوب مسرح الفكر عند الحكيم حيث يعادل فعل الأنا فعل الآخر وبذلك يتحقق الوسط الذهبي الذي بشر به كل من أفلاطون وأرسطو ويتجسد الخطاب الديني (وجعلناكم أمة وسطاً)
وإذا كانت لغة التحميس الأنثوي (لحواء) معادلة للغة التحميس الذكوري في المشهد الافتتاحي ؛ فإن لغة الصورة قد كانت جحيماً بالنسبة للغة الحوار بالأصوات . فالمشهد كله قد تأسس على السرد دون وجود سارد أو راوٍ ناطق ، ولكن عين الكاميرا البشرية لأدول نفسه تسلم ما سجلته عدستها لعين المشاهد ، فالمسرحية للمشاهدة فحسب ، ليست للسماع فالفرجة بصرية
لذلك وضع أدول بدائل لمصطلحات السيناريو وذلك على النحو الآتي الذي ينظر لحجم اللقطة ونوعها باستبدال عبارة من النص في السيناريو
"بداية الغروب . الشفق يصبغ المشهد" لقطة بانورامية عامة باللون الذهبي الشاعري، خاصة شواشي النخيل وأعالي الشجر" ( لقطة قريبة متوسطة)
التركيز على الفتاة” هوّا” والفتى “آدم " لقطة مباشرة (Focus) الفتيان يرقصون وحدهم الفتيات يرقصن وحدهن تبادلية اللقطة (حوارية اللقطات(
المجموعتان تتشاكسان في إقبال وإدبار حركة الكاميرا اللاهثة آدم يتقدم وكأنه يريد أن يقتحم مجموعة الفتيات لقطة قريبة ؛ الفتيات وهن سعيدات باهتمام آدم بهوّا يأخذن هوّ بعيداً لقطة قريبة تتحول بعيداً بشكل سريع يتابع حركة الفتيات السريعة
“هوّا” تراوغ “آدم” لكنه يكاد يمسك بها.. حركة لاهثة متبادلة للكاميرا في لقطة متوسطة وقريبة لهوّا ثم لآدم وبالعكس
- رقصة المجموعتين معاً لقطة متوسطة
- رقصة آدم وهوّا سوياً لقطة قريبة
- رقصة آدم وهوّا رقصة مركبة تعبر عن الحب بين الذكر والأنثى وصف لطبيعة الأثر التعبيري الذي يجب على اللقطة تحقيقه
- يتقدم الجميع ويتوسطهم رجال دين ثلاثة الكاهن الفرعوني والقسيس المسيحي والشيخ المسلم - لقطة متوسطة
" آدم وهوّا " أياديهما متشابكة يركعان أمام النيل. همهمات ترتيل من الناس لقطة قريبة ثم تركز على أيادي الإثنين ثم تتحول إلى لقطة قريبة
أضواء الطبيعة وأصواتها خاصة من السماء كل هذا يعلن مباركة زواج آدم وهوّا لقطة " بان " تتقدم سيدة من آدم وكأنها أمه – تعطيه حلية (جص الرحمن الذهبية) ليضعها آدم على جبين الفتاة بمساعدة السيدة لقطة متوسطة تتحول إلى لقطة قريبة ثم قريبة جداً. ( إظلام يتكاثف في هدوء منهياً المشهد)
نلاحظ أن لغة الوصف لغة تقريرية وليست بلاغية إنشائية وهذا هو أسلوب لغة السيناريو ، فهي أشبه بإرشادات لحركة الكاميرا ولنوعية اللقطات .. فاللغة الأدبية تتأسس على الأسلوب الإنشائي أكثر بكثير من الأسلوب التقريري. والنص المسرحي مهما كثرت فيه لغة الإرشاد الموازية للغة الحوار فإنها تكون محدودة ومقتصدة . وهي تنتفي أو تكاد عند الكتاب القدماء والكتاب الذين يخرجون نصوصهم بأنفسهم ( مسرح نجيب الريحاني و مسرح رمسيس : يوسف وهبي )، فالصورة التي سيكون عليها العرض مطبوعة في ذهن المؤلف/المخرج لنصه. من هنا فإن دور الخيال في العرض - الذي يكون مخرجه هو نفسه مؤلفه - لا يتعدى دوره في النص نفسه.
ولأن حجاج أدول – ذلك المؤلف المستمسك بهويته النوبية – لم يكن مخرجا مسرحيا ولم يقدم على تجربة الإخراج ؛ وعلاقته بالسينما هي علاقة المتفرج ليس أكثر ؛ لذا ؛ فإن لجوءه لتقنيات كتابة السيناريو في بنية نصه المسرحي ؛ تفرض على جهة إنتاج نصه أن تعهد بإخراجه لمخرج متمرس بفني الإخراج المسرحي والسينمائي في آن واحد .
وهنا يكون الحديث عن مباهج الفرجة في هذه المسرحية منوطا بفنون إخراجها ارتكازا على مهارة المخرج في توظيف لقطات سينمائية من البيئة النوبية نفسها بما تشتمل عليه من جماليات طبيعية ؛ خاصة وأن روح المكان تسكن في هذا النص ؛ حيث تتأكد في ثنايا النص فكرة تقديس المكان على حساب الزمان في المشهد الافتتاحي ؛ الذي تأسس على أسلوب دائرية الحدث (دائرية الصورة) حيث تعود الكاميرا إلى لقطة بانورامية للطبيعة السماوية بعد تشابك أيدي (آدم – هوّا) وانطلاق الهمهمات المرتلة في حضرة الدين الوثني (الفرعوني) والواحدي المسيحي ثم الإسلامي . فتوالد الارتباط الحتمي بين الذكر والأنثى تحقق قبل فكرة الأديان و تواصل مع تغيرها المتدرج من الفرعونية إلى المسيحية فالإسلام بوصفها رموزاً للتحول من عصر إلى عصر تالٍ ؛ فإن المكان لم ولن يتغير ؛ حيث النيل باق وخالد والارتباط بين الجنسين باق وخالد فكلاهما حقيقتان ثابتتان منذ هبوط آدم وحواء على ضفاف نيل النوبة – وفق خيال المؤلف-
غير أننا نلحظ أن الركوع لم يكن لغير النيل ؛ واهب الحب والسلام والاستقرار - في كل حالات التغير الديني من الوثنية إلى المسيحية والإسلام فالنيل أقدم من الأديان وأخلد منها لأنها تغيرت في حين لم يتغير من ثم فإن الامتنان له والتعبير عن حب البشر على ضفتيه أن يركعوا له ويسبحوا بحمد نعمه. وبعد فتلك هي قراءتي للمشهد الافتتاحي . ومن المعلومات المرعية أن المشهد الافتتاحي لكل عمل درامي مسرحي أو سينمائي أو تليفزيوني ؛ يكثف الحدث ليشف للمتلقي عن جوهره، ويلمح إلى دلالته العامة، فهو مثل نواة شجرة الفاكهة يمكن شم رائحة فاكهة شجرتها بمجرد شميم تلك النواة.
ملاحظات أخيرة :
اعتمد الكاتب على لغة وصف تقريرية وهذا أسلوب مناسب لكتابة السيناريو فهي عبارة عن رسم لحركة الكاميرا في تسجيل المنظر والحدث تبعاً لتصور محدد ومرسوم يؤدي إلى تحقيق رؤية ما.
- نص تسابيح نيلية هو إعادة إنتاج إطار فلكلوري لتاريخ مصر والمصريين
- المكان مقدس عند الكاتب وهو سبيل لجمع شمل الاختلافات العرقية والجنسية والدينية والطبقية فالنيل يجمع حوله كل أطياف المصريين فالنيل يجمع ولا يفرق
- النوبة هي مهبط آدم وحواء ومن هناك ، على ضفاف النيل انطلقت الحياة،
وعرفت الديانة .. تلك هي الفكرة التي أراد حجاج أدول
- الأولوية للطبيعة وسموها.
- وضع المؤلف عينه بديلاً لعين الكاميرا.
- تبدأ الصورة عنده بالعام المطلق المقيد ثم الخاص المقيد وصولاً إلى الخاص الذاتي . وتلك التقنية تشكل الأساس في الفن السينمائي.
- التصوير دائماً خارجي في الغروب أو في الشروق أي انطلاقاً من البداية أو من النهاية.
- ارتباط أهل النوبة بالتدين بصوره المركبة ؛ فطقوس الفرعونية لا تنفيها طقوس المسيحية ولا تنفي طقوس الإسلام طقوس الفراعين أو المسيحية إذ تتداخل الطقوس على ضفاف النيل
- الطقوس التدينية متعاقبة ومتراكبة ومتباينة غير أن ارتباط الذكر بالأنثى معتقد ثابت وفاعل ومتفاعل قبل التشريعات الدينية وبعدها فهو الخالد أبداً منذ آدم وحواء.
- ارتباط المدائح الصوفية الإسلامية بتصاعد شروق الشمس وارتباط همهمات التدين البدائية والوثنية بغبشة الفجر ؛ وما تعكسه من تعاقب.
- وصف المنظر الخارجي وصفاً تفصيلياً هو بمثابة أساس نظري لحركة الكاميرا.
- خلو المشاهد من الخط الدرامي فيما قبل المشهد الثاني من الفصل الثاني وما قبل ذلك من مشاهد هو صورة استعراضية تقوم على تقنية المناجاة الترديدية لاقتباس من نص ديني أو ترديد فردي أو جماعي للمدائح الصوفية (الميرغنية) . بعضها استسلامي وبعضها تحفيزي وبعضها ابتهالي مصحوبا –غالباً- بالرقصات المتناسبة مع الخطاب الإنشادي أو الإعلامي أو التعاليمي الإثنوي – أحياناً -.
- تقوم تقنية الكتابة المختلطة مابين تقنية السيناريو وتقنية المسرحية على أسلوب السرد الانعكاسي حيث تكثر الاقتباسات النصية من خطاب ديني فرعوني (نشيد اخناتون) أو خطاب ديني مسيحي (صلوات إكليلية كنسية) أو تراتيل قرآنية ، نصوص دينية يسترجعها (كاهن فرعوني – قس – شيخ – متدينين)
- تتداخل الأزمنة والعصور في نسيج النص عن طريق الاسترجاع بتقنية سينمائية في عنونه المؤلف (بالمشهد الخلفي) وهو مشهد استطرادي يتم عبرFlash back وعن طريق تلك التقنية يتداخل رمسيس الثاني وزوجته نفرتاري في كل مشهد تتم فيه مباركة علاقة بين فتى وفتاة تعارفا ووقع كل منهما في حب الآخر وذلك في وجود رجل الدين الفرعوني ورجل الدين المسيحي ورجل الدين الإسلامي فالجميع يباركون الارتباط جنباً إلى جنب مع رمسيس ونفرتاري وهذه تقنية الحداثة وما بعدها؛ حيث جمالية تداخل الأزمنة والعصور ؛ والثقافات.
- تميل المشاهد إلى التصوير المتشظي فارتباط عناصر المشهد إرتباط واه ، ويمكن استبدال موضع مشهد محل مشهد آخر تقديماً أو تأخيراً أو حذفاً
- النص يؤكد في كل مشهد من مشاهده أن المصريين يتنفسون الطقوس وأن الحب المتبادل بين الذكر والأنثى هو المحرك. لحركة الحياة في مصر عبر العصور .
- اعتماد البناء الفني على أسلوب القطع Cut الوصل والقطع والمزج Dissolve وهي تقنية في التصوير السينمائي / التلفازي .
- اعتماد النص في المقاطع الحوارية على الكثير من الغنائية المباشرة وكذلك في الوصف الإرشادي لحركة الكاميرا . غير أن الوصف السردي الإرشادي تخف فيه نبرة الغنائية لاعتماده على الصورة وفنونها مما يبعد بها عن المباشرة ويضع لها دلالات متعددة وفقاً لحساسية المصور ولخبرته في صنع جماليات اللقطة ما بين التقريب والتبعيد والإضاءة والتظليل ومن ثم الإيقاع.
- لم يخل النص من مقاطع برزت فيها تقنية المسكوت عنه ومنها على سبيل المثال الأغنية الأفريقية في المشهد الثاني من الفصل الأول ؛ التي منها :
" مصر يا أخت بلادي يا شقيقة
يا رياضاً عذبة يا حقيقة
يا أم جمال وصابر
( بالإمكان انتقاء مقطع أو اثنين من هذا النشيد ) "
- ربط ( أدول) بين شخصيتي (جمال وصابر) كأنه يلمح إلى أن وجود (جمال) أو كل من كان مثله يحتم التذرع بالصبر . ولذلك يشير على من لا يقبل بذلك التعبير أن ينتقي من النشيد ما يريد ويترك أو يحذف ما لا يريد والفرجة في إدراك المتلقي للتورية في توظيف الأسماء ؛ فالتورية واضحة لأن له موقف منشور ومعلوم من (جمال عبد الناصر) في تهجيره لأهل النوبة.
ونلاحظ أيضاً وصفه لطقس المديح عند الطائفة (الميرغنية) " بالزفة " وللطقس المسيحي "بالكوكبة" وللطقس الفرعوني " بالموكب" . ودلالة الزفة (هيصة) ودلالة الكوكبة النخبة ودلالة الموكب الرسمية . وبهذا الفهم تتنوع مباهج الفرجة ما بين طقس وطقس ؛ لتصبح فرجة مثاقفة طقوسية .
ونلحظ أخيراً : تراجع تراتيبه للأديان ؛ فقد درج على أن تبدأ الطقوس في الفصل الأول بالبدء بالطقس الفرعوني ثم يليه الطقس المسيحي وينهيه بالطقس الإسلامي وذلك منهج تراتبية تاريخية ؛ تراعي تدرج هبوط الفكرة من البداية حتى عصرنا - وهو منهج عرف عند ميشيل فوكوه ؛ وإن كان غير مقصود من المؤلف ؛ إن أدركه متفرج ما فقد تحققت له بهجة الفرجة عبر المقاربة المعرفية التراكمبة - غير أن المؤلف قد غيّر من ذلك الترتيب أو عكسه في المشهد الأول من الفصل الثاني إذ بدأ بالطقس الاحتفالي الإسلامي ممثلاً في المدائح الصوفية الميرغنية ثم الطقس المسيحي ممثلاً في الأكاليل المسيحية وانتهى بالطقس الفرعوني ممثلاً بأناشيد إخناتون مع اجتماع ممثلي تلك الطقوس جنباً إلى جنب مع (رمسيس وزوجه نفرتاري) اللذين تركا تمثال كل منهما مكانه في المعبد وخرجا كل منهما جسداً حياً مشاركاً في الاحتفالية. احتفالية العشاق الراقصة. ليعود مرة أخرى إلى توظيف السينما على شكل شرائح أو فيلم أو رسوم متحركة في ا لمشهد الخلفي (الاستطرادي) المتداخل مع مشهد (إدريس ابن آدم) الذي أصبح العمدة و" نبره " ابنة " هوّا " زوجة وابنهما " تود " وأخيه كلها معادل رمزي لأوزوريس وإيزيس وست وحورس ليخلق لوناً من ألوان التوالد الوراثي في الحاض.
وتشكل حالة خروج جسدي رمسيس ونفرتاري بشرا حيا من هيكل تمثاليهما للمشاركة في الاحتفالات الفرعونية أو الطقوسية لونا من ألوان الفرجة .
وهنا – هنا فحسب- يبدأ الصراع في هذا النص الذي هو أقرب إلى النص الاستعراضي منه إلى النص الدرامي .

مباهج الفرجة في مسرح الكباريه السياسي

عرض(موناليزا / شهرزاد) والفرجة الكباريهاتية:
يحوم المخرج السينوجرافي وليد عوني في عرضه المسرحي (موناليزا / شهرزاد) بحوامة خياله وتخييلاته التفكيكية فوق خط الأفق السياسي في عالمنا المعاصر ؛ ليعيد تجميع صور أسطورية يونانية وفرعونية مع صور معاصرة ، تجميعا مونتاجيا في حلبة كباريهه السياسي من خلال تقنيات رؤية بانورامية ؛ في أداء مسرحي سينوجرافي راقص ؛ بحيث يستطيع المتفرج أن يجد نفسه مدفوعا إلى مشاركة (موناليزا) في تعبير – لي البوز- بعد أن يرى في هذا العرض لزنا من لقرصنة عصرية لا تقل غرابة عن صور القرصنة القديمة أو التراثية التي حكتها لنا (شهرزاد) ضمنيا ؛ وهي تقصها على مسامع (شهريار) >
فرضت " شهرزاد" المرأة على التاريخ الإنساني ؛ بوصفها جنسا متكافئا مع الرجل - وربما تبزه في ميادين كثيرة – بذكائها وقدرتها على ترويض الرجل بوصفه جنسا . وقد أظهرت المرأة قدرتها في الوقوف المتعادل مع عالم الذكورة .
يبدأ العرض في مقهى أسفل شرفة امرأة (تنفض سجادتها) ومن المدهش أن صورة كوكب الشرق أم كلثوم معلقة على الجدار من خلف تلك المرأة – وهو أمر غير مألوف أن يعلق شخص ما صورة فنانة أو صورة ما في شرفة البيت –
لم تكن تلك الشرفة شرفة " ليلى مراد " التي هيجت تيار الإسلام السياسي ؛ ولم تكن كشرفة (جولييت) التي كانت مدخلا لانتصار الحب على العادات والتقاليد الأ وروبية في عصر النهضة ؛ وإنما كانت صورة متناصة مع صورة ( شرفة شادية) في فيلم ( زقاق المدق) عن رواية " نجيب محفوظ" حيث تمثل دور " حميدة" وهي تنفض سجادتها من شرفة مسكنها الشعبي . هكذا وقفت الممثلة في شرفة ما تعلو (كافتيريا شبابية) ليست هي ( شرفة موناليزا ) بالقطع . غير أن اللافت والمثيرلل دهشة تصدير صورة كبيرة على " ستاند" في مدخل دار أوبرا الإسكندرية وقد شوه المصور وجهها فحول ابتسامتها الغامضة إلى (لي بوز) ليصدمنا بفرجة تفكيكية تنقض نسق إبداع دافنشي ودلالتها المراوغة ؛ وتهدر جهد سبع سنوات قضاها الفنان العالمي أمام تلك المرأة ؛ للوصول لتلك الانفراجة الغامضة لشفتتي زوج " جيوكند : تاجر المواشي / زوج السيدة موناليزا) بعد أن استأجر لها مهرجا يخايلها في أثناء تصويره لها .
تنفض الممثلة وهي تترافص مع سجادتها من شرفتها فوق رؤوس مجموعة من الشباب تحيط يجلستهم مجموعة من الصور المحمولة على (ستاند stands ) لفنانات عربيات وأخريات عالميات مثل ( مارلين مونرو- مارلين ديتريش – بهيجة حافظ – شادية – صباح – هدى سلطان – تحية كاريوكا وفاتن حمامة وسعاد حسني وهند رستم وتتوسطهن جميعا صورة موناليزا ) وهي موزعة في خلفية الفضاء أمام " الكافيتريا " .حيث يتساقط غبار الماضي التراثي وشواءبه المتشظية من سجادتنا التراثية العربية ؛ لتتخلص - ثقافتنا بالمعنى المسكوت عنه – من شوائب معرفية خرافية ؛ وتطهر صورأساطيرها العجائبية ؛ التي أنضجها العقل الغربي بالعلم ؛ فحول أسطورة " افتح يا سمسم " إلى تقنية استشعار اليكتروني عن بعد ؛ حيث يفتح لأبواب وتغلق تلقائيا فور اقتراب شخص ما منها أو ابتعاده عنها وتحويل أسطورة " مصباح علاء الدين ، وصيحة الجني : شبيك لبيك عبدك بين يديك " إلى "ريموت كونترول" ما أن يلمسه شخص ما لمسة واحدة بإصبعه ؛ حتى يتحقق له ما يريد ؛ على بلورة سحرية تريه ما يريد رؤيته ؛ بديلا عن البللورة السحرية الأسطورية التي تري الناظر إليها ما يدور بداخل قصر إمبراطور الصين.
لم يكن نفض المرأة للسجادة مجرد ست بيت تنفض سجادتها ، ولكنها معادل رمزي للأمة العربية في عصر السماوات المفتوحة وهي تتخلص من شوائب المعرفة الخرافية التي علقت بتاريخ ثقافتها. ولم تكن السجادة مجرد سجادة ؛ ولكنها معادل تشكيلي رمزي لصور من التراث العالمي الفرعوني كقصص التحنيط وقصص التتويج وطقوس العبادة والاحتفالات ولصور من التراث الأسطوري اليوناني القديم المستلهمة من رحلة أودسيود وقوسه الشهيرة وقصة زوجه " بينلوبي " مع فرسانه العائدين من حرب طروادة ومحاولاتهم في الزواج منها اعتمادا على اقتناعهم بموت " أوديسيوس" ، ولصور من تراثنا العربي والشرقي " تراث ألف ليلة وليلة " وصورة ( الرخ) ذلك الطائر الأسطوري العملاق ؛ ومزجها جميعا في نسجية عرض فرجوي كليباتي مع صور من أحداث آنية معاصرة ذات علاقة مع الأحداث السياسية التي تحدث في جنوب لبنان وجنود المراقبةال دولية على الحدود مع إسرائيل ( اليونوفيل بخوذات الجنود الممهورة بحرفي U.N” “ أو بقبعة اليانكي أو المارينز وبمسدسات الكاوبوي ) .
هي إذن ؛ أمتنا تنفض كل تلك الصور التي لصقت بسجادة هويتنا الثقافية عبر تاريخنا القديم والوسيط والحديث ؛ فوق رؤوس شبابنا المتسكع في المقاهي والكافتيريات ؛ أملا في استنهاضهم لصنع تاريخ جديد يخلص هويتنا ؛ بعد أن تقاعسوا عن الإسهام في تجديد فعلنا التاريخي في هذا العصر؛ حتى يحققون عالمية كتلك التى حققتها أولئك النجمات الشهيرات ؛ في اتجاه صنع تاريخ للمرأة بجهودهن دون أن يقنعن – كتلك الفتاة بشغل البيت – وهو أمر لو اقتصرت عليه تلك النساء الشهيرات عالميا ومحليا لما كن قد حققن الشهرة والعالمية.
مباهج الفرجة المتشظية : تداخلت الأزمنة والأمكنة والصور والرموز تداخلا حداثيا وفي كولاجية متشظية في نسجية هذا العرض ؛ في اتجاه تشخيص صور متعارضة للبطولة وللقرصنة والغراميات الملتبسة بين الرجل والمرأة ؛ عبر عصورنا الثقافية ؛ إذ نرى " شهرزاد" التراث و " شهرزاد" المعاصرة التي لا تحكي حكايات ألف ليلة وليلة ؛ وإنما تنفض سجادة لياليها الألف لتخلصها من شوائب صور خرافية علقت بها؛ من عصور ثقافية مختلفة . وهو فعل ليس مجرد نفض سجادة ؛ بل هو فعل مضمر يكشف عن صراع حدثي في مواجهة سيطرة الخرافة المتوالد على مدار العصور ؛ على معارفنا وحياتنا الثقافية ؛ فكل من شهرزاد وشهريار التراث والمعاصرة يجتمعان في نسجية سجادة تاريخنا الثقافي ؛ بوصفهما معادلا ترميزيا للأمم الضعيفة و الأمم القوية التي تتناوب عليها دعوات العولمة الحضارية منذ الإسكندر الأكبر الذي ينفذ فكرة أستاذه أرسطوه الداعية إلى توحد شعوب الأمم تحت رايات الفكر اليوناني ؛ مرورا بعولمة يوليوس قيصر العسكرية ومن بعده غولمة نابليون وصولا إلى العسكرتارية العولمية المعاصرة المسيطرة علي على العالم بما تمتلك من أسلحة تكنولوجية معرفية وإنتاج معرفي متدفق .


سيميائية الفرجة المسرحانية
في عرض (موناليزا / شهرزاد) : لم يترك المخرج السينوجرافي وليد عوني علامة دالة بشكل أو آخر عن ثقافات العصور والأجناس إلا ووظفها توظيفا سيميائيا ؛ يستهدف من خلال ذلك استنهاض الذاكرة التخيلية للمتفرج من أجل توالد المقاربات المعرفية بين صور ذات دلالة على أفعال غيرت وجه العالم عبر تاريخ الإنسانية الطويل ؛ وصور دالة على محاولات السيطرة على العالم ؛ مرة بفوس " أوديسيوس" الأسطوري ؛ ومرة بعفريت مصباح " علاء الدين" ومرة بـ " رخ " ( ألف ليلة وليلة) ومرة بمسدس اليانكي أو المارينز ؛ متنكرا في صورة ملاك ؛ يعتمر خوذة جندي الأمم المتحدة ( U.N ) : أو ( يونيفيل) مستظلا بجناحي ( رخ) أسطوري صنعا من أوراق الجرائد والصحف اليومية ؛ في إحالة رمزية إلى دور الإعلام في بسط جناحي نفوذه للتغطية على جرائم ذلك المستبد العولمي الجديد المتقنع بما يدور في رأسه تحت خوذة تحمل علامة الـ (U.N) بعد أن استبدلها بعلامة ( U.S.A ) .
تزاحمت الأفكار الفرعية والصور في عرض ( موناليزا / شهرزاد ) التجريبي ؛ والتبست ؛ لتصنع مقاربات المثاقفة في نسجية فرجوية مثاقفاتية بين تراثنا وتراث الغرب ؛ متداخلة مع صور مثاقفة أمريكية معاصرة .
نخلص في هذا المبحث النقدي إلى أن الخاصية الأسلوبية لأعمال المخرج السينوغرافي التفكيكي (وليد عوني) فاعلة في هذا العرض ؛ بقدر ما هي فاعلى في مجمل أعماله المسرحية ؛ اعتمادا على جماليات فرجة كولاجية أو كولاجية كليباتية متشظية الصورة ؛ منتفعة بأسلوب السرد التشكيلي الإنعكاسي . وأن هذا العرض يمجد صورة المرأة ؛ كعرضيه الأخيرين ( الفراشة العذراء ) و ( نساء قاسم أمين) فهذه العروض الثلاثة ؛ إلى جانب عرض سابق له بعنوان (شهرزاد) تتضافر جميعها لرسم دور المرأة الموهوبة - بوصفها جنسا – في صنع هويتها المتكافئة مع قدرات الرجل - بوصفه جنسا - ليس هذا فحسب ولكنها لا تكتفي بالوقوف على قدم المساواة مع الرجل وعالم الذكورة ؛ سواء بصمتها الأخاذ كحالة موناليزا ، التي أوقفت دافنشي ومهرجه سبع سنوات حتى تمن على عالم الرجال ببسمتها الملتبسة أو بحديثها الأخاذ كحالة شهرزاد التي أوقفت سطوة شهريار وبوهيميته ضد جنسها ؛ وما كانت هذه أو تلك ستصبح شخصية تاريخية أو تراثية عالمية؛ فلو قتعت كلتاهما بدور المرأت بوصفها (ست بيت) تنفض السجاجيد كما هو حال بطلة مسرحيتنا تلك ؛ لما ظفرنا بموناليزا ولا ظفرنا بشهرزاد . ولو كانت (أم كلثوم) أو شادية أو سعاد حسنس أو هند رستم أو تحية كاريوكا أو هدى سلطان أوصباح أو دي!انا أو فاتن حمامة أو بهيجة حافظ أو فيروز أو مارلين مونرو أو مارلين ديتريش بكون أيا منهن كـ ( ست بيت) ترعى شؤون الرجل ، تغسل قدميه وثيابه وتنفض سجادة البيت لما ظفرت إحداهن بما وصلت إليه من نجومية وتفرد في مجتمعها أو على مستوى العالم .

دراما الفوازير ومباهج الفرجة السيريالية
بين فنون الكولاج وفنون الكليب
عرف المصريون فن الفوازير في البداية من خلال في أغنية ( أم كلثوم في فيلم سلامة) تأليف الشاعر على أحمد باكثير بألحان زكريا أحمد ، كما عرفوها من خلال أشعار بيرم التونسي الذي كان ينشر فوازيره مع حلول شهر رمضان الكريم في الصحف المصرية لتقام عليها مسابقة سنوية بمناسبة شهر الصيام حيث يتباري القراء ثم المستمعين إلى إذاعة القاهرة في حلها أملا في الفوز في الجوائز المالية التي ترصدها الإذاعة .
وعندما بدأ البث التليفزيون في مصر تطور شكل إنتاج الفوازير من التلقي عن طريق الاستماع إلى الراديو إلى فن الصورة المعروضة على الشاشة بدون ألوان في البداية ، بواسطة تقنيات إخراج تليفزيوني قام به بعض مخرجي التليفزيون من الشباب العائد من بعثة لدراسة فنون الإخراج والتصوير التلفزيوني كان منهم في البداية المخرج الاستعراضي ( محمد سالم ) العائد من الخارج حيث مالت إلى الكوميديا الاستعراضية التي برز في أدائها مجموعة من خريجي الجامعة عرفوا بثلاثي أضواء المسرح وهم ( الضيف أحمد وسمير غانم وجورج سيدهم ) وكانت تلك هي المرحلة الأولى في مجال الإنتاج التليفزيوني لدراما الفوازير.
ومع تحول البث التليفزيوني إلى الصورة الملونة ؛ تطورت تقنيات إخراجها على الشاشة ؛ خاصة مع تطور الأجهزة والكاميرات واستلهام الكتابة الدرامية للفزورة لقصص ( ألف ليلة وليلة) وإسقاطات اجتماعية وسياسية معاصرة على موضوعاتها على يد الشاعر ( صلاح جاهين ) ومن بعده ( عبد السلام أمين ) ومشاركة ملحنين كبار مثل ( السيد مكاوي ) و ( عمار الشريعي ) خاصة بعد أن مزج البناء الدرامي للفوازير بعناصر فن الاستعراض وتقنياته ، لقد تطورت تقنيات إخراج دراما الفوازير خلال السبعينيات والثمانينيات على يد المخرج الاستعراضي ( فهمي عبد الحميد) الذي تعاون مع كل من الشاعر صلاح جاهين والشاعر عبد السلام أمين والموسيقارين ( سيد مكاوي و عمار الشريعي ) ومصمم الاستعراضات (حسن عفيفي) وتنوعت صورتها من سنة إلى أخرى ؛ فمرة تدور حول فكرة واحدة تطرح على هيئة أفكار فرعية متصلة بين كل حلقة وأخرى ؛ مما ألزم الإخراج إلى توظيف تقنيات فن ( الكولاج ) ومن أثلة ذلك مجموعة الفوازير التي أدتها الممثلة الاستعراضية ( نيللي ) تحت عنوان :( ورق .. ورق ) وكذلك في أدائها لمجموعة الحلقات الخاصة بفوازير ( الخاطبة) أو فوازير ( حول العالم .. فزورة )
كما تغير شكل إخراج الفوازير بلجوء الإخراج إلى تقنيات فنون ( الكليب ) في إنتاج دراما الفوازير التي تأسست بنيتها الدرامية على فكرة التشظى في بناء أفقى للصور والمواقف التي لا تتحد في موضوع واحد ؛ نظرا لطريقة كتابتها بأسلوب الصراع الواثب ؛ بالإضافة إلى تخلل الاستعراضات في البناء الدرامي الذي يفصل بالضرورة تلقي الجمهور عن الربط بين المواقف المتشظية في الفزورة الواحدة ؛ وكذلك انفصال كل حلقة عما يليها من حلقات أو سبقها من فوازير . وتظهر تقنية الكليب بشكل أوضح في مقدمة حلقات الفوازير وفي نهاياتها ؛ حيث تتابع الصور المتباينة والمتلاحقة على الشاشة في إيقاعات سريعة ؛ بحيث لا يستغرق زمن عرض إحداها لحظة إغماضة عين وإنتباهتها ، دون أن يكون بينها رابط في المضمون أو في الشكل والأسلوب . لتحقق مباهج فرجوية سيريالية عجائبية ؛ كتلك التي يدركها الحالم فور استيقاظه ؛ عند استرجاع رؤيا منامية أو حلم من الأحلام .
وبسبب تشابك تلك المفاهيم التقنية تتكشف أمام من يتصدى لإخراج الفوازير إشكالية تتمثل في قدرته على استنهاض براعته في التوفيق بين فنون تقنيات الكولاج وتقنيات فنون الكليب التي تأسس عليها البناء الدرامي والفني لمجموعة الفوازير الموزعة على حلقات تعرض واحدة بعد الأخرى من ليلة إلى ليلة. كما توجد أمام الإخراج إشكالية أخرى ؛ تتمثل في امتزاج دراما الفزورة بالاستعراض نظرا لاختلاف كل من الفنين ؛ وضرورة اختلاف تقنيات كل منهما وأسلوب معالجة ما هو درامي عما هو استعراضي ؛ مع ضبط إيقاع كل فن منهما في وحدة إيقاع عام في الحلقة ؛ ثم ضبط إيقاع الحلقات مجتمعة في منظومة إيقاعية واحدة. وتدور في نفس المدار التقني فوازير ( فطوطة وسمورة ) للفنان: سمير غانم فإلى جانب اعتمادها على تقنية فن الكليب والاستعراض وفنون التهريج وفنون السيرك ؛ تستخدم فنون الكرتون في بناء شخصيات كرتونية في حواريات قصيرة مع الشخصية القزمية المبتكرة وهي صورة قزمية مصغرة للفنان سمير غانم – بطل الفوازير نفسه ؛ حيث ابتكر الفنان المخرج السينوجرافي فهمي عبد الحميد شخصية قزمية لسمير غانم نفسه أطلق عليها اسم فطوطة ؛ وميزها بالحركات القافزة النشطة المتطفلة التي تحشر أنفها في كل ما يتعلق بشخصية البطل ( سموره) وألبسها حلة أفرنجية خضراء أكبر من حجمها ؛ لتبدو شخصية كاريكاتيرية ؛ كما أعطاها صوتا طفوليا نمطيا حادا مبهم الألفاظ ؛ يتسم بالآلية . كما لو أنه أراد أن يستنسخ فيه الشخصية القراقوزية الفرفورية التي ( لا يعجبها العجب ؛ ولا الصيام في رجب – كما يقول المثل الشعبي المصري ) ويمنحنها قدرات خارقة ؛ كالطيران في الفضاء ، والظهور الفجائي والإختفاء الفجائي ، كما لو كان من إنس الجن !! وبذلك حقق ما يمكن أن نطلق عليه فرجة سيريالية أو عجائبية .
وحتى نقارب بين مصطلح الكليب Clips وتجلياته في فنون الفزورة نقف عند عدد من المصطلحات ؛ تقريبا لقياس الصورة الكليباتية قياسا نقديا يكشف عن أثرها في تفعيل مباهج الفرجة لدي المتلقي ؛ نظرا لطبيعة تشابك المفاهيم في النسجية الفنية لدراما الفوازير الاستعراضية ؛ كان لزاما على البحث أن يتوقف عند تلك المفاهيم ؛ بهدف التنوير على دور كل منها في صناعة الفرجة الفنية ؛ خاصة وأن ذلك الفن يرتبط بعدد من الفنون والتقنيات الأخري التي تتشارك في نسجية الفزورة ما بين تكوينات وتشخيص وتجسيد واستعراض وحركة وتحريك وتعابير كرتونية صائتة وصامتة وغنائية :
* فن الكولاج : فن القص واللزق . وقد وظف بكثرة في العروض المسرحية وفي الإحراج الدرامي والاستعراضي على شاشة التليفزيون ؛ حيث تجميع عدد كثير من الصور أو المواقف المختلفة وربطها معا في وحدة مشهد أو حلقة بهدف خدمة فكرة واحدة محددة .
* فن الكليب : فن الصور المتجاورة ( المتشظية) المنفصلة في موضوع كل منها؛ يكون على المتلقي استخلاص فكرة مستقلة خاصة به وحده دون غيره لكل صورة أو موقف منفصل عما قبلها أو بعدها.
* فن المونتاج : فن تجميع الصور وتنسيقها وإعادة تركيبها في المشهد السينمائي * فن الاستعراض : فن يقوم على التعبير الحركي والموسيقي . يعرفه المخرج الألماني " أرفين لايستر" بقوله : " هو فن المهارات والخبرات الفنية والبشرية من خلال تتابع وتسلسل بصري وسمعي بهدف إيصال فكرة إنسانية إلى المتفرج.وذلك بتجنيد كل العناصر الفنية المتاحة لاستخدامها في عملية التوصيل مع المحافظة على الإيقاع الكلي للعرض بحيث لا يطغى عنصر فني على العناصر الأخرى وبحيث تشترك كل العنصر الأساسي ، وهو الاستعراض ذاته "
والاستعراض بمفهوم آخر " يعتمد على كسر الإيهام بالزمن ليناقش مع المتفرج في أحواله الحاضرة حتى ولو كانت مادته التاريخ . إنه يذكر الجمهور باستمرار بأنه في مسرح يشهد عرضا فنيا ولا يطلب منه أن يعيش مرحلة بعينها أو حالة خاصة "
* التكوين : يعرفه المخرج ألكسندر دين : " هو بناء أو شكل أو تصميم المجموعة . مع ذلك هو لا يعني الصورة ؛ فالتكوين قادر على التعبير عن شعور ولكنه حالة الموضوع المزاجية من خلال اللون والخط والكتلة. إنه لا يروي الحكاية ؛ إنه التكنيك وليس التصور " ويضيف : " إن التكوين هو الترتيب المعقول للناس الموجودين في مجموعة على خشبة المسرح من خلال استعمال التأكيد والتأليف والتوازن لتحقيق الوضوح والجمال الذي يروق للناس "
* أسلوب التشخيص: يعرفه د. أبو الحسن سلام : " هو أسلوب اقتباس ظاهري في أداء شخص أو فعل أو حركة جزئية تختلط فيها دوافع المشخص بدوافع الشخصية التي يشخصها "
* أسلوب التجسيد: " هو أسلوب معايشة الفعل حركة ودوافع؛ وقولا بحيث يبدو التجسيد نابعا من الشخصية المسرحية المجسدة بوساطة الممثل ووساطة المؤلف في البداية "
الكليب ومباهج الفرجة من أجل الفرجة

الفرجة العجائبية في فوازير( فطوطة وسمورة):
تتوالى الصور على الشاشة تباعا في تدفق إيقاعي ؛ دون رابط بين صورة سابقة وصورة لاحقة تليها ؛ بما لا يترك للمتفرج أدني فرصة للحصول على معنى ما من وراء صورة من الصورة ؛ حتى يمكن القول إن " تتر" الفزورة ؛ قصد به تأكيد فن الفرجة من أجل الفرجة ؛ بما يقترب من حال متفرج على فاترينات زجاجية لمحلات أزياء نسائية أو رجالية ؛ دون أن يشتري لنفسه منها شيئا ، أو هي فرجة فنية على معرض للوحات في معرض مصور باهر ؛ لا يربط بين لوحاته رابط موضوعي ؛ غير طقس الفرجة نفسه . فالفرجة هي الهدف .
يستهل المخرج مقدمة سلسلة الفوازير بشخصية (فطوطة) محلقا في سماء الأهرامات ؛ حائما حول الهرم الأكبر وتمثال أبي الهول ؛ ثم يخترق نافذة منزل تطل على أبي الهول ؛ ليسقط منبطحا على بطنه فوق أريكة في ردهة بذلك البيت.
يدخل (سمورة) مرتديا حلة أنيقة ليواجه ( فطوطة) . تستبدل الصورة بصورة (سمورة) منفردا بدورة حول نفسه ، ليظهر على يمنه وعلى يساره صفا من الراقصات الفاتنات في فساتين وردية ، ومن خلفه صفا من شباب الراقصين في حلل بيضاء وأربطة عنق حمراء : (ببيون) يتقدم ( سمورة) التكوين مع بدء الموسيقى ليقود التكوين في حركة راقصة ؛ تسقط خلالها على الكادر بخط عريض بلون أصفر اسم المؤلف على سطرين. تتلاحق أسماء الفنانين والفنيين المشاركين في الفزورة ؛ مع كل حزمة من الصور الكليباتية العجائبية التي لم تألف عين المتفرج مشاهدتها على هيئتها غير المعتادة. مع تغير كل كادر من كادرات الصور المتلاحقة ما بين من فرقة شبابية بزي موحد أبيض/أسود تشخص فرقة عازفين بدون آلات موسيقية وأمامهم ( بارتاتوره : حامل النوتة الموسيقية) يسقط على الكادر اسم ملحن أغاني الفزورة ؛ ليتغير الكادر بآخر لثلاث فتيات يرتدين (بلوزات وردية يتدلى من وسطها حزام بلونها) وخلفهن مجموعة من الراقصين بزي رياضي أبيض وعلى رأس كل منهم ( كاب رياضي أبيض) ليتغير الكادر على مجموعة من شباب الراقصين يرتدون الصديرة وهم يثبتون عددا ىمن ( الشاسيهات) ومنها إطار كبير يحيط بصورة ( سمورة : سمير غانم ، نفسه) ليسقط اسم مصمم الديكور على الكادر أما صورة سمورة ؛ وسرعان ما يخرج سمورة بجسده من إطار الصورة المرسومة له راقصا على إيقاع موسيقى فور ظهور فتاة تنحنى أمامه مرحبة به في زيها الوردي ، سرعان ما تنطلق خلفه فور خروجه مع ظهور سمورة في كادر جديد لسمورة على شاشة جهاز تليفزيون صغير ، وأمامه طبق عليه دجاجة مشوية ، وأمام طاولة جهاز التليليفزيون يقف سمورة نفسه حاضرا ( بلحمه وشحمه) يمد يده ليأخذ الدجاجة من أمام سمورة التليفزيوني من على الشاشة ويأكل ؛ بينما ينبطح إلى الأمام على المنضدة خارج شاشة التليفزيون سمورة التليفزيوني ؛ ليسقط على الكادر اسم مدير إنتتج الفوازير. لتعقبها نقلة جديدة لسموره يجري في الخلاء وتتبعه فتاة جميلة سرعان ما تسقط من الإعياء عندما ينحرف في جريه عن مسارها. يحتل سمورة الكادر في لقطة قريبة جدا v.c.u حيث يبدأ في الغناء " فطوطه " تعقب عليه في لقطة عامة مجموعة من مؤدين من الجمسين بأزياء بيضاء وسوداء " طوطه..طوطه..طوطه" على هيئة تكوين من صفين أحدهما في الخلف على (بارتيكابل) وأمامه على مستو منخفض يكوين آخر هو نصف عدد التكوين السابق وفي أمامية التكوين يقف (سمورة) والجميع يردد خلفه المقطع الذي يغنيه بشكل منتقص . يختفي التكوين ليظهر في الكادر شخصية كرتونية كاريكاتيرية متضخمة بسترة سماوية زرقاء بجوار (سمورة) الذي يولي ظهره للكاميرا ، مواجها خلفية متموجة الخطوط الاشعاعية المرسومة (فوندو) الخلفية في تدرجات اللون البني ما يشرع الشخصية الكرتونية في توجيه الكلام لسمورة حتى يستدير نحو الأمام في مواجهة الكاميرا استدارة حادة يتغير بعدها الكادر في نقلة سريعة لنشاهده في زي رياضي يقود موتوسيكل في شارع عمومي تقف السيارات على جانبيه ؛ مواصلا غناء كلمات التتر . فجأة نراه فيفي قفزة انبطاحية على جنبه فوق سرير بغرفة نوم ؛ وكأن الموتوسيكل قد انقلب به فقزفه من نافذة غرفة مفتوحة، ليسقظ اسم ملحن الفزورة بأعلى الكادر. يقف فجأة على السرير فتتغير صورته فجأة لنراه في لباس نابليون بونابرت الرسمي ؛ ويمناه على صدره بداخل السترة ويسراه خلف ظهره ؛ وثريا ضخمة فوق رأسه يتقدم في خطوات شبه عسكرية لينزل من فوق السرير . يتغير الكادر إلى نقلة هزلية يرتدي سمورة فيها شورت أحمر بنفسجي وقميص أبيض بكمين ورباط عنق أحمر ونظارة أحد أطرها أبيض اللون والآخروج أسود اللون وعلى رأسه كاب أبيض ، ليسقط أمامه على الكادر اسم مصممة الأزياء ؛ ثم نقلة جديدة له بزيه هذا متوسطا مرآتين على هيئة (كالوسين في يسار فضاء الكادر ؛ تزدان أطرهما بلمبات كهربية ، وعلى اليسار ينتصب سلم خشبي مزدوج بجوار كالوس يظهر خلفه شخصية (فطوطه) القزمية الذي يبادره سموره فور دخوله مستنجدا به " قطوطه .. رجعني " ليشير له فطوطه بيده نحو الداخل فيختفي فورا ويعاود الظهور الفجائي فورا في حلة بيضاء جديدة وأنيقة ورباط عنق أبيض على قميص أسود وحذاء أبيض فاردا ذراعيه ؛ مع إنحناء " فطوطه "أمامه ، مرحبا . . ثم نقلة جديدة لفطوطه يجلس بجوار شخصية كارتونية في زيه الشعبي الأقرب إلى لباس أبناء بحري من المعلمين أو الصيادين ، وكلاهما بيده فنجان قهوه . وما أن يبادر الشخصية الكرتونية فطوطه بالسؤال: " ممكن تجربه حلواني ؟ هه.. هه " حتى ينثر فطوطه ما بفنجانه على وجه الكرتوني وملبسه ؛ مغنيا " ... يا واد ياجن " .
ومع لفظة " ياواد ياجن " تلك يتحول الكادر إلى فضاء يسبح فيه سموره بالطيران حول معالم بعض العواصم العالمية ؛ فنراه يطير حول برج إيفيل ؛ة متغنيا بأغنية فرنسية ؛ ينتهي منها بنقلة له داخل بانيو في حمام ؛ وهو يرتدي تشيرت أسود وحول رقبته منشفة حمراء اللون يغني " يا عيني على دنيا الحمام .. صابون ومايه تمام .. جميل يا قلبي " يتسع الكادر ليظهر شخصا بزيه الشعبي على سطح مقدمة عربة كارو يسحبها حمار ، وتتسعى حدقة الكاميرا أكثر فأكثر ليتضح أن الحمام بالبانيو وحوض الاغتسال فوق عربة الكارو التي يقودها ذلك الحمّار وهي تسير عبر الشارع ؛ ليظهر بائع يحمل على رأسه قفص فاكهة يناديه سموره الذي وقف على سطح العربة متمنطقا بالبانيو الذي يرفعه بيديه فيكشف عن نصفه الأسفل ويكشف عن نصفه العلوي " سموره: اليوستفندي ياعم بكام ؟ " وهنا يسقط إعلان بأسماء مهندسي الأستوديو .. بينما سموره يتحرك ماشيا بداخل البانيو على سطح العربة. نقلة جديدة وسمورة يحتضن ( العود) مقلوبا - قصعته للخارج – في لقطة وسط تركيزة ضوء ثلجية مرتديا تشريت بخطوط طولية حمراء /بيضاء فوقهى صديرة نصفية سوداء . يتسع الكادر ليظهره في لقطة متنوسطة m.s يقف على (تابوريه ) ستاند مكعب مع ظهور خمس فتيات في زي بنت البلد المصرية؛ وفي تكوين يتوسطه سموره .. فتاتان بزي وردي أمامه وثلاث فتيات في الخلف بزي يبدو بننفسجيا - بتأثير الضوء والظل ربما – يوقع لهن بنقرات راقصة على قصعة العود ليرقصن معه بعد قفزه إلى الأرض ، يخرج من الكادر راقصا منفردا ليصبح أمام مجموعة من التنابلة الغافين على مقاعدهم أمام مقهى شعبي ؛ وبجوارهم نرجيلة ، ويواصل الغناء " الحب عمره ما يبقى مرار " فإذا بالغافين من الصعايدة بأزيائهم الصعيدية الموحدة يهبون واقفين مرددين خلفه " أيا بوي .. يابوي " يعاودون الإفاء بعدها مرة ثانية ، ومع سقوط اسم قائد الأوركسترا على الشاشة ؛ ثم يقفز أمامهم مغنيا فينتفضون وقوفا مرددين . وهكذا
نلاحظ في كل ما مر بنا من صور متلاحقة لا تستغرق الواحدة منها ثانية أو إثنتين على الأكثر أن لا رابط يربط تلك الصور ، ولا تعطى الواحدة منها معنى ما محددا يمكن الوقوف عنده أو الاستدلال عليه ؛ إنما هي مجموعة من الصور أو التكوينات المشهدية الغرائبية التي لا تدخل في زمام المنطق ؛ وهي أشبه بمعرض تصوير بلاستي ؛ يمر الزائر له على لوحاته المعلقة على جدران قاعة العرض لوحة؛ فلوحة دون أن يكون هناك اتصال معنوي بينها ؛ وإن اتخذت كلها أو بعضها أسلوبا فنيا واحدا ؛ يحمل بصمة الفنان المصور . هكذا تحمل تلك المقدمة الكلباتية هوية مخرجها السينوغرافي متوافقة مع أسلوب الفنان " سمير غانم " المشهور بما يعرف بـ ( الفرسكة) – أي بأسلوب الفارس الذي يتقصد الضحك من أجل الضحك – وهو أسلوب تفصيل على مقاس سمير غانم نفسه – ممهور بتوقيعه وتحتها بصمات فنانين شاركوه في إبداع تلك التحفة الكليباتية التي قدم بها فوازيره ؛ ليمنحونا بهجة فرجوية عجائبية تصل في بعض صورها إلى ما يمكن أن نقول عليه فرجة سيريالية. لا تختلف عن أسلوب تصوير فنان عالمي كسلفادور دالي ؛ في لوحته التي تصور بيانو في الصحراء العريضة.



الممثل
وبناء الدور المسرحي بين البواعث والدلالات

* هل يمكن القول إن طريقة أداء الممثل لم تتغير منذ أن عرف فن التمثيل ؟!
وإذا قال بذلك أحد الباحثين .. فهل نأخذ قوله على محمل الجد ؟!
فلنراجع إذا ما أثاره " كريستوفر شروت " في هذا الشأن : " لم تتغير طريقة أداء الممثل من ألفي عام ، كما لا توجد تجزئة للعمل في أثناء عملية الأداء التمثيلي ؛ فالممثل يعبر في صورة شاملة برأسه ، بثقافته ، بجسده ، بلغته ، بإحساسه وبروحه، وهو يجعلنا نرتجف ونهيم ونضحك ونبكي ؛ لندرك الإمكانات الإنسانية على إطلاقها . "
من الناحية المنهجية لا يمكن أن نسلم بهذا الرأي على إطلاقه ؛ فهو من ناحية ينطلق من أدوات التعبير في فن الممثل؛ وهدف التعبير فهو يعبر( بالرأس وبالجسد وباللغة وبالإحساس وبالروح ؛ مرتكزا على ثقافته ) بقصد التأثير في وجدان الجمهور وإدراكه. وهذا قول لا يعبر تعبيرا منهجيا دقيقا في صميم التخصص . فليست كل مدارس التمثيل وأساليبها على حد سواء ؛ حتى وإن اجتمعت على توظيف الممثل لرأسه ولجسده ولإحساسه وللغة الحوار في التعبير عن الدور المسرحي في إطار الحدث الدرامي ؛ وليست جميعها تستهدف التأثير العاطفي في الجمهور ؛ كما أن لكل منها أساليبها وتقنياتها وجمالياتها . ولئن أخذنا كلام شروت على محمل الصدق فسننفي وجود نظريات ومناهج متعددة في فن التمثيل ، وسنرى كل الجهود التنظيرية والتطبيقية في مناهج التمثيل عند كوكلان وعند ستانسلافسكي وعند مايرهولد وعند بريخت وعند جروتوفسكي غير ذات جدوى . المسألة إذا أكبر وأعمق من أن تختزل في ( أدوات وفعل وهدف ؛ مع غياب رؤية وطريقة ما ) ولا تغني ثقافة الممثل عن ضرورة وجود رؤية ما في النص الذي يشارك في تمثيل أحد ى شخصياته أولا ورؤية محددة في الدور الذي يلعبه وفي رؤية المخرج القائم على إخراج العرض هي عملية بناء دور إذا بناء متكاملا ؛ عملية بعث لحياة شخصية ما و بناء مسيرة حياتها وصراعها من أجل تحقيق إرادتها المعطاة – وفق الأرسطية – أو تخليق إرادتها وتحقيق هوية وجودها – وفق النظريات الفلسفية والمسرحية الغيرية – ولو تأمل شروت نفسه إجابته عن التساؤل الذي طرحه هو نفسه لدقق في رأيه المشار إليه ولتأكد من أن بناء الدور التمثيلي لا يقف فحسب عند وجود أدوات وهدف ؛ فهو يطرح السؤال الآتي : " ما الذي حصلت عليه من المسرح ؟ " فإجابته تتجاوز قصور تحديداته لفن الممثل " إنها المتعة – ثراء الإحساس – أخذ الأمور مأخذ الجد، الالتقاء مع الآخرين الاتصال، الأنس ، إلاّ أن أجمل ما حصلت عليه هو معايشة اللحظة ، السعادة "
لا يتوقف الأمر عند ذلك الذي طرحته إجابة شروت عن سؤاله وإنما توجد نظريات ومناهج في فنون التمثيل تعمل على تمكيننا من الاندهاش ، تمكيننا من رؤية القديم جديدا ، رؤية الفضوليين الاجتماعيين ، الباحثين عن الاتصال مع الآخرين ، معايشة شيء ما ، ألاّ نخجل من دموعنا ، أن يكون لنا موقف ناقد حيال المجتمع والمعنيين بتغيير العالم القائم إلى عالم جدير بالإنسانية .
وبناء على ما تقدم نقول إن مهمة بناء الممثل للدور المسرحي المنوط بتجسيده أو تشخيصه في إطار نظرية ما من نظريات التمثيل تحتاج إلى طاقة إدراكية وموهبة تحليلية اقرب إلى الدور الذي يقوم به الناقد المسرحي عند تحليله لشخصية مسرحية. مع ملاحظة ما بين مهمة الناقد ومهمة الممثل من نقاط اتفاق ونقاط اختلاف .. فمن الركائز التي يرتكز عليها تحليل كل منهما لشخصية مسرحية ما جهد تحصيله المعرفي من أجل تحقيق مرحلة الاكتمال المعرفي حول الشخصية التي يستعد لتمثيلها.

الممثل ومرحلة الاكتمال المعرفي للدور:
في هذه المرحلة يجتهد الممثل في التعرف على كل خصائصها وما يتصل بها من قريب أو من بعيد . ومن الأمور التي يتوجب على كل منهما التعرف عليها :
# الجنس : هل الشخصية ذكر أم أنثى؛ رجل أم امرأة
# السن : هل هي في سن الطفولة أم في سن الشباب أم في سن الكهولة أم الشيخوخة
# الصفات الوراثية : المتصلة بالطبيعة الغريزية إيجابية أم سلبية ( بلغمية - صفراوية - سوداوية نارية )
# الصفات المكتسبة: العادات والتقاليد والأعراف والمعارف
# الوظيفة الاجتماعية : طالب - موظف مسؤول أو مهني
# الحاجات : حاجاتها المعلنة وحاجاتها المكبوتة
# النوازع : بواعثه (طموحاته و إحباطاته) أو شرطه الذاتي للفعل
# الشرط الموضوعي للفعل : علاقاته الاجتماعية ( البيئة - الظروف والتفاعلات والمصالح )
# طرق التعبير عن الحاجات : ( السلوك اللغوي والحركي للتعبير عن الفعل ورد الفعل )

ومن الطبيعي أن ينطلق التحليل النقدي في عمل الناقد المسرحي بالبناء الدرامي للنص المسرحي حالة اقتصار نقده على النص أو بالبناء الفني للعرض المسرحي حالة نقده للعرض ؛ وضاف إلى ذلك تركيز الممثل على تحليل البناء الدرامي للشخصية المسرحية التي حمل على عاتقه مسؤولية تمثيلها تحسبا أو تشخيصا لصفاتها الخارجية : بما يتوافق مع الأسلوب الأدائي الذي يحقق قناعة الممثل نفسه برؤية الإخراج التي تأسس عليها العرض المسرحي نفسه وهنا يتضح ما نقصده بنقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف بين المسار النقدي لعمل الناقد والمسار النقدي لعمل الممثل .

* الممثل ومرحلة تحقيق الاكتمال الفني للدور المسرحي :

من بداهة القول أن هناك نظريا ومناهج لفن التمثيل منها ما يسعى إلى تحقيق حالة اكتمال الدور المسرحي ومثالها( نظرية التمثيل النفسية لستانسلافسكي : ( المعايشة الاندماجية التي يتعادل فيها الإثارة : الإحساس مع المثير: الموضوع) ومنها ما يسعي إلى تحقيق حالة ( عدم الاكتمال الفني : المينيليزم التي لا يشترط فيها تعادل الإثارة مع المثير ؛ ومنها نظريات التمثيل الغيرية كالآلية الحيوية عند مايرهولد والسوبر ماريونت عند جوردون كريج و نظرية التغريب الملحمي لبريخت) فضلا على نظرية تحوم حول منهج ستانسلافسكي وتزايد عليه كنظرية الحلولية - بتعبير د. أبو الحسن سلام - مثل طريقة الأداء التمثيلي الأنثروبولوجي الوجهة والتأثير - من ناحية - حيث محاولة الممثل إحلال صوت الشخصية وحركتها محل صوته وحركته مع تداخل طريقة الأداء نفسها في الدور المسرحي مع محاولة يطلق عليها صاحبها - ييجي جروتوفسكي- بـ (تدنيس الدور الكلاسيكي) وهي طريقة تجمع بين فكرتين متناقضتين : تقديس الدور عن طريقة تقمصه وفكرة تدنيس الدور - الكلاسيكي تحديدا -.. فمنهج حلولية شخصية الدور المسرحي في ممثل الدور نفسه هي حالة تقمص وفي الحلولية تقديس لهوية الذات الشخصية -
والتقمص حسب الفيلسوف الفرنسي ديدرو حالة من حالات الجنون - وأذكر في هذا الموضح حالة حقيقية لأحد الممثلين الذين عملوا معي في إخراجي لمسرحية الكاتب العبثي الأمريكي "إدوارد ألبي " المترجمة في العربية تحت عنوان (كله في الجنينة) التي أعدها في نص باللهجة العامية المصرية ) عبد الهادي محمد على كان اسم الممثل هو ( محمد إدريس ) وكان العرض على مسرح " إسماعيل ياسين " ( بطريق كورنيش البحر بجهة كامب شيزار بالإسكندرية ) ففي موقف قتل ريتشارد صديق الزوج لشخصية مدام ( توس) وهي قوادة دفعت زوجة أحد المهندسين للرذيلة بغية تحقيق طموحاتها نحو تحقيق ما يعرف في ثقافة المجتمع الأمريكي بالحلم الأمريكي . كانت خطة إخراجي لتنفيذ مشهد قتله لها انتقاما منها لغواية حبيبته (جين : زوجة صديقه) بأن يطرحها أمامه على الأرض ويدوي بحذائه على رقبتها حتى تلفظ أنفاسها وكان ممثل ذلك الدور من النوع الذي لا يبذل مجهودا وجدانيا في تعبيره عن أي دور يقوم بالتدريب على أدائه في أثناء التدريبات ( البروفات ) على العرض المسرحي ؛ غير أن أداءه في العرض أداء تقنيين بمعنى الكلمة ؛ لذا لاحظت في مشهد قتله لمدام توس أن قدمه ضاغطة على عنق ممثلة دور مدام ( توس) بطريقة تقمص واضح ظهر منها على وجه الممثلة التي بدا عليها أنها توشك على الاختناق ؛ مما اضطررت معه إلى الأمر بإظلام المشهد والإسراع إلى إنقاذ الممثلة - مع ملاحظة أن ممثل ذلك الدور لم يكن يعرف شيئا عن منهج جروتوفسكي ؛ ولا أغالط إن اعترفت أنني أنا نفسي مخرج ذلك العرض بأنني لم أكن بعد - في ذلك الوقت 1973 - قد عرفت منهج التمثيل في مسرح جروتوفسكي الفقير معرفة صحيحة .
أما منهج تدنيس الممثل للشخصية الكلاسيكية التي يقوم بتمثيلها بوصفها محور الفعل في الحدث المسرحي للنص الكلاسيكي ؛ فيؤدى بالممثل إلى سلوك منهج التمثيل وفق نظرية التغريب المسرحي الملحمي البريختية – سواء أكان جروتوفسكي قاصدا ذلك أم غير قاصد - وهذا هو موضع التناقض في نظرية جروتوفسكي نحو مسرح فقير ؛ لأن فكرة تدنيس الممثل أو الممثلة للدور الكلاسيكي هو موقف كشف لتناقضات القيم التي تعبر عنها الشخصية المسرحية أي كشف عن تناقضات الصفة الاجتماعية التي تحملها تلك الشخصية نيابة عن طبقتها الاجتماعية - وهذا نفسه منهج التغريب الملحمي في فن الممثل الملحمي اعتمادا على ما أطلق عليه بريخت (التأرخة ) بمعنى إعادة تصوير الصفة الاجتماعية من جهة نظر متوافقة مع مجتمع العصر الذي تعرض فيه تلك المسرحية ؛ وهنا يتشارك الممثل وفق منهج التدنيس مع الممثل وفق منهج التغريب حيث يركز كل منهما على وجوه انحراف الصفة الاجتماعية التي حملتها الشخصية نيابة عن طبقتها عند بريخت وعن صفات إنسان عصر قديم أو عصر وسيط . والكلام عن كشف الممثل عن صور الانحراف في الصفة الاجتماعية للشخصية الكلاسيكية أو المستلهمة استلهامها تاريخيا أو تراثيا غير منفصل عن النظرية الشكلانية في النقد ؛ وهذا ما يؤكد حتمية اتصال بناء الممثل للدور المسرحي لمسارات التحليل أو التفكيك في النقد .
وعند التأصيل نصل إلى أن أصل فكرة التقديس والتدنيس ب-أت عند أفلاطون في نظرية المثل التي تتكلم عن محاكاة الفكرة المثالية على النقيض من تلميذه أرسطو الذي تتركز نظرية المحاكاة عنده في الفعل ؛ فلقد رأى أفلاطون أن محاكاة الفكرة لابد أن تشخص من خلال ظل الخيال – على نحو ما حدد في كتابه ( خيال الكهف ) Cave Image حيث تمتنع المحاكاة الفكرة المجردة على الممثل لأنه سوف يدنسها ؛ واقتصار محاكاتها على خيال الظل يجنبها التدنيس الذي تفرضه تدخل مشاعر الممثل وإرادته في تدنيسها ؛ ولكي تظل الفكرة المجردة مقدسة يجب أن تحاكي عن طريق خيال الظل لتظل مقدسة .

منهج بناء الدور عند ستانسلافسكي
يتأسس بناء الممثل للدور المسرحي - بتاء يتوافق مع رؤية مخرج العرض- على منظومة ثلاثية العناصر يحددها منظور الباحث الناقد جيروم ستولينيز على النحو الآتي : ( المادة - الشكل - التعبير ) ويحددها من منظور علم العلامات الفيلسوف الأمريكي بيرس : ( الوسيلة - الموضوع - التعبير ) وصولا إلى دلالة التعبير أو الصورة . ونلاحظ التوافق بين كلا المنظورين فالمادة عندما تشكل تعبر ؛ والتعبير عن موضوع ما يتحقق بوسيلة ما ؛ فالتعبير إذا هو غاية المنتج الإبداعي في فن من الفنون : كتابة النص المسرحي ؛ إخراج عرض مسرحي ؛ تصميم سينوجرافيا عرض مسرحي ؛ تمثيل دور مسرحي . فتلك المنظومة الإطارية الثلاثية في مهام الإبداع الأدبي أو الفني بعامة والمسرحي بخاصة بما في ذلك عملية النقد متوحد توحدا إراديا في جميع الحالات في العرض المسرحي الواحد . وهنا نكون قد أمسكنا بمفتاح باب الولوج إلى بعض مناهج التمثيل الرئيسية وأساليبها وتقنياتها المتباينة في بناء دلالات التعبير التمثيلي . وحول ذلك تقول آن أوبرسفيلد حول علاقة الممثل بالمستقبل " إن الممثل أو الممثلين هم الذين يجسدون بالفعل ؛ ليس وظيفة الفاعل فحسب بل أيضا وظيفة الهدف " وتقول سوزان ملروز حول دور الممثل في تجسيد حالة المتعة للمتفرج " إن الممثل محور ضروري وحيوي ؛ ولا يزال جزءً غامضا من المتعة التي يقدمها المسرح للمشاهدين . "

0
الفرجة والوسائط المتعددة
دور العرائس فى الفرجة المسرحية


يميل المشاهد الحديث الذى أحاطت به الواقعية الصارخة فى السينما والتلفزيون يميل إلى أن يكون أقل خيالا وصبرا. بل هو أيضا يميل إلى أن يكون أكثر دراية بالوسائل التى تخلص التأثيرات. 1
فى تتبع بيتر د.أرنوت لعملية إخراجه الأولى التى وقع اختياره فيها على مسرحية مأساة دكتور فاوستس لكريستوفر مارلو2 عبر طور إنتاجها منذ بداية إختيار المسرحية حتى العرض النهائى يسعى إلى مناقشة العوامل المختلفة التى تركت أثرها فى كل خطوة ، والمشكلات التى واجهتها والحلول التى توصل إليها بنجاح .. وحتى يحقق النتائج التى وصل إليها فى إبراز قيم الفرجة التى حققها بالعرائس وسيطا فنيا يقول :" قد أخرجتها فى بادئ الأمر بصورتها المبسطة . ثم أخرجتها فيما بعد أكثر تعقيدا، أما ما هو أكثر اتصالا بغرضنا الحالى وإرتباطا به فهو أن هذه المسرحية تبرز بطرق عديدة واضحة ، وربما بطريقة أكثر وضوحا مما قد تبرزه مسرحيات الفترات الأخرى كيفية استغلال مزايا العرائس الفريدة لحل مشكلات ملحة صادفت إحياء المسرحيات القديمة ، كما أنها تبين كيفية إستخلاص ظروف من العمل الفنى لا بد أنها كانت تحيط بالمسرحية عند تقديما أول مرة ، غير أنها تميل إلى الإنزواء فى الإخراج المسرحى الكامل الحديث 3..
صناعة الفرجة ووسائط تحقيقها
يؤكد أرنوت أهمية إختيار مخرج النص موضع الإخراج ، فيقول مبررا إختياره لإخراج مسرحية (مأساة دكتور فاوستس) " لقد اخترتها أساسا لأنه قد بدا لى أنها مثل صارخ لعمل عظيم قد طال إهماله ، وفى وسع مسرح العرائس أن يعوض ما أغفله زميله المسرح البشرى."
لقد كانت المسرحية فى عصرها من المسرحيات الناجحة المحبوبة وما الحالة المشوشة التى عليها النص سوى الضريبة التى دفعتها المسرحية الأذواق المتغيرة للجماهير المتعددة وللزج فيها بموضوعات جديدة.
ففى عهد مارلو لم تكن للمؤلف حقوق للتأليف ، وكلما لاقت المسرحية نجاحا وطال عرضها لفرقة من الفرق ، كان من المحتمل أن تعانى من عملية إعادة الصياغة والإضافات إليها.
أما اليوم فإن مسرحية الدكتور فاوستس تقرأ وتدرس باعتبارها من أحسـن مسرحيات عصرها وكل عصر. ومع ذلك قلّما يعاد إحياؤها على المسرح . ويبدو أن هذا مبرر كاف لعرض المسرحية بغض النظر عن الوسيط الذى يقدمها بها حتى يتاح للجمهور رؤية وتقييم عرض العمل فنى وتقييمه قد لا يعرفونه بوسيلة أخرى غير النص المكتوب . وعلى الأقل فإن مثل هذا العرض عن طريق العرائس قد يكون بمثابة طريقة تعليمية مفيدة"
وفضلا على ما تقدم فمن أساس إختياره لإخراج هذا النص هو أن أصول قصة فاوستس تكمن فى الأدب الشعبى القديم. وكانت دائماً شائعة محبوبة فى ألمانيا بالذات" ، " وأنه فى ذلك البلد نجد أن القصة ترتبط إرتباطا تقليديا بالعرائس ، فهناك نسخة شعبية من المسرحية نجدها دائما فى عروض أساتذة العرائيس الألمان لقرون عدة. وفى هذه العروض يسمحون للعنصر الكوميدى بأن تكون له الأسبقية على العنصر التراجيدى" 4
وبقدر ما تأثرت رؤية "أرنوت" بالعرائس وسيطا للفرجة المسرحية فى عرضه لفاوستس ، كان تأثر "مارلو" فى العصر الاليزابيثى بما تضمنته القصة الألمانية وعروضها العرائسية التى استلهم منها نصه المسرحى " فمن مثل هذه العروض استوحى وحيه ليكتب عمله الضخم الهائل فاوستس" ولما كان من الطبيعى بالنسبة للمخرج أو للسينوجراف بالإتفاق مع المخرج المسرحى لأى عرض أن يتخبر وسائطه لتحقيق عنصر الفرجة المسرحية ، لذا يؤكد "أرنوت " 5 على هذه المسألة فيقول : " لا بد من وجود تعاطف كامن بين المادة الفنية و(بين) ما استخدمه من وسيط ، أى العرائس ، وهى الوسيط الذى يمكن إستخدامه فى صالح مسرحية مارلو."
وبنظرة واحدة إلى فن العرائس الذى استخدمها أرنوت وسيطا فنيا لتجسيد عالم الشياطين فى مسرحية مارلو تلك سنتحقق من مدى توفيقه فى إختيار المادة المتوافقة مع عالم الشياطين والجن وجو السحر والشعوذة وعالم الخوارق والمستحيلات " إذ نجد فى رواية مارلو على المستوى الجاد (العديد) الكثير من التوسلات للشياطين – نجد ميفستوفليس نفسه والأرواح التى يجلبها فيما بعد ميفستوفليس ولوسيفر وبيلزبوب أشباح هيلين فروادة والإسكندر الأكبر وعشيقته ومشهد الخطايا السبع المميتة . أما على المستوى شبه الجاد أو الكوميدى فإننا نجد الشياطين التى يجلبها فاجز ليخيف بها المهرج وبين ورالف بكتابهم المسحور كما نجد المأدبة التى يبتلى فيها فاورش غير المرئى ؛ البابا والكاردنيال بالكوارث ، وكذلك فارس الخيل وحادثة رجل فاورش التى يمكن فصلها عن جسمه وغيرها." 6
ومنطقي أن يتسع المجال في عالم الشياطين لتوظيف وسائط فرجوية ؛ خاصة مع تأمل مشهد معاتبة مفيستوفليس لفاوستس لأنه دائما يذكر اسم الله ؛ وهو أمر يغضب مفستوفليس ؛ فلما يتعهد فاوستس له بعدم إقدامه مرة أخرى على ذكر اسم الله ؛ يأمر مفيستوفليس له باحتفال على هيئة استعراض . فإذا راجعنا مشهد الاحتفاء بفاوستس تنفيذا لأمر مفيستوفليس فماذا سنجد ؛ لا شئ سوى دخول الخطايا السبع ؛ خطيئة بعد الأخرى ؛ بالمرور أمام فاوستس وتعريف نفسها ردا على سؤاله عمن تكون فيقول " الجشع" أنا الجشع ، ويمضى ، ليمر " الكذب" معلنا عن نفسه ، ويمر ، ويمر" النهم " أمامه يعرف نفسه ويمضي ، وهكذا .. فما هو وجه الاحتفال الذي أمر مفيستوفليس به للترفيه عن صديقه فاوستس بعد تعهده بعدم ذكر اسم الله ؟! وفي رأيي – كما قلت في بحث سابق لي عن المعالجةال مسرحية لفكرة الخطايا السبع من الزاوية الدينية ؛ عند مارلو وجيته ومعالجة برتولت بريشت لها في سيناريو الباليه الذي كتبه تحت عنوان ( الوصايا السبع للبرجوازي الصغير) 7 وقد رأيت أن كريستوفر مارلو شأنه شأن مسرحي عصره والعصورالس ابقة على ظهور مصطلح المخرج ؛ الذي لم يظهر علميا إلا على يد " ساكس ميننجن - جورج الثاني - في ألمانيا ق. 18 . فقد كان مؤلف النص المسرحي هو – غالبا- منسق العرض ، ومدرب ممثليه ؛ وهذا ما كان يفعله كتاب التراجيديا ، ولما كان الأمر كذلك فقد تصورت أن مارلو لم يكن إستثناء من بين كتاب عصره وما سبقه من عصور في تولى مؤلف العرض تدريب ممثلي عرضه والقيامبد ور المنسق لعناصر العرض وحركة الممثلين . ولما كان نص حوار مفيستوفليس يقضي بإقامة احتفالية للترفيه عن فاوستس ، مكافأة له على إذعانه لما طلب ؛ وكان مرور الصفات ( الخطايا السبع) أمامه بالهيئة المتزمتة الخالية من أي مظهر من مظاهر الاستعراض بهدف الترفيه عن الضيف فقد تصورت أن مارلو ، ترك مسألة شرح أسلوب تصوير الاستعراض الترفيهي بأداء ممثلي الخطايا السبع ؛ مؤجل لوقت تنفيذه لذلك المشهد ؛ باعتبار تصور شكل الفرجة الترفيهية أمام الضيف مرتسمة في ذهنه . كما رأيت أن هذا الموقف يمثل البذرة الأولى لفن الاستعراض وبذلك يعد مشهد استعراض الخطايا السبع أمام فاوستس في نص مارلو – فرجة مسرحية استعراضية ؛ حالة تشخيصه بأداء الممثلين والراقصين والغناء المسرحي .
وقد وجدت في ذلك البحث المشاركة إليه ؛ أن معالجات مارلو وجيته في المسرح العالمي كان خطابها كان واقعا تحت عربة الفكر الديني ؛ وفكرة الخير والشر ؛ وكذلك كانت معالجة كل من ( لينين الرملي ومحمد صبحي) لفكرة الخطايا السبع كذلك ؛ حتى مع استخدامه لتقنيات ملحمية كالأقنعة والقطع بالتدخل الخطابي الشارح والمباشر ، أو بالأغنية واللافتات ؛ بينما جاءت معالجة بريشت مفككة للخطاب التوراتي الديني التي عولجت بها مسرحيا عند مارلو وعند جيته ؛ لأن بريشت قصر الخطايا على شخصية ( آنّا) الصغري ؛ ووصايا والدها التي يذكرها بها أخوها كلما وقعت في خطأ يحول بين الأسرة وجني الأموال التي سيشيدون بها بيتا على نهر الميسسبي. ومعنى ذلك اختلاف جوهري بين الفرجة على مشهدية الفرجة على الخطايا السبع عند بريشت عنها عند مارلو وجيته ؛ ذلك أن الابتهاج الفرجوي التغريبي قائم على تفاعل ثنائية الرائع في المشوه ؛ والمشوه في الرائع ؛ فهي فرجة موقف محمول على فكرة الجدل التاريخي المادي ، في مقابل فرجة تستعيد استنساخ صورة الفعل المقرر في عالم المثل ؛ والمنظور له باعتباره خطيئة لا تمحي بغير التوبة التي تستوجب الغفران ؛ ومع أنها ثنائية أيضا إلا أنها ثنائية مثالية معطاه . ومع كل ذلك يبقى صحيحا في كل الحالات أن صناعة الصورة الفرجوية لابد أن يكون معادلا مرئيا أو مسموعا لموضوع ما ؛ إلا في الفرجة الكليباتية ؛ التي هي فرجة من أجل الفرجة.
يؤكد " أرنوت " أن وسائل الفرجة لا بد أن تخلق صورة مرئية تعادل الموضوع " هذا السحر فى مسرحية مارلو ليس مجرد إضافة للزخرف ، وليس مجرد عرض لحيل حاذقة أضيف حتى تكتسب الشعبية ، بل هو جزء لا يتجزأ من فكر المسرحية . فقد كتبت مسرحية الدكتور فاوست لجمهور يؤمن بإمكانيات السحر والكيمياء ، جمهور كان يقتنع بوجود شيطان مجسد – وربما لم يكن إقتناعه هذا (بنفس) إقتناع أجداده من العصور الوسطى ، غير أن هذا الإيمان كان قائما."
ويضيف أرنوت ضرورة إقتناع الجمهور بفكرة الشياطين حتى يؤثر الوسيط الفنى الذى استخدمه السينوجراف والمخرج كلاهما فى تجسيد صور الشياطين : " فالجمهور يجب أن يقتنع بعالم توجد فيه مثل هذه الأشياء ، وذلك قبل أن تكمل المسرحية معناها ومشاهدها . وإذا لم نأخذ ميفستوفليس مأخذ الجد فلا يمكننا بالتالى أن نأخذ إتفاق فاورش معه مأخذ الجد "7
الفرجة بين التجسد التخيلى والتجسيد المادى:
لا من من التفرق بين حالة العرض المسرحى الكلاسيكى ( مأساة الدكتور فاورش) فى عصر ما قبل إختراع الوسائط الحديثة والمتعددة وعصر الوسائط المتعددة ، ذلك أن صور السحر والشياطين والأرواح عن طريق التمثيل البشرى ، لم تكن مؤثرة فى الجمهور تأثيرا يقنعها بأنها ترى صور الأواح أو الشياطين حقيقة ، وهنا كان لا بد من يساعد خيال المتفرج على تصور هيئة الروح أو الشبح أو الشيطان تصورا ذهنيا . والحال نفسه فى المواقف التى تتراءى فيها الأشباح ليوليوس قيصر فى مسرحية شكسبير أو يتراءى فيها لهاملت شبح والده أو تتراءى الساحرات لماكبث عند شكسبير أو شبح والد أوديب فى مسرحية أوديب لسينيكا. يقول أرنوت عن مرض فاوبست " فالموضوع الرئيسى الرجل يتعدى حدود قدراته ويبعثر تلك الهبات التى دفع روحه ثمنا لها ، هذا الموضوع لا يزال له مغزاه ومعناه . غير أن تأثيره يزداد قوة إذا كان ميفستوفليس بالنسبة للمشاهدين حقيقة حية ، مثله مثل فاوست تماما. فمسرحية ماكبث لا تفقد الكثير إذا استبعدنا منها الساحرات ، أما مسرحية فاورش فستفقد كل شئ إذا حذفنا منها العنصر الشيطانى.
واذا كان مشاهدوا عصر إليزابث متعاطفين رؤفين بإمكانيات الخدع المسرحية ، فالسحر يمكن تقديمه لهم على المسرح بالقليل من الوسائل الآلية البسيطة ، وكانوا يصدقونه ويؤمنون به ، ولم يكونوا يطالبون بواقعية كاملة ، فما أن ينوه إليهم بشئ حتى يكمله خيالهم . وهذا لا يعنى أن مشاهدى مارلو كانوا سذجا ، فهم بالتأكيد لم يكونوا كذلك ، ولكن كانت لهم نظرة مختلفة تجاه ما يشاهدونه على المسرح وتجاه ما يتوقفونه منه. وكان فى إمكان مارلو من غير أن يجهد إمكانيات مسرحه إجهادا زائدا عن الحد أن يخلق عالما شيطانيا مقنعا كل الإقناع. وهذا لم يعد الآن بالأمر السهل " 8
وهنا لا بد من نلاحظ أن للتجسد الخيالى للشئ عن طريق التصور الذهنى أثره المتغير والمتعدد والمتنوع ما بين ذهن متفرج وذهن غيره من مجموع المتفرجين على حدث جمع عددا من الشياطين أو الأرواح أو الأشباح وعن طريق التصوير التجسيدى المادى لتلك الأرواح أو الأشباح ، التى تحددت صورتها أمام عيون المتفرجين تحديدا ماديا مجسما . هذا بالإضافة إلى ما للتجسيد والتجسيم من عيوب أو سلبيات خاصة بطريقة التنفيذ . وهذا ما يلاحظه أرنوت نفسه على تنفيذ وسائط عرضه المسرحى نفسه من إنتقاد وجه لطيران (فالكيرات فاجز) الشبحية " وهى معلقة على أسلاك فى الهواء لم يكن عيبها أنها ظاهرة للمشاهدين فحسب ، بل إنها كانت أميل إلى الفشل من الناحية الميكانيكية فضلا على ارتفاع حاسة المشاهد المعاصر النقدية حيث أن هذا المشاهد بعد أن رأى وحوش الماضى والحاضر وعوام المستقبل التى تقدمها لنا الروايات العلمية وتحققها لنا الكاميرا ، سيكون أقل تأثرا بالثعبان المسرحى الذى يتصارع مع تامينو فى بداية مسرحية الناى المسحور9 ويضيف أرنوت معلقا " وإذا كانت التأثيرات قد نفذت بطريقة سيئة فهى لن تأتينا بالإقناع . أما إذا نفذت بطريقة جيدة فيحتمل أن يضيّع المشاهد وقتا طويلا فى التفكير فى كيفية تنفيذها ، حتى إنه ينسى المسرحية." 10 وهذا ما لاحظه د. أبو الحسن سلام 11 ايضا فى مآخذف على سينوجرافيا عرض مسرحية (الزلزال) 11-12 حيث انبهر الجمهور بسينوجرافيا العرض والمكان كله يتأرجح فى الهواء ومناطق من حوائط العرفة تتساقط وأفراد الأسرة يتطوحون يمينا وشمالا مع حركة تأرجح كل شئ ، بفعل الزلزال أو الهزة الأرضية القوية ، وبذلك انشغل الجمهور عن موضوع المسرحية
يتحدث د. أبو الحسن سلام 13 عما أسماه بالإرتباك فى العرض : " فى إخراج جلال الشرقاوى لمسرحية (الزلزال) لمصطفى محمود ، وهى مسرحية ذهنية تأسست على حدوث تجربة لتفجير نووى فى صحراء قريبة من منطقة سكنية آمنة فزلزلت البيوت مما ظن معه أهالى المنطقة أنه زلزال . والإرتباك فى إخراج جلال الشرقاوى حادث فى الأسلوب الفنى المغاير تمام المغايرة للأسلوب الأدبى للنص من ناحية ، وفى آليات تجسيد الصورة المسرحية للحدث الرئيسى عن طريق (الديكور).
فمن ناحية الأسلوب فإن المسرحية فكرية ذهنية والقاعدة المعروفة عند إخراج نص فكرى أو ذهنى أن يجرد العرض فى الأداء وفى الأزياء وفى المناظر والملحقات ، وهذا ما يتبع عالميا مع المسرحيات الذهنية وذات الطابع الفلسفى ، غير أن الفنان جلال الشرقاوى أخرجها اخراجا طبيعيا ، يعنى بالتفصيلات الجزئية فى المنظر وفى الحركة ، فأقام ديكورا كاملا (بانوهات كاملة ومركبة لغرفة معيشة ، حوائط وأريكة تركية الطراز وثريا مدلاة من سقف الغرفة.
وقبل حدوث الهزة الأرضية (الزلزال) كانت والدة البطل (سيدة الدار) تجلس قاعية على الأريكة وظهرها مستندا إلى حائط الخلفية فى مواجهة الجمهور ، لكن بعد حدوث الزلزال تتأرجح خشبة المسرح بالمنظر وترتج إرتجاجا عظيما تقع على إثره بعض جوانب فى حوائط الغرفة ويخرج اللهب من بعض ثغرات فى الحوائط ومنها ثغرة كبيرة خلف الأريكة مباشرة ، ومع ذلك تظل الأم فى مكانها والنار تخرج من خلفها دون أن تمسها بأى سوء حتى ظننت أنها (ابراهيم الكليم) وذلك هو عين الإرتباك أولا وفى آليات التجسيد ثانيا .. ويضيف مدللا على إرتباك رؤية التصميم السنيوجرافى للعرض ولآليات تجسيده " كما أن الثريا كان محتما سقوطها ما دام الزلزال هدم حوائط البيت ، ولكنها مع ذلك لم تهتز هزة واحدة !! وهذا عجيب ، والأعجب منه أن الجمهور استمتع دون أن يلحظ ما لاحظته ؛ فجعلنى ارفع عقيرتى ، فى أثناء العرض (النجفة لم تتحرك) مما لفت انتباه الجمهور . فالإبهار أو شكلانية الصورة ، غطت على موضوعاتها حيث خشبة المسرح تتأرجح كلها لأن المنظر مثبت على طبلية : منصة بعرض خشبة المسرح ومتصلة من جوانبها الأربعة بحبال مختفية برفعها العمال نحو أعلى بضع سنتيمترات ، ومع فتح شناكل لتكوينات (تفريغات فى الحوائط على هيئة كسور وثغرات وحزم إضاءة حمراء تتقاطع فى دخولها من تلك الفتحات فى حوائط الديكور مع دفعات من هواء المراوح الجانبية تدخل حزمة الضوء الأحمر متقطعة) ، فتحدث حالة الإبهام عند الجمهور بأن نارا تخرج من خلف الحوائط إلى داخل الغرفة من الثغرات – ومع ذلك لم تحترق (ألحاجة) ست البيت ولم تتململ فى جلستها على الأريكة" 14

الفرجة التأملية بين المؤلف والمخرج:
تختلف الفرجة عبر الصورة المسرحية الحوارية عن الصورة المسرحية فى لغة غير كلامية ، خاصة في مسرحية فكرية تستهدف كسب التأييد لفكرة فلسفية ؛ فعرض مسرحية (جلسة سرية) لسارتر التى عرضتها فرقة ألمانية ضمن فعاليات المسرح التجريبى فى دورته الأولى 1988 اعتمادا على لغة الجسد ، دون كلمة واحدة ، لا شك نصل دلالتها الدرامية لمتفرجيها فى ذلك العرض متعددة بتعدد المتفرجين ، بمعنى وجود دلالة خاصة للعرض عدد كل من شاهد العرض وهو أمر مغاير مغايرة كلية عند متفرجيها حالة عرضها عرضا يعتمد على لغة الحوار كما وضعها سارتر تحقيقا لفكرة وجودية تصب فى صلب فلسفته الوجودية المادية ، وهى فكرة (الجحيم هو الآخر) لأنه يحول بشكل ما بين (الأنا : الذات) وتحقيق إرادتها بالحرية التى نراها لأن الآخر يريد تحقيق إرادته أيضا بالحرية التى يراها ، لذا يصبح كل منهما جحيما لغيره.
لم يخرج العرض المسرحى التجريبى الألمانى عن فكرة نص سارتر المسرحى ولكنه يحققها بلغة الجسد ، مستبعدا لغة الحوار الكلامى اللفظى .. فعرض المسرحية بلغة الجسد وعرضها بلغة الحوار يؤكد مسألة استحالة الحياة على أى منا فى الحياة دون توافق الإرادات أو تفاهمها ، لذا نجد فى العرض كما فى النص صعوبة الحياة على أناس لا تفاهم بينهم على ما يريدون غير أن العرض فى مسرح الصورة عنه فى مسرح الحوار هو أن " خطاب الممثل فى مسرح الصورة حركى ، إيمائى يفجر طاقات الجسد التعبيرية" 15 وقد حلت لغة غير كلامية محل اللغة الكلامية ، ولأن كان العرض فى مسرح الصورة يستبعد العرض فى مسرح الصورة أى عنصر من العناصر النبائية التى تستخدم عادة فى العرض المسرحى التقليدى" 16 .. إلا أن هذا العرض لم يستبعد الشخصيات ، وإلا فكيف يكون عرضا دراميا لذلك نجد الشخصيات الثلاث (الصحافى والفتاة والمرأة الشاذة) مشتبكين إشتباك الأنا فى كل منهم فى نظرته المتبادلة ببعضهم بعضا كل منهما يمثل الآخر بالنسبة له .


خلاصة البحث

انتهى هذا الفصل فيما تناول من قضايا متعلقة بمفهوم الفرجة واشكالها وعناصرها وتنوع صورها ما بين معالجة درامية فى النص المسرحى المؤلف ومعالجة تجسيدية أدائية وفق روية سينوجرافية متوافقة مع رؤية المخرج أو متخالفة معها وما بين رؤية تابعة لاسلوب فنى ما مغاير لأسلوب كتابة النص أو مغايرة لدلالة النص موضوع العرض ، وأكد هذه النتيجة بتحليل للصورة السينوجرافية فى المعادلة للنص فى عرض مسرحية الجحيم لجان بول سارتر ، لفرقة مسرحية ألمانية شاركت بعرضها ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى عام 1988
وقد إعتمد الفصل منهجيا على عدد من المحاور الفرعية على النحو الآتى: استعراض الدراسات السابقة التى تعرض لموضوع الفرجة المسرحية


الهوامش

1. بيتر د. أرنوب ، مسرحيات بلا ممثلين ، ترجمة : الفريد ميخائيل ، القاهرة ، مكتبة النهضة ، يوليو 1970 ، ص127
2. كريستوفر مارلو ، مأساة الدكتور فلوستس ، سلسلة (روائع المسرح العالمى) ، القاهرة
3. بيتر د. أرنوت ، نفسه ص124
4. أرنوت ، نفسه/ ص ص124-125
5. نفسه ، ص125
6. أرنوت ، نفسه ، ص125
7. نفسه، ص126
8. المرجع ، نفسه ، ص127
9. نفسه ، ص128
10. نفسه ص128
11. العرض من تأليف الدكتور مصطفى محمود وإخراج جلال الشرقاوى وإنتاج فرقة المسرح الحديث بمصر عام 1968 .
12. راجع د. أبو الحسن سلام ، المخرج المسرحى وتعدد قراءة النص ، الاسكندرية ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر 2004
13. نفسه ص123
14. د. أبو الحسن سلام ، المرجع السابق ، نفسه ، ص126
15. د. جميل حمداوى مسرح الصورة بين التنظير والتطبيق (مسرحنا) ع 10- 11 من اكتوبر 2010 ص 29
16. نفسه ص28


نساء قاسم أمين .. عودة لعصر الحريم
- دراسة سيميولوجية –
د. أبو الحسن سلام
منذ ثلاثة أعوام شاهدت عرضا مسرحيا لفرقة الرقص المسرحي بدار الأوبرا المصرية تحت عنوان ( نساء قاسم أمين ) اعتمد العرض على لغة الصورة بمكوناتها السينوغرافية التي يشكل فيها التعبير الجسدي العمود الفقري للعرض؛ والعرض في مجمله يحمل الخاصية الأسلوبية للمخرج السينوغرافي وليد عوني التي تركز على تحميل مقدمة العرض بمنظومة شفرات فنية ترميزية تتود دلالة العرض المسرحي . ففي المشهد الافتتاحي لعرض ( نساء قاسم أمين ) تستلفتنا براعة الاستهلال في جمالية تكوين الصورة المسرحية الملغزة التي اعتمد فيها وليد عوني على أداء جسدي ناعم غابت عنه وجوه المؤدين رجالا ونساء على حد سواء ؛ فمكونات الصورة تقوم على ثمانية عشر مؤديا ومؤدية ( تسعة رجال في جلسة ركوع متجاورين ملتحمين على خط أفقي مستقيم في مقدمة فضاء المنصة المسرحية يولون ظهورهم للجمهور ، وهم في حالة دعاء ؛ حيث ترتفع أيديهم مفرودة نحو السماء) وفي الخلفية ( تقف تسع نساء متجاورات على خط أفقي مستقيم ورؤوسهن محشورة بداخل طرف أنبوب مطاط أسود ساقط من سقف المسرح وهن يتململن في وقوفهن كل في مكانها الذي لا تبرحه كما لو كن مقيدات بالموضع الذي تقف فيه كل منهن . وعلى الرغم من حركة تململ أجسادهن المتماوجة في محاولة للانفلات من عملية التوقيف الجبرية ومن عملية التعمية العلوية التي تحجب فيها القدرة على الرؤية والسمع مما يغيبهن عن التحقق وصولا للحقائق المحيطة بهن . هذا عن واقع الحال بالنسبة لنموذج هذا المجتمع الدرامي الصغير ؛ في بيئة أو غلاف مكاني - سلويتية ( ظلية) – يحيط بها الظلام من كل ناحية ؛ ولا يأتيها بصيص الضوء إلا من مصدر خلفي غير مباشر .أما الخلفية القاتمة بجانبيها الأيمن والأيسر فهي خلفية مصمتة شديدة الارتفاع وإن تشكلت فيها صفان أفقيان في خطين من النوافذ الشفافة؛ على هيئة المستطيل الذهبي الذي ابتكره في عصر النهضة العالم الفنان : " ليوناردو دا فنشي "
ونلاحظ في تلك الصورة المسرحية التي يستهل بها العرض تطابقا مع نظرية المحاكاة الأفلاطونية؛ التي تركز على محاكاة الفكرة المجردة ؛ دون التفاف للفعل حسبما ترى نظرية المحاكاة الأرسطوية. فهي صورة مقدسة إذن وفق أفلاطون الذي ينفي المحاكاة بالأداء التمثيلي الحاضر بإبداع ممثل مجسد للحدث ؛ لأن الحدث في ذاته لا أهمية له هنا ؛ فالغاية هي الفكرة المثالية المجردة . ولكي لا تظهر تلك الفكرة مدنسة عند محاكاتها يجب أن تكون المحاكاة محاكاة ظليّة . وهذا ما نراه في هذه الصورة المسرحية الاستهلالية لعرض ( نساء قاسم أمين )
وبغض النظر عن إدراك الفنان وليد عوني أو عدم تقصده تفعيل نظرية المحاكاة الأفلاطونية ؛ فإن هذه الصورة المسرحية تقع تحت عجلات نظرية أفلاطون عن المثل ؛ التي تفترض أن الفنان أو الشاعر إنما يحاكي مستنسخ الصورة الأصلية أو ظلها ؛ لأن الأصل في عالم المثل ( عالم الغيب) ونحن لا نستعيده ولكنا نعيد إنتاج ظل صورته .
هذا عن الأساس النظري للشكل المسرحي الذي بنيت عليه افتتاحية عرض : ( نساء قاسم أمين) ولن يدهشني أن يرى ناقد آخر أن هذا التأويل النقدي لافتتاحية هذا العرض تحمله بما لا يحتمل !! فمثل ذلك النوع من العروض المخايلة حمالة أوجه ودلالات متعددة بتعدد متلقييه !! لأن تفاعل ثقافة المتلقي مع ثقافة العرض ينتج عن طريق المتوسطات القرائية لكل متلق دلالة ما مغايرة للدلالة التي يتلقاها كل من يشاهد ذلك العرض.
* الروعة والتشويه: على الرغم من أن هذه الصورة المسرحية قد قامت على روعة الاستهلال ؛ من حيث شكلها العام ؛ إلا أنها تحمل تشويها تمثل في تغييب الوجوه ، التي هي عنوان الهوية ؛ فهوية الإنسان ظاهريا في وجهه ؛ كما تحمل تشويها تمثل في تقييد حرية النساء والتغمية على أبصارهن وأسماعهن ؛ وقصر هاتين الحاستين على ما يصب في رؤوسهن من مصدر علوي غيبي ؛ مؤيد بدعوات مجتمع الذكورة للسماء بثباتهن على هذه حالة السمع والطاعة السكونية . فالصورة تحمل تشويها في الشكل وتحمل تشويها في المضمون ( فالرجال في حالة سكونية تعبر عن الرضا بما هم عليه ؛ مع حالة القلق التي يعيشها مجتمع الذكورة من مجرد تململ مجتمع الحريم من حالة السمع والطاعة الجبرية التي فرضت عليهن . وهو أمر استوجب من الرجال الدعاء بثبات الحريم على حالة الإذعان والسمع والطاعة العمياء لرجالهن ؛ باعتبار ذلك الأمر متصل بأمر سماوي ؛ دل عليه ذلك الأنبوب الذي حشرت في طرفه السفلي رأس كل واحدة منهن .
لقد عبرت الصورة الافتتاحية تعبيرا خالصا عن فكرة التقديس التي قامت عليها نظرية المحاكاة عند أفلاطون كما عبرت عن فكرة التدنيس ؛ لكن من منظور بعيد عن النظرة الدينية ؛ لذا جاءت الصورة محمولة على ثنائية الروعة والتشويه أو الجمالية والتشويه؛ كما أوضحنا. كما قامت على قراءة إساءة لتراتبية العلاقة بين عالم الذكورة وعالم الحريم ؛ بهدف نقض تلك العلاقة التي تأسست على الأيدي المرفوعة للسماء عند الرجال في وضع الركوع مناشدة للسماء أن يظل الحريم على حالة الإذعان لمجتمع الذكورة وفي المقابل أيدي النساء التسع المرفوعة لأعلى طلبا للخلاص من ذلك القيد الغيبي ؛ تسع رجال مع ثبات العلاقة الإذعانية . كما أن الروعة تتمثل أيضا في اختيار المخرج لتسعة رجال في مقابل تسع نساء .. وهو اختيار يدفع المتأمل للدهشة من ذلك التناظر العددي ؛ لماذا هم تسعة رجال في مقابل تسع نساء ؟! هل لهذا علاقة بفكرة التاسوع الإلهي في الديانة الفرعونية القديمة ؟! وتلك الأنابيب السوداء المرنة التي تسقط من الفضاء العلوي لتلبس من طرفها السفلي في رؤوس النسوة التسعة اللواتي يقاومن شيئا ما – غالبا – هو الفكر أو التعاليم التي تصب في عقولهن من خلال الأنبوب العلوي الغيبي – تأويليا شريعة الحلال والحرام – فلئن صح هذا التأويل النقدي نكون أمام افتتاحية مسرحية محمولة على نظرية قراء إساءة لتراتبية العلاقة بين الرجل والمرأة باعتبارها مخلوق من ضلع أعوج للرجل – وفق الثقافة الفولكلورية التدينية –
ولا شك أن وضع المؤدين وكذلك المؤديات على هيئة صفين أفقيين بينما تشكل الأنابيب السوداء المرنة خطوطا رأسية في خلفية الصورة ثنائية التعارض بين ما هو أفقي ( المجتمع البشري بعنصريه الذكورى والنسوي ) وما هو رأسي ( الوسيلة الحاملة للرسالة العلوية) إنما يشف عن المنحى المقصود بإساءة قراءة الصورة . وهذا مناط الدهشة الفرجوية ؛ ومع الدهشة تتولد الأسئلة ؛ وأول تلك الأسئلة وأهمها ( ما هو كنه تلك الأنابيب الساقطة من الفضاء العلوى لسقف منصة العرض المسرح ؛ ولماذا يلبسها رؤوس الراقصين والراقصات بديلا عن أغطية الرأس وهي ليست أغطية للرأس ؛ هي مجرد أنابيب مرنة تسقط من أعلى لتدخل أطرافها التحتية في رؤوس البشر وتغطي وجوههم !! هي ليست أغطية رأس بالقطع . ثم أن وظيفة الأنبوب الساقط من أعلى إلى أسفل هي لا شك توصيل شئ ما من أعلى إلى أسفل . لكن .. لماذا تنحشر فيها رؤوس المؤدين بهذه الصورة ؟ ليس من المعقول ولا هو من المنطق أن الأنبوب سينزل سائلا ما على الرأس التي تلبس طرفه السائب . الرأس مجمع المخ والحواس الخشنة : البصر والسمع والكلام والسمع والتذوق والشم ؛ وكونها متصلة بأنبوب هابط من الأفق الأعلى على رأس بشرية ؛ فماذا تكون تلك المادة التي يراد لذلك الإنسان أن يستشعرها أو يدركها ؟ ؛ وما هي وظيفة المخ غير إصدار الأوامر للحواس حتى تتواصل إبصارا أو سمعا أو كلاما أو شما أو تذوقا ؟! وجدتها !! تلك رسالة الغيب للإنسان ؛ وهي رسالة لإذعانية تلقينية هبطت على الإنسان من عل لتسكن في كيانه حواسه وإدراكه المغيّب . تلك هي إذن دلالة تلك الصورة المسرحية لافتتاحية عرض ( نساء قاسم أمين ) .
ولأن المشهد الإفتتاحي للعرض المسرحي أو السينمائي هي بمثابة روعة الاستهلال التي تحمل بذرة العرض ؛ لذلك توافقت المفردات السيميائية للافتتاحية مع دلالة الخطاب الذي يحمله عنوان العرض ( نساء قاسم أمين) وهو تحرر العقل البشري ؛ من حالة الخطاب التلقيني الإذعاني المفسر لحتمية سيطرة نظرية الفالوظ على ثقافتنا الشرقية


الفرجة فى دراما السيرك الإستعراضية :
لا شك فى أن ما تحققه الفرجة من نجاح متقطع فى إجتذاب جمهور غفير فى سيرك الشمس الكندى الدرامية ، أو سيرك بانكوك أمر يؤكد أن الفرجة هى أساس تلك العروض .. تشكل الهدف الأساسى لتلك العروض ؛ ولا نعجب من ذلك ؛ فمع اشتمال العرض من تلك العروض الاستعراضية التى تبنى إطاريا على فكرة درامية ذات خط غير متشعب مستند غالبا على خيط أسطورى . على أن مثل هذا اللون من الفرجة ذات الصبغة الإستعراضية والملمح الإسطورى تستند إلى مفردات البيئة الآسيوية ومن أهمها استعراضات الأفيال فى تشكيلاتها الجمالية وزخارفها وإقامة العروض فى الحدائق وفى الأماكن المفتوحة المتسعة بين الخضرة والأشجار والأزهار ، فضلا على الأزياء الغريبة التصميمات والزاهية الألوان ، وتشكيلات الراقصين والممثلين والمغنيين على الأفيال أو بجوارها ، وخفى عدد من المؤديين على هيئة أزهار بديعة الألوان متناغمة مع الأشجار المنخفضة التى تغطى فضاء العرض الواسعة ، بما ينسجم فى ألوانها مع أغطية الرأس الملونة التى مصنوعة من أوراق ورود وأزهار رائعة الألوان تنسجم مع الأشجار التى أختبأ بينها المؤدون أو الراقصون . ومما يسمو بالصورة المسرحية وجود هياكل لقباب قصور آسيوية الطراز فى خلفية فضاء الصور المسرحية الإستعراضية المعروضة وما بينها من وسائل أو حبال تعليق ممتدة ومشدودو بين قبلة قصر وقبة قصر مجاور له ، إذ تتخذ وسائل لسباحة لاعبى الأكروبات من الجنسين بأزياء ملونة تكشف عن أجزاء من اجسادهم ، كما تفعل الإضاءة الملونة ببؤرها وتركيزاتها مع إنطلاق قذائف التشكيلات الضوئية للألعاب النارية التى تملأ فضاء السماء فى مكان العرض وفى ظل كل الوان الإستعراض وبهرجاتها وتنوع التشكيلات الأدائية وتزاحمها الجمالى المتناسق التكوينات الإستعراضية والأكروباتية للراقصيت والمؤدين من مغنيين وممثلين وموسيقيين يتشت نظر المتفرجين ، حيث تتوزع على تلك الصورة المسرحية ، إذ تلاحق جزئيات الصورة عندما تثبت تكويناتها لثوان معدودة ، بينما تضيع عن نظر المتفرج الكثير من التكوينات والصور الجزئية التى تشتمل عليها الصورة الكلية المجمعة فى فضاء مكان العرض خلال حركة مكوناتها المتغيرة تبعا لسرعة تدفقها الإيقاعى وتنوعها حركتها الإيقاعية فى مستوياتها المرئية أو فى مستوياتها المسموعة . ولذلك يلجأ الكثيرون من المتفرجون على مثل ذلك النوع من العروض إلى الحرص على حضور عروضها مرة بعد مرة ، إتجابا أو إنبهارا ورغبة فى الإستزادة من متعة الفرجة.

الفرجة بين مسرح الكلمة ومسرح الصورة:
الكلام عن الفرجة المسرحية يحيل الباحث إلى الوقوف على مكونات عروض مسرح الصورة حيث النظر فى أهمية دور العلامات والرموز والإشارات والأيقونات 1 فى تكوين صورة العرض المسرحى والإنتباه إلى الصور البصرية والكورغرافية التى يكون لها مكانة الصدارة فى مثل تلك العروض على حساب اللغة والحوارات الأدبية التى أصبحت لها مكانة ثانوية ، فأصبحت عنصرا متمما للحركة والصورة ليس إلا 2
وحول التعريف بمفهوم مسرح الصورة يقول حمداوى3: " يعرف مسرح الصورة بأنه حزم من الشعر والفلسفة والتشكيل ، وبالتالى فهو مجموعة من المفردات البصرية ، التى تتحول بدورها إلى رموز وإشارات وأيقونات دالة تساهم فى خلق المعنى حسب مقاماتها السياقية ومستلزماتها التداولية وذلك عن طريق خلخلة أفق انتظار الراصد ، وتخييب توقعاته الجمالية .. وبمعنى آخر فمسرح الصورة هو مسرح تجريبى حداثى يستعمل الحركة والإيماءة والإشارة والرمز ، ويستعين بالرؤية البصرية عوضا عن إستعمال الكلمة والحوار كما فى المسرح الكلاسيكى.
والمقصود من هذا أن المسرح الصورى يقوم على شبكة من التكوينات والأنسجة المركبة الغامضة المصممة بقصدية أو عفوية وفق إيقاع صورى لعلاقات شكلية متغيرة لا يهدف إلى إيصال معنى محدد ، كما فى المسرح التقليدى أو تثبيت ما يسمى ب التمركز المنطقى كما يقول الناقد ..
سلطة النص وسلطة التشكيل فى المسرح:
يرسل فيلسوف التفكيكية جاك دريدا مجموعة كبيرة من الإشارات والعلاقات والدالات إلى المتلقى عبر سياق وشفرة تولد فى ذهنه مجموعة مدلولات .. ويستبعد العرض المسرحى التقليدى كما أنه يلغى قدر المستطع أى شكل من أشكال الحوار.. ويستعيض عنه بلغة الحركة والتكوين والإيماءة"
ومن النماذج التطبيقية لهذا النوع من العروض عروض مثل الفراشة العذراء /موناليزا/ شهرزاد وعرض شهرزاد" 4 وهى عروض من مسرح الصورة الحداثى التى عرضتها فرقة الرقص المسرحى بدار الأوبرا المصرية ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى عبر عدد من دوراته المتتالية
عرف مسرح الصورة على يد انتونان آرتو 5 ، حيث نظرّ لهذا اللون من المسرح فى كتابه (لمسرح وقرينه) وفى ذلك الكتاب وكتابه الآخر (مسرح القسوة) يسعى آرتو إلى تحرير المسرح من الحوارات الأدبية الطويلة التى تعيي الرؤية وتنتهك الزمن – بتعبير د.صلاح القصب – " يتشكل مسرح الصورة جدليا بتضافر خلاق بين أربعة فنون إنسانية عريقة ، هى الشعر والرسم والدراما ثم السينما" 6 "فمع أنه ينحدر من عائلة الدراما إلا أن اصوله العميقة تكمن فى ثلاثة جذور غير درامية بالمعنى المسرحى ، أسهم كل منها بدور معين فى تكوين مسرح الصورة ، أما الرسم والفن التشكيلى عموما فهو الجذر الثانى لمسرح الصورة وقد بلغ ذروة عطائه لمسخ الصورة فى الفن الفوتوغرافى.. أما السينما فهى الجذر الذى يعطى للضرورة ضرورتها" 7
يعتمد مسرح الصورة إلى جانب الشعر على المرجع التشكيلى الذى يساهم فى توليد الصورة البصرية وتحويلها إلى اشعاعات ذهنية وفنية وجمالية ، لذلك نرى أن الحاجة لظهور المرجع التشكيلى ازدادات مع ازدياد أهمية هذا الفن فى مسرح الحياة الثقافية والفنية للقرن العشرين ، وبدأت القرائن تزداد بين تقنيات الرسم والشعر والمسرح.
ساهمت السينما فى تطوير الصورة المسرحية وإغنائها فنيا وجماليا ، وذلك بسبب احتوائها على الرموز التشكيلية فى الرسم وفى فن التمثال والرموز الدرامية . وإثراء المسرح بالصور الفوتوغرافية توليفا وتقطيعا وتخصيريا وتوليدا.
يستعين مسرح الصورة كذلك بالسحر والحلم والرموز السينمائية والطقوس والشعائر والميثولوجيا والانثروبولوجيا فى توظيف لونى وتشكيلى يميل إلى بدائية الفنون وهذا ما يؤكد عليه كل من جروتوفسكى وبروك وشانيا وغيرهم الفنانين التشكيليين البولنديين الذين تحولوا إلى الإخراج المسرحى فاخرجوا العرض المسرحى من دائرة العقم التخييلى والركود الإيقاعى البصرى.


الهوامش:

1- د.جميل حمداوى "مسرح الصورة بين التنظير والتطبيق" (مسرحنا) ع160 .. 11 اكتوبر 2010 ، القاهرة ، وزارة الثقافة المصرية ، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2010 ص28
- المرجع السابق، نفسه ، ص 28
3- نفسه
4- العروض الثلاثة من تصميم وليد عونى المخرج السينوجرافى واعداده واخراجه
5- انتونان آرتو، المسرح وقرينه ، ترجمة د.سامية أحمد أسعد القاهرة ، الانجلو المصرية
ص 1973
6- د.جميل حمداوى ، مرجع سبق ذكره ص11
7- نفسه ، ص11


دور الفرجة فى اصطياد الحلم :

" للفرجة دور فاعل فى تمكين المبدع أولا والمتلقى ثانيا من اصطياد لحظة الحلم بواقع يومى جديد ، ومتفرد . وذلك إن تحقق يكون إنجازا فائق الأهمية ، لأنه يخرج الإبداع والتلقى من دائرة المألوف وتكراره الممل ويجدد حالة التواصل بين المتلقى وواقعه الحياتى اليومى ، ويجدد حالة التوصل بين الفنون والمجتمعات. " 1
المخزون التراثى للفرجة
يقول الشاعر زين العابدين فؤاد2 : " إننا – كلّ فى مجتمعه الثقافى – نرى أن تداخل جسم المعتقدات مع أساليب الحياة والتغيرات الطبيعية كلها مخزونة فى الأدب الشفاهى حيث يمكن أن تمر من جيل إلى آخر ، وبسبب التغيرات المذهلة فى المجتمعات العمرانية فإن القارة الإفريفية تصبح ثقافتها أكثر هامشية فى الإعلام وفى مجال العلاقات الدولية"
ويقول د. ابو الحسن سلام3 " لا مضارة بلا عقل ، ولا عقل بلا فكر ، ولا فكر بلا روح ولا روح بلا عقيدة ، ولا عقيدة بلا إيمان ، ولا إيمان بلا مصداقية ، ولا مصداقية بلا اقتناع ، ولا اقتناع بلا إمتاع ، ولا إمتاع بلا فن .. وأضيف (ولا فن بلا فرجة).
يقول سارتر4 " الإنسان الذى لا يملك ان يغير جلده فلا أقل من أن يمنحه البريق والحياة سواء أكان هذا الجلد أبيض أم احمر أم اسود"
وكثيرا من ألوان الفرجة فى الفن ما كان شكلا من أشكال البريق الذى يضفى على العمل الفنى ما يعينه على تغيير جلده وقليل منه ما عمل على أن يمنحه الحياة بحيث يتفاعل تفاعلا ممتعا ومؤثرا فى إقناع المتلقى بما يحمله المنتج الإبداعى نفسه من قيم فكرية أو إجتماعية أو إنسانية أو ما يحمله من أفكار فلسفية أو سياسية وربنا تكون أيديولوجية أيضا.




موت دانتون والفرجة فى عربة تشاولى المسرحية

ليس من الغريب أن يلجأ المخرج الألمانى روبرتو تشاولى إلى عرض نص مسرحى من كلاسيكيات المسرح الألمانى فوق عربة متجولة وهو نص (موت دانتون) الذى استلهمه الكاتب الألمانى جورج بوشنر من وقائع محاكمة (دانتون) وهو أحد أبرز أعضاء الثورة الفرنسية وإعدامه على أيدى رفقائه الذين قاموا بتصفية بعضهم بعضا تصفية جسدية . فتشاولى مخرج ينتمى إلى اتجاه تفكيك النصوص ، لكشف تناقض دلالتها ، جنبا إلى جنب مع تفكيك بنائها الدرامى ، بما يؤكد عدم توحده مع خطأ به الدرامى ويؤسس للفكرة الفلسفية التفكيكية التى تذهب إلى فكرة موت المؤلف وانتفاء دلالة عامة للنص ، على نحو ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسى الأمريكى " جاك دريدا" فى نظريته المعروفة بالإختلاف المرجأ حول الدلالة العام للمنتج الفكرى أو الإبداعى . وتشاولى نفسه يذهب إلى أن الفرجة المسرحية على عرض من العروض المسرحية هي أن الفرجة المسرحية على عرض من العروض المسرحية هى فرجة على إبداع عدد من المؤلفين مؤلف النص أحدهم ، فالمخرج مؤلف ثان والسينوجرافى مؤلف ثالث ومن قبلهما الدراما تورجى ، وتبعا لهذا الفهم فمن الطبيعى ان لا يعثر المتفرجون على نص المؤلف الأصلى ، ذلك تبعا للرؤى المتباينة لكل من الدراما تورجى والمخرج والسينوغراف ، تلك الرؤى التى تعكس بالضرورة هوية مبدعها ، والتى يكون على المخرج المسرحى لهذا اللون من العروض مهمة إعادة تنسيقها فى نسيق أو بناء الصورة المسرحية للنص. ومن الطبيعى والأمر هكذا أن يقوم العرض على عدد من الصور المتجاورة والمتشظية التى هى أشبه بواجهة زجاجية مهشمة لسيارة ما ، وحدات من نمائم زجاجية مختلفة الأشكال والأحجام متشابكة معا على هيئة كولاجية . وهنا لا تظهر الصورة المسرحية ظهورا مباشرا ، وإنما تبدو رؤية المشاهد لها رؤية جنابية تحقق المتعة البصرية (الفرحة) وتغلف المعنى بستائر شفافة مركبة تحول دون وصول معنى محدد ، إن كان هناك ثمة وجود لمعنى خلف تلك الستائر أو التوريات الدرامية والجمالية لتلك الصورة المسرحية المهشمة أو المتشظية وإذا كان لروبرت تشاولى أو غيره من المخرجين أن يجرب فى عرض ذلك النص المستند إلى واقعة تاريخية بعينها ، بأن يعرضها على عربة جوالة يجرها الممثلون بدلا من الخيول أو الدواب ، وبعد توقفهم بها فى ساحة عامة أو فى حلبة سيرك كسيرك الشمس الكندى – مثلا – أو على خشبة المسرح ، تفتح أبواب جانبية فى العربة ويسقط درج صغير من وسطها نحو الأرض ليبدأ الممثلون فى تشخيص الرواية أو بدء العرض جريا على سنة عروض عربة تثيبس اليونانية القديمة ، فهذا يمثل تجريبا فى الشكل بما يتوافق مع شكل خشبة العرض وهى العربة الجوالة ، مع إعادة صياغة النص صياغة تتوافق مع الحيز المتاح للحركة على تلك العربة الصغيرة. ولما كانت مثل تلك العروض الجوالة تستلزم أساليب إبهار وجذب للمتفرجين ، جريا على أساليب عروض الكوميديا دى لارتى وكانت مسرحية موت دانتون تراجيدية الإطار والحدث ، فيبدو غريبا عرضها على عربة جوالة من ناحية ، ومن ناحية أخرى يبدو غريبا أن تجتذب عامة الجمهور وهى بعيدة كل البعد عن أسلوب الكوميديا دى لارتى وهنا لا بد أن يلجأ المخرج فور بدء العرض إلى فرقة موسيقية كاريكاتيرية الهيئة ، لإجتذاب الجمهور إلى عرضه من ناحية ، ولإبعاد شبه التفكير فى عرض واقعة محاكمة دانتون أمام محكمة الثورة ، وبذلك يكشف من أول وهلة عن تفكيك خطاب نص بوشنر ، الذى يبدأ بمحاكمة ، وفى ذلك تنويه استباقى لفهم الحدث أو الحادثة التاريخية التى وضعها بوشنر على المسرح فهما مغايرا لفهم بوشنر ، إذ يمكن أن تفهم تلك المقدمة من الإفتتاحية للعرض فهما يدل على أن تشاولى يرى فى محاكمة أعضاء الثورة الفرنسية لبعضهم بعضا هى تهريج فى تهريج.. وهنا يكون تشاولى قد نقض خطاب بوشنر.
فإذا جئنا للشكل وجدنا العربة من الداخل بعن أن فتحت أبوابها الثلاثة التى كانت بمثابة الستارة الرئيسية لخشبة المسرح التقليدية (مسرح العلبة الإيطالى) مقسمة إلى ثلاث أقسام أشبه بظلف صوان فتحت واحدة إلى اليمين والثانية إلى اليسار وهى مبطنة بتصاوير لفنانين عالميين ، بينما يفتح باب الوسط ليصبح درجات لصعود الممثلين وهبوطهم منها ، أما الفرقة الموسيقية التى تتخفى وجوه أفرادها خلف أقنعة عرائسية موحدة الشكل وزى موحد اللون والخطوط أرضية حمراء وخطوط عرضية صفراء والتصميم بهيئته الأقرب إلى الجاكيت العسكرى ، فهى تجلس فى ذلك الحيز المكانى الضيق جدا ليظهر تكوين الصورة من بين فتحة إطار كل ظلفة من الظلف الثلاثة إثنان بداخل كل إطار واحد جالس فى الأمام وخلف الآخر واقف وبيد كل منهم آلته الموسيقية . والصورة على ذلك النحو تعطى دلالة آلية توحى بالتجمد والتبلد ولما كانت المحاكمات تجرى تبعا لما هو متعارف عليه فى ظل مراسم وإجراءاة ولوائح وقوانين وبرتوكولات وقيود وأطر شديدة الصرامة ، فإن جلوس قضاة دانتون من وراء تلك الأطر وفق تصميم الفتحات الجانبية لعربة التمثيل ، يحقق فكرة الجمود والتبلد التى تضفى على صورة المحاكمة آلية وشكلية زائفة تسقط عنها شرعيتها ، وتحض المشاهد لها على الحكم عليها وفق ما يعرفه بريخت فى نظرية التغريب بالتأرخة أى إعادة النظر فى الواقعة التاريخية والحكم عليها من وجهة نظر معاصرة.



الهوامش:

1. أبو الحسن سلام ، " أشكال الفرجة الشعبية في المسرح العربي ، ( المسرح العربي والتراث) مطا بع جامعة الإسكندرية 1959، مجلة المسرح المصرية عددا مايو- يونيو 1990، جريدة مسرحنا 1-2 فبراير 2013
2. البريق والحياة سواء أكان هذا الجلد أبيض أم أحمر أم اسود
3. زين العابدين فؤاد "قافلة الشعر الإفريقية الأولى" (مؤتمر تفاعل الثقافات الإفريقية فى عصر العولمة" ملخصات الأبحاث. 10:13 مايو 2010 ، القاهرة ، المجلس الأعلى للثقافة 2010 ص57
4. أبو الحسن سلام "بروميثوس الأسود فى قيود الحرية – دراسة فى المسرح الزنخى ين الثوابت والمتغيرات الثقافية – " (مؤتمر تفاعل الثقافات الإفريقية فى عصر العولمة) نفسه ص9
5. سارتر ، مقتبس فى أبو الحسن سلام ، نفسه



العرض المسرحى وثقافة الصورة

" للعرض المسرحى وهج خاص ومميزة ، وهو قادر على التأثير المباشر فى المتلقى الذى يحضر لكى يكون جزءا من العرض من خلال استشعاره بالإضافة والأداء المباشر وقداسة المسرح الذى يحتوى على اللون والحس العالى بالمكان وكل هذه الأمور لا يمكن أن يستشعرها الجمهور من خلال الفضائيات بل من خلال الحضور إلى قاعة العرض ومن زاوية أخرى" 1
حول مستقبل المسرح ، يكمن فى رأي أحمد الماجد2 " فى لغة النص والعرض البصرية وأسرارها والمساهمة فى إغناء الوعى الجمالى للمتفرج المتفاعل. ولكن أى لغة هذه التى من المفترض أن تؤثر على البصر والبصيرة."
وفى رأيه " إن موت المسرح المعاصر يكمن فى حيثيات سوق العرض والطلب التجارى والمباشرة ، وهامشية لمعالجاته لمشاكل الذات والمجتمع ، وكذلك سذاجة خدماته الإعلامية ، وسيطرة اللغة الأدبية السردية."
هناك فرق إذن بين النص المسرحى الأدبى والنص المسرحى البصرى ، فالأول تأسس على الأدبية اللغوية فى مستوياتها الحوارية والسردية ، أما النص المسرحى البصرى على ركيزتين: " الأولى فى اللغة الأدبية البصرية (البعد البصرى والمادى للكلمة ودلالاتها التأويلية) والثانية: هى لغة التداعى البصرى للأنساق البصرية فى الفضاء الإبداعى"
وتبرير ذلك يتمثل فى " أن هذين الجانبين ، اللغة الأدبية البصرية والتداعى البصرى للأنساق هما اللذان يعيدان خلق اللغة الفنية بصريا سواء كان ذلك فى النص أم فى العرض ، فمن خلالها يمكن أن نعيد الكلمة وأبعادها الأدبية السردية والحوارة إلى كينونتها التأولية والدلالية والبصرية فى زمن جديد هو زمن العرض البصرى"
الحوار المسرحى لغة بصرية:
لا تعنى الدعوة لكتابة النص البصرى إلغاء الكلمة أو الوسائل اللغوية الأخرى عموما ، وإنما على العكس فإن الكلمة تصبح إحدى الوسائل البصرية المهمة لتحقيق النص البصرى إذا أحسن انتفاؤها . وإذا استطاع المؤلف أن يحولها من كلمة أدبية إلى بصرية تصبح جزءا من تحقيق المشهدية البصرية فى العرض." 3
ولكى يتحول الحوار من صورته اللغوية (صورة حروف الكلام) إلى صورة بصرية لا بد أن يصبح ألفاظا لها دلالات تأويلية على ألسنة الممثلين كل فى دوره المسرحى مدعمة بحركة جديدة تعبيرية أو إيمائية أو إشارية موازية من حيث زمنها لزمن من تلفظ الممثل للحوار ذلك دون أن تفقد اللغة أولية تلقيها عبر التعبير المسموع أساسا للتعبير وفى التعبير الحوارى البصرى ، تعكس المسألة بمعنى أن تصبح الكلمات الحوارية أو السردية مكملة للصورة البصرية .. وليس المقصود أن يقتصر دور الكلام على التمهيد أو التعليق وصفا أو نقدا ، وإنما يصبح فى الغالب الأعم شريكا للصورة البصرية فى لغة الجسد أو اللغة السينوجرافية فى الصورة المسرحية . يقول محمد إبراهيم 4 "الصورة وما يرافقها أحيانا من صوت وحركة وكلمة تستطيع التلاعب بالرأى العام وتوجيهه وإثارته ، بل تضليله فى كثير من الأحيان" . يقول أحمد الماجد 5 "مهما (اختلفت) تختلف الإجابات وتباينت النظريات وتعددت أشكال العرض المسرحى ، تبقى العين هى العضو الأعظم والاهم الذى يلقى على عاتقه آلاف المسؤوليات ، ويتحكم هذا العضو فى جمهور الصالتين دون سواه ، لذا وجب عليه.. أى عضو العين أن يكون سريعا دقيقا معصوما من الخطأ ومحددا . وهذا بالضبط ما تحاول الصورة إيصاله إلى بصر الجمهور كى ينفذ (بالتالى) إلى البصيرة."
ويستشهد الماجد بمقولة لانتونان آرتو الذى يقول " المسرح هو ذلك السحر الذى يحرك المكان من تحت أرجل الجمهور ، يهزهم ثم يحرك طاقتهم البعيدة فى فهم العالم اللامحسوس."6
أما محمد إبراهيم 7 " فى القرن التاسع عشر وتحديدا فى عام 1859 وصف الكاتب والشاعر الأمريكى المعروف أوليفر ويبذل هولمز الصورة بأنها الإنجاز الأهم فى عصره . لأنها تسمح للإنسان أن يفصل الأشياء عن زمانها ومكانها وتبقى حقيقتها مرئية دائما كما نظر إليها على أنها (قهر للمادة) وقال وقتها إن تغييرا يورث فى فيزياء الإدراك.
كما ستتغير الطريقة التى يرى فيها الناس ويفهمون ما يجرى حولهم ، وقد لاحظ هولمز بدقة أن ظهور هذه التكنولوجيا الحديثة ستكون بداية عصر تصبح فيه الصورة أكثر أهمية من المادة نفسها."
• حول ثقافة الصورة يقول محمد إبراهيم 8 " اليوم مع حلول الألفية الثالثة دخلت تكنولوجيا الصورة المرئية فى مجالات الإعلام والفنون بصفة عامة. ولم يكن المسرح بعيدا عنها ، خاصة أن مصطلح "ثقافة الصورة" بات من المصطلحات الأكثر شيوعا فى الأوساط الثقافية المعاصرة. فالصورة اليوم تطغى على ثقافة الإنسان. فهى حاضرة فى الأسواق وفى الإعلام والفنون المرئية وعلى شاشة فهى حاضرة فى الأسواق وفى الإعلام وفى الفنون المرئية ، وعلى شاشات الكمبيوتر ، وتفرض نفسها بقوة لما تتمتع به اليوم من خاصية التأثير والإقناع"
أنواع الصورة:
يقسم محمد إبراهيم 9 الصورة إلى أنواع فيقول" للصورة أنواع متعددة ، فهناك الصورة الإرتسامية أو التصويرية ، وتشمل الصور والتماثيل والتصاميم الفنية. والصورة البصرية: وتشمل المرايا والصور التى تعرض على الشاشة فالصورة التى تشاهدها فى التلفاز ، وهناك الصورة الحسية : وتشمل الأشكال المحسوسة والصورة الذهنية: كالأحلام والذكريات والأفكار. وأخيرا الصورة الكلامية أو اللفظية وتشمل الإستعارات والأوصاف وغيرها."
ويضيف إليها نوعا سادسا هو " الصورة الرقمية التى ينتجها الحاسوب ، هذه الصورة التى لها عميق الأثر على الثقافة الإنسانية بما تحمله من معلومة ، ومن سهولة فى الحصول عليها وحفظها وتخزينها.
الصورة فى المسرح:
بإعتبار المسرح فنا جامعا لكل أنواع الفنون ، فإنه يتأثر بها أيّما تأثر، ويعتمد إلى درجة كبيرة على الفن التشكيلى وعلى الموسيقى والأزياء وغيرها.. كما يعتمد المسرح على عدد من الفعاليات ليكتمل خطابه من نص وأداء وإخراج وسينوغرافيا ، وهذا معناه إنصهار تلك الفنون فى الصورة المسرحية الإبهامية .. يقول د. نعيم اليافى 10 " إن لغة الفن لغة إنفعالية والإنفعال لا يتوسل بالكلمة وإنما يتوسل بوحدة تركيبية معقدة حيوية لا تقبل الإختصار تطلق عليها إسم "الصورة".
ولا شك انه الحديث عن الصورة فى المسرح يقتضى تناول السينوغرافيا لأنها تهتم بدرامية الصورة المسرحية "فالسينوغرافيا هى عملة تطويع لحركة فن العمارة والمناظر والأزياء ، والماكياج والإضاءة والألوان والسمعيات ، كما دخلت على تشكيلات جسد الممثل .. وهى تعمل أساسا على فن التنسيق التشكيلى ويناغم العلاقة السمعية البصرية بين أجزاء العمل المسرحى." 11
• السينوجرافيا اصطلاحا:
شاع مصطلح السينوغرافيا فى خمسينيات القرن الماضى ، وظهر بوصفه فنا فى المسرح الأوروبى " أما المسرحيون والنقاد العرب فقد نظروا إليه على أنه يندرج ضمن نطاق التغريب فى العمل المسرحى ولا تزال الدراسات التى تتناوله قليلة وضحلة ، وتحتاج إلى مزيد من الدقة والوضوح والسينوغرافى شخص يهتم ويعنى بدرامية الصورة المسرحية لتحتل مكانة تشكيلية درامية جمالية حيوية تثير الإبهار لدى الجمهور يستطيع السينوغرافى التلاعب بالجمهور من خلال التقنيات الحديثة. وذلك بمزج الصوت والصورة والحركة والإضاءة فالحركة فى المسرح من أهم تلك المكونات.. كما يمكن من خلال التقنيات الفنية الحديثة أن يقدم للمشاهد صورا مركبة بحيث يمكن مشاهدة صورتين فى الوقت نفسه ، وإن كانت هاتان الصورتان لا تنتميان إلى فترة زمنية واحدة . الغاية من هذا المزج هو المقاربة النفسية أو الفكرية بين الحدثين أو بين شخصين تاريخين أو غير ذلك . وغالبا ما تكون الغاية من المزج الإيحاء ، بالتكامل الضمنى أو الزمنى بينهما. على الرغم مما قد يكون بينهما من إختلاف ظاهرى هذه التقنيات غالبا ما تستخدم فى المشاهد المتعلقة بالأحلام وحالات الإضاءة الخلفية أو الخطف خلفا المعروفة فى فنون الآداب والسينما والمسرح والتلفزيون عندما يجرى الجميع بين الماضى والحاضر."
ومع كل ما تقدم...
" يبقى جسد الممثل هو العنصر الأساسى الذى يمكن أن يعتمد عليه الفن المسرحى لإيجاد وحدة بين الفضاء المسرحى وتجيزاته والإضاءة."

مراوغة الصورة بين النص والعرض:
" التلاعب الذى يمكن أن يقوم به السينوغرافى بالفضاء المسرحى ليحكى لناقصة يفوق المعنى السياقى للنص الواقعى أو الطبيعى أو ما بعد الحداثى."
من هنا يمكن القول أن " السينوغرافى بما يتمتع به من معرفة جيدة فى مجال تحريك الصورة هو الوحيد الذى يمكن أن يستكشف العلاقة بين الجسد والمسرح من خلال الرسومات ذات البعدين والماكيت ذى الأبعاد الثلاثة ، وهو الذى يمكن أن يبنى الصورة المسرحية الكاملة."
ومن المعلوم أن " هذه الصورة التى تعمل انطلاقا من الجسد وبإتجاه الخارج إلى الفضاء المسرحى ، لا بد ان تغرز بدراسة متطلبات النص والسيناريو والليبرتو (نص الأوبرا)."

فعل الصورة على المسرح بين السينوجراف والمخرج:
" إن فعل إبداع الصورة على خشبة المسرح بدءا من الممثل وتعرّف السينوغرافى بالمخرج المسرحى الذى يعمل جنبا إلى جنب مع مخرج النص ، فالمخرج يمتلك عادة مقدرة أدبية جيدة ، إلا أنه غالبا ما يجهل أو يخاف من تنشيط الفضاء المسرحى.. وهذا مصدر خلاف كبير وخيبة أمل وإحباط للسينوغرافى الذى يرى فى ذلك إضاعة للفرص

السينوغرافى المبدع هو الذى يعطى المخرج ما يريده دون أن يطلبه من رالف كولتاى فى كتابه (استكشاف الفضاء المسرحى.)


الهوامش:

1. أحمد الماجد"، " ثقافة الصورة .. وأثرها على الخطاب المسرحى (جريدة الفنون) السنة الثامنة ع25 الكويت – المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب ، يناير ، كانون 2008 ص16
2. نفسه
3. نفسه ، ص16
4. محمد إبراهيم " المسرح والصورة وديكتاتورية المخرج "جريدة الفنون" نفسه ص16
5. الماجد مرجع سابق ، نفسه ص16
6. ارتو ، مقتبس فى أحمد الماجد ، المرجع السابق نفسه ص16
7. محمد إبراهيم" المسرح والصورة ودكتاتورية المخرج" (جريدة الفنون) المرجع السابق ص17
8. نفسه ص17
9. محمد إبراهيم ، المرجع السابق ذاته ص17
10. مقتبس فى محمد إبراهيم ، ذاته ص17
11. محمد إبراهيم ، نفسه ص17

ليلة زفاف اليكترا بين الفرجة والتجريب

صمم الفنان السينوجرافى زوسر مرزوق معادلا تشكيليا لموضوع مسرحية (ليلة زفاف اليكترا)1 وهذا المبحث مراجعة نقدية لرؤية الفنان ومدى تطابقها مع مكونات الصورة المسرحية على المسرح من ناحية ، ليصل إلى تحقق المعادل التشكيلى لموضوع المسرحية من عدمه.
المسرحية تتعرض لإستحالة التزاوج الطبقى مرتكزة على لعبة تشخيص الأدوار بين الممثلة والممثل ، الشخصيات متعددة ومتباينة وتقوم الممثلة فيها بالعدد الأكبر من الادوار الى جانب دور اليكترا الذى هو دورها الرئيسى ، ومن تلك الأدوار التى تقوم بتشخيصها بأسلوب التمثيل داخل التمثيل كانت أدوار لا يقتصر – الإستخبارات بيريا فضلا على دور العامل الثورى بينما تقوم الممثل بدور الفلاح وهو الدور الرئيسى وكلها شخصيات معادلة للرموز ، فهى شخصيات مجردة ، وإن كانت تمثل اسقاطا على واقع التطبيق السياسى الإنتقال من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الإشتراكية وفق فكرة تحالف تلفيقى بين نماذج من الطبقات الدنيا ونموذج من الطبقة الحاكمة العليا التى يتسم حكمها بالشمولية والديكتاتورية العسكرية التى تغير أقنعتها السياسية بشكل دائم ، ولأن المسرحية تستحضر حالة الإنتقال السياسى الإقتصادى والإجتماعى فى مجتمع أقرب إلى مجتمعات دول ما يعرف بدول العالم الثالث الذى تحرر من الإستعمار بعد كفاح وطنى مرير ، فإذا به لا يجد إتجاها سياسيا مناصرا لقضايا التحرر الوطنى سوى الإتحاد السوفيتى بتوجهاته المعلنة ولشعاراته نحو الإشتراكية وسيلة لتحقيق العدالة الإجتماعية ولأن النظرية الماركسية التى بنيت عليها فكرة الدولة الإشتراكية لا تنجح إلا وفق التدرج الطبيعى التاريخى للمراحل السياسية حيث النظام الإقطاعى هو التطور الطبيعى والتاريخى للأنظمة العيودية والرأسمالية هى التطور التاريخى للنظام الإقطاعى والنظام الإشتراكى هو التطور التاريخى الطبيعى للنظام الرأسمالى ، وبغير ذلك التدرج لا يستقيم يستمر البناء السياسى ، وكل هذه المراحل الإقتصادية السياسية والإجتماعية لتطور الأنظمة بالإنتقال المتدرج وفق شروط ذاتية موضوعة فى آن واحد أمر حتمى لا يتحقق بغير نصال الطبقات صاحبة المصلحة فى التغيير ، وكل محاولة للتزاوج بين طبقة أدنى وطبقة أعلى تحت مسميات التحالف السياسى من أجل أحداث التغيير والتسريع والإنتقال بالنظام السياسى من مستوى تاريخى إلى مستوى تاريخى أعلى تال له ، محكوم عليها بالفشل لتضارب المصالح والأهداف الرئيسية بينها ، وهذا ما حدث فى الدول الشمولية التى انتقلت إلى مرحلة الإشتراكية انتقالا مباشرا من مرحلة الإقطاع لروسيا والدول التى اتحدت معها لتشكل جميعها امبراطورية الإتحاد السوفيتى ، وكذلك فشلت دول الكتلة الأوربية الشرقية ودول التحرر الوطنى الإفريقى والأسيوى لمصر والجزائر وليبيا وسوريا والعراق واليمن الجنوبى وأثيوبيا والصومال وغيرها.
كان بصر الفنان السيوغرافى زوسر مرزوق متجها إلى الزاوية التى نظر منها مخرج العرض د.أبو الحسن سلام ، مواكبا لتحليله لنص الشاعر مهدى بندق الذى يرفض فكرة التزاوج بين الطبقات ويجسد سقوط نظريتها السياسية التلفيقية. لذلك كانت رؤيته التشكيلية السينوغرافية شديدة التجربة وشديدة البساطة والتكثيف البصرى ، إذ لم يزد المنظر عن محموعة من الحراب المنتصبة رأسيا فى خلفية منصّة العرض على هيئة قوس يمتد بين نصالها حبل يربط بينها ، علقت عليه أزياء الشخصيات بحيث يتناول الممثل أو الممثلة الزى المناسب للدور الذى ستشخصه ، وما أن تنتهى من الموقف التشخيصى للشخصية تخلع قطعة الملابس وتعلقها على الحبل لتأخذ غيرها المناسب لتشخيص شخصية غيرها وهكذا.
وليس على أرض المنصة سوى مكعب خشبى صغير يتخذ الجلوس أو للوقوف فوقه إذا تطلب الأمر إلقاء خطبة سياسية أو ما شابه ذلك.. أما الإضاءة المسرحية فقد مالت الى اللون الأبيض أو الأصفر البرتقالى ، دون بؤر ضوئية إلا فى نهاية العرض عند قتل الفلاح لاليكترا التى زوجت له رغما عن انفه وانفها ، حيث انتهى إلى قناعه بأنها أنبل من أن يدنس ثوبها بلمسة من يده.. وقد كان قصد المؤلف والمخرج أيضا أن فكرة الإشتراكية أنبل من أن تتزاوج مع طبقة الفلاحين (البرجوازية الصغيرة) ولا يخفى على فاقدنا به أن يدرك أن المسرحية هى اسقاط سياسى على تجربة مصر فى الستينيات نحو تطبيق النظام الإشتراكى وفشلها الذريع وتتحقق الفرجة فى هذه الصورة السينوغرافية من خلال لعبة لاستبدال الملابس المسرحية أمام الجمهور مواكبة للعبة تبديل الأدوار على المكشوف والقدرة على معايشة الممثل أو الممثلة للدور تبعا لنوعية الزى فالممثل لا يغير أداءه إلا بعد أن يرتدى الزى المغاير للزي الذى كان يرتديه ، فكأن الزى هو الذى يحدد الشخصية وهنا يكمن التجريب ويتلازم مع فرجة التشخيص.



الهوامش:
1- مهدى بندق ، ليلة زفاف اليكترا ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987

الشعبية والمسرحانية
أشكال الفرجة فى المسرح الأفريقى


عن مسرحيات فيمى أوسوفيسان يقول محمد مبارك بلال1 ان مسرحياته: وشونيكا
" فمسرحياتهما مليئة بأشكال الفولكلور الأفريقى النيجيرى ولكنه محبوك بطريقة ذكية وجميلة ليبدو كأنه جزء من نسيج البناء الفنى للعمل المسرحى.. وهو ما يسهم فى حلق تقاليد فنية أفريقية خاصة تصبح مع تداولها ومرور الزمن جزءا أساسيا فى بناء المسرحية ووسيلة فعالة فى إيضاح (وإيصال) الخطاب المسرحى الخاص بالفن المسرحى الأفريقى والنيجيرى بوجه خاص. ومع كل ذلك فإن مسرحية (ارنجندن والحارس الليلى) تحتوى على العديد من التنويعات فى الصراع وفى البناء الفنى أيضا.
ذلك أن الصراع فى تلك المسرحية "يدور على عدة مستويات أولها: المستوى الموازى للصراع العام الذى يدور حول مجمل أهل المدينة وبين اللصوص والفساد. ولكن المستوى الثانى: يتضح من خلال شكل فنى يخضع لتقاليد الفنون الأفريقية وهو ما يصوره المؤلف بعبقرية كرقصات فولوكورية بين الرجال والنساء.. الأمر الذى يضفى على المسرحية أيضا روحا من الفرحة والجمال والتشويق"
كذلك يوظف المؤلف الأشعار التقليدية مستخدما لغة "اليوروبا" الأفريقية بديلا عن رتابة الراوى.


• خطاب النص:
يوجه المؤلف اتهاما دامغا للمارسات اللإنسانية ويفضحها أمام العالم ، مسهما بذلك فى صحوت افريقيا من سبات الخرافات والروح الوصولية . وفى المسرحية تقتل الشخصية الطيبة والواعية لأهمية الخطاب التقدمى فى حياة الناس (أباندى – يولى) وبعد قتلها للشخصية (آرنجندن) رمز الإستبداد تقتل نفسها.

أولاً: الفرحة الشعبية فى المسرحية الأفريقية:
يشكل السوق الشعبى العام أحد أهم معالم المدن والقرى الأفريقية على حد سواء . وللسوق – كما فى قرانا – يوم معين من أيام الإسبوع يقام فيه. وهو يوم متغير ما بين قرية وأخرى ويعد يوم السوق يوم إحتفال عام ، يهتم به كل سكان القرى حيث يخرج الجميع لاستيفاء حوائجهم اليومية ما بين أسبوع وأسبوع تال له.. ففى ذلك اليوم –يوم السوق – يعرض صاحب الشئ المعروض للبيع سواء أكان على هيئة بضائع أو (أزياء – أحذية –معدات – منتجات زراعية – توابل وخلافه) أو مواشى ، وتقام المزادات . وفى السوق تقام المقاهى الشعبية المتنقلة فى أركان متعددة من السوق ، وتكثر الألعاب الشعبية فى يوم السوق ، كالتحطيب والسيجة والغناء الشعبى على آلات إيقاعية والمزامير ، كما يتغلغل الخضراء والمزينون والحواه تجاصر بين كبار السن والمخبرون السربيون بين الناس ، ويتسلل النشالون والغجر ويروج سوق العرافين والمنجمين وضاربات الودع وقارئى الكف والسماسرة والدراويش والمتسولون والبهاليل والمتكعون ولا يختلف الأمر كثيرا ما بين قرية أفريقية فى بلد وقرية افريقية فى بلد آخر مغاير.
ولأن التجمع فى الأسواق تتداخل فيه كل تلك الأنشطة التفاعلية المتنوعة الأغراض وتتنوع أساليب التعاملات ما بين المنفعة المتبادلة و روح الفرحة ، حيث يجد المتأمل لها حالة من الإنفراج أو الإنشراح والبهجة ، معادلة لحالة الإنشراح التى يجدها ذلك الخلق الكثيف من المتعاملين فى السوق .
ولما كانت مسرحية (ارنجندن والحارس الليلى ) تبدأ تقديمتها الدرامية بمشهد السوق ، لذا وقف البحث عنده أمام أشكال الفرجة الشعبية فى اشتباكها مع أشكال الفرجة المسرحانية ، بما يكشف عن طبيعة الصراع بين ثقافتين وصراع يعبر عنه المؤلف فى عدد من المواقف فى مواجهات متفرقة بين أصحاب الثقافة الشعبية والتراثية المتحصنة بالهوية وأصحاب الثقافة المتأورية من المثقفين القلائل ،حيث تتكرر المواجهات بينهما:

"القنصل: ... إنك تخاف أن تفقد سيطرتك الموروثة على الناس ! ومع أن رعيتك يتهددهم الخطر ، كنت أنت لا تفكر إلا فى ما يهدد عرشك.
أولودى: وأنت أيها القنصل صاحب الكلمات الكبيرة ماذا ترى؟
القنصل: أنا اعرف يا أولودى أن الناس انتخبونى لأنهم يريدون الحياة وليس الموت موسميا بشراك الصيادين العشوائية ! ولأنهم يودون النوم دون أن تزعجهم كوابيس العنف ! ويرتادون الشوارع بأمان .. دون الوقوع فى شباك المجرمين ! كيف يكون لحياتهم أى معنى بينما اللصوص يسيطرون على أحلامهم وأفكارهم
بالى: ليس من تقاليدنا الرد على مهاترات شخص متهور" 1

على أن ذلك التباين بين ممثلى الثقافة المتشبثة بهويتها التراثية وممثل الثقافة المتأوربة ترتكز كل منهما على وجه سياسى نقيض للآخر
"أولودى: تصور ، أيها القنصل لو أن السماوات التى تغطى هذا العالم تهدد بالإنهيار ، هل يستطيع أىٌ منّا أن يوفر الملجأ فى عالم يسحق بالكامل.
بانونهون: فى تلك اللحظات التى يتحول العالم إلى قطع متناثرة لا يمكن أن يكون لموت فرد واحد أى أهمية.
القنصل: ليس بالنسبة إلى يا بانونهون ، فأى حياة لها أهمية فى كل لحظة.
بانونهون: لا بد أن تقصد كل صوت انتخابى.
القنصل: لن تستطيع استدراجى كى أغضب.
أولودى: هذا الموسم محمل بالشؤم لقد أعلنها العراف "أفا" قائلاً : عند كل هبوب ريح أو نفحة غبار ، سيأتى الموت طائراً" 2 ولذلك يجب ان نطرد الموت خارج حدودنا وإلا فإن نهايتنا ستأتى قبل موعدها المعلوم.
بانونهون: نحن لسنا بأصنام أيها القنصل. فنحن أيضا نعانى بسبب مشاكل أصدقائنا ، ولكننا نحتاج للوقت لإقامة الطقوس المناسبة.
القنصل: ولكنى ليس الذى أى وقت أضيعه ، أتفهمون؟ إن الوقت مثل الرياح التى تعصف بحياة الناس الذين منحونى ثقتهم. " 3
"القنصل: إن نبوءتك لا تحقق حاجاتنا الملحة"
"بانونهون: حسنا .. الطفل يتباهى بثيابه الجميلة ، أكثر من تفاخره بثياب آبائه ، ولكن افترض بأن ما نحتاج إليه هو ثياب رثه ، ماذا سيكون موقفه حينئذ؟
أولودى: لا أفهم كيف يمكن لأحد الحديث عن القوة دون الإعتماد على وحى من السماء.
القنصل: يمكنه ذلك حتى يمسك ببندقية بين يديه.
بالى : إنك تدهشنى أيها القنصل: وماذا عن القانون إذن؟! إن القانون شبيه بالحرباء فهو يتكيف حسب متطلبات القوة ! 4
هكذا يتبين الفرق بين ثقافة التدرع بالهوية الثقافية التراثية وثقافة براجماتية ، تنفذ مباشرة إلى النفعية ، دون مواربة ، وهو فرق بين ثقافة تحترف العمل السياسى ، مدرجة أنها فن التعامل مع الواقع ، وأنها فن توظيف القوة ، عندما تكون هناك ضرورة لتوظيفها حفاظا على مصالح النخبة الحاكمة ، وتوظيف الملانية والمراوغة عندما تكون هناك ضرورة لتوظيفها حفاظا على مصالح النخبة الحاكمة التى تسن ما يناسبها من القوانين التى تحفظ عليها سلطانها وسيطرتها على السوق وتسيير البلاد فى المسار الذى يخدم مصالحها ويقوى من قبضتها على مصائر البلاد.
وعلى الرغم من ذلك ، فإن موازين الأمور كثيرا ما يتغير اتجاهها ما بين صعود كفة طرف معارض ، تبعا لما يملكه من ثقل شعبى وهبوط كفى يتربع فيها الطرف المسيطر: " تسمع هتافات المواطنين"
بالى: هناك قانون واحد فقط ، ذلك الذى أقسمت بأن تدافع عنه.
القنصل: لقد كان قسمى يا بالى ، أن اخدم الناس بإستخدام القانون كسلاح ، ولكن عندما يصبح هذا القانون عائقاً أمام أداء خدماتى للناس فإنه يجب أن يغير ! (تسمع الهتافات ثانية)
بآلى: (يخاطب الجماهير بغضب) اصمتوا يبدو لى بأن آرنجندن قد خرب عقولكم جميعا ! تذكر أيها القنصل أن الخوف شئ والحرية شئ آخر . وأن هناك أناسا يسبحون مع تيار النهر ، بينما يسبح آخرون ضد هذا التيار.
القنصل: (مقاطعا) وهناك أيضا أولئك الذين لا يسبحون بالمرة !!
جباديجسن: أيها القنصل
القنصل: (مقاطعا) كفى لقد سمعت ما فيه الكفاية ! اختبئوا ورا نبوأتكم أو احتموا خلف القانون ! ولكن عندما يتطاير الرصاص لا تقولوا بأنكم لم تنذروا !
بآلى: شكرا لك ، ولكننى أحملك إنذارا أيضا يمكنك أن تقوله لصديقك آرنجندن المتعطش للدماء.. إن هذه المدينة لم تعد تتحمل أمثالكما ! إننى أكرر ما سبق أن قلته ؛ بأن هذه مدينة ، وليست ميدان معرفة ، إننا أناس متحضرون هنا ! وما دامت هذه القبعة على رأسى ، وقدماى ترتديان هذين النعلين المصنوعين من الخرز واللذين ارتادهما أجدادى من قبلى ، فإنه لن يكون هناك إطلاق أى رصاص والجريمة سيتم التحقيق فيها ويعاقب الفاعل بقوة القانون .. ولن يتغير إيقاع حياتنا المحكومة بنظام الفصول ، كما رسمتها القوى الإلهية ! 5
لا شك أن هذه المواجهة السياسية بين قوى سياسية مسيطرة وبيدها سلاح القوة وسلاح القانون المتغير وفق إرادتها ومعارضة يقف خلفها تيار شعبى يسبح ضد اتجاه رياح السلطة الممسكة بمقاليد الأمور فى تسيير البلاد تبعا لمصالحها ، تنتهى لصالح القوى الحاكمة ، ذلك أن وجهتها البرجماتية تسير وفق وضوح لا إزدواجية فيه ، فى مقابل إزدواجية ثقافية ملتبسة بين وجهين أحدهما يتظاهر بالتمد: متباهيا بمظاهر شكلية للتمدن:
"مادامت هذه القبعة فى الوقت الذى يتشبث بعادات اجداده :" وقدماى ترتديان هذين النعلين المصنوعين من الخرز ، واللذين ارتداهما اجدادى من قبلى"
لقد عكست هذه الإزدواجية الثقافية نفسها على سلوكها السياسى ، إذ اتخد مسار الوسطية فى إتخاذ القرار السياسى
"لن يكون هناك إطلاق أى رصاص والجريمة سيتم التحقيق فيها ويعاتب الفاعل بقوة القانون.ولن يتغير إيقاع حياتنا المحكومة بنظام الفصول ، كما رسمتها القوى الإلهية " 6
ولنا أن نلاحظ قرارة الوسطى : لن يتغير إيقاع حياتنا المحكوم بنظام الفصول ، كما رسمتها القوى الإلهية" فتلك ثقافة النهر ، فحياة الإفريقيين كما هى حياة الآسيويين محكومة بفيضان النهر وتغيير الفصول ، وفق نظام مركزي يسير فى مسار آلى لا يتجاوز فى تغيره الآلى حدود الفصول الأربعة . هى ثقافة مركزية تسير مركزية التفكير ومركزية إتخاذ القرار ، فى مقابل ثقافة أنبنت على التغير تبعا لتغير المصالح ، مصالح النخبة ، فنحن إذن بإزاء صورتين لوجهة الصراع فى البلاد الأفريقية بعد الكوولونيالية صورة طرف معارض متمسك بهوية ملتبسة بين مظهرين أحدهما سطحى يتلبس قناع المدنية ، والآخر ساكن تحت الجلد ، كامن فى الاعماق ، يشكل جوهر الوجوده نفسه تبعا لمركزية الوجهة الفكرية العقيدية التى هي يشير القرار رد فعل ، غير متكافئ مع الديمقراطية المركزية لقرار التسلط الحاكم الذى تواجهه.
وتلك هى إشكالية الواقع الأفريقى فى مرحلة ما بعد الكولونيالية ، التى استطاع "فيمى أوسوفيسان" وكذلك "وول شونيكا" التعبير عنها مسرحيا بمهارة ووعى سياسى واقتدار فنى وحرفى يمزج الفكر بالفرجة ، الملتبسة بين ما هو شعبى وما هو مسرحانى ، على النحو الذى نراه من مهارة التخلص الدرامى بالإنتقال الناعم من موقف المواجهة إلى موقف التلطيف بالغناء:
"(يخرج القنصل غاضبا ، ويتبعه بعض مشجعيه بينما يبدأ المداح المغنى أغنية لتهدئة بآلى)"
وعلى الرغم من حدة القرار القاطع الذى اتخذه كلا الطرفين كل فى مواجهة الآخر ، إلا أنه من المؤكد أن خلخلة فكرية داخلية ، لا بد وأن تحدث ؛ لتكشف عن ميل إلى روح التفاوض ، خروجا من حالة التصلب التى اتخذها كلا الطرفين المتصارعين ، كل منهما ينتصر لمصالح من يمثلهم ، على أساس أن التفاوض عمل من أعمال السياسة قبل إتخاذ القرار أو بعد إتخاذه ، والتفكير والتراجع عن بنود أو جوانب منه بهدف الإتفاق على حل وسط بعيد عن لغة التعالى والإستفزاز وأيضا للغة الإدعاء بالتفرد بملكية الحقيقية المطلقة حتى تتزن الأحوال وتتقارب المصالح بين الطرفين المتصارعين بديلا عن مصادرة كل طرف للآخر ؛ لذلك يخرج أحد المثقفين بإقتراح وسط على بآلى:
"الدكتور: (متقدما بإتجاه بآلى) أرجو المعذرة يا بآلى
بآلى: تكلم يا بنى.
الدكتور: اعتقد يا بآلى بأن فكرة ارنجندن...
بآلى: نعم؟
الدكتور: ربما تكون الفكرة ليست سيئة إلى هذا الحد...لو...
بآلى: شكرا لك أيها الطبيب ، لقد سمعت بما فيه الكفاية ! إذا كنت تقول بأن وحى السماء يؤكد ان الكوارث قادمة فمن المؤكد بأن واجبنا مقاومتها بكل ما...
أولودى: (مقاطعا) نعم بكل طاقاتنا أيها الطبيب .. تلك التى جربت من خلال الشعائر والأضاحى ! فى الإحتفالات التى وجدت منذ قدم الأرض التى تقف عليها الآن. هل تجرؤ على القول بأن ذلك غير كاف ؟!
الطبيبن: ولكن أرنجندن يقترب.
أولودى: (مقاطعا) لا داعى للإستمرار أيها الطبيب لقد اسمعت إلى الشيخ منذ قليل..." 7
هكذا نبتدى ثقافة الفكر الإرهابى ، فكر مصادرة الآخر ، وأخصائه عن طريق قمعه عبر لغة التعالى والإدعاء الزائف بإمتلاك الحقيقة المطلقة. تلك السلوكيات التى سادت البلاد التى ما أن تحررت من المستعمر الأوروبى إلا ووقعت فى براثن زمرة من المنتفعين الذين قطفوا ثمرة نضال شعب بأكمله بذل الأرواح وكل غال ونقيس فى سبيل طرد المستعمر الأجنبى ؛ وبذلك أممت البلاد بعد التحرر لصالح ثلة من المنتفعين الذى مهدت لهم أوضاعهم القيادية لحركة نضال شعبهم للمستعمر أن يغرلوا رفقا ، السلاح ويصادروا السلطة ، ويحتكرونها ويسيرونها البلاد فى إتجاه منافعهم الذاتية ، وبذلك تتوقف مسيرة التقدم بالبلاد ، ويصبح الرجل الأسود كبرومثيوس أسير دورن لا نهاية له ، يشقى شقاء لا نهائيا ، ولا أمل له فى الخلاص من إستعباد أبيض أو أسود ، فهو مقيد بالمعتقدات الخرافية ، لم يتخلص منها ، إذ تعمل الزعامة الوطنية المتدرعة بالعادات والمعتقدات الخرافية إلى تكبيل شعوبهم بأحابيل الموروث ، حتى تظل الشعوب تابعة لأهوائهم مغيبين ، لا حول ولا قوة لهم بدون تلك الزعامة الوهمية المتقنعة بالمعتقدات الدينية والخرافية ، حتى لا يملك الفرد العمل على رعاية حقوقه أو ممتلكاته ، أو العمل على استردادها وإنما يكتفى باللجوء إلى الخرافى ، والتواكل على أرواح الموتى والتمائم ، هكذا كان حال التجار بعد أن نهيت متاجرهم عصابة مسلحة
"بانونهون: فاتوس إنك رجل
"فاتوس: (مقاطعا) لا ...! يا بانونهون أنا انتهيت ..انتهيت.. سوف أموت
بيمبو: كل شئ فى المتجر ، وخامة تلك الملاكبس الثمينة ، التى لم أدفع ثمنها بعد ، ولم تخرج من صناديقها .. آه.. ومجوهراتى.. سانجو انتقم لى منهم يا سانجو.. اقبض عليهم من أجلى.. دمرهم..
أورسا: أربع وأربعين دراجة كلها جديدة (يريهم السلاسل المكسورة) لقد حطموا القفل ، انظروا ، لقد دمروا حياتى ! " 8
"إليبوتى: جميع أجهزة الستريو ! آه.. إن هؤلاء اللصوص أشرار ! جميع أجهزة التلفزيون وكل شئ .! إن الإله "أسيو" يعاقبنى مرة ثانية .. آه لقد انتهيت..
بيمبولا: آه كم طلبت كم والدتى ألا تخلد للنوم فى قبرها بسرعة ، كان يجب أن تترك عينا واحدة مفتوحة دائما لحراستى: أماه لماذا هجرتنى اليوم؟ (يحاولون تهدئتها)9
هكذا فى ظل سيطرة عصابة على مقاليد الحكم فى البلد بعد تخلصه من المستعمر الأبيض يتحول البلد إلى ضحية بسطوة سلطة ظلامية تتقنع خلف المعتقدات الدينية الملتبسة بالخرافات تغيّب وعيه وتبطل تفكيره مجرد التفكير فى التحرك قيد أنمله فى إتجاه الخلاص من قيد الخرافة ، وسطوة سلطة تتقنع خلف التمدن والتحضر تستنزفه وتقمعه وترهبه.. فهو مقيد بين ارهابين أحدهما فكرى والآخر إرهاب دموى مادى ، وهكذا لم يعد هناك فرق جوهرى بين حال الشعب قبل التحرر أو بعده.
ومن اللافت للنظر أن كلا السلطتين على ما بينهما من تناقضات غير جوهرية ، يتعايشان على خنوع الشعب ، فضلا عن دعم كل منهما للآخر ، الأول يرهب الشعب باستباحة أموالهم وأرواحهم والثانى يمهد له ، بتهوين ما حدث على الناس :
" بآلى: (صارخا فيهم) نعم أعرف ذلك ! جميع مدخرات حياتكم استمعوا إلى وماذا عن لا ميدى.. نعم لاميدى!
آويسا : آه .. أجل.. الحارس الليلي ؟
فاتوسن: أين هو؟ أين اختفى ذلك الجرذ؟
بيمبولا: أين كان ذلك الأحمق عندما حدث كل ذلك؟
إليبونى: نائما بالطبع كالعادة ! مع كل ما ندفعه له ..أجر!
أوريسا: أخبرنا ، اين يختبئ يا بآلى ؟ اتمنى ان اتحدث إلى هذا الظربان!
بآلى: (بهدوء) كل حياته
فاتوس: ماذا؟!
بآلى: حقيقة أنكم فقدتم بضائعكم وأرباحكم ، ولكنه فقد حياته كلها (صدمة جماعية) كان يحرس بضائعكم الغالية جدا ، فأتوه وذبحوه وتركوه ملقى هناك ، إن ما ترونه هناك ليس ماء ولكن دماؤه (ينخفض صواتهم) ستقام جنازته فى القصر ظهر هذا اليوم وأتوقع حضوركم جميعا ! هيا بنا "
ولأن لبقة التجارة (الطبقة المتوسطة) براجمايته التوجه بحكم إقتصاد منافعها التداولية المتغيرة فى إطار تدوير الثروة فى عمليات البيع والوساطة والشراء الآلية ودائرية رأس المال ، فإن المسألة لا يمكن أن تنتهى عند ذلك الخطاب التلهية الفسحة بالدين ، لذلك يتحرك عدم الرضا المكبوت عند تطيبات الشيخ ، فور ارتفاع صوت أحد مثقفى الطبقة الوسطى (طبقة التجار) فتنطلق ألسنتهم وترتفع أصواتهم:
بيمبولا : (تعترض طريقه) ولكن أيها الشيخ.
(يدخل المدرس أبيندى ترافقه بوبى ، وهما فى حالة إرتباك طاهر)
بآلى: (يقف) نعم . إنى مصغ إليك
بيمبولا: وماذا عن مصيرنا؟
بآلى: وماذا عن مصيركم؟
بيمبولا: من الذى سيقوم بتجهيز جنائزنا نحن؟
بآلى: إنى لا أفهم ما تقصدين؟!
بيمبو: ألا تعرف أن ما حدث يعنى موتا بالنسبة إلينا أيضاً !
بآلى: أنا
فانوس: (مقاطعا) إنها على حق أيها الشيخ . إن هذه السرقة أكبر من سكين فى الرقبة ، ويمكنه الراحة منذ الآن .. والميت لم يعد لديه ما يقلقه .. ولكننا نحن الذين يجب ان نعيش ونطعم أولادنا
بيمبو: نرى العجائز والمرضى . آه قريبا سيأتى عيد الفصح وهو ميعاد استبدال سقف كوخ والدى بصفائح المعدن بدلا من القش .. كما وعدته .. إن والدى شيخ عجوز أيها البآلى وموسم الأمطار سيبدأ قريبا جدا .. آه يا إلهى .
إليبونى: انظروا ، ها نحن فى منتصف الطريق وجيوبنا خاوية بينما بالأمس فقط ، كان أى وحد منا قادرا على شراء المدينة بأسرها." 10
تتكشف المسألة بعد ذلك عن أن ارنجندن هو الذى دبر عملية السطو على المتاجر ، حتى يرغم البلد على تحقيق طلبه بتجييش العسكر من بين المتطوعين بحجة حماية أمن البلد ، بينما هو يريد عمل إنقلاب على القنصل (رمز السلطة القانونية والتشريعية) وعلى (بآلى) رمز السلطة الدينية
"بوبى : ابحث فى داخل روحك
حيث تختبئ
فضتك وذهبك
أنا خلد أنا خلد
(القنصل يدور بشكل مفاجئ ويبدأ بمتابعتهم خارجا ، ولكن البآلى يتحرك باتجاهه ليوقفه
بآلى: انصت أيها القنصل.. أيها القنصل ! أيها القنصل..
لقد كنت على حق ، بالتأكيد ان الناس لا يحتاجون إلى الحرية ولكن خوفهم...
(يواصل القنصل طريقه إلى الخارج)
أخبرنى يا أرنجندن ، كم رجلا تريد؟
ارنجندن: أنا احتاج إلى كل من يريد التطوع.
بآلى: ولكن لن يكون هناك الكثير الذين يستطيعون استخدام البنادق
ارنجندن: اعرف ذلك فقد ربيتهم ابناءك على أن يكونوا رهبانا، وموظفين ، ولكن لا تقلق اذا انضموا إلى فسوف أعلمهم كيف يطلقون النار.
بآلى: سوف يكون لديك جميع الرجال الذين تحتاج إليهم
بانونهون: تريث أيها البآلى
ارنجندن: جميعهم تحت أمرتى ولا احد سواى.
بآلى: (بعد لحظات الصمت ) نعم تحت امرتك" 11

وهكذا ينسحب رجل القانون ، ليترك الساحة خالية أمام رجل الدين ورجل الأمن المتربص للإنقضاض على الحكم والإنفراد بها ، بعد أن دبر مؤامرة السطو المسلح الإرهابى على المحلات التجارية وقتل الحارس ، مما اتاح له أن يشكل جيشا من المرتزقة الذين تربو تربية دينية ، تمكن عن طريق تدريبهم وقيادتهم من فرض السيطرة الأمنية ، برضا رجل الدين ، ومن ثم تحول إلى مستبد عسكرتارى يشيع الرعب فى كل الناس ، ويقتل أول ما يقتل المدرس ذلك المثقف التنويرى ، لينتهى الأمر بقتل (يوبى) ابنه القنصل – رجل القانون – له قبل أن تنتحر بالسلاح نفسه.
وهى نهاية تكشف عن رؤية المؤلف "إيمى أوسوفيسان" نفسه فى طريقة الخلاص من الإستبداد الفردى العسكرتارى عن طريق الإغتيال السياسى .. وهو حل لا ينبع من رجل على علاقة وطيدة بالعمل السياسى ، لأن اغتيال الحاكم المستبد لا يمكن أن يؤدى إلى خلاص شعب وحصوله على حق تقرير مصيره ، لأن الحاكم الفرد ليس أكثر من رمز للهرم الإدارى للنظام الحاكم للبلاد ، بآخر مستبد فردى آخر ، قد يتقنع خلف قناع العدالة إلى أن يوطد أقدامه ويريح مقعدته على سرير الحكم.



الهوامش:


1. فيمى أوسوفيسان ، أرنجندى والحارس الليلى ، ترجمة د.محمد مبارك بلال ، سلسلة إبداعات عالمية (342) الكويت ، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب ، يونيو 2003 الأول ص31 ..
2. المصدر السابق ، نفسه ، ص ص31-32
3. نفسه ، ص33
4. نفسه ص33
5. نفسه ، ص ص34-35
6. نفسه ، والصفحة [email protected]
7. نفسه ص ص 35-36
8. نفسه ، ص39
9. نفسه ، والصفحة
10. نفسه ص41
11. نفسه ص ص48-49



#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفرجة التفاعلية وتأثيرات فنون الميديا
- الرأي العام في بيت طاعة الاخوان
- رجالة قيصر وحريم النار
- فنون الطفل بين القانون الطبيعي والقانون الرياضي
- عروض النوادي والإبداع الافتراضي
- حيرة الناقد المسرحي أمام جهود العشماوي البحثية
- الدين والدولة - حوار عن بعد بين متأسلم و مسلم علماني
- الفاعل الفلسفي في الإبداع المسرحي
- فكرة المخلص ( المستبد العادل ) في المسرح الشعري
- المسرح بين أدب السيرة والتراجم الأدبية
- هل يمكن تعلم الإخراج
- الناقد يتأبط نظرية
- استلهام الكاتب المسرحي للتراث بين الارتباك الاتصالي والوعي ا ...
- تشريح نصوص مسرحية
- الإبداع بين الحرية والالتزام
- هوامش مهرجاناتية
- الثقافة الجماهيرية من ثروت عكاشة إلى فاروق حسني
- مسرح الثقافة الجماهيرية بين المد والجذر
- درامية التعبير الصوتي في فن الأداء المسرحي
- فنون التمثيل داخل التمثيل بين بيرانديللو ومحمود دياب


المزيد.....




- أضرار البنية التحتية وأزمة الغذاء.. أرقام صادمة من غزة
- بلينكن يكشف نسبة صادمة حول معاناة سكان غزة من انعدام الأمن ا ...
- الخارجية الفلسطينية: إسرائيل بدأت تدمير رفح ولم تنتظر إذنا م ...
- تقرير: الجيش الإسرائيلي يشكل فريقا خاصا لتحديد مواقع الأنفاق ...
- باشينيان يحذر من حرب قد تبدأ في غضون أسبوع
- ماسك يسخر من بوينغ!
- تعليقات من مصر على فوز بوتين
- 5 أشخاص و5 مفاتيح .. أين اختفى كنز أفغانستان الأسطوري؟
- أمام حشد في أوروبا.. سيدة أوكرانية تفسر لماذا كان بوتين على ...
- صناع مسلسل مصري يعتذرون بعد اتهامهم بالسخرية من آلام الفلسطي ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أبو الحسن سلام - مباهج الفرجة الفنية بين تقنيات الكولاج وتقنيات الكليب