وصفي أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 3983 - 2013 / 1 / 25 - 19:55
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
و كانت بغداد مازالت في حالة هياج عندما عاد نوري و جبر إلى بغداد . و لم يكونا قد فقدا الأمل في إنقاذ المعاهدة . و كان نوري يرى أن ليس هناك غير طريقة واحدة لمواجهة الحشود المتظاهرة , و هي سحقهم . و كان يرى أن لابد من استعادة ( هيبة الحكومة ) مهما كان الثمن . بينما كان جبر – من ناحيته – يعتقد أن بإمكانه السيطرة على الوضع . و سمح الوصي لنفسه بالاقتناع فغير موقفه ثانية , و نتيجة لذلك , أذاع جبر بيانا بواسطة الإذاعة في الساعة العاشرة و الربع ليلا دعا فيه إلى الهدوء , و أكد أنه سيقدم قريبا و أكد أنه سيقدم قريبا للأمة تفسيرا لبنود المعاهدة , و عندها يمكنها أن تقول كلمتها النهائية فيها . و عمل البيان كإشارة متفق عليها , فنزلت الجماهير الفاعلة فورا إلى الشوارع , و سرعان ما تعالت صيحات الإدانة في الهواء تصم الآذان . و لم يمض وقت طويل حتى سمع في حوالي منتصف الليل دوت المدافع الرشاشة .
و بدت بغداد في الصباح أشبه بميدان معركة منها بالمدينة . و كان هناك أكثر من شعور مسبق غامض بأن أمورا حاسمة ستحصل للتو , إذ كان الحكام و المحكومون قد استكملوا استعداداتهم .
و كان أول الأحداث في يوم الأوج ذلك إصدار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بيانا بدا بإنكار (( الاتهامات المنحازة )) التي كانت الحكومة تنشرها على نطاق واسع خلال اضطرابها المتخوف . و جاء في البيان أنه (( لا يوجد خطر حرب أهلية أو أو أية ثورة مشابهة . .... و الخطر الحقيقي يكمن في التدخل الأجنبي في شؤون بلدنا )) .
و تابع البيان مؤكدا أن (( عملاء الاستخبارات و المستعمرين المأجورين )) كانوا يندسون في المظاهرات و يطلقون (( صيحات متطرفة وغبية )) ليوفروا للحكومة ضد الشعب . و انتهى البيان إلى دعوة المواطنين لمتابعة النضال يدا بيد حتى معاهدة بورتسموث و إسقاط وزارة صالح جبر و تشكيل (( حكومة وطنية ديمقراطية )) .
و بينما كان البيان يوزع , تدفقت حشود كثيفة من الطلبة و العمال الشباب الملوحين بالعصي آتية من أنحاء مختلفة من الرصافة – شرق بغداد – هدفهم المباشر هو العبور إلى الكرخ وضم القوى إلى طلاب الضفة اليمنى وعمال السكك الحديدية من السكلجية , الذين كانوا يتحركون في الوقت نفسه باتجاه ساحة السويدي عند المدخل الغربي للجسر . و كانت قوات الشرطة قد دخلت ميدان العمل أيضا , فاحتلت بسرعة النقاط الرئيسية من الشوارع و سطوح المنازل و الخانات و مئذنة جامع المرادية . و كانت لدى الشرطة تعليمات مشددة بضرورة إعادة المظاهرات و تشتيتها , و إطلاق النار بهدف القتل إن لزم الأمر .
ووقع الاشتباك الأول في الرصافة بالقرب من المستشفى الملكي , و أطلقت النار على الحشود التي كانت تضم شيوعيين , و إن لم تكن هي في حمايتهم فعلا . و فقد المتظاهرون أربعة قتلى , و لكنهم أضرموا النار في عربة مدرعة و أجبروا رجال الشرطة على الانسحاب إلى شارع غازي ( الكفاح حاليا ) , و منه إلى شارع الرشيد , أهم شوارع بغداد , و مع تزايد ضغط الجماهير كانت مجموعات أخرى تنظم إليهم , و على العموم , فعندما وصلوا إلى شارع الأمين , على بعد حوالي أربعمائة متر من النهاية الشرقية لجسر المأمون ( الشهداء ) , ووجهوا بتعزيزات قوية من رجال الشرطة نجحت , لوهلة , في تثبيتهم في أماكنهم .
و في الوقت نفسه , و على الجانب الآخر من النهر , أجبرت بعض حشود الكرخ , اليائسة من الحياة , قوة شرطة مسلحة على الابتعاد بعد أن كانت تسد الطريق أمامها , و اندفعت عبر الجسر الذي يبلغ عرضه خمسين قدما ( 15 مترا ) بنية التوحد مع الرفاق في الرصافة . و لكن ما أن وصلت صفوفهم الأمامية بالكاد إلى الضفة الغربية حتى فوجئت بنيران لا رحمة فيها أطلقت عليهم بلا رحمة من فصيل عربات مدرعة , و قتل العديد من الثوار على الفور , أو جرحوا , وعاد الآخرون أدراجهم محاولين الاستيلاء على الضفة المقابلة , و لكنهم ووجهوا بنيران الرشاشات تصليهم من سطح خان في ساحة السويدي ( الشهداء حاليا ) . و كان نزف الجماهير مريعا , و تناثرت الجثث في كل مكان . و كان بعضهم معلقا على سور الجسر , وسقط بعضهم الآخر في النهر تحت الجسر و جرفه التيار .
و كان ما زال لمزيد من الدم أن يتدفق , و لم تعد السيطرة ممكنة على المتظاهرين الذين أوقفوا في ساحة الأمين , و تراجعت الشرطة التي احتوتهم و انسحبت عدوا باتجاه الجسر . و كان بانتظارهم هناك الفصيل الذي تعامل مع حشود الكرخ ودمرها , بعرباته المدرعة و رشاشاته . و تقدم المتظاهرون الذين بدوا مصرين على عبور الجسر بالرغم من الخسائر , و تردد الشرطة لحظة إذ فقدوا ثقتهم بالنفس . و لكن , بعد دقائق انهمر سيل من طلقات الرصاص , و لم يتمكن أحد من عبور الجسر سالما إلا فتاة في الخامسة عشرة من عمرها تدعى عدوية الفلكي , و كانت تحمل راية و تتقدم الصفوف . أما رفاقها الأربعة الذين كانوا إلى جانبها , و آخرون وراءهم , فقد سقطوا , و توقف إطلاق النار , و لم يعد الجسر إلا صدى تمتمات الألم و صرخات الحزن .
و إذ جزعت الشرطة على ما يبدوا من حجم الخسائر في الأرواح , و لاحظت أن الحشود لم تتفرق , بل راحت تتجمع في الجانبين لتعيد تشكيل صفوفها بعد أن صحت من ذهولها , فإنها انسبحت كليا من مسرح الأحداث .
و لا يمكن تحديد الذين سقطوا ذلك اليوم , و قد دفنت جثث كثيرة من دون تسجيل أسماء أصحابها , و ألقي بعضها الآخر في دجلة . و يقدر إجمالي عدد القتلى و الجرحى ذلك اليوم بما يتراوح بين ثلثمائة و أربعمائة .
و كانت النتيجة معروفة , ففي ساعة متأخرة من مساء ذلك اليوم فر صالح جبر ناجيا بحياته , إلى الفرات أولا, ثم إلى بريطانيا في النهاية . و كلف الوصي محمد الصدر وهو سيد شيعي ورجل دين و من زعماء ثورة العشرين , بتشكيل الوزارة .
بعد أشهر , كانت وزارة الداخلية تبحث عن يد خارجية غريبة في الأحداث الموصوفة أعلاه . و كتبت الوزارة في كانون الأول ( ديسمبر ) 1948 إلى المديرية العامة للشرطة تقول :
(( وصلتنا معلومات تنبيء بأنه كان للمفوضتين السعودية و الروسية دور في بدء المظاهرات )) . فهل يمكن إلقاء أي ضوء على هذا الأمر ؟ وردّت المديرية تقول : (( كانت المفوضية السعودية على اتصال مع بعض أعضاء حزب الاستقلال خلال أيام (( الوثبة )) و تقول الإشاعات إنها أمدتهم بالمال و أسلحة خفيفة و حرضتهم على التظاهر )) . أما في ما يتعلق بالروس فلم تخرج المديرية إلا بأنه أفيد عن أن كريكور بدروسيان , سكرتير الفرع الأرمني و عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي , قد زار المفوضية .
و في الرسالة نفسها لاحظت وزارة الداخلية أنه في (( أيام كانون الثاني )) كانت هنالك شاحنات عديدة تنقل النساء و الطلاب و العمال إلى مسرح التظاهرات آتية من الضواحي , بل ومن المحافظات أيضا . و تساءلت الوزارة : (( من زودهم بهذه الشاحنات ..... و من أمن لهم طعامهم في وقت كان يصعب على غير المقيمين أن يجدوا الطعام , و خصوصا الخبز في بغداد ؟ )) . وردت المديرية بأن التحرك من المحافظات باتجاه العاصمة نظمه الحزب الشيوعي و استخدم القادمون من الجنوب القطارات و انتقلوا عند المحطة إلى الشاحنات . و تحمل مسؤولو الحزب في المحافظات نفقات السفر و قادوا (( الوفود )) , وعندما كانوا يحتاجون كانوا يعودون إلى هادي عبد الرضا , رجل ارتباط مركز الحزب الشيوعي . و أضافت المديرية أن النفقات كانت تؤمن (( من تبرعات كانت تصل أحيانا إلى خمسمائة دينار شهريا و تجمع من التجار اليهود بواسطة اليهود الشيوعيين إبراهيم شاؤول و مير يعقوب كوهين و صهيون البزاز )) .
المعلومات التاريخية مستقاة من المصدر نفسه .
#وصفي_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟