أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ماردين؛ مِحَن الأسلاف















المزيد.....

ماردين؛ مِحَن الأسلاف


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3930 - 2012 / 12 / 3 - 11:11
المحور: الادب والفن
    




1
" هذا القماش، الدمشقيّ، لن تلحق أن تلبسه؛ لأنه سيكون كفناً لك "
" علي آغا الصغير "، جدّ والدتنا لأمها، حق له أن يُفاجأ بهذه العبارة المُنذِرَة، التي سدّدها إليه درويش، مَجذوبٌ، كان يَقفُ على مَدخل القيسارية. ذلك الحَدَث، جدَّ قدّام أحد الحوانيت، ذات الأقواس، المَنحوتة في المَقدِس الجلمود، الواقعة في قلب سوق " ماردين ". ثمّة، إذن، كان الآغا يَهمّ بتأبط لفة القماش والمضيّ في طريقِهِ، عندما أصدى في سَمَعِهِ بقوّة صوتُ الرّجل الأخرق، الذي كان مُلتحفاً بخِرَق باليَة، خلِقة، على عادة أمثاله من المَجذوبين. المُحَيّر في الأمر، لدرجة أن يلبثَ الآغا واجماً لهنيهةٍ، كان تشديدُ الآخر على صِفَة القماش. إذ أنّ الداءَ الأسوَد، المُهلِك، لم يكُ بعدُ قد عُلِمَ بأمر انتشارهِ في الولاية. " إنه مجرَّدُ انسان مسكين.. "، فكّرَ الآغا وقد أفاق في الحال من دوّار دهشتِهِ. وما عتمَ أن مدّ يَدَه إلى جيب الصدريّة، فيما هوَ يرمق الدرويشَ بنظرةٍ باسِمَة، مُتسامِحة. حينما لم يُبادر هذا إلى تقبّل الصَّدقة، أدرَكَ الآغا بنظرةٍ أخرى، مُتمعّنة، أنه يقفُ أمامَ رجلٍ ضرير.
جدّ والدتنا ( مَنْ توفيَ قبلَ ولادتها بعقدَيْن من الأعوام )، اعتادَ على زيارة " ماردين " بين آونةٍ وأخرى؛ هيَ المدينة القديمة، الساحرة، التي كان يَمحَضها حباً خاصّاً مذ أن وطأت أقدامُهُ هذه البلاد، للمرة الأولى، قبل نحو ثماني سنين. جاز له هنا أن يَستعيد ذكريات الشام، مسقط رأسِهِ، كلما نظرَ إلى هذه الأحياء المُحلقة في الأعالي. ثمّة، في " الشهيدية "، ما يفتأ خالٍ منزلُ ابنته " ريما "، المُنيف، المَشغولة عمارته من حجر الجير البركانيّ، المُلوّن. لقد رافقت هيَ زوجَها إلى بلدة " عامودا "، بعدما تمّ نفيه قبل بضعة أشهر بسبب قتلِهِ أحد شيوخ العرب، المَعروفين. من أعالي " ماردين "، كان باستطاعة المَرء الاشراف على مَشهد بلدة المنفى تلك، المُستلقية في رخاء السهول الشاسعة، الخصيبة. بيْدَ أن الآغا لم يَزر ابنته بعدُ، على الرغم من قرب المسافة، الفاصلة بين مقامَيْهما. " سأفعلُ ذلك في طريقي إلى الحج، عاجلاً. ومن هناك، سأمرّ على الأهل في الشام "، فكّرَ مُنشرحاً وهوَ يَشدّ حزمة القماش، المُلتصقة بإبطِهِ. شراء الآغا للقماش، في هذا اليوم المُبشّر بربيع دافيء، كان من واردات خطة الزيارة، المُرتقبَة ـ كما علِمَت ابنته " ريما "، إثرَ عودتها للبلدة بعدَ نحو العام.
2
" ونفخ في الصّور فصُعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله "
لابدّ أن " علي آغا الصغير " قد ردّد أكثرَ من مرّة هذه الآية، الكريمة، كلّما خرجَ مُستقلاً الكرّوسة خِللَ " باب الصّور " في طريقه من " ماردين " إلى الجبل. ولا ندري، بطبيعة الحال، ما إذا كان قد رَبَط بين الآية وذلك النذير، الرّهيب، الذي تفوّه به مجذوبُ السوق في ظهيرة اليوم نفسه. تشديدي على الجَمْع، في مبتدأ الجملة الفائتة، أحيلهُ إلى كون مَصدر الواقعة هيَ جدّتي " ريما "؛ التي دأبت على إنارة غلسة سهراتنا ببوارق من ذاكرتها، المُتَوَقدة. غيرَ أنها، من ناحية أخرى، كانت مُتأكدة من يقين معلوماتها فيما يخصّ مَرَض أبيها، المُفاجيء. إذ دَهَمَت الحُمّى " علي آغا الصغير "، مُباشرةً بُعيدَ وصوله إلى بيتهِ قادماً من " ماردين ". كان يَهذي طوال الوقت، وكأنه مُلتخ سُكراً. ولكن العناية الحَنونة، التي شمِلَ بها مريضنا من لدن زوجته وابنته البكر، كانت وبالاً عليهما وعلى أسرتيهما. اسبوع واحدٌ، إثرَ دفن الآغا، ولم تلبث امرأته الحبيبة، " ليلى "، أن أصيبَت بنفس أعراض مَرَضِهِ. المقبرة الصغيرة، الكائنة على مرتفع هيّن في بلدة " ميقر "، ما عتمت أن توسّعت بفعل الأجداث المُتدفقة إليها في آونة الطاعون تلك، الكالحة.
الوباءُ الأسوَد، كان فاتحَة ثالوث الأثافي، الذي سَيُبتلى به الخلق آنذاك. فما أن خمَدَ أوارُ الطاعون، حتى اشتعلت تباعاً نارُ الحرب العظمى ثمّ فرمان المذابح، المَنذور للرعايا الأرمن وغيرهم من " الكفار " في السلطنة. قبل ذلك بعقدَين من الأعوام، عندما فتحَت " ريما " عينيْها على نور الحياة في الشام، كان ملاكُ الموت يَمورُ أيضاً فوق كردستان. إذ أصبَحَت هذه البلادُ وقتئذٍ مَسرحاً لفتنةٍ دينيّة، كبرى، بفعل تحريض الولاة الغاشمين ومن خلفِهِم الباب العالي. غيرَ أن سنجق " ماردين "، في المقابل، نأى بنفسِهِ عن الفتنة إجمالاً. عشرة أعوام، على الأثر، حينما قدِمَت جدّتنا مع أهلها إلى بلدة الأسلاف، " ميقر "، كانت العلاقات ما تني طيّبة بين سكانها على اختلاف أديانهم. مثلما في أخوات البلدة، المُتراميات على كتف الجبل ( كما لحظت " ريما " أيضاً )، كان غالبية النصارى هنا من اليعاقبة. على الرغم مما يُقال عن أصل تسميَة " مازيداغ " ( من " ماسيس "؛ أيْ شجَر العفص، أو البلّوط، باللغة الأرمنية )، إلا أنّ أفراد هذه الملّة كانوا مُنتشرين غالباً في مدن السنجق، الكبيرة؛ مثل " ماردين " و" قوصر " و" ديريك ".
3
هوَ ذا عام 1915، المُفتَتِحُ للمَذابح؛ العامُ المَهول، الذي سيشهَدُ رحيلَ جدّتنا أبداً عن مَوطن الأسلاف. لم يكُ بلا سببٍ ، إذن، أن يتلوّن هذا المَوطن في ذاكرة " ريما " بالأحمر القاني، طالما أنّ فراقها له اتفقَ مع النوازل تلك، المُستطيرَة، والمُستهلّة بخبَر فناء أهلها في جائحَةِ الداء الأسوَد. إنّ " محّو "، أخاها الأصغر غير الشقيق، هوَ من تعهّدَ اخبار زوجها بالأمر، إثرَ فرارهِ من منفاه الأناضوليّ في عشيّة اندلاع الحرب ووصولِهِ إلى " عامودا ". ثمّة، ما لبث النبأ المشئومُ أن ذاعَ بطريقةٍ أو بأخرى. عندئذٍ، راحت " ريما " المَلولة، المَصْدومة، تلحّ على " محمّد آغا " في العودة إلى " مازيداغ " وكأنما لتتأكّد بنفسها من حقيقة الواقعة، الفاجعة. كان رَجُلها يُدرك، ولا مَراء، حَجْمَ المُخاطرَة هذه؛ هوَ المَحكومُ بالنفي من لدن الدولة. علاوةً على ذلك، كان على المَرء التفكير بالأحكام العرفيّة، المَفروضة على كردستان مع بدء العمليات العسكرية في الجبهة الروسيّة.
شاءَ الآغا أن يَسلكَ طريقاً طويلاً، على شكل قوسٍ، كي يتجنّبَ المرور عبْرَ " ماردين " خشيَة ً من عيون رجال الدولة. كان قد تريّث في الانطلاق إلى " مازيداغ " لحين حلول الربيع، حيث اتجه بعدئذٍ في الكرّوسة بصحبَة زوجته نحوَ بلدة " قوصر " ( كانت تدعى أيضاً " تل الأرمن " بالعربية ). ثمّة، في تلك البلدة الجبليّة، الجميلة، تسنى للآغا انقاذ طفلةٍ نصرانيّة من براثن القتلة، المُتعصّبين، بأن عقدَ قرانه عليها. فعلَ ذلك بمَشورةٍ من الشيخ ذاته، الذي كان يقودُ الدهماءَ ويحرِّضهم صارخاً: " علينا كمسلمين فرضُ تنفيذ فرمان سلطاننا، خليفة رسول الله، القاضي بإبادة الكفار ". من ناحيتها، فإنّ جدّتنا حَصَلتْ على " ضرّةٍ " جديدة، لا يتجاوز عمرها الدزينة من الأعوام؛ هيَ من خلّفت وراءها في " عامودا " زوجَتَيِّ الآغا، القديمتَيْن، اللتين يكبرانها بكثير سناً. بيْدَ أن رَجُلَ " ريما "، الشهم والشجاع، لم يَبن بتلك الفتاة الأرمنيّة المتوحّدة، المُيتّمة للتوّ، بل صارَ يُعاملها كما لو كانت ابنته. وعلى أيّ حال، فإن الفتاة رافقت ركبَ الآغا وامرأته لنحو شهر، لا أكثر.
4
" سنضطرّ لتجَشم مَشقة السّفر إلى حلب، كي نحاول العثور على أقاربها "
خاطبَ الآغا زوجته " ريما "، وهوَ يُوميء إلى ناحية مرافقتهما تلك، الأرمنية. كانوا عند ذلك يَجتازون نواحي " ديريك " بعربتهم السريعة، وقد بَدَت علاماتُ القلقِ والتوجّس على ملامحهم. فجراً، حينما كانت العتمة البهيمة تستأنسُ بعدُ بقرص القمر المُنير، تسللتْ الكرّوسة خِللَ دروب بلدة " ميقر " المُوحِشة، المُقفِرة، في طريقها إلى حاضرة الجبل. إذ سبقَ وأن أنذِرَ " محمّد آغا "، من طرف أحد أقارب زوجته، بضرورة مغادرة البلدة على إثر ورود خبَرٍ عن عِلْمِ السلطات بوجودِهِ فيها. الحق، فلم يكُ ثمّة ما يُغري بالبقاء، بما أن "ريما " ألقت النظرة الأخيرة على تربة أهلها وقرأت الفاتحة على أرواحهم. إنّ السنجق نفسَهُ، بل والبلاد كلّها، أضحَت غريبة الآن في عيون الآغا وامرأتِهِ؛ العيون المُفعمَة بدموع الحزن والغضب والقهر، بعدما أبصرَت خلال الأيام الأخيرة أهوالَ القتل والاستباحة والنهب والسلب والحرق والتدمير.
" لم أعُد أذكرُ اسمَ الفتاة الأرمنية، المسكينة "، اختتمَت جدّتي حديثها ثمّ أضافت إثرَ هنيهة صمت " لابدّ أنها أضحَت اليومَ عجوزاً، فيما إذا كان الله قد تعطفَ فأبقاها حيّة ". خلال الفترة تلك، التي كنت خلالها مقيماً بمنزلها، كانت الجدّة قد شارَفت على بلوغ الثمانين. كانت فضلاً عن طيبتها طريفة الخلق، حدَّ أن يَحلو لها أحياناً التجديفَ على الخالق؛ على من تنذرُ لرحمَتِهِ صلواتها الخمس: " لا أدري، ماذا تجني أنتَ من إيقاظنا من هناءة النوم؟ "، تخاطبُ جدّتنا الظريفة ربَّها بالكرديّة. وتكون حينئذٍ قد بدأت تتململُ في فراشها مع تناهي صوتُ مؤذن المسجد، الداعي لصلاة الصبح.
ولكن ما أدهشني نوعاً، عندما شاءت هيَ اختتام حكايتها، أنها تكلّمت بطريقة مُغايرَة فيما يتعلق بإشكاليّة اسم تلك الفتاة، الأرمنية. لأنها لم تستخدم عندئذٍ تعبيرَ " ميرات ماييْ " ( أيْ: المَنحوسة )، الأثير لديها عادةً؛ خصوصاً، حينما يكون مَشفوعاً بذكرياتها عن مَوطن الأسلاف. إنه المَوطن، البعيدُ، الذي فقدَتْ فيه " ريما " خلال فترةٍ وَجيزةٍ أهلها جميعاً، ومن ثمّ زوجَها الأول والدَ ابنتها، البكر؛ الرّجل، الذي كانت تدعوهُ في كلّ مرّةٍ بحبّ: " بافي بيروزا ".
للسيرة تتمة..
° الفصل الثاني من كتاب " المَسالك "، هوَ قيدُ التنضيد
[email protected]




#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مازيداغ؛ مسالك الأسلاف
- حلب؛ حلول الأسلاف
- الحسكة؛ معسكر الأسلاف
- قامشلو؛ ممرّ الأسلاف
- عامودا؛ منفى الأسلاف
- رأس العين؛ فردوس الأسلاف
- أبو بكر وعلي و.. جورج
- حلم الحاكم
- خالد بكداش؛ طاغية بلا سلطة
- ثيمة الانتقام في السينما الكلاسيكية
- مرشح لجائزة شبيّحة بلا حدود
- سليمو وباسطو وأوجلانوس
- مشعل التمّو؛ شاهداً وشهيداً
- حسن ومرقص: فيلم الفتنة الدينية
- انتخبوا الدكتور عبد الباسط
- تمصير الجريمة والعقاب، سينمائياً
- من بَعدي فلتأكل النارُ الأرضَ
- إلاّ بشار الواحد الأحد
- سيكولوجيّة الجماهير الأوجلانية 5
- سيكولوجيّة الجماهير الأوجلانية 4


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ماردين؛ مِحَن الأسلاف