أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - عالم جديد - الجزء الرابع - فيديريكو مايور















المزيد.....



عالم جديد - الجزء الرابع - فيديريكو مايور


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3849 - 2012 / 9 / 13 - 08:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


 
فيديريكو مايور
بالاشتراك مع
چيروم بانديه
 
عالم جديد - الجزء الرابع
 
 
ترجمة: خليل كلفت و على كلفت
 
 
 
بمساعدة
جان ـ إيڤ لو سو، رانيار جيدماندسون، وفريق مكتب اليونسكو للتحليل والتقديرات المستقبلية
 
 
هذه ترجمة لكتاب
 
Un Monde Nouveau
par
Federico Mayor
Avec la collaboration de
Jérôme Bindé
 
صدرت الطبعة العربية الأولى عن دار النهار للنشر، بيروت
بالتعاون مع منظمة اليونيسكو
2002
 
 
ترجم خليل كلفت
المدخل والفصول من 1 إلى 6
والفصول من 13-16 والفصول من 18-20 والخاتمة
وترجم على كلفت
 الفصول من 7-12 والفصل 17
 
 
 
 
 
 
 


 
المحتويات
الجزء الأول
مدخل ........................................................................
 
 
 
1.    نحو عقد اجتماعي جديد ..........................................
 
 
1: السكان: قنبلة زمنية؟ .........................................................
2: فضيحة الفقر والحرمان ......................................................
3: تغيير المدينة يعني تغيير الحياة ...............................................
4: مستقبل وسائل النقل الحضري: أكثر أمانا، أكثر نظافة، أكثر قربا ..............
5: النساء يحركن العالم ..........................................................
6: النضال ضد المخدرات: التعليم والتنمية والبحث عن معنى .....................
 
الجزء الثانى
 
 
 
2. العقد الطبيعي للمستقبل:
العلم والتنمية والبيئة .................................................
 
 
7: أن ننمو مع الأرض ..........................................................
8: الصحراء تنمو ...............................................................
9: هل ستظل المياه جارية؟ ......................................................
10: هل سيكون الطعام كافيا للجميع؟ ............................................
11: إطعام البشرية بفضل البيوتكنولوجيات؟ .......................................
12: نحو "ثورة فعالية الطاقة" .....................................................
 
الجزء الثالث
 
 
 
3. نحو عقد ثقافي:
من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة ...........................
 
 
13: ثورة التكنولوجيات الجديدة: المعلومات والاتصالات والمعرفة ..................
14: أيّ مستقبل ينتظر الكتاب والقراءة؟ ..........................................
15: تراث مهدد بالانقراض: اللغات ...............................................
16: التعليم على مشارف 2020: عن بُعْد أم بدون بُعْد؟ ..........................
 
الجزء الرابع
 
 
 
4. نحو عقد أخلاقي جديد ............................................
 
 
17: هل ستحدث "المعجزة الأفريقية"؟ .............................................
18: عائدات السلام والأمن العالمي ..............................................
19: أيّ مستقبل لمنظومة الأمم المتحدة؟ .........................................
20: من أجل ثقافة سلام .........................................................
 
 
 
خاتمة: في سبيل أخلاق للمستقبل .....................................
 
 
إشارات ......................................................................
فريق إعداد "عالم جديد"...................................................
شكر وتقدير...................................................................
 


 


 
 
القسم الرابع
 
نحو عقد أخلاقي جديد
 


 
17
هل ستحدث "المعجزة الأفريقية"؟
 
 
هل ستحدث "معجزة أفريقية" كما حدثت "معجزة آسيوية"؟ إن تجربة آسيا توضح، رغم الأزمة المالية القريبة العهد، أن من الممكن مواصلة نمو اقتصادي وممتد على مدى حوالي ثلاثين عاما([1]). وهل ينبغي أن نذكِّر بأن "النمور الآسيوية" كانت قد حققت في 1960 نفس مستوى التنمية البشرية المتحققة اليوم في أفريقيا جنوب الصحراء؟ وعلى سبيل المثال فإن جمهورية كوريا، التي كانت في 1960 في المستوى الحالي للتنمية البشرية في نيجيريا، تشغل الآن المركز العالمي الثلاثين (وتشغل نيجيريا المركز 142)، وتايلاند التي كانت في 1960 في المستوى الحالي للتنمية البشرية لجمهورية الكونغو الديمقراطية، يضعها برنامج الأمم المتحدة للتنمية في المركز العالمي 59 (وتأتى جمهورية الكونغو الديمقراطية في المركز 143)([2]).
غير أن مثل هذه المعجزة، التي لا ينبغي اختزالها إلى مجرد النمو الاقتصادي، لا يمكن أن تتحقق إلا لقاء تغييرات جذرية من شأنها أن تدفع أفريقيا نحو مستوى آخر من التنمية: إصلاحات سياسية وإدارية رئيسية تهدف إلى تحسين إدارة الخدمات العامة ونوعيتها؛ تعليم واسع النطاق للكبار، وإصلاحات عميقة للنظم التعليمية، واستخدام التعليم عن بُعْد، وخفض كبير للإنفاق على التسلح؛ واستثمارات تعطى أولوية لنظم الرعاية الصحية، ورفع أسعار المواد الزراعية، واستخدام التقنيات الزراعية المستديمة؛ وإعادة التوازن للعلاقات بين المدن والأرياف لصالح هذه الأخيرة؛ وتطوير الائتمان والائتمان الصغير، وسياسات المدينة، وتمكين المرأة؛ واستغلال الطاقات المتجددة؛ ودعم الثقافات الأفريقية؛ ونمو البنية الأساسية للاتصالات البعيدة المدى، إلخ. وسوف يكون على المجتمع الدولي أن يسهم في هذه "المعجزة الأفريقية" عن طريق شطب أو تحويل الجانب الأكبر من ديون هذه القارة، لكي تستفيد القطاعات التي تمثل مستقبل أفريقيا.
وتواجه أفريقيا جنوب الصحراء منذ الثمانينيات أزمة عميقة. وكانت تقتات على أقل من دولار واحد في اليوم، ويعيش ما بين 45% و50% في حالة من الفقر([3]). وكان واحد وثلاثون بلدا من الثمانية والأربعين بلدا "الأقل نموا" في العالم في 1997 تقع في أفريقيا جنوب الصحراء([4])، تماما كما أن واحدا وثلاثين بلدا من أربعة وأربعين منها تظهر ضمن "البلدان ذات التنمية البشرية الضعيفة" على قائمة برنامج الأمم المتحدة للتنمية([5]). وأفريقيا جنوب الصحراء هي تلك المنطقة من كوكب الأرض التي تكون فيها معدلات الوفيات العامة ومعدلات وفيات الأطفال هي الأكثر ارتفاعا، ويكون فيها العمر المتوقع هو الأقصر، ونصيب الفرد من الدخل هو الأكثر انخفاضا، والزيادة الديموغرافية هي الأكبر([6]). ولا يستفيد ثلثا سكان القارة من إمداد كاف من المياه الصالحة للشرب ولا يحصل أكثر من نصف السكان على خدمات صحية. وترزح المنطقة تحت الوطأة الثقيلة جدا لأمراض شديدة التنوع: الملاريا، والأمراض التي تنتقل عن طريق الجنس، والدرن، والأمراض الرئيسية للطفولة([7]). وعلى سبيل المثال فإن ثلثي مجموع حاملي فيروس المناعة البشرية في العالم موجودون في أفريقيا جنوب الصحراء (حوالي 21 مليون فرد)، وفي بعض البلدان يصيب مرض الإيدز ربع السكان البالغين. ويوشك هذا المرض أن يتجاوز فتكه مرض الملاريا الذي يقتل كل عام حوالي مليوني أفريقي، أيْ 90% من ضحايا الملاريا في العالم وغالبيتهم العظمى من الأطفال الصغار([8]). وفي كثير من بلدان المنطقة تؤدى الصراعات ووباء الإيدز وعبء الديون إلى إبطاء أو حتى انهيار الإنجازات التي تم تحقيقها بتكلفة غالية. وتمثل أفريقيا جنوب الصحراء، التي تضم 605 مليون نسمة و46 دولة، 10% من سكان العالم، ولكن 2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للعالم([9]). ونصيبها في التجارة العالمية (2.5%) لا يزيد عن نصيب بلجيكا([10]).
وعلاوة على هذا فإن من المحتمل أن الثورة الصناعية الثالثة والعولمة التي تقترن بها لن تكونا ملائمتين لأفريقيا لوقت طويل: الواقع أنهما ترتكزان على تجريد للاقتصاد من الطابع المادي وإلى إنتاج متسارع للبدائل بتأثير العلم والتكنولوجيا، وتعتبر أفريقيا ككل ضعيفة الاستعداد لهما([11]). غير أنهما، في الوقت نفسه، ترتكزان أيضا على اقتصاد جديد للصناعات والخدمات ذات "القيمة الثقافية المضافة" المرتفعة التي تستهدف سوقا عالمية، وتفتحان فرصا جديدة أمام أفريقيا، بشرط أن تنجح هذه القارة في استغلال قدراتها الكامنة الشديدة الغنى في هذا المجال: الصناعات الثقافية، الأزياء، صناعة النسيج والتصميمات، الخدمات، المشروعات الصغيرة والمتوسطة والصناعات الحرفية، السياحة الثقافية والسياحة الإيكولوجية، إلخ.
وفيما وراء جملة من المخاوف، هناك دلائل تبعث على الأمل في أفريقيا يجب أن تأخذها التقديرات المستقبلية في الاعتبار. ويمثل الوضع الديموغرافي هناك إحدى المفاجآت السارة للعقد الحالي. ولم يكف العمر المتوقع عن الارتفاع (باستثناء أوغندا وزامبيا وزيمبابوي حيث أعاد وباء الإيدز العمر المتوقع إلى ما دون الخمسين عاما)، وترتفع هناك بصورة متواصلة نسبة الصغار الناجين من أمراض الطفولة([12]). كما أن "ثقافة الخصوبة العالية" التي كانت تميز القارة الأفريقية تتراجع في كل مكان: تأخر سن الزواج الأول، استخدام وسائل منع الحمل، المباعدة ما بين الولادات بدلا من التوقف عن الإنجاب، إلخ. فأيّ ديموغرافي في الثمانينيات كان يمكنه أن يجرؤ على أن يتصور ما يجرى الآن أمام أعيننا: ليس مجرد انعدام في الخصوبة، بل ظهور "نموذج أفريقي للخصوبة" متجه بكل وضوح إلى الانخفاض؟ فهل نتجه، من الناحية الديموغرافية، نحو نهاية "الاستثناء الأفريقي" كما يقدر الآن العديد من الخبراء([13])؟
ومن الناحية الاقتصادية، تُظهر البلدان الأفريقية أيضا بعض الدلائل المشجعة على التحسن([14]). ولكن ماذا تعنى صحوة عابرة قصيرة الأجل أو مجرد بوادر نقاهة؟ وللمرة الأولى منذ 1979-1980، تحسن نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالي في أفريقيا خلال عامين متتاليين، 1996 و1997، وتجاوز النمو 5% في 11 بلدا([15]). وكان معدل نمو الناتج المحلى الإجمالي 4.6% في المتوسط في أفريقيا جنوب الصحراء في عام 1997. ووفقا للبنك الدولي، سيصل نمو الناتج المحلى الإجمالي الحقيقي للمنطقة خلال الفترة 2001-2007 إلى حوالي 4.1% في السنة([16]). غير أن المنطقة ستكون بحاجة إلى معدل نمو يتراوح بين 8% و10% في السنة([17]) لتحقيق القفزات النوعية الضرورية لها (حيث تصل الزيادة السكانية إلى 3% في السنة). ولا مناص من أن نسجل أنه في الوقت الحالي تستفيد أفريقيا جنوب الصحراء أقل من بلدان نامية أخرى من النمو الاقتصادي العالمي([18]).
ويبقى الطريق الذي ينبغي قطعه طويلا، وتظل اللوحة العامة للوضع في أفريقيا متناقضة جدا، غير أنه ليس هناك "قدر أفريقي"، يحكم على هذه القارة بالفقر وعدم الاستقرار الهيكلي. ونحن، بالعكس، على اقتناع بأن أفريقيا ستكون قادرة على أن تكتشف بنفسها وسيلة الخروج من المأزق بمجرد أن تتوقف المحاولات الرامية إلى أن تفرض عليها نماذج مستوردة ومكلفة وغير ملائمة للتنمية. ولهذا فإنه يجب قبل كل شيء أن نقهر "التشاؤم الأفريقي"، ذلك الاعتقاد الانهزامي الذي يرتبط في أغلب الأحيان بقارة أفريقيا. ويفترض هذا أن يستطيع المجتمع الدولي وأفريقيا ذاتها الانفتاح على القدرات الكامنة الهائلة وعلى الدينامية الخلاقة الاستثنائية التي تخفيها هذه القارة والتي لا تحتاج إلا إلى التعبير عن نفسها بكل وضوح. ولأن أفريقيا ليست هي المشكلة فإنها هي الحل. ويكفي للاقتناع بهذا أن نتأمل الحيوية الفريدة للثقافات الأفريقية في مجالات متنوعة مثل الأدب والسينما والتصوير والنحت والرقص والموسيقى والفنون الحرفية وأشكال التعبير الشعبية التقليدية([19]). غير أن على أفريقيا أن تمسك مصيرها بيدها. عليها أن تشرع في صيرورة ترمى إلى "استعادة" هذه القارة لنفسها.
السلام في أفريقيا
هو مفتاح التنمية
يتمثل الخطر الأكبر الذي يخيم على أفريقيا على أعتاب القرن الحادي والعشرين في انتشار النزاعات. ويشدد كوفي عنان Kofi Annan على أنه "منذ عام 1970، نشبت في قارة أفريقيا أكثر من 30 حربا، كان منشؤها بغالبيتها العظمى نزاعات داخلية. وفي 1996 وحدها، شهد 14 بلدا من بين 53 بلدا أفريقيا نزاعات مسلحة، مسئولة عن أكثر من نصف كل الوفيات التي أدت إليها نزاعات في العالم كله، كما شردت أكثر من ثمانية ملايين من اللاجئين والنازحين"([20]). وأول ضحايا هذه النزعات هم السكان المدنيون: وفقا للجنرال أمادو توماني توري Amadou Toumani Touré، فإن 92% من ضحايا الحرب وما يصاحبها من مجاعات يكونون في أغلب الأحيان من النساء والأطفال([21]). فهل يمكن أن يستمر المجتمع الدولي في غض النظر عن جرائم الحرب الحقيقية هذه المرتكبة أثناء نزاعات قريبة العهد أو جارية حاليا والتي يمثلها تجنيد الأطفال كجنود والاستخدام الوحشي للصبية الصغار في إزالة الألغام، والاغتصاب المنهجي للنساء وفرض البغاء القسري عليهن؟ وهل يمكنه أن يستمر في غض النظر تقريبا عن أعمال الإبادة الجماعية والمذابح المتكررة للسكان المدنيين في منطقة البحيرات العظمى؟
والضحية الكبرى الأخرى للنزاعات هي تنمية البلدان الأفريقية: يقدر البنك الأفريقي للتنمية تكلفة هذه النزاعات بمبلغ 250 مليار دولار خلال الفترة 1980-1993، أيْ ما يعادل الإنتاج الكلى للقارة في سنة. ويؤدى الفقر المطلق للسكان إلى تفاقم خطورة هذه الأزمات المتوالية: في ليبيريا وسيراليون، يشكل اللاجئون 10% من السكان، وفي بلدان عديدة تتزايد أعداد أطفال الشوارع([22]). وقد شدد المسئولون الأفارقة أنفسهم على هذا في اليونسكو أثناء جلسات أفريقيا، عندما أعلنوا أنه "ما دامت فكرة السلام تساء معاملتها في أفريقيا، فإن جهود التنمية لن تحقق أبدا كل الإنجازات التي نتوقعها منها. فمع النزاعات المسلحة، والحروب الأهلية، والخلافات الحدودية، والقبلية، والمنافسات الإثنية، والمعارك السياسية، واستغلال الدين لغايات حزبية، تفرض الواقعية علينا أن ننظر إلى عدم الاستقرار السياسي والحرب ليس أبدا على أنهما ظاهرتان عارضتان، بل على أنهما اتجاه خطير ومستمر. ويمكننا أن نعكس هذا الاتجاه الذي يتواصل منذ 50 عاما، غير أننا سنكون بحاجة إلى إرادة سياسية حديدية([23]).
ومن الغريب أن أشكال العنف التي تمزق القارة الأفريقية تحافظ على مصالح المجموعات والمشروعات الرئيسية عبر القومية التي تواصل في أغلب الحالات، مهما اشتدت حدة النزاعات والمذابح، استغلال الموارد الطبيعية المحلية في أمان تام. ولنعترف بهذا: في حالات متعددة، تستمر الحرب لأنها مربحة. وكما أكد كوفي عنان في أحد التقارير فإن ثروات ليبيريا وأنغولا وسيراليون وبلدان أخرى تغذى النزاعات الداخلية وتُثرى تجار السلاح الدوليين([24]).
وعلى الرغم من ضخامة حجمها فإن هذه النزاعات الدامية لا تلقى في وسائل الإعلام الاهتمام الذي تستحقه ولا تثير نفس الدرجة من السخط التي تثيرها صراعات أخرى. غير أن سلبية المجتمع الدولي والرأي العام تجاه هذه النزاعات الدامية بموكبها الطويل بلا نهاية من القتلى والجرحى والإذلال والدمار، لم يعد من الممكن أن تستمر. كما أنه يجب منح الأمم المتحدة وسائل حماية الضعفاء والمدنيين واللاجئين. وأنا أعتقد بصفة خاصة أنه، متى انهارت فكرة الدولة ذاتها تحت تأثير صدمة الحرب الأهلية، أو متى تم انتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع، ينبغي على منظمة الأمم المتحدة أن تتدخل تحت إشراف مجلس الأمن.
غير أنه لا يمكن الاكتفاء بأن نطبق على أفريقيا منطق المساعدة الإنسانية، التي ترتبط بالنتائج أكثر مما ترتبط بالأسباب، والتي تحل في أغلب الأحيان محل عمل ورؤية في الأجل الطويل ـ حينما لا يتم الانحراف بهذه المساعدة ولا يتم استخدامها كوسيلة إلى حد إطالة أمد النزاعات بدلا من تخفيف حدتها. وكما أكد كوفي عنان فإن "من الخطير بصفة خاصة أن تحل هذه المساعدة أحيانا محل العمل السياسي، بدلا من أن تكون مجرد مكمل له"([25]). ولا ينبغي فقط توطيد السلام، بل ينبغي قبل كل شيء بناء هذا السلام، بالاستثمار بكثافة في القطاعات التي تحمل الرجاء والأمل بالنسبة للسكان: التعليم، الصحة، الاتصالات، الثقافة، التنمية المستديمة. وفي فجر القرن الحادي والعشرين، لابد من إعطاء أولوية خاصة للتعليم في أفريقيا.
الاستثمار بكثافة
في التعليم للجميع مدى الحياة
منذ زمن الاستقلالات، تم تحقيق تقدم هائل في مجال التعليم في أفريقيا. وما من قارة استطاعت أن تحقق في وقت قليل إلى هذا الحد، مثل هذا التقدم على طريق تعليم القراءة والكتابة: من 1980 إلى 1995، انخفضت النسبة المئوية للسكان الأميين الذين يبلغون 15 عاما فأكثر في أفريقيا جنوب الصحراء من 59.8% إلى 43.2%، وارتفعت أعداد التلاميذ في المدارس بمعدل ثابت (بنسبة 4% خلال 1990-1994 في التعليم الابتدائي، مقابل متوسط 2% بالنسبة لمجموع البلدان النامية)([26]). ومن 1990 إلى 1995، التحق بالمدارس 10.3 ملايين تلميذ جديد في التعليم الابتدائي([27]).
ومع ذلك، فرغم كل الاستثمارات التي قدمتها الدول والهيئات الدولية، فإن المدرسة والتعليم الرسمي بعيدان عن تحقيق المهام التي عهد بها إليهما. وتظل معدلات الالتحاق بالمدارس أضعف كثيرا في أفريقيا جنوب الصحراء مما في المناطق الأخرى من العالم النامي (60% للمعدل الإجمالي للالتحاق بالمدارس، مقابل 90% في كل من أمريكا اللاتينية وشرق آسيا). أما التعليم الثانوي، وهو حيوي للتنمية، فإنه لا يحصل عليه إلا 17% من الأطفال. ولا يحصل سوى قليل جدا من الشباب الأفريقي (2% فقط من أعداد من أتموا الدراسة الثانوية في 1996)([28]) على التعليم العالي. وما زال التفاوت في الحصول على التعليم كبيرا بين البنات والأولاد([29]). وكيف يمكن قبول واقع أن 41% من الأطفال الأفارقة الذين تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات و14 سنة يعملون أو أن عدد الأطفال غير المنتظمين في الدراسة والذين تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات و11 سنة قد ارتفع في أفريقيا جنوب الصحراء بحوالي 12 مليونا من 1985 إلى 1995 ليصل إلى 44 مليونا، ثلثاهم من البنات([30])؟
وتعانى أفريقيا من ظاهرة تدهور في التعليم المدرسي، تتميز بانخفاض في معدل الالتحاق بالمدارس، يصيب منذ بداية التسعينيات حوالي خمسة عشر بلدا([31]): في كثير من الأحيان، لم يعد لدى هذه البلدان موارد لتأمين التعليم، وتميل البلدان الغنية بصورة مطردة إلى تقليل منح أموال التعاون، وتعيش أسر كثيرة في حالة نزوح مستمر، خاصة بسبب الحروب، مما يعرقل عملية التعليم المدرسي بصورة خطيرة. وخلال التسعينيات، امتنع بعض المقرضين الدوليين عن تمويل التعليم في أفريقيا([32])، وعندما وافقوا في نهاية المطاف على منح قروض، تضمنت تلك القروض في كثير من الأحيان شروطا غير مقبولة (على سبيل المثال، كان ارتفاع تمويل التعليم الأساسي يقتضي في بعض الأحيان تقليص الميزانية المخصصة للتعليم العالي والبحث العلمي).
وعلى وجه الخصوص فإن أعدادا كبيرة من الأسر تميل إلى عدم مواصلة قيد الأطفال في المدارس، لأنها لم تعد تثق في المؤسسة التعليمية، بسبب المستويات الضعيفة لأداء هذه المؤسسة، ونقص البنية الأساسية التعليمية، وتغيُّب المدرسين، الذين يتلقون في كثير من الأحيان أجورا هزيلة، بل أيضا بسبب تكلفة التعليم في بيئة اقتصادية بالغة التدهور. وتتمثل ظاهرة مثيرة للقلق بوجه خاص، في التدهور في أحوال المدرسين، الذين يكونون في كثير من الأحيان آباء فقراء بسبب سياسات التكييف الهيكلي والذين يجب عليهم أن يعملوا داخل فصول دراسية كثيرا ما تكون مزدحمة جدا، من أجل مرتبات غير كافية، مما يدفعهم إلى ممارسة مهن أخرى، وبصورة أساسية في الاقتصاد غير الرسمي. وظاهرة التغيب في ارتفاع مستمر. ويتمثل مؤشر آخر مثير للقلق فيما تعانى منه أفريقيا من نقص الكتب والمكتبات والمعدات التعليمية([33]).
وقد شدد المسئولون السياسيون والمثقفون المجتمعون في اليونسكو في "جلسات أفريقيا" بقوة على أن "التعليم والتدريب، بعد أن عرفا فترة توسع امتدت حوالي 20 عاما، يتسمان، منذ عدة سنوات، بظهور تفاوتات واضحة بين الأغنياء والفقراء، المدن والأرياف، البنات والأولاد، والتي يضاف إليها عجز النظم التعليمية عن التطور والتكيف مع مقتضيات عالم في حالة تحول متواصل"([34]). إن المهمة هائلة: ينبغي تعميم الحصول على التعليم الابتدائي؛ ووضع نهاية للتفاوتات بين الجنسين؛ ورفع نوعية التعليم وفعاليته وملاءمته؛ وإصلاح التعليم الثانوي والتعليم العالي من أجل جعلهما أداة لبناء مجتمع تعليمي، وإعلاء شأن التدريب الفني والمهني([35]).
وسوف يتعين على الدول الأفريقية أن تضع في مقدمة أولوياتها الحاجة إلى تعليم للجميع وحصول أوسع كثيرا على التعليم الثانوي والمهني والجامعي، مع توجيه اهتمام خاص إلى الفئات التي تواجه أكثر الصعوبات في الحصول عليه (البنات وسكان الريف)، ومع الاستخدام عند الحاجة لتكنولوجيات التعليم عن بُعْد للوصول إلى المناطق الأكثر عزلة: كما أكد أمادو توماني توري، رئيس مالي السابق، فإن "أزمة التعليم ستبدأ في التراجع بفضل الجامعات الافتراضية. ولم يعد الطالب بحاجة إلى السفر إلى الخارج أو حتى إلى مغادرة قريته للحصول على تعليم أفضل. وسوف يتيح الإنترنت وإضفاء الطابع الافتراضي على التجارب لكل شخص الحصول على تعليم ممتاز. وحينئذ ستتوقف هجرة العقول ..."([36]). ومن أجل الحد من هذه الهجرة، التي تجرد أفريقيا من كنزها العظيم المتمثل في مواهب سكانها، أنشأت اليونسكو مشروع UNITWIN الذي يجمع بين إنشاء شبكات بين ـ جامعية، وكراسي اليونسكو الجامعية، ومِنَح التدريب المكثف لفترة قصيرة قابلة للتجديد([37]). ومن هذا المنظور، نعتقد أن المدرسين والعلماء هم الأكثر أهمية: إنها مسألة مواجهة تحديات نوعية موجودة في داخل كل بلد، في الحال. وبطبيعة الحال فإن "الافتراضي" le virtuel سوف يقدم العون، غير أن التحدي الرئيسي يتمثل في تأمين تنمية القدرات المبدعة لدى البشر إزاء الرهانات الملموسة، المنسجمة مع زمانهم ومكانهم. كما يجب إيلاء اهتمام خاص للتدريس باللغات الأم؛ وقد أكدت "جلسات أفريقيا" عن حق على ضرورة ضمان أربعة أعوام متصلة من الدراسات الأولية باللغة الأم للطفل أو على الأقل، إنْ لم توجد، بإحدى اللغات "القومية"([38]).
غير أن مجرد تأمين الحصول على التعليم لا يكفي. إذ يظل ينبغي أن يثبت أن التعليم مفيد. ولهذه الغاية، ينبغي بطبيعة الحال أن نعطى أهمية أكبر للتدريب الفني، وأن نصر على أن تكون التدريبات مهنية، خاصة عن طريق إنشاء ودعم مدارس حرفية تتيح الحصول على دورات قصيرة من التدريب المهني وتيسر الوصول إلى الحياة العملية.
ولا يزال هناك أيضا الكثير الذي ينبغي عمله من أجل تحسين نوعية التعليم العالي في أفريقيا، كما أكد في نيسان/إبريل 1998 وزراء التعليم الأفارقة المجتمعون في المؤتمر الذي عقدته اليونسكو لهم في ديربان. وينبغي أن تكون القارة الأفريقية قادرة على أن تتولى بنفسها تأمين تدريب القيادات التي تحتاج إليها وأن تكون قادرة على تحديد اتجاهات الأبحاث الأكثر ملاءمة للأوضاع المحلية، خاصة في مجالات إنتاج المواد الغذائية، والطاقة الشمسية والأشكال الأخرى للطاقات المتجددة، والفقر في المناطق الريفية، والصحة، ومبادئ الصحة والنظافة، والإسكان([39]). ويتعين كذلك أن يؤدى تطوير هياكل التعليم العالي إلى إيجاد حل لمشكلة هجرة العقول: اليوم، يعيش أكثر من 30000 أفريقي من حملة الدكتوراه خارج أفريقيا، ويقومون في أغلب الأحيان ليس بتنمية الاقتصاد الأفريقي، بل اقتصاد البلدان الصناعية التي واصلوا فيها، كقاعدة عامة، تعليمهم الجامعي. ويقدر عدد من الخبراء أن إضفاء الطابع الإقليمي على التعليم العالي في أفريقيا سيكون أكثر فاعلية، خاصة عن طريق إنشاء مراكز إقليمية ممتازة. ومن الأساسي ربط هذه المراكز الإقليمية الممتازة في المستقبل، عن طريق توفير أحدث وسائل الاتصال لها، خاصة عن طريق الإنترنت، بأفضل جامعات المناطق الأخرى من العالم أو فيما بينها.
وفي المستقبل، يمكن أن يأتي تمويل التعليم في أفريقيا من مصادر متنوعة:
    ·    يجب أن تتحمل الدولة كل مسئولياتها فيما يتعلق بالتعليم؛ وحيث أن هذا تم اقتراحه خلال "جلسات أفريقيا" فإنه سيكون على دول المنطقة تخصيص 5% على الأقل من ناتجها المحلى الإجمالي للتعليم، مما سوف يفترض موازنات شجاعة، خاصة فيما يتعلق بالميزانية، كما فعلت بلدان أخرى (الهند، البرازيل، إلخ.) من قبل. وبوسع بلدان القارة أن تقتسم "على أسس تفاوضية ومقبولة بصورة مشتركة ومتبادلة" أعباء نفقات التعليم مع الأقاليم والمحافظات والبلديات والمجتمعات الريفية والأسر.
    ·    لا عذر، في الأوضاع السياسية الداخلية والخارجية لأفريقيا، يبرر مثل ذلك المستوى المرتفع والمستمر الزيادة من النفقات العسكرية (3% من الناتج المحلى الإجمالي في 1991 مقابل 0.7% في 1960). وأنا أدعو، مع كوفي عنان، البلدان الأفريقية إلى خفض نفقاتها على الأسلحة والذخيرة إلى أقل من 1.5% من ناتجها المحلي الإجمالي والالتزام بعدم زيادة ميزانية دفاعها خلال عشرة أعوام قادمة([40]). ولابد من إعادة استثمار الأموال المحررة على هذا النحو في قطاعيْ الاستثمار الحيوي وهما التعليم والصحة اللذين يجب زيادة نصيبهما من الناتج المحلي الإجمالي كل سنة إذ أن هذه هي النفقات الاجتماعية الأكثر معاناة من الإهمال في فترة النزاع([41]).
    ·    يجب أن يشجع المجتمع الدولي الاستثمار في التعليم: يمكن أن يكفي 2.5 مليار دولار سنويا لتمويل تعميم التعليم الابتدائي في أفريقيا جنوب الصحراء. وهناك طريقة تبدو لي واعدة بصورة خاصة: طريقة تحويل الدين debt swap [مقايضة الدين] إلى استثمارات من أجل التعليم، والعلم، والتكنولوجيا، والصحة([42]). ولماذا لا نقترح على البلدان النامية، وبصورة خاصة أفريقيا، إجراء سداد جزء من ديونها في شكل استثمارات تعليمية، مثل تشييد مباني المدارس، وتدريب المعلمين، وشراء المعدات التعليمية، والتجهيز بتكنولوجيات جديدة بدلا من مطالبة هذه البلدان المستنزفة بمدفوعات غير منتجة لسداد ديونها، تستدعى بدورها مساعدات إضافية؟
        ·          يمكن أن يتمثل حل ملائم آخر في تخصيص رُبْع مساعدة التنمية لتمويل التعليم، كما اقترحت لجنة اليونسكو برئاسة جاك ديلور([43]).
    ·    نظرا للمكاسب الضخمة التي تحققها الشركات عبر القومية في البلدان الأفريقية، ألا يمكن مطالبة هذه الشركات بتخصيص 1% على الأقل من رقم مبيعاتها لتحسين التعليم في البلدان التي يتم إنشاؤها فيها([44]).
وفيما يتعلق بالتنمية العلمية والتكنولوجية، كنتُ قد اقترحتُ من قبل أن تخصص البلدان الأفريقية استثمارا إضافيا بنسبة 0.05% من الناتج المحلي الإجمالي للأبحاث والتطوير كل عام خلال 6-8 سنوات لتحقيق رقم حد أدنى يصل إلى 0.3-0.4% من الناتج المحلى الإجمالي السنوي، وهذه هي النسبة المئوية الضرورية للانطلاق التدريجي للبحث العلمي. ولهذا يجب أيضا استثمار 3% من اعتمادات برنامج الأمم المتحدة للتنمية في مجال الأبحاث والتطوير.
ومن ناحية أخرى، ينبغي وضع "قواعد سلوك" للمشروعات المتعددة الجنسيات، في إطار الأمم المتحدة، بهدف تجنب الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية لأفريقيا والذي يسهم، إلى جانب آثار "الاستعمار المالي" في اكفهرار آفاق أفريقيا اليوم.
الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون:
قبول تحديات المستقبل
لا شك في أن النمو الاقتصادي، وهو الشرط الأساسي لتحسين شروط حياة (وبقاء) السكان، لا يكفي بمفرده لضمان السلام والديمقراطية. وكما أكد الاقتصادي النيجيري أديبايو أديديجي Adebayo Adedeji، فإن "ما نواجهه في أفريقيا، هو قبل كل شيء، أزمة سياسية، وإن كانت مصحوبة حقا بنتائج اقتصادية مدمرة"([45]). وأفريقيا في حاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى "إدارة سليمة" أي إلى مواصلة العملية الديمقراطية، وتعزيز المؤسسات والإطار التنظيمي، واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون ـ التي ينبغي أن تأتي في مقدمة شواغلنا الأفريقية كما أكد كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة([46]). كذلك ينبغي أن تتوقف أفريقيا عن الإفراط في الاستثمار في سياسة مصممة كاستمرار للحرب بوسائل أخرى: سيكون على السياسة من الآن فصاعدا أن تهدف إلى أن تدير أكثر مما تسود، وإلى أن تبذل قصارى جهدها لتوفير الخدمات العالية النوعية للسكان بدلا من خدمة أغراضها الخاصة. وتتمثل إحدى أدوات تحقيق هذا الانتقال في التثقيف المدني الذي تنظمه السلطات العامة، أو المنظمات غير الحكومية، أو وسائل الإعلام، أو جهات أخرى؛ ومن الآن فصاعدا فإن التثقيف المدني سوف يرتدي أهمية كبرى في انتشار ثقافة ديمقراطية ومدنية في أفريقيا([47]).
ويمثل تطور نظم تعددية وانتخابات حرة في أفريقيا خطوة واعدة على طريق المقرطة. ولا شك في أن تقدم الأفكار الديمقراطية بطيء هناك، غير أنه لا يمكن إنكاره: في بداية الثمانينيات، لم تكن القارة تضم سوى ثلاث ديمقراطيات في مقابل ثلاثين نظاما عسكريا أو ذا حزب واحد؛ والآن أجريت انتخابات في ثلاثين بلدا من بين ستة وأربعين بلدا في أفريقيا جنوب الصحراء([48]). ورغم مضي عقد من الزمان، فإن الديمقراطية ما زال ينظر إليها في كثير من الأحيان في أفريقيا على أنها نوع من السلع المستوردة، على أنها تقريبا طرفة غريبة دخيلة. واليوم، كما أثبت الانتقال السلمي الذي قاده نيلسون مانديلا Nelson Mandela في جنوب أفريقيا، صارت الديمقراطية تعاش بصورة متزايدة باعتبارها صورة داخلية للمجتمعات المحلية، نابعة من تاريخها الخاص، ومن صراعاتها ومن تراثها الثقافي الثري. وتريد المجتمعات الأفريقية أن تبني مستقبلها بالاستناد إلى سيادة القانون والحوار الوطني. وكما أكد، في اليونسكو، ممثلو القارة المجتمعون بمناسبة "جلسات أفريقيا"، فإن "كل تركيز للسلطة أو مصادرتها من جانب أقلية في إطار حزب واحد أو حزب للدولة" يعتبران ضارين. إنهما يعتبران "عملا من أعمال سوء التنمية والديكتاتورية". ويجب "مقاومتهما"([49]).
وأضافوا أن "أفريقيا في حاجة إلى الديمقراطية، إذ أن الديمقراطية، نظرا لأنها الحلقة المفقودة بين التنمية والسلام، يجب النظر إليها ليس مطلقا على أنها نموذج ينبغي تقليده، بل على أنها هدف ينبغي الوصول إليه"([50]). وإنما انطلاقا من قيم خاصة بالسكان الأفارقة سيكون من الممكن في الواقع إعداد أشكال لإدارة الحياة الاجتماعية والجماعية تتطابق مع واقع الحياة الأفريقية، مع اتفاقها في الوقت نفسه مع المبادئ العامة للديمقراطية.
ولن يكون من الممكن إقامة ديمقراطية في أفريقيا بدون حرية تعبير كاملة. وقد أكد إعلان وندهوك، 1991، الذي أقر تحت رعاية اليونسكو، أن "إنشاء وبقاء وتعزيز صحافة حرة ومستقلة وتعددية عوامل ضرورية لتطوير الديمقراطية([51])". ويفترض هذا سياسة لدعم تدريب الصحافيين، ومنظمات الإعلام المستقلة، وخصوصا الإذاعات، وإنشاء الصحف؛ ويعمل البرنامج الدولي لتطوير الاتصالات الذي أنشأته اليونسكو بصورة ملموسة في هذا الاتجاه.
وتقتضي تقوية أطر مؤسسية في أفريقيا، والنضال ضد الفساد ومن أجل سيادة القانون، تدريب عدد كاف من المتخصصين الأفارقة في المجالات المؤسسية الرئيسية، مثل الاقتصاد، والإدارة، والقانون، والعدالة، ومن أجل تأمين استقرار طويل الأجل لإطار مؤسسي، وتطبيق نزيه للقانون والعدالة، وتطبيق عقلاني للسياسات. ويجب أن يشجع التعليم الجامعي في أفريقيا وخارج أفريقيا، عن طريق منح تدريبية، التدريب والأبحاث في هذه المجالات.
إعطاء فرصة حقيقية
للمرأة والشباب الأفريقي
ليس للتنمية معنى إلا عندما تأخذ في حسبانها أماني واحتياجات الكائنات البشرية التي تسعى إلى تحسين شروط حياتها. غير أن البيانات الإحصائية والبرامج السياسية تتغاضى في كثير من الأحيان عن المساهمة الفعلية أو المحتملة لفاعلين بعينهم في ازدهار المجتمعات. كما ينبغي أن نشدد بقوة على دور النساء والشباب في أفريقيا. والحقيقة أن النساء والشباب بمثابة ورقة رابحة وثروة وأمل بالنسبة للمستقبل.
كتب الاقتصادي دانييل كوهين يقول: أفقر إنسان في العالم "امرأة: امرأة أفريقية"([52]). وقد شدد التقرير العالمي بشأن التنمية البشرية، 1995، الذي ألقى الضوء على أهمية المساهمة "غير المنظورة" وغير المدفوعة الأجر للنساء في الإنتاج العالمي، على أن "مساهمة النساء في النشاط الاقتصادي أكبر في أفريقيا مما في أي مكان آخر. ويمثل عملهن 44% من إجمالي وقت العمل المبذول في السوق، وهذا بصورة رئيسية بسبب نشاطهن في الزراعة والخدمات. وبالمقابل، فإن مساهمتهن في إجمالي وقت العمل في الصناعة تبلغ 17% فقط. وفي المناطق الريفية في كينيا، تعمل النساء 56 ساعة أسبوعيا في المتوسط مقابل 42 ساعة فقط للرجال"([53]). وتنتج النساء اللائى يعملن في المجال الزراعي في أفريقيا 70% من الغذاء([54]).
وينبغي منح النساء الأفريقيات المكانة الجديرة بهن في إستراتيجيات التنمية في القارة. ويجب أن تشجع الحكومات الأفريقية مشاركتهن في كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وينبغي أن يتم تيسير وصولهن إلى نظم الائتمان الصغير، والائتمان، وتشجيع مشاركتهن في الحياة العامة وفي وسائل الإعلام، وأخيرا ضمان مساواتهن المدنية الكاملة مع الرجال ـ خصوصا في مجال الوصول إلى الملكية والحق في الميراث. ويشكل تعليم البنات، مع تساوي الفرص مع الأولاد (في 1995 كانت نسبة الالتحاق بالتعليم المدرسي 52% بين البنات مقابل 61% للأولاد)، الحل الأفضل لتحسين وضع النساء في أفريقيا بصورة قابلة للاستمرار وطويلة الأجل.
ويتمثل أحد الآمال الكبرى لأفريقيا في شبابها. والواقع أنه لم يحدث مطلقا من قبل أن كانت أفريقيا فتية كما هي اليوم، ولا شك مطلقا في أنها لن تكون فتية في المستقبل كما هي اليوم. فاليوم، تقل أعمار 40% إلى 50% من سكان أفريقيا عن 15 سنة؛ وفي 2050 ستتراوح هذه النسبة بين 19% إلى 28% في كل البلدان الأفريقية، حيث أن سبب الشيخوخة هناك سيتمثل بصورة خاصة في انخفاض الخصوبة([55]). إن الشباب الأفريقي هو الذي سيأتي منه الحل للتحديات الكبرى التي لا مناص من أن تواجهها أفريقيا في القرن الحادي والعشرين. فالقدرة الكامنة لدى الشباب هائلة: رغم ضخامة التفاوتات بالمقارنة مع بقية العالم (خصوصا فيما يتعلق بالدخل والتعليم والعمر المتوقع عند الولادة) أو حتى داخل القارة ذاتها (معدل وفيات الأطفال في أفريقيا في مناطق الريف أعلى كثيرا وهو يتوقف على المستوى التعليمي للأمهات)، لم يكن هناك مطلقا أي جيل متعلما إلى هذا الحد، راغبا إلى هذا الحد في المشاركة بنشاط في تحقيق المستقبل الديمقراطي للمنطقة، واعيا إلى هذا الحد بالأخطار التي تشتد وطأتها على بيئته. ولا ينبغي لأفريقيا ولا لبقية العالم إضاعة هذه الفرصة.
فماذا يمكننا إذن أن نفعل من أجل اغتنام هذه الفرصة؟ هناك أخطار عديدة ترتبط بمستقبل الشباب الأفريقي. وبالنسبة إلى الغالبية العظمى من بلدان القارة يبقى التعليم الأساسي للجميع أملا ما يزال بعيدا (يتسرب ثلث التلاميذ من المدرسة الابتدائية قبل الوصول إلى السنة الخامسة([56])، ويبقى الوصول إلى التكنولوجيات الجديدة حلما، والحصول على وظيفة في القطاع الرسمي امتيازا، والرعاية الصحية هدفا بعيد المنال تقريبا للبقاء. وكما يشدد تقرير حديث لليونسكو، فإن "الشباب الأفريقي الحضري تتقلص بالتدريج فرص نجاحه في الدوائر الكلاسيكية للتوظف والدخل. وتتقلص بالتدريج دوائر التدريب وما بقي منها في حالة سيئة، وحتى الحاصلون على أعلى الشهادات يجدون صعوبة في دخول دائرة الإنتاج"([57]). ووفقا لدراسة حديثة لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية ومنظمة العمل الدولية، سوف يتعين توفير وظائف لـ 8.7 مليون من الشباب الأفريقي سنويا من الآن وحتى 2010، في حين أن البطالة المعلنة قد تضاعفت في المناطق الحضرية خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة، وفي حين أن 75% من الوظائف في أفريقيا جنوب الصحراء تقع على هامش الاقتصاد المنظم، في زراعة القوت الضروري أو في التجارة الصغيرة([58]). ولا ينبغي الاستمرار في تجاهل آثار التكيف الهيكلي في المجال الاجتماعي ولا استغلال المشروعات الخارجية المتعددة الجنسيات للموارد الطبيعية في أفريقيا.
وفي الوقت ذاته، نشاهد في أفريقيا بصورة متزايدة "أطفالا بلا طفولة": إنهم الـ 41% من الأطفال بين 5 سنوات و14 سنة الذين يعملون، وهذا الاستغلال يتخفى في كثير من الأحيان وراء ستار "التضامن الأسري"؛ وهم أيضا "أطفال الشوارع"، هذه الظاهرة التي كان يظن في لحظة ما أنها تقتصر على بلدان تمزقها الحروب الأهلية (موزمبيق، أنغولا، الصومال، أريتريا ...)، لكن التي صار هناك إدراك من الآن فصاعدا أنها تصيب تقريبا كل المدن الأفريقية، بما في ذلك عواصم الدول الأقل حرمانا([59]). وهم أيضا "أطفال الحروب": الأيتام، ضحايا الألغام المضادة للأفراد، الجنود الأطفال المجندون قسرا في وحدات قتالية أثناء نزاعات محلية (15 إلى 20 ألفا في ليبريا)، الأطفال اللاجئون والمصابون بسوء التغذية([60]). وهم أيضا الأطفال ضحايا المخدرات والبؤس والقلاقل، الذين يكونون في كثير من الأحيان ضحايا المدينة العديمة الرحمة، ويقدمون دفعات من الأفراد للجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والبغاء.
وفي مثل هذه الأوضاع، يبدو الاندفاع الفكري والإبداعي للشباب الأفريقي عظيم القيمة من باب أولى. ينبغي الإمساك دون إبطاء بهذه الفرصة السانحة، التي قد لا تتاح مرة أخرى، وذلك بأن نوفر لهذا الشباب وسائل كافية لكي يعيش ويعبر عن نفسه. والحقيقة أن الشراكة الجديدة التي أقترحها من أجل أفريقيا يمكن أن تجعل من الأطفال والشباب مجموعة ذات أولوية أحق بالتشجيع على أن يصيروا، ليس المتفرجين السلبيين على مصيرهم، بل الفاعلين الصانعين لهذا المصير. ذلك أنه لا أمل في بناء مجتمعات مسالمة وديمقراطية ما دامت البطالة والعنف والاقتصاد غير المشروع هي الآفاق الوحيدة لمستقبل الشباب الأفريقي. والحقيقة أنه ينبغي الاستثمار في التعليم في أفريقيا إذا كان للبلدان الأكثر تقدما أن تأمل حقا في أن ترى مناطق الاستقرار تتسع هناك.
أنسنة المدينة الأفريقية
دخلت المدينة الحديثة في الثقافة الأفريقية المعاصرة في صورة سمات "المدينة القاسية" ville cruelle ـ وهذا عنوان رواية ذائعة الصيت للكاتب الكاميروني إيزا بوتو Eza Boto (مونغو بيتي Mongo Beti)، نشرت في 1994. والواقع أن هذه الصورة لا تتطابق فقط مع رؤية النخبة الفكرية والسياسية وحدها، بل تشاركهم فيها أيضا الطبقات الشعبية: ولا يمكن في هذا الصدد التقليل من شأن تأثير أغاني برامج المنوعات التي أشاعت طويلا تصورا سلبيا عن المدينة، بمطابقتها بمكان شرير وجسم غريب. وفي صميم هذه الروح العدائية تجاه المدينة، هناك خليط من الحنين إلى "أفريقيا القرى"([61])، كعالم أسطوري هو إلى حد كبير مختلق ومطبوع بطابع الكمال، ومن الحساسية الحادة إزاء المشكلات الواقعية التي يعيشها سكان المدن. وسوف يتمثل التحدي الكبير بالنسبة لأفريقيا في القرن الحادي والعشرين في أنسنة المدينة.
وما يزال ستة وستون في المائة من سكان أفريقيا يعيشون في الريف؛ وتمثل الزراعة حوالي 35% من الناتج المحلي الإجمالي و40% من الصادرات. ومع هذا، فإن إفريقيا ربع القرن المقبل لن تكون شبيهة تماما بالصورة الريفية بصفة رئيسية التي ما يزال يتم تقديمها عنها. وإذا كان المعدل الحالي للحضرنة لا يتجاوز 34% (14.7% في 1950)، إلا أنه يزداد بنسبة 4.6% سنويا (1990-1995)، وتتوقع الأمم المتحدة أن يصل إلى 54% عام 2025([62]). وعلى مشارف 2025، لا مناص من أن تضم أفريقيا 36 مدينة يسكن كل مدينة منها أكثر من 4 ملايين نسمة، ويتجمع فيها أكثر من ثلث المجموع الكلي للسكان. وعلاوة على هذا ينبغي أن نلاحظ أن نصف الزيادة الحضرية فقط يعزى إلى الهجرة الريفية، حيث يمكن تفسير النصف الآخر من الآن فصاعدا بالزيادة الطبيعية لسكان المدينة. وكما تؤكد مؤسسة نادي الساحل، آن دي لاتر Anne de Lattre، فإن "أفريقيا لم تعد ريفية من الناحية الأساسية، فهي تتحضرن بسرعة مضاعفة، بصورة خاصة بسبب صدمات الجفاف في منطقة الساحل ... والمدينة في أفريقيا هي مكان التعبير السياسي والبحث عن توازن جديد بين السلطة والمجتمع المدني"، إنها مكان الأشكال الجديدة للتعبير([63]).
غير أن هذه الزيادة الحضرية الأفريقية بعيدة عن التوقع السليم. فهناك تفاوت شديد بين تنبؤات وواقع الزيادة الحضرية: تم تجاوز كل تقديرات المخططين تماما، بعشرة أضعاف أحيانا([64]).واقترنت الحضرنة السريعة والوحشية أحيانا في أفريقيا في الثمانينيات والتسعينيات "بأزمة حضرية" تميزت بثلاثة مكونات رئيسية: ارتفاع البطالة في القطاعات الرسمية، والازدهار الملازم له في أنشطة "القطاع غير الرسمي" في مجالات أساسية للاقتصاد الحضري، وتدهور في جودة وتوزيع الخدمات الأساسية، وتدهور في البيئة الحضرية، الطبيعية والعمرانية([65]). إننا نشهد تفشي الاختلال الأمني وعدم الاستقرار الحضريين (البطالة، البغاء، الإجرام، تجارة المخدرات، هدم الأطر التقليدية للتضامن)، كما نشهد أزمة إسكان والتدمير الكامل تقريبا "للبيئة الطبيعية" الحضرية التي لم تعوض عنها سياسة لتوفير مساحات خضراء: من النادر في الواقع وجود مدن أفريقية يمكنها أن تتفاخر، مثل "برازاڤيل الخضراء"، بانتهاج سياسة من هذا النوع. وقد تأثر نمو المدن بالتوسع المستمر في الحيز الحضري (على سبيل المثال، اتسعت داكار بمقدار 20 كيلو مترا خلال 25 عاما، وكنشاسا بحوالي 40 كيلومترا خلال 30 عاما)، وتراكم النفايات المنزلية والصناعية، وسوء شبكات الطرق، وتقادم وازدحام وسائل النقل([66]). ومشكلة المياه حرجة بصورة خاصة في المدن الأفريقية، التي تعانى أشد المعاناة من قصور شبكات الإمداد والتنقية([67]). ويشجع هذا الوضع على تلويث مياه الشرب: يؤدي التلوث إلى أمراض الإسهال، السبب الأول لوفيات الأطفال في أفريقيا (تؤدي هذه الأمراض، وفقا للتقديرات، إلى ربع وفيات الأطفال تحت الخامسة من العمر([68]))، وهو السبب وراء عدد كبير من الأمراض الأخرى (الكوليرا، التيفويد، الالتهاب الكبدي ’ب‘ ...)، التي يكون الأطفال أيضا أول ضحاياها([69]). فهل هناك حاجة إلى إضافة أن الإيدز يجد في المجتمع الحضري المرتع الرئيسي لتفشيه؟
وعلى كل حال، لا مجال للاستسلام "للتشاؤم الحضري" الذي يرى أن كل سياسة للمدينة تقتضي الوصول إلى خفض معدل النمو الحضري وعند الضرورة إلى خفض عدد سكان المدينة. غير أن الحلول الضرورية يجب أن توضع موضع التنفيذ داخل الحيز الحضري ذاته. وليس المقصود وقف عملية النمو الحضري، بل توقعها وإدارتها (وسائل النقل، إمدادات المياه، الطاقة)، بدون التضحية بمجالات الخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم: وقد ذكرنا في فصل آخر مختلف الإجراءات التي ينبغي اتخاذها من أجل أنسنة المدينة. على أنه ينبغي أيضا الحد من الهجرة الريفية عن طريق تحسين نوعية حياة السكان المعنيين: لو كانت البلدان الأكثر تقدما قد أوفت بتعهداتها في تخصيص 0.7% من ناتجها المحلي الإجمالي للمساعدة الرسمية للتنمية، لانخفضت تدفقات الهجرة الداخلية والدولية بشدة. وتثبت تجربة ("القرى الشمسية ـ اليونسكو") أنه يمكن، باستثمارات بالغة الترشيد، تحسين شروط الحياة ـ التعليمية، الصحية، البيئية، إلخ. ـ للسكان في بيئة الريف.
ومن هذا المنظور، يجب أن توطد المدينة الأفريقية نفسها في الثقافة القومية والمحلية. ومن وجهة النظر هذه فإن من المهم تطوير تكنولوجيات حضرية ملائمة، خصوصا في مجال بناء المساكن، بحيث يتم أقصى استغلال لمواد البناء والأساليب المعمارية التقليدية. ففيما يتعلق بالمدينة الأفريقية فإن من العبث أن "تبنى بالخرسانة"، مع أن البناء بالطين يمكن أن يقدم في كثير من الأحيان حلولا أقل تكلفة بكثير، وأكثر ملاءمة بكثير مع المناخ والثقافات المحلية. كما أنه سيكون من الممكن في أفريقيا الاعتماد على تنمية "الألفة الاجتماعية للمدينة"([70])، وهذا ميدان تتميز فيه المدن الأفريقية إلى حد كبير على المدن الأخرى في الجنوب والشمال، وتطور كنوز إبداعها في قطاع الاقتصاد غير الرسمي الذي يتجلى فيه على سبيل المثال ازدهار "التأمين التكافلي"([71]). ولم يعد المطلوب هناك مجرد ملطف لأزمة الوظائف والتضامنات الحضرية، بل استراتيجية لتولي سكان المدن مسئوليتها وممارسة ملموسة للاندماج في المجتمع الحضري.
زيادة الأمن الغذائي للقارة الأفريقية
كثيرا ما تقترن الحضرنة في أفريقيا بقلة الاهتمام بالأرياف والبنية الأساسية الريفية، وكذلك باهتمام غير كاف برفع قيمة الحاصلات الزراعية. وإنما في هذا يكمن أحد أسباب إفقار الأرياف وسكانها. وقد اعترف تقرير حديث للبنك الدولي بانخفاض الاستثمار القومي والدولي في التنمية الريفية الأفريقية([72]). وعلى سبيل المثال، يصل معدل كثافة الطرق الريفية في أفريقيا إلى 34 مترا لكل كيلو متر مربع مقابل أكثر من 500 في الهند، و50% من الطرق الريفية هناك تحتاج إلى إصلاح([73]). وكما أكد الاقتصادي دانييل كوهين، "سيكون من قبيل التفسير الخاطئ تاريخيا ونظريا أن نظن أن سياسات ’ريفية‘ مثل تلك التي يتم تطبيقها اليوم في أفريقيا يمكن أن تعجل بظهور مجتمع صناعي. [...] فالمدن لا يمكن تعزيزها بإفقار الريف: إن عاجلا أو آجلا، سوف تتفشى المجاعات نتيجة لهجرة ريفية جماعية لا يمكن السيطرة عليها"([74]). ولابد بالتالي من تطبيق سياسات حقيقية لاستغلال الأراضي والتوصل إلى تصور أكثر اتزانا عن التنمية. ولتحقيق هذه الغاية، لا مناص من الإقرار بأهمية الريف باعتباره الرئتين الحقيقيتين للتقدم الاقتصادي، وهو الذي شهد في القرون الماضية ـ كما نعلم ـ الإرهاصات الأولى للتصنيع قبل انفجار "الثورة الصناعية" بوقت طويل. ويفترض هذا اتخاذ تدابير تهدف إلى تشجيع ازدهار الريف، عن طريق إعادة تقييم أسعار الحاصلات الزراعية بوجه خاص: يلاحظ دانييل كوهين عن حق، أنه "عن طريق الإبقاء على أسعار الحاصلات الزراعية منخفضة بصورة مصطنعة، تدمر السلطات الحضرية الفلاحين الأقل قدرة على الصمود، فتجبرهم على هجرة ريفية تكدسهم في المدن التي كثيرا ما تتمثل ثروتها الوحيدة، على وجه التحديد، في قدرتها على الاعتماد على الأسعار الزرعية المدعومة"([75]). وفي الوقت الراهن، يعجز الريف الأفريقي عن الوصول إلى توفير الاحتياجات الغذائية لكل السكان، وارتفع عدد الذين يعانون نقص الغذاء في أفريقيا جنوب الصحراء من 103 مليون إلى 215 مليونا بين 1970 و1990([76]). فكيف لا يكون هذا مثيرا للقلق، في وقت يتضاعف فيه سكان أفريقيا كل 23 عاما على حين يتضاعف إنتاجها الغذائي كل ثلاثين عاما؟ وكيف لا نشعر بالقلق عندما نعلم أنه في 1960 كانت أفريقيا تغطى 107% من احتياجاتها الغذائية ولم تعد تغطى منها اليوم إلا 78%([77])([78])؟ بل إن بعض الخبراء يتوقعون أنه سيكون بوسع إفريقيا الجنوبية في القرن الحادي والعشرين أن تعتمد في غذائها على البلدان الواقعة شمالي نهر الزامبيزي، مثل زائير وزامبيا. وقد نشأ هذا الوضع بصورة خاصة نتيجة لاستنفاد التربة الأفريقية، وهو ما يعزى إلى الأساليب الزراعية غير الملائمة، ولكن أيضا إلى فقر الريف وإلى ضغط ديموغرافي حساس بصورة خاصة في المناطق التي تندر فيها الأراضي الخصبة([79]). وفي نفس الوقت، دفع منطق النمو المتسارع والربح القصير الأجل إلى الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية ـ الغابات على وجه الخصوص([80]).
ولذلك فإنه لا غنى عن التوفيق بين التنمية الاجتماعية الاقتصادية والمحافظة على البيئة. وهذه ضرورة حيوية ليس فقط للأمن الغذائي للسكان بل أيضا لتنمية الصناعة السياحية والأنشطة المتفرعة عنها، والتي تتمتع فيها أفريقيا بوسائل نجاح هائلة. ومن الملح العاجل أن توضع موضع التطبيق سياسات زراعية حقيقية وإستراتيجيات لدعم الأنشطة الريفية ولتنمية البحوث الزراعية([81]). ويتطلب هذا إنشاء أسواق إقليمية أو تحت إقليمية جديرة بهذا الاسم، وهذا يعنى صورا من التكامل متنامية إلى هذا الحد أو ذاك بين الدول المعنية. وسوف ينبغي أن تقترن هذه الإستراتيجية باستخدام متزايد للطاقات المتجددة وخصوصا الطاقة الشمسية، وقد بدأت بلدان أفريقية كثيرة السير في هذا الطريق (انظر فصل "نحو ’ثورة فعالية الطاقة‘")([82]). ويمكن أن تستفيد أفريقيا من توفير أفضل للمياه: 8% فقط من الأراضي الزراعية مروية في أفريقيا. وكما أكد رئيس كوت ديڤوار، هنري كونان بيديى Henri Konan Bédié، فإن "الأمن الغذائي للقارة لن يتحقق بدون السيطرة على المياه. وبدون موارد مائية وفيرة فإن جلب تكنولوجيات زراعية جديدة، ومكاسب الإنتاجية، وإدخال أصناف عالية المردود لن تؤدي إلا إلى نتائج لا وزن لها"([83]). وأخيرا، فإنه لا ينبغي التقليل من دور التعليم في البيئة الريفية في حفز الحاصلات الزراعية. ووفقا لجيمس وولفنسون James Wolfensohn، رئيس البنك الدولي، فإنه "يمكن بسهولة مضاعفة الطاقة الإنتاجية للوحدات القروية عن طريق أساليب زراعية بسيطة وبتكثيف الجهود لصالح التعليم المدرسي، خصوصا للبنات"([84]).
والحقيقة أن تدمير البيئة الأفريقية ليس النتيجة الوحيدة لتدهور التربة أو لنشاط سكان القارة، بل تفسره أيضا سياسة البلدان الغنية تجاه أفريقيا: عدم استقرار الأسواق المحلية نتيجة لإعادة بيع الفوائض الزراعية المشتراة من الدول الغنية في الأسواق الأفريقية بأسعار منخفضة؛ والمبالغة في رفع قيمة العملات المحلية، مما يشجع على الاستيراد ويثبط الإنتاج المحلى؛ وفرض مشاريع تنمية ريفية غير ملائمة على أفريقيا تشجع على زراعات المحصول الواحد، التي تؤدي إلى الاعتماد إزاء سوق غير قابلة للمراقبة وغير مراقبة، والتبديد الغذائي للأراضي (فهل ينبغي، مثلا، التشجيع على زراعة البطاطس في منطقة الساحل؟)([85])؛ والملوحة النهائية تقريبا للأراضي نتيجة برامج للري المكثف يتم تنفيذها على الرغم من نظم الري التقليدية؛ ونهب مشروعات خاصة للموارد الطبيعية في إطار قانوني صارم.
والواقع أن عدم الاهتمام بالمعارف المحلية، واحتقار زراعة اكتفائية يعتقد أنها عتيقة، والسلطوية الاقتصادية، وكذلك ولع صناع القرار بالزراعة من أجل التصدير، والإحصائيات الاقتصادية الكلية، ساهمت كلها كثيرا  في إضعاف انطلاق الزراعة في أفريقيا([86]). وفي مواجهة هذا الوضع، فإن من الأهمية بمكان تعزيز تنمية زراعة أفريقية حقا، ليس فقط عن طريق تشجيع وضع سياسة زراعية مشتركة في أفريقيا ، بل أيضا بتأمين وصول أفريقيا إلى أسواق البلاد الصناعية.
مواجهة تحديات
المجتمع العالمي للمعلومات([87])
كما أكد إديم كودجو Edem Kodjo عن حق، فإنه "في عالم يتجه فيه الفكر والمعرفة إلى أن يصيرا حافزين ضروريين للاقتصاد والحياة الاجتماعية، وتؤدي فيه الحاجة الماسة إلى المعالجة المكثفة السريعة للمعلومات إلى وضع المادة الرمادية (= الذكاء) في مكان الصدارة، فإن أفريقيا لا يمكن، ولا ينبغي، أن تتخلف عن القيام بدورها في التحول الذي يمكن أن تكون نتائجه كبيرة بالنسبة لتنمية هذه القارة"([88]).
والواقع أن متوسط كثافة الاتصالات السلكية واللاسلكية في أفريقيا هو الأضعف على مستوى العالم: في 1996 كان هذا المتوسط 0.52 خط تليفوني لكل 100 نسمة في أفريقيا جنوب الصحراء([89]). ويشير نائب رئيس (حاليا: رئيس) جمهورية جنوب أفريقيا ثابو مبيكى Thabo Mbeki إلى أن "الواقع أنه توجد في مانهاتن خطوط تليفونية أكثر مما في أفريقيا جنوب الصحراء كلها"([90]). ويلاحظ أن التفاوتات في "الكثافة التليفونية"([91]) على المستوى القومي كبيرة جدا: في أفريقيا جنوب الصحراء تتباين الكثافة التليفونية بشدة من البيئة الحضرية (0.80) إلى البيئة الريفية (0.04)([92]). كما أن الوصول إلى أنماط تقليدية من الاتصال لا تنتشر هناك أكثر إلا قليلا: 3.5% فقط من السكان يحصلون على جهاز تليفزيون([93]). وعلى كل حال فإن عدد مستقبلي الإرسال الإذاعي هناك تجاوز 100 مليون فرد خلال العقد الراهن: صارت الإذاعة في أفريقيا أداة مفضلة للغاية لتعزيز التدريب والمعلومات، وبالتالي المشاركة والحوار والديمقراطية وثقافة السلام.
وفي أفريقيا، يبقى الاتصال بالإنترنت هو الأضيق نطاقا في العالم: كان هناك 0.07 وحدة خدمة إنترنت لكل 10000 فرد في أفريقيا جنوب الصحراء في 1997 (1.7 بالنسبة لكل القارة الأفريقية)، أي أقل 400 مرة من المتوسط العالمي وأقل 2500 مرة من متوسط البلدان المرتفعة الدخل([94]). ووفقا لأحد الخبراء، فإنه "من البلدان التي توفر خدمات هاتفية كاملة، لا تملك سوى جنوب أفريقيا وجزيرة موريشيوس والسنغال نقاط خدمات تليفونية في كل أنحاء البلد على حين أنها متوفرة في مدن ثانوية في بنين وكينيا"([95]).
ويتيح الإنترنت إمكانيات استثنائية للوصول إلى المعلومات والمشاركة فيها؛ وكما أكدت في موضع آخر، فإنه يفتح آفاقا جديدة في موضوع التعليم عن بعد. ونظرا لأهمية الرهانات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية التي توفرها التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات، فإنه لا غنى في هذا المجال عن إقامة مشاركات بين القطاع الخاص والدول، لأن هذا التعاون وحده يمكنه تأمين الوصول العام إلى هذه التكنولوجيات وملاءمتها لاحتياجات أفريقيا. وكما أكدت اليونسكو، فإن "هذه الثورة لا يمكن تركها لقوى السوق وحدها. ويجب ألا نقبل أن تكون الطرق السريعة للمعلومات شيئا آخر سوى أدوات نقل إلكترونية جديدة وقوية للاستهلاك. وينبغي أن تصير فضاءات كبيرة مفتوحة على تقاسم المعرفة والمناقشة العامة"([96]). وأنا ألاحظ أن الدول الأفريقية بدأت تدرك مدى ضخامة التحديات في هذا المجال([97]).
وضع حد لفضيحة الديون
أي امرأة، وأي رجل، وأي طفل، في أفريقيا جنوب الصحراء مدين بمبلغ 380 دولار لدائني هذه المنطقة([98]). وتعاني أفريقيا من العبء المتزايد دوما لخدمة الدين: هناك 31 بلدا من 48 بلدا في أفريقيا جنوب الصحراء مصنفة بين البلدان المنخفضة الدخل المثقلة بالديون، ويعتبر البنك الدولي أن ديون سبعة منها تمثل عبئا لا يمكن تحمله، على حين أن ديون تسعة منها من المحتمل أن يكون من الصعب تحملها([99]). و في الفترة من 1990 إلى 1995، أنفقت بلدان أفريقيا جنوب الصحراء 12 مليار دولار في المتوسط سنويا في خدمة ديونها، على حين أن الدين المستحق ارتفع في الوقت نفسه بمبلغ 33 مليار دولار: كما يبرز برنامج الأمم المتحدة للتنمية، أنه "بالنسبة لبعض البلدان تكون المبالغ المخصصة لسداد الديون مساوية عمليا لمجموع المساعدة العامة للتنمية التي تم تلقيها"([100]). إن عبء الدين سيف ديموقليس حقيقي يهدد توازن المالية العامة ويبطئ الاستثمارات الملحة في مجالات حيوية مثل التعليم أو الصحة أو الاتصالات أو وسائل النقل. وقد قدرت دراسة حديثة للبنك الدولي، أن فترة تمتد إلى سبعين عاما ستكون ضرورية حتى يضاعف كل أفريقي دخله اليومي (وهو دولار واحد)([101]). فهل سيحتاج الأمر إذن إلى أكثر من ثلاثة أجيال حتى يصل كل أفريقي إلى أن يقبض المبلغ البائس الذي لا يتجاوز دولارين في اليوم؟
وينبغي التأكيد على هذا: لا يمكن تحقيق سعادة البشر لقاء معاناة قارة بأكملها. وليس من غير المجدي أن نذكر أيضا بأن على البلدان الغربية دين تاريخي نحو أفريقيا وأن نفوذ هذه البلدان وغناها وديناميتها قد تحققت، في جانب منها، بفضل التضحيات التي تم فرضها بالقوة على الأفارقة، من خلال تجارة العبيد والاستيطان. ولا تجيز مسئولية هذه البلدان تجاه أفريقيا، أن تتجاهلها في نفس اللحظة التي تسعى فيها إلى التغلب على مشكلاتها.
والحقيقة أن تهميش القارة الأفريقية هو، إلى حد كبير، ثمرة لنقص الاستثمار الخاص والعام. ففي 1996 ذهب إلى أفريقيا جنوب الصحراء أقل من 4% من أصل 244 مليار دولار تدفقت إلى البلدان النامية في شكل استثمارات أجنبية مباشرة([102]). وبين 1990 و1995، بلغ الاستثمار الخاص المباشر في الدول الأفريقية 1% من جملة الاستثمارات العالمية([103]). والواقع أن الاستثمار الخاص الذي يتركز من جهة أخرى على عدد صغير من بلدان المنطقة، لن يكفي بوجه خاص لتنمية البنية الأساسية للتعليم المدرسي والصحة والاتصالات. وكما أكد رئيس كوت ديڤوار،هنري كونان بيديى، "إذا انتظرنا أن يأتي القطاع الخاص ليقيم مدارس ابتدائية للأطفال، فأنا أظن أننا سوف ننتظر طويلا"([104]).
ويفرض إحجام القطاع الخاص عن الاستثمار، أن تتم زيادة المساعدة الرسمية للتنمية زيادة كبيرة في أفريقيا، سواء على المستوى المتعدد الأطراف أو على المستوى الثنائي. والواقع أن المساعدة الرسمية لأفريقيا جنوب الصحراء انخفضت من 17 مليار دولار في 1990 إلى 15.3 مليار في 1996([105]). ولم تشارك كل البلدان الصناعية في هذا الاستثمار على مستوى قدراتها الفعلية. وعلى سبيل المثال، فإن الولايات المتحدة لا تمنح إلا 6% فقط من إجمالي معونتها الخارجية للقارة الأفريقية، أي نصف في المائة من إجمالي موازنتها و0.09% من ناتجها المحلي الإجمالي([106]). وتمثل مجموع التدابير التي تستهدف تخفيف ديون البلدان الأكثر فقرا خطوات مشجعة جدا في الاتجاه السليم([107]). غير أنه ينبغي المضي إلى ما هو أبعد، وشطب ديون البلدان الأكثر فقرا في عام 2000، بحيث يشمل هذا التدبير أكبر عدد ممكن من البلدان. ويثبت القرار الذي اتخذته مجموعة الثمانية في 1999 في قمة كولونيا بخفض ديون البلدان الأكثر فقرا إلى أن المبادرة المتخذة في 1996 لم يتم تطبيقها. وينبغي في هذه المرة، تنفيذ الالتزامات التي تم الاتفاق عليها بلا إبطاء أو شروط. والحقيقة أن بيع جزء من احتياطيات الذهب لدى صندوق النقد الدولي قد يكون من الضروري بهذا الخصوص أن يتم إجراؤه بسرعة.
وفي البلدان الصناعية، ذهب بعضهم إلى حد استدعاء ظاهرة تتعلق "بالإرهاق الناتج عن مساعدة التنمية" aid fatigue. ولم يتم إدراك أن الأفارقة أنفسهم يشاركون في هذا "الإرهاق" بقدر ما كانت المساعدة مقترنة بشروط صارمة جدا، تتعلق بالتعاون الاقتصادي (المرتبط بالمساعدة) وبنظام الموازنة والضرائب، وبإعادة تنظيم الاقتصاد، التي تنال من سيادة البلدان وتنطوي في كثير من الأحيان على نتائج سلبية على المجتمعات والاقتصادات المحلية. وكما أعلن مؤخرا إسياس أفورقي Issayas Afeworki، رئيس إريتريا،  فإن "المساعدة الدائمة تخلق معوقين"([108]).
ويقع على عاتق المجتمع الدولي واجب العمل على دعم النمو الأفريقي الناشئ، بالتخفيف، قبل كل شيء، عن البلدان الأفريقية من العبء الثقيل لديونها الخارجية. ويجب أن يقترن إلغاء الجانب الأكبر من هذه الديون بإصلاحات تهدف إلى إعادة اندماج أفريقيا في الاقتصاد العالمي: مثل هذه الإصلاحات يمكن أن تشكل أسس عقد جديد من أجل أفريقيا.
وعلى المدى الطويل، يتمثل الهدف في تخليص أفريقيا من تبعيتها إزاء الديون ومساعدتها على إقامة بنيتها الأساسية الضرورية لتجديد اقتصاداتها في نفس الوقت الذي يتم فيه إحياء تنميتها الريفية والحضرية. ومن هذا المنظور، يبدو أن من المرغوب فيه، كما اقترح المجلس الأوروبي، جعل برامج التكيف الهيكلي أكثر مرونة عن طريق "إضفاء الطابع المحلي" على هذه البرامج، أي عن طريق تعديل سرعة إيقاعها وفقا للقدرات والضغوط في كل بلد([109]). ذلك أن تلك البرامج، التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية، كثيرا ما كشفت عن عدم ملاءمتها مع أوضاع واحتياجات أفريقيا. وفي كثير من الأحيان تجري مطالبة البلدان الأفريقية أن تحقق، بلا إبطاء، أكثر مما تطيق بأسرع مما تطيق. ويكفي للاقتناع بهذا إلقاء نظرة سريعة على القائمة اللانهائية من الإصلاحات التي يتم إملاؤها على الدول الأفريقية في إطار خطط التكيف الهيكلي: على سبيل المثال، سجل أحد الباحثين الاقتصاديين 111 شرطا إضافيا طرحها البنك الدولي في توصياته (ورقة إطار عمل السياسات policy-framework paper) الخاصة بكينيا([110]). فكم بلدا صناعيا يمكن أن يتحمل تعليمات من هذا النوع؟
 
 
"أفريقيا لن يبنيها الأجانب مهما تكن الصلات العاطفية والثقافية والشخصية التي تربطها بهم، ومهما تكن شروط العقد الأخلاقي الملائم لتحديد الأسس لشراكة من نمط جديد بين قارتنا والمجتمع الدولي. ومع هذا فإن غاية المساعدة هي خلق شروط تجاوزها الخاص ... إن أفريقيا وحدها هي التي يمكنها أن تمسك بمصيرها في يدها. ويجب أن تكون لدى الأفارقة، هم قبل غيرهم، المبادرة في حل مشاكلهم. إن أفريقيا ليست "قارة مفقودة" ولا هي "قارة منكوبة"، ليست مكانا مأهولا ببشر عاجزين عن الارتفاع بأنفسهم إلى مستوى الشعوب الأخرى."
Rapport final, « Les Assises de l Afrique. Le développement social: les priorités de l Afrique », UNESCO, Paris, 2 mars 1995.
 
تعزيز استراتيجيات التنمية
طويلة الأجل
لا معنى للتنمية ما لم تكن مستديمة. ويفترض هذا أن يتم إدراج كل تفكير حول التنمية في أفريقيا في منظور طويل الأجل، وأن يتم دمج التوقعات على أعلى مستوى في السياسات الحكومية الأفريقية. وبالفعل، ففي لقاء مونروڤيا في 1979، شددت منظمة الوحدة الأفريقية، على أهمية التفكير المستقبلي والتنمية طويلة الأجل بالنسبة لمستقبل القارة.
وهناك منظور مستقبلي آخر لا غنى عنه لأفريقيا خاصة وأن الماضي أثبت النتائج المنطقية للعمى الجماعي لدى صانعي القرار. ولا مناص من الإقرار بهذه الحقيقة: الكوارث البشرية التي انقضت على أفريقيا إنما هي إخفاقات كانت محدقة، وكثيرا ما كانت قابلة للتوقع وكثيرا ما كانت متوقعة. غير أننا لا نكون أبدا مستعدين في الوقت المناسب. ولم يحدث في أي مكان غير أفريقيا أن كان الغياب للتوقع مكلفا إلى هذا الحد، لأنه لم يحدث في أيّ مكان آخر غير أفريقيا أن عدم الاستقرار المادي للسكان وضعهم إلى هذا الحد تحت رحمة نزاع، مهما كان محصورا في مكان واحد.
وينبغي الانتقال من إدارة للأزمة إلى إعداد إستراتيجيات التنمية طويلة الأجل من أجل أفريقيا. وينبغي علينا تعزيز قدرات التوقع والاستباق على كل المستويات إذا أردنا حقا أن نحل المشكلات المتفاقمة للقارة في الوقت المناسب. وفيما وراء منع النزاعات، يشكل التوقع والتحليل المستقبلي مدخلا جديدا إلى التنمية. وهما يتجاوزان الإطار التقليدي لخطط التنمية القصيرة أو المتوسطة الأجل (التي لا تزيد، بوجه عام، على خمس سنوات) وبرامج التكيف الهيكلي التي لا تهدف إلا إلى تصحيح اختلالات التوازن الاقتصادية الكلية في الأجل القصير. ولم تكن التدابير الاقتصادية والسياسية المتخذة إلى يومنا هذا لمواجهة التحديات التي تعاني منها أفريقيا، داخل القارة وخارجها على السواء، كافية لأن هذه التدابير كانت محدودة وناقصة في معظم الوقت، وكانت تعاني من غياب التنسيق والمتابعة المتواصلة. فكيف يمكن إذن في مثل هذه الأوضاع، أن يدهشنا أن تكون هذه التدابير قد منيت بالفشل في كثير من الأحيان؟
 كما أن لمنطق الطوارئ العاجلة ثمن ثقافي فادح في أفريقيا: ويميل هذا المنطق إلى تهميش إسهام الثقافة في التنمية. وينبغي أن نفهم بصورة أفضل العلاقات بين الثقافة والتنمية في أفريقيا. وفي سبيل تشجيع ازدهار القارة، فإنه لا يكفي أن نفكر في مسألة ما هي العوامل الثقافية التي تشجع التنمية؛ ومن المطلوب أيضا معرفة ما هي التنمية التي تحفز إذا أردنا أن نأخذ في اعتبارنا الديناميات، والتنوعات، والتراثات الثقافية البالغة الثراء لأفريقيا. ومن هذا المنظور، فإن من الملائم تعزيز سياسات ثقافية حقيقية والتخلي عن نهج "المتحفية" والفلكلورية الذي ساد طويلا جدا في أفريقيا. ولابد من أن تملك هذه السياسات رؤية دينامية تستند إلى القوى الحية للمبدعين و"المتعهدين" الثقافيين.
ألفا عمر كوناري: "ينبغي أن نتوقع ونستبق
الأشياء قبل حدوثها"
"منذ زمن طويل ننتظر، دون أن نجرؤ على التفكير، إلى أن وصلنا إلى طريق مسدود بصورة لا علاج لها. ومن الآن فصاعدا ينبغي أن نتوقع ونستبق، ينبغي أن نتوقع ونستبق بسبب كل حلول اللحظة الأخيرة، هذه التي لم تنجح؛ بسبب هذه الانتظارية الإجرامية التي رسخت، منذ أكثر من ثلاثين عاما هذا الإحساس القوي جدا بالقدرية؛ وبسبب هذا النزوع لدى الدولة الأفريقية إلى عدم استخدام الموارد الثقافية للقارة إلا في خدمة سياسات قصيرة النظر، تهمل أن تأخذ في اعتبارها إعصار عولمة متزايدة دوما تجرف في طريقها، بسرعة إيقاعها، أفريقيا هذه التي تبدو بلا مقاومة وبلا دفاع، والتي يبدو أنها تستسلم لقدرها. وينبغي علينا أن نستعيد المبادرة؛ ينبغي علينا أن نحافظ عليها ونصونها."
ألفا عمر كوناري Alpha Oumar Konari، رئيس جمهورية مالي([111])
الوقت المناسب لعمل متناغم
سوف يبقى حلم بناء السلام على القارة الأفريقية أمنية ورعة، ما دام إغراء الانقسام مستمرا فيها. لأنه إذا كانت ثروة أفريقيا تكمن في تنوعها، فإن قوتها سوف تكمن في وحدتها. وكما أكد كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة، فإن الأفارقة يدركون بصورة متزايدة وحدة مصيرهم، ويفهمون بصورة متزايدة أن مستقبلهم يكمن في التضامن: "لقد بدأنا نشهد نهاية أحد القوالب الجاهزة، وهو ذلك الذي ينظر إلى أفريقيا على أنها قارة في أزمة، على أنها بيت منقسم على نفسه. والوحدة الأفريقية هي مفتاح كل شيء. ولا تملك أفريقيا ترسانات عسكرية كبرى. غير أن الوحدة الأفريقية ذاتها يمكن أن تصير قوة معنوية جبارة. ومتى تحدثت أفريقيا بصوت متحد فإن العالم كله سيصغي إليها. أما إذا تحدثت أفريقيا بخليط مشوش من الرسائل، فإن قليلين سيصغون ولا أحد سيفهم"([112]). ويعبر مثل يومبيّ Yombé عن هذا بطريقته: "ذراع واحدة لا تمزق فيلا". ويشكل إحياء مشروعات موحدة على المستوى الإقليمي إحدى أولويات أفريقيا للقرن الحادي والعشرين. ورسالة الوحدة هذه التي تتخذها منظمة الوحدة الأفريقية شعارا لها إنما هي رسالة للمستقبل. ذلك لأن السلام والتنمية لا يمكن أن يتم بناؤهما في عزلة، بل من خلال المشاركة والحوار، واحترام الآخرين، والتضامن، وتخطي التقسيمات المصطنعة، وهى تشكل أساس الأمن مفهوما بأوسع معانيه([113]). ووفقا لجيرترود مونجيلا Gertrude Mongella: "يوجد تاريخ لأفريقيا، للغات، والشعوب، والثقافات، والقيم، والأخلاق، والمعارف الأفريقية. غير أنه لا توجد سياسة أفريقية حقيقية. والسياسة الأفريقية هي قبل كل شيء سياسة مجرد بقاء ... ومن المؤسف أن السياسة الاقتصادية للقارة لم تكن إلى الآن إلا مجموعة من المحاولات الخالية من كل رؤية مستقبلية. والواقع أن هذه الرؤية هي بالتحديد ما نحتاج إليه اليوم. ويجب أن نملك الوقت الكافي لخلق هذه الرؤية. والحقيقة أن سياق القرون الأخيرة لم يتح لنا فرصة القيام بهذا. واللحظة المناسبة هي اليوم وإلا فإنها لن تأتي أبدا. ويجب أن نستفيد من تهميشنا من أجل استعادة هويتنا"([114]).
والواقع أن المقتضيات الإلزامية لبناء السلام أدت إلى تقوية إدراك المسئولية المشتركة لبلدان المنطقة فيما يتعلق بمنع النزاعات وحلها. ويقدم الدور المتزايد الأهمية الذي تقوم به الديبلوماسية الأفريقية في تسوية نزاعات القارة علامة مشجعة. وبعد صمت طويل، احتراما منها لقاعدة "عدم التدخل" الواردة في ميثاقها، تبذل منظمة الوحدة الأفريقية الآن قصارى جهدها من أجل إعداد آليات لحل النزاعات، وتشارك دول أفريقية عديدة بانتظام في التدخلات بهدف استعادة السلام في القارة. ونشهد في الوقت نفسه تسارع مشروعات التكامل على المستوى الإقليمي. وتتفاوت هذه العملية في درجة تطورها وفقا للمناطق. وهي تفرض نفسها بصورة خاصة في غرب أفريقيا مع الجماعة الاقتصادية لتنمية دول غرب أفريقيا وفي أفريقيا الجنوبية، ، مع جماعة تنمية أفريقيا الجنوبية، التي تضم180 مليون نسمة موزعين في أربعة عشر بلدا([115]). وهذه التجمعات، التي كانت في الأصل اقتصادية على وجه الحصر تتجه الآن إلى أن تمتد لتشمل مجالات أخرى، وبالأخص الأمن (الجماعة الاقتصادية لتنمية دول غرب أفريقيا)، والنضال ضد الأشكال الأكثر حدة من الفقر، وتعزيز الثقافة (جماعة تنمية أفريقيا الجنوبية).
وينبغي أن نكرر: تنمية أفريقيا هي بالدرجة الأولى قضية الأفارقة. ومع ذلك فإن التحديات التي تواجهها أفريقيا أخطر من أن يتم حلها بدون تعبئة لعمل دولي. وإنما في هذا الإطار طرح الأمين العام للأمم المتحدة في 15 آذار/مارس 1996، بالاتفاق مع رئيس البنك الدولي، المبادرة الاستثنائية لمنظومة الأمم المتحدة من أجل أفريقيا. وسوف يمثل هذا البرنامج غير المسبوق استثمارا ماليا يبلغ حوالي 25 مليار دولار في فترة تمتد عشرة أعوام. وسيتم تخصيص الجزء الأكبر من هذه الأموال (حوالي 85%) لتحسين التعليم الأساسي والرعاية الصحية الأساسية([116]). وتشكل المبادرة الاستثنائية أهم عملية تنفذها الأمم المتحدة لصالح سكان القارة، كما تشكل أضخم مجموعة من الإجراءات التي تنسقها الأمم المتحدة([117]). وتلعب اليونسكو دورا أساسيا في إطار هذه المبادرة، إذ أنها تمثل الوكالة "القائدة" بالنسبة للأولويتين التاليتين: اتصالات في خدمة السلام، وتكنولوجيا معلومات في خدمة التنمية، والتعليم الأساسي ـ حيث يمثل هذا المجال الأخير 12.5 إلى 15 مليار دولار خلال عشر سنوات، أي 50% من الموارد الكلية للمبادرة. وأنا أتمنى بحرارة ألا تظل المبادرة مجرد أمل خائب: يجب أن تتعهد كل البلدان المانحة بحزم  بحل المشكلات الحقيقية لهذه القارة التي عانت من أقصى الحرمان ومن أقصى الاستغلال. غير أن الدور الرئيسي لهذه المبادرة، وأنا حريص على التشديد على هذا، سيقع على عاتق الدول الأفريقية ذاتها، والسكان الأفارقة ذاتهم. والحقيقة أنه لم يسهم شيء في إبقاء أفريقيا في وضع من التبعية أكثر من الجهل بالطاقات الكامنة التي تمثلها وادعاء الرغبة في صنع سعادتها رغما عنها.
منطلقات وتوصيات
3         تشجيع ازدهار ثقافة للسلام في أفريقيا. وإقرار السلام عن طريق تعبئة دولية، تحت رقابة مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة، حيثما لم تعد توجد دولة أو عندما يتم انتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع.
3   إلغاء ديون البلدان الأكثر فقرا في أفريقيا جنوب الصحراء في عام 2000، وخفض ديون بقية البلدان بصورة كبيرة. وتحويل بقية الديون في أسرع وقت ممكن إلى ديون مقايضة debt swap، إلى استثمارات في التعليم والعلم والتكنولوجيا والصحة.
3   استثمار البلدان الأفريقية 5% على الأقل من ناتجها المحلى الإجمالي في التعليم. واستثمار ربع مساعدة التنمية في تمويل التعليم. ومساهمة الشركات متعددة الجنسيات بنسبة 1% على الأقل من رقم مبيعاتها من أجل تحسين التعليم في البلدان الأفريقية التي تتخذها مقرا لها.
3         خفض نفقات الأسلحة والذخيرة إلى ما دون 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي، والتزام البلدان الأفريقية بألا ترفع ميزانياتها الدفاعية خلال العشر سنوات القادمة. وإعادة استثمار هذه المبالغ في التعليم والصحة.
3   استثمار 0.05% من الناتج المحلي الإجمالي على المستوى القومي في الأبحاث والتطوير خلال من ستة إلى ثمانية أعوام، لكي يتم على الأقل الوصول إلى النسبة المئوية 0.3-0.4% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي. واستثمار 3% من اعتمادات برنامج الأمم المتحدة للتنمية في هذا القطاع، للسماح بانطلاق أفريقيا في ميدان العلم والتكنولوجيا.
3   طرح "عقد جديد من أجل أفريقيا" يمكن أن يفتح صفحة جديدة للمساعدة المتعددة الأطراف لأفريقيا، ويمكن أن يشجع على تنظيم دولي أفضل للاقتصاد العالمي ملائم لهذا الاقتصاد، ويمكن أن يقوم بتأمين أسواق أكثر انفتاحا على الصادرات الأفريقية، ويمكن أن يشجع على إعادة دمج أفريقيا في الاقتصاد العالمي.
3   مواصلة المساعدات الدولية لجهود التنمية على المستوى الإقليمي. ويجب أن تولي هذه المساعدة الأولوية لمجالات التعليم والصحة، ووسائل النقل، والاتصالات، والطاقة، والزراعة.
3   أولوية دعم المجموعات المحرومة، خصوصا النساء، والشباب، والأطفال، وتشجيعها على المشاركة في بناء مستقبل المجتمعات الأفريقية.
3         وسائل إعلام حرة ومستقلة وتعددية.
3         تشجيع الوصول الشامل إلى موارد التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات.
3         إعلاء شأن البيئة الريفية، والاستخدام المتزايد للطاقات المتجددة وخصوصا الطاقة الشمسية؛ واقتصاد أفضل للمياه.
3         إعلاء شأن الثقافات الأفريقية واستخدام الطاقات الكامنة التي تحتوي عليها في تعزيز إستراتيجيات جديدة للتنمية.
3         تعزيز التوقع والدراسات المستقبلية في إستراتيجيات التنمية.


18
عائدات السلام
والأمن العالمي
 
أطلقت نهاية الحرب الباردة أملا كبيرا: أخيرا سيكون في المستطاع إجراء خفض كبير في الميزانيات العسكرية والقيام بمزيد من الاستثمار في التنمية البشرية، وبصورة خاصة في التعليم. ومع ذلك فلا مناص من تسجيل أن "عائدات السلام" الشهيرة تجعلنا في حالة انتظار دائم. ولا شك في أن بعض البلدان استطاعت، في الوقت المناسب تماما، أن تغتنم الفرصة لتقليص نفقاتها العسكرية، غير أن ميزانيات التنمية البشرية بعيدة عن أن تكون قد زادت بنفس النسبة؛ وعلى العكس تماما فإن عبء الديون وتدهور شروط التبادل يجعلان الأمم الفقيرة تسهم بصورة متزايدة في تمويل رفاهية البلدان الغنية.
وبطبيعة الحال، وبقدر ما يتعلق الأمر بالأرقام، فقد بدا أن "سباق نزع السلاح" الذي بدأ في 1989 بعد سقوط سور برلين قد آتى أكله([118]). ومنذ 1989، انخفضت النفقات العسكرية بنسبة الثلث على المستوى العالمي([119])وخلال الفترة 1990 ـ 1992، انخفض حجم واردات الأسلحة في العالم إلى النصف([120]). ووفقا للأمم المتحدة، انخفضت النفقات العسكرية العالمية بمعدل 3.6% في السنة في المتوسط بين 1987 و1994([121]). ويقدر مركز بون الدولي للتحويلات، من جهته، هذا الانخفاض بمعدل 4.5% في السنة بين 1987 و1996. ووفقا لهذه المؤسسة، لم تمثل النفقات العسكرية أكثر من 2.3% من الناتج القومي الإجمالي العالمي في 1996([122]). وفى هذا التاريخ، كان نصيب البلدان الصناعية ما يزال يمثل 75% من النفقات العسكرية العالمية. ويقدر معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي من ناحيته أن النفقات العسكرية العالمية بلغت 2.6% من الناتج القومي الإجمالي العالمي في 1997، إلا أن معدل انخفاضها هبط في نفس السنة إلى أقل من 1% بالأسعار الحقيقية([123]). ومن المؤسف أن الاستثمارات في التسليح قد ارتفعت من جديد، منذ ذلك الحين، وبطريقة مذهلة في بعض البلدان.
وهناك حقيقة أولى ثابتة: إن تقليص ميزانيات الدفاع كان، إلى حد كبير، نتيجة لتدابير ضغط الميزانيات التي أجريت في أوروبا والولايات المتحدة. ووفقا لأحد الخبراء([124])فإنه "إذا كانت أوروبا تأتى على رأس القائمة بمسافة كبيرة متباهية بخفض بلغ أكثر من 50% في العقد الأخير، فإن ينبغي أن يُعزى هذا الانخفاض المذهل، أولا وقبل كل شئ، إلى الانخفاض الذي بدأ في 1992 في روسيا. وفى أوروبا الغربية، كان الانخفاض [...] أقل بكثير، حوالي 14% تقريبا". والواقع أن خفض الميزانيات العسكرية كان أكبر بكثير في البلدان التي كانت أعضاء في حلف وارسو: بين 1988 و1993، انخفضت النفقات هناك بنسبة 22% في المتوسط. وفى حالة روسيا، وصلت النفقات العسكرية في 1997 إلى 10% بالكاد من مستواها في 1988([125]). وفى الولايات المتحدة، هبطت النفقات العسكرية، بين 1986 و1997، من 6.2% إلى 3.2% من الناتج المحلى الإجمالي، فبلغت أقل مستوى لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية([126]). وبالنسبة للحكومة الأمريكية، يعنى هذا ادخارا سنويا يبلغ حوالي 100 مليار دولار. ومع ذلك، قررت الإدارة الأمريكية في 1999 زيادة مستوى النفقات العسكرية من جديد.
وتظل نفقات الدفاع كبيرة، على المستوى العالمي. وتتباين التقديرات وفقا للمصادر، لأن من الصعوبة بمكان أن يتم جمع بيانات مؤكدة وكاملة في هذا المجال. وعلى سبيل المثال فإنه وفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، بلغت هذه النفقات في 1995 حوالي 800 مليار دولار، وكان هذا المبلغ يمثل الدخل الإجمالي الموحد للنصف (الأكثر فقرا) من سكان العالم([127]). وتقدر مصادر أخرى للأمم المتحدة النفقات العسكرية العالمية بـ 797 مليار دولار في 1996، أي ما يعادل 135 دولار للفرد في العالم([128]). ويرى مركز بون الدولي للتحويلات أن هذه النفقات بلغت 688 مليار دولار في 1996، بعد أن كانت تمثل 1030 مليار دولار في 1987. ووفقا لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي، استقرت هذه النفقات في 1997 عند 740 مليار دولار([129])، أيْ ما يقرب من 2 مليار دولار في اليوم و2.6% من الناتج المحلى الإجمالي العالمي، مقابل 3 مليارات دولار في اليوم في أواخر الثمانينيات.
وكما يشدد برنامج الأمم المتحدة للتنمية فإن "عائدات السلام" المقدرة على المستوى العالمي تجاوزت على وجه الإجمال 900 مليار دولار عند منتصف التسعينيات غير أنه "يبدو أن الجانب الأكبر من المدخرات تم استخدامه لخفض العجز في الميزانيات ولنفقات غير مرتبطة بالتنمية"([130]). ووفقا لمعهد المراقبة الدولية، يبدو أن عائدات السلام قد اختفت، بجانبها الأكبر، في "مثلث برمودا مالي" عملاق"([131]). ولهذا فإن التخفيضات الملحوظة منذ عدة أعوام في الميزانيات الدفاعية لا يمكن النظر إليها على أنها مسعى حقيقي للسلام بل على أنها تعديل ذو طابع فني (تقني) للميزانيات، يعيد النفقات العسكرية، التي كان مستواها مرتفعا بصورة خاصة في 1987، إلى مستوى روتيني([132]). ومن ناحية أخرى فإن تقليص بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لميزانياتها المخصصة للأبحاث والتطوير في قطاع الدفاع كان مصحوبا أيضا بتقليص ميزانيات الأبحاث العامة الموجهة إلى الأنشطة غير العسكرية([133]).
ولهذا فإنه ليس بوسعنا استنتاج حدوث تقدم حقيقي في هذا المجال على المستوى العالمي. وعلاوة على هذا فإنه منذ نهاية الحرب الباردة، تم إغراق الأسواق العالمية بأسلحة كانت البلدان الغربية والبلدان التي تمر بمرحلة انتقال لم تعد بحاجة إليها وهى تباع الآن بأسعار زهيدة. "عوّضت الدول المنتجة والبائعة للأسلحة انخفاض الطلب على المعدات العسكرية في البلدان الصناعية عن طريق تصديرها إلى بلدان العالم الثالث، التي صارت في الوقت الراهن مسرحا لأغلب النزاعات"([134]). ويشكل هذا "الإغراق" بالمعدات العسكرية، هذا "الفائض" الضخم للإرهاب، خطرا رئيسيا لأنه يمكن أن يزيد من عدد النزاعات. وفى غياب جهد منسق على المستوى الدولي فإن سياسات نزع السلاح في مناطق بعينها من العالم تؤدى بالتالي إلى تزايد في أخطار النزاع في مناطق أخرى. ووفقا لمركز بون الدولي للتحويلات فقد تم خفض مخزونات الأسلحة الثقيلة التقليدية بمقدار 165000 قطعة بين 1990 و1995، غير أن 18000 قطعة من هذا الفائض تم تصديرها، بصورة رئيسية إلى الشرقين الأدنى والأوسط([135]).
ويظل الموقف أكثر كارثية في حالة الأسلحة الخفيفة التي تشتعل بها النزاعات الداخلية. وما يزال أكبر شك يحيط بعددها الدقيق، الذي يقع بين 100 و500 مليون قطعة، أيْ قطعة لكل 12 إلى 60 من الأفراد([136]). وهل ينبغي أن نذكر بأنه بثمن طائرة قتالية واحدة يمكن شراء 200000 بندقية هجومية؟ وقد ألح السيد بطرس غالى، عندما كان لا يزال الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، على ضرورة الشروع في "نزع الأسلحة الصغيرة" عند تنفيذ اتفاقات سلام، عن طريق جمع، وعند الضرورة إعادة شراء، الأسلحة التي تستخدمها الأطراف المتحاربة. ويتمثل حل يتطلع إليه من الآن فصاعدا عدد متزايد من الخبراء في أن يتم في إطار الأمم المتحدة عقد معاهدة متعددة الأطراف بشأن مراقبة وتقييد شحنات الأسلحة التقليدية، ومنها الأسلحة الخفيفة. ومن ناحية أخرى فإن هذا الاقتراح يسير في نفس اتجاه الرسالة التي وجهها البابا يوحنا بولس الثاني، بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للسلام، في أول يناير 1999، عندما أعلن أنه "تقع على الحكومات مسئولية اتخاذ التدابير الملائمة لمراقبة إنتاج وبيع واستيراد وتصدير وسائل الموت هذه. هذا هو السبيل الوحيد للمواجهة الفعالة والشاملة لمشكلة تجارة السلاح الواسعة النطاق وغير المشروعة"([137]).
ومع ذلك فإن برنامج الأمم المتحدة للتنمية يلاحظ أنه "لم يبذل سوى القليل من الجهود في سبيل ابتكار نظام أمنى جديد تماما"؛ وعلاوة على هذا فإن مناطق العالم التي تضم العدد الأكبر من الفقراء ـ وبصورة خاصة أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا ـ بعيدة عن أن تكون قد كبحت جماح نفقاتها العسكرية. إن بلدين فقط في جنوب آسيا، منخرطين في نزاع إقليمي طويل تم تنشيطه مؤخرا، حققا في 1994، كما يذكرنا التقرير العالمي عن التنمية البشرية، أكثر من 18% من الواردات العالمية للمعدات العسكرية، أيْ ما يساوى عمليا ضعف ما يستورده منها البلد المنتج للبترول الذي يعتبر المستورد الرئيسي للأسلحة. وآسيا هي القارة التي تمثل أضخم زيادة في النفقات العسكرية (+26% بين 1988 و1997). غير أن أمريكا اللاتينية لم تفلت من إغراء إعادة التسلح، حيث ارتفعت ميزانيات الدفاع هناك بنسبة 14% خلال نفس الفترة. أما المنطقة الفرعية شمال أفريقيا فقد رفعت ميزانياتها العسكرية بنسبة 45% بين 1988 و1997([138]). وفى الشرق الأوسط، السوق التقليدية لواردات الأسلحة، ارتفعت النفقات العسكرية أيضا بمعدل ثابت (+9%). ومع أن أفريقيا جنوب الصحراء قلصت نفقاتها العسكرية بنسبة 46% خلال الفترة ذاتها، وهو ما ينبغي أن نبتهج به، إلا أنها رفعت إلى ما يزيد على أربعة أضعاف، بين 1960 و1991، ذلك النصيب من الناتج المحلى الإجمالي الإقليمي الذي تخصصه للنفقات العسكرية، فقد ارتفع هذا النصيب من 0.7% إلى 3%. وفى 1996، ارتفعت النفقات العسكرية لأفريقيا بنسبة 2.3% بالمقارنة بعام 1995([139]). ووفقا لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي، زادت البلدان المنخفضة أو المتوسطة الدخل نفقاتها العسكرية بنسبة 19% ونسبة 12% على التوالي خلال الفترة 1988 ـ 1997([140]). ومن جهة أخرى فإن النمو الاقتصادي السريع لعدد من البلدان الناشئة أتاح لها في كثير من الأحيان زيادة نفقاتها العسكرية بصورة ملموسة جدا.
ووفقاً ل فيسانس فيساس Vicenç Fisas([141])، فإن "الحقيقة الثابتة المؤسفة هي أن البلدان الأكثر حاجة إلى الاستثمار في تنميتها هي التي تنفق أكثر في أنشطتها العسكرية، وفى كثير من الأحيان ما يزيد على ما تخصصه للصحة والتعليم". وعلى كل حال فإن أمريكا الوسطى تبدو استثناءً: بعد أن مزقتها النزاعات المسلحة خلال عقود، استطاعت أن تخفض بين 1988 و1997 نفقاتها العسكرية بنسبة حوالي 40%، بفضل عقد معاهدات سلام.
وفى المتوسط، تبقى ميزانيات الدفاع على كل حال مرتفعة كما كانت في نهاية السبعينيات، وفى مناطق عديدة ما يزال السلام بعيدا جدا عن التحقيق. والواقع أن عددا من الحكومات، اعتقادا منها بأن أمنها مهدد، تزيد في الوقت الحالي قدراتها العسكرية. ووفقا لمركز بون الدولي للتحويلات، بدأت النفقات العسكرية في الارتفاع في 1996، في أوروبا الشرقية وفى بلدان كومنولث الدول المستقلة؛ وفى البلدان النامية؛ ارتفعت النفقات العسكرية بوجه عام بنسبة 3.5% بالمقارنة بعام 1995. وإذا كان يبدو من المؤكد من الآن فصاعدا أن آثار الأزمة المالية التي ضربت شرق آسيا وجنوب شرق آسيا في 1997 سوف تنعكس في هبوط للنفقات العسكرية في البلدان الرئيسية المتأثرة بتلك الأزمة، فإنه يُخشى بشدة أن يكون هذا الهبوط عابرا للغاية.
وبالإضافة إلى هذا فقد قررت الولايات المتحدة ـ كما أوضحنا في موضع سابق ـ أن تدرج في ميزانية السنة المالية المقبلة زيادة ملحوظة جدا (بنسبة 4.2%) للاعتمادات المخصصة للدفاع، لأول مرة منذ خمسة عشر عاما. ولا مناص من استخدام هذه الزيادة، التي تبلغ 12 مليار دولار في 2000 و110 مليار دولار كإجمالي للأعوام الستة المقبلة، ليس فقط في زيادة المبيعات والمعاشات العسكرية، بل بصورة خاصة في تحسين معدات وحالة استعداد القوات المسلحة([142]). ومن المؤسف أن مثل هذه الزيادة للنفقات العسكرية تدعم فكرة أن انخفاض النفقات العسكرية الذي شهدناه في هذه الأعوام الأخيرة ربما لم يكن سوى ظاهرة عابرة، بل يمكن إرجاعها إلى مجرد اهتمامات تتعلق بالميزانيات وليس إلى التزام حقيقي بدعم السلام والتنمية البشرية.
 
خفض المعدات العسكرية
يعنى توسيع فرص السلام
في عقول الناس
 
تستأثر نفقات المعدات العسكرية بالموارد التي كان يمكن تخصيصها للتعليم، وللتنمية العلمية والتقنية، ولكل بنية أساسية ضرورية للتنمية مثل الاتصالات، وللمحافظة على البيئة، وللتنمية الثقافية. وهذا هو السبب في أن من الحيوي أن تعطى المؤسسات الدولية والإقليمية المختصة دفعة جديدة لآليات منع النزاعات وتسويتها بين الدول ولكن أيضا داخل البلدان نفسها. والواقع أن هذه النزاعات الأخيرة (داخل البلدان) هي التي يتم استخدامها بصورة متزايدة من جانب أولئك الذين يبررون بها دفاعهم عن أولوية نفقات المعدات العسكرية.
ولهذا ينبغي مواصلة وزيادة خفض النفقات العسكرية، هذا الخفض الذي لا يمكن أن يكون المحصلة البسيطة لمجرد تطبيق سياسات وقتية تقوم على ميزانيات التقشف. إننا إزاء مهمة حيوية. غير أنها صعبة ومعقدة وشائكة. وينبغي القيام بجهد خاص من التفكير والتحليل والتوصيل؛ ينبغي أن نبرهن بكل وضوح، في مواجهة المتشككين و"الواقعيين"، أن الحد من التسلح وتحويل الصناعات العسكرية يمثلان عملية استثمارية طويلة الأجل، سوف يتم تعويض تكلفتها الاجتماعية الوقتية بمكاسب حاسمة أكبر بكثير في المستقبل.
ووفقا لتقرير الأمم المتحدة المذكور من قبل، تبين دراسات القياس الاقتصادي أن انخفاضات النفقات العسكرية لها نتائج إيجابية بوضوح في الأجل المتوسط والطويل. وبطبيعة الحال فإن هذه التقليصات للاعتمادات يمكن أن تفضي في بداية الأمر إلى انكماش للنشاط الاقتصادي وأن يؤدى إلى زيادة عابرة للبطالة، وبصورة خاصة في المناطق التي تتركز فيها صناعات الدفاع. غير أنه، على مدى أطول، يمكن استثمار الموارد التي يتم توفيرها في الميزانيات العامة في الأنشطة الأكثر إنتاجية للمجتمع مثل التعليم.
وحالما تُستعمل، بدراية، المبالغ التي يتم ادخارها على هذا النحو، فإن خفض النفقات العسكرية وبالتالي ديون الدول سوف يفضي، علاوة على هذا، إلى انخفاض سعر الفائدة، مما يشجع الاستثمار الخاص وخلق وظائف جديدة. ووفقا للورانس كلاين Lawrence Klein، الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد، فإن خفض النفقات العسكرية يؤدى بسرعة إلى زيادة للاستثمارات والاستهلاك، وإلى مكاسب كبيرة للاقتصاد بمجمله. وقد لاحظ اقتصادي آخر، إدوارد يارديني Edward Yardeni، أنه خلال المائة والخمسين سنة الماضية، كانت نهاية الحروب تسمح بانخفاض عام في الأسعار مع المزيد من تحسن العلاقات الاقتصادية بين الدول([143]).
وفى مقال حديث، استعان ثلاثة باحثين اقتصاديين من صندوق النقد الدولي بنموذج قياس اقتصادي لتحليل تأثير النفقات العسكرية على النمو الاقتصادي في 79 بلدا بين 1971 و1985. وأتاحت لهم أبحاثهم تحديد ارتباط متبادل بالغ الوضوح بين خفض النفقات العسكرية وانطلاق النمو الاقتصادي([144]). وعلى سبيل المثال فإن انخفاض النفقات العسكرية الملاحظ في البلدان الصناعية منذ النصف الثاني من الثمانينيات وحتى 1990 ينبغي أن يؤدى في الأجل الطويل إلى ارتفاع إجمالي بنسبة 2% بالأسعار المطلقة لنصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي. وإذا انخفضت النفقات العسكرية العالمية، علاوة على هذا، بنسبة 2% على الأقل من الناتج القومي الإجمالي، كما في أمريكا اللاتينية، تلك المنطقة من العالم التي تكون فيها النفقات العسكرية في المتوسط هي الأقل ارتفاعا، فإن المكاسب من حيث التنمية والرفاهية ستكون كبيرة بصورة خاصة في الأجل الطويل. وعلى سبيل المثال فإن زيادة نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي، في البلدان الصناعية، بعد حوالي خمسين عاما، يمكن أن يصل إلى 13.2%. وبالنسبة لمناطق أخرى مثل أوروبا الوسطى والشرقية، يمكن أن يثبت حتى أن المكاسب أكبر بكثير.
ومن ذا الذي لا يعرف النصيحة التي تتضمنها الحكمة القديمة: "إذا أردت السلام، استعدَّ للحرب"؟ إننا نعترض على هذه الصيغة الزائفة من الآن فصاعدا لهذه الحكمة. ولا يمكن أن نقبل بأعين مغمضة الحجة التي يتم وفقا لها تبرير النفقات العسكرية باعتبار أنها تسمح بزيادة أمن السكان داخل بلد. وفى البلدان النامية "تمثل مخاطر الوفاة نتيجة نواحي عجز السياسة الاجتماعية (سوء التغذية أو غياب الوقاية من الأمراض)، وفقا لتقرير للأمم المتحدة، 33 ضعفا لأخطار الوفاة خلال حرب عدوانية يشنها بلد أجنبي"([145]). ووفقا لنفس التقرير، تضم هذه البلدان في المتوسط 20 جنديا مقابل طبيب واحد وفى أكثر الأحيان يستدير هؤلاء الجنود ضد السكان: وفى حين أنه في بداية القرن العشرين كان حوالي 90% من ضحايا الحروب من الجنود، صار اليوم حوالي 90% من ضحايا الحرب من المدنيين. وبصورة متزايدة، تتخذ النزاعات مظهر حروب أهلية، تتورط فيها، وفقا للمنطق الحزبي بل حتى الإثني، الجيوش النظامية، وتتحول إلى المذبحة، أو حتى إلى الإبادة الجماعية. وبالتالي ينبغي أن نقول بصوت مرتفع: "إذا أردت السلام؛ استعدّ للسلام".
ووفقا للأمم المتحدة فإن من المفارقات أن أحد المؤشرات الأوثق صلة بعدم الأمن السياسي في بلد يتمثل على وجه التحديد في الأولوية التي توليها البلدان للقوة العسكرية. وعندما تهتم حكومة بالأمن الإستراتيجي أكثر مما تهتم بأمن مواطنيها فإن الاختلال في خيارات الميزانية يظهر بكل وضوح في العلاقة بين النفقات العسكرية والنفقات الاجتماعية. وعلى سبيل المثال، كان البلدان اللذان كانت النسبة بين النفقات العسكرية ونفقات التعليم والصحة فيهما هي الأكثر ارتفاعا في 1980 هما على الترتيب العراق (8 إلى 1) والصومال (5 ـ 1). ويعلق برنامج الأمم المتحدة للتنمية: "في هذه الأوضاع، هل ينبغي أن يدهشنا واقع أن هذين البلدين قد شهدا اضطرابات خطيرة خلال الثمانينيات وأن أولئك الذين قدموا إليهما الأسلحة قبل عشرة أعوام يحاولون اليوم تجريدهما من الأسلحة؟" ([146]). ووفقا للبنك الدولي، يوجد أيضا ارتباط متبادل قوى بين النزاعات والفقر: مثلا، شهدت ست دول من بين أفقر 20 دولة في العالم نزاعات رئيسية منذ بداية الثمانينيات([147]).
ونسمع أحيانا أن نفقات الأبحاث المرتبطة بقطاع الدفاع لها آثار إيجابية بالنسبة للتنمية. ووفقا لتحليل لعائدات السلام نشرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يثبت مع ذلك من دراسات حالة متعددة (الهند، والبرازيل، وجمهورية كوريا) أن القطاع المدني لا يستفيد إلا بقدر هزيل جدا من وجود قطاع قوى للمعدات العسكرية. ووفقا لمؤلفي دراسة منظمة التعاون الدولي والتنمية، "دفع هذا الشكل من التصنيع قسما من رأس المال البشرى، الذي يعانى من نقص أصلا، إلى ترك أنشطة أكثر إنتاجية"([148]). وعلى العكس، استطاعت اليابان وألمانيا تخصيص الجانب الأكبر من استثماراتهما للأبحاث لأهداف مدنية منذ 1945 وعرفتا معدلات نمو أكثر ارتفاعا بكثير من معدلات نمو المملكة المتحدة على سبيل المثال، التي استمرت في استثمار جانب كبير من مواردها في مجال الأبحاث في قطاع عسكري أقوى بكثير([149]). وبالإضافة إلى هذا فإن خصوصيات الصفقات التجارية في مجال الدفاع تسمح بسهولة بإساءة استخدام مواقع مسيطرة على أسواق مغلقة أمام المنافسة، مما يحدث تشوهات في الاقتصاد. وفى كثير من الأحيان فإن السرية التي تغلف هذه الميزانيات تفسح المجال أمام اختلاسات مالية لأغراض متصلة بالفساد أو يسهل استخدامها لأهداف خفية، كتمويل مجموعات شبه عسكرية، على سبيل المثال([150]). وفى نهاية المطاف، يمكن أن تكون الديمقراطية هي المهددة.
وبصورة خاصة، سوف ينبغي أن يستنتج كل المسئولين السياسيين والقوى الفاعلة الاجتماعية النتائج المنطقية لهذه الوقائع على المستوى السياسي: الموارد المخصصة للمعدات العسكرية هي موارد مفقودة بالنسبة للقطاعات الحيوية للتنمية، في حين أن الاحتياجات إليها ما تزال كبيرة. وقد حاولت الأمم المتحدة في 1994 أن تقوم بتقدير تكلفة النفقات العسكرية بالنسبة للبلدان النامية. ومن إجمالي 125 مليار دولار في السنة أنفقتها هذه البلدان في هذا المجال في تلك الفترة كان سيكفى اقتطاع 12% من أجل "توفير العلاج الطبي الأساسي للجميع، تطعيم جميع الأطفال، القضاء على الأشكال الأكثر خطورة منه، إمداد الجميع بالمياه الصالحة للشرب"؛ و8% من أجل "تقديم مجموعة من الخدمات الأساسية لتنظيم الأسرة لكل الأزواج الراغبين في الاستفادة منه ومن أجل تحقيق استقرار سكان العالم في عام 2015"؛ وبصورة خاصة 4% فقط "من أجل خفض أمية الكبار إلى النصف، وجعل التعليم الأولى شاملا، ومنح النساء مستوى تعليميا مساويا للمستوى التعليمي للرجال"([151]).
ويجب أن نشدد على هذا: في 1997، كان مبلغ واردات البلدان النامية من الأسلحة ثلاثة أضعاف الاستثمارات التي كانت تكفى لتأمين تعليم أساسي لأطفال كل هذه البلدان([152]). ويالها من فرص ضائعة على التنمية!
وبهذا الخصوص، يجب أن يفكر كل شخص في مثال كوستاريكا المعروف جيدا حيث قامت بإلغاء الجيش كمؤسسة دائمة في 1949 وحولت ميزانيته إلى وزير التعليم ولم تخصص سوى حوالي 0.6% من ناتجها المحلى الإجمالي للنفقات العسكرية والنفقات المماثلة خلال الثمانينيات([153]). وقد هبط معدل وفيات الأطفال في كوستاريكا إلى 16 لكل ألف من المولودين أحياء مقابل 8 لكل ألف في المتوسط في البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، في حين أن نصيب الفرد من الدخل في كوستاريكا أقل عشر مرات عن متوسط بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تم إنفاق ما بين ثلاثين وخمسة وثلاثين ألف مليار دولار [=30 إلى 35 تريليون دولار] في قطاع الدفاع. ومن المؤكد أن العالم كان سيغدو أكثر أمانا لو أنه تم تخصيص جزء فقط من هذا المبلغ لأنشطة أخرى تسهم أكثر في أمن البشر: التعليم، والصحة، والإسكان، والنضال ضد الفقر، والمحافظة على البيئة([154]).
برنامج العمل
إذا اعتزم المجتمع الدولي أن يقيم ثقافة السلام وهى أسمى أماني اليونسكو، من الأساسي أن تواجه تحديا مزدوجا: تكثيف جهود خفض النفقات العسكرية وعلى وجه الخصوص تأمين أن تصب هذه النفقات، إن جاز القول، على المستوى العالمي في سلام دائم، يستند إلى التضامن الفكري والأخلاقي للبشرية، وليس في خفض جزئي أو تثبيت للمعدات العسكرية. وينبغي أن ندرك أن خفض الأسلحة، وثقافة السلام، والأمن، والتنمية، مفاهيم أربعة وثيقة الارتباط في الواقع الفعلي. فلنستخدمْ هذه الأموال التي يحررها خفض النفقات العسكرية من أجل بناء ديمقراطيات مستقرة سوف يحل فيها صدام الأفكار محل صدام الأسلحة وسوف يتيح فيها النقاش، أفضل من القتال وبأقل تكلفة بشرية، تسوية النزاعات.
فما هي التدابير التي يجب اتخاذها منذ الآن من أجل خفض دائم إن جاز القول للمعدات العسكرية؟ وإلى الوقت الحاضر، استفاد قطاع الدفاع، في البلدان الصناعية، من الإعانات المالية الكبيرة للإنتاج. فلماذا لم لا تستخدم هذه البلدان هذه الإعانات المالية من أجل خفض الإنتاج بدلا من حفزه؟ وقد اقترح عدد من الخبراء بالفعل إنشاء ضريبة على تجارة الأسلحة. إن هذه الضريبة يمكن أن تدرّ إيرادات يمكن استخدامها على وجه التحديد في تمويل جانب من إعادة هيكلة ذلك القطاع. وينبغي في الواقع من أجل تأمين أن يكون خفض المعدات العسكرية مقبولا في البلدان المنتجة تشجيع إعادة توزيع فعالة [من الصناعات العسكرية إلى المدنية] لعمال القطاع العسكري الصناعي، فالأمر يتعلق مباشرة بعدة ملايين من الأشخاص. وقد فقد ثمانية ملايين وثلاثمائة ألف شخص وظائفهم في صناعة الأسلحة على المستوى العالمي بين 1987 و1996، أيْ ما يمثل انخفاضا بنسبة 47% من قوة العمل التي بلغت 17.5 مليونا في 1987([155]).
ووفقا ل مايكل رينر Michael Renner، من معهد المراقبة العالمية، فإن أنشطة إعادة التوزيع يمكن أن تتركز، بأسلوب يقوم على الابتكار والتجديد، على تطوير تكنولوجيات إنتاج غير ملوثة، وتنمية موارد الطاقة المتجددة، وتقوية شبكات وسائل النقل العام، والوصول إلى الطب الوقائي، وتحديث الخدمات العامة للتعليم([156]). ويقترح رينر أيضا إنشاء منتدى داخل الأمم المتحدة تتوفر فيه خبرة كل بلد في مجال إعادة التوزيع.
وبطبيعة الحال فإن عملية تحويل الصناعات العسكرية إلى مدنية وإعادة توزيع العاملين ليست بالأمر السهل. وهذا ما تشهد عليه المشكلات الرئيسية التي تطرحها عملية تحويل القواعد العسكرية إلى أغراض مدنية. وعلى كل حال فإن هذه العملية تقدم أيضا فرصا، كما تبين السياسة التي تتبعها الفليبين. فعند إغلاق القاعدة البحرية الأمريكية في خليج سوبيك في 1992، قدرت الولايات المتحدة قيمة البنية الأساسية لتلك القاعدة بمبلغ 1.4 مليار دولار. وعلى جانب الخصوم، بالإضافة إلى الخسائر الضخمة في الوظائف، كان ينبغي إدراج نقطة سوداء أخرى: تلوث البيئة، نتيجة للكميات الضخمة من النفايات الكيميائية والمعادن الثقيلة التي كان يتم تفريغها في الخليج (وهو ما ظل يحدث خلال سنين طويلة) ونتيجة تسرب البترول والبنزين بكميات ضخمة في التربة. ومنذ سبعة أعوام، أسهم عمدة أولونغاپو في إنشاء هيئة تنمية حضرية لمنطقة خليج سوبيك، هدفها تحويل القاعدة البحرية إلى "هونغ كونغ" محلية. ومنذ نهاية 1993، جذبت السلطة إلى القاعدة 340 مليون دولار و33 مستثمرا. ومع ذلك فإن الشكوك التي تحيط بالمستوى الحقيقي لتلوث البيئة في خليج سوبيك تشكل العقبة الرئيسية أمام اندفاع النمو المدني للمنطقة([157]). وهناك مثال آخر لعملية التحويل من الصناعات العسكرية إلى المدنية هو مثال مدينة زيكيسفيهرفار في هنغاريا، التي نجحت بفضل قوة عمل عالية المهارة، موظفة بصورة خاصة في الإلكترونيات المدنية والعسكرية، في أن تجذب بين عامي 1991 و1995، مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية، فأسهمت بهذا في خفض معدل البطالة من 30% إلى 10% خلال خمسة أعوام([158]). والمثل الثالث هو ذلك الخاص بموقع إطلاق صواريخ في پوستافى في بيلوروسيا، الذي تم تحويله إلى دار للأطفال الذين يعانون من مشكلات صحية في أعقاب حادث مفاعل تشيرنوبيل النووى([159]). والمثل الرابع اللافت للنظر بصورة خاصة هو مثل القاعدة الأمريكية فورت كلايتون، في بنما، التي تم تحويلها مؤخرا إلى مدينة للمعرفة بمساعدة اليونسكو. وتتركز أنشطة مدينة المعرفة اليوم حول أربعة محاور رئيسية: حديقة تكنولوجية، ومركز أبحاث، ومركز للتعليم العالي، ومنتدى للمناقشة، بهدف دعم السلام، والديمقراطية، والثقافة، عبر التبادل والحوار بين فروع المعرفة والمهن.
فهل يجب أن تأخذ المساعدة الاقتصادية والفنية الممنوحة لبلد في اعتبارها جهود سلوك قادة هذا البلد فيما يتعلق بخفض النفقات العسكرية؟ هذا هو ما يقترحه تقرير للأمم المتحدة([160]): يجب أن يرتبط حجم المساعدة الممنوحة بالعلاقة بين النفقات العسكرية والاجتماعية للبلد المستفيد. وكلما اختلت هذه العلاقة أكثر انخفضت المساعدة أكثر. وينبغي أيضا أن تتم التوصية بمستوى حد أدنى من النفقات الاجتماعية ومستوى حد أقصى للنفقات العسكرية.
ومن جهة أخرى فإن مشكلة خفض المساعدة العسكرية يجب تسترعى كأولوية اهتمام البلدان المانحة والموردين الرئيسيين للأسلحة، وبصورة خاصة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي قامت وحدها في 1994، وفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، بإرسال 80% من شحنات الأسلحة التقليدية إلى بلدان الجنوب([161]). وقد بيع ثلثا هذه الأسلحة إلى عشرة بلدان نامية، نجد بينها بلدانا صاعدة أو حديثة التصنيع في حالة نمو اقتصادي نشيط كما نجد أيضا بعض أكثر بلدان العالم فقرا. وتبدو أخلاقيات جديدة في هذا المجال ضرورية([162])خاصة وأن تجار الأسلحة، باستمرارهم في تصدير الأسلحة إلى كل مراكز النزاع في العالم، إنما يقومون دون شك بإلقاء الزيت على النار. والواقع أن النتائج الضارة للمساعدة العسكرية كثيرة جدا: تضخُّم القوى العاملة العسكرية والمعدات العسكرية؛ المديونية الأجنبية عندما يتم تقديم المساعدة في شكل قروض؛ نفقات إضافية كبيرة، غير منتجة بصورة عامة، في مجال البنية التحتية والصيانة وقطع الغيار؛ تفشِّى "المناطق الرمادية" في مجال الأسواق العامة وتفاقم الفساد السياسي. ولحسن الحظ فإن هذا الشكل للمساعدة قد تقلص من الآن فصاعدا: انخفضت من 21 مليار دولار إلى 5 مليارات دولار بين 1987 و1993. وانخفض عدد العسكريين الأجانب الذين تلقّوا تدريبا في الولايات المتحدة من 56000 في 1975 إلى 4500 في 1992. فلماذا لا يتم تخصيص المبالغ الكبيرة التي يتم ادخارها على هذا النحو على مستوى الكوكب لتعليم تلاميذ المدارس؟
ألا ينبغي المضي أبعد في هذا المجال؟ وفى 1997 قامت لجنة الحاصلين على جوائز نوبل للسلام والتي تم إنشاؤها بمبادرة من أوسكار أرياس سانتشيث Oscar Arias Sanchez، الحاصل على جائزة نوبل للسلام والرئيس السابق لكوستاريكا، بإعداد مجموعة قواعد دولية للسلوك، بشأن نقل الأسلحة سترفعها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، على أمل التوصل إلى معاهدة دولية: "يحتاج أطفالنا بصورة عاجلة إلى مدارس ومراكز للرعاية الصحية، وليس إلى أسلحة أو طائرات قتالية"، كما أعلنت اللجنة([163]).
ويتمثل تدبير ثالث، اقترحه بصيغ تختلف اختلافات طفيفة، فرانسوا ميتران François Mitterrand، الذي كان في ذلك الحين رئيسا للجمهورية الفرنسية، وأوسكار أرياس سانتشيث، في إنشاء صندوق دولي لنزع السلاح، طالب به أيضا، منذ ذلك الحين، تقرير جيران في عالم واحد. ويمكن أن يمول مثل هذا الصندوق عن طريق إنشاء ضرائب على تجارة الأسلحة وعن طريق الادخارات المتحققة في ميزانيات الدفاع في البلدان الصناعية. كما يمكن أن تسهم البلدان النامية أيضا في هذا الصندوق حسب إمكاناتها. وسوف تتمثل ميزة هذا الصندوق على وجه الدقة في تشجيع البلدان التي تمر بمرحلة انتقال نحو الديمقراطية ولا تملك سوى موارد ضعيفة جدا، بوضع جزء من عائدات السلام تحت تصرفها. ومن المؤسف أن هذا المشروع كان موضوعا لمناقشات عديدة دون أن تتوصل القوى الفاعلة الرئيسية إلى أيّ قرار ملموس.
وفى البلدان النامية، ينبغي تشجيع كل المبادرات الرامية إلى تأسيس ديمقراطيات مستقرة. وإلا فإنه "كلما ازدادت قوة الجيش، قلَّت الفرص المواتية لتوافر شروط الممارسة الديمقراطية للسلطة"([164]). ومن جهة أخرى، عندما لا تكون عملية المقرطة متحققة فإن المجموعات الأكثر ضعفا في المجتمع، النساء والأطفال بصورة خاصة، هي التي تعانى من عسكرة مفرطة. فهذه المجموعات لا تملك السلطة السياسية الضرورية لإسماع صوتها عندما يتم تطبيق قرارات موازنة غير ملائمة للنفقات التعليمية والاجتماعية. وفيما وراء ضخامة الميزانيات العسكرية، لا شك في أن طبيعة دور الجيش في المجتمع أمر بالغ الأهمية. وبهذا الخصوص، ينبغي التشديد على أن القوات المسلحة، ضمن سياق ديمقراطي، يمكن أن تقدم بدورها إسهاما رئيسيا في التنمية وفى بناء بلد nation-building، على سبيل المثال عن طريق تشجيع نمو البنية الأساسية (الطرق، وسائل النقل، الاتصالات)، والتدريب، وحماية البيئة، والتنمية الريفية، والأمن المدني. والحقيقة أن اليونسكو، بمشروعاتها التعليمية الموجهة نحو معرفة أفضل بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتسامح، والسلام، يمكن أن تلعب دورا كبيرا، في اتصال وثيق مع كل القوى الفاعلة في المجتمع، بما في ذلك العسكريون، في سبيل تشجيع ظهور مجتمعات مدنية.
وفى كثير جدا من الأحيان، يكون الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي تقدم للشباب، في عدد كبير من الدول النامية، فرصة حقيقية للتدريب. ولهذا فإن خفض المعدات العسكرية يجب أن يقترن لسياسات ترمى إلى أن تقدم للشباب بصورة تدريجية دروبا جديدة للوصول إلى التعليم يمكن أن يصب في توظيف مستقر. ومثل هذا الإجراء أساسي بالنسبة للبلدان التي تخرج من حرب. ولإنجاح الانتقال نحو السلام فإن من الأساسي في الواقع القدرة على دمج المقاتلين في الحياة المدنية. وفى أغلب الأحيان، كان الشباب هم الذين حُرموا من التعليم والتأهيل المهني. وينبغي أن يتم بسرعة تحويل هؤلاء الجنود المسرَّحين إلى قوى فاعلة منتجة للتنمية، ليس فقط لأنهم يستحقون مستقبلا مختلفا، بل أيضا لأنهم يشكلون خطر حمل السلاح من جديد إذا لم نقترح عليهم بديلا قابلا للحياة([165]). وفى أغلبية الحالات فإن البلدان التي يكون عليها أن تشرع في هذه الجهود لعملية التحويل من الإنتاج العسكري إلى المدني هي للأسف تلك البلدان التي تفتقر إلى الكثير من الوسائل اللازمة للقيام بهذه العملية. وهذا هو السبب في أننا نعلق أهمية كبيرة على المشروع الخاص بمنع النزاعات وتوطيد السلام، هذا المشروع الذي تتمثل أهدافه الثلاثة الرئيسية في التشجيع على البحث عن أساليب فعالة لمنع النزاعات، وعلى تقديم مساعدة عاجلة أثناء وجود مثل هذه النزاعات، وعلى المساعدة على توطيد السلام عند انتهائها.
وقد قامت اليونسكو بالكثير، خلال الأعوام الأخيرة، بمشاركة عدد من المعاهد العسكرية للأبحاث والتدريب المتقدم([166])، من أجل تحديد مدخل جديد إلى الأمن، ومن أجل التفكير في السلام الدولي بطريقة مختلفة عما ينطوي عليها منظور العدوان المسلح ولتحرير الأمن من ثقافة الحرب التي كان يجرى التفكير فيه وتنظيمه في إطارها([167]). ومن الآن فصاعدا صار من العبث تخصيص مبالغ فلكية لشراء أسلحة الهدف منها في كثير من الأحيان حمايتنا من تهديدات لم تعد موجودة ـ والمطالبة بالتصرف في موارد ضرورية لتخفيف البؤس عن رُبع سكان العالم الذين يفتقرون إلى السلع والخدمات الأكثر أساسية. وينبغي، على العكس، الاستثمار في أمن المواطنين وآليات الديمقراطية. وبعبارة أخرى فإنه ينبغي علينا أن نختار: لأننا لا نستطيع أن ندفع في وقت واحد معا ثمن الحرب وثمن السلام([168]).
ومن الآن فصاعدا يتمثل التحدي الحقيقي في أن نكفل "الأمن الديمقراطي" للشعوب، في إطار منظور "عالمي ولا يتجزأ" يأخذ في اعتباره تحديات الفقر المدقع، وتدهور البيئة، والأوبئة العامة، والتمييزات، وانتهاكات حقوق الإنسان([169]). والهدف هو أن نخرج من ثنائية "القمع ـ الوقاية"، وأن نكفل أن يغدو الأمن منزوع السلاح بصورة تدريجية، وأن يعود إلى مهامه الأولى المتمثلة في حماية المواطنين، وأن يوضع في خدمة المصلحة العامة، وأن يخضع لرقابة القوانين الديمقراطية. إن الديمقراطيات لا يمكن أن تكون ضعيفة أو هشة. ويجب أن تكون قوى الأمن قادرة على أن تكفل التطبيق الدقيق للعدالة، والحرية الكاملة للرأي، واحترام حقوق الإنسان.
ويظل يبقى الكثير الذي ينبغي عمله. والانتقال نحو سلام دائم عملية يبدو أنه أطلقها أبطال الحرب الباردة. وما يزال ينبغي أن نتأكد من أن المسألة لا تتعلق بوهم سريع الزوال خلقه ـ ويا للمفارقة! ـ تقشف الميزانية. ففي بلدان كثيرة، سوف يكلف تدمير الترسانات النووية غاليا جدا([170]). وبالنسبة لعدد كبير من بلدان الجنوب، يبدو أن الانتقال نحو السلام ما يزال بعيدا جدا. فالبلدان النامية كانت مسرح 95% من النزاعات الرئيسية منذ الحرب العالمية الثانية، وهذه النزاعات تغدو داخلية بصورة متزايدة، وهى تعكس بهذا هشاشة المجتمعات التي أنفقت كثيرا جدا من أجل الحرب ولم تنفق ما يكفى في سبيل السلام، والتي ظلت مسرح تنافس القوى الكبرى والمصالح الاقتصادية عبر القومية.
ويتمثل الخطر الحقيقي اليوم في خطر "الدول المفلسة" والنزاعات التي تجرى بعيدا عن كل مراعاة للمعايير القانونية الدولية، التي تجعل من الصعب للغاية كل محاولة للوساطة من جانب المؤسسات الدولية. وعلى سبيل المثال فإنه من بين 82 من النزاعات المسلحة المسجلة بين 1989 و1992، كانت ثلاثة نزاعات فقط منها مواجهة بين دول. ووفقا لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي، في 1997، وصل عدد النزاعات الرئيسية (تلك التي يموت في سياقها أكثر من 1000 شخص) إلى 25 منها نزاع واحد بين دولتين([171]). وإذا أخذنا في اعتبارنا المواجهات الأقل حدة فإن المعطيات تُظهر تزايدا مستمرا في النزاعات الجارية داخل الدول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولا ينبغي أن ننسى مطلقا أنه منذ 1945 أدت الحروب والنزاعات المسلحة إلى موت أكثر من عشرين مليون شخص. وسوف يظل أطفال العالم يدفعون لوقت طويل، بالتشويهات البربرية والميتات الظالمة، ثمن هذه النزاعات: وفقا لتقديرات الخبراء يمكن أن يكون هناك ما بين 65 و110 مليون من الألغام المدفونة في مختلف أنحاء العالم مستعدة للانفجار (انظر الإطار). "إن الحرب الباردة لم تنته: إن نصف العمل ما يزال ينبغي القيام به"([172]).
ونحن لا ننوي أن نعرض بالتفصيل التدابير ذات الطابع السياسي والتقني التي يمكن أن يكون من الملائم اتخاذها من أجل قطع النصف الآخر من الطريق: من الجلي فيما يبدو لنا أن منظمة الأمم المتحدة والمنابر الأخرى، المتعددة الأطراف والإقليمية، التي تتفاوض حول اتفاقيات خفض التسلح والأمن الإستراتيجي هي الإطار الوحيد الذي يمكن فيه بلورة هذه البرامج المعقدة للغاية. ويكفى التذكير بأن الخطوط العريضة لمثل هذه البرامج قد جرت صياغتها من قبل، على سبيل المثال من جانب برنامج الأمم المتحدة للتنمية في 1994([173])، أو، في 1995، من جانب لجنة الإدارة العالمية، وكان رئيساها المناوبان إنغفار كارلسون Ingvar Carlsson وشريداث رامفال Shridath Ramphal، في تقرير جيران في عالم واحد.
وكما لاحظت هذه اللجنة الأخيرة فإن الأمن لم يعد من الممكن فهمه من الزاوية الوحيدة الإستراتيجية أو العسكرية. لقد صار الأمن اليوم سلسلة متشابكة معقدة من عناصر سياسية واقتصادية، واجتماعية، وعلمية، وثقافية، وبيئية، وصحية، وعسكرية، وحتى روحية. ومن هذا المنظور، يجب أن يشمل مفهوم الأمن الشامل من الآن فصاعدا ـ فيما وراء الحلقة الضيقة من حماية الدول ـ الأمن الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والبشرى للسكان وأمن الكوكب. وكما أعلن أولوف پالم Olof Palme منذ ثلاثين عاما مضت في مقدمة تقرير شهير فإن "الأمن المشترك، هذا هو البديل الذي نريده ... إن الأمن الدولي يجب أن يرتكز على التزام بالبقاء معا وليس على التهديد بتدمير متبادل"([174]).
ولهذا فإن من الضروري أن نستبق الأزمات عن طريق تعزيز قدرات المنظومة في هذا المجال، من أجل الاستجابة للنزاعات التي عجزنا عن تفادى اندلاعها. ومن الأساسي بنفس القدر تمويل ثمن السلام والتنمية، وإزالة تهديدات الدمار الشامل، والمراهنة على استعادة سلام المجتمعات. ومثل كثير من خبراء الشمال والجنوب، أو مثل لجنة رامفال-كارلسون، أو مثل برنامج الأمم المتحدة للتنمية، فإننا مقتنعون، على سبيل المثال، بأن الحكومات يجب أن تعتمد بصورة مشتركة أهدافا ملموسة، محددة الأرقام والتواريخ، لخفض النفقات العسكرية، وبأن تجارة الأسلحة يجب إخضاعها بصورة أفضل لرقابة المجتمع الدولي، عن طريق اعتماد مجموعة القواعد الدقيقة للسلوك في هذا المجال. غير أن التدابير السياسية للخفض المتفاوض عليه للمعدات العسكرية لا تكفى. فقد عرفت فترة ما بين الحربين أيضا تدابير لخفض المعدات العسكرية، سرعان ما كنسها انفلات العنف الشمولي ـ الذي أضرمته أسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية، وأضرمه البؤس وكراهية الآخر ومنطق التقليد الأعمى المتبادل لسباق التسلح. إن ما يعطى القوة والاستمرارية للمعاهدات ليس الورق الذي يتم تحريرها عليه، بل الثقة والإيمان من جانب الجميع بنتائجها الطيبة بالنسبة للجميع.
وتتمثل الوسيلة الأساسية، لتأمين سلام دائم، في الرسالة الماثلة في صميم تكليف اليونسكو: التعليم. وينبغي أن نضيف أيضا: الثقافة. غير أن المسألة لا تتعلق بأيّ نوع من التعليم مهما كان ولا بأيّ نوع من السلام مهما كان. وكما أوضح ليون بلوم Léon Blum في مؤتمر لندن الذي تم فيه تأسيس اليونسكو فإن التعليم الموجه بحزم نحو السلام هو الذي يجب أن يكون في قلب عملنا. والواقع أن الإبادة الجماعية لليهود والغجر حدثت في بلد كان بدون شك الأكثر تعليما في العالم، والذي كان يضم في ذلك الحين أكبر عدد من الحاصلين على جائزة نوبل. ولهذا فإن ما يهم هو بناء ثقافة للسلام، ثقافة لعدم العنف. وكما تلاحظ لجنة الإدارة العالمية فإن "العسكرة الراهنة لم تعد تنحصر فقط في حكومات تنفق مالاً أكثر مما هو ضروري من أجل تكديس ترسانات عسكرية. إن المسألة تتعلق، بصورة متزايدة، بظاهرة مجتمعية عالمية، كما يشهد على هذا اقتناء واستخدام المدنيين بصورة متزايدة للأسلحة الفتاكة أكثر فأكثر ـ وهنا يتعلق الأمر بأفراد يبحثون عن تأمين دفاعهم الخاص، أو عصابات حضرية، أو مجرمين، أو جماعات معارضة سياسية، أو منظمات إرهابية. ومن أجل التأكيد على أمن الأفراد، يجب أن يضع العالم حدا لثقافة العنف في قلب الحياة اليومية"([175]). والواقع أن ثقافة العنف هذه تجعل من الحياة اليومية صورة مصغرة للحرب، للكابوس، للعدوان، تمهد الأرض، من خلال جعل استخدام العنف شيئا عاديا مألوفا، لنزاعات مستقبلية واسعة النطاق.
ولهذا فإن مهمة تعزيز ثقافة للسلام مهمة أساسية. ولن يتحقق سلام دائم ما لم يتم بناؤه بصورة دائمة في العقول والقلوب. وهل نعتقد حقا أن السلام العالمي يمكن أن يسود، عن طريق اللقاءات السرية لبعض دهاقنة الدبلوماسية، إذا كان عدم الأمن المحلى ينتشر في كل مكان؟ وهذا هو السبب في أننا نشاطر لجنة الإدارة العالمية رأيها عندما تطالب بثقافة عدم عنف بهذه العبارات التي نعتقد أن من المفيد اقتباسها: "ونحن نوافق دون تحفظ على المبادرات الرامية إلى حماية حياة الفرد، وتشجيع تنمية المواطنين، وخلق جو من الأمن داخل المجتمعات المحلية. ولدينا جميعا، وربما بالأخص وسائل الإعلام، دور ينبغي أن نقوم به في سياق هذا الجهد المشترك. ومن الجلي أن مهمة تعزيز الأمن في إطار ’الجوار العالمي‘ ستكون أكثر صعوبة إذا اتسع نطاق ثقافة العنف داخل المجتمعات في مختلف أنحاء العالم وانتشر عدم الأمن الشخصي في كل مكان"([176]).
وقد أنفقت الحكومات في كل أنحاء العالم في 1994 ستة عشر مليار دولار على تدابير متعلقة بإزالة الطابع العسكري أو بخفض المعدات العسكرية، وهذا ما يمثل حوالي 2% من النفقات العسكرية العالمية([177]). وقد تزايدت هذه النفقات بشدة خلال الأعوام الأخيرة. وعلى سبيل المثال، أنفقت الولايات المتحدة وحدها 16.5 مليار دولار على جهود التحويل [من الأغراض العسكرية إلى المدنية] بين 1993 و1997([178]). ومع ذلك فإن هذه المبالغ غير كافية إلى حد كبير لمواجهة مجموع الاحتياجات. ولا يجب النظر إلى تكلفة السلام على أنها عبء إضافي في الميزانية، بل يجب النظر إليها بالأحرى على أنها استثمار له مكاسبه الطويلة الأجل التي، حتى إذا كان هذا من حيث أرواح البشر فقط، تبرر إلى حد كبير النفقات الابتدائية. بالإضافة إلى أن تكلفة منع النزاعات أقل بصورة جلية من استثماراتنا المحددة في المساعدة الإنسانية، وحفظ السلام، وإعادة البناء، هذه الاستثمارات التي لا تقدم في كثير من الأحيان إلا حلولا هشة ووقتية للتمزقات التي تشكل مصدر النزاعات.
وعائدات السلام هي في التحليل الأخير التنمية ذاتها والحرية التي تنبع منها. وهذا هو السبب في أنه ينبغي أن تكفل البلدان الأكثر حرمانا مستقبلا أفضل لنفسها بالكفّ عن الاستثمار في الحرب والمراهنة على ذكاء ورفاهية مواطنيها، عن طريق تعليمهم، وتوفير الرعاية الطبية لهم، وتقديم فرصة الوصول إلى شروط أفضل للحياة إليهم. وبطبيعة الحال فإن السلام له ثمن: غير أن هذا الثمن هو أيضا ثمن التنمية. إنه ثمن الازدهار المادي والمعنوي للبشرية. هناك حاجة إلى أمن ديمقراطي، هناك حاجة إلى أمن فعال، داخلي وخارجي في آن معا. ويجب أن نستثمر ليس في الأسلحة، بل من أجل وضع الرجال والنساء في حالة من الحوار، والفهم، والتفاهم، والإسهام في انطلاق تنمية مستديمة([179]). ونحن لا يمكن أن نرضى بتحالفات دولية كبرى باهظة التكلفة في حين يعانى المواطنون، في الوقت نفسه، من عدم الأمن في الشوارع والأحياء([180]). إنها في الواقع مسألة توطيد نهج جديد للأمن يأخذ في الاعتبار جذور النزاعات ومجمل التهديدات غير العسكرية ضد السلام. إن العالم عالمي وتفاعلي. ولا يمكن تأمين السلام على النطق العالمي إذا استمرت الصور الصارخة من عدم المساواة، أو الأوضاع الفاضحة للإفلات من العقاب، أو اللجوء إلى العنف. والوعي بالاعتماد المتبادل والعالمية أمر جوهري([181]). وأمام اليونسكو دور هام ينبغي أن تلعبه في سبيل نشر قيم الديمقراطية والسلام والتسامح، في سبيل تعزيز ثقافة لعدم العنف، في سبيل تشجيع كل بلد على دخول القرن الحادي والعشرين مُراهنا على تعليم وتدريب شبابه. وينبغي أن نوفر لليونسكو وسائل الاضطلاع بهذه المهام.
وقد شدد الإعلان الخاص بالعلم واستخدام المعارف العلمية، المعتمد بمناسبة المؤتمر العالمي بشأن العلم الذي انعقد في بوداپست، في هنغاريا، من 26 حزيران/ يونيه إلى أول تموز/ يوليه 1999، على الدور الأساسي للمجتمع العلمي في هذا النهج الجديد للأمن، معلنا بصورة خاصة أن "تعاون علماء العالم أجمع يشكل إسهاما بنّاءً وثمينا في الأمن العالمي وفى تنمية التفاعلات السلمية بين مختلف الأمم، والمجتمعات، والثقافات"، ومؤكدا في ديباجته أنه "تتوفر اليوم فرصة استثنائية تتيح خفض الموارد المخصصة من قبل لتصميم وتصنيع معدات عسكرية جديدة كما تتيح التحويل، على الأقل جزئيا، لتجهيزات الإنتاج والبحث العسكرية إلى الأغراض المدنية". لقد آن الأوان بالفعل لكي نحقق، بالإرادة وبالأفعال، نبوءة الأسلاف: "فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفا ولا يتعلمون الحرب في ما بعد".
نحو حظر للألغام المضادة للأفراد
في 1997 مُنحت جائزة نوبل للسلام للحملة الدولية من أجل حظر الألغام المضادة للأفراد، وهى منظمة برئاسة ﭼودى ويليامز Jody Williams تضم اليوم ألف منظمة غير حكومية. ومنذ ذلك الحين، أدرك الرأي العام الدولي الكارثة المفزعة التي تمثلها الألغام: تتبعثر قرابة 110 مليون من الألغام النشيطة في حوالي 70 بلدا؛ وهى تقتل أو تشوه وتبتر أطراف حوالي 26000 شخص كل عام، أيْ ضحية كل عشرين دقيقة: الجروح فظيعة لأن الألغام ذات التأثير النفاث ـ وهى الأكثر شيوعا ـ تقذف أرجل وأجساد الضحايا بشظايا الجهاز ممتزجة بالتراب، والحصى، وعناصر نباتية؛ وعندما لا يموت الضحايا، بعد تصفية الدم كله من الجسم، فلا مناص من أن يصيروا مشوهين ومن أن يصابوا بجروح ثانوية في الوجه، والعينين، وفى أجزاء أخرى من الجسم. ووفقا للمنظمة الدولية للمعاقين، مزقت الألغام، منذ عشرين عاما، حوالي مليون شخص منهم 600000 من المدنيين. والبلدان الأكثر تأثرا هي أنغولا، وإرتريا، وموزمبيق، والصومال، والسودان، وأفغانستان، وكمبوديا، والعراق، والبوسنة. وفى كمبوديا، يقدر أنه ما تزال هناك من ستة إلى عشرة ملايين من الألغام المدفونة في الأرض: شخص مشوه من كل 236 شخص، وهذا هو أعلى معدل في العالم. وفى أنغولا، ما تزال توجد عشرة ملايين من الألغام، أيْ لغم لكل فرد من السكان. ويضم هذا البلد حوالي 70000 مشوه، منهم 8000 طفل. وفى تقريره عن أثر النزاعات المسلحة على الأطفال، شدد اليونيسيف في 1996 على قابلية الأطفال بصورة بالغة للإصابة بالألغام: عاجزين عن قراءة التحذيرات فإن الأطفال، بسبب قامتهم ، أكثر عرضة من الكبار للوفاة في أعقاب جرح ونادرون منهم، بين الناجين، أولئك الذين يمكن أن يبدلوا، كل ستة أشهر، أطرافهم الصناعية مع استمرار أجسامهم في النمو: لا مناص من أن يحتاج طفل في العاشرة من عمره إلى 25 طرفا صناعيا إذا عاش إلى سن الستين، وهذا إنفاق إجمالي يساوى أكثر من 3000 دولار.
ويكتب بطرس بطرس غالي: "إننا نواجه اليوم أزمة ألغام أرضية، على نطاق الكوكب،
تخرج من إطار المشكلات العسكرية بالمعنى الدقيق لتنتقل إلى وضع الكارثة الإنسانية". والألغام، هذه "القاتلة المختفية"، لا تفرق بين جندي أو طفل أو مُزارع: في بعض البلدان تصل نسبة النساء والأطفال إلى 30% من الضحايا. على أن انتشارها لا يؤثر فقط على مناطق القتال، بل يؤثر أيضا على مناطق النشاط المدني والتجاري؛ ونجدها بجوار أماكن حيوية مثل المزارع، والآبار، ومخاضات الأنهار، والطرق، والممرات، والجسور، ومحطات الطاقة الكهربائية، ومحطات تنقية المياه. ولهذا فإن الألغام الأرضية تشكل، فضلا عن الدمار الذي تلحقه بالسكان، قيدا لا يستهان به على التنمية. والضحايا محكوم عليهم في أغلب الأوقات بالانتقال إلى الهامش الاجتماعي والاقتصادي ويضغطون بشدة على ميزانيات الصحة غير الكافية أصلا. وفى البلدان التي تكون فيها الأرض الزراعية الخصبة نادرة والبنية الأساسية هزيلة، يحكم وجود الألغام على أقسام هائلة من الأراضي بأن تظل غير مستغلة كما أنها تمنع إعادة تشييد البنية الأساسية في مختلف المجالات. وفى ليبيا، تمتلئ نسبة 27% من مساحات الأراضي القابلة للزراعة بألغام يرجع تاريخها إلى الحرب العالمية الثانية. وتُفاقم هذه المشكلة مأساة اللاجئين (انظر الفصل الخاص بالسكان)، إذ أنها تمنع في أكثر الأحيان عودتهم وتحكم عليهم بالنفي أو ببؤس الأطراف الحضرية.
والتكلفة الصحية الناجمة عن الألغام فادحة، كما أن الاحتياجات المالية والإدارية والفنية اللازمة للشروع في إزالتها تظل فوق قدرات البلدان التي هي في أشد الحاجة إليها. والواقع أن الألغام، "أسلحة الفقير"، لا يكلف بعضها سوى بضعة دولارات ويمكن إنتاجها على نطاق واسع. وبالمقابل فإن تحديد موقع لغم واحد وتدميره يمكن أن يكلفا ما بين 300 دولار و1000 دولار وينطويان على مخاطر بشرية كبيرة جدا: توفى 34 شخصا على الأقل خلال عمليات إزالة الألغام التي قامت بها الأمم المتحدة في أفغانستان. وإمعانا في الوقاحة فإن تجار الألغام هم الذين يقدمون خدماتهم أحيانا، بشرط الحصول على أجر القيام بالتدمير. ويمكن نشر أكثر من 1000 لغم في الدقيقة، غير أنه يلزم يوم كامل من العمل لخبير مجرب لتطهير 20 إلى 50 مترا مربعا من الأرض المزروعة بالألغام. على أنه لا توجد في كثير من الأحيان أيّ خريطة بمؤشرات الخطر. وبالمعدل الراهن لإزالة الألغام في كمبوديا ـ 10 كيلومترات مربعة في السنة منذ 1992 ـ يحتاج الأمر، نظريا، إلى ما بين قرن وثلاثة قرون من أجل فك ونزع وتدمير الألغام التي سوف يبطل مفعولها، على كل حال، بعد خمسة وسبعين عاما في المتوسط. وعلى نحو مماثل، تحتاج فرق إزالة الألغام التي تعمل حاليا في أفغانستان إلى 4300 عام لتطهير خُمْس مساحة البلاد. وفى 1993، وفقا لدراسة أجرتها مجموعة Défense conseil international [مجموعة المجلس الدولي للدفاع] (باريس)، تم إبطال مفعول 100000 لغم في العالم، في حين أنه تم زرع مليونين من الألغام الجديدة في القارات الخمس.
 
وفى كانون الأول/ ديسمبر 1997، وقع 122 بلد في أوتاوا معاهدة للحظر الكلى للألغام المضادة للأفراد. وفى أيلول/ سبتمبر 1998، بلغ عدد هذه البلدان إلى 132، وفى أول آذار/ مارس 1999، دخلت المعاهدة السريان، حيث قام بالتصديق عليها 65 بلدا من بينها. وبعد ذلك بشهرين، أيْ في نهاية نيسان/ إبريل 1999، كان قد وقع على المعاهدة 135 بلد، وقام بالتصديق عليها 77 بلدا منها. ومنذ توقيع المعاهدة، يُقدر أن ما بين 10 و11 مليون لغم تم تدميرها، وهذا ما يمثل حوالي 10% من رصيد الألغام المزروعة على نطاق العالم. وعلى كل حال فإن حوالي ستين بلدا، بعضها من البلدان المنتجة للألغام مثل روسيا، والولايات المتحدة، والصين، وسوريا، وإسرائيل، والكوريتان، والهند، وباكستان، لم تكن مطلقا من البلدان الموقعة، وحقق 12 بلدا فقط التدمير الكلى لرصيدها من الألغام المزروعة. وفى كل عام، يتم إنتاج 5 إلى 10 ملايين من الألغام الجديدة. وكما شددنا مرارا، ينبغي التوصل إلى حظر كامل، دون إبطاء وبلا استثناء، للألغام المضادة للأفراد: إن كل تأخير ـ باسم ما يسمى بمصلحة الأمن القومي أو لأسباب اقتصادية محددة ـ سوف يشكل استثناءً خطيرا، ولكن أيضا امتناعا عن العدالة، وانتهاكا لا يغتفر لحق الجميع في الحياة، وفى الأمن، وفى السلام.
المصادر:
    Boutros Boutros-Ghali, « Les mines terrestres, un désastre humanitaire », Politique étrangère, hiver 1994-1995. Rapports de Handicap International (www. handicap-international. org) et de la Campagne internationale pour interdire les mines anti-personnel (www. Icbl. org). Le Monde, 2 mars 1999, 11 octobre 1997, 17 janvier 1996.
منطلقات وتوصيات
3         مواصلة النضال في سبيل القضاء على الفقر، السبب الرئيسي لعدد كبير من الصراعات داخل الدول.
3   تشجيع إنشاء مراكز رصد ومراقبة على المستوى الدولي والإقليمي والمحلى من أجل تعزيز قدرة توقع تفاقم أوضاع النزاعات ومنعها سلفا وتفاديها.
3         دعم وضع برامج للتعليم والتدريب تشجع على دمج الجنود المسرحين في الحياة المدنية.
3   تشجيع نشأة جمعيات ديمقراطية عبر تحقيق مشروعات من أجل التعليم موجهة نحو معرفة أفضل بقيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتسامح, والسلام.
3         الشروع في نزع الأسلحة الصغيرة منذ تطبيق اتفاقيات السلام.
3   تشجيع اعتماد مجموعة قواعد دولية للسلوك، في إطار الأمم المتحدة تستند إلى الرقابة على شحنات الأسلحة التقليدية والحدّ منها.
3   دعم الجهود المبذولة داخل لجنة نزع السلاح التابعة للأمم المتحدة نحو اعتماد اتفاقية دولية بشأن نزع السلاح، تركز بصورة خاصة على الأسلحة النووية.
3   زيادة أمن البشر عن طريق إعادة التحديد، داخل كل البلدان، لأولويات الميزانيات الداخلية لصالح استثمارات تُخَصَّص للتعليم والصحة والإسكان والمحافظة على البيئة.
3         مواصلة جهود توعية وتعبئة الجمهور لدعم تقليص دائم للميزانيات العسكرية.
3   تشجيع التقاسم بين البلدان للمعلومات المتعلقة بالجهود الناجحة في مجال إعادة توزيع العاملين من الصناعات العسكرية إلى المدنية.
3   تعزيز النقاش على المستوى الدولي بشأن إنشاء صندوق عالمي لتصفية العسكرة يتم تمويلها على وجه الخصوص عن طريق ضريبة على تجارة الأسلحة والادخارات المتحققة في ميزانيات الدفاع في البلدان الصناعية.
3   خفض المساعدة العسكرية للبلدان النامية وربط المساعدة الاقتصادية والتقنية بجهود خفض النفقات العسكرية وبما يلازم ذلك من تحديد أولويات الميزانية لصالح التنمية الاجتماعية والبشرية (التعليم، الصحة، الأمن الغذائي ...).


19
أيّ مستقبل لمنظومة الأمم المتحدة؟
 
شهدت منظمة الأمم المتحدة تغيرات كبيرة منذ إنشائها، حيث ارتفع عدد الدول الأعضاء من 50 دولة في 1945 إلى 185 دولة اليوم. وفي الوقت نفسه، اتسعت مهامها بالقدر الذي توسعت به فكرة الأمن الدولي وفكرة التنمية. وعلى هذا النحو فإن مشكلات السكان، والهجرات، والأمن الغذائي، والفقر، والبيئة، والديمقراطية، التي صارت اليوم من صميم اهتمامات الأمم المتحدة، كانت ما تزال لم توضع في جدول الأعمال عندما تم إعداد ميثاق الأمم المتحدة. والواقع أن منظومة الأمم المتحدة، المصممة لمواجهة التصدي لمشكلات ما بعد الحرب [العالمية الثانية]، تبدو اليوم سيئة الإعداد لمواجهة التحدي الذي تمثله تنمية عالمية([182]). وعلاوة على هذا فإن هذه المنظومة تعاني من ثلاث نواقص رئيسية:
        ·          غياب إرادة سياسية تطبع بطابعها قواها الفاعلة الرئيسية؛
        ·          عدم الاستثمار في المنظومة، الأمر الذي يعبر عن نفسه في أزمة مالية شبه دائمة؛
    ·    الافتقار إلى رؤية مستقبلية، مما يحكم على هذه المنظومة بالتعامل مع الأزمات يوما بيوم والتكيف بطريقة أو بأخرى مع التحولات الجارية، مما يحبسها داخل الروتين البيروقراطي والإستراتيجيات الفاشلة.
فهل ينبغي إذن أن يدهشنا أن يصاب عمل هذه المنظومة باختلالات رئيسية؟ ويتركز الجانب الأساسي من جهود الأمم المتحدة في الوقت الحاضر بصورة مفرطة على حفظ السلام peace-keeping([183])، على حساب بناء السلام peace-building ـ هذا التعبير الذي يشمل في رأيي في آن معا استعادة السلام، ومنع النزاعات، والتنمية بمعناها الأوسع. والأمم المتحدة في رأيي ضحية لطغيان الأجل القصير والطوارئ مما يحكم عليها بدور هو بجانبه الأساسي إنساني ومحكوم عليه في نهاية المطاف بالإخفاق، إن لم يتم اعتماد التدابير التصحيحية في أسرع وقت. فهل يمكن أن نقبل بصورة جدية بالنسبة للمنظمة التي أسند إليها الميثاق مهمة تخليص البشرية من ويلات الحرب أن تتحول، في نهاية المطاف، إلى نوع من الصليب الأحمر، حيث تحتقرها وسائل الإعلام لعدم فاعليتها وتختنق ماليا بسبب رفض عدد من أكبر الدول المساهمة من دفع متأخرات اشتراكاتها؟
وقد شدد الأمين العام كوفي عنان في تقريره في تموز/ يوليه 1997 على أهمية إصلاح لمنظومة الأمم المتحدة([184]). ولا ينبغي أن يقتصر هذا الجهد على التدابير التي لا غنى عنها للتجديد الإداري والتي بدأ العمل فيها بالفعل: إن المسألة لا تتعلق فقط بتحديث المنظومة، بل تتعلق باستعادة القوة والجوهر للمثل العليا المشتركة المدرجة في ميثاق الأمم المتحدة. وما يهم من الآن فصاعدا انطلاقا من تحليل للتغيرات التي طرأت على هذه المنظومة منذ خمسين سنة، إرساء منظورات جديدة للمستقبل وبناء الأمم المتحدة للقرن الحادي والعشرين عن طريق منحها الوسائل المالية التي لا غنى عنها لتنفيذ رسالتها. ومن هذا المنظور، لا مناص من الاعتراف بأنه في مواجهة التحديات الكبرى للقرن الحادي والعشرين، والتي قمنا بمناقشة عدد منها في هذا التقرير، صار العالم يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى الأمم المتحدة.
لماذا الأمم المتحدة؟
"لماذا الأمم المتحدة؟"، سوف يسأل مع ذلك المتشككون وأنصار السياسة الواقعية Realpolitik الذين لن يفوتهم أن يشددوا على الدور المتزايد للتحالفات الإقليمية. "لماذا الأمم المتحدة؟"، سوف يتساءل أيضا أولئك الذين يغضبهم أن المثل العليا للسلام والتنمية صارت في أكثر الأحيان توضع بين قوسين من جانب المجتمع الدولي، الذي تجلى في أكثر الأحيان شلله تجاه العنف، والإبادات الجماعية، والبؤس الإنساني. "لماذا الأمم المتحدة؟"، سوف يضيف أيضا ببراءة مفتعلة أولئك الذين ينادون بسياسات السوق الحرة والذين يؤمنون بعالم تنظمه عناية اليد الخفية لقوانين السوق. "لماذا الأمم المتحدة؟"، سوف يسأل أخيرا أولئك الذين ما يزالون يعتقدون أن السلام والأمن يمكن أن تضمنهما السيادة المطلقة للدول.
إذن، لماذا الأمم المتحدة؟ قبل كل شئ لأن تحديات المستقبل لها جميعا بُعْد عالمي، ولأن عالمنا يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى هيئة حراسة وبرج مراقبة دولية للقيام، عن طريق الحوار والتنسيق المتعدد الأطراف، بتغليب المثل العليا المدرجة في ميثاق الأمم المتحدة. وفي عالم يتميز بالاعتماد المتبادل، وبالوعي المتزايد بمصيرنا المشترك، يحتاج حل المشكلات إلى عمل منسق على مستوى الكوكب. وكما قال الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بطرس بطرس غالي فإن "الأمم المتحدة مدعوة إلى أن تلعب دورا أكبر بصورة متزايدة، لأن المجتمع الدولي سيواجه بصورة متزايدة مشكلات عالمية، لا يمكن حلها إلا على النطاق العالمي. أما في الوقت الحالي فإن المؤسسة الوحيدة القائمة والتي تملك وسائل حل هذه المشكلات العالمية هي الأمم المتحدة"([185]). والحقيقة أن منظومة الأمم المتحدة مدعوة، بشرط أن تتلقى الدعم والوسائل الضرورية من جانب الدول الأعضاء، إلى أن تلعب دورا رئيسيا في إدارة النزاعات والحيلولة دون وقوعها، وتوسيع محتوى مساعدة التنمية، وأخذ الأهمية المتزايدة للواقع الإقليمي وعبر القومي في الاعتبار. وفي مواجهة تحديات تغدو عالمية بصورة متزايدة، صرنا نعرف من الآن عن طريق التجربة أن الأمم لا تستطيع، دون عواقب وخيمة على السلام والرفاهية والأمن للجميع، أن تحبس نفسها داخل خطاب سيادي وأحادي وقومي. وكما يشدد الاقتصادي جون كينيث غالبرايث John Kenneth Galbraith فإنه "لا شئ مقبول في عصرنا مثل احترام السيادة؛ ومع ذلك فإنه لا شئ، في لحظات بعينها، يغذي مثلها الفوضى، والفقر، والبؤس ... وأعتقد أننا بحاجة إلى دور أقوى كثيرا للعمل الدولي بما في ذلك، بطبيعة الحال، عمل الأمم المتحدة. إننا بحاجة إلى أن يكون لدينا إحساس أكبر بكثير بالمسئولية المشتركة تجاه أولئك الذين يعانون من ضعف وفساد وفوضى وقسوة حكومة سيئة أو من عدم وجود أي حكومة. إن السيادة، رغم أنها تتمتع بمكانة شبه دينية في الفكر السياسي الحديث، لا ينبغي أن تحمي يأس البشر. وقد لا يكون هذا الرأي بالغ الشعبية؛ غير أن الشعبية ليست دائما معيارا للذكاء المطلوب"([186]). وإزاء سوق متزايدة العولمة، ينبغي من الآن فصاعدا التقدم بعزم نحو ديمقراطية دولية. ألن يكون من واجبنا ذات يوم أن نبتكر، كما يقترح جاك أتالي Jacques Attali، ديمقراطية "كالسوق، لا تكون محدودة بأراضي بلد، ديمقراطية بلا حدود في المكان والزمان"([187])؟ وكما سبق أن أوضحت فإن العمل العسكري الذي قام به حلف الأطلنطي في كوسوڤا وفي صربيا، في سياق تميز بأن انتهاكات السلطات الصربية لحقوق الإنسان كانت من جهة أخرى قابلة للإثبات، أوجد سابقة خطيرة جدا. وينبغي العمل من خلال الإطار الديمقراطي الوحيد القائم على المستوى الدولي: الأمم المتحدة. وإذا كان قد تم إضعاف الأمم المتحدة على مر الزمن فإنه ينبغي تقويتها. غير أنه من غير المقبول ومن غير المنطقي في آن معا المطالبة بازدهار الديمقراطية على المستوى القومي وممارسة الأوليجارشية في الوقت نفسه على المستوى الدولي، بمحاولة قوى بذاتها تطبيق العدالة بنفسها إن جاز القول. وإنما ضمن إطار الأمم المتحدة فقط ينبغي اعتماد القواعد الدولية للسلوك أو اللجوء إلى تدخل الخوذات الزرقاء.
لماذا الأمم المتحدة؟ لأن عالمنا يفتقر إلى الذاكرة. وهذا هو السبب في أنه بحاجة إلى مؤسسات قادرة على تأمين التطبيق الفعال للمبادئ والتعهدات الدولية التي وقعت عليها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة منذ تأسيسها، والتي عمقتها القمم التي عقدتها المنظومة طوال التسعينيات: حقوق الإنسان، الحق في التنمية، الحق في التعليم، الحق في السكن، حقوق الطفل، حقوق النساء، وحقوق أخرى عديدة غيرها، وسأضيف إليها هذا الحق الذي يبدو لي أساسيا، والذي تظل كل الحقوق الأخرى بدونه حبرا على ورق: حق الكائن البشري في السلام([188]).
لماذا الأمم المتحدة؟ لأن عالمنا يسوده عدم المساواة بصورة متزايدة([189]). وهذا هو السبب في أنه بحاجة إلى منظمات دولية تسهر على احترام كرامة كل فرد وحريته وأمنه؛ هذه الحقوق التي يكفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهذا هو السبب في أنه بحاجة إلى مؤسسات تدعم "التقدم الاقتصادي والاجتماعي لكل الشعوب" (ميثاق الأمم المتحدة، الديباجة)، وتناضل في سبيل القضاء على الفقر، كما تعهدت الدول الموقعة على إعلان كوبنهاغن المعتمد في 1995 في قمة التنمية الاجتماعية، وتلتزم بالعمل لصالح التعليم للجميع مدى الحياة، كما طالبت اليونسكو.
لماذا الأمم المتحدة؟ لأن عالمنا تسوده ثقافة حرب وعنف واضطهاد. وهذا هو السبب في أنه يجب من الآن فصاعدا إرساء أسس لثقافة سلام. ويتمثل دور الأمم المتحدة ومجموع المنظومة في "تجنيب الأجيال المقبلة ويلات الحرب"؛ ولن يكون بمستطاع الأمم المتحدة أن تحقق هذه الغاية إلا ببناء السلام يوما بعد يوم، وبدعم تنمية تكون في آن معا بشرية ومستديمة، وبإقامة العدل، وبتعميق الديمقراطية. ويجب أن تدرك البلدان الغنية أن أمامها خيارين: إما أن تكون متضامنة ـ وفي هذه الحالة فإنها ستكسب أصدقاء، وستكسب حتى موالين ـ، وإما أن لا تكون متضامنة ـ فتحصد الأعداء، والراديكالية، والإقصاء، والعدوانية، والهجرة غير القانونية. إننا يجب أن نتعلم أن نعيش معا، كما سبق أن شددتْ في 1996 لجنة ديلور([190]). وذات يوم قال أبراهام لينكولن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية: "البيت المنقسم ضد نفسه لا يمكن إلا أن ينهار"([191]). وهذا القول الحكيم يمكن أن ينطبق على عالمنا، فهو بيتنا المشترك. وإذا نحن استطعنا أن نظل متحدين فإننا سوف نبقى، أما إذا تمزقنا فإننا سوف نختفي. إن تعلُّم أن نعيش معا يشكل إذن التحدي الأكبر للقرن الحادي والعشرين. ومنظومة الأمم المتحدة هي مفتاح الهندسة المعمارية لهذا الصرح المشترك.
لماذا الأمم المتحدة؟ لأن عالمنا قصير النظر. وهذا هو السبب في أنه بحاجة إلى منظومة يتم إصلاحها بعمق لتكون قادرة على أن تسمح في الوقت المناسب بتوقع ومنع النزاعات والأزمات، بدلا من البحث لها، بعد فوات الأوان ولقاء ثمن فادح، وفقا لمنظور الطوارئ القصير النظر، عن حلول تكون دائما ناقصة. وعالمنا بحاجة إلى أن يتوقع ويستبق لكي يبلور صورة مستقبل أكثر عدلا، وأكثر تضامنا، وأكثر استدامة، من أجل الأجيال المقبلة. ولا يمكن تحقيق هذه المهمة إذا نحن استسلمنا لمنطق الأحادية، أو الانكفاء على الذات، أو الأنانيات القومية. ولن تتحقق إعادة التأهيل في الأجل الطويل إلا على أساس الحوار، والاحترام المتبادل، والتشاور، والوساطة.
لماذا الأمم المتحدة؟ لأن عالمنا لا يمكن أن يقيم السلام والأمن المشتركين على أساس المبادئ الاقتصادية وحدها، ولا يمكن بالأحرى أن يقيمها على معتقدات جامدة أثبتت الأزمة المالية الدولية عجزها وضررها. والأمم المتحدة أخلاقية وسياسية في آن معا وبصورة عميقة كما يؤكد ميثاق الأمم المتحدة، وكما يعلن أيضا بعبارات حالمة القانون الأساسي لليونسكو، ووفقا له فإن السلام "يجب بناؤه على أساس التضامن الفكري والأخلاقي للبشرية". ويسعدني من هذا المنظور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بجعل عام 2000 عاما دوليا من أجل ثقافة للسلام. ووفقا لكوفي عنان فإن "منظمة الأمم المتحدة ليس لها هدف أسمى، ولا التزام أعمق، ولا طموح أعلى، من منع النزاعات المسلحة. ويمثل دعم الأمن والتنمية في آن معا سبب ونتيجة منع النزاعات. ويمثل ضمان الأمن، بأوسع معانيه، المهمة الرئيسية للمنظمة كما يمثل المنع الحقيقي والدائم للنزاعات وسيلة تحقيق هذه المهمة"([192]).
لماذا الأمم المتحدة؟ لأن مشكلات العالم لها جميعا بُعْد عالمي وأخلاقي، يتجاوز حدود الدول والثقافات والتحيزات. والحقيقة أن مبادئ الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدل، والتقاسُم، والتضامن، واحترام كرامة كل شخص، لا تنتمي إلى أية حضارة ولا إلى أية ثقافة على وجه الخصوص: إنها تشكل جزءا من التراث الأخلاقي المشترك. إنها أماني عالمية وغير قابلة للتقسيم تفرض علينا ممارسة كل مسئولياتنا تجاه الأجيال الحاضرة ولكن أيضا، كما شددت اليونسكو، إزاء الأجيال المقبلة.
الوقاية، تفادياً للمعاناة
منذ حوالي عشرة أعوام، تغيرت طبيعة النزاعات: حتى عندما تقوم بإشعالها قوى فاعلة خارجية فإنها تقع بصورة رئيسية من الآن فصاعدا داخل دول وتتجابه فيها بصورة خاصة جماعات إثنية، وجماعات سياسية وحتى عصابات مافيا أو طوائف دينية. وقد قمت بالتذكير في فصل آخر بأنه في 1995، كانت أغلبية النزاعات المسلحة نزاعات داخلية في بلدان([193]). وما تزال المنظومة الدولية سيئة الإعداد للاستجابة للتعقيد البالغ للنزاعات الراهنة، كما أثبتت الإخفاقات المأساوية والانزلاقات التي ميزت العمليات المتعددة الأطراف في الصومال، ورواندا، والبوسنة. وقد تفاقم هذا العجز نتيجة لغياب إرادة الدول، التي أحجمت عن التورط في هذه العمليات، ونتيجة لافتقارها إلى رؤية طويلة الأجل. وكما قال، عن حق، أمارا إيسي Amara Essy القيادى الكوت ديڤوارى، ورئيس الدورة التاسعة والأربعين للجمعية العامة للأمم المتحدة فإن "الأجل القصير يفرض دائما ضغوطه على الحكومات، التي تفرضها بدورها على الأمم المتحدة"([194]).
وأمام هيمنة إلحاح الطوارئ، التي تلتهم 80% من موارد منظومة الأمم المتحدة (المخصصة في الوقت الحالي لعمليات حفظ السلام والمساعدات الإنسانية العاجلة)، يجب أن نبذل قصارى جهدنا لتغليب رؤية طويلة الأجل، وللتوقع والاستباق، وللتصرف في الوقت الملائم، بحيث يتم بناء مشروع، بدلا من المتابعة يوما بيوم لمصادفات الظروف، كما يجب أن نكيف أنفسنا وأن نؤقلم أنفسنا. ونحن نعرف من الآن فصاعدا أننا إن لم نتصرف في الوقت المناسب فإن الأجيال المقبلة لن يكون لديها مطلقا وقت للتصرف: سوف تصير تلك الأجيال حبيسة عمليات تخرج عن سيطرتها ـ زيادة السكان، تدهور البيئة، تزايد عدم المساواة بكل أشكالها، تفاقم الأبارتهيد الاجتماعي والحضري، إضعاف الديمقراطية، تفشي الفساد وجماعات المافيا، زيادة الفجوة بين أغنياء المعلومات وفقراء المعلومات.
والحقيقة أن التشديد الذي يسود اليوم على المهام ذات الطابع الإنساني يدل جيدا على أن منطق الطوارئ هو السائد. غير أن الطوارئ إنما تعرقل حل المشكلات الطويلة الأجل، وتقوض كل فكرة المشروع الجماعي. إننا ننفق مبالغ طائلة من أجل "استعادة" السلام عن طريق نشر جيوش، ثم لترميم وإصلاح وإعادة بناء ما دمرته الحرب. ومن الآن فصاعدا، ينبغي التصدي للمصادر الأكثر عمقا لهذه النزاعات: الجهل، والتعصب، والأنانية، والبؤس الاقتصادي، والظلم الاجتماعي، والاضطهاد السياسي، والتمييز، والإقصاء، بكل أشكالها.
وبطبيعة الحال فإن الرؤية المستقبلية ليست فكرة جديدة. فهي، من ماكيافيلي إلى ماكس ڤيبر، الفضيلة الأولى بلا منازع لدى الأمير. غير أنها من الآن فصاعدا ضرورية للغاية إذ أنه في مدخل القرن الحادي والعشرين، تفرض نفسها صياغة نهوج جديدة في حقل السلام والتنمية من أجل مواجهة التحديات الجديدة للعولمة. ويشدد تقرير الأونكتاد في 1998 بشدة على الأهمية التي يمكن أن تكون للنظرة المستقبلية والاستباق في مجال الأزمات المالية([195]). والحقيقة أن العمل الوقائي يشكل في حد ذاته استثمارا لا غنى عنه للأمن العالمي، وكما يوضح غاريث إيڤانز Gareth Evans فإنه سيكون من الحكمة أن يخصص للعمل الوقائي جانب رئيسي من ميزانيات الأمن التي كانت تتركز تقليديا على النفقات العسكرية([196]). وهذا العمل الوقائي يمثل جوهر رسالة اليونسكو، إذ تتمثل رسالتها، ذات الطابع الأخلاقي بصورة جوهرية، في "بناء حصون السلام في عقول البشر"، بالتعليم، والعلم، والثقافة، والاتصالات. وقد آن الأوان إذن لأن نستخدم في سياق منظومة الأمم المتحدة بمجملها تكامل نصوص ميثاقها وأن ننتقل من تصور لدور الأمم المتحدة يشكل فيه حفظ السلام المهمة الرئيسية، إلى تصور أكثر مسئولية، يتركز على منع النزاعات وبناء السلام([197]).
ولكي تكون في مستوى المهمة التي تنتظرها في القرن الحادي والعشرين، يجب أن تثبت منظومة الأمم المتحدة أنها قادرة على أن تفكر وتعمل على أساس الأجل الطويل. كما أنه لا مناص من أن تعزز مختلف مؤسسات المنظومة قدراتها على التوقع وأن تلعب دور هيئة للتقديرات المستقبلية، من أجل منع نشوب الأزمات. وتتمثل هذه الوظائف المتصلة بالتوقع والتحليل والتفكير المستقبلي، من وجهة نظر الوقاية والعمل، أولوية مطلقة. ومن خلال تأمينها بكامل أبعادها، سوف تتزود منظومة الأمم المتحدة بوسائل إضاءة الطريق للساسة والعمل في الوقت المناسب، قبل أن تتفاقم الأزمات، عن طريق إقامة "نُظم إنذار مبكر"([198]). والحقيقة أن الرؤية الطويلة الأجل والعمل الطويل الأجل يمكنهما وحدهما إتاحة ضمان السلام والأمن في العالم وبتعزيز التنمية. ويندرج في هذا المنظور دعم ثقافة للسلام، الذي يشكل من الآن فصاعدا أولوية لمنظومة الأمم المتحدة، ويمثل شكلا جديدا للتعاون الدولي يقوم على فكرتي التوقع والوقاية.
ولهذا يسعدني واقع أن هذه الضرورة يتم الاعتراف بها بصورة متزايدة. فقد قام الأمين العام للأمم المتحدة، في أعقاب خطته للإصلاح في تموز/ يوليه 1997، بتشكيل "وحدة للتخطيط الإستراتيجي". وبالفعل تمت إقامة وحدات مماثلة للرقابة المستقبلية في لجنة المجتمعات الأوروبية وفي عدد من مؤسسات منظومة الأمم المتحدة، مثل الفاو، واليونسكو منذ 1994، حيث يقوم بهذا الدور مكتب التحليل والتوقعات. وهذا التعزيز المنهجي المتواصل لقدرات للتوقع والتقديرات المستقبلية لن يؤتي كل ثماره إلا إذا تم تزويد هذه الوحدات أو الدوائر للأبحاث المستقبلية بالوسائل الملائمة، وإلا إذا تم الاعتراف بقدراتها الفعلية على التأثير في عملية صنع القرار.
في سبيل توسيع
لمفهوم الأمن
لم يعد من الممكن اليوم أن يقتصر مفهوم "الأمن" على المستوى العالمي على الفكرة التقليدية عن الأمن السياسي العسكري للدول. ويفترض الأمن، بأوسع معانيه، الفرصة المتاحة للسكان للوصول إلى تنمية اقتصادية واجتماعية مستديمة؛ فهو يستوجب القضاء على الفقر على مستوى الكوكب، كما أوصت قمة الأمم المتحدة بشأن التنمية الاجتماعية (ستوكهولم، 1995). ويمثل إرساء أمن البشر على هذه الأسس أحد الأهداف الرئيسية لمنظومة الأمم المتحدة. وقد شدد وزراء الشئون الخارجية لمجموعة ال77 بهذا الخصوص على ضرورة أن تلعب منظمة الأمم المتحدة "دورا نشيطا ورئيسيا في بحث مسألة التنمية على أساس نهج متكامل"([199]). وفي نفس الاتجاه، شجعت مجموعة السبعة، في قمة هاليفاكس (حزيران/ يونيه 1995)، إستراتيجيات التنمية القائمة على المشاركة وشددت في قمة ليون (حزيران/ يونيه 1996) على ضرورة بناء "شراكة عالمية جديدة بين البلدان النامية والبلدان المتقدمة والمؤسسات المتعددة الأطراف" من أجل "تجديد التفكير في سياسات التنمية، وبصورة خاصة مساعدة التنمية"([200])، وأوصت بأن يعمل مجلس الأمن في علاقة وثيقة جدا مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي ينبغي تعزيز سلطاته ودوره في التنسيق([201]).
وبهذا المعنى، يبدو لي أن أخذ الأبعاد الشاملة للأمن في الاعتبار يجب أن يفرض نفسه من الآن فصاعدا على أعلى مستوى للأمم المتحدة. وبطبيعة الحال فإننا نسجل بالفعل الإنجازات المهمة التي تحققت في مجال أخذ "الأمن المتعدد الأبعاد"([202])وتصوُّر موسع للأخطار التي تهدد السلام والأمن العالميين في الاعتبار([203]). ولا شك في أن مجلس الأمن لا ينشغل فقط بالنزاعات السياسية أو بالنزاعات الإستراتيجية العسكرية. وعلى كل حال، يبدو لي أنه في مواجهة الاعتماد المتبادل بين الظواهر السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والبيئية، يجب أن ندرج بصورة أكثر منهجية، بين مجالات اختصاصه، تهديدات أخرى تخيم على أمن البشرية: تدهور البيئة وشروط الحياة، الانفجار السكاني، الخصومات الثقافية والإثنية، كل صور انتهاكات حقوق الإنسان. وهذا الإصلاح لا غنى عنه لكي يتم تجاوز التخلف الذي وصلت إليه الأطر المؤسسية للإدارة العالمية، في مواجهة انطلاق العولمة، التي تتسم بتحولات سريعة تفلت في أغلب الأوقات من كل صور التنظيم.
ويجب أن نتابع في نفس هذا الاتجاه التفكير الذي بدأته منابر فكرية مختلفة ويشجعه المجتمع الدولي. هكذا قدم السيد جاك ديلور اقتراحا (تبنته لجنة الإدارة العالمية في تقريرها [جيران في عالم واحد] Notre Voisinage Global) يرمي إلى تشكيل مجلس أمن اقتصادي، "منتدى عالمي يمكن أن يغدو هيئة للإدارة في مجالات الاقتصاد والحياة الاجتماعية والبيئة" يلتقي في إطاره، سنويا، برعاية الأمم المتحدة، رؤساء الدول والحكومات، وفي غضون ذلك الوزراء المعنيون، وفي المحل الأول مسئولو الاقتصاد والمالية، من أجل "توفير إدارة سياسية ودعم انعقاد إجماع على المسائل السياسية الدولية أينما وُجدت تهديدات طويلة الأجل للأمن بأوسع معانيه"، والاهتمام بمتابعة القمم وقراراتها([204]). وقد اقترحت مجموعة العمل المستقلة بشأن مستقبل الأمم المتحدة، برئاسة مُعين قرشي Moeen Qureshi وريتشارد فون ڤايتسيكه Richard Von Weizäcker، آلية مماثلة: إنشاء مجلس اقتصادي ومجلس اجتماعي يصيران مثل مجلس الأمن من الهيئات الرئيسية لمنظومة الأمم المتحدة. وسوف تتيح هذه المجالس عقد "تحالف عالمي من أجل التنمية المستديمة" يناط به تشجيع نهج عالمي ومتكامل للدول الأعضاء في مجال السياسات النقدية والمالية والتجارية كما في مجال سياسات البيئة والسياسات الاجتماعية (الحدّ من الفقر، التنمية الاجتماعية، المسائل الإنسانية، حقوق الإنسان، مساعدة الدول التي تعاني من ضائقة).
وبصورة ملموسة فإن كل الأخطار التي تخيم علينا وتقوض أمن البشر ـ تدهور البيئة وشروط الحياة، الانفجار السكاني، الخصومات الثقافية والإثنية، انتهاكات حقوق الإنسان ـ يجب، في رأيي، إدراجها بطريقة أكثر منهجية في نطاق اختصاص مجلس الأمن لمنظمة الأمم المتحدة، الذي "تقع عليه المسئولية الرئيسية في حفظ السلام والأمن الدوليين" (المادة 24، الفقرة 1). ويمكن أن يستند هذا التوسيع لسلطات مجلس الأمن إلى التطور الذي طرأ، خلال العقود الأخيرة، على مفهوم الأمن، الذي اتسع ليشمل المجالات الاجتماعية والإيكولوجية وحتى الثقافية. وستكون لهذا الإصلاح علاوة على هذا ميزة تفادي إنشاء أطر تنظيمية جديدة يمكن أن تصير مصادر لتكاليف جديدة، ولفقدان الفاعلية، ولتداخل الاختصاصات. كما أن الهيئات الرئيسية للأمم المتحدة يمكن أن تستفيد من تحديد أوضح لاختصاصاتها ومن تكامل أوسع ضروري للتنسيق بينها. وكما ذكرت في فصل آخر([205])، فربما كان من الممكن أيضا إنشاء قوة من "الخوذات الزرقاء" لحماية البيئة، تقوم بصورة خاصة على الكفاءة العلمية.
ويجب أيضا أن يوجد تنسيق أفضل بين الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة للمنظومة. ويجب أن تعود هذه الوكالات من جديد، كما شدد ممثلو بلدان مجموعة السبعة في هاليفاكس، ثم في ليون، مراكز سلطة كل منها في نطاقها. ولهذا فإنه يجب تأمين تفاعل أفضل لهذه الوكالات المتخصصة مع مجموعات خبراء الدراسات القومية، واللجان العلمية الدولية، ومراكز الأبحاث. ولن يكون التعاون بين مختلف الوكالات المتخصصة فعالا إلا إذا مُورس على مستوى المقار العامة وكذلك بصورة ميدانية. على أن هذا التعاون بين مؤسسات المنظومة يجب أن يمارس على مستوى القمة ـ من خلال تنشيط المناقشات واتخاذ القرارات ـ وعلى مستوى القاعدة ـ لتنفيذ القرارات والبرامج. وبصورة متزايدة، يغدو على منظومة الأمم المتحدة والمؤسسات التي تتألف منها هذه المنظومة أن تعمل على غرار شبكات، عن طريق تقليص دور البيروقراطية والاستعانة بأحدث وسائل المعلومات والاتصالات. وفي القرن الحادي والعشرين، سيكون عليها بصورة متزايدة أن تعمل بصورة وقائية، على المستوى العالمي وكذلك على مستوى البلد الواحد: وظائف التوقع، والتقدير المستقبلي، وتحليل السياسات، وتحديد المعايير، ودور تقديم المشورة policy-advice.
والحقيقة أن الوكالات المتخصصة ليست دائما في وضع يسمح لها بالاستجابة للتحديات الجديدة، نتيجة لعدم اهتمام وكالات التمويل. ومن المأمول قيام تنسيق أوثق بين مؤسسات بريتون وودز وباقي المنظومة. ومن هنا أهمية الموقف الذي تبنته بلدان مجموعة السبعة التي تطالب بإعادة توازن في العلاقات بين الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز، والتي تكرس دور منظمات الأمم المتحدة باعتبارها أدوات للتعاون الفكري، قادرة على الإسهام في التعبئة المالية لدعم مشروعات محددة.
ولكي تستعيد هياكل منظومة الأمم المتحدة كل سلطاتها الكاملة فإنها ينبغي أن تستفيد بدعم الحكومات وبالوسائل المالية الملائمة. ومنذ سنوات عديدة، للأسف، فإن سياسة الدول الأعضاء تجاه الأمم المتحدة تتمثل بصورة خاصة في إجراء اقتطاعات وتخفيضات في ميزانية الأنشطة والعاملين؛ وهناك من يستغل عبارات مثل عبارة "النمو الاسمي صفر" التي تساوي، في الواقع، التقليص الفعلي للموارد. وقد اعترفت بلدان الاتحاد الأوروبي بأن "مسئولية الدول الأعضاء تتمثل في توفير إدارة سياسية واضحة ومتماسكة لمنظومة الأمم المتحدة بمجملها"([206]). وسيكون دعم الدول الأعضاء أكثر فعالية واستدامة كلما صارت مؤسسات المنظومة في وضع يتيح لها أن تستفيد بمزاياها النسبية، واستطاعت إصلاح نفسها عن طريق تقليم الأغصان والفروع الميتة للبيروقراطية والروتين.
الدفاع عن الكرامة الإنسانية
إن من يتحدث عن أمن الإنسان إنما يتحدث عن حماية كرامة الإنسان. وتدعو الانتهاكات الخطيرة والمتكررة لحقوق الإنسان إلى استجابات من جانب المجتمع الدولي على مستوى الشر: التعذيب، الإعدامات الفورية، السجن التعسفي، الاستغلال الجنسي والعمل الإجباري للأطفال، ممارسات التمييز والعنف ضد النساء، اضطهاد الأقليات الإثنية والدينية، إلخ. والأمم المتحدة مدعوة إلى أن تلعب دورا أساسيا كحكم في هذا المجال: ينبغي تشجيع تصديق الدول على النظام الأساسي الصادر في روما في 17 تموز/ يوليه 1998 الرامي إلى إنشاء محكمة جنائية دولية تكون مؤهلة قانونا لممارسة اختصاصها إزاء الأشخاص فيما يتعلق بالجرائم الأكثر خطورة ذات التأثير الدولي: جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية([207]). إذ أن هناك شيئا ربما كان أهم من العولمة الاقتصادية: عولمة العدالة والقانون والديمقراطية([208]). وعلاوة على هذا فإنني أعتقد أنه يقع على كاهل الأمم المتحدة واجب التدخل عسكريا، تحت إشراف مجلس الأمن، عندما يكون كل شكل آخر للتحكيم والتفاوض قد انتهى إلى الفشل، وذلك في حالتين رئيستين: عندما تقع انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وعندما تكون الدولة لم تعد موجودة، فيكون قد حل محلها قانون الغابة. وبالتالي يجب أن يتمثل الدافع الوحيد لمثل هذا التدخل في ضرورة استعادة أمن الممتلكات والأشخاص والاستعادة التي لا غنى عنها لشروط سلام دائم وتنمية مستديمة.
ويجب أن تعزز الأمم المتحدة الكرامة الإنسانية بكل أبعادها: تشمل حقوق الإنسان ليس فقط الحقوق المدنية والسياسية، بل أيضا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد تم تكريس مجموع هذه الحقوق بالمواثيق الدولية المتصلة بحقوق الإنسان والمعتمدة في 1966. ويجب النظر إلى حقوق الإنسان على أنها عالمية ولا تتجزأ: ينبغي النضال في الوقت نفسه ضد كل أشكال الاضطهاد والعنف ـ ضد الفقر المدقع، وضد التعذيب، وضد الجوع، وضد الاضطهاد السياسي، وفي سبيل حصول الجميع على التعليم، وضد التمييز إزاء النساء. ومن جهة أخرى فإن مؤتمر الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان المنعقد في ڤيينا في 1993 أعاد تأكيد عدم قابلية حقوق الإنسان للتجزئة. وبطبيعة الحال فإن حقوق المشردين بلا مأوى الذين يعيشون في المدن العملاقة للبلدان الأكثر غنى يجب أن تكون لها في نظرنا نفس قيمة حقوق أولئك المحرومين من التعبير الحر أو حرية التجمع.
تعزيز المساعدة الرسمية
للتنمية
 تبدو لي المساعدة الرسمية للتنمية ضرورية ولا غنى عنها أكثر من أي وقت مضى، خاصة وأننا نعرف الآن من التجربة الفعلية أن البلدان التي تعاني أكثر من العنف داخل الدول هي في كثير من الأحيان تلك البلدان التي تكون فيها الأوضاع الاقتصادية هي الأكثر صعوبة والتي يكون فيها النظام السياسي غير مستقر. ولا يمكن أن تعمى مساعدة التنمية عن الأوضاع المحلية، التي تحدّ من فاعليتها في كثير من الأحيان: بل يجب حتى أن تسهم بنشاط في خلق بيئة اقتصادية واجتماعية وبشرية ملائمة لاستغلال أفضل للموارد.
والمساعدة الرسمية للتنمية لا غنى عنها إذ أنها تتيح تعويض نقص الاستثمارات الخاصة: إن هذه الأخيرة انتقائية للغاية؛ فهي لا تسهم إلا بصورة هامشية في تنمية البنية الأساسية التعليمية والصحية والاجتماعية؛ وهي تخضع أكثر من غيرها للظروف والأحوال المتقلبة (فقد انخفضت على سبيل المثال في 1998 بأكثر من 100 مليار دولار) ([209])؛ وعلى وجه الخصوص فإنها لا تصل إلا نادرا إلى البلدان الأكثر احتياجا إليها. وفي 1997، استفادت بنسبة 72.3% من التدفقات المالية الاستثمارية الخاصة المباشرة عشرة بلدان نامية هي بالترتيب التنازلي: الصين، البرازيل، المكسيك، إندونيسيا، بولندا، ماليزيا، الأرجنتين، تشيلي، الهند، ڤينزويلا([210])؛ وبين 1989 و1992، استفادت البلدان الأقل نموا بنسبة 2% فقط من رؤوس الأموال الخاصة([211]). وعلى هذا النحو تقع أفريقيا على هامش التدفقات المالية لرؤوس الأموال الخاصة: وفقا للبنك الدولي، لم تستفد أفريقيا جنوب الصحراء في 1996 إلا بنسبة 1.8% من صافي تدفقات رؤوس الأموال الخاصة المستثمرة في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط([212]). "يمكن الاستنتاج بحق أن زيادة تدفقات رؤوس الأموال الخاصة لا تقوم إلا بزيادة عدم تجانس العالم الثالث"([213])؛ وتشتد وطأة هذا الاتجاه على مستقبل البلدان الأكثر فقرا خاصة وأن الاستثمارات تخص بصورة متزايدة قطاع الخدمات، وعلى وجه الخصوص المجال الإستراتيجي لتكنولوجيات الاتصالات([214]). ولهذا فإن المنظمات الدولية سوف يكون لها في المستقبل دور حاسم تلعبه في التحكيم وإعادة التوازن بين المساعدة الرسمية والاستثمارات الخاصة، لأن الآلية العفوية للسوق لن يكون بمستطاعها، وحدها، إخراج البلدان الأقل نموا من التخلف.
ولا سبيل إلى إنكار أن الاتجاهات الراهنة في هذا المجال مثيرة للقلق: كان هناك فتور في التضامن الدولي في فترة ما بعد الحرب الباردة، هذه الفترة التي كانت مصحوبة بانخفاض في مساعدة التنمية. وفي الوقت الحالي، تفي أربعة بلدان فقط هي الدنمارك، والنرويج، وهولندا، والسويد، بالهدف الرسمي الذي يتمثل في نسبة 0.7% من الناتج القومي الإجمالي التي حددتها مؤتمرات الأمم المتحدة، أيْ الدول الأعضاء ذاتها([215]). وقد تراجعت المساعدة الرسمية للتنمية: بالنسبة للبلدان الأعضاء في لجنة مساعدة التنمية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فإن هذه المساعدة التي كانت بمتوسط 0.38% من الناتج القومي الإجمالي للبلدان المانحة في 1980 لم تمثل في 1997 سوى 0.22% من الناتج القومي الإجمالي لهذه البلدان؛ وقد انخفضت الميزانيات المخصصة للتعاون من أجل التنمية وفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بمعدل أسرع كثيرا من النفقات العامة الأخرى، "بحيث انخفض نصيب المساعدة الرسمية للتنمية من إجمالى النفقات العامة من 0.8% إلى 0.6%" من 1992 إلى 1997: وبالنسبة لبلدان مجموعة السبعة، تم تسجيل انخفاض بالأسعار الحقيقية بنسبة 27% من 1992 إلى 1997([216]). وعلاوة على هذا فإن الاستثمارات موزعة بصورة غير متساوية تماما (لا تدفع الولايات المتحدة سوى 0.09% من ناتجها القومي الإجمالي) ومتغيرة (تتأهب السويد لزيادة مساعدتها الرسمية للتنمية بنسبة 25% من الآن وحتى 2002، واليابان لخفض برنامجها للمساعدة بنسبة 10% خلال ثلاثة أعوام). وبصورة مماثلة تخفض البلدان مساهماتها الطوعية لمنظومة الأمم المتحدة([217])؛ ويعبر هذا الانخفاض عن نفسه بانخفاض عام لمساعدة التنمية التي تقدمها منظومة الأمم المتحدة من 1993 إلى 1997([218]).
والواقع أنه بسبب مدفوعات خدمة الدين، يميل رصيد تحويلات الموارد بين البلدان النامية والبلدان الصناعية لصالح هذه الأخيرة. فهل يمكن أن نرضى بهذا الوضع الذي يغدو فيه الأغنياء أكثر غنى من بؤس الأكثر فقرا؟ وكان وزراء الشئون الخارجية لمجموعة ال77 يأملون في أن تقوم البلدان المانحة بتحسين نوعية المساعدة العامة للتنمية، خاصة عن طريق خفض تكاليف السداد([219]). وإذا كانت بلدان نادي باريس قد قبلت تجاوز شروط نابولي، وعرضت تخفيضات للديون تصل إلى 80%، فإن الولايات المتحدة لا تمنح سوى 6% من معونتها الخارجية الإجمالية للقارة الأفريقية أي نصف في المائة من ميزانيتها([220]). وقد شددت في موضع آخر على أن المبادرة التي اتخذتها البلدان الأكثر غنى في 1996 بشطب ما يصل إلى 80% من ديون البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، وكذلك مبادرة كولونيا التي تم اعتمادها في قمة بلدان مجموعة السبعة في حزيران/ يونيه 1999، كانتا خطوتين مشجعتين جدا في الاتجاه السليم. غير أنه ينبغي الذهاب إلى ما هو أبعد، بأن يتم في عام 2000 شطب ديون البلدان الأكثر فقرا، وأن يتم إدراج أكبر عدد ممكن من البلدان في هذا التدبير([221]).
ومن جهة أخرى، أليس من المفارقات أن ثلثي سكان فقراء الكوكب يتلقون أقل من ثلث المساعدة الرسمية للتنمية؟ ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية فإن "نسبة الـ 40% من السكان الأكثر غنى في العالم النامي يتلقون ضعف نصيب الفرد من المساعدة في نسبة الـ 40% الأكثر فقرا"([222]). وبالإضافة إلى هذا فإن المساعدة لا تذهب دائما إلى الحاجات ذات الأولوية: لم تخصص بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في 1996 سوى 16.8% من المساعدة الثنائية للتعليم والصحة([223]). ولا يجب فقط تعزيز المساعدة الرسمية للتنمية، بل يجب بصورة خاصة إصلاحها بصورة عميقة، باستلهام توصيات قمة الأمم المتحدة بشأن التنمية الاجتماعية (كوبنهاغن، 1995)، التي اقترحت أن يتم تعزيز الجزء المخصص من المساعدة للتنمية البشرية بشدة.
ولن تكون البلدان الصناعية قادرة على حل مشكلاتها الخاصة إلا ضمن منظور عالمي وتضامني، من خلال تقديم معوناتها للتنمية لبلدان الجنوب. وبهذا يمكن أن تستعيد المساعدة الرسمية للتنمية وظيفتها كأداة، في خدمة المشروعات التي يدعمها شركاء يتميزون بالخبرة والمسئولية، وبما يتفق مع الحاجات المحلية الفعلية([224]). وفي هذا الإطار، يجب أن تقوم منظمة الأمم المتحدة "بتوعية الرأي العام، وخلق إجماع، وابتكار سياسات في مختلف المجالات يمكن أن يكون لها تأثير على مساعدة التنمية، والمساعدة على ترشيد وتناغم الاستثمارات العديدة الرسمية والخاصة المنتشرة على مستوى العالم"([225]). وبكلمات أخرى فإن "الأمم المتحدة يجب أن تكون الأداة المفضلة لاقتصاد عالمي أكثر إنسانية"([226]).
دور اتفاقيات
التعاون الإقليمي
صار التعاون الإقليمي وما ينشأ عنه من تحويلات سيادية إحدى الظواهر الجغرافية السياسية الرئيسية لهذه الأعوام الأخيرة. والواقع أن مفهومي السيادة والاستقلال، حتى وإن كانا لا يزالان مبدأين أساسيين في العلاقات بين الدول، فإنهما لم يعودا يسمحان وحدهما بمواجهة عدد من التحديات التي تفترض أعمالا مشتركة وإعداد مشروعات جماعية تضم عدة دول. وتتحقق التحويلات السيادية بصورة متزايدة لحساب المنظمات الإقليمية، سواء أكانت اقتصادية أم سياسية أم إستراتيجية بصورة رئيسية. وأعتقد أنه ينبغي الترحيب بهذه العمليات من إضفاء الطابع الإقليمي بثقة وتفاؤل، طالما ظلت تعبر عن رفض كل هيمنة وعن الخيار الحر للشركاء المسئولين، الواعين بالمكاسب التي يمكن أن يجنوها منها.
والحقيقة أن التعاون الإقليمي يمكن ليس فقط أن يحفز التنمية بل أيضا أن يشجع على المستوى الإقليمي ازدهار الديمقراطية و"الإدارة السليمة"، من خلال تشجيع دمج الأقليات المهمشة منذ وقت طويل نتيجة لصرامة الحدود التقليدية. غير أنه بصورة خاصة يسمح بتجاوز إغراء الانكفاء على النفس أو الانعزال الوطني لأنه يسهم في السعي إلى الحوار والإجماع ويوفر إمكانية لعمل الدول بطريقة جماعية. وفي المستقبل، يمكن أن يمثل المستوى الإقليمي مستوى وسيطا من أجل تكامل أوسع على المستوى العالمي. ويجب أن تعترف منظومة الأمم المتحدة أكثر بهذا الدور، إما بعقد اجتماعات منتظمة مع المنظمات الإقليمية([227])، وإما بإعطاء هذه المنظمات وضع المراقب على نفس مستوى بعض الدول أو المنظمات غير الحكومية([228]).
ولهذا ينبغي تشجيع عمليات التكامل على المستوى الإقليمي، لأن هذه العمليات تمثل وسيلة فعالة بصورة خاصة للحدّ من التوترات التي تفضي إلى النزاعات. وعلى هذا النحو، كما كتب موريس برتران Maurice Bertrand، فإن البناء الأوروبي "نجح في أن يجعل من غير القابل للتصديق أن تندلع حرب بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا والنمسا وإيطاليا التي كانت حتى في 1945 قد أثارت نزاعات لا تحصى ولا تعد، من بينها حربان عالميتان"([229]). وتمثل اتفاقيات التعاون ومنظمات الأمن عاملا هاما للاستقرار السياسي على المستوى الإقليمي، كما تبين اليوم أمثلة "ميركوسور" (السوق المشتركة للجنوب)، أو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أو "آسيان" (منظمة أمم جنوب شرق آسيا). وعلى العكس فإن مناطق العالم أو المجموعات الإقليمية الفرعية التي حقق فيها التكامل تقدما هزيلا أو أخفق هي التي تشهد في الوقت الراهن النزاعات الأكثر خطورة والتوترات الأكثر احتداما، وهي التي تشهد اشتداد سباق التسلح.
مشاركة المجتمع
ويفترض توطيد شروط السلام والتنمية على المستوى الدولي مشاركة فعلية لجميع القوى الاجتماعية الفاعلة. وتتمثل إحدى السمات المميزة لتطور العالم منذ حوالي عشرين سنة في تزايد تأثير قوى اجتماعية فاعلة، تسهم من الآن فصاعدا في المناقشات التي كانت منذ عهد قريب حكرا على النخب السياسية. ولا شك في أن هذه الظاهرة يمكن إرجاعها جزئيا إلى اتساع نطاق عمل الأمم المتحدة وكما يكتب ليون غوردنكر Leon Gordenker "إلى تغلغل أنشطة مؤسسات الأمم المتحدة  حتى إلى قلب المجتمعات القومية"([230]). ومع ذلك فإن الحكومات تظل اليوم القوى الفاعلة الرئيسية لمنظومة الأمم المتحدة ويظل تأثير المجتمع في إعداد سياسات المجتمع الدولي ـ وسياسات منظمة الأمم المتحدة على وجه الخصوص ـ محدودا جدا لأن المجتمع مفكك جدا وقليل التنظيم أيضا. وعلى هذا النحو فإن أغلبية القرارات ما يزال يتم اتخاذها على المستوى القومي في حين أنه يمكن في أغلب الأحيان التفكير في المشكلات ومعالجتها من الآن فصاعدا على المستوى الدولي، سواء أكانت تتعلق بالبيئة، أم بالهجرات، أم بالنقود، أم بالمخدرات، أم بتنظيم الأسواق المالية.
ومنذ وقت طويل قامت بعض المنظمات بدمج القوى الفاعلة في المجتمع في عمليات صنع القرار: ومنظمة العمل الدولية نموذج جدير بالتنويه بهذا الصدد، لأن هيئاتها القيادية ربطت على أساس ثلاثي الأطراف بين الحكومات، وممثلي القطاع الخاص، وممثلي النقابات. كما شهدت القمم الدولية الكبرى، بدورها، تعزيز حضور ومشاركة مجموع القوى الفاعلة في المجتمع. وبطبيعة الحال فإنه في ريو، وڤيينا، والقاهرة، وكوبنهاغن، وبكين، كانت الحكومات تناقش وتقرر فيما بينها، في حين أن المنظمات غير الحكومية كانت تتجادل ـ بعيدا عن المنصة الرسمية، في ندوات مخصصة للمجتمع المدني. وهناك تجديد، يشكل تقدما مهما، تميز به مؤتمر الأمم المتحدة بشأن المستوطنات البشرية (الموئل 2، إسطنبول، حزيران/ يونيه 1996): للمرة الأولى، أشركت الحكومات شركاء غير حكوميين في المناقشات الرسمية. وقد عبر عن هذا تنظيم مجموعة من الندوات الاستشارية، كانت الاستنتاجات التي توصلت إليها موضوعا لتقارير في الجلسة الكاملة ولتوصيات قادرة على التأثير مباشرة على التفاوض. وعلى هذا النحو أسهم في القرارات النهائية ممثلو المدن، ولكن أيضا ممثلو القطاع الخاص، والنساء، والشباب، والخبراء في مجال الأبحاث المستقبلية. وكان لا مناص من أن يشكل هذا النهج الذي تبلور في إسطنبول نموذجا يحتذى به: فلما لا يكون بوسع منظومة الأمم المتحدة أن تستلهمه، خاصة في جلسات الجمعية العامة([231])؟
ولا شك في أن المنظومة المتعددة الأطراف سوف تكسب من حيث الفاعلية ومناقشاتها من حيث الشفافية إذا تم منح القوى الفاعلة الرئيسية في الحياة الاقتصادية تماما مثل القوى الفاعلة الرئيسية في الجمعيات والروابط الدولية وكذلك الخبراء والعلماء، حق إبداء الرأي، بصفة استشارية، على الأقل فيما يتعلق بإستراتيجيات التنمية. ولهذا، سيكون من الواجب أن يتم في الديباجة تحديد إطار مشاركتهم وتفادي أن يتعدوا على سيادة الدول الأعضاء. فهل لنا أيضا أن نتطلع إلى إنشاء منتديات ومنابر دولية ذات نظرة مستقبلية تمزج التفكير الاقتصادي والتفكير السياسي؟ وفي منظومة الأمم المتحدة، أكثر حتى من أي مجال آخر، من الأهمية بمكان أن تكون كل البلدان الأعضاء قادرة على المشاركة بطريقة منصفة في عمليات صنع القرار وفي مناقشات الأفكار.
وبهذا المنظور، لا ينبغي التقليل من الدور الذي تلعبه الشركات المتعددة الجنسيات في زمن العولمة. والواقع أن رقم أعمال هذه الشركات يتجاوز بكثير أحيانا الناتج القومي الإجمالي لبعض البلدان الصغيرة. ولا ينبغي أن ننسى أنه من أصل 200 من القوى الفاعلة الاقتصادية الرئيسية على المستوى العالمي لا تتجاوز الدول حوالي 40 منها. وسيكون من الملائم دون شك إشراك هذه الشركات المتعددة الجنسيات في التفكير حول تحديات التنمية وتنفيذ الحلول، بدلا من تجاهلها: المهم في الواقع هو زيادة الإحساس بالمسئولية السياسية والأخلاقية لدى هذه القوى الفاعلة الاقتصادية الرئيسية، غير المسئولة اليوم عن أعمالها، من الناحية الأساسية، إلا أمام الأسواق المالية وحاملي أسهمها. وعلى سبيل المثال ففي مجال البيئة، قطعت شركات عديدة متعددة الجنسيات خطوة بالفعل في هذا الاتجاه، باذلة قصارى جهدها للتأقلم مع التحولات الجارية، إما استجابةً لمخاوف الرأي العام، وإما استباقا للتغيرات المرتبطة بالتشريعات الجديدة الرامية إلى حماية المحيط الحيوي([232]). وبصورة متزايدة، تشارك المشروعات المتعددة الجنسيات في نشاط وأبحاث المعاهد الرئيسية للدراسات المستقبلية. وأخيرا فإن جعل الشركات المتعددة الجنسيات أكثر مسئولية، وهذا لا يتحقق إلا بممارستها لدور استشاري وسط الهيئات القومية والدولية، يمكن أن تكون له نتائج تستفيد منها المنظومة المتعددة الأطراف، والدول، وكذلك هذه المشروعات نفسها.
تمويل منظومة
الأمم المتحدة
كما شدد أمارا إيسي فإنه "لن يكون بوسع منظمة الأمم المتحدة أن تواجه التحديات التي تطرح نفسها على كوكبنا، ما لم يتم تزويدها بالوسائل الهيكلية والمالية الأكثر ملاءمة لمهامها الأساسية"([233]). ويزعم بعضهم أن تكلفة الأمم المتحدة أعلى مما ينبغي. فما هي الحقيقة؟ ترصد منظمة الأمم المتحدة وبرامجها وصناديقها لأنشطتها المتعلقة بالتنمية الاجتماعية ميزانية سنوية تصل إلى 4.8 مليارات دولار يتم استخدامها في مساعدة البلدان في مجالات مثل التعليم والصحة والزراعة وتوزيع المواد الغذائية، إلخ. ويمثل هذا المبلغ أقل من دولار واحد (حوالى 81 سنتا) للفرد؛ وعلى سبيل المقارنة فإن النفقات العسكرية لحكومات العالم أجمع بلغت 797 مليار دولار في 1996، أيْ ما يعادل 135 دولار للفرد على ظهر الكوكب([234]). وتمثل التكلفة الإجمالية لعمليات حفظ السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة أقل من 0.2% من النفقات العسكرية للعالم كله؛ ويبلغ إجمالي نفقات نشاط منظومة الأمم المتحدة ـ بما في ذلك البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وكل الصناديق والبرامج والمؤسسات المتخصصة ـ 18.2 مليار دولار في السنة، أي أقل من الدخل السنوي لشركة كبيرة مثل داو كيميكال (أكثر من 20 مليار دولار في 1997). ويوظف مجموع منظومة الأمم المتحدة في العالم كله، أيْ الأمانة في نيويورك و28 منظمة أخرى منها اليونسكو، 52280 شخص. وتوظف شركة ماكدونالدز ثلاثة أضعاف هذا العدد؛ وتوظف ديزني ويرلد وديزني لاند 50000 شخص.
وطوال آلاف السنين، استثمرت البشرية في الحرب؛ وينبغي من الآن فصاعدا أن ندفع ثمن السلام. ولهذا ينبغي القيام بأقصى سرعة بتسوية المشكلات المالية لمنظمة الأمم المتحدة لكي تستطيع المنظمة أن تكون على مستوى مهمتها. ويجب أن تقوم منظومة الأمم المتحدة بأسرها، كأولوية، وبطريقة منظمة، بتعزيز عملها الوقائي وعملها المستقبلي، وكذلك قدرتها على تقديم المشورة وأخذ المبادرة.
وبطبيعة الحال فإن الوسائل الضرورية لعلاج مشكلة التمويل تتجاوز قدرات دعم الدول وحدها ومن المأمول أن تجري الاستعانة بمصادر جديدة للتمويل. وفي هذا الإطار، يمكن التفكير بطريقة أكثر منهجية بكثير في شراكات جديدة مع القطاع غير الهادف للربح والقطاع الخاص، وكذلك في تعبئة التبرعات الطوعية للمواطنين والمؤسسات والشركات. وبالإضافة إلى هذا، هناك اقتراحات مهمة عديدة تم طرحها فيما يتعلق ببدائل التمويل، في تقارير برنامج الأمم المتحدة للتنمية، واللجنة الخاصة بحكومة عالمية، ومجموعة العمل المستقلة بشأن مستقبل الأمم المتحدة([235]): إنشاء صندوق لنزع السلاح، فرض ضرائب على تجارة الأسلحة، عمليات نقدية دولية، استغلال الموارد المشتركة للبشرية. وتستحق كل هذه الاقتراحات من الآن فصاعدا أن تتم دراستها بجدية لأننا لا نستطيع أن نواصل بلا نهاية إطالة قائمة المهام المناط بها للمنظومة، في الوقت الذي يتواصل فيه خنقها ماليا.
وبطبيعة الحال فإن إصلاح الأمم المتحدة ليس بالمهمة السهلة. وقد استغرق الأمر أربعين سنة لتصل المؤسسات الإقليمية الأوروبية إلى درجة متقدمة وإن كانت ما تزال هشة من التعاون فيما بين الحكومات. وهذا الإصلاح لا يمكن الالتفاف حوله لأنه سوف يتيح تفعيل المشروع الذي تتضمنه ديباجة ميثاق الأمم المتحدة. أما التمويل المطلوب لإصلاح المنظومة فسوف يتم تعويضه إلى حد كبير بالمكاسب التي يمكن أن نجنيها من منع فعلي للنزاعات([236]). وكما يشدد تقرير مجموعة العمل المستقلة بشأن مستقبل الأمم المتحدة، التي تم دعم نجاحها على وجه الخصوص بتعيين المؤرخ وخبير المستقبليات الكبير پول كيندي أمينا لها، فإن هذا استثمار أساسي من أجل المستقبل لا يمثل سوى جزء ضئيل جدا من التكلفة التي يمكن أن يؤدي إليها الوقوف مكتوفي الأيدي في مواجهة أحوال عالمية مهددة بالأخطار البالغة أحيانا.
ولا مناص من أن تثير منظومة الأمم المتحدة في الوقت الحالي الانزعاج العميق والانتقادات العديدة. غير أننا لا ينبغي أن نلعب لعبة أنبياء التشاؤم الذين يتنبأون بالنهاية الوشيكة لهذه المنظومة أو النقاد، المتشائمين بالقدر نفسه، الذين لا يكفون عن المماحكة حول عدم فاعليتها وبطئها. والواقع أن المنظومة تشكل أداة هائلة للتعاون والتنمية والسلام، ينبغي إصلاحها في العمق لأنها تعمل، وفقا لكلمات الأمين العام السيد كوفي عنان، "لصالح مشروع ضخم للسلام من أجل البشرية"([237]). ويكفي أن نتذكر النتائج الوخيمة للأخطاء التي جرى ارتكابها في فترة ما بين الحربين وفشل عصبة الأمم لندرك الخطر الذي يمثله عدم المبالاة المتزايد من جانب الدول إزاء منظومة الأمم المتحدة. وقد آن الأوان إذن لتجدد كل القوى الفاعلة للمنظومة الدولية بطريقة مقنعة التزامها بدعم المنظمات الدولية معنويا وماديا، حتى نصنع المستقبل بدلا من أن نعاني منه.
ويمكن أن يشكل احتفال الألفية الجديدة الذي ستعقده الأمم المتحدة في عام 2000 ـ العام الدولي لثقافة السلام([238]) ـ مناسبة رمزية قوية لإعادة تأكيد مجموع التزامات ميثاق الأمم المتحدة والتشديد على الرسالة الأخلاقية لمنظومة الأمم المتحدة عند مدخل الألفية الثالثة. وتشكل العقود الأربعة الواردة في هذا العمل ـ عقد اجتماعي جديد، عقد طبيعي، عقد ثقافي، عقد أخلاقي([239]) ـ لُبّ إسهام اليونسكو في الإعداد للاحتفال بالألفية الجديدة.
منطلقات وتوصيات
3   أخذ الأبعاد العالمية للأمن في الاعتبار بمنح مجلس الأمن اختصاصات اقتصادية واجتماعية وبيئية ـ تتيح خلق إجماع دولي بشأن المسائل الاقتصادية والمالية والتجارية والسياسية والاجتماعية والإيكولوجية والثقافية الأساسية، وبحث الصلات بينها، وتأمين المتابعة الفعلية للقمم والتطبيق الفعلي للالتزامات التي أخذتها الدول الأعضاء على عاتقها.
3   حماية الكرامة الإنسانية بكل صورها، عن طريق التنفيذ الفعلي للحقوق المدنية والسياسية، ولكن أيضا للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويشكل مجموع هذه الحقوق العالمية كُلا لا يتجزأ.
3   تشجيع الدول على التصديق على النظام الأساسي الصادر في روما والرامي إلى إنشاء محكمة جنائية دولية، مؤهلة قانونا لممارسة اختصاصاتها على الأشخاص على الجرائم الأكثر خطورة التي تنطوي على مغزى دولي: جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية.
3   تحويل الأمم المتحدة إلى أداة لسياسة اقتصادية واجتماعية أكثر إنسانية، وبصورة خاصة من خلال تعزيز المساعدة الرسمية للتنمية، وعلى وجه الخصوص في مجالي التعليم والصحة.
3   دفع ثمن السلام عن طريق تأمين تمويل أفضل لمنظومة الأمم المتحدة، وبصورة خاصة عن طريق آليات مبتكرة للتمويل، ومن خلال تخصيص جانب رئيسي من ميزانيات الأمن للوقاية.
3   إعادة توازن العلاقات بين الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز، وتأمين تنسيق أفضل بين الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة للمنظومة.
3         تعزيز دور اليونسكو كأداة للتضامن الفكري والأخلاقي والعلمي بين الأمم.
3         القيام، في عام 2000، بشطب ديون البلدان الأكثر فقرا، وإدراج أكبر عدد ممكن من البلدان في هذا التدبير.
3         تعزيز قدرات التوقع والتقديرات المستقبلية في قلب مجموع منظومة الأمم المتحدة.
3         تشجيع عمليات التكامل على النطاق الإقليمي للحدّ من التوترات التي تفضي إلى النزاعات.
3   زيادة إسهام القوى الفاعلة في المجتمع المدني ومساعدة المشروعات الخاصة لعمليات صنع القرار في قلب منظومة الأمم المتحدة وعملها.


20
من أجل ثقافة سلام
 
كما يوضح بيان صقلية، الذي أعده في 1986 مجموعة من الخبراء المنتمين إلى آفاق معرفية بالغة التنوع، لا وجود لأي أساس علمي للفكرة القائلة بأن الحرب والعنف ماثلان في صميم تكوين نوعنا البشري([240]). وبعيدا عن يكونا مكونين من مكونات الطبيعة البشرية، فإن العنف والحرب يقومان بتغييرهما بعمق، إذ أنهما يشكلان نفيا للكرامة الجوهرية للشخص البشري ولقدراته على أن يعيش في مجتمع. والحقيقة أن الحرب، بعيدا عن أن تكون "الاستمرار" البسيط للسياسة بوسائل أخرى، وفقا لتعبير كلاوزڤيتس Clausewitz، ترمز من الآن فصاعدا إلى القطيعة مع السياسة ذاتها بالمعنى الحديث والديمقراطي للكلمة، وترمز بصورة خاصة إلى إفلاسها: إخفاق المشاركة، والحوار، والتفاوض، والوقاية، والبصيرة، والتسامح، وفي التحليل الأخير: التعليم والديمقراطية. والحروب، كما يشدد القانون الأساسي لليونسكو، "تولد في عقول البشر".
وإنما على وجه التحديد لأن الكائن البشري يمكن أن يستسلم للتعصب، للعنصرية، للخوف من الأجانب، للكراهية، ينبغي أن نذكّر، خاصة الشباب، بأن السلام لا يمكن النظر إليه على أنه قضية مفروغ منها. وكما يذكرنا نقش في بيت المرأة في موسكو، فإن "عالمنا غارق في الدموع"([241]). وسوف يتمثل التحدي الكبير أمام البشرية في القرن الحادي والعشرين في خلق الشروط المواتية للانتقال من ثقافة عنف نحو ثقافة سلام، وتشييد "حصون السلام داخل عقول البشر".
وسأقدم لثقافة السلام التعريف الذي اعتمدته اليونسكو في 1995:
"ثقافة للتشارك والتقاسم، تستند إلى مبادئ الحرية، والعدالة، والديمقراطية، والتسامح، والتضامن،
ثقافة ترفض العنف، وتسعى إلى منع النزاعات باستئصال جذورها، وإلى حلّ المشكلات عن طريق الحوار والتفاوض،
ثقافة تكفل للجميع الممارسة الكاملة لكل حقوقهم ووسائل المشاركة بصورة كاملة في تنمية المجتمع من داخله"([242]).
وذات يوم قال جورج برنارد شو: "السلام ليس فقط أفضل من الحرب، إنه أصعب جدا منها". ذلك أن الحرب التي هي، واأسفاه، أسوأ الخيارات، كثيرا جدا ما تكون أسهل الخيارات، على الأقل منذ أن يبدأ دق طبول الحرب. وقد أدرك هذا جيدا ڤيكتور هيغو Victor Hugo، الذي أسف لما تؤدي إليه من "السهولة المشئومة للموت": السهولة المشئومة أيضا بالنسبة للقادة والأيديولوجيين المحبين للحرب الذين يجعلون الشباب يموتون بدلا منهم. أجل، إن الحرب تندلع بكل سهولة، في حين أن السلام صعب المنال. إذ كيف يمكن أن نأمل في بناء السلام حينما تكون التنمية ناقصة، وغير متكافئة، وسيئة التوزيع، حينما تظل الديمقراطية أسيرة والحداثة مبتورة([243])، حينما تكون الحقوق الأساسية لكل شخص مُهانة، حينما يكون المستقبل مرهونا بحسابات أنانية وقصيرة الأجل؟ وهدف السلام هدف طويل الأجل يفترض إقامة صلة وثيقة بين السلام، والتنمية، والعدل، والديمقراطية: كيف لا ندرك أن مثل هذه الدينامية مستحيلة بدون ازدهار التعليم للجميع، بدون تعزيز حقوق الإنسان، والتسامح، والتعددية الثقافية، والحوار بين كل مكونات المجتمع؟ بدون التزام حقيقي من الجميع بالسلام؟ بدون تعبئة الطاقات، والإرادات، والقلوب؟
ويجب أن نواجه بالتدريج موقف "إذا كنت تريد السلام، استعدّ للحرب" بموقف "استعدّ للسلام": إذا كنت تريد السلام، استعدّ له، وَطِّدْهُ. لا تقبل ما لا يُقبل. كُنْ دائما مستعدّا للإصغاء، ولكنْ تصرَّفْ وفقا لضميرك: لا تبحث حولك عن أجوبة للأسئلة الأساسية، لأن هذه الأجوبة في داخلك. لأن الاستعداد للسلام يعني الاستعداد لمستقبلنا ومستقبل أطفالنا، يعني الاستعداد للقرن الحادي والعشرين. وعلى اليونسكو أن تلعب دورا أساسيا للغاية بهذا الخصوص، لا سيما وأنها المؤسسة الوحيدة المتخصصة في منظومة الأمم المتحدة التي يرتبط تكليفها مباشرة بالسلام. والواقع أن مهمة اليونسكو تتمثل، وفقا لكلمات قانونها الأساسي، في "الإسهام في المحافظة على السلم والأمن بتوثيق التعاون بين الشعوب، عبر التربية والعلوم والثقافة، في سبيل تأمين الاحترام الشامل للعدل وحقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، دون تمييز بسبب العرق، أو النوع، أو اللغة، أو الدين، والتي يعترف بها ميثاق الأمم المتحدة لجميع الشعوب". كما أن اليونسكو هي أيضا المنظمة الوحيدة لهذه المنظومة، التي يستند قانونها الأساسي إلى "المثل الأعلى الديمقراطي للكرامة، والمساواة، واحترام الشخص البشري"، لأنه لا يجعل الحرب ممكنة سوى إنكار هذه القيم الأساسية للديمقراطية.
ويسعدنا أن ثقافة السلام صارت من الآن معترفا بها من جانب المجتمع الدولي كأولوية أساسية: بالفعل، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2000 عاما دوليا لثقافة السلام والعقد من 2001 إلى 2010 "عقدا دوليا لتعزيز الثقافة لعدم العنف والسلام من أجل أطفال العالم"([244]). وعلاوة على هذا، فإن مؤسسات غير حكومية عديدة (مثل منظمة الدول الأمريكية، ومنظمة الوحدة الأفريقية، والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ومجلس أوروبا، ورابطة بلدان جنوب شرق آسيا "الآسيان"، والكومنولث، والأمانة العامة للفرانكفونية) ومنظمات غير حكومية عديدة أعلنت تأييدها لهذه المبادرة([245]).
مواجهة أشكال جديدة من العنف والحرب
وفقا لبيير آسنيه Pierre Hassner، يتسم العالم الذي أعقب سقوط سور برلين في 1989 بمفارقة جديدة، تحل محل تلك التي شخصها ريمون آرون Raymond Aron لوصف الحرب الباردة: "سلام مستحيل، حرب غير محتملة". فاليوم، إذا كان السلام يبدو أقل استحالة، فإن الحرب تبدو أقل عدم احتمال بالأحرى، نظرا لأن دولا عديدة تواصل تخصيص مبالغ ضخمة للدفاع، في حين يبدو أنها قلما تعير الانتباه إلى المخاطر الفعلية التي ترهن مستقبلها والتي ذكرتُها في الفصول السابقة. ومع ذلك، فإن لدينا فرصة فريدة علينا أن ننتهزها: الاستفادة بنهاية الحرب الباردة لاستثمار عائدات السلام في التنمية البشرية من خلال التعليم والعلوم والثقافة. فهل ندع هذه الفرصة تفوت؟ ولا مناص من أن نسجل أن الاتجاهات الأخيرة قلما تكون مشجعة: خلال الأعوام الأخيرة، انخفضت المساعدة الرسمية الدولية للتنمية، في الوقت نفسه الذي تقلص فيه دعم منظومة الأمم المتحدة([246]) ومع ذلك فإننا لن نكون في وضع يسمح لنا بأن نواجه التحديات الرئيسية لعصرنا إلا إذا وفرنا لأنفسنا وسائل تشجيع نمو طاقات التنمية الذاتية على المستوى القومي وعززنا منظومة الأمم المتحدة على المستوى الدولي. ويجب علاوة على هذا أن نحلّ بطريقة ديمقراطية المشكلة التي يفضي إليها صعود النزعات القومية البالغة الحدة، والأصوليات، والنزاعات الإثنية، في عالم متزايد التفكك. وباختصار فإننا يجب أن نتعلم أن نعيش في سلام، ولكن أيضا أن نتعلم أن نعبر بصلابة عن خلافنا دون أن نفرض وجهة نظرنا بالقوة أبدا، ودون أن نقبل لهذا أبدا "ما لا يمكن إصلاحه".
وتتجه أشكال جديدة من العنف إلى الانتشار "داخل وخارج الدول([247]): إننا نشهد تفاقم المواجهات داخل الدول([248])، هذه المواجهات التي صارت من الآن فصاعدا النمط الأوسع انتشارا للنزاع على مشارف القرن الحادي والعشرين. وفي الوقت نفسه، نلاحظ اتساع انتشار الإرهاب والجريمة المنظمة اللذين يتعولمان بسرعة، في الوقت الذي يحتفظان فيه بالجذور المحلية. ومن ناحية أخرى، صار المدنيون هم الأهداف المفضلة للعدوان والعنف، والمذابح الجماعية والاغتصاب المخطط بوصفه سلاحا في الحرب من أجل ترويع السكان وتدمير صورة الآخر؛ حتى الحرب نفسها، كما يخططها العسكريون والساسة، يخوضها في الميدان في كثير من الأحيان مدنيون، وبصورة خاصة شباب وأطفال. كما أن جماعات ومجموعات المافيا تلعب دورا نشيطا بصورة متزايدة في هذه النزاعات بحثا عن أرباح هائلة غير مشروعة. كذلك فإن الاقتصاد غير المشروع، والاستغلال المتزايد للنزاعات المحلية من جانب مصالح اقتصادية كبرى ترتكز على "أمراء الحرب" الفاسدين، يتجهان إلى أن يجعلا من هذه النزاعات سلاحا مميتا لسيادة القانون، والمؤسسات، والديمقراطية، والتنمية. ونتيجة لهذا التحول، يرتدي العنف والحرب أشكالا جديدة، ويلجآن إلى أسلحة مستحدثة وقوى فاعلة مستحدثة ويهاجمان ضحايا جددا. ويجري طبع استعمال القوة بطابع المؤسسة والخصخصة والاحتراف؛ وتزدهر "الأسلحة الخاصة"؛ وتمتد "الحرب" حتى إلى الفضاء الإلكتروني. وفي عدد من البلدان فإن العنف باستخدام الأسلحة، سواء أكان جماعيا أم فرديا، دخل الآن إلى المدارس، التي هي مع ذلك ويجب أن تظل أماكن للتعليم والسلام. وفي فجر القرن الحادي والعشرين، كيف لا نمعن النظر في التأثير المرضيّ الذي تمارسه ثقافة الحرب والعنف والسيطرة على الشباب؟
وفي فجر القرن الحادي والعشرين، ندرك أيضا أن أشكالا أخرى خطيرة جدا للعنف وانعدام الأمن تتفاقم: الأسوأ من بينها بلا أدنى شك الظلم والفقر والحرمان([249]). ومع اقتراب الألفية الثالثة، من ذا الذي يمكن أن يرضى بـ "سلام سلبي"، يتم تعريفه على أنه مجرد غياب للحرب؟ من ذا الذي يمكن أن يرضى بسلام تكفله هيمنة الإمبراطوريات بلا منازع؟ والواقع أن السلام يخفي واقعا أكثر تعقيدا بكثير: إنه في جوهره دينامية. فالسلام الذي نضعه نصب أعيننا هو "السلام الإيجابي" الذي، وفقا لصيغة الفيلسوف سبينوزا Spinoza، "ينبع من قوة الروح، والوئام، والعدل"([250]). وتفترض ثقافة السلام إذن التقاسم من أجل الحد من اختلالات التنمية البشرية، واستئصال الفقر، والقضاء على استغلال الكائنات البشرية، وبصورة خاصة استغلال الأطفال والنساء. ونحن مقتنعون بأن أخطر المخاطر الذي يتهددنا في الوقت الراهن يتمثل في هذه الهوة الثلاثية التي تزداد عمقا بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب، وفيما بين بلدان الجنوب ذاتها، وفيما بين أولئك الأكثر غنى وأولئك الأكثر فقرا داخل المجتمع الواحد. وبدون الحد بشدة من هذه الفوارق الكبيرة التي تفاقمت بشدة خلال العقود الثلاثة الماضية فإن السلام والتنمية للجميع سوف يظلان مهددين بالأخطار، وسوف يكون الأغنياء أمام إغراء الدفاع بالقوة عن جنتهم المحاطة بالأسوار ـ المادية والإلكترونية ـ والمحاصرة مع ذلك.
عولمة أم تفكك؟
كيف نتعلم أن نعيش معا في القرن الحادي والعشرين
أوضح ألف خبير هذه المفارقة الأخرى الظاهرة: كلما تعولم العالم فإنه يغدو مطبوعا بطابع الفردية والتفكك. والواقع أنه لأن العالم يتعولم على وجه التحديد فإنه يتفتت إلى ذرات أمام أعيننا: لأنه في سوق تصير عالمية فإن التفكك، بعيدا عن أن يقتضي عقوبات، يغدو مربحا، كما أن المؤسسات الوسيطة التي تؤسس الصلة الاجتماعية ـ الأمة، والعمل، والأسرة، والمدرسة ـ تقع فريسة لعملية تفكك([251]). صحيح أن بعض المراقبين يقدرون أننا نقترب من العهد الذي توقع كانط مجيئه عندما أشار إلى ازدهار قانون عالمي النزعة يرتكز على التسامح والقدرة على تعايش سلمي حيث ستكون علاقات الاعتماد المتبادل بين الدول قد تقدمت إلى حد "أن أيّ خرق للقانون في مكان على الأرض [سيكون] محسوسا به في كل مكان"([252]). ووفقا لمايكل دويل Michael Doyle فإن شروط السلام الدائم صارت اليوم متحققة إلى حد كبير أو في طريقها إلى ذلك([253]). ويشدد عدد من الخبراء المؤيدين لهذه الفرضية على أنه، منذ نهاية القرن التاسع عشر، لم يحدث قط صراع مسلح حقيقي جرت فيه المواجهة بين نظامين ديمقراطيين تماما، إلا أن هذا التأكيد ما يزال قابلا للنقاش بل يبدو أن الوقائع تكذّبه. ومع ذلك فإن قيام الأمم المتحدة بتنظيم مؤتمرات قمة كبرى، والعمل، حتى المتعارض، للمنظمات الدولية، وعقد اتفاقيات، مثل اتفاقيتي قمة الأرض بريو وقمة كيوتو بشأن الحد من انبعاثات غازات الدفيئة، أو قرار إنشاء محكمة جنائية دولية، يبدو أنها تدل جميعا على التغلب على صعوبة جديدة: يبدو أن المجتمع الدولي يتجه بصورة متزايدة نحو فكرة إدارة "منسقة" للكوكب واحترام متزايد لحقوق الإنسان. وبالفعل فإن عدد النظم الديمقراطية يتزايد بصورة منتظمة. وعلاوة على هذا فإنه ينشأ وعي كوكبي حقيقي، يعززه نمو وازدهار تكنولوجيات جديدة للمعلومات والاتصالات؛ وبتنامي الإحساس بأن النوع البشري يتقاسم مصيرا مشتركا.
وتصطدم هذه العملية بحدود جلية وبإخفاقات: في أكثر الأحيان، عرقل غياب الإرادة السياسية متابعة القمم الكبرى للأمم المتحدة، كما أن الزيادة الكمية لعدد النظم المنتخبة ديمقراطيا ليست مصحوبة بالضرورة بتعميق نوعي للديمقراطية. وعلاوة على هذا فإن هذه العملية ذاتها هشة جدا. وإذا كنا مقتنعين بأن من الممكن تعزيز أشكال جديدة للتعاون الدولي سوف تجعلنا بمنأى عن الحرب، هناك عدد من العوامل التي يمكن أن تكبح، بل حتى تحطم، هذه الدينامية. والواقع أن عالم اليوم يبدو وكأنه عالم بلا معالم واضحة. وفي كل مكان يتم بناء طرق لا تؤدي إلى أيّ مكان. فهل يمكن أن تقود "العولمة" إلى "غياب العالم" الذي تنبأت به حنة أرندت؟ وإلى أين تفضي بنا العولمة إذا كان لا مناص من أن يتجسد التعبير عنه في غياب القيم العالمية، وانعدام رؤية وأهداف في الأجل الطويل، وتراجع فكرة المصير المشترك؟ هذا العالم، الذي استسلم لطغيان مقتضيات الأجل القصير والطوارئ والذي تخيم عليه، كما يشدد پول كيندي([254]) في Preparing for the Twenty-first Century [الإعداد للقرن الحادي والعشرين]، هيمنة سياسات السوق الحرة وعدم التدخل، هل ما يزال هذا العالم حاملا لأي معنى؟ أليس فاقدا، وفقا لتعبير إيمانويل ليڤيناس Emmanuel Lévinas، للمنظور الذي يمكن أن يفتحه أمامه "زمن مفعم بالوعود"([255])؟
فكيف إذن يستعاد معنى زمان مفتوح على المستقبل؟ والحقيقة أنه لا يمكن فصل ازدهار ثقافة سلام عن نمو وانطلاق الاستباق والتوقع، وتطوير تصور مستقبلي عن الديمقراطية داخل البلدان ولكن أيضا على المستوى الدولي، وتعميق الديمقراطية التي يجب أن ترفض الأبارتهيد الاجتماعي في سبيل إعادة بناء الفضاء العام على أساس العدل والنضال ضد كل أشكال عدم المساواة، ولكن أيضا البناء الاجتماعي والفردي لأخلاق للمستقبل: إنما على هذا النحو سيكون بوسعنا أن نواجه أخطارا يتم اختزالها إلى عولمة المعولمين (فاعلي العولمة) globalisateurs للمعولَمين (مفعولي العولمة) globalisés.
ويتمثل خطر آخر ملازم للعولمة في الانكفاء على الهوية، لأن التقارب السريع بين الأفراد يمكن أيضا أن يقود إلى التفكك الثقافي أو السياسي وحبس السكان المهمشين داخل أحلام الماضي. ويتفاقم هذا التشنج على الهوية، وفقا لبنجامين باربر Benjamin Barber، نتيجة للخوف الحقيقي أو المفترض من إضفاء طابع الهيمنة الثقافية التي تحفزها العولمة([256]). ووفقا لأرجون أبادوراي Arjun Appadurai فإن محرِّك تجدُّد العنف كان يتمثل بوجه عام في تأكيد هوية ضد هويات أخرى و"في سياق التعارض بين هويات مختلفة تحولت هوية الأغلبية في كثير من الأحيان إلى هوية ’مفترسة‘ لهوية الأقلية"([257]). غير أنه، وفقا لـ رينيه ـ جان ديپي، "عندما يكف المرء عن الإيمان بالصيرورة، وتموت الصيرورة، يتولد ميل إلى العودة إلى الماضي، وعندئذ يتمثل المستقبل في الماضي. ويقود هذا الموقف إلى الأصولية من خلال التشبُّث بتراث يجري تقديسه. وهذا التاريخ ـ التراث هو ما يبحث فيه المرء عن ملاذ"([258]). وبطبيعة الحال فإنه ليس هناك أبدا عودة إلى الماضي: إن التثبيت الارتدادي على الماضي، بعيدا عن أن ينجح في بعثه، يصب فيما يسميه الفيلسوف الإيراني داريوش شاييجان Daryush Shayegan بكل حق "أدلجة التراث"([259])، وبالتالي في شكل أيديولوجي جديد يقوم، تحت غطاء احترام الماضي، بالمشاركة في تغريب العالم دون وعي مستعيرا من الغرب نماذج للأيديولوجية والعمل.
وفي سياق من الانكفاءات على الهويات، حيث يمكن في كثير من الأحيان أن نرى عدوا في جارنا، رغم أن هذا الأخير لابد وأن يكون صديقنا، لا شك في أن التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين يتمثل في أن نتعلم أن نعيش معا، كما شدد جاك ديلور في تقرير اللجنة الدولية بشأن التعليم من أجل القرن الحادي والعشرين، والذي كان منسقا لإعداده. وينبغي أن نقول بكل صراحة: إن ثقافة إقصاء الآخر هذه، المفروضة على المجتمعات التي تمر بأزمة باسم هويات وهمية وميثولوجيات مستعارة، يمكن أن تقود، إنْ كان لها أن تنتصر، إلى تفجير وتفتيت العالم إلى "جماعات تقوم على رابطة الدم، ترتكز على الإقصاء والكراهية، وتقمع الديمقراطية لحساب أبوية استبدادية أو قبلية إجماعية"([260]).
تعلُّم السلام:
التعليم والمواطَنة
على أن السلام لا يجب أن يفرض نفسه من الخارج فحسب، عن طريق الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية؛ بل يجب أيضا أن ينطلق من داخل كل منا وفي قلب الثقافات، على أساس "التضامن الأخلاقي والفكري للبشرية". والسلام لا يتم استيراده من الخارج: إنه يشكل جزءا حميما منا ويجب أن يزدهر من خلال أفعالنا ومواقفنا. وتقوم ثقافة السلام على ميولنا الشخصية لصالح العدل الذي، وفقا لفيليپي إ. ماك جريجور Felipe E. Mac Gregor، يمثل الأداة الأساسية لبناء هدف السلام([261]). وبهذا المنظور، أبرز رينيه ـ جان ديپي على الوجه الأكمل الدور الأساسي لليونسكو: "لا شيء يؤكد لنا أن الأجيال المقبلة ستكون أكثر كرما منا؛ من المحتمل أنه ستكون لديهم، بفضل رجال القانون، أُطر أفضل للسلام، منظمات دولية أكثر كمالا، لكنْ ما العمل بأطر السلام إذا كانت لا تتغذى على ثقافة سلام؟  ويعني هذا أن من واجبنا أن نجعل هذه الأجيال المقبلة أفضل منا. وهنا يظهر دور اليونسكو، رسالتها الاستثنائية المتمثلة في التعليم والتدريب التي لا نرى لها أيّ حد زمني والتي يجب أن تدوم ما دامت البشرية ذاتها، لأن الأجيال المقبلة ستكون دائما الأجيال الراهنة لوقت بعينه. وهكذا فإن هذه الرسالة لليونسكو سوف تستمر عبر زمن ممتد مثل تلك المجسات التي يتم إطلاقها إلى الفضاء والتي تخترقه إلى صميم قلب المجرات"([262]).
وثقافة السلام مفهوم تطوري، غير أنه يتحدد بصورة خاصة في علاقته بعدد من المبادئ الأساسية([263]):
        ·          قيم، ومواقف، وأنماط سلوك، وأساليب حياة، تستند إلى عدم العنف واحترام الحقوق والحريات الأساسية لكل شخص؛
        ·          مجتمع حريص على أفراده لا يسعى إلى السيطرة والاستغلال بل يحمي حقوق الضعفاء؛
    ·    التفاهم والتسامح والتضامن بين الثقافات، ورفض كل صور الخوف من الأجانب والعنصرية والموقف الداعي إلى النظر إلى الآخر على أنه العدو المتربص؛
        ·          التقاسم والتداول الحر للمعلومات؛
        ·          المشاركة الكاملة والكلية للنساء مع السلطات المعنية.
والتعليم ماثل في قلب بناء السلام، لأنه عن طريقه قبل كل شيء يجب تأمين أن ننقل إلى الأفراد، منذ عمرهم المبكر جدا، ولكن أيضا طوال حياتهم، قيم عدم العنف، والتسامح، والديمقراطية، والتضامن، والعدل، وهي بذور السلام. ويجب أن يعزز التعليم رحابة الفكر، هذه الرحابة التي تفرض نفسها في عالم يتزايد فيه، يوما بعد يوم، الاعتماد المتبادل والتفاعل بين الأمم والشعوب. ولا ينبغي أن نكافح الاختلاف، بل ينبغي أن نفسره ونفهمه. إن التعليم يجب أن يبرز بالفعل الثراء الذي يمثله تنوع عالمنا، وأن يرسخ مواقف إيجابية إزاء هذا التنوع. ووفقا لجان رينيه ديپي فإن المسألة تتعلق بـ "أن نهتم بالآخر وأن نلاحظه وهو يعيش بحب للمعرفة بهدف الانفتاح على فهمه بصورة أفضل، لمحاولة إدراك لماذا يعيش، وكيف يعيش، وما هي الأسباب التاريخية والسوسيولوجية والدينية لكل ذلك، وكيف يتقبل بالتالي لغز وجوده". والحقيقة أن النظرة الرحبة والحوار يشكلان أساس تعزيز ثقافة سلام وموقف يقوم على القبول المتبادل للاختلافات.
ويجب أيضا أن يتغلغل الاهتمام بالحقيقة في كتب التاريخ الموجزة والمقررات الدراسية، إذ أنه وفقا للتفسير الذي يُعْطَى للوقائع فإن هذه الوقائع ذاتها يمكن أن تنتهي إلى دعم الوفاق والتصالح، أو على العكس أن تغذي الكراهية والرغبة في الانتقام. إننا ننسى في كثير من الأحيان التأثير الذي يمكن أن يكون للكلمات على ضميرنا وينبغي بالتالي أن نمنحها كل الأهمية التي تستحقها. وهذا هو السبب في أن من الأهمية بمكان أن نقوم، على المستوى القومي، ولكن أيضا على المستوى الدولي، بدعم تعليم السلام، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، والتفاهم الدولي، والتسامح. ولتحقيق هذا تقوم اليونسكو بتنفيذ برامج تهتم بمحتوى التعليم الرسمي وغير الرسمي اهتمامها بإعداد وتعميم المواد التعليمية وكذلك بإنشاء الشبكات.
وبهذا الأفق، يجب أن يجمع التعليم بين تعليم المواطَنة ـ وبالتالي المشاركة ـ وتعليم السلام ـ وبالتالي التسامح. وينبغي تدريب كل فرد على احترام حقوق الإنسان، والتفاهم المتبادل بين الثقافات من خلال نقل وتقاسُم للمعارف بين مختلف الثقافات والمجتمعات، فإنما من لقاء العقول يمكن أن يولد السلام الإيجابي. إن ما نهدف إليه هو تعليم بالجميع للجميع على مدى الحياة، سوف يسمح بتعليم قيم الحوار، والتشاور، وعدم العنف وإبداع أخلاق جديدة ستكون بالضرورة أخلاقا للمستقبل. وإنما بهذا المنظور أنشأت اليونسكو كراسي جامعية من أجل ثقافة للسلام، تم إنشاء أولها في جنوب إفريقيا.
كما تلعب وسائل الإعلام دورا جوهريا في سبيل تعزيز مبادئ الديمقراطية والتسامح فهي أساسية لثقافة السلام: سواء كمصادر للمعلومات أو كوسائل لبث المعلومات، صارت الصحافة المطبوعة والإذاعة والتليفزيون في مركز قوي يتيح لها العمل في سبيل دعم السلام. وهذا هو السبب وراء اهتمام اليونسكو بالأبعاد التعليمية والثقافية لوسائل الإعلام، وبمشكلة العنف على الشاشة وتأثيره، خاصة على الشباب. وعلاوة على هذا فإن الصحافة يجب أن تلتزم بقاعدة مطلقة: عدم المشاركة أبدا في حملات الحض على الكراهية أو القتل ضد شعب أو جماعة أخرى. وهنا أعني بطبيعة الحال المثال المأساوي لهيئة إذاعة وتليفزيون Radio-Télévision libre des mille collines في رواندا في 1994، التي حرضت على مذبحة مجموعة التوتسي الإثنية وخصومها الهوتو. كما أن اليونسكو تدعم جهود الصحافة في رواندا وبوروندي في سبيل المصالحة بين الجماعات المحلية، وتسهم في إنشاء وتشغيل وسائل الإعلام الحرة المستقلة التي تبذل قصارى جهدها في سبيل التغلب على الكراهية والانقسامات في المناطق التي مزقها العنف بصورة خاصة.
غرس السلام
كل ثقافة سلام هي قبل كل شيء، ثقافة، ودينامية تسعى إلى تشجيع أن نقوم بأنفسنا وفي أنفسنا بتحويل سلوكنا وتصرفاتنا وعلاقتنا بالآخر. ومن هنا ترتدي الأعمال الرامية إلى دعم التعددية والحوار بين الثقافات أهمية حاسمة في سبيل بناء السلام في القرن الحادي والعشرين. والحقيقة أنه توجد ثلاثة مواقف ممكنة إزاء الآخرين: الأول يتمثل في الرفض ـ وهو في كثير من الأحيان ثمرة لعدم المبالاة والجهل ـ، ويتمثل الثاني في الضغط على الآخر حتى "يتحول" ويتنكر لهويته الخاصة، ويتمثل الموقف الثالث في إدراك الآخرية، واحترامها، والترحيب بها مع بقائنا أنفسنا([264]). وهذا الخيار الثالث هو خيار اليونسكو، التي تتركز جهودها بصورة خاصة على دينامية ما بين الثقافات داخل التجمعات الحضرية الكبيرة، وعلى التعددية اللغوية والتنوع اللغوي على كل مستويات التعليم، وعلى دعم التعبيرات الثقافية للأقليات والسكان الأصليين، وعلى تعزيز الحوار بين الثقافات وبين الأديان([265]).
سيقول المتشككون: وماذا ستفعل الثقافة في مجال سياسي بالدرجة الأولى ـ مجال الانتقال من الحرب إلى السلام؟ ونحن لا يسعنا أن نوافق على مثل هذا الرأي: لأننا غير قابلين للاختزال لا إلى طبيعتنا البيولوجية، ولا إلى طابع الحيوان السياسي الأثير لدى أرسطو. لقد شكلتنا الثقافة. وإذا كان بوسعنا تعريف الثقافة على أنها أنماط سلوك ومواقف كل شخص من بيننا، فإنه لا يمكن بناء السلام إذن بالاستغناء عن الثقافة، التي تقوم بصياغة علاقتنا بالآخر، سواء أكانت علاقة ترحيب أم علاقة إقصاء. وتُولد الصراعات في أكثر الأحيان قبل حدوث الأزمات وتظل كامنة خلال السنين الطويلة، التي يتغذى أثناءها رفض الآخر على عدوى الضغائن، وخطابات الكراهية، وسياسات التهميش والإقصاء. وهذا هو السبب في أن من الأساسي التصرف بأسلوب وقائي والعمل على وقف الدوامة التي تفضي إلى الحرب والعنف. ولهذا فإننا لا نستطيع أن نتملص من المسئولية الضخمة التي تقع على كاهلنا: مسئولية أن ننقل إلى أطفال الغد، عن طريق التعليم والثقافة والاتصالات رسائل التسامح والتضامن، التي سوف يصير هؤلاء الأطفال بدورهم، خلال جيل واحد، ناقليها وحامليها.
والحقيقة أن السلام الدائم لا يتم بناؤه حول مائدة إلا إذا كان راسخا في عقول البشر. كما أنه لا يمكن اختزاله إلى وضع التأشيرات والتوقيعات على أوراق المعاهدات، كما علمنا التاريخ كثيرا جدا. وهو لا يمكن أن يقوم في الأجل الطويل إلا على القيم التي تنتقل إلى الشباب من الأسر والمدرسين، والقوى الاجتماعية الفاعلة، والمسئولين، والممثلين المنتخبين ديمقراطيا. ووفقا لميغيل دي أونامونو Miguel de Unamuno فإن المتعلمين وحدهم هم الأحرار، وهم أحرار لأنهم مثقفون. وبالتالي فإن دور اليونسكو في ازدهار ثقافة سلام دور أساسي: التعليم والثقافة هما الضمانتان الدائمتان الوحيدتان للسلام وأمن الإنسان، منذ أن يصيرا راسخين بصلابة في صميم الهدف الأخلاقي المرتكز على مبادئ الديمقراطية.
بناء السلام:
التنمية، والديمقراطية، والتوقع
إذا كان العنف والحرب مرادفين للدمار فإن السلام، في حد ذاته، يعني البناء: والسلام لا يمكن اختراعه في غمضة عين؛ إنه يُبنى خطوة خطوة، يوما بعد يوم. إنه عمل يجب التفكير فيه في الأجل الطويل غير أنه يستوجب كفاحا يوميا، على المستوى الفردي، والقومي، والدولي.
ولن يكون من الممكن بناء السلام على أساس الأفكار وحده. وكما بين بطرس بطرس غالي في Agenda pour le développement [برنامج للتنمية]، فإنه "بدون التنمية لا نستطيع أن نتطلع إلى السلام الدائم"([266]). فالسلام ثمرة لتنمية اقتصادية واجتماعية، ذاتية ومنصفة، تزيح جانبا كل أشكال الإحباط، أو الغيرة، أو التنافس، وتقوم بتغليب روح التضامن والتعاون على مفهوم علاقات القوى والمنافسة. ولهذا فإن السلام يقتضي القضاء على البؤس، لأن "تنمية الموارد الاجتماعية والبشرية تجعل الحياة في المجتمع أكثر تناغما، وتشجع الاندماج والتماسك الاجتماعي وتشكل أساسا صلبا ومرنا في آن معا من أجل تأمين التقدم في الأجل الطويل"([267]). وتعني التنمية إذن تبادلا (للثروات، للموارد، لكن أيضا للأفكار) وتفاعلا ليس فقط بين الدول ولكن أيضا بين مختلف مكونات المجتمع الواحد.
ويجب أن تتمسك ثقافة السلام بصورة خاصة بتشجيع تنمية تقوم على مقتضيات الإنصاف، بالإقرار بحقوق كل مواطن، خاصة حقوق المجموعات المهمشة إلى الآن، وتشجيع مشاركة المواطنين في النقاش السياسي حتى يكون بوسعهم أن يعبروا بصورة أوضح عن مطالبهم، ودعم المبادرات على مستوى المجتمع المحلي مما يتيح للتنمية والديمقراطية التقدم معا.
ولن يكون بالإمكان بعد الآن إقامة السلام بدون إطار قانوني ومؤسسي: كما أوضحنا في فصل آخر([268]) فإن هذا الإطار صار متخلفا إلى حد بعيد بالقياس إلى مقتضيات اليوم. ودون أن نذهب إلى حد الأمل في اختفاء كلي لخطر الحرب فإننا مقتنعون بأن بعض الشروط أساسية في سبيل تفادي الأزمات التي تتحول إلى مواجهات عنيفة: المشاركة النشيطة لجميع المواطنين في اختيار قادة الدولة؛ حرية التعبير؛ الاستقلال التام للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي تترابط في إطار الديمقراطية وسيادة القانون. كما أن السلام يفترض ازدهارا حقيقيا لـ "ديمقراطية متعددة الثقافة" (نسطور غارثيا كانكليني)، تقوم على أساس تنمية بشرية مستديمة، والاحترام المتبادل بين الثقافات، والسلطة الفعلية للمواطنين، وتغيير السلوكيات، ويجب أن يترك العنف مكانه للتنظيم الديمقراطي للنزاعات.
وكما كتب أمارتيا سين، الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد في 1998 فإن "الديمقراطية هي أفضل وسيلة للنضال ضد الفقر": سيكون علينا تعميقها على المستوى القومي، ولكنْ أيضا بناؤها على المستوى الدولي. وإذا كان مجلس الأمن، بتشكيله الراهن واختصاصاته الراهنة، لا يستطيع أن يتحرك بالسرعة والسلطة اللازمتين، فإنه لا مناص من تعديل وتحسين خصائص([269]). غير أن الاستغناء عن الأمم المتحدة يساوي تشجيع هذا التنافر الذي يتمثل في وجود ديمقراطيات على المستوى القومي، لتسوية المشكلات القومية، وأوليجارشية على المستوى العالمي، لتسوية المشكلات عبر القومية. وينبغي أن نسلّم بأن الأمم المتحدة هي الإطار الديمقراطي الدولي الوحيد المستقر القادر على أن يكبح من الجذور جماح العنف والإرهاب اللذين يتفاقمان في أكثر الأحيان تحت تأثير ضروب شتى مضللة من المشاعر القومية والدينية والأيديولوجية. وللأمم المتحدة وحدها الحق في أن تقول إن المجتمع الدولي لن يعترف بأولئك الذين استولوا على السلطة عبر سفك الدماء، بدلا من الحصول عليها عن طريق صناديق الاقتراع. والأمم المتحدة وحدها تستطيع أن تتدخل بصورة مشروعة عن طريق نشر القوات عندما يتأكد بكل وضوح انهيار دولة ما أو الانتهاك الواسع النطاق لحقوق الإنسان.
وعلى المستوى القومي والدولي، يجب فتح آفاق جديدة أمام الحوار، والتبادل، والتحكيم والتفاوض، والوقاية، والتوقع. والشركاء الجدد غير الحكوميين مدعوون إلى أن يلعبوا في هذا المجال دورهم بصورة كاملة: ألا يقوم السلام الدائم والاستقرار في الأجل الطويل على مشاركة جميع القوى الفاعلة في قيادة الشئون العالمية؟ ذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يفرض نموذجا موحدا ومثاليا للمقرطة. ومن ناحية أخرى، لا ينبغي أن ننسى أن مجتمعات يتم تقديمها على أنها النماذج الأصلية للديمقراطية، مثل أثينا القديمة والولايات المتحدة الأمريكية في القرن الثامن عشر، كانت مجتمعات مارست حروب الفتح والعبودية. على أن الانتقال إلى الديمقراطية الكاملة، التي تفترض التنظير والتطبيق الفعلي لعالمية الحقوق، مهمة معقدة تحتاج إلى وضوح شديد: الواقع أن كل بناء ديمقراطي يجعل من الضروري تعديلات تأخذ في اعتبارها تقاليد وخصوصيات كل بلد لكي يمدّ جذوره ولكي يقوم على أسس دائمة، دون أن يتم اختزاله إلى إعلانات نوايا مبهمة. وليس سوى وهم كاذب أن نفهم الديمقراطية على أنها نموذج مؤسسي قابل للتصدير عالميا جاهزا بنظام تسليم المفتاح. وسيكون أكثر فائدة دون شك أن نبحث في صميم التنوع الهائل لتجاربنا وعاداتنا وتقاليدنا عن العناصر الإيجابية والعدد الصغير من القيم المشتركة التي يمكن لمجتمع انطلاقا منها أن يتقدم بصورة فعالة نحو المثل الأعلى لمجتمع عادل. ولم يعد تعميق الديمقراطية يفترض القضاء أوّلا على النزاعات، بل دمجها في توازن بين السلطات والحقوق. وكما يقول پول ريكور Paul Ricoeur فإن "الديمقراطية ليست نظاما سياسيا خاليا من النزاعات، بل هي نظام تصير فيه النزاعات مفتوحة وتفاوضية وفقا لقواعد التحكيم". أما الدولة فإنها يجب أن تركز على دورها كضامن لحريات كل فرد، وللتضامن الجماعي، وأن تشجع بالتالي على تعاون قومي وإقليمي ودولي يستند إلى مبادئ مشتركة.
والسلام لا يولد بين عشية وضحاها. وفي أكثر الأحيان، لسوء الحظ، لا يبدأ السلام في الظهور إلا عندما تكون الشعوب قد أرهقتها المعاناة ولم تعد قادرة على أن تتقاتل. والسلام الحقيقي، ونحن نعني به سلاما دائما وفعالا، هو الذي ينتج عن عمل طويل الأجل، يرتكز على التضامن والتقاسم. فهل سنبني هذا السلام إذا كانت البلدان الصناعية، التي تعهدت منذ 1974 بتخصيص 0.7% من ناتجها القومي الإجمالي للمساعدة الرسمية للتنمية، وظلت تردد هذا الالتزام منذ ذلك الحين، وتواصل نسيان وعدها؟ وباستثناء عدد من بلدان شمال أوروبا، لم تسهم البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في 1997 إلا بنسبة 0.22% من ناتجها القومي الإجمالي في المساعدة الرسمية للتنمية، ولم تخصص القوة العالمية الرئيسية لها سوى 0.09%. فهل سنشيد هذا السلام إذا ظلت المساعدة توجه نحو حاجات ليست ذات أولوية؟ والواقع أن البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لم تخصص في 1996 سوى 16.8 من المساعدة الثنائية للتعليم والصحة، منها 10.8% للتعليم، و1.3% للتعليم الأساسي. وفي أكثر الأحيان نسي الغرب تمزقات وآلام العنف والحرب؛ وبدلا من توطيد السلام، تركنا عقل القوة يسيطر من جديد على قوة العقل ويتغلب على الوقاية أو على الجهد الدائم للإقناع والحوار. ولم نتعلم إلى الآن أن ندفع ثمن السلام، وها نحن الآن بالفعل على وشك أن ندفع من جديد ثمن الحرب.
وتوجب علينا الضرورات الأخلاقية للتضامن الدولي أن نساعد البلدان التي دمرتها الحرب الأهلية أو التي صار بقاؤها مهددا بصورة خطيرة: وقد أعدت اليونسكو، من وجهة النظر هذه، برامج قومية تهدف إلى التوفيق بين مختلف أطراف صراع لكي يُعدوا وينفذوا معا مشروعات للتنمية. ويمكن أن يتضح أن هذه البرامج مفيدة جدا لاستعادة الثقة بالتدريج وللسماح بالتقدم نحو المصالحة: وقد سبق أن نفذنا هذه البرامج في السلڤادور وموزمبيق وبوروندي، بين بلدان أخرى. وعلى هذا النحو تتيح ثقافة السلام فرصا لتجديد طرق حل النزاعات، وزيادة تنوع النهوج بخصوص التسوية السلمية للنزاعات، وبالحد من العقبات التي تكبح إعادة بناء البلدان المدمرة، من خلال إعداد المعايير الرامية، على مراحل، إلى استعادة الثقة وإلى إيجاد آليات للتضامن ولتقنيات الوساطة على كل مستويات المجتمع.
 
تضع إعلانات كثيرة الآن ثقافة السلام في المرتبة الأولى من أماني المجتمع الدولي على أعتاب الألفية الثالثة:
·    شددت الجمعية العامة للأمم المتحدة على أن "مهمة منظمة الأمم المتحدة المتمثلة في حماية الأجيال المقبلة من ويلات الحرب تقتضي انتقالا نحو ثقافة للسلام تتسم بقيم ومواقف وسلوكيات تعكس وتستلهم تفاعلا اجتماعيا وروح تقاسم يستندان إلى مبادئ الحرية والعدل والديمقراطية، وعلى كل حقوق الإنسان، وعلى التسامح والتضامن، ثقافة ترفض العنف وتبذل قصارى جهدها لمنع النزاعات بالتصدي للأسباب العميقة من أجل حل المشكلات عن طريق الحوار والتفاوض وتكفل الممارسة الكاملة لكل الحقوق والوسائل الكفيلة بالمشاركة الكاملة في عملية تنمية المجتمع"([270])؛
·    أكدت منظمة الدول الأمريكية من جديد رغبتها في "تأمين وتعميق ثقافة السلام، والتنمية، وعدم العنف، معترفة بالحق في السلام كحق غير قابل للتصرف ومرتبط بكرامة الشخص الإنساني"([271])؛
·         أعلنت منظمة الوحدة الأفريقية، من جهتها، أن العام الدولي لثقافة السلام في عام 2000 يمثل "مناسبة ملائمة للعمل على أن تحل محل ثقافة الحرب والعنف التي تميزت بها الألفية الأخيرة من التاريخ البشري، ثقافة للسلام تعزز القيم والمواقف والسلوكيات التي تشكل أسسها"([272])؛
·    كذلك شددت رابطة بلدان جنوب شرق آسيا على أن "التسوية السلمية للنزاعات، والحوار بين الثقافات والأديان، وتعزيز التسامح، تُعتبر بين العوامل التي لا غنى عنها لإرساء كل جهود التنمية الذاتية على أسس صلبة ولضمان مشاركة الجميع"، وأضافت أنه "في هذا الإطار، على التعليم أن يلعب دورا حاسما في تشجيع ازدهار القيم المشتركة، وبصورة خاصة التعليم من أجل السلام في إطار من التعاون، والعدل الاجتماعي، وسيادة القانون، والتسامح، والتفاهم الدولي، التي ينبغي تشجيعها في كل مستويات التعليم"([273])؛
·    وأعلنت الكومنولث أيضا أن مبادرة اليونسكو لصالح إقامة ثقافة للسلام، تستند إلى المبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، "تتفق مع قيمها الأساسية الخاصة التي تتمثل في الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، واحترام التنوع والتسامح، والمساواة في الحقوق للنساء، والتنمية المستديمة"([274])، ودعت إلى تعاون دولي واسع النطاق لتقديم "إسهام جديد في النظرة العالمية لثقافة للسلام والتنمية"([275])؛
·    وأعلنت الأمانة العامة للفرنكفونية أن "السلام، وثقافة السلام التي تمثل تهيئة لا غنى عنها له، يأتيان بين الشواغل الرئيسية لمنظمتنا منذ أن وجدت بعض دولنا الأعضاء نفسها متورطة في نزاعات مأساوية داخلية أو إقليمية"([276]).
 
وفي عهد يتم فيه تخصيص 700 إلى 800 مليار دولار سنويا للنفقات العسكرية، يشكل نزع سلاح تفاوضي، يجب أن يعززه عقد تحالفات إقليمية ودون إقليمية، مرحلة أخرى أساسية نحو بناء ثقافة سلام: ينبغي حقا أن يتم بالفعل تقليص استثمارات تعرقل التنمية الاجتماعية (الأمن الغذائي، التعليم، الصحة، إلخ.) ([277]). والحقيقة أن إزالة الأسلحة النووية ملحة على وجه الخصوص، حتى يكون بوسع العالم أن يعيش دون خوف من سيف ديموقليس الهولوكوست النووي([278]).
ومهما كان ما نقرره ديمقراطيا قليلا فإن المليارات التي تلتهمها الحرب والإعداد لها يمكن أن يتم استثمارها منذ يومنا هذا في أعمال ملموسة سوف تسهم في مجيء سلام دائم: الحد على نطاق واسع من الفقر ثم القضاء عليه، وضمان التعليم للجميع و، بصورة تدريجية، مدى الحياة، وتحسين نوعية التعليم، والاستثمار في بحث علمي لا يتمحور حول الإعداد للنزاعات بل حول تقنيات ومعارف تتيح تحسين نوعية حياة كل فرد، وإثراء الحوار بين الثقافات في سبيل النضال ضد الآراء المسبقة والأفكار القبلية الملائمة لشن الحروب ـ تلك بعض الأمثلة لأهداف ملموسة يشكل تحقيقها أفضل درع للسلام والأمن. ومع اقتراب القرن الحادي والعشرين، تكون الديمقراطيات أمام ساعة الحقيقة: إما أن تكمل هذه الرسالة للسلام والتنمية البشرية، وإما أن تدمر مصداقيتها في أعين المواطنين. وإذا استطعنا، عن طريق تدابير ملموسة، أن نشجع ازدهار ثقافة سلام، فإننا سنعطي عندئذ من جديد معنى أنقى لكلمات ميثاق الأمم المتحدة، ولكلمات القانون الأساسي لليونسكو، وللمشروع الإنساني المتضمن فيها. فلنتذكرْ بهذا الصدد الكلمات القاسية للكاتب النمساوي العظيم روبرت موزيل Robert Musil، الذي كان يعلن قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بقليل: "إننا لم نبتدع بعد فكرة تكفي لإثارة الحماس عن السلام الذي نتحرق شوقا إليه"([279]). ونحن نعتقد بحق أن ثقافة للسلام يمكن أن تعبئ، خاصة لدى الشباب، خصال الحماس التي يجري التفنن في كثير من الأحيان في تثبيطها في الوقت الحاضر. إن ثقافة السلام وحدها يمكن أن تعطي للتنمية المستقبلية مغزى ومحتوى، وأن تتيح لكل فرد من بيننا أن يرفض اختيار أحد البديلين من بين كلبية السياسة الواقعية Realpolitik واليوتوبيا التوفيقية عن وفاق أبدي. إن السلام كان واقعا أو فكرة: ويتأكد من الآن أنه حق([280]).
وأخيرا فإن السلام واجب للذاكرة. وأنا أتذكر اليوم بتأثر اللحظة التي قلتُ فيها، في آوشفيتس وفوق [جزيرة] إيل دي غوريه ـ وهما موقعان أعلنتهما اليونسكو تراثا للبشرية: "لآخر مرة!". وفي اللحظة التي لمحت فيها في كيب تاون، من بعيد، [جزيرة] روبن آيلند، الجزيرة التي سُجن فيها نلسون مانديلا حوالي سبعة وعشرين عاما، صرخت: "لآخر مرة!". وعندما افتتحنا مبنى الصحافة في كيجالي، أو بيت السلام في بوجومبورا، وفي الصومال، كنا نردد: "لآخر مرة!". ثم في ساراييڤو، وفي موستار، حينما كانوا يبدأون في إعادة بناء الكباري، لآخر مرة. وفي كثير من الأحيان رددتُ: إن غدا يأتي دائما بعد فوات الأوان. غير أن الأوان لا يفوت أبدا بالنسبة للسلام. وهذا هو السبب في أننا يجب، دون إبطاء، أن نكتب تاريخا مختلفا عن التاريخ الذي لا نستطيع في الوقت الحالي سوى أن نصفه. فأيّ هدية أفضل يمكن أن نقدمها لأطفالنا ولأطفال أطفالنا، الذين وعدناهم في 1945 أن نجنّبهم إلى أبد الآبدين ويلات الحرب([281])؟ دعونا جميعا نقدم لهم الفرصة لبداية جديدة.
 
بيان 2000 في سبيل ثقافة للسلام وعدم العنف
قام بصياغة بيان 2000 في سبيل ثقافة للسلام وعدم العنف الحاصلون على جائزة نوبل للسلام للاضطلاع بالمسئولية التي تبدأ على مستوى الفرد: إن هذا ليس نداء ولا التماسا موجها إلى سلطات عليا.
إن مسئولية كل كائن بشري تتمثل في أن يجسد في الواقع الفعلي القيم والمواقف والسلوكيات التي تستلهم ثقافة السلام. لأن كل فرد يستطيع أن يعمل من أجل هذه الغاية بين أسرته، وناحيته، ومدينته، ومنطقته، وبلده، عن طريق تشجيع عدم العنف، والتسامح، والحوار، والمصالحة، والعدل، والتضامن، بصفة يومية.
وكان قد تم إعلان بيان 2000 في باريس في 5 آذار/مارس 1999 وتم عرضه لتوقيع الجمهور العريض في مختلف أنحاء العالم. والهدف المنشود هو تقديم مائة مليون توقيع في فجر الألفية الثالثة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2000.
بيان 2000 في سبيل ثقافة السلام وعدم العنف
مُدركا لنصيبي من المسئولية تجاه مستقبل البشرية، وبصورة خاصة تجاه أطفال اليوم والغد، أتعهد، في حياتي اليومية، وأسرتي، وعملي، ومجتمعي المحلي، وبلادي، ومنطقتي، بـ:
أن أحترم حياة وكرامة كل كائن بشري دون تمييز أو تحيز؛
أن أمارس عدم العنف النشيط، رافضا العنف بكل صوره: البدني، والجنسي، والنفسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وبصورة خاصة تجاه المحرومين والأكثر عرضة كالأطفال والمراهقين؛
أن أتقاسم وقتي ومواردي المالية غارسا الكرم، من أجل وضع حد للإقصاء، والظلم، والاضطهاد السياسي والاقتصادي؛
أن أدافع عن حرية التعبير والتنوع الثقافي مُحبذا دائما الإصغاء والحوار دون تورط في التعصب، والتشهير، ورفض الآخرين؛
أن أدعم استهلاكا مسئولا ونمطا للتنمية يأخذان في الاعتبار أهمية كل صور الحياة ويحافظان على توازن الموارد الطبيعية للكوكب؛
أن أساهم في تنمية مجتمعي المحلي، بالمشاركة الكاملة للنساء وبمراعاة المبادئ الديمقراطية، من أجل أن نبدع، معا، الأشكال الجديدة للتضامن
(للتوقيع على بيان 2000، اذهب إلى موقع الإنترنت: http://manifesto2000.unesco.org
 
 


 
 
 
خاتمة
في سبيل أخلاق للمستقبل


 
 
 
في ضوء التحديات التي تناولناها في هذا العمل، سوف يقتنع القارئ، فيما نأمل، بأن التوقع والوقاية، بأن التفكير المستقبلي والعمل المستقبلي، تغدو واجبات إلزامية مطلقة إذا نحن أردنا أن يكون هناك مكان للقرن الحادي والعشرين، ولبقاء الجنس البشري.
ولهذا فإن إقامة شبكة هائلة من المنابر الفكرية والأخلاقية تتسم بالتوجه نحو المستقبل ستكون، من الآن فصاعدا، هي المهمة التي يجب أن يضعها المجتمع الدولي نصب عينيه، بمساعدة العلماء، والمبدعين، والمسئولين، والخبراء، والمجتمع بأسره، إذ أنه، كما كتب أنطونيو ماشادو Antonio Machado، "لم يُكتب بعد ـ لا الغد ولا الأمس"([282]).  تلك هي من الآن فصاعدا المهمة التي وضعتها نصب عينيها منظمة اليونسكو التي جعلت من التقديرات والتوقعات المستقبلية إحدى أولوياتها الرئيسية، منذ 1995. ولنتذكر كلمات ثيوسيديد التي استشهدنا بها في بداية هذا العمل: القائد السياسي لا يجب أن تكون له فقط يدان نظيفتان، بل يجب أن تكون له أيضا عينان صافيتان. أن نعيد إلى رؤيتنا حدتها الأصلية وصفاءها الأصلي ـ هل ينبغي أن نقول البصيرة؟ ـ، ذلك هو الدور الذي نعهد به إلى أخلاق المستقبل.
"ميراثنا لم يكن مسبوقا بوصية"، بهذه الكلمات ذكرنا الشاعر الفرنسي رينيه شار René Char، وسط خرائب الحرب العالمية الثانية، بالمسئولية الجوهرية للإنسان إزاء التاريخ. وإنما على هذا النحو، من جيل من الناجين [من تلك الحرب]، نشأ الاهتمام بأجيال المستقبل.
والحقيقة أن هذا المنظور الجديد، هذا البحث عن التضامن الإنساني في المكان كما في الزمان يشكل، منذ أكثر من خمسين سنة، مهمة الأمم المتحدة بوجه عام ومنظمة اليونسكو على وجه الخصوص. "حماية الأجيال المقبلة من ويلات الحرب" ـ هذا هو بالفعل الالتزام المهيب الذي تتضمنه الكلمات الأولى من ميثاق الأمم المتحدة. وهذا أيضا هو معنى قانون تأسيس اليونسكو التي تسعى إلى المساهمة في الحفاظ على السلم والأمن بالقيام، عن طريق التربية، والعلم، والثقافة، بتوثيق عرى التعاون بين الأمم.
غير أنه خلال خمسين عاما، تغير العالم وتغيرت معه رهانات الحداثة وتحدياتها وكذلك، كما ينبغي أن نعترف، أخطارها. وفي فجر القرن الحادي والعشرين، تندلع حروب أخرى. لقد عرفنا حربين عالميتين، وصراعات دموية بين الأمم، واليوم نشهد معارك تمزق الشعوب داخل الدولة الواحدة؛ ولن نستدعي الآن أشكالا أخرى من العنف ـ العنف ضد أمل الكائن البشري ومستقبله، ضد كرامته، والصراعات الكامنة بين الثقافات وبين الأجيال. وتبدو الكارثة شاملة. ففي كل مكان، يطالب إنسان اليوم بحقوق على إنسان الغد، مهددا رفاهيته، وتوازنه، وأحيانا حياته، وقد بدأنا ندرك أننا نوشك أن نعرض للخطر تمتع الأجيال المقبلة بحقوق الإنسان الخاصة بها. وأكثر من أي وقت مضى، تقتضي أخلاق المستقبل أن نعرف كيف نبدع وننشر ونتقاسم ثقافة السلام هذه التي كانت تمثل غاية مؤسسي اليونسكو.
وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي، تشكل الديون، والانقسام، وعدم الاستقرار، تركة سلبية، أيْ الإرث المسموم الذي ندخره لمن سوف يرثوننا. والآن دعونا نتجه إلى الأرض والوسط الطبيعي: انبعاثات غازات الدفيئة، والتصحر، والتلوث بكل أشكاله، والإسراف في استخدام الموارد الطبيعية ـ كل هذه الأشياء ترهن بصورة خطيرة مستقبل الكوكب. وهل هناك برهان أفضل على ضرورة أخلاق للمستقبل من إعادة النظر في تعهدات دولية كما شهدنا بصورة دورية في الأعوام الأخيرة؟ والحقيقة أن الحاجات الأساسية، الحيوية، لأطفالنا ـ الأرض والمياه والهواء ولكن أيضا المعرفة والحرية والتضامن ـ تجري التضحية بها على مذبح الحسابات والطموحات والمكاسب القصيرة الأجل، التي تشجع السهولة والأنانية اللتين تميزان العهود التي لا مستقبل لها. فهل نحن بحاجة إلى التذكير هنا بالكلمات الشهيرة المنسوبة إلى ملك عالم آخذ في الانهيار: "ومن بعدي الطوفان"؟
وما يزال هناك ما هو أخطر. ففيما وراء المجتمع والبيئة، يتعرض تعريف الإنسان ذاته، سلامته البيولوجية، للخطر. ويستطيع الإنسان من الآن أن يعدل الميراث الجيني لكل الأنواع الأحيائية، بما في ذلك نوعه. وهو يملك حتى ذلك الامتياز الكئيب المتمثل في قدرته على أن يخطط اختفاءه هو ذاته. وبالعلم الحديث، وصلنا إلى عتبة اللاعودة. ودعونا ندع جانبا تلك المجادلات عن التعويض التكنولوجي أو المالي. لن يكون هناك إحلال؛ إن ما يتم تدميره ليس له معادل. ولن يكون هناك من يدفع؛ إن ما يتم تدميره ليس له ثمن. فمن ذا الذي يستطيع أن يعوض عن الإبادة الجماعية؟ من ذا الذي يستطيع أن يعوض عن الإبادة الإثنية؟ عن اختفاء الثقافات واللغات والقيم؟ ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يستطيع أن يدفع مقابل الأرض؟ مقابل المحيط الأحيائي؟ مقابل موت الأنواع؟
وإزاء هذا الأفق المظلم، وكثقل موازن له، توجد تطورات إيجابية جديرة بأن نشدد عليها: إننا نشهد تطورا مطردا في اتجاه الديمقراطية، في اتجاه تآلف اجتماعي يقوم على المثل العليا للعدالة والحرية والمساواة والتضامن، كما نادى بها قانون تأسيس اليونسكو. كما أن "صوت الناس" صار مسموعا بصورة متزايدة، ونحن نحيي الانتشار الواسع النطاق لوعي برهانات المستقبل، يقود في كثير من الأحيان إلى الالتزام الشخصي.
وإذا أردنا حقا أن نحمي ذريتنا فإنه ينبغي علينا قبل كل شيء أن نسلم بهذه المفارقة الجوهرية وأن نقبلها وأن نتعامل معها: التقدم والحضارة هما وجه الميدالية؛ وإمكانية كارثة نهاية العالم، والدمار النهائي، والفوضى، هي قفا الميدالية. ويشكل هذا الإدراك الواضح المقتضى الأول لمسئوليتنا إزاء الأجيال المقبلة. أن نقبل الحد من سلطة التقنية والاقتصاد، التي صارت من الآن فصاعدا بلا حدود، مستعينين بالأخلاق والحكمة ـ هذا إذن هو النهج الذي ينبغي اتباعه. وينبغي أن نطبق على التقنية والاقتصاد قولة مونتسكيو Montesquieu: "كل سلطة مطلقة تُفسد بصورة مطلقة". وفيما يتعلق بالعلم، ينبغي أن نذكر بكلمة رابليه: "العلم بلا ضمير ليس سوى تدمير للروح".
غير أن القارئ سيعترض قائلا: وأين العلم؟ وأين الحكمة؟ واليوم صارت لدينا إمكانية أن ننتقل وأن نصل خلال ساعات إلى الطرف الآخر من العالم. غير أننا نستطيع أن نتأكد بأنفسنا من أنه في الوقت الذي استحوذت فيه عواصم البلدان الصناعية على المعرفة فإن أبعد القرى هي التي نجد فيها الحكمة.
وعلى أعتاب القرن الحادي والعشرين، صارت لدينا أخيرا القدرة على التوفيق بين المعرفة والحكمة، والجمع بين مزاياهما. وبهذا الروح قمنا في اليونسكو، بمساعدة اللجنة الدولية للأخلاق البيولوجية، بإعداد الإعلان الخاص بحماية الجينوم البشري وحقوق الإنسان الذي اعتمده مؤتمرنا العام، ثم اعتمدته بعد ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة: للمرة الأولى، يعتمد إعلان عالمي على العلم ويرسي في هذا المجال مبادئ أخلاقية تذكر كل شخص منا بأننا نولد أحرارا ومتساوين.
وقد قلنا إنه ينبغي قبول الحد من السلطة التي تمنحها التقنية للإنسان على الإنسان ـ باسم الأخلاق والحكمة. والرهان كبير والتحدي حقيقي. وفي عصر عولمة التبادلات وتسريعها ومضاعفتها، يبدو المستقبل في الحقيقة معتما على الأقل، إن لم يكن مظلما. لقد صارت كلمتا التعقيد والشك الكلمتين الرئيسيتين لعصرنا. ولهذا فإننا نستعين بمزايا تعليم للقلق، إذ أن هذا الأخير يوقظنا، في حين أن الامتثال والتفاؤل يقومان بتخديرنا. وهذا بطبيعة الحال، بافتراض أن المجتمع الدولي يريد حقا أن يرصد المستقبل ويسائله.
ذلك أن قصر نظرنا الزمني يتضاعف في كثير جدا من الأحيان بعمى إرادي ـ عندما لا يصلح تبريرا لهذا العمى. ومأخوذين في دوار الفوري، واقعين تحت قبضة طغيان الطارئ الملح، لا نجد الوقت لإعداد إجراءات مبتكرة أو للتفكير مليا في نتائجها المنطقية. إننا مبحرون، دون أمل، ودون قدرة على الرؤية، في مغامرة المستقبل.
غير أنه كلما انطلقت سيارة بسرعة أكبر فلا مناص من أن تتوهج أنوارها الأمامية على مسافة أبعد. ولهذا لم تعد المسألة تتعلق بالتكيف والتوافق، لأن هذين الأخيرين يركضان دائما وراء الزمن الذي ينطلق أسرع منهما. دعونا إذن نكف عن الإصغاء إلى هذه الخطابات discours الامتثالية، التي تريد بلا هوادة أن تفرض علينا مواعظ التكيف أو التوافق. دعونا نعتمد على رؤية بعيدة النظر، تتجه نحو المستقبل. ودعونا نُلق نظرة مستقبلية على العالم. دعونا نبذر اليوم بذور المستقبل، ودعونا نقم بحماية نموها: غدا، سوف يحصد أطفالنا ثمار استباقنا للمستقبل.
والحقيقة أن الوقاية ليست إمكانية فقط؛ إنها التزام، واجب أخلاقي إلزامي. وقد شقت هذه الفكرة طريقها بالفعل إلى الضمير المشترك والقانون الدولي. بل حتى نشأت عنها فكرة جديدة، تم تكريسها في 1992 في قمة الأرض في ريو، وتم إدراجها في معاهدة ماستريخت وفي عدد من الوثائق القومية المعيارية: مبدأ الاحتياط. غير أن ما ساد بالفعل هو مبدأ الاحتياط مفهوما على أنه مبدأ عدم الفعل وليس على أنه مبدأ الفعل اليقظ. والمخاطرة، بدون المعرفة، خطرة. غير أن المعرفة بدون المخاطرة عديمة الجدوى. فما هي المحصلة، وا أسفاه، اليوم بعد أكثر من سبع سنوات من قمة الأرض المنعقدة في ريو دي جانيرو؟ وأين هي النتائج؟ إن ريو+7 تساوي ريو-7. فالتعهدات أعقبها التهرب، وبرنامج العمل الذي اعتمده المجتمع الدولي، جدول أعمال القرن 21، يبقى، بجانبه الأكبر، حبرا على ورق. وينبغي أن نفكر مليا في هذا الدرس، وأن نبذر في صميم قلب الديمقراطية (وعلى وجه الخصوص ديمقراطيات غربية تحولت إلى "كتلة" مغلقة بصورة مفرطة، متماثلة بصورة مفرطة، ومنطوية على نفسها بصورة مفرطة في كثير من الأحيان) البذرة التي يمكن أن تقوم بتجديدها وإعادة تركيبها. وهذا البذر للبذور ليس، ولا يمكن أن يكون، سوى أخلاق المستقبل، حتى قلب القرار، حتى قلب الليبرالية الديمقراطية، حتى قلب الخبرة المتناقضة التي لا يجب أن تحجب أو تهدئ أو تضلل الرأي العام خدمة للمصالح والسلطات وأصحاب النفوذ، بل يجب تنوير الجمهور وصقل قدرته على التوصل إلى الرأي المستقل.
وهل حسبنا ثمن عدم الفعل؟ عدم الفعل إزاء البيئة والوسط الطبيعي، عدم الفعل الاجتماعي، عدم الفعل الثقافي، عدم الفعل السياسي تجاه المذابح والإبادات الجماعية؟ ولماذا ندفع دائما ثمن العنف، والحرب، والفورية، والطوارئ الملحة، في الوقت الذي ينبغي، من الآن فصاعدا، أن ندفع ثمن السلام، وثمن الحوار، وثمن المستقبل والأجل الطويل، وباختصار: ثمن الوقاية؟
والحقيقة أن الوقاية تعني، قبل كل شيء، المحافظة. وأخلاق المستقبل هي أخلاق الهش والهالك. وما ننشده هو أن ننقل إلى الأجيال المقبلة تراثا لا يكون تالفا وملوثا بصورة لا سبيل إلى علاجها. ما ننشده هو أن نورث تلك الأجيال حق الحياة بكرامة على أرض جرت المحافظة عليها. ويتعلق هذا أولا بكل ما يشكل إطار الحياة، هذا الانشغال الجديد لعصرنا؛ ويتعلق هذا أيضا بعدد من القيم الشاملة القابلة للبقاء، مثل قيم الصحة، والتعليم، والثقافة، والمساواة، والحرية، والسلام، والتسامح، والتضامن.
وكان الشاعر القشتالي سلبادور إسبريو Salvador Esperiù يقول لأطفاله: "لقد عشت لأحافظ على هذه الكلمات القليلة التي أتركها لكم: الحب، العدالة، الحرية". ولسنا مسئولين عن تركاتنا المحسوسة فحسب؛ ففيما يتعلق بالواجبات والمسئوليات، يكون الجوهري في كثير من الأحيان هو غير المرئي وغير المحسوس.
وهذا هو السبب في أن مفهوم التراث قد توسع منذ عدة عقود: من مجرد المحافظة على الآثار التاريخية إلى اتفاقية حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي المعتمدة في 1972؛ من الإقرار بالتراث اللامادي، الرمزي، الروحي، إلى الأعمال التي تقوم بها الآن لجنتنا الدولية للأخلاق البيولوجية في مجال حماية الجينوم البشري، وبالتدريج صار مفهوم "أن نملك" مشحونا بمفهوم "أن نكون". ذلك أن التراث الحقيقي المشترك للإنسانية، ثروتنا العالمية، يتمثل فينا نحن أنفسنا: بعبارة أخرى في إنسانية الكائن البشري.
ومن هذا المنظور فإن الإعلان بشأن العلم واستخدام المعرفة العلمية (الذي اعتمده بالإجماع المؤتمر العالمي بشأن العلم، الذي نظمته اليونسكو والمجلس الدولي للعلم في بودابست في تموز/يوليو 1999) أعاد تأكيد المبادئ الأخلاقية التي يجب أن توجه الأبحاث وتطبيقات المعارف العلمية: "يجب أن يراعي البحث العلمي واستخدام المعرفة العلمية حقوق الإنسان وكرامة الكائنات البشرية، بما يتفق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي ضوء الإعلان العالمي بشأن الجينوم البشري وحقوق الإنسان". وقد شددت البلدان الموقعة على إعلان بودابست على أن "أخلاق ومسئولية العلم ستكونان جزءا لا يتجزأ من التعليم والتدريب اللذين تم تقديمهما لكل العلماء"([283]).
وفي فجر قرن جديد وألفية جديدة، وفي عصر قد تكون القرية العالمية ما تزال فيه بعيدة ولكن لم يعد يبدو فيه توقعها مستبعدا جدا، يغدو من المهم أن نضطلع بمسئوليتنا كمواطنين في العالم. ويعني هذا أن ندرك موقعنا ليس فقط في مكان بل أيضا في زمان البشرية، أيْ أن نفكر مليا في دورنا على الكوكب وفي التاريخ. ذلك أن حب القريب يقاس أيضا باحترام البعيد. ومن هنا أو من مكان آخر، من الأمس أو من الغد، تحبك البشرية نسيجها وما نحن إلا خيوطها. ومعلقا على الشعار الجمهوري "الحرية، المساواة، الإخاء"، أشار الفيلسوف برجسون عن كل حق إلى: "أنه يعلن الحرية، ويطالب بالمساواة، ويوفق بين هاتين الأختين العدوتين بتذكيرهما بأنهما أختان، واضعا الإخاء فوق كل شيء آخر". وتقتضي ممارسة تلخيص الإخاء في: المشاركة. ويقتضي إحساس تأكيد أنه: الحب.
وكما شدد رينيه ـ جان ديبي، بقوة: "سيكون علينا أن نعتاد، أكثر فأكثر، على أن نحس بأنفسنا بداخل البشرية، بأننا جزء منها، مثلما هي بداخلنا. وإنما لأنها ستكون أكثر فأكثر جزءا منا فإننا ينبغي أكثر فأكثر أن نكون جزءا منها". إن مسئوليتنا تضمن هويتنا. وهذا هو السبب في أن أخلاق المستقبل يجب أن تكون اليوم ذاكرة المستقبل. فلنكن "المراكبيين" العابرين بالبشرية، من أقصى العالم إلى أقصاه، من ضفة نهر الزمن إلى الضفة الأخرى. وكان أوجست كونت Auguste Comte يقول إن البشرية، لأنها عالمية وعبر تاريخية، تتألف من موتى أكثر من الأحياء. غير أنها تشمل أيضا أولئك الذين سوف يولدون. ذلك أن هؤلاء الذين سوف يولدون هم أيضا إخوتنا، أفراد في "الأسرة البشرية" المشار إليها في السطور الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وبهذا المعنى فإن البشرية تضم بالقوة أحياء أكثر من الموتى.
وفي سياق اهتمامنا بالمحافظة، دعونا نتفادى، مع ذلك، خطأ التدخل. فالقرن الحادي والعشرون ليس ملكا لنا، إنه ملك للأجيال المقبلة. ومع أن إنسان المستقبل أخ لنا فإنه ليس نسخة منا. إنه ينتمي إلى زمن آخر، زمن ما زلنا نجهل تحدياته، وأخطاره، وأمانيه. والواقع أن العالم يتغير بسرعة ومعه تتغير ميولنا وحاجاتنا ومخاوفنا. ومن المحتمل بشدة أن الهياكل الإدارية القائمة اليوم ستكون غير ملائمة لمقتضيات الغد. ويعني احترام إنسان المستقبل أن نعطيه فرصة ووسائل أن يكون مختلفا.
ولنفكر في كلمات الشاعر الغواتيمالي أوتو رينيه كاستيو Otto René Castillo: "جميل أن نحب العالم بأعين الأجيال التي لم تولد بعد". والواقع أن السهر على سلامة التراث العالمي، وضمان استمرار ونوعية الحياة البشرية، يعنيان توريث أطفالنا القدرة على أن يفهموا عالما معقدا، سريعا، غنيا، عالما ما يزال يتجاوز إدراكنا.
ويمثل التقدم العلمي، والمعرفة، ورحابة الفكر جزءا من التراث المشترك. وهذا هو السبب في أن هذه الأشياء تجد مكانها في مركز اهتماماتنا. وهذا هو السبب في أنني اقترحت في المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو إعلانا بشأن مسئوليات الأجيال الحالية تجاه الأجيال المقبلة، اعتمدته الدول الأعضاء في المنظمة في 1997.
وإنما بحكم مجالات اختصاصها تسهم اليونسكو في سلام وأمن الأجيال القادمة. كما أن الاستثمار في التربية، في العلم، في الثقافة، يعني الاستثمار في المستقبل. والواقع أن الحماية لا تكفي، إذ ينبغي أيضا الإعداد للمستقبل. وكيف يمكن الإعداد له بدون ذكاء العلم، بدون معرفة التربية، بدون ما تحتوي عليه الثقافة من قوة خلاقة وقدرة على إعادة الربط ومن التوريث؟ وكيف يتم الإعداد للمستقبل إذا نحن أدرنا ظهرنا "للتنمية المستديمة"، هذا المبدأ للتضامن بين الأمم وبين الأجيال، الذي يشكل، منذ قمة ريو، أولوية من الأولويات الرئيسية لعمل الأمم المتحدة، أولوية غير مفهومة اليوم واأسفاه بسبب غياب ـ أو نقص ـ أخلاق المستقبل؟ وكيف يمكن الإعداد للمستقبل، بدون عقد هذه العقود الأربعة التي اقترحناها من أجل القرن الحادي والعشرين: العقد الاجتماعي الجديد الذي تقتضيه الثورة الصناعية الثالثة والعولمة التي تصاحبها؛ العقد الطبيعي الذي يجب أن نعقده مع الأرض؛ العقد الثقافي الذي سيكون عليه أن يرفع شأن كنوز الثقافات غير الملموسة وتشجيع التآلف الاجتماعي، وأخيرا، العقد الأخلاقي الذي لا يمكن بدونه إلحاق الهزيمة بالفقر والعنف، والذي بدونه نحرم الأجيال التي لم تولد بعد من مستقبلها. وكما شددنا في هذا العمل([284])، فإن الأمم المتحدة أمامها دور أساسي تلعبه في هذا المجال: عندما ينتهي كل شكل آخر للتحكيم والتفاوض إلى الإخفاق فإنه يقع على عاتقها واجب أن تتدخل، لأسباب أخلاقية أو إنسانية، عندما تحدث انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، أو عندما لا تعود توجد دولة ويحل محلها قانون الغاب. غير أنه لا يحق لأي دولة أو مجموعة من الدول، مهما كانت قوتها، أن تطبق العدالة بنفسها. وينبغي احترام وتعزيز الأمم المتحدة، التي تمثل الإطار الديمقراطي الوحيد على المستوى الدولي.
وإذا أردنا أن نعطي اليوم فرصة حقيقية للمستقبل، فلنعط فرصة لأخلاق المستقبل. والحقيقة أن تدريب مواطنين مسئولين تجاه المستقبل يعني أولا دور التربية [التعليم]. فالتربية هي الحاضنة الأولى للأمة. فهي التي تعلمنا ليس فقط أن نعرف وأن نفعل، بل أيضا أن نكون وأن نعيش معا. ولهذا فإن مسئولية اليونسكو ـ مثل كل المؤسسات التعليمية ـ هائلة. والرهان واضح: التأمين، بمساعدة مختلف القوى الفاعلة في المجتمع، "للتعليم للجميع، مدى الحياة". والتعليم أولوية من الأولويات الأساسية التي حددتها اليونسكو لنفسها، ومن ناحيتي فإنني آمل أن يصير التعليم للجميع واقعا فعليا من الآن وحتى عام 2015، أيْ خلال جيل واحد.
والتعليم ـ كما ينبغي تذكير أولئك الذين يراهنون بصورة مفرطة على دور أجهزة الكمبيوتر وحدها ـ يعني أولا تحقيق رباطة الجأش والاستقلال الشخصي. ويعني التعليم القدرة على التفكير وحسم القرار بصورة مستقلة، دون استسلام للتأثير. وهو يعني القدرة المكتسبة على التفكير، وبالتالي على التذكر، وعلى المقارنة. والذاكرة والمقارنة بُعْدان أساسيان لكل أخلاق. ولا حاجة بنا إلى التشديد بهذا الخصوص على أهمية إعلان حقوق الإنسان، الذي يشكل بطريقة ما "الإطار المعنوي" للفعل المستقبلي للبشرية.
لقد أشرنا إلى مسئولية اليونسكو والمؤسسات التربوية [التعليمية]. غير أن هذا ليس كل شيء. والواقع أن دور السياسي حاسم بالقدر نفسه. ذلك أنه، كما يقول ماكس ڤيبر، "يتمثل الاهتمام الحقيقي لرجل السياسة في المستقبل والمسئولية تجاه المستقبل". وتقع على كاهل رجل الدولة مسئولية أن يعرف كيف يدير وينظم الوقت والتوقعات فيما يتعلق بالمستقبل. ومن العمل المحلي إلى المفاوضات الدولية، ليس هناك نقاش ديمقراطي عن المستقبل لا يمثل خطوة أولى نحو أخلاق المستقبل. ذلك أن التغيرات المؤسسية المستديمة إنما تنطلق من تحويل عميق في التصورات والممارسات وفي العلاقة بين المعرفة والخبرة والأخلاق والقرار، وليس العكس.
وأخلاق المستقبل([285]) أخلاق لا تقنع بالوفاء بالتزاماتها إزاء الحاضر. إنها أخلاق لا تقتصر على العقد. إنها أخلاق تفرض على المسئول كما على المواطن أن يتصرف في الوقت المناسب، وبالتالي أن يتوقع ويستبق. إنها أخلاق تنتمي إلى نفس الأسرة التي ينتمي إليها العلم والحكمة.
ومن المؤسف أن كثيرين منا استثمروا أكثر مما ينبغي في الإخفاق. ذلك أن التدابير العاجلة، أو العلاجات المسكنة، أو إعادة البناء، تكلف أغلى كثيرا من الوقاية. وفي كل مكان، ساد منطق أولوية الطوارئ العاجلة، وانكفأ الزمن على نفسه حول الأجل القصير.
وسوف تتيح لنا أخلاق القرن الحادي والعشرين إرساء أسس تنمية حقيقية. ولا ينبغي أن نخدع أنفسنا: إن التنمية ولكن أيضا الاستقرار والأمن العالمي تتوقف جميعا على مجموعة من التدابير ذات طابع تعليمي، وعلمي، وتكنولوجي، واقتصادي، ومالي، وسياسي، سيكون من الضروري "إعدادها باتفاق جماعي وتطبيقها في الوقت الملائم"([286]).
ذلك أنه ينبغي امتلاك الشجاعة للتصرف في الوقت الملائم. ولنتذكر كلمات ڤاتسلاڤ هاڤيل Vaclav Havel: "كنت أتصور أن الوقت ملكي وكنت مخطئا"، كما كتب في L Attente [ الانتظار]. ونحن لم نعد نستطيع أن نرجئ إلى الغد القرارات التي ينبغي اتخاذها اليوم. ويجب أن يكف العالم عن انتظار "جودو" Godot.
وكان ڤاتسلاڤ هاڤيل أيضا هو الذي قال في محاضرة في باريس إنه لا ينبغي الخلط بين الانتظار والأمل. فالانتظار هو القدر اليومي الحزين المدخر لملايين من الأشخاص في العالم: انتظار يكون في كثير جدا من الأحيان بلا نهاية، طويل الأمد، إلى أجل غير مسمى sine die، لا يقطعه إلا الموت. أما الأمل فإنه شيء مختلف تماما. ويجب أن نتصرف في الوقت المناسب حتى يكف العالم عن انتظار "جودو" ويجد أسبابا حقيقية تبرر الأمل والثقة بالمستقبل.
وفيما وراء المجال السياسي فإن الرهان في نهاية المطاف ثقافي. ذلك أن الثقافة لا تتمثل فقط في الميراث، في "التراث"، إنها تتمثل أيضا في السلوك والموقف، إنها تتمثل أيضا في قوة الإبداع، في التجديد، في منح معان جديدة للمغامرة البشرية. ويقدم الانتقال إلى القرن الحادي والعشرين، واقتراب ألفية جديدة، فرصة يجب أن نغتنمها. وأخيرا، ينبغي أن ندخر، في ثقافة المستقبل، مكانا متميزا لتربية الأطفال. أليس أطفال اليوم هم كبار الغد، الضامنين لبقاء أخلاق المستقبل؟ والحقيقة أن "سهم الزمن"، الذي تناوله إيليا پريغوجين في أعماله بطريقة رائعة، يخترقنا جميعا، ويجعل منا مكتشفين لعوالم جديدة، وملاحين مستكشفين، بالفعل، للقرن الجديد. والمطلوب ببساطة أن نجعل الاهتمام بالمستقبل مألوفا إلى حد أن يغدو طبيعة ثانية، تقيم جسرا بين التوريث والتحويل.
وليس لدينا سوى تراث وحيد ما زال سليما لم يمس: إنه المستقبل. وعليه ينعقد أملنا. دعونا إذن نحافظ على الأراضي العذراء للمستقبل: دعونا نبذر من الآن قيم المستقبل. دعونا نغرسها. دعونا نسلمها لورثتنا. وبهذا سنورث أطفالنا ميراثا مفتوحا، حيا، ميراثا بدون وصية.


إشارات


الفصل 17
[1] ) على سبيل المثال، من 1960 إلى 1994، كان متوسط النمو السنوي للناتج القومي الإجمالي بنسبة 5.2% في تايلندا، 4.2% في ماليزيا، 3.8% في إندونيسيا، 7% في جمهورية كوريا، وتمثل الاستثناء في الفليپين، بنسبة 1.1%. وعلى سبيل المقارنة، عرفت فرنسا خلال ذات الفترة متوسط زيادة سنوية بنسبة 2.7%، والولايات المتحدة 1.9%. والإنجازات التي حققتها البلدان الآسيوية ترجع جزئيا إلى استثمار ضخم في التعليم (بالنسبة للفترة 1970-1994، ارتفع معدل محو الأمية من 60 إلى 83% بالنسبة للاتحاد الماليزي، ومن 79 إلى 94% بالنسبة لتايلندا، ومن 54 إلى 83% بالنسبة لإندونيسيا، ومن 88 إلى 98% بالنسبة لجمهورية كوريا، ومن 83 إلى 94% بالنسبة للفليپين). وقد اتجه هذا الاستثمار بصورة خاصة إلى التعليم الثانوي والعالي (مثلا بالنسبة لتعليم المستوى الثانوي، ارتفع معدل القيد في المدارس من 1980 إلى 1996، من 48% إلى 62% بالنسبة للاتحاد الماليزي، ومن 29 إلى 57% في تايلندا). وتحسنت الصحة أيضا (بلغ متوسط العمر المتوقع عند الولادة 71 عاما في ماليزيا، و69 عاما في تايلندا، و63 عاما في إندونيسيا، و71 عاما في جمهورية كوريا، و66 عاما في الفليپين). وعلى سبيل المقارنة، يصل هذا الرقم إلى 77 عاما في فرنسا، وإلى 76 عاما في الولايات المتحدة: Source: ONU, 1995: وقد اتجه هذا الجهد الاستثماري، أخيرا، إلى الوصول إلى المياه (تم تأمين الإمداد بالمياه الصالحة للشرب بالنسبة لـ 78% من السكان في ماليزيا، و89% في تايلندا، و62% في إندونيسيا، و93% في جمهورية كوريا، و86% في الفليپين (PNUD أرقام خاصة بالفترة 1990-1996).
[2] ) Données PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1998: وبالمثل، فإن ماليزيا، التي كانت في 1960 في المستوى الحالي لأوغندا (الـ 160 في الترتيب)، صارت الآن الـ 60 في الترتيب العالمي؛ وإندونيسيا، التي كانت في 1960 في المستوى الحالي لبوركينا فاسو (الـ 172 في الترتيب)، تشغل حاليا الـ 96 في الترتيب العالمي.
[3] ) Banque mondiale, Taking Action for Poverty Reduction in Sub-Saharan Africa, 1996 ; Banque mondiale, “Un continent en transition: l Afrique subsaharienne au milieu des années 1990”, novembre 1995. Sur le thème de la pauvreté en Afrique, voir Poverty: A Global Review. Handbook on International Poverty Research, dir. Else Øyen, S. M. Miller, et Syed Abdus Samad, Scandinavian University Press et UNESCO, 1996, 3e partie. : كما يشدد البنك الدولي، كان انخفاض عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر في غاية البطء في هذه المنطقة وكانت الجهود الاستثمارية السابقة غير كافية.
[4] ) Voir notamment le Rapport de la CNUCED sur les pays les moins avancés, 1998.
[5] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1998.
[6] ) Assises de l Afrique, Rapport final, 6-10/2/95.
[7] ) African Recovery, mars 1998.
[8] ) “Africa for the Africans — a survey of sub-saharan africa”, The Economist, 7-13 septembre 1996, Chiffres ONUsida, décembre 1997. : أربع نساء من كل خمس نساء مصابات بفيروس نقص المناعة البشرية (المسبب لمرض الإيدز) في العالم أفريقيات، و90% من الأطفال المصابين بهذا الفيروس في العالم مولودون لأمهات مصابات به في أفريقيا جنوب الصحراء. ويلاحظ الدكتور پيو Piot وجود "تقدير بالغ التحفظ" في أرقام عدوى فيروس نقص المناعة البشرية في أفريقيا جنوب الصحراء: Afrique Relance, février 1998.
[9] ) Philippe Hugon, “Quinze ans d ajustement en Afrique. Quelle évaluation ?”, L’État du monde 1997, Paris, La Découverte, 1996, p. 121.
[10] )  Jean-Pierre Tuquoi, “Le sursaut de l Afrique”, Le Monde, 7 janvier 1997.
[11] ) انظر فصل "ثورة التكنولوجيات الجديدة: المعلومات والاتصالات والمعرفة".
[12] ) Guy Herzlich, “Trompeuse Afrique”, Le Monde, 14 janvier 1997. PNUD, Rapport sur le développement humain 1998, Paris, Economica, chapitre 1.
[13] ) Thérèse Locoh et Yara Makdessi, “Baisse de la fécondité: la fin de l exception africaine”, La Chronique du CEPED, n° 18, juin-septembre 1995, p. 1-4 ; id., “Politiques de population et baisse de la fécondité en Afrique subsaharienne”, Dossiers du CEPED, n° 44, décembre 1996. : التزمت البلدان الأفريقية بصورة جماعية بموجب إعلان داكار/نغور لعام 1993 بالوصول بمعدل الزيادة الطبيعية إلى 205% من الآن وحتى عام 2000، وإلى 2% من الآن وحتى عام 2010.
[14] ) على سبيل المثال، بعد عشرة أعوام من النمو البطيء بمعدل 1.7% في السنة، كان النمو الاقتصادي لأفريقيا جنوب الصحراء بمعدل 5% في 1996، وهو معدل أعلى من معدل زيادتها الديموغرافية. وقد تجاوزت معدلات النمو السنوية 8% في ثلاثة بلدان، وبلغت من 6 إلى 8% في ثمانية بلدان أخرى، ومن 3 إلى 6% في اثنى عشر بلدا آخر.
[15] ) James Gustave Speth, administrateur du Programme des Nations Unies pour le développement (PNUD), “Bonnes nouvelles d Afrique”, Jeune Afrique, n° 1935, 10-16 février 1998. : أعلن جيمس وولفنسون James Wolfensohn، رئيس البنك الدولي، في 1996 أنه "يبدو أن الأمل عاد إلى أفريقيا": entretien au journal Le Monde, 16 février 1996.
[16] ) Chiffres Banque mondiale. Voir aussi World Bank, Global Economic Prospects and the Developing Countries 1998/1999.
[17] ) James D. Wolfensohn, président de la Banque mondiale, allocution à Addis Abeba, 27 janvier 1998.
[18] ) وفقا للأمم المتحدة ارتفع الناتج المحلي الإجمالي في 1997 بنسبة 4.75% في أفريقيا جنوب الصحراء، مقابل 6% لمجموع البلدان النامية: World Economie and Social Survey 1997, United Nations, New York, 1997.: خلال العشرين سنة الأخيرة، لم يرتفع نصيب الفرد من الدخل إلا بمبلغ 70 دولارا في أفريقيا بالمقارنة بطفرة قيمتها 900 دولار في شرق آسيا: Stephen Buckley, “Investors skip the Sub-Sahara and its many flaws”, International Herald Tribune, 2 janvier 1997. Daniel Cohen, Richesse du monde, pauvreté des nations, Paris, Flammarion, 1997, p. 40.
[19] ) Voir sur ces thèmes Voix, valeurs et développement: réinventer l Afrique au sud du Sahara, UNESCO, 1997. E. M Bokolo, Afrique noire. Histoire et civilisations, XIXe-XXe siècle, Paris, Hatier-Aupelf, 1993. Voir aussi “L Afrique: problèmes, tendances et perspectives” et “Villes d Afrique: problèmes, tendances et perspectives” (contributions de l auteur à l UNESCO).
[20] )  Kofi Annan, “Les causes des conflits et la promotion d une paix et d un développement durables en Afrique — Rapport du secrétaire général au Conseil de sécurité de l Organisation des Nations Unies”, 16 avril 1998, paragraphe 4.
[21] )  Général Amadou Toumani Touré, ancien chef d état du Mali, “L Afrique: problèmes et menaces”, intervention au colloque international “Guerre et paix au XXIe siècle” organisé par la Fondation pour les études de défense à l UNESCO des 18 et 19 décembre 1995 (chiffre établi sur 6 pays pour la période de 1991 à 1995).
[22] ) Kofi Annan, loc. cit., paragraphe 56.
[23] ) “Les Assises de l Afrique. Le développement social: les priorités de l Afrique”, extraits du Rapport final, UNESCO, Paris, 2 mars 1995.
[24] ) Kofi Annan, loc. cit., paragraphe 14.
[25] ) Kofi Annan, loc. cit., paragraphe 58.
[26] ) Source ; UNESCO: Annuaire statistique 1996, UNESCO Publishing & Bernan Press, 1997.
[27] ) “Education for ail: achieving the goal”, Final Report of the Mid-Decade Meeting of the International Consultative Forum on Education for All, Amman, Jordan, 16-19 juin 1996, UNESCO, Paris, 1996, p. 15.
[28] ) Annuaire statistique de l UNESCO 1998, tableau 2. 4.
[29] ) في 1996، لم يمثل عدد الإناث المقيدات بالمدارس سوى 45% من العدد الكلي للمقيدين في المدارس.
[30] ) Occasions perdues. Quand l école faillit à sa mission, UNESCO, Éducation pour tous. Situation et tendances 1998, p. 11 et 20 ; statistiques UNESCO.
[31] ) Voir en particulier Annuaire statistique de l UNESCO 1998, tableau 3.2 (taux d inscription).
[32] ) على سبيل المثال، هبطت قروض البنك الدولي للمنطقة الأفريقية في مجال التعليم انخفاضا قاسيا في 1995، إذ انخفضت من متوسط يبلغ 291.9 مليون دولار في 1989-1993 إلى 286.7 مليون دولار في 1994، وإلى 156.6 مليون دولار في 1995، وإلى 131.6 مليون دولار في 1996، وإلى 75.1 مليون دولار في 1997، قبل أن يرتفع من جديد إلى 380.3 مليون دولار في 1998: Voir à ce sujet Banque mondiale. Rapport annuel 1998, Washington D.C., 1998, p. 18, 22-23.
[33] ) انظر حول هذا الموضوع الفصل "أي مستقبل ينتظر الكتاب والقراءة؟".
[34] ) “Les Assises de l Afrique. Le développement social: les priorités de l Afrique. Rapport final”, UNESCO, BRX-95/CONF.006/7, p. 5.
[35] ) Voir Enseignement supérieur en Afrique: Réalisations, défis et perspectives, Bureau régional pour l Éducation en Afrique, UNESCO; Dakar, 1998. Voir aussi les conclusions de la septième conférence des ministres de l Éducation des États membres africains de l UNESCO (MINEDAF VII, Durban, Afrique du Sud, 20 avril 1998).
[36] ) Amadou Toumani Touré, Intervention aux Dialogues du XXIe siècle organisés par l Office d analyse et de prévision à l UNESCO (septembre 1998).
[37] ) من ناحية أخرى شددت "جلسات أفريقيا" على أن "التمكن من القراءة والكتابة والحساب هو الشرط الذي لا غنى عنه للنجاح في تعلم العلوم والتكنولوجيات".
[38] ) Taking Action to Reduce Poverty in Sub-Saharan Africa, p. 69.
[39] ) مجالات بحث ذات أولوية تم تحديدها في "جلسات أفريقيا".
[40] )  Kofi Annan, loc. cit., paragraphe 27.
[41] ) قبل الحرب، كانت ليبريا تملك 1636 مدرسة تقوم بتعليم 276320 من الأطفال المقيدين في المدارس؛ وفي 1994 تم تقدير عدد المدارس العاملة بـ 398 مدرسة تقوم بتعليم 75000 تلميذ: UNESCO-BREDA, Rapport sur l état de l éducation en Afrique, 1997: Innovations et refondation, novembre 1997. Voir aussi PNUD, Rapport mondial sur le développement humain, 1994.
[42] ) Recommandation des participants à la réunion d Amman (Jordanie. du Forum international consultatif sur l Éducation pour tous (16-19 juin 1996), organisé par l UNESCO, la Banque mondiale, l UNICEF et le PNUD, et de la Commission Delors dans son rapport L Éducation: un trésor est caché dedans, Paris, UNESCO/Odile Jacob, 1996, chapitre 9.
[43] ) Op. cit.
[44] ) Allocution de M. Federico Mayor, directeur général de l UNESCO (Palerme, 27 septembre 1997).
[45] ) “Africa for the Africans — a survey of sub-saharan Africa” , The Economist, 7-13 septembre 1996.
[46] ) Kofi Annan, 26 mars 1996 (Press Release SG/SM/6192).
[47] ) Kofi Annan, “Les causes des conflits...”, 16 avril 1998, paragraphe 73.
[48] ) Jean-Pierre Tuquoi, op. cit.
[49] ) Extraits du Rapport Final, “Les Assises de l Afrique. Le développement social: les priorités de l Afrique”, UNESCO, Paris, 2 mars 1995.
[50] ) Ibid.
[51] ) “Déclaration de Windhoek sur le développement d une presse africaine indépendante et pluraliste”, 3 mai 1991. Voir aussi Jean-Pierre Langellier, “La solitude des journalistes africains”, Le Monde, 9 mars 1996.
[52] ) Daniel Cohen, Richesse du monde, pauvreté des nations, op. cit., p. 18.
[53] ) Rapport mondial sur le développement humain 1995, Paris, Economica, 1995, p. 96, 98. : وانظر أيضا في هذا التقرير لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية (PNUD) تطوير المؤشر الجنسي النوعي للتنمية البشرية الذي يقيس مستوى التنمية البشرية المتوازن أو المصحح في اتجاه الهبوط، حسب أشكال عدم المساواة بين الجنسين. ويبرز الاقتصادي دانييل كوهن على سبيل المثال أنه "في زائير، تقوم النساء بنسبة 70% من المهام المنزلية أو الإنتاجية": op. cit., p. 18.
[54] ) “Africa for the Africans — a survey of sub-saharan Africa, The Economist, 7-13 septembre 1996.
[55] ) Francis Gendreau, Démographies africaines, p. 89.
[56] ) 32% وفقا لتقدير معدل لبقاء المجموعة في المدرسة: Rap-port mondial sur l éducation 1998, UNESCO, p. 59.
[57] ) UNESCO-BREDA, Rapport sur l état de l éducation en Afrique, 1997: Innovations et refondation, UNESCO, 1997, p. 75.
[58] ) James Gustave Speth, administrateur du PNUD, in Jeune Afrique, n° 1935,10-16 février 1998.
[59] ) Y. Marguerat et D. Poitou, (éd.), A l écoute des enfants de la rue en Afrique noire, Paris, Fayard, 1994.
[60] ) UNESCO-BREDA, Rapport sur l état de l éducation en Afrique, 1997: Innovations et refondation, UNESCO, 1997, chapitre III, passim.
[61] ) J.-M. Ela, L Afrique des villages, Paris, Karthala, 1982; L Afrique des villes, Paris, Karthala, 1983.
[62] ) سيكون بالتالي 61% بالنسبة للعالم: Voir Francis Gendreau, Démographies africaines, Paris, ESTEM, 1996: البيانات الديموغرافية لأفريقيا مليئة بالثغرات: في نصف البلدان الأفريقية، لا يوجد أي تعداد منذ 1980: Voir: Habitat, Nations Unies, An Urbanizing World: Global Report on Human Settlements 1996, Oxford University Press 1996, p. 84 sq..
[63] ) Citée par Alain Frachon, in “L Afrique n est plus rurale, elle se modernise”, Le Monde, 13 novembre 1996.
[64] ) Voir sur cette question Lelo Nzuzi, Urbanisation et aménagement en Afrique noire, Paris, Sedes, 1989, p. 111.
[65] ) Habitat, Nations Unies, An Urbaniz.ing World, p. 89-93.
[66] ) Rapport interne de la Banque mondiale, Région Afrique, “Un continent en transition: L Afrique subsaharienne au milieu des années 1990”, novembre 1995, p. 74.
[67] ) قضت الزيادة الديموغرافية الحضرية في أفريقيا على الإنجازات التي تحققت خلال العقد الدولي للمياه الصالحة للشرب والصرف الصحي (1980-1990): في 1990 كان سكان المدن الذين لا يحصلون على إمدادات كافية بمياه شرب صالحة أكثر منهم في 1980.
[68] ) Francis Gendreau, Démographies africaines, p. 45.
[69] ) Nicholas D. Kristof, “Dirty water seals fate of poor in the world”, International Herald Tribune, 10 janvier 1997.
[70] ) E. M Bokolo, Afrique noire. Histoire et civilisations, XXIe-XXe siècle, Paris, Hatier-AUPELF, 1993.
[71] ) "أخويات حضرية"، تضامن اقتصادي، مثاله "التأمينات التكافلية" (نظم للقروض الجماعية)؛ حلول لمسألة التوظيف، بواسطة الاقتصاد المسمى بـ "غير الرسمي"، الذي يمثل المتعهد الكبير للوظائف في الوسط الحضري بمعدلات زيادة سنوية مذهلة (7% في السنة في المدن الكبرى في غرب أفريقيا)، والذي لا تستطيع أية سياسة لامتصاص البطالة أن تتجاهله؛ مشروعات صغيرة تنشئها نساء وينشئها شباب في كثير من الأحيان، وتعمل في جمع ومعالجة القمامات المنزلية.
[72] ) Banque mondiale, Taking Action to Reduce Poverty in Sub-Saharan Africa: voir en particulier p.    96-98.
[73] ) Banque mondiale, “Un continent en transition...”, p. 75.
[74] ) Daniel Cohen, op. cit., p. 22 et 25.
[75] ) Daniel Cohen, op. cit., p. 21.
[76] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1998, Paris, Economica, 1998, chapitre 3.
[77] ) Conseil InterAction, “Comment ramener l Afrique dans l axe du système international”, Recommandations et conclusions de la réunion du Cap, 21-22 janvier 1993.
[78] ) بين 1961 و1995، انخفض نصيب الفرد من الإنتاج الغذائي في أفريقيا من 12%، في حين رفعت البلدان النامية في آسيا هذا النصيب. ومع ذلك، فقد ارتفعت الدخول التي تستمدها أفريقيا من صادراتها الزراعية بنسبة 4.4% في السنة في الفترة من 1988 إلى 1993. ووفقا لتقديرات البنك الدولي، يمكن أن تواصل هذه الدخول الزيادة بنسبة 3.8% في السنة بالنسبة لباقي العقد الحالي. ويمكن بالتالي تفسير الهجرة الريفية الأفريقية على أنها دليل على ارتفاع نسبي في الإنتاجية الزراعية في مناطق معينة، ويكون هذا الارتفاع مصحوبا بهجرة كبيرة للسكان المزارعين إلى المدن.
[79] ) انظر فصل "الصحراء تنمو". تصاب مساحات الأراضي الأفريقية القابلة للزراعة بالفقر في العناصر المغذية، في حين أن مساحات الأراضي القابلة للزراعة في أوروبا وأمريكا الشمالية تراكم هذه العناصر بصورة مفرطة: Pedro Sanchez et Anne Marie Izac, “Soil fertility replenishment in Africa: a concept note.” International Center for Research in Agroforestry, Accra. Cité dans Taking Action to Reduce Poverty in Sub-Saharan Africa, Banque mondiale, 1997, p. 97.
[80] ) على سبيل المثال، موائل الحيوانات البرية الأفريقية صارت مفقودة الآن بنسبة الثلثين، مما يؤدي إلى اختفاء أنواع عديدة.
[81] ) استخدام وتحسين الأنواع المحلية الأصلية مبشران بصورة خاصة بالمستقبل (على سبيل المثال فيما يتعلق بالتطبيقات الصيدلانية للنباتات).
[82] ) كان الوعي بهذه الضرورة واضحا بصورة خاصة في قمة الطاقة الشمسية التي نظمتها اليونسكو في هراري (أيلول/سبتمبر 1996)، والتي أوضحت الدور التجديدي للطاقات البديلة في تنمية الزراعة وضرورة "كسر العزلة" الاقتصادية للأقاليم الأفريقية بصورة حقيقية. والحقيقة أن "المشروعات الاستراتيجية" التي تصل إلى حوالي 300 مشروع للبرنامج العالمي للطاقة الشمسية للفترة 1996-2005 (كهربة الريف، المدارس الريفية للطاقة الشمسية، إلخ.) سوف تمثل خطوة بالغة الأهمية في مجال السيطرة على هذا المصدر للطاقة المتجددة، التي يجب أن تستفيد منها أفريقيا كمصدر رئيسي للطاقة.
[83] ) Le Figaro, 13 novembre 1996.
[84] ) Entretien avec James Wolfensohn, Le Monde, 16 février 1996.
[85] ) Exemple donné dans “Africa for the Africans — a survey of sub-saharan Africa”, The Economist, 7-13 septembre 1996, p. 8.
[86] ) Voir sur ce thème The Economist, 7 septembre 1996.
[87] ) يطرح الانتشار الواسع النطاق للتكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات في أفريقيا مشكلات نوعية (انظر للحصول على لوحة عامة "الإنترنت والتنمية"، في فصل "ثورة التكنولوجيات الجديدة: المعلومات والاتصالات والمعرفة").
[88] ) Edem Kodjo, “Les enjeux politiques et économiques des nouvelles technologies de l information pour l Afrique”, Afrique 2000: Revue africaine de politique internationale, n° 25, octobre-décembre 1996, p. 8.
[89] ) وعن 1.85 بالنسبة لكل أفريقيا، تتباين النسبة من 0.09 (تشاد) إلى 19.56 (جمهورية سيشيل): Voir African Télécommunication Indicators, IUT, Genève, 1998: وعلى سبيل المقارنة، وصلت هذه النسبة في 1996 إلى 6.02 في آسيا ومن 34.60 في آوروبا، تراوحت بين 0.08 (كمبوديا) و75.82 (برمودا). وتملك البلدان ذات الدخل المرتفع في المتوسط 54.06 خطا تليفونيا لكل 100 مواطن، والبلدان الضعيفة الدخل 2.45. وتصل هذه النسبة إلى 12.88 في العالم: Voir aussi Banque mondiale, “Un continent en transition...”, p. 77.
[90] ) Réunion du G7, Bruxelles, février 1996.
[91] ) بتعريفها على أنها عدد الخطوط التليفونية لكل 100 شخص.
[92] ) African Telecommunication Indicators, IUT, Genève, 1998: في جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، حيث تصل الكثافة التليفونية في المتوسط إلى 10، فإنها تتراوح على مستوى الأقاليم بين 20 في غوتنغ (إقليم بريتوريا وجوهانسبورج) و2 في إقليم الشمال الأكثر فقرا: IUT, op. cit., p. 20.
[93] ) World Telecommunication Development Report 1998, IUT, Genève, 1998.
[94] ) 28.14 في العالم و171.92 في البلدان ذات الدخل المرتفع في 1996:IUT, African Telecommunication Indicators 1998 et World Telecommunication Development Report 1998.
[95] ) Mike Jensen, rapporteur du groupe de travail de haut niveau sur les technologies de l information et de la communication, Conseil africain des ministres de l Économie et du Développement social. “L Afrique toujours plus ouverte à Internet”, Afrique 2000, n° 25, octobre-décembre 1996, p. 27-31.
[96] ) “Les enjeux des autoroutes de l information: le rôle de l UNESCO”, 16 août 1996, UNESCO, document 150 EX/15. : كما سجل المؤتمر الخاص بمجتمع المعلومات والتنمية (جوهانسبورج، آيار/مايو 1996) الدور الذي لا يمكن الالتفاف حوله والذي يجب أن تضطلع به البلدان النامية في المجتمع الدولي للمعلومات.
[97] ) Voir notamment la déclaration sur la “mise en place de l autoroute de l information en Afrique”, adoptée par les États africains en mai 1995, ou encore le projet “Société africaine à l ère de l informatique” du CEA (mai 1996).
[98] ) تبلغ ديون أفريقيا جنوب الصحراء 230 مليار دولار: Financial Times, Londres, 3 février 1999: لسكان قدر عددهم في 1996 بـ 605 مليون نسمة.
[99] ) Global Development Finance, vol. 1, p. 43.
[100] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1998, Paris, Economica, 1998, p. 41: "يصل الدين الخارجي لموزمبيق إلى عشرة أضعاف صادراتها السنوية، وهي تخصص حوالي نصف ميزانيتها لخدمة الدين، أيْ أربعة أضعاف ميزانية الصحة" (ibid.).
[101] ) “Rigueur économique et souffrance sociale en Afrique”, Le Monde, 31 octobre 1996.
[102] ) James Gustave Speth, op. cit.
[103] ) Philippe Hugon, op. cit.
[104] ) S. Buckley, op. cit.
[105] ) Source: Banque mondiale, Global Development Finance 1997.
[106] ) “Why Africa matters: the case for continued US assistance to Africa”, Summit on Africa Aid, 3 février, 1995, OCDE, Rapport du Comité d’aide au développement 1998, tableau 13.
[107] ) انظر حول هذا الموضوع فصل "فضيحة الفقر والحرمان".
[108] ) Cité dans Jean-Pierre Tuquoi, op. cit.
[109] ) Ibid.
[110] ) Jeffrey Sachs, “Growth in Africa: It can be done”, The Economist, 29 juin 1996.
[111] ) Extrait du discours d ouverture de la rencontre Europe-Afrique sur le thème “L Afrique et les nouvelles technologies de l information”, Genève (Suisse), 17 octobre 1996: “L Afrique dans la bataille des nouvelles technologies de l information “(publié dans Afrique 2000, n° 25, octobre-décembre 1996, p. 15-20).
[112] ) Kofi Annan, 26 mars 1997 (Press Release SG/SM/6192).
[113] ) كما تم التشديد في "جلسات أفريقيا"، فإنه "إزاء أوروبا، والأمريكتين، وبلدان المحيط الهندي والمحيط الهادي، التي تشكل كتلا اقتصادية تنخرط في منافسات قاسية، ليس أمام الدول الصغيرة فرصة أن تصير قوة لها أهميتها وشأنها إلا بشرط أن تتحد": Extraits du Rapport final, “Les Assises de l Afrique. Le développement social: les priorités de l Afrique”, UNESCO, Paris, 2 mars 1995.
[114] ) Gertrude Mongella, Intervention aux Dialogues du XXIe siècle organisés par l Office d analyse et de prévision, UNESCO, septembre 1998.
[115] ) جنوب أفريقيا، وأنجولا، وبوتسوانا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وليسوتو، ومالاوي، وموريشيوس، وموزمبيق، وناميبيا، وسيشيل، وسوازيلاند، وتنزانيا، وزامبيا، وزيمبابوي.
[116] ) “Le rôle et l action de l UNESCO dans le cadre de l Initiative spéciale des Nations Unies pour l Afrique”, UNESCO, DGE 96/5.
[117] ) نص مأخوذ من البيان الصحفي الذي أعلن طرح المبادرة الخاصة.
الفصل 18
[118] ) Vicenç Fisas, “Armements: la course sans trêve”, Le Courrier de l UNESCO, avril 1999. Sources: SIPRI Yearbook 1998 ; World Military Expenditures and Arms Transfers 1996 (ACDA, États-Unis, 1997), Conversion Survey 1998 (BICC, 1998).
[119] ) Ibid.
[120] ) Jean-Claude Berthélemy, Robert S. McNamara, Somnath Sen, Les Dividendes du désarmement: défis pour la politique de développement, OCDE, 1994.
[121] ) PNUD, Nations Unies, Rapport mondial sur le développement humain, New York, 1994.
[122] ) Conversion Survey 1998. Global Disarmament, Defense Industry and Conversion, Bonn International Center for Conversion (BICC), Oxford University Press, 1998.
[123] ) SIPRI Yearbook 1998. Armaments, Disarmament and International Security, Stockholm International Peace Research Institute, Oxford University Press, 1998
[124] ) V. Fisas, loc. cit.: بيانات خاصة بالفترة 1988-1997.
[125] ) SIPRI Yearbook 1998, op. cit.
[126] ) Gerard Baker, “The product of peace”, Financial Times, 18 août 1997.
[127] )  Rapport mondial sur le développement humain, PNUD, New York, 1997.
[128] ) L ONU: la vérité en faits et chiffres, Département de l information des Nations Unies, DPI/1753/Rev.l6, octobre 1998.
[129] ) SIPRI Yearbook 1998, op. cit.
[130] ) Source: PNUD, Rapport sur le développement humain, cité par V. Fisas, loc, cit.
[131] ) Michael Renner, “Budgeting for disarmament”, State of the World, World Watch Institute, Washington, D.C., 1995.
[132] ) بين 1960 و1987، زادت النفقات العسكرية للبلدان النامية أسرع بثلاثة أضعاف من النفقات العسكرية للبلدان الصناعية، فارتفعت من 24 إلى 145 مليار دولار، ومن 7 إلى 15% من النفقات العسكرية العالمية: PNUD, 1994, op. cit..
[133] ) Conversion Survey 1998, op. cit.
[134] ) Le Courrier de l UNESCO, avril 1999.
[135] ) Conversion Survey 1997, Global Disarmament and Disposal of Surplus Weapons, BICC, Oxford University Press, 1997.
[136] ) Bernard Adam, “Armes légères, destructions massives”, Le Monde diplomatique, avril 1998.
[137] ) Message de Sa Sainteté le pape Jean-Paul II pour la célébration de la Journée mondiale de la paix, 1er janvier 1999, Libreria Editrice Vaticana, Cité du Vatican.
[138] ) SIPRI Yearbook 1998, op. cit.
[139] ) Conversion Survey 1998, op. cit.
[140] ) SIPRI Yearbook 1998, op. cit.
[141] ) V. Fisas, loc. cit.
[142] ) Patrice de Beer, “Le président souhaite augmenter le budget de la défense”, Le Monde, 5 janvier 1999; Stephen Fidier, “Clinton seeks defence budget rise”, Financial Times, 4 janvier 1999.
[143] ) Gerard Baker, “The product of peace”, Financial Times, 18 août 1997.
[144] ) Malcolm Knight, Norman Loayza, Delano Villanueva, The Peace Dividend: Military Spending Cuts and Economic Growth, IMF Staff Papers, vol. 43, n° 1, mars 1996, Fonds monétaire international, Washington, D.C., 1996.
[145] ) PNUD, 1994, op. cit.
[146] ) Ibid.
[147] ) Steven Holtzman, Post-Conflict Reconstruction, Banque mondiale, Washington, D.C., 1995 ; Françoise Lazare, “Le mirage des marchés de la paix”, Le Monde, 12 novembre 1996.
[148] ) OCDE, 1994.op.cit.
[149] ) Situation économique et sociale dans le monde, Conseil économique et social, Nations Unies, New York, 1995.
[150] ) OCDE, 1994, op. cit.
[151] ) PNUD, 1994, op. cit.
[152] ) V. Fisas, loc. cit.
[153] ) OCDE, 1994, op. cit.
[154] ) Renner, 1995, op. cit.
[155] ) Conversion Survey 1998. op. cit.
[156] ) Michael Renner, “Reconversion vers une économie de paix”, État de la planète, World Watch Institute, Washington, D.C., 1990.
[157] ) PNUD, 1994, op. cit.
[158] ) Yves-Michel Riols, “Székesfehérvar, l ancienne ville des rois symbolise le renouveau hongrois”, Le Monde, 6 décembre 1995.
[159] ) Conversion Survey 1998, op. cit.
[160] ) PNUD, 1994, op. cit.
[161] ) وفقا لبيانات SIPRI، أسهمت البلدان الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن مجتمعة بنسبة 80% من تحويلات الأسلحة بين 1993 و1997.
[162] ) PNUD, 1994, op. cit.
[163] ) Le Courrier de l UNESCO, op. cit.
[164] ) OCDE, 1994, op. cit.
[165] ) Renner, 1995, loc. cit.
[166] ) خاصة معهد الدراسات العليا للدفاع الوطني (فرنسا).
[167] ) Federico Mayor, préface de l ouvrage Quelle sécurité ?, UNESCO, 1997.
[168] ) Federico Mayor, allocution prononcée à l occasion de la remise par la Fondation Salvador de Madariaga du prix Joaquin Garrigues Walker, Madrid, septembre 1997.
[169] ) Moufida Goucha, introduction de l ouvrage Quelle sécurité ?, UNESCO, 1997.
[170] ) Jacques Attali, Économie de l apocalypse, Trafic et prolifération nucléaires. Rapport au secrétaire général des Nations Unies, Paris, Fayard, 1995.
[171] ) SIPRI Yearbook 1998, op. cit.
[172] ) PNUD, 1994, op. cit.
[173] ) Ibid.
[174] ) Independent Commission on Disarmament and Security Issues, Common Security: A Programme for Disarmament, Londres, 1982. : ("البديل الذي نملكه هو الأمن المشترك ... إن الأمن العالمي يجب أن يقوم على التزام بالبقاء المشترك وليس على تهديد بالتدمير المتبادل").
[175] ) Commission on Global Governance, Our Global Neighbourhood, Oxford University Press, 1995. : ("الحقيقة أن العسكرة اليوم لا تشمل فقط الحكومات التي تنفق أكثر مما هو ضروري لبناء ترساناتها العسكرية. بل تغدو بصورة متزايدة ظاهرة مجتمعية عالمية، كما يشهد على ذلك تفشي امتلاك واستعمال المدنيين بصورة متزايدة للأسلحة الفتاكة ـ سواء أكانوا أفرادا يسعون إلى امتلاك وسيلة للدفاع عن النفس، أم عصابات شوارع، أم مجرمين، أم جماعات معارضة سياسية، أم منظمات إرهابية. ويقتضي التأكيد على أمن الناس أن يتصدى العالم لثقافة العنف في الحياة اليومية").
[176] ) Ibid.  ("إننا نؤيد بقوة مبادرات المجتمع الرامية إلى حماية الحياة الفردية لتشجيع نزع سلاح الأفراد ولتعزيز استتباب جو من الأمن في الجوار. ولكل شيء دور يلعبه، بما في ذلك التليفزيون، والسينما، ووسائل الإعلام الأخرى. وسوف تكون مهمة تعزيز الأمن في الجوار العالمي أصعب إلى حد كبير إذا تصاعدت ثقافة عنف وتفشي انعدام الأمن الشخصي في مختلف مجتمعات العالم").
[177] ) Renner, 1995, loc. cit.
[178] ) Conversion Survey 1998, op. cit.
[179] ) Federico Mayor, allocution prononcée à la cinquième Conférence internationale sur l éducation des adultes, Hambourg, juillet 1997.
[180] ) Federico Mayor, préface de l ouvrage Quelle sécurité ?, UNESCO, 1997.
[181] ) Federico Mayor, allocution prononcée à la réunion du Conseil des ministres de l Union de l Europe occidentale (UEO), mai 1997.
الفصل 19
[182] ) Federico Mayor, “Cinquante ans après”. Le Courrier de l UNESCO, octobre 1995.
[183] ) "يتمثل حفظ السلام في توطيد وجود للأمم المتحدة على الأرض، ولم يتم هذا إلى الآن إلا بموافقة كل الأطراف المعنية، وقد تجسد هذا عادة في نشر قوات عسكرية و/أو بوليسية للأمم المتحدة وكذلك، في كثير من الحالات، في نشر عاملين مدنيين": “Boutros Boutros-Ghali, Agenda pour la paix, 1992, New York, Nations Unies, paragraphe 20
[184] ) Kofi Annan, “Rénover l Organisation des Nations Unies: un programme de réformes”. Résolution de l Assemblée générale des Nations Unies: “Rénover l Organisation des Nations Unies: programme de réformes” (A/RES/52/12).
[185] ) Boutros Boutros-Ghali, Le Nouvel Observateur, 19-25 octobre 1995 ; id., intervention à la séance des Entretiens du XXIe siècle du 6 avril 1998 consacrée au thème “Sommes-nous prêts pour le XXIe siècle?”, organisée par l Office d analyse et de prévision de l UNESCO.
[186] ) John Kenneth Galbraith, “De l influence persistante de l opulence”, in PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1998, chapitre 2.
[187] ) Jérôme Bindé, “Prêts pour le XXIe siècle ?”, Le Monde, 29 juillet 1998. Intervention de M. Jacques Attali à la séance des Entretiens du XXIe siècle organisée le 6 avril 1998 sur le thème “Sommes-nous prêts pour le XXIe siècle ?” par l Office d analyse et de prévision de l UNESCO.
[188] ) “Le droit de l être humain à la paix”, Déclaration du directeur général de l UNESCO, janvier 1997.
[189] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1998, Paris, Economica, chapitre 1.
[190] ) L Éducation: un trésor est caché dedans, rapport à l UNESCO de la Commission internationale sur l éducation pour le XXIe siècle présidée par Jacques Delors, Paris, Odile Jacob, 1996.
[191] ) “A house divided against itself cannot stand” (Abraham Lincoln, 16 juin 1858).
[192] ) Kofi Annan, “Les causes des conflits et la promotion d une paix et d un développement durables en Afrique — Rapport du secrétaire général au Conseil de sécurité de l Organisation des Nations Unies”, 16 avril 1998.
[193] ) Rapport mondial sur le développement humain 1994, p. 50 ; Rapport mondial sur le développement humain 1997, chapitre 3.
[194] ) Interview d Amara Essy, Pôles, avril-juin 1996.
[195] ) يوصي التقرير بـ "فهم أسباب وطبيعة الأزمات المالية في سبيل التمكن من إدارتها بصورة فعالة والسعي إلى منعها": Rapport sur le commerce et le développement 1998, CNUCED, New York et Genève, 1998.
[196] ) Evans Gareth, “Coopérative security and intra-state conflict”, Foreign Policy, n° 96, automne 1994.
[197] ) F. Mayor, loc. cit. (note 1), p. 7.
[198] ) Recommandation formulée par les pays du G8 au Sommet de Denver (20-22 juin 1997) dans le domaine du maintien de la paix (paragraphe 53 du communiqué économique).
[199] ) A/50/518, paragraphe 43.
[200] ) Communiqué économique, paragraphe 33. Proposition également soutenue par les pays de l Union européenne dans leur mémorandum d octobre 1996.
[201] ) شدد وزراء الشئون الخارجية لمجموعة الـ 77، بصورة خاصة، على أن "المجلس الاقتصادي والاجتماعي يجب أن يلعب دوره بالكامل، كما تم تحديده في الميثاق وفي القرارات الحديثة للجمعية العامة": A/50/518, paragraphe 45.
[202] ) G. Evans, op. cit. (note 8).
[203] ) Voir aussi: “Des insécurités partielles à la sécurité globale”, Actes du symposium organisé à l UNESCO, 12-14 juin 1996, par l UNESCO et l Institut des hautes études de défense nationale, France.
[204] ) Our Global Neighbourhood: The Report of the Commission on Global Governance, Oxford University Press, 1995, p. 153-162. Voir aussi Jacques Delors, “Economie: pour sortir de l impuissance”, Le Nouvel Observateur, 19-25 octobre 1995, et “Appel à l action: Résumé de Notre voisinage global, le rapport de la Commission de gouvemance globale”, Genève, Commission de gouvemance globale, 1995.
[205] ) انظر الفصل "أنْ ننمو مع الأرض".
[206] ) Mémorandum, octobre 1996.
[207] ) الجلسة الأولى للجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية، 16-26 شباط/فبراير 1999. ويشترط توقيع 60 دولة لبدء عمل المحكمة الجنائية الدولية. وفي 10 نيسان/إبريل 1999، كانت 80 دولة قد وقعت على نظام روما، وصدقت عليه دولتان فقط (السنغال، وترينيداد وتوباغو).
[208] ) Cf. Mireille Delmas-Marty, Pour un droit commun, Paris, Seuil, 1994.
[209] ) The Economist, 13 février 1999: على سبيل المثال، وكما شدد البنك الدولي، من المتوقع ركود تدفقات رؤوس الأموال الخاصة على البلدان النامية في مستقبل قريب، في أعقاب الأزمة الآسيوية؛ وفي الوقت نفسه فإن الموارد الخاصة التي تعبئها المنظمات غير الحكومية لصالح البلدان النامية تشهد، بدورها، هبوطا نسبيا:Banque mondiale, Global Finance Report 1998, “Overview”, et p. 46 et 51.
[210] ) Ibid., p. 20.
[211] ) Rapport mondial sur le développement humain 1994, p. 66.
[212] ) Banque mondiale, World Development Report 1998/99, Oxford University Press, 1999 (“Aid and financial flows“) : تصل النسبة إلى 2.7% بالنسبة للاستثمار الأجنبي المباشر.
[213] ) Institut français des relations internationales, Rapport Ramsès 98, p. 224.
[214] ) Banque mondiale, op. cit., p. 21.
[215] ) Danemark, Norvège, Pays-Bas et Suède: OCDE, Rapport annuel du Comité d aide au développement 1998.
[216] ) Chiffres OCDE (James H. Michel, président du Comité d aide au développement, Coopération pour le développement: Rapport annuel du CAD 1998, notamment au chapitre v), et Banque mondiale, Global Development Finance Report, p. 50.
[217] ) وفقا لتقرير السكرتير العام للجمعية في أيار/مايو 1994، تم تسجيل هبوط شامل بنسبة 10 إلى 20% في المساهمات الطوعية التي تجمعها وكالات وبرامج التنمية بالأمم المتحدة: chiffres cités par Amara Essy, op. cit., p. 35. ووفقا لـ le rapport du CAD de 1998: انخفض إسهام البلدان الأعضاء في لجنة مساعدة التنمية في الهيئات المتعددة الأطراف من 17.9 إلى 15.9 مليار دولار من 1994 إلى 1997، أيْ انخفاض بنسبة 10%: op. cit. Voir aussi “Le sommet de la terre tourne en rond”, Libération, 28-29 juin 1997.
[218] ) من 6.2 مليار دولار في 1993 إلى 4.9 مليار دولار في 1997: Rapport du CAD 1998.
[219] ) A/50/518, paragraphe 20.
[220] ) “Why Africa matters: the case for continued US assistance to Africa”, Summit on Africa Aid, 3 février 1995.
[221] ) أنظر فصل "فضيحة الفقر والحرمان"، و: le rapport 1998 de la Banque mondiale (Global Finance Development Report), p. 54 sq..
[222] ) Rapport mondial sur le développement humain 1994, p. 77.
[223] ) 10.8% للتعليم ـ منها 1.3% للتعليم الأساسي ـ و6% للصحة والسكان، و6.6% لتوزيع المياه والاحتياجات الصحية: Rapport du Comité d aide au développement de l OCDE, 1998.
[224] ) Le Monde. 9 mai 1996.
[225] ) Relever les nouveaux défis, Rapport annuel du secrétaire général sur l activité de l Organisation, 1995, paragraphe 183.
[226] ) Interview d Amara Essy, Pôles, avril-juin 1996, p. 29. Une “approche plus humaine” de la mondialisation a également été souhaitée par les pays du G7 lors du Sommet de Lyon.
[227] ) اقتراح أعده الأمين العام في كتابه: Agenda pour la démocratisation, paragraphe 82.
[228] ) Proposition d Amara Essy, Pôles, avril-juin 1996, p. 38.
[229] ) Bertrand Maurice, “Les chemins de la paix”, Le Courrier de L UNESCO, octobre 1995, p.16.
[230] ) Gordenker Leon, “Le cinquantième anniversaire de l ONU et l essor des institutions des Nations Unies”, Revue internationale des sciences sociales, juin 1995, n°144.
[231] ) أوصت لجنة الإدارة العامة (لجنة رامفال ـ كارلسون)، بدورها، بأن يتم، في مرحلة أولى، إنشاء "منبر للمجتمع المدني" يجتمع سنويا في إطار الإعداد لجلسة الجمعية العامة" Our Global Neighbourhood, p. 258-260.
[232] ) على سبيل المثال، خلال مؤتمر ريو نشرت عدة مشروعات متعددة الجنسيات مجتمعة في مجلس الأعمال بشأن التنمية المستديمة وثيقة بعنوان "تغيير الدرب" Changing Course.
[233] ) Entretien avec Amara Essy, Pôles, avril-juin 1996, p. 37.
[234] ) Source: ONU, “L ONU: la vérité en faits et chiffres”, octobre 1998.
[235] ) The United Nations in its Second Half-Century: The Report of the Independent Working Group on the Future of the United Nations, 1995.
[236] ) تبلغ ميزانية النشاط الأساسي للأمم المتحدة 1.3 مليار دولار في السنة، ويمثل هذا 4% تقريبا من الميزانية السنوية لمدينة مثل نيويورك. ويصل الجانب المخصص للمشكلات السياسية وحفظ السلام من ميزانية الأمم المتحدة إلى 0.05% من النفقات العسكرية العالمية.
[237] ) Kofi Annan, discours de Davos, 31 janvier 1998.
[238] ) Résolution 52/15 de l assemblée générale des Nations Unies.
[239] ) انظر، بصورة خاصة، المدخل.
الفصل 20
[240] ) The Seville Statement on Violence, UNESCO, 1991.
[241] ) “Our planet has got enough tears...” (Women s House, Moscou, avril 1999).
[242] ) القرار 0.12 بشأن إستراتيجية الأجل المتوسط للفترة 1996-2001، الذي اعتمدته الجلسة الكاملة الثامنة عشر للمؤتمر العام لليونسكو (1995).
[243] ) Voir Dariush Shayegan, Le Regard mutilé: schizophrénie culturelle: pays traditionnels face à la modernité, Paris, éd. de l Aube, 1996.
[244] ) Résolutions de l assemblée générale des Nations Unies 52-15 (20 novembre 1997) et 53-25 (19 novembre 1998).
[245] ) Voir le document de L UNESCO intitulé “La culture de paix et l action de l UNESCO dans les États membres”, 30 octobre 1998 (155 EX/INF.9).
[246] ) انظر فصل "عائدات السلام والأمن العالمي" وفصل "أيّ مستقبل لمنظومة الأمم المتحدة؟".
[247] ) Pierre Hassner, “Par-delà le totalitarisme et la guerre”, Esprit, décembre 1998.
[248] ) هكذا سجل القرن العشرون الهبوط التدريجي للحرب بين دول وتفشي الحرب داخل الدولة الواحدة، وتشكل هذه الحرب الشكل الأكثر شيوعا للنزاعات المعاصرة (35 من 38 في 1995). ووفقا لأحد المؤلفين، إذا كان 35 مليونا من ضحايا العنف الجماعي في القرن العشرين من ضحايا الحرب بين دول (بما في ذلك الحربان العالميتان)، فإن 150 مليون كانوا من ضحايا حكوماتهم المعنية:Rudolf Rummel, Death by Governement, Transaction Publications, New Brunswick, 1995.
[249] ) انظر الفصل "فضيحة الفقر والحرمان".
[250] ) Spinoza, cité par Pierre Hassner, La Violence et la paix, op. cit.
[251] ) Daniel Cohen, Richesse du monde, pauvreté des nations, op. cit.
[252] ) Kant, Vers la paix perpétuelle.
[253] ) Michel Doyle, “Kant, liberal legacies and foreign affairs”, Philosophy and Public Affairs, 1983.
[254] ) Paul Kennedy, Préparer le XXIe siècle.
[255] ) Emmanuel Lévinas, entretien avec Roger-Pol Droit, Le Monde, 2 juin 1992.
[256] ) Sur ce thème, voir Benjamin R. Barber, Djihad versus McWorld: mondialisation et intégrisme contre la démocratie, Paris, Desclée de Brouwer, 1996, p. 25.
[257] ) Arjun Appadurai, intervention lors des Dialogues du XXIe siècle, organisés à l UNESCO (16-19 septembre 1998) par l Office d analyse et de prévision.
[258] ) René-Jean Dupuy, Un monde dual.
[259] ) Daryush Shayegan. Voir notamment Qu est-ce qu une révolution religieuse, Le regard mutilé, et communication sur l idéologisation de la tradition au Colloque de Cordoue.
[260] ) Benjamin R. Barber, op. cit. Voir aussi: id., Démocratie forte, Desclée de Brouwer, Paris, 1997.
[261] ) Felipe E. Mac Gregor, “Cultura de Paz: Apuntes sobre su naturaleza y dinamismo”, intervention lors de la troisième réunion de la Commission mondiale de la culture et du développement (San José, Costa Rica, 22-26 février 1994).
[262] ) René-Jean Dupuy, La Sécurité au XXIe siècle et la culture de paix. : والتشديد بالحروف المائلة من عندنا.
[263] ) L UNESCO et la culture de la paix: promouvoir un mouvement mondial, UNESCO, 1996. CAB-95/WS/1. Voir également le recueil de textes From a Culture of Violence to a Culture of Peace, Peace and Conflict Issues Series, UNESCO, 1996, et Vicenç Fisas, Cultura de paz  y gestión de conflictos, Prólogo de Federico Mayor Zaragoza, Icaria Antrazyt, Ediciones UNESCO, 1998.
[264] ) René-Jean Dupuy, Un monde dual.
[265] ) بين أمثلة أعمال اليونسكو في هذا المجال، يمكن أن نشير إلى المشروع بين الثقافي "طريق العبيد"؛ وإعلان برشلونة "بشأن دور الدين في تعزيز ثقافة السلام" (1994)، ومشروع "التقاربات الروحية والحوار بين الثقافات" (الربط بين مشروعي "طريق الإيمان" و"طريق الأندلس") ومن 1988 إلى 1997، قامت منظمة اليونسكو أيضا بتنفيذ مشروع "طريق الحرير" مشجعة بالتالي الحوار الأوروبي الآسيوي خاصة بين الثقافات الأوروبية والعربية والآسيوية.
[266] ) A/48/935,§11.
[267] ) A/48/935, § 94.
[268] ) انظر فصل "أيّ مستقبل لمنظومة الأمم المتحدة؟".
[269] ) Ibid.
[270] ) القرار الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1998: A/RES/53/25: والذي يعلن الفترة 2001-2010 عقدا دوليا لتعزيز ثقافة عدم العنف وثقافة السلام لصالح أطفال العالم.
[271] ) Réaffirmation de Caracas, 1er juin 1998.
[272] ) Décision AHG/DEC.5 XXXIV, juin 1998.
[273] ) الإعلان الخاص بالسلام في جنوب شرق آسيا في فجر الألفية الثالثة، جاكرتا، 12 أيلول/سبتمبر 1998.
[274] ) رسالة موجهة إلى المدير العام لليونسكو من السيد إميكا أنيوكو M. Emeka Anyaoku، الأمين العام، في 15 حزيران/يونيه 1998.
[275] ) Note du secrétariat du Commonweaith sur le Projet de déclaration et de programme d action de l UNESCO sur une culture de la paix (Londres, juin 1998).
[276] ) رسالة موجهة إلى المدير العام لليونسكو من السيد بطرس بطرس غالي، الأمين العام، في 11 أيار/مايو 1998.
[277] ) انظر فصل "عائدات السلام والأمن العالمي".
[278] ) "إن القوة التدميرية للأسلحة النووية هائلة. وكل استخدام لهذه الأسلحة يمكن أن يؤدي إلى الكارثة ... والشرط الأول [لإزالتها] هو أن تلتزم الدول الخمس التي تمتلك أسلحة نووية دون أي لبس بإزالة الأسلحة النووية وأن تتفق على أن تبدأ العمل على الفور في التدابير والمفاوضات الملموسة الضرورية لتحقيق هذه الإزالة ... وسيكون من الضروري الامتداد التدريجي للضمانات إلى الأنشطة النووية التي تقوم بها الدول التي تمتلك أسلحة نووية، والدول التي تمتلك مثل هذه الأسلحة دون إعلان، والدول شبه النووية، ويتمثل الهدف النهائي في تطبيقها الشامل في كل البلدان": Résumé des travaux de la commission de Canberra chargée d examiner la question de l élimination des armes nucléaires, remis au secrétaire général de la Conférence du désarmement le 26 août 1996.
[279] ) R. Musil, Prosa und Stücke, 1978, Rowohlt, Hambourg, traduction française Essais, Paris, Seuil, 1984, p. 341.
[280] ) Déclaration du directeur général de l UNESCO, “Le droit de l être humain à la paix”, 21 février 1997 (UNESCO, SHS-97/WS/6). Voir aussi: Message de Sa Sainteté le pape Jean-Paul II pour la célébration de la Journée mondiale de la paix, 1er janvier 1999.
[281] )                                                              Voir Federico Mayor, “Le devoir de mémoire”, publié le 22 avril 1999 dans le journal El Pais et, depuis lors, dans plusieurs dizaines de journaux de référence des différentes régions du monde.
خاتمة
[282] ) Antonio Machado, “No está el mañana — ni el ayer — escrito”.
[283] ) اللجنة العالمية لأخلاق المعارف العلمية والتكنولوجيات، التي أنشأتها منظمة اليونسكو، مكلفة بصورة خاصة بمتابعة هذه المسألة بالتعاون مع اللجنة الدائمة للمجلس الدولي للعلوم بشأن المسئولية والأخلاق العلمية.
[284] ) انظر فصل "أيّ مستقبل لمنظومة الأمم المتحدة؟".
[285] ) Voir, pour le développement de ce concept, Federico Mayor, La Mémoire de l avenir, UNESCO, Paris, 1994, et J. Bindé, “L éthique du futur — Pourquoi faut-il retrouver le temps perdu ?”, Futuribles, décembre 1997.
[286] ) UNESCO, Stratégie à moyen terme 1996-2001, préface.
 فريق إعداد عالم جديد
 
التقرير الدولي عالم جديد Un Monde Nouveau قام بإعداده فيديركو مايور، المدير العام لمنظمة اليونسكو، وفقا لبرنامج وموازنة المنظمة لسنة 1998-1999، وقد تم إعداده بالاشتراك مع جيروم بانديه، وبمساعدة فريق مكتب التحليل والتوقع لمنظمة اليونسكو:
المدير: جيروم بانديه
المشاركون الرئيسيون: جان ـ إيڤ لو سو،
                        رانيار جيدماندسون
الأبحاث التوثيقية أو الإحصائية والمساعدة التحريرية: فيليپ أمبروزي، جوديت كاريرا ـ إسكودي، جوليان ديبولوز، هادويش هازليه، مارسيل كاباندا، نادية خوري ـ داغر، أنجليك خالد، أوريليان كروزي، داڤ ديوناران، جيوزپينا لايزا، إلكزاندرا نوڤوسلوف، ريزوان رحيم، ليزي ريڤول، تراسي روتشتاين، سيلڤيا سالا، أريانا زورزاتو.
السكرتارية والمعاملات الإدارية: آن بونريزان، پاتريشيا پريتزينجر، آن ـ ماري روث، يانيك تشانز، سابين ڤايسيير.
شكر وتقدير
لم يكن إعداد التقرير الحالي ليكون ممكنا بدون المساعدة والمساهمات القيمة التي قدمها عدد من الأشخاص والهيئات. وقد شاركت مؤسسات دولية عديدة مع فريق إعداد التقرير بوثائقها، وإحصاءاتها، وخبرتها. وقد استفاد التقرير على وجه الخصوص من قواعد بيانات وتقارير ووثائق اليونسكو ومعاهدها المتخصصة، ومجموعة وكالات وبرامج منظومة الأمم المتحدة ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.
كما استفاد هذا التقرير بالمساهمات الأساسية التي أعدها فرانسوا أشير، ميشيل أولانيون، آن دي بير، جيرار بلان، نستور جارثيا كانكليني، دانييل كوهن، فيليپ كولومب، إيمانويل ديكو، غويري ديلاكوت، بنجامان ديسي، كيريا إيميليانوڤ، كريستوفر فلاڤن، فرانسيس غودورد، غي هيرتسليش، إتيان ب. كاپشتاين، پو كجيلين، هيرڤيه لوبرا، پيير لا كونت، جان لودو، جلبيرت دي لويشير، جان مارغات، إليكيا مبوكولو، پول ميتسي، فرانسوا أوست، آلان پاڤي، كريستيان دي بورتزامبرك، فيليپ كيو، لوران ساغارت، ساسكيا ساسين، ريشار سينيث، جان ـ فرانسوا سوسانا، جاك تيس، پيتر ڤيبر، إرنست أوريش فون ڤايتسيكه، ستيفن ڤورم.
ونعبر أيضا عن تقديرنا للمناقشات والمساهمات البالغة القيمة التي ندين بها لميشيل باتيس، بوريس بيركوڤسكي، تيريزا ر. كالديرا، ستيفن ك. شو، إدغار داسيلڤا، جاك ديلور، سليمان بشير دياني، لياندرو ديبوي، شيدلي فزاني، ماريز جودييه، كينيث جويليام، مالكولم هادلي، هيج دى جوڤنيل، إنجي إرنستو أوتون، سو پاركر، إدواردو پورتيلا، جوناس رابينوڤيتش، أندريس سزولوزي ـ ناجي، ألفونس تاي، ڤولفانج ڤولمان.
كما استفاد التقرير بأبحاث قصيرة ألقيت في حوارات القرن الحادي والعشرين التي نظمها مكتب التحليل والتوقع في اليونسكو (16-19 أيلول/سبتمبر 1998): ونحن نشكر بهذا الخصوص أرجون أپادوراي، ميجيل أشكويتا غوروستيثا، جان بودريار، هيلي بيجي، كلير بيسيه، كولن ر. بلاكمان، محمد لاربي بوغويرا، روجر كانس، نستور غارثيا كانكليني، روبرتو كارنيرو، دانييل كوهن، فيليب كولومب، غويري ديلا كوت، جان ـ لوي دينوبورج، لورد ديساي، بنجامان ديسي، سليمان بشير ديانيي، شيخ موديبو ديارا، غلوريا بياتريث دوران سوريا، تييري غودان، نيلوفر غولي، جان ـ جوزيڤ غو، هيسانوري إيسومورا، هيج دي جوڤينيل، إيتان كاپشتاين، كريغ كيلبورغر، جوزيف أندريه ليبو، هيرڤيه لو برا، پينتي مالاسكا، جان مارغا، هانس ـ پيتر مارتن، إيليا نورا باربييري ماسيني، پيتر هـ. ميتلر، جيسوس موتيو، غرترود أ. مونجيلا، إدغار موران، نيكول پورتزامپارك، إيليا پريغوجين، أموليا ك. ن. ريدي، مارتين ريمون ـ غوييو، فرانسيسكو ساغاستي، دانييل سالا ـ دياكاندا، ساسكيا ساسين، ريشار سينيت، إيغور أ. شيكلومانوڤ، نييلسي إ. شاكيبايك، ستيلارك، توني ستيڤنسون، روجر سو، أمادو توماني توري، كيمون ڤالا سكاكيس، جياني ڤاتيمو، بيل ڤيلولا، ستيفن و. مورن، زينغ يي.
وعلاوة على هذا، استند التقرير إلى بعض التحليلات التي صاغها ـ بمناسبة دورة أحاديث القرن الحادي والعشرين التي نظمتها اليونسكو منذ أيلول/سبتمبر 1997 ـ مكتب التحليل والتوقع. ونحن نشكر هؤلاء على إضاءاتهم: جاك اتالي، بطرس بطرس غالي، مانويل كاستيلز، ستيفن جاي جولد، ديڤيد ل. هيمان، ألكس كاهن، م. ج. ك. مينون، لوك مانتانييه، إدغار موران، راما كانتا راث، جيريمي ريفكين، ماري روبنسون، جويل دي روسناي، پيير سانيه، فيليپ سولرز، ألان تورين، ڤاسيلس ڤاسيليكوس، جان ديدييه ڤانسان، مايكل ڤالتسر، ثيودور زيلدين.
كما نشكر على وجه الخصوص مطبوعات اليونسكو وشعبة إحصاءات اليونسكو على تعاونهما. 



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عالم جديد - الجزء الثالث- فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الثاني - فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الأول - فيديريكو مايور
- بدلا من صَوْمَلَة سيناء
- طبيب الأمراض العقلية - ماشادو ده أسيس
- سوريا: الطريق إلى الجحيم
- حدث 25 يناير 2011: ثورة أم ليست ثورة؟ (مفهوم مختلف للثورة ال ...
- قبل تشكيل حكومة هشام قنديل
- أثبتت فحوصى الطبية الأخيرة خلوّ جسمى من سرطان الكبد (لطمأنة ...
- احتمالات الصراع الحالى بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإ ...
- ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الثانى
- ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الأول
- هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟
- الانقلاب العسكرى المكمِّل
- كلمات فى عشية جولة إعادة الانتخابات الرئاسية فى مصر
- محاكمة ثورية للرئيس مبارك وأسرته ورجاله وإلغاء الانتخابات ال ...
- مع متاهات أرقام الانتخابات فى مصر
- مأتم ديمقراطية المجلس العسكرى والإخوان المسلمين فجر الديمقرا ...
- أساطير الجبال والغابات - برنار كلاﭭيل
- هاجس الحرب الأهلية فى مصر


المزيد.....




- نتنياهو يعلق على قبول حماس وقف إطلاق النار والسيطرة على الجا ...
- لوكاشينكو: العالم أقرب إلى حرب نووية من أي وقت مضى
- غالانت: عملية رفح ستستمر حتى يتم التوصل إلى صفقة لإطلاق سراح ...
- الرئيس الجزائري: لا تنازل ولا مساومة في ملف الذاكرة مع فرنسا ...
- معبر رفح.. الدبابات تسيطر على المعبر من الجانب الفلسطيني مع ...
- حرب غزة: هل يمضي نتنياهو قدما في اجتياح رفح أم يلتزم بالهدنة ...
- اتحاد القبائل العربية في سيناء.. بيان الاتحاد حول رفح يثير ج ...
- كاميرا مثبتة على رأس الحكم لأول مرة في مباراة الدوري الإنكلي ...
- بين الأمل والخوف... كيف مرّت الـ24 ساعة الماضية على سكان قطا ...
- وفود إسرائيل وحماس والوسطاء إلى القاهرة بهدف هدنة شاملة بغزة ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - عالم جديد - الجزء الرابع - فيديريكو مايور