أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدر الدين شنن - اليتيم - إلى رمضان حسين -















المزيد.....

اليتيم - إلى رمضان حسين -


بدر الدين شنن

الحوار المتمدن-العدد: 3923 - 2012 / 11 / 26 - 13:12
المحور: الادب والفن
    


لاتسلني .. بعد الآن .. ياعيد عن سالم ..
سالم توفي بالأمس ياعيد .. صار في عالم لارجعة منه أبداً .. انتقل من عالم العربدة ، الذي تمرد عليه .. إلى عالم غامض لاعلم له به .
وكما كانت حياته خياراً لم يستشره به أحد ، كما كان يقول ، ’وضع جسده بين خيارات .. لم تكن تسمح له أن يستشر . أين يدفن .. ؟ .. في حفرة من النار في الأرض المشتعلة .. التي شق سبل الحياة فوقها .. ؟ .. أم في حفرة من الصقيع في الأرض التي نقل جذوره إليها .. ؟ .. وحسمها من تولى أمره بعد موته : سوف يدفن في الأرض التي استقرت جذوره فيها .

وألقي سالم ياعيد في حفرة رملية رطبة .. لاتطالها حرارة شمس .. كالتي أدفأته في طفولته وشبابه ولما كبر .. ولاتتمدد إليها جذور نبتات وشجيرات من حوله .. كالتي كان يراها حول قبر أبيه .. شمس ونباتات تؤنسه .. حين يبدأ جسده يتفاعل مع كيمياء الأرض .

وكما كان طوال حياته ياعيد بسيطاً .. إلى أبعد حدود البساطة .. كان تشييع جثمانه بسيطاً .. ومثلما كانت كلماته مع الآخرين والأقربين فقيرة .. نابعة من فقره التعليمي والمعيشي .. كان تأبينه ، ممن تبرع أن يذكر بعضاً ، مما كان مشتركاً بينه وبينهم ، من زمالة ، ومعاناة ، وقربى ، كان فقيراً نابعاً من فقر معرفة .. من هو سالم .. وما الموقع الذي شغله سالم في صفوف من قرروا تغيير واقع طافح بالظلم .. وبناء عالم يفيض وفرة وعدالة وحرية .
* * *
ذات صباح .. قبل ثلاثين عاماً .. كان سالم مقيداً ، من يديه ، ورجليه ، مرمياً على الأرض في غرفة التحقيق . وكان ثلاثة رجال قد أعياهم التعب ، يجلسون حول طاولة يحتسون الشاي . قال أحدهم :
- " لك " كل هذا الضرب .. يوم وراء يوم .. لم نأخذ منه " لاحق ولا باطل " .. يظهر أنه لايعرف شيئاً عما نسأله .
قال ثان :
- إنظر إلى وجهه .. إلى ظهره .. ويديه .. لقد ازرق جلده كله من ضرب الكابلات " السياط الحيدية " .. أنظر إلى قدميه .. إنهما ستنفجران من التضخم .. ولم يتكلم .
قال الرجل الثالث :
- إنه خبيث .. لاتغرنك سذاجته .. وأيمانه .. بعد قليل سيتكلم .. أعدكم أنه سيتكلم .
ثم نهض الثلاثة وراحوا يفكرون ماذا سيفعلون . وخطرت لأحدهم فكرة فقال :
- أعطوني شفرة .
وجاء أحدهم بالشفرة . أخذها صاحب الفكرة وأمسكها بين اصبعين . وقرفص أمام قدمي سالم .. وبوحشية شق باطن أول قدم .. ثم باطن القدم الثانية ... وانفجر الاحتقان في القدمين .. وتطايرت قطرات متلاحقة من الدم على وجه الجلاد وعلى الجدار خلفه . ولما كان سالم يصرخ بكل ما تبقى عنده من طاقة .. ويكز على أسنانه .. وجسده كله ينتفض ألماً . والرؤية زاغت في عينيه .. أطلق الرجال الثلاثة ضحكات هيستيرية .. وعلا صوت أحدهم يقول :
- الآن سيتكلم ..
لكن سالم لم يتكلم .. وحمى بصمته الجليل زملاء له من مثل هذا المصير .. وحمى أيقونات حلمه من عبث اللئام الأغبياء .
* * *
من عالم اليتم الذليل في الطفولة .. إلى عالم الشقاء المرير بعدها في الشغل .. إلى عالم الفقر الفقير من كل مسرات الحياة .. ودفئها .. إلى خلف القضبان .. هكذا رسمت أقداره سيرورة حياته ..
ما كان يؤلم سالم خلف القضبان ياعيد .. ليس لأنه يدفع ثمن قناعاته .. أو ربما لابتعاد الحلم وراء الآفاق البعيدة .. بل لأنه ترك خلفه عائلة .. بناها مع رفيقة عمره .. طفلاً .. طفلاً .. قطعة .. قطعة .. ورعاها بكده المضني طوال نهاره وبعضاً من ليله . كان خلف القضبان يفتش عن ذاته التي جرحها التعذيب .. ويبحث عن اعتباره وسط من وجد نفسه بينهم دون سابق معرفة .. وكان يتمسك ببقايا حلم يحاول مفعول السجن أن يشكك فيه . كل ما كان يخيفه ، أن يغزو اليأس قلبه . ولما كان يشعر أن هذا الغزو يكاد أن يتمكن منه .. ينتفض ويرفض . وعاش وديعاً .. رقرقاً .. عذباً .. مع كل نسمة روح تشاركه اضطهاد القضبان وقسوتها .
كانت أمنيته ، في أوقات منع الزيارات ، أن يفوز بزيارة ذات يوم .. أن يرى وجوههم .. ويذكر أسماءهم واحداً .. واحداً .. وواحدة .. واحدة .. . ويغلق عينيه ويتصور أنهم حوله جالسين يبشرونه بحسن الحال .. وبوعد بزيارة أخرى قريباً . أشد أمنية قسوة على سالم ياعيد ، هي تلك التي تأتي أيام العيد ياعيد .. حين لازيارة .. ولاشيء يأتيه منهم يعوض بعض شوقه إليهم .
* * *
كان احتضار سالم عسيراً .. مديداً .. ياعيد . يمكنك أن تحدد بدايته منذ أن اقتلع جذوره من التراب الذي ولد عليه ، وعاش معظم عمره من خيره ، ليضرب هذه الجذور في أرض أخرى .. يوم انتقل من الشرق الذي كابد من فقره وظلمه .. إلى الغرب الذي فكر أنه سيتحرر ويتعافى من كوابيسه وحرماناته فوق أرضه . ورغم كل الضمانات والعنايات .. لم يحس سالم ياعيد أن روحه مرتاحة . كان بين وقت وآخر يجتاز المسافات المرهقة ، ليعيش أسابيع وأيام .. هناك في بلاد الشمس . ويعود ليركن كالمحاصر في بيته ، يحلم بالتوجه نحو الشرق مرة أخرى . ومرة بعد مرة ، لم يعد يرى بلاد الشمس .. انتشر في جسده الارتعاش المضني ، الذي شدد عليه الخناق ، حتى رماه ممدداً ثابتاً فوق السرير .
ودخل سالم ياعيد في صراع من أجل البقاء ، هو صراع أقسى ما يتصوره عقل . كان الجسد يقاوم .. كانت الروح تقاوم .. كان حلمه يقاوم . لم يستسلم بسهولة للموات الذي بدأ يزحف من أطرافه إلى بقية جسده . فقد التحكم برجليه .. ثم فقد التحكم بآليات أحشائه .. وفقد بصره وظل يقاوم . لم يبق له سوى بعض اللمحات من الذاكرة يشاهد من خلالها لقطات من حياته .. وأذن بالكاد تتوسط لمن يحدثه ليسمع .. ويد تلبي ببطء شديد بعض رغباته بالحركة .. وحركة لسان لم تعد تصدر عنها سوى كلمات قليلة تحتاج إلى إعادة تركيب لتفهم .
* * *
لقد تجاوز سالم يا عيد زمن الاحتضار المألوف في حالات مماثلة . لقد تمكن أن يغادر بروحه وذاكرته سريره الملتصق به .. مرات .. ومرات .. لقد تمكن من استعادة ذكريات وصور وأشخاص ومواقف . وبين وقت وآخر يقلقه السؤال .. هل وفيت بما وعدت .. هل سيتحقق الحلم الذي أعطيته عمري .. هل ستبقى العائلة ملمومة الشمل . وكان يبعد الاجابات الناقصة . وتنتعش روحه عندما تضعه الذكريات وسط من رافق وأحب . وترن في أذنه الضحكات الودية ، تعليقاً على فهمه مقومات الحلم وتجلياته لما يصير بين اليدين ممكناً . ويتذكر كيف كان يوجز ما اعتقد أنه صح ، ويؤكد ثقته أن الحلم قادم لامحالة .
قال ذات مرة .. أنا لم يتسن لي التعليم مثلكم ، ولذلك لم أقرأ الكتب السميكة .. أنا فهمي على قدي .. أنا أفهم الحلم .. أن لا يكون هناك فقير وغني .. وأفهمه أن الحرية للجميع من فوق إلى تحت .. وأفهمه أننا كلنا أخوة لاعبد ولاسيد .. اللقمة الكريمة للجميع .. الكرامة للجميع .. والوطن للجميع . وعند الوطن كانت الذكريات تتواتر أكثر من غيرها . ويخطر عليه الموت والقبر .. ويود أن يدفن إلى جوار أبيه وجده .. ويتواصل شريط الذكريات متقطعاً ملبياً رغبات بقايا إرادة تأبى الموات ..
* * *
استقر سالم في حفرة متواضعة ياعيد .. وانهال على تابوته الرمل كثيفاً ثقيلاً .
بكى من بكى .. وأسف من أسف .. وتبودلت التعازي . وذهب كل إلى مأواه وبيته . وبقي سالم يا عيد .. وحيداً يتيماً .. كما عاش طوال حياته .
وأسدل الليل أثوابه السوداء . وهيمن على المقبرة سكون قابض للنفس .. مثير للسؤال .. هل سكان هذا المكان يؤثرون الهدوء ليرتاحوا في جنة السكينة من هموم الحياة وعبثها .. أم هو الحزن الطوعي العميق ، الذي يتطلب أن يكونوا ساكنين إلى ما لانهاية ؟ ..
من يخدع من ياعيد .. نحن أم الزمن . منذ سنة لم يخطر ببال أحد أن زمن سالم قد قارب نهايته . وأن من هو .. أبسطنا .. وأطيبنا .. وأكثرنا رجولة .. سيتمكن الزمن منه .. ويوقف عجلة حياته .. ويأخذه منا ..



#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غزة العظمى .. تقاتل ..
- ما بعد تجاوز سقوف الأزمة إلى الحرب
- سوريا من التغيير إلى التدمير .. لماذا ؟ ..
- حبيتي حاب
- بصمات عثمانية على الجدران السورية
- السؤال الحاسم في الأزمة السورية ( 2 /2 )
- السؤال الحاسم في الأزمة السورية 1 / 2
- حتى تتوقف كرة الدم
- أول أيار وسؤال البؤس والثورة
- الهروب إلى الحرية
- لماذا السلاح .. وضد من ؟ ..
- بين غربتين
- حتى لاتكون سوريا سورستان
- من الحزب القائد إلى الدين القائد
- ضريبة السلاح ولعنة الدم
- دفاعاً عن الرايات الوطنية
- إعادة الاعتبار - للثورة - .. واليسار .. والاشتراكية
- إنتهاء زمن الحزب القائد
- من سيحدد خواتم الأزمة السورية
- الباحثون عن الشرعية والدعم خارج القاعدة والوطن


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدر الدين شنن - اليتيم - إلى رمضان حسين -