أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد الحروب - درويش بين الاحتكار والابتذال!















المزيد.....

درويش بين الاحتكار والابتذال!


خالد الحروب

الحوار المتمدن-العدد: 4007 - 2013 / 2 / 18 - 00:15
المحور: الادب والفن
    


لقد ابتذل محمود درويش وانتهى الأمر! الشاعر العظيم الذي حلّق في نص القصيدة ورفعها إلى أفق مُبهر، وليّن الحرف وأنتج ما أنتج من روائع صار يُتمسح به من قبل من لا يفقه من شعره شيئاً. تحول شعره إلى مقولات يرددها منافقون سياسيون، أو دهماء، أو تجار طامعون. ولأنه كان ولا يزال قامة فارعة الحضور يتبارى الكل في إظهار القرب إلى ذكراه وتراثه وشعره. شعره الرهيف المنسوج بعمق جواني ورمزية مركبة أصبح يُرى مكتوباً بخطوط رديئة على واجهة بقالة هنا، أو خلفية سيارة يقودها سائق أرعن، أو يتبجح باقتباسه سياسي مكروه. لقد ابتذل درويش وأسقطه من عليائه "الدهماء" وصار "مشاعاً" -هذا ما يقوله كثير من النخبة الآن في فلسطين وخارجها بتحسر تملؤه مرارة. يشيرون إلى كل مظاهر "المشاعية" ويعددون الأمثلة على الابتذال. تجار وشركات لا هم لها إلا مراكمة الربح تراها تستخدم كلمات من نصوصه، ومؤسسات رسمية تحاول مداراة فشلها السياسي أو الخدمي بامتشاق بيت شعر له تُصدّر به أوراقها وتخفي فشلها أمام الناس والمواطنين وراء ما قاله الشاعر يوماً ما.

يُشير المُتحسرون كثيراً وتكراراً إلى المقولة الشعرية الأوسع انتشاراً وابتذالًا، برأيهم، والتي صارت تُرى في كل مكان، وتسمع على كل لسان، مطرزة على واجهة كل شيء: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". "النخبة" العتيدة صارت تشعر بالبؤس والنقمة إزاء هذه الكلمات العنقائية التي تبارز الموت وتحشد الرغبة الجماعية في الحياة عند شعب مقموع من قبل محتل عنصري. لماذا؟ لأنها "ابتذلت" وصارت في كل مكان! يشير المتحسرون النخبويون إلى نصوص شعرية أخرى أو اقتباسات أنزلت من عليائها لتدور في الشوارع ومع الناس العاديين. قصيدته الغزلية الثرية بالصور والإيحاءات الرغبوية "درس في فن الانتظار" صارت مكتوبة على طاولات المطاعم، وعلى أقداح الشاي، ومقابض "الأراجيل"! الحلم الذي يدغدغ خيال كل شاعر في وصول شعره إلى الناس أياً ما كانت خلفياتهم الثقافية، وأن يُلقى ويُكتب في كل مكان صار في رأي جزء عريض من النخبة التي تدعي امتلاك درويش "ابتذالًا"!

في بدايات شعره في الستينيات كتب درويش نفسه، في "أوراق الزيتون"، منتقداً نخبوية الشعر وانقطاعه عن الناس العاديين وقال في قصيدة مشهورة عنوانها "عن الشعر": "قصائدنا بلا لون، بلا طعم، بلا صوت... إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت... وإن لم يفهم البُسطاء معانيها فأولى أن نذريها، ونخلد نحن للصمت". هكذا كان الوعي الأولي والرسالي لدور الشعر عند درويش في تلك المرحلة. وهو وعي تجاوزه في مراحل لاحقة حيث ابتعد شعره عن إدراك "البُسطا" وتعقدت حمولاته الرمزية. وفي الرحلة الطويلة التي انخرط فيها درويش انتقل من القناعة الرسالية المباشرة لدور الشعر إلى مستوى أكثر تعقيداً وتركيباً إذ توتر وتشظى بين همّ إبقاء شعره نضالياً ورسالياً مفهوماً لكل القراء والبسطاء، وهمّ الاستجابة لغواية الشعر وذاتيتها المفرطة وسماواتها اللانهائية. عبّر هو ذاته عن ذلك التشظي والتوتر الدائم في لقاءاته وفي أشعاره أيضاً، مما أضاف بعد معاناة لا تنقصه الملحمية.

حلق درويش بعيداً عن "البسطاء" وكتب شعراً معقداً استغلق في بعض جوانبه حتى على النخبة التي تدعي امتلاكه الآن، وتريد أن تصدر حظر تجول على البسطاء الذين "ينتهكون" دروب شعره ويتجولون في أبياتها وظلالها من دون تقدير عميق لكنهها. وخاض تحدياً ومغامرة بالغة في الخطورة جوهرها حمل قراءه، النخبة والبسطاء، على مرافقته في متاهات رحلته الشعرية، وتعقيداتها، ورمزيتها، وصعوبتها، والتخلي عن مباشرتها الأولى، ورساليتها الصادمة. ولم تكن لنا جميعاً القدرة على مجاراة سباقه التراجيدي مع الزمن والموت والقلق الوجودي العميق والرغبة الانتحارية للوصول إلى مرافئ "الشعر الصافي" كما كان يقول. لهث كثيرون في تلك الرحلة الأوديسية في الشعر والوطن والحب والأنسنة والفلسفة ومبارزة الموت، وكل منهم توقف عند محطة من محطاتها، بهره نص هنا، أو قصيدة هناك، فظل هناك يتأمل اكتشافه. كل مُكتشف لسر من أسرار الشعر الدرويشي أحس بشعور غريب بأنانية الامتلاك والاستحواذ، كأن الشاعر صار ملك القارئ الذي فكك شفرة الرمز الشعري، بعد طول عناء. فكيف إذن يأتي بعد كل ذلك مالك بقالة ما، أو سائق تاكسي، ليخط على جدار بقالته المتهالك، أو باب سيارته المهترئ ذلك النص الشعري الثمين المحمل بالأسرار، هكذا وببساطة؟

ليست هناك أي حاجة للتحسر والندب واللطم على "ابتذال" درويش واستخدامه من قبل "اللي بسوى واللي ما بسواش!". هذه الحالة الدرويشية العامة وترديد الجميع "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" هي ديمومة حياة الشاعر نفسه وانتصاره على الموت حتى بعد مماته. هي الحلم والأمنية التي يشتهيها كل شاعر وكاتب. التحسر والندب واللطم تكون مشروعة لو حل الموت في جسد الشاعر وحل في إرثه وشعره أيضاً ولم يترك وراءه سوى نسيانه. والمفارقة الكبيرة أن ثقافة التحسر والتأوه تثير النقمة والسخرية في آن معاً. تخيلوا لو شطبت كل الأشعار والاقتباسات الدرويشية التي تثير حنق النخبة الاحتكارية لدرويش وحل بدلاً منها مقاطع لأغانٍ رخيصة لهيفاء وهبي أو نانسي عجرم؟ عندها ستشتغل ثقافة التحسر والتأوه لتندب الحاضر والناس والشعب والانحطاط الثقافي الذي لا يلتفت للشعر والحكمة والقراءة وينساق وراء أغان هابطة. في الحقيقة يمكن القول إن الناس تحيروا في شأن "النخبة"! إذا أحبوا محمود درويش بطريقتهم واقتبسوه وغنوا معه و"ابتذلوه" فإن ذلك يثير غضب النخبة. وإذا ابتعدوا عنه وخافوا من غموض شعره في "درس الانتظار" ورددوا عوضاً عنه شعراً غزلياً رديئاً فإن النخبة الكريمة ستشتم انحطاط ثقافة الشعب وابتعادهم عن درويش! لو كتب الناس بعضاً من نصوص أغاني شعبان عبدالرحيم على واجهات محالهم، لتعالت أصوات النخبة تحسراً مقارنة بشعوبنا "المُنحطة" مع شعوب العالم المتحضرة، ولقالوا انظر إلينا وانظر إلى البشر المحترمين الذين، مثلاً، ينسخون الشعر الراقي في محطات المترو في باريس؟ يحتار الناس في أمر النخبة كيف تشير إلى رقي الفرنسيين عندما "يبتذلون" شعرهم وشعراءهم، وإلى انحطاطنا عندما نفعل الأمر نفسه؟ لكن الشيء الجميل في كل ذلك يبقى في صورة عنيدة ضد النخبة لسائق تاكسي أشعث أغبر، يطل برأسه وربما نصف جسمه من شباك سيارته، ويصيح على صديق مار على الرصيف، وصوت غناء من داخل السيارة يرنم "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"!



#خالد_الحروب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- «هندسة» الانتخابات الفلسطينية
- الأزمة السياسية في مصر
- العشائرية والطائفية... والأمية الانتخابية
- ازدواجية معايير المقاطعة الشعبية!
- كارثة تسييس الدين وتديين السياسة
- جائزة -البوكر- للرواية العربية: توسيع فضاءات الحرية
- ضمير الناس يهزم «الفتاوى المتأسلمة» ... ولكن!
- مسلمو الدنمارك وفن صناعة العنصرية
- عين إيران على الأردن، فأين الخليج؟
- عنف اللغة... ولغة العنف!
- متى سيهرب السفير الروسي من دمشق؟
- مشعل في غزة: تكريس المصالحة
- مآزق الأيديولوجيات الأممية
- حل «جماعة الإخوان المسلمين»: الضرورة التنظيمية (3)
- -دسْترة- الشريعة... ضرورة أم ذريعة؟!
- حل «جماعة الإخوان المسلمين»: الضرورة الإقليمية والدولية (2)
- حل «جماعة الإخوان المسلمين»: الضرورة الوطنية (1)
- -ملالا- إيقونة الحرية... تهزم -طالبان--!
- الإسلاميون والحكم: الانحياز للماضي أو الانفتاح على المستقبل
- الإسلاميون والانزياح المخيف


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد الحروب - درويش بين الاحتكار والابتذال!