أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرحيم التوراني - قصة قصيرة: أغنية الجلاد















المزيد.....

قصة قصيرة: أغنية الجلاد


عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)


الحوار المتمدن-العدد: 3976 - 2013 / 1 / 18 - 08:10
المحور: الادب والفن
    



كنت أنبح وأعوي من شدة الجلد. وكان الجلاد محترفا قاسيا. بل هو القساوة تتنفس. توقف فجأة عن تعذيبي. ابتعد عني. مشى خطوات مثثاقلة وجلس فوق الكرسي الوحيد بقاعة العمليات. أشعل سيجارة سوداء وانشغل عني في التأمل والتفكير. هل الجلاد مثل الناس يفكر أيضا ويتأمل؟ هكذا سألت نفسي ساعتها، وعجزت عن إيجاد جواب كيفما اتفق. لقد كنت غير قادر إلا على النباح والعواء، بل إني خجلت من صياحي وبكائي الذي يصدر مني على شكل صوت الكلاب والذئاب، هل أصل الإنسان يعود لهذا الحيوان؟ تشارلز داروين يخبرنا أننا من سلالة القردة. وتمنيت لو استطعت أن أنهق. إذ لا يمكنني وصف سهولة إلقائهم القبض علي إلا ب"تحماريت"، مع بالغ الاحترام والتقدير للحمار. ليس من باب الصدفة أن اختار مؤسسو الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية رسم الحمار شعارا لحزبهم العتيد. تأخر الجلاد في استراحته، وكأني به دخن أكثر من سيجارتين. كنت أنا قد التقطت أنفاسي خلالها محاولا العودة لآدميتي. حرضت نفسي على الصمود أكثر. استرجعت بعض التعليمات التي حفظتها لمثل هذه المصيبة المشؤومة. كنا نضع أمر اعتقالنا وخضوعنا للتعذيب بين أعيننا. تماما كما كان أبي يوصينا ونحن ما زلنا أطفالا مقبلين على الحياة أن نضع الموت أمام أعيننا. أينما كنتم يدرككم الموت. وها قد أدركني الموت تعذيبا على أيدي من لا يرحم ولا يعرف ربه. فجأة رأيت ظله الضخم يتجه صوب الجدار الواقع خلفي. بدأت أرتعد والنباح والعواء على شفتي المزمومتين. خفت أن ألتفت ورائي فينزل علي الجلاد بضربة قاضية. وقع صمت حسبته دهرا. تحسست بللا تحتي. وشعرت بالنعاس وبالعياء. منذ أيام لا أعرف كم هي لم أذق طعم النوم. ثم أعادني صوت التكبير من غفوتي. (الله أكبر. الله أكبر. سمع الله لمن حمده). أدركت أن الأخ يؤدي الصلاة. لم أعرف أي صلاة هي. لعلها كانت صلاة الفجر. صلى ركعتين. وتلاهما بالدعاء لله سبحانه. لم أسمع جيدا كلمات دعائه ومطالبه التي يتمنى أن يقضيها له الإله السميع المجيب. دعوت أنا أيضا الله أن يخلصني من هؤلاء القتلة، ودعوت أن ينتقم لي منهم. لكن دعائي لم تسبقه صلاة، كما فعل الجلاد المؤمن. بعدما أنهى واجبه الديني توجه نحوي ليستكمل واجبه الدنيوي. إن هذا البدين المفتول الشارب الغليظ القلب يقتات من تعذيب المعارضين للملك. يشتري حاجيات أولاده وزوجته من العرق الذي يرشح من الجثث خلال حصص التعذيب. وبالمناسبة أشهد له أمام الله وأمام العبد أنه لا يغش في عمله، بل إنه يوفي التعذيب حقه ولا يستعجل التخلص من عمله للذهاب لمتابعة مباراة كرة القدم. وكان وقتها يصادف مباريات نهائيات كأس العالم. العمل عبادة. وقد كان يتعبد متوسلا إلى خدمة رؤسائه على حساب هلاكنا. تقدم نحوي ليكمل شغله. رفع كفه الغليظة وهوى بها على خدي. أبصرت أضواء ملونة.
- ألا تخجل من معارضة أسيادك وأصحاب الفضل عليك في الحياة أيها الخنزير. أما زلت مصرا على الصمود والإنكار؟ من أي طينة أنتم وأي بطن ولدتكم. حاشا لله أن تكونوا مغاربة، أنتم يهود خنازير ملاحدة لا تعرفون ربي ولا خلقه.
ظللت صامتا. أغيظه وأعذبه بدوري على طريقتي. أشعل سيجارة ومد لي أخرى. أنزلني من فوق منصة التعذيب. تغيرت لهجته ولكنته. صارت لينا ينتمي لبني البشر. سماني باسمي لأول مرة. لم يشتمني. لم يتفوه بالكلام البذئ. سألني إن كان بي جوع أو أرغب في شرب فنجان شاي أو قهوة. أوصاني أن أتوب إلى الله وأن أصلي.
- الصلاة لا تكلفك شيئا..فيها راحة نفسية عظيمة للإنسان لو تدري يا ابني.
وصفني بابنه. بدأت الوساوس تسيطر علي. تساءلت عما يعده لي هذا المفترس. لم أثق لحظة في أي كلمة لطيفة صدرت منه. طلب مني أن أرتاح وأن أنسى كل ما حصل بيننا.. قال إنها الضرورة. "والله يلعن بو الخبز". شربت ماء معدنيا ودخنت ثلاث سجائر. رتبت أفكاري والسيناريو الذي أعددته من قبل للجواب على أسئلته. وكان سؤاله الأول عن أحمد شوقي. أجبت أن لا أحد من أفراد الخلية التي كنت عضوا بها يتسمى بمثل هذا الاسم. ضحك حتى بدت أضراسه. وظل يضحك فضحكت أنا أيضا معه.
قال لي: - يا أحمق أنا أسألك عن أمير الشعراء، إلا إذا كنت ضد كل الملوك والأمراء، فهذا شأن آخر.
ثم انحرط في ضحك أطول من السابق حتى أخذته نوبة من السعال.
لما توقف قال:
- أتكلم معك بجد. هل تحفظ شعرا، هل لديك ميولا أدبية؟ بلغني أنك تكتب الشعر وتنظم الهتافات التي ترددونها في المظاهرات، أليس كذلك؟
ظللت صامتا غير مدرك لهذيان الرجل. وإلى أين سيمضي بي.
طمأنني بأن قدم لي صفحة داخلية من جريدة قديمة، تتضمن حوارا معه بصفته بطلا في رياضة المصارعة وفنانا ملحنا. واستدرك مشيرا إلى الصورة المرفقة بالحوار قائلا:
- هذا أنا. لن تستطيع التعرف عللي بسهولة لو لم أقلها لك. ثم ابتسم.
بدأت أقرأ العنوان والتقديم، فانتزع مني الصفحة واعدا أن يستنسخ نسخة منها ويهديها لي لاحقا. شكرته على لطفه وكرمه. قام وأخذ يطوف حولي ويتكلم:
- سأخفف عنك إن أنت ساعدتني وتعاونت معي.
قلت:
- والله لقلت لك كل ما أعرف عن التنظيم، فأنا لست قياديا كما تعتقدون.
قاطعني غاضبا. لا تتكلم قبل أن أنهي كلامي أيها الكلب. يا ابن الق....
سكتت. وسكت.
اقترب مني طالبا العذر والمسامحة.
وبصوت يكاد يكون هامسا كمن يخاف أن يسسمعنا أحد، قال لي:
- إن الذي يحدثك اللحظة ليس هو الجلاد، دعك من هذا العبث، الذي معك الآن هو الفنان الملحن كاتب كلمات الأغاني. قلت له تشرفت بك أيها الفنان المبدع.
- المطلوب منك خلال يوم أو يومين على الأكثر أن تقدم لي خدمة. خدمة لن أنساها لك
+ نعم وما المطلوب مني؟
.. - لنتفق أولا، كل عمل له مقابله الملموس، لن أستغلك.. لا..لا.. حرام علي
+ ما المطلوب؟
. - شيء بسيط في متناولك أيها الشاعر الكبير
..+ .
- - اكتب لي قصيدة شعر.
+ شعر؟
- نعم هل أتحدث معك بلغة لا تعرفها؟
..+ .
- اكتب لي قصيدة مدح في الملك. أعرف أنك معارض لسياسته، لكنك سوف لن توقعها أنت. ستكون باسمي أنا وسألحنها لتغنى في عيد العرش بعد أقل من أسبوعين..
..+.
- لا تخذلني، لقد ذهب عني كل الإلهام الذي وهبني إياه الله. هذا العمل المقيت لا يترك الإنسان يقول شعرا..
كتبت أي كلام لا روح فيه ولا صلة له بالشعر. شكرني وتقاسم معي وجبته وأهداني علبة سجائر. بدأت أفكر فيما بعد مغادرتي هذا السجن السري، لكن الملحن غاب عني. ذهب للاستعداد لحفلات عيد العرش، وتم تغييره بفنان جديد يطرب لتأوهاتي ويرقص.



#عبد_الرحيم_التوراني (هاشتاغ)       Abderrahim_Tourani#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما تحمر النجوم وتزداد السماء زرقة
- الأمن الوقتي
- من أخبار الجرائم
- البكاء تحت المطر
- عملية انفجار أحرف باردة
- بيصارة كسيح بلا شواء
- حب ضاحك كالحزن
- الفرز العظيم
- أكل الكفن
- قصة: موعدي معي
- قصة: فيروس الجاذبية
- قصة واقعية تقريبا : حكاية شاعر معتقل
- قصة واقعية: اعتقال ابتهال
- إعدام الجثث ذات الدم الحار
- عندما قرر المخزن أن تطيح 20 فبراير بسلالة علال


المزيد.....




- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...
- -النشيد الأوروبي-.. الاحتفال بمرور 200 عام على إطلاق السيمفو ...
- بأكبر مشاركة دولية في تاريخه.. انطلاق معرض الدوحة للكتاب بدو ...
- فرصة -تاريخية- لخريجي اللغة العربية في السنغال
- الشريط الإعلاني لجهاز -آيباد برو- يثير سخط الفنانين
- التضحية بالمريض والمعالج لأجل الحبكة.. كيف خذلت السينما الطب ...
- السويد.. سفينة -حنظلة- ترسو في مالمو عشية الاحتجاج على مشارك ...
- تابعها من بيتك بالمجان.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة ...
- ليبيا.. إطلاق فعاليات بنغازي -عاصمة الثقافة الإسلامية- عام 2 ...
- حقق إيرادات عالية… مشاهدة فيلم السرب 2024 كامل بطولة أحمد ال ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرحيم التوراني - قصة قصيرة: أغنية الجلاد