أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والحلول المحتملة ب- الوضع الراهن في الشرق الاوسط والمستجدات المحتملة - 1















المزيد.....



الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والحلول المحتملة ب- الوضع الراهن في الشرق الاوسط والمستجدات المحتملة - 1


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1107 - 2005 / 2 / 12 - 11:24
المحور: القضية الكردية
    


1 – ثمة حقيقة واقعة تفيد بامتداد جذور حالة الفوضى المتفشية في الشرق الأوسط إلى الماضي القديم. فالثنائية الكائنة بين الجذور الحضارية المتوغلة إلى آلاف السنين، وبين النظام الذي طبقته الحضارة الأوروبية خلال القرنين الأخيرين، لا تثمر الحلول، بل العقد الكأداء. فبينما تُطوِّر الحضارة الأوروبية أنظمة قابلة للتنفيذ والإحياء في كافة الثقافات الطبيعية، تبقى قاصرة عن النجاح في ذلك في الثقافة الطبيعية لمنطقة الشرق الأوسط. المشكلة ليست إقليمية هنا. ورغم الانتقادات الموجهة إلى أحاديث "هون تينغ تون Huntington" بشأن صراع الحضارات، إلا إنها واقعة ماثلة ببعض نواحيها. أي، هناك صراع بين الحضارات. لكنه ليس صراعاً بين الحضارتين الإسلامية والغربية. إن الحدث أعمق من ذلك وأشمل. فلو أطيح بالإسلام كلياً، سيبقى الصراع مستمراً في أساسه. نخص بالذكر هنا أن انفتاح علبة البندورا في العراق، وخروج كل السيئات منها؛ إنما يشير إلى تواري أشياء كثيرة في الأعماق. وأي محلِّل نبيه وحاذق لن يرى الصعوبة في الإدراك بأن ما برز إلى الميدان في مستنقع العراق يفضي إلى نتائج كثيرة؛ بدءاً من القول بخروج الحل التاريخي، أو عدم خروج أي شيء منه، وحتى بروز ضروب من العناصر والعوامل العصرية والاجتماعية التاريخية باسم الحل. والأطراف المتصارعة هنا، ليست كما يتم تصويرها بأنها صَدّام وبوش. بل هي أعداد غفيرة من الأنظمة المتداخلة فيما بينها. فالأنظمة المتكونة منذ العصور النيوليتية تسعى جميعها، وبكافة ألوانها الإثنية والدينية والجنسوية، إلى احتلال مكانها، أو البحث عن منفذ لها في إمبراطورية الفوضى التي تتزعمها أمريكا.
إن تحقيق التوازنات وإقامتها في الحروب العسكرية أمر مفهوم. أما في الحروب الحضارية، فمجرد تحديد تلك التوازنات أمر عسير. فمضمون الصراع هنا معقد ومتشابك. ونصيب الأسلحة العسكرية في الاستخدام محدود. أما المؤثرات المصيرية أساساً، فهي تحيا في النسج الذهنية والسياسية والاجتماعية. وقد تمر قرون بحالها حتى تبرز النتيجة المتوخاة. وقد تكون الحلول متعددة المستويات، بدءاً من الترميمات وحتى أكثر التغييرات راديكالية. يجب الانتباه إلى عامل الزمان أيضاً في تواجه النظامين. رغم أن منطقة الشرق الأوسط تقاوم عبر حضارتها الإسلاموية الأخيرة، إلا أن هذا ليس سوى مجرد تعبير رمزي. فالإسلام قد منح عطاءه ونتاجه الأعظمي في الفترة ما بين القرنين الثامن والثاني عشر. وما تبقى منه ليس سوى مجرد قشرة. لذا، لن يؤثر أبعد من قيمة اسمه الماضية. فهو خارج دائرة الزمان بدرجة يستحيل فيها إصلاحه. أما انبعاثه الحاصل في العقود الثلاثة الأخيرة، فهو مصطنع. فهذا الانبعاث بحد ذاته ضمن أوساط الحضارة الغربية، إنما يحصل بفضل الغرب، ولا يتسم بخاصياته العائدة له. لذا، فالمناوءة باسم الإسلام تعني قبول الهزيمة مسبقاً. هذا علاوة على أن القيم والإبداعات الذاتية للحضارة الأوروبية، هي أيضاً مصطنعة. فالسياسة والمساهمات الاجتماعية والاقتصادية تسبب العقم أكثر من الحل. وطراز إسرائيل يفتقر لوجود مكان ينفذ فيه المرء. كذلك الطراز الأفريقي غير ممكن. قد تتنازع الثقافات الأفريقية فيما بينها. لكنها لن تقدر سوى على السعي لتَقَبُّل أوروبا. بالتالي فإن فرص نجاحها أو اكتسابها المعنى في صراعها محدود للغاية. أما البلدان الباسيفيكية كالصين والهند واليابان، فقد تنقل النظام وتقتبسه بكل مهارة لتستنبط الدروس منه. فثقافاتها تجعل من الوفاق والوئام أكثر معنى ونجاحاً، بدلاً من المقاومة والتصدي. في حين قد تفلح البنية الثقافية لأمريكا اللاتينية في تأمين حياة قابلة للاستمرار – وإن بصعوبة – بخلاقيتها وإبداعها، باعتبارها عاشت مع النظام خمسة قرون بحالها. أما ثقافة الشرق الأوسط، فلا تشبه أياً منها. فالفوضى والعقم يفرضان ذاتهما، بدءاً من أنظمتها حتى فردياتها، ومن ذهنياتها حتى بناها الاقتصادية.
تشهد ذهنية الشرق الأوسط اعتلالاً تاماً في نظامها. وهي على مسافة بعيدة من الثورة الذهنية بالطراز الغربي. حيث لا ترى داعياً حتى للمرور بالنهضة والإصلاح والتنوير حسب شروطها الخاصة بها. لكنها بالمقابل لا تتوانى عن استهلاك آخر الموضات الناجمة عن ممارسات تلك المراحل على الصعيد العملي. حتى الذهنية التي تظن أنها عائدة لها، لا تعي كثيراً جذورها التاريخية أو سياق تطورها. وتفسير التاريخ بالنسبة لكل مجموعة، لا يعني أكثر من المديح الجاف المجدب. أي أن التاريخ بالنسبة للجماعات الذهنية عبارة عن مديح وثناء للذات، وتصنيف المناوئين لهم في لائحة الخصم اللدود. ولا يوجد طرف "آخر" ثالث. لا يخطر ببالهم قط التساؤل عن مدى موضوعية أو ذاتية هذه التفاسير. ومثلما لا مكان للتركيبة الجديدة بين القوالب الذهنية، فإن عادة التفكير حسب ثنائية "الأطروحة – الأطروحة المضادة" أيضاً لم تتطور بعد. لذا، فبراديغمائيتها أقرب إلى الأبيض والأسود. ثمة وجهة نظر إلى الطبيعة يغلب عليها الرأي الداكن السوداوي واليائس الفاني، عوضاً عن التفكير في النهضة أو حتى في الطبيعة الحيوية والحركية السائدة في العصور النيوليتية. وتغيب اليوتوبيا في وجهة نظرها إلى المجتمع أيضاً، بقدر ما تفنى عناصر الحِكمة الميثولوجية ولدينية الرائعة للتقاليد. أي أنها لا تتقرب بمواقف آملة وغبطة، لا إلى مستقبلها، ولا إلى ماضيها. ولدى غياب ذلك، ينعدم الإبداع والخلاقية.
لقد جفت الثمار العلمية والفلسفية والفنية للذهنية في الشرق الأوسط. ولم يبقَ لديها عزم واضح. من جانب آخر، لا يتناقص فيها الوسط الروحي الأنكى من الطيش والجنون. فقد زال وانمحى الاعتزاز بالماضي والأمل بالمستقبل منذ أمد بعيد. وابتعدت الذهنية عن إعطاء المعنى للحياة، فلم تعد ذات عزم في أي نشاط من أنشطة الحياة. حيث خَبَت جذوة حب التعلم والفهم فيها. أما النقطة التي تصرِف كل طاقاتها فيها، فهي إدارة يومها فقط وإنقاذه. لم تتطور أية كفاءة أبعد من النطاق المحلي (الأحباب جاويشية) البسيط، حتى في أكثر الميادين الاجتماعية شمولية. وترتكز كل الأشكال التنظيمية والحزبية إلى المركزية الأنانية المفرطة والغائرة. لأجل ذلك فهي ماكرة خبيثة للغاية، وتقوم بمجازر القيم. أما المأوى الأخير لها، فهو العائلية الرمزية التي ربما تتصدر لائحة الميادين الأكثر رجعية في الحياة، لافتقادها معناها منذ أمد غابر. ويغيب فيها حب الإنسان والإنسانية المثالية بأعماقه العميقة. إذ لا يوجد تعريف للإنسان أصلاً حتى تقدر على حبه ووده. حتى أعظم الوطنيين لديها يتحلون بمنفعية منسوجة بنسيج كثيف من المصالح. باختصار، لم يتبقَّ من عوالم الذهنية التاريخية للشرق الأوسط سوى نسيان كبير، وتَبَنٍّ جاهل، وافتقار تام للإبداع، وأخاديع مضلِّلة لا يمكن حتى تخيلها. ولا تتنازل أو حتى تليق بنفسها التفكير أو العمل على اكتساب الذهنية الأوروبية أو ذهنية الشرق الأقصى. بل ولا تفي قدرتها لذلك.
لن يكون بمقدور هذه التعاريف الذهنية، التي بإمكاننا التوسع فيها أكثر، أن تنوِّر أية ظاهرة أو حدث أو مرحلة، أو أن تحلها أو تسفر عن نتائج معينة، مهما انعكست عليها. فالانسداد يكمن في الذهنية ذاتها. وبالتحام بعض القوالب الذهنية، من قبيل الدين والقوموية والاشتراكية، مع هذه الذهنية؛ تفقد نوعيتها ومزاياها الحقيقية، لتتحول إلى وسائل عقيمة. هذا الوضع القائم في الذهنية قاصر عن تحقيق الحل بشأن أية مشكلة كانت. وانطلاقاً من طبيعتها المؤدية إلى افتقارها لقابلية تكوين تركيبة جديدة مع الذهنيات الأخرى، تفقد جميع أطروحات الحل ومشاريعها معناها قبل أن تُطرَح للنقاش. فهي لا تستطيع استيعابها من حيث المعنى، ولا حتى إعطاءها. بل وحتى لا يُعثَر على ذهنية قد تُشكِّل موضوعاً في "الثناء والإطراء للجنون" الذي كان شائعاً في أوروبا في وقت من الأوقات.
على الأقل كان هناك عشق أعمى في ذهنية ليلى ومجنون. أما الآن فلا أثر لأي عشق، حتى لو كان أعمى. والنتيجة هي، والانتحار (Nihilizm النهليستية أو العَدَمِيَّة: وجهة نظر تقول بأن القيم والمعتقدات التقليدية لا أساس لها من الصحة، وأن الوجود لا معنى له ولا غَناء فيه. كما تعتبر مذهباً ينكر أن يكون للمبادئ الأخلاقية أي أساس موضوعي. ومذهب يقول بأن الأحوال في المجتمع هي من السوء بمحل يجعل الهدم مرغوباً فيه لذاته، وبمعزل عن أي برنامج إنشائي. وهي برنامج تبنّاه أحد الأحزاب الروسية في القرن التاسع عشر، ودعا إلى الإصلاح الثوري واللجوء إلى الديكتاتورية وسياسة الاغتيال – المترجم). إنها المحطة الأخيرة لافتقار الوجود الإنساني معناه. وما بعد ذلك تأتي كل أنواع الطيش والتهور. وهي تحصل فعلاً. ففي أي بقعة من العالم يمكننا رؤية التهورات الحاصلة في الجغرافيا الممتدة من أفغانستان وحتى فاس؟ وإنْ وُجِدت، فكم تدوم؟ سيكون من النقصان تعليل الوضع القائم بالمصطلحات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الضيقة الآفاق. يتوارى المرض في الذهنية. ولا مفر من خوض صراع مرير من أجل مزية إضفاء المعنى على الأمور. ثمة حاجة ماسة لاتجاهات من قبيل "المولاناوية"، و"المانوية"، و"النورانية" العصرية؛ والتي طالما نصادف أمثلة لها في تاريخ الشرق الأوسط. فحتى الطرائقية المزيفة مريضة في ذهنيتها لدرجة، إنْ لم يتم تخطيها، فلن يكون بمستطاع أية قيمة مبجَّلة للتاريخ إبداء قدراتها. أما بالنسبة للذهنيات الأخرى الموجودة في هذا ا لعصر، فكمْ سيكون بإمكانها تقديم المساهمات، وهي بنفسها تمر من مآزق وأزمات مهمة؟ لهذه الأسباب بالذات، ثمة ضرورة مُلِحّة لإدراك معنى وأهمية الصراع الذهني، والنضال في سبيله، كإحدى الوظائف المرحلية الأولية.
جليٌّ بما لا يقبل الجدل أن التنوير الذهني الموفق يتطلب بالضرورة شروطاً تمهيدية تتمثل في الإلمام الشامل والجوهري بالتاريخ، بقدر بلوغ آفاق العلم والفلسفة العصرية. ليس هناك إمكانية لتكوين تركيبة جديدة ملتحمة بالتاريخ، ما لم يتم هضم العلم والفلسفة الغربيين. هذا العمل ليس من النوع الذي يمكن القيام به بضروب من الإسلاموية أو البوذاوية.
يتواجد في مرافعتي أيضاً صراع – ليس بأعمى – مع الذهنية الغربية، وإنْ كان على شكل مخطوطة. إنني أسعى بكل وسعي لأكون صادقاً وأميناً وجوهرياً. من المستحيل بالنسبة لي أن تروي الذهنية الغربية ظمأي أو أكتفي بها. حيث تتواجد فيها نقاط ضعف معنوياتية كبرى. لكنها بالمقابل تتسم بتعمق خارق في أغوار المعلوماتية العلمية. والجانب الذي طالما حسدته فيها هو الكفاءة في النجاح في ذلك. لهذا السبب فأنا أُقَدِّرُها. بالإضافة إلى ذلك، فإني واثق كل الثقة بأن مرضاً أو نقصاناً كبيراً لا يستهان به، ينبع من هذا الميدان. أنا مقتنع بأنه لا قيمة لها أبعد من كونها كالراهب العصري على الصعيد المعنوي والأخلاقي. ولا أظن أنهم قادرون على تقييم ودراسة نقاط ضعفهم هذه. فالتقرب بلا هوادة أو رحمة لدرجة يكادون يقضمون فيها الطبيعة والمجتمع ويبلعونهما، إنما يُرعِش الأبدان هلعاً. كان عليهم خلق القيم الأخلاقية أيضاً بقدر معارفهم. كيف تقبلت ضمائرهم وذهنياتهم المتنورة تعرية النظام من الأخلاق؟ مَن، أو ما الذي شل تأثيرهم؟ لربما اشترت السلطة ذممهم منذ زمن بعيد. فطبقة رجالات العلم صار لها أرباب أسوأ مما عليه أرباب العمال. إنها تابعة. هذا ما يسبب خيبتي فيهم ويأسي منهم. بيد أنهم كم كانوا مقاوِمين أشاوس أيام النهضة. كم سيكون بمقدورنا حضرنة "جيوردنو برونو"؟ وهل نستطيع مناداة "سقراط" ومحاكاته؟ لا يمكن لأحد الادعاء بزوال هذه الذهنيات العظمى.
يجب عدم الادعاء بذلك، بل إحياؤها. هذا ومن الضروري إحياء وإنعاش أمثال مولانا، منصور الحلاّج، ماني، والسحر وردي. ويجب عصرنة روح وجوهر كل من يتسم بالنبوة. علاوة على أنه يجب العيش بالإدراك بأنهم – بمعنى من المعاني – لم يموتوا، والعمل بالتالي على تجسيدهم. بمقدور هذه الحلقات الذهنية أن تُدنينا أكثر إلى الذهنية الحاضرة اللازمة لنا. وهنا بإمكاني فصل القيم النبيلة لعصرنا عن ذلك. لكن إنعاش المهزومة منها شر هزيمة، لن يترك آثاره الخلاقة بالشكل المطلوب.
إني منتبه كلياً، لدى تَوَلُّد الضرورة الحتمية للدفاع عن شعب، عن الشعب الكردي، وبالتالي عن كافة شعوب الشرق الأوسط؛ بأنه يمثل قوة جديدة، أو بالأحرى قوة محوِّلة ومغيِّرة. وأُدرِك يقيناً بأنه سيستمر في اللجوء إلى هذه القوة السياسية أو تلك، رغم أن ذلك لا يعني سوى العقم واللاحل. بالتالي، فإني متيقظ تماماً إلى أن كل مساندة على هذه الشاكلة ستغذي الضعف، ولن تسفر عن القوة. إذ، قد يكون بإمكانكَ تطوير الذهن عندما لا تلجأ إلى أي ملاك منقذ. وإذا كان بمقدوركَ تحمُّل الوحدة والعزلة، فقد تؤدي بك إلى الذهنية التي يحتاج إليها العصر. لقد تحامل كل نظام العالم عليَّ في أرضية الشرق الأوسط. ولا أهمية هنا إنْ كان حصل عن وعي أو تلقائياً. لكن السبيل الذي كان عليّ سلوكه هو خوض أعظم صراع ذهني، والتسلح بأشد المعنويات رسوخاً في الذهن؛ ما دام نظام الناتو مقابلي يشكل أكبر قوة عسكرية، وما دامت أمريكا وإنكلترا وإسرائيل واليونان المكّارة شاركت بالذات، وعن وعي تام، في إقحامي في عزلة عظمى تتميز بالعديد من الدوافع التي تستوجب أن تكون بهذه العظمة والدرجة المروِّعة. إن هذا الصراع والمعنوي هو القادر على لم شملهم هم أيضاً، وإنهاء الحروب المبتدئة في الشرق الأوسط بنجاح وتفوق لصالحه.
تشكِّل سلطة الدولة في الشرق الأوسط حجر عثرة حقيقي على درب الذهنية أيضاً، لِما تتسم به من دحضها للمبادرة المدنية المؤدية إلى انفتاح المجتمع. يسلِّط تعريفها التاريخي الضوء على حاضرنا أيضاً. كما أن ميزتها الاستبدادية لم تتغير كثيراً رغم مساعيها في استتارها تحت أقنعة عصرية كالقوموية والجمهورياتية والاشتراكياتية. هذا ولا ينبع سلوكها المتبع في غضون القرنين الأخيرين، من قوتها الذاتية. بل يلعب النزاع والخلاف الموجود داخل لغرب دوراً رئيسياً في ذلك. أما في القرن العشرين، فقد واصلت وجودها عبر حسابات توازناتها التي لعبت بها في التجربتين السوفييتية والفاشية. مع أنها في الحقيقة تعيش أكثر التوازنات هشاشة وتعرضاً للانكسار مع أحلاف السلطة الأساسية الموجودة في العالم. من هنا ينبع التعبير المطلق عليها في نعتها بالدولة العاصية (العاقّة) أو المهذارة. وبعد انهيار السوفييت تركت الهشاشة مكانها لأحلاف سلطات وحكومات السلطنة الأشبه بالأحلاف الجليدية السابحة في المحيط. إنها تشكل خطر حقيقياً بحالتها هذه. فقد تتمكن الأطراف الغالبة أو المغلوبة في الحروب، من إيجاد الحل في خضم توازنات جديدة. أما سلطة الشرق الأوسط، فتَعتَبر الانغلاق تجاه الحل بأنه فن السلطة الأولي. لربما تقوم بذلك تحت ذريعة المنافع الأكثر استبداداً. لكنها تطبقه بتمويهه جيداً بتسميته بأنه "المصلحة الوطنية العليا"، و"وحدة وتكامل الدولة والوطن"، و"سلامة المجتمع". في حين أن شعبها يتخبط في العقم السقيم، وتَحَوَّل الوطن إلى خراب وأطلال، وابتعد المجتمع والأمة عن السلامة والأمن. لكنها – مع ذلك – لا تبالي إطلاقاً. فالديماغوجية هي السلاح السياسي الفتّاك لديها. حيث طُوِّرت أكثر الأساليب الشعبية دقة وخفية تحت اسم الديمقراطية. واعتُقِد بأن مهارة الفن السياسي تكمن في مواراة الأمور الحقيقية التي تنشغل بها الدولة وتنهمك، عبر أفظع الأكاذيب والمخادعات. وعُرِف تبديد الشعب ونثره بين هذا المرمى وذاك ككرة القدم، بأنها أسلوب الإدارة الكفؤ.
لقد تحولت السياسة في واقع الشرق الأوسط الحالي إلى حقيقة سد الدروب بأمهر الأشكال، رغم أنها في حقيقتها تعني فن حل مشاكل المجتمع الحيوية والحياتية. وغدت لا تماثل في قيمتها حتى قيمة السياسة المتزمتة. فالفاشية مثلاً تأتي كحل ضمن ظروفها. أما في الشرق الأوسط، فثمة أشكال أقرب إلى أن تكون بدئية وبدائية، من أن تكون فاشية. يكمن سوء الطالع في أنها أطالت عمرها قرنين آخرين من الزمن بلا أي داعٍ، على خلفية حسابات التوازن، في النقطة التي وصلت فيها إلى الانهيار، والتي كان يجب فيها فعلاً أن تنهار وتتحطم. ولدى تعبئتها بالأساليب العسكرية والتكنولوجية المعاصرة، تحولت إلى لوياثان حقيقي.
تكمن الثيوقراطية في أساس الدولة (theocracy: الثيوقراطية: حكومة دينية، أو حكومة الكهنة، أو دولة خاضعة لحكم رجال الدين – المترجم). ولم تتخلَّ الدولة عنها في أي مرحلة من مراحلها. يجب رؤية الدولة الثيوقراطية في المضمون، لا الشكل. أي، من المهم رؤية المضمون الأيديولوجي الموجود في خميرة هذه الدولة المتنامية في أطراف معبد الراهب في منطقة الشرق الأوسط. حيث من الصعوبة بمكان حث الآلاف من الأشخاص أو تسخيرهم في خدمة المعبد على المدى الطويل بالعنف المحض، ومن دون أواصر الإقناع في الذهنية. من هنا تتأتى ضرورة المزية القدسية والإلهية للدولة. أي أن بناء الدولة وكيانها لا يمكن أن يكون متراصاً ومتيناً وطويل العمر، ما لم يعتمد على الذهنية الحاكمة ويكتسب مشروعيتها، سواء كانت مرتكزة إلى العقيدة الميثولوجية أم الدينية. كانت المخاوف الأساسية التي ساورت "العهد القديم" (الكتاب المقدس)، تتمثل في تأسيس دولة مغايرة للدولتين المصرية والسومرية، اللتين تقفان بكل هيبتهما وعظمتهما على طرفَي الاتجاه النازع إلى الاستحواذ على السلطة لدى القبائل العبرية، التي لعبت دوراً عظيماً في تكوين الدين التوحيدي. إنها نوع من أنواع الدعامة الأيديولوجية للمَلَكية العبرية. نخص بالذكر هنا الفصلَين المتعلقَين بـ"صاموئيل1" و"صاموئيل 2"، اللذين هما أشبه بمانيفستو تأسيس دولة يهوذا (دولة الإله). في حين أن الدين الزرادشتي هو المؤثر الديني المعيِّن والمصيري في أساس الإمبراطورية البرسية ـ الميدية. هذا وتُشكِّل المسيحية الجينةَ المشتركة لكافة الدول الأوروبية بعد عهد روما. أما الدولة الإسلامية، فهي الدين بعينه منذ لحظة ولادتها ونشوئها. كل دول العصور الوسطى الإسلامية تَعتِبر نفسها دولة دين، كشرط أولي لا غنى عنه. من جانب آخر، لا تزال الشيعية الإسلامية، التي حلت محل الزرادشتية هنا، تشكل الأيديولوجية الرسمية للدولة. والإسلام هو الأيدولوجية الرسمية ودين الدولة في كافة البلدان العربية. حتى جمهورية تركيا، التي تعلن عن ذاتها بأنها علمانية، تمتلك أوسع قطاع من الكوادر الدينية (أيديولوجية الإسلام السُّنّي الرسمية). أي أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي. باكستان وأفغانستان هما دولتان إسلاميتان رسمياً. كذلك إسرائيل هي دولة دين.
يظل إدعاء "الدولة العلمانية" زعماً طوباوياً، ما لم يمر من ثورة جذرية. حينها لا يمكن الحديث سوى عن دولة دينية، سواء كانت علنية أم مستترة. ولا يمكن للدولة أن تبلغ سمتها العلمانية الحقيقية، إلا عندما تتحول إلى مؤسسة معنية بالأمن العام والمصلحة العامة الضرورية، وتتطهر بالتالي وتتملص من حباكها وخصالها الدينية.
ثمة تدويل للمجتمع على نحو لا نظير له في أي نظام معاصر. فبقدر ما تُعَظَّم الدولة وتُضََخَّم على حساب المجتمع، تظن نفسها قوية بذاك القدر. حيث يُرى الأمن والقوة في الدولة التوتاليتارية، التي لا تنقص فيها أبداً صفات الدولة التقليدية المقدسة، الدولة الأم، والدولة الأب (أي، دولة الأسلاف). هكذا تحولت مقولة "الإطعام من الدولة" إلى تعبير كلاسيكي راسخ. تنهب الدولة من الأمة أولاً. ومن ثم تُظهِر نفسها كالمُحسن الذي يوزع الصَدقة على الشحاذ؛ لتغدو بذلك أخطر من أخطر النهّابين المختلسين. ما من سيئة يصعب القيام بها بالاعتماد على الدولة. لذا، فدوافعنا كثيرة في قولنا بأن الدولة الراهنة هي لوياثان حقيقي. لكن المؤلم في الأمر أن هذه الدولة تُعتَبَر باب الرزق والعمل الأساسي بالنسبة للشعب. أي أنه يتم انتظار كل الخدمات الحيوية والمصيرية الخالقة لكل شيء، من الدولة التي تجفف كل شيء وتنضبه.
من المستحيل التغلب على أية مشكلة اقتصادية أو اجتماعية، دون تحليل الدولة الشرق أوسطية. هذه الدولة بحالتها الراهنة، التي لا تشبه الدولة العليا للحضارة الديمقراطية التي َتوَجَّه الغرب صوبها، ولا تشبه أيضاً الدولة الفاشية العلنية وغير المستترة؛ إنما تشكل المنبع لكافة المشاكل. وإعادة بنائها مجدداً شرط مصيري. لا تكمن المشكلة في التصنيفات التي طالما تُطرَح في الميدان؛ من قبيل "الدولة الأحادية المركزية، المحلية، الفيدرالية". بل يتطلب الأمر الدولة اليقظة تجاه الحل. أو بأقل نسبة، يجب إخراج الدولة من كونها حجر عثرة على درب تحرير الفرد ودمقرطة المجتمع. أي يجب تنشيطها أيضاً إلى جانب تحجيمها.
علاوة على أنه يجب أن تتخلى عن كافة مؤسساتها وقواعدها وأحكامها الزائدة، فيما عدا الأمن العام والمصلحة العامة الحقيقية، والعقلانية. وبدون تطوير إصلاح الدولة على خلفية هذه الأسس، فإن أية مشكلة سيتم تناولها ومعالجتها، لن تتخلص من دفعها نحو العقم واللاحل، بسبب وجود الدولة الفظة والثقيلة والكسولة.
إننا الآن وجهاً لوجه أمام مشكلة سلطة دولة تفرض ذاتها بشكل أشد حدة من كل وقت مضى. تتمثل المهمة الأساسية في خلق إمكانية الحل أو الوفاق الديمقراطي المبدئي بصدد الدولة، دون الوقوع في مرض الدولة الديمقراطية الاجتماعية، أو التحررية الوطنية، أو الاشتراكية المشيدة، الذي كان شائعاً في الماضي القريب. ودون الوقوع أيضاً في مخادعات ومغالطات من قبيل الاستيلاء على الدولة ذاتها بالتساوم والوفاق معها، أو على الجديدة منها بهدم القديمة. من الضروري إدراج هذه المهمة في لائحة أهداف كافة العمليات السياسية. تُشكِّل النسج الاجتماعية في الشرق الأوسط الساحات التي تشهد الأزمة بأشد درجاتها وطأة وكثافة. كذلك تمر المؤسسات الإجتماعية، وعلى رأسها مؤسسة العائلة، العشيرة، المدينة، القرية، البطالة، الجماعة الدينية، المتنورون، الصحة، تدريب الجماهير وتعبئتها؛ بأكثر مراحلها تأزماً وعدمية (النهلستية). ويذكِّرنا البدن الإجتماعي المطوَّق من الأعلى بالأيديولوجية والسلطة الحاكمة، والمحاصَر بضغط اقتصاد لا يروي الظمأ ولا يلبي الحاجات من الأسفل؛ بالمريض المتورِّم البدين والهزيل الواهن في نفس الوقت. بالطبع، فهذا الهزل لا يشبه ذاك الهزل الحقيقي الموجود في أمريكا أو الأتحاد الأوروبي. بل هو أشبه بهزل الطفل الأفريقي المتورم البطن. حيث افتقر الناس لفعاليتهم ونشاطهم بنسبة كبيرة في هذه المؤسسات المكوِّنة للنسيج الإجتماعي. لم يعد لهذه المؤسسات أي دور ذي معنى. والمقاهي المتفشية في الأرجاء كافية لوحدها لإفهامنا بماهية الحقيقة. حيث تَحَوَّل الواقع المؤ سساتي، الذي يجب أن يكون وسيلة لتحول الفرد الاجتماعي وتطوير علاقاته الاجتماعية، إلى حالة أشبه بالفخ المنصوب لاصطياد الإنسان. يقود الافتقار إلى الصحة والعلاقات الاجتماعية، إلى مستوى أعلى من التردي والانحطاط والأزمات. وما "العربيسك" سوى فن مريض يعكس هذه الحقيقة. أي أنه ليس بنسيج اجتماعي آتٍ من الخارج. بالإضافة إلى أنه لم تتطور أية آلية دفاعية تجاه الهجمات المحتملة.
لأجل هذا تغيب التعبئة الذهينة والمعنوياتية اللازمة من الأوساط. هذا وقد ضمرت ردود فعل الثورة الإجتماعية بنسبة لا يستهان بها، بسبب تحديد الكيان الإجتماعي من قبل الكيان السياسي. يندر وجود نشاط اجتماعي تلقائي لا ينبع من الدولة أو السياسة الديماغوجية. أما العلاقات الاجتماعية، فيصعب عليها أن تنشط خارج نطاق التسيس والعزف على بوق الدولة. هكذا تم تعويدها. حيث يتم تفعيل المبدأ على النحو التالي: "الاقتصاد يضيِّق الخناق، والدولة تحث على الكلام". أما بحث المجتمع عن الحل ومساعيه بشأن المجتمع المدني على أساس مصالحه هو، فهي محدودة النطاق. بالمقدور مراقبة المأساة الاجتماعية التي يحددها العقم والظلم السياسيين، ضمن واقع المرأة بالأكثر. حيث يصعب التفكير في نمط حياة للمرأة خارج إطار كونها أسيرة التقاليد الدولتية والهرمية، الممتدة على طول خمس آلاف سنة. لا تنبع الصعوبة هنا من التقاليد وحسب. بل إن القيم الأنثوية التي أفرزتها الحضارة الأوروبية أيضاَ مدِّمرة في تأثيراتها، بقدر التقاليد الدوغمائية كأقل تقدير. حيث تدخل المرأة في أعقد حالات الحيرة والارتباك حقاً، من ذهولها إزاء ثقافة تصل حدود الإباحية من جهة، وثقافة تُلبِسها البرقع الأسود الداكن من جهة أخرى.
تُشكِّل المرأة الشرق أوسطية عاملاً مزيفاً أقدم من الدولة ذاتها. حيث قُلِبَت كل فضائل الأنوثة وجنس المرأة رأساً على عقب. وضُمِّنَت كل ما تمتلكه من مزايا تبعث على الفخر والاعتزاز والمشاطرة، ضمن هيمنة القانون الأخلاقي. وغدا النشاط الأولي والوحيد بالنسبة للمرأة المتحولة إلى أثمن مُلك للرجل الذي خرج من ذاته بسبب التقاليد الدينية، يتمثل في الطاعة المطلقة لرغبات رَجُلها. ما يمثله الإمبراطور بالنسبة للدولة، يمثله الرجل عموماً، والزوج خصوصاً بالنسبة للمرأة. أما القرار المشترك والوفاق مع المرأة، فهما عيب وعار في لغة الرجولة. في حين تجد التبعية العمياء غير المضبوطة بأي مبدأ تجاه الزوج، تعبيرها في الأخلاق بأنها الفضيلة المثلى. إن المرأة على مسافة شاسعة من أن تكون قادرة على الدفاع عن ذاتها بحرية بأنها هي أيضاً جسد وروح. كما وهُمِّشَت وسُلِبَت منها قواها من قِبَل النسج السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لدرجة باتت تبحث فيها عن رجل تتبعه بعبودية عمياء بكل مافي وسعها. لقد أُقحِمَت في حالة أنكى من الموت ذاته. وبما أن شقيقاتها من بنات جنسها يقبعن في الحالة نفسها، تكاد تنعدم النساء القادرات على فهمهن ووعدهن بحياة إنسانية حقة. يُفرَض هذا الواقع الثقافي المطوَّق على المرأة بالرضوخ الدائم، بحيث يصبح تحطمها وانكسارها أمراً أكيداً مهما قاومَت. اللهم إلا إذا فكرت في الانتحار! ومن بعدها تُسلَك جميع الأساليب الأنثوية الدنيئة الرزيلة، وتُدخَل تلك الأساليب في كل طرف فيها كإشارة تدل عليها. تُعَد الأنوثة بحق أصعب مهنة.
وبينما تمر فترة العزوبة والعذرية كما الطعام الشهي الممدود على مائدة الذئاب الجائعة، تنتهي فترة الأمومة بالآلام الأليمة التي لا تنضب، نتيجة عمليات الولادة المتكررة. وتتحول تنشئة كل طفل إلى عذاب جسيم بحق. علاوة على أن آمالها تخيب وتخبو في حياة لا تَعِد بأي أمل من أجل ذاك الطفل. هكذا تضاف آلام جديدة إلى آلامها المتكدسة. لذا، تتصدر حالة المرأة وموقعها الاجتماعي لائحة الممارسات المجحفة وعديمة الرحمة في منطقة الشرق الأوسط. وتتحقق عبودية الشعوب أولاً في المرأة.
إن القول بأن واقع المرأة يحدِّد الواقع الاجتماعي بنسبة كبرى، هو اقتراح صائب. تُشكِّل الذكورة المفرطة والأنوثة المفرطة ثنائية (قريناً) جدلية في المجتمع الشرق أوسطي. وما يرجع إلى الرجل من هذا النمط من العلاقات، ليس سوى خصائص مضادة تتمثل في الرجولة المهيمنة الجوفاء. حيث يعكس الرجل الهيمنة التي تطبقها السلطة عليه، على المرأة، لتعكسها هي بدورها على الأطفال. بالتالي تكتمل فاعلية الهيمنة من الأعلى نحو الأسفل. يسفر مستوى عبودية المرأة في هذه الآلية عن أكثر الظروف سلبية وسوءاً. أي أنه يطِّور على الدوام من مستوى عبودية المجتمع. هكذا يصبح بإمكان حزام السلطة الأعلى توجيه المجتمع الأنثوي المتولد، بكل سهولة. أما المرأة، ورغم الظلم القاسي المفروض عليها رغماً عن إرادتها؛ فقد تحولت إلى وسيلة لتطبيق الظلم الأكبر على المجتمع أيضاً. جلي كل الجلاء مدى الصعوبة التي يلاقيها الشرق الأوسط من الداخل، بسبب العلاقات المفروضة على المرأة، بقدر الصعوبات الناجمة عن العلاقات الخارجية المفروضة عليه، والمقحِمة إياه في الاستسلام والخنوع.
انطلاقاً من هذه البواعث، فإن فرصة أي حركة في بلوغ المجتمع الجوهري والحر الراسخ، تكون محدودة ما لم تعتمد على عملية حرية المرأة. وعجز التقربات المنادية ببلوغ السلطة والاشتراكية والتحرر الوطني وغيرها أولاً، عن الوفاء بوعودها وتحقيق المراد؛ إنما يَمُتّ بِصِلة بهذه الحقيقة. يشكل نضال حرية المرأة مضمون المساواة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان العامة، والتي تتجاوز إلى حد كبير إطار المساواة الجنسية.
تتمثل الخطوة الأولى الواجب خطوها على درب حرية المرأة في إيصالها إلى حالة القوة العملياتية الجوهرية، والابتعاد عن المواقف التملكية المفروضة عليها. فتقربات العشق الدارجة كالموضة، والمشحونة بعواطف المُلكية، تحمل بين ثناياها العديد من المخاطر والمهالك. العشق في المجتمع الذي تشيع فيه التقاليد الهرمية والدولتية، هو عبارة عن أفظع المغالطات والمخادعات. وهو العامل المؤثر في مواراة الذنوب المقتَرفة. يمر تقدير المرأة واحترامها، ومؤازرة حريتها أولاً من الاعتراف بالواقع المعاش، ومن إبداء الصدق والأمانة الحقيقيين في تجاوزه لصالح الحرية. حيث لا يمكن لرجل أن يتمتع بقيم الحرية السليمة، ما دام يُحُيي رجولته المهيمنة ـ أياً كان اسمها ـ في المرأة. ولربما كان تأمين تعزيز المرأة وتقويتها من الناحية الجسدية والروحية والذهنية، هو أثمن المحاولات والمساعي الثورية. أما إيصال المرأة إلى قوة إعطاء القرار وتحديد الاختيار باستقلالية وحرية على خلفية القيم الاجتماعية المتطورة، والمساهمة في ذلك؛ يتطلب بسالة حقيقية في الحرية، ضمن ثقافة الشرق الأوسط التي كانت نواة قوة الإلهة الأم في وقت من الأوقات.
تتسم مرتبة الظاهرة الاقتصادية ضمن الواقع الذهني والسلطوي والاجتماعي العام السائد إكمالها للتكامل الإجتماعي. أما الاقتصاد الليبرالي، فلا مكان له بين التقاليد والحاضر. حيث يمنح إمكانية تحول الدولة إلى أكبر دولة احتكارية تُسَيِّر الاقتصاد تماشياً مع السلطة السياسية. وبينما يُحدِّد الاقتصادُ السلطة نسبياً في الحضارة الغربية، نرى أن السلطة هي المحدِّد الأصلي في اقتصاد الشرق الاوسط. أما القوانين التي تُعَتبَر خاصة بالاقتصاد، فتتفعَّل كثيراً في الثقافة الطبيعية (الجيوثقافة) للمنطقة. فهناك اقتصاد العائلة المنزلية الصغيرة، المتبقي من العهد النيوليتي من جهة، واقتصاد الدولة من الجهة الثانية. أما فيما بينهما، فيتواجد الحِرَفيون والتجار التابعون للدولة. لا تجد الطبقة الوسطى فرصتها في التأثير على الدولة والسياسة إلا بحدود، إعتماداً على قوتها الاقتصادية. لا يمكن إدارة وتسيير شؤون الدولة دون الاقتصاد، باعتباره المنبع الذي لا غنى عنه إدارياً. لن يقل تأثير الدولة الشرق أوسطية على الاقتصاد، إلا بإعادة بنائه كلياً حسب النموذج الغربي. توضح هذه الحقيقة الشائعة في المجال الاقتصادي بسطوع معنى مصطلح "الدولة التجارية" الدارج على مر التاريخ. أما اندلاع العديد من الحروب اعتماداً على الطرق التجارية، وانهزام العديد الآخر منها بمجرد انقطاع تلك الطرق عنها؛ فهو منوط بالسمات الاقتصادية. فبينما حققت الدولة الغربية تطورها الأصلي بالاعتماد على تكديس رأس المال وعلى التصنيع؛ قامت الدولة الشرقية بتحقيقه عن طريق التجارة وعمليات الاستيلاء والسمسرة. حيث تُسخِّر القيم التي جمعتها في شؤون إدارة الدولة، عوضاً عن الاعتماد في ذلك على التراكم والصناعة. بل حتى إنها ترى كل شيء عائد للمجتمع والوطن، وكل الموارد الباطنية والظاهرية، والإنسان ذاته؛ بأنه مُلك لها، فتقوم ببيعه سالكة بذلك أقدم دروب المكر السياسي. إنه أشبه بأسلوب توزيع الناهب المختلس للصدقات.
بناء على هذه التعاريف؛ لايمكن تحقيق التطور الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، إلا بانهيار الوضع القائم في المجتمع. أما اتحاده مع الاقتصاد العالمي، فهو صعب المنال في ظل بنية الدولة الحالية. هذا ومن العسير على البنية الاقتصادية للنظام الوالج في حالة تامة من الأزمة والفوضى، أن تَحُول دون انهيار المجتمع المتسارع، بحالتها الموجودة. بالأصل، تنبع ولادة الحاجة لسلوك الأساليب الاستبدادية الأكثر قساوة، من ضرورة إيقاف هذا الانهيار الحاصل.
لهذه الأسباب بالذات ساند النظام الغربي الاستبدادَ لمدة طويلة. نخص بالذكرهنا مآربه في أخذ حصة الأسد من الغنى النفطي الموجودة، وفي إعاقة الحركات التي بمقدورها مضايقة النظام القائم. لكن هذا الأسلوب يَدُرُّ بالضرر أكثر من الربح في راهننا. فبينما تؤدي فاقة الجماهير المفرطة إلى انخفاض مستوى الطلب، تصل بوجود هذا النظام إلى حالة يفقد فيها معناه. تُوضِّح المجريات الحاصلة في أطراف النظام العراقي، هذه الآلية بكل جلاء. فبينما يصبح ضبط ومراقبة الجماهير التي انخفضت قدرة الطلب لديها أمراً صعباً، تدخل بنية الدولة المستبدة في حالة تشكل فيها عائقاً جدياً أمام النظام العالمي. ويشكل الانحصار من كلا الطرفين الأرضية المادية لمشروع الشرق الأوسط الكبير، المطروح إلى الميدان.
باختصار، وصل الوضع الراهن في الشرق الأوسط إلى حالة يمكنه الاستمرار فيها. لقد تمكن من إطالة عمره قرناً من الزمن، بالإعتماد على سياسة التوازنات التي خلقتها ألمانيا الفاشية وروسيا السوفييتية. أما انهيار كلا هذين النظامين، فقد حَدَّ من نطاق سياسة التوازنات الجديدة بدرجة عليا. أما الثنائيات من قبيل أمريكا ـ الإتحاد الأوروبي، وأمريكا ـ الصين؛ فهي لن تسمح بألعوبة جديدة من التوازنات. ولنفس الأسباب لا تتسم مساعي التعاضد الأخيرة التي تتزعمها تركيا، بإمكانيات التطور. حقيقةُ، تُشكِّل أحلاف السلطة التي لم تلتحق بالنظام السائد ضمن مقاييس مقبولة، أخطر ساحات عالمنا الراهن، بقدر تميزها بالحيوية والديناميكية. حيث وصلت أحلاف السلطة، التي لا تسمح أبداً بتحرر الفرد أو دمقرطة المجتمع؛ حدوداً لا يمكن للنظام العالمي الحاكم أن يقبلها.
فرضت أمريكا ـ التي تتزعم إمبراطورية وحلف الفوضى ـ ضرباً من الحرب العالمية الثالثة، باحتلالها للعراق وأفغانستان، وعلى نحو يطابق دخولها في الحربين العالميتين. وبينما يُحَثّ الناتو على التوجه نحو المنطقة، تُبْذَل المساعي من الجهة المقابلة لتحيي وشل تأثير القوى المهمة كالصين والهند وروسيا، ولتأمين الحل والخروج من الفوضى عبر مشروع الشرق الأوسط الكبير. لكن ـ وبالمقابل ـ ثمة حلول ديمقراطية حرة متساوية بارزة يمكن أن تشكل الخيارات التي تفضلها الشعوب.
ساطع كلياً أننا نمر بمرحلة فوضى. وقد شهدنا مراحل مشابهة لها في الحربين العالميتين أيضاً. وقد أدت الاتحادات السوفييتية في الأولى منها، وألمانيا الفاشية في الثانية منها، إلى تكوين أحلاف السلطة المختلة أثناء خروجهما من مرحلة الفوضى. أما الدول المتمخضة من بقايا الإمبراطوريتين العظيمتين ـ العثمانية والإيرانية ـ برمتها؛ فكانت عاجزة عن الجزم بالنظام السوفييتي والنظام الغربي الكلاسيكي على السواء. بل تمكنت من الوصول بوجودها حتى أعوام التسعينات بالاستفادة ـ فقط ـ من توازنات القوى بين الأنظمة الموجودة. ومع اختلال التوازنات بانهيار السوفييتات، زادت أجزاء السلطة من مهذاريتها وثرثرتها. كان من المحال عليها الاقتراب بهذا النحو من النظام العالمي الجديد الحاكم. لهذا السبب لجأت أمريكا إلى دخول المنطقة بالائتلاف. فحالة الأزمة والتجزئة داخل النظام تتسم بكونها فوضى متفشية بكل معنى الكلمة في عموم المنطقة. لذلك، لا يمكن إهمال أو إغفال تشبيهها بالحرب العالمية الثالثة ضمن شروطها الخاصة بها. في الحقيقة، ثمة ائتلاف معني بالحسابات المتبقية والعالقة منذ بُعَيد الحربين العالميتين الأولى والثانية. فطرحُ الانظمة الاستبدادية الجديدة إلى الميدان، لا يتناغم ولا ينسجم مع منطق العولة. والنظام مُجبَر على الانفتاح أمام حشود الشعب الغفيرة وطلباتها، لا أمام أحلاف الدول. هذا ما يتطلب بدوره أخذ النصيب الوافي من التعددية والتنوع، ومن الديمقراطية. هل يمكن أن يتواجد طَور جديد في طور الإمبريالية؟ كم هي مدى واقعية شعار "الإمبريالية الديمقراطية" ( ضمن مقاييس النظام السائد)؟ هل ثمة خيارات أخرى؟ ماذا علينا أن نفهم من مصطلحَي"الإسلام المعتدل" و"أنموذج تركيا"؟ كم بالإمكان أقلمة وملاءمة النماذج الغربية الديمقراطية؟
مقابل ذلك؛ ماذا تعني العولمة الاجتماعية الديمقراطية بالنسبة للمنطقة، بعد أن باشرت بإصدار صوتها والجهر به ـ ولو بشكل هزيل ـ مع اجتماعات بروتوآللاغرا؟ هل يمكن التخطيط لفيدرالية الشرق الأوسط الديمقراطي على شكل يوتوبيا واقعية؟ أبمقدور الفيدرالية العراقية الديمقراطية أن تكون أنموذجاً مصغراً لهذا الإتجاه؟ من هنا، ثمة الكثير من الأعمال التي تقع على كاهل علم الاجتماع والأخلاق في هذه المراحل من التاريخ. حيث يتميز علم الاجتماع الخارج عن دائرة احتكار "السلطة ـ المعرفة"، والمتجاسر على تكوين علمه الذاتي الخاص به؛ بأهمية مصيرية من أجل صياغة الحلول المثمرة في الخروج من الفوضى. أي ثمة حاجة ماسة لتكوين وبناء علم اجتماع جديد أولاً، بغرض بناء مجتمع أيكولوجي، أكثر ديمقراطية، ويتميز بسيادة الحرية الجنسية فيه. ما نسعى للقيام به هنا هو رسم مخطط لهذا العمل النبيل والباعث على الحماس والنشوة.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط ، وا ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني 3- العودة الى الأيكولوجيا الاجتما ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني -2 تحرير الجنسوية الاجتماعية
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع) بصدد ال ...
- الدفاع عن الشعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع )بصدد ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع) بصدد ال ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع)بصدد الم ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية(مشاريع) بصدد الم ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...


المزيد.....




- عائلات الأسرى تتظاهر أمام منزل غانتس ونتنياهو متهم بعرقلة صف ...
- منظمة العفو الدولية تدعو للإفراج عن معارض مسجون في تونس بدأ ...
- ما حدود تغير موقف الدول المانحة بعد تقرير حول الأونروا ؟
- الاحتلال يشن حملة اعتقالات بالضفة ويحمي اقتحامات المستوطنين ...
- المفوض الأممي لحقوق الإنسان يعرب عن قلقه إزاء تصاعد العنف فى ...
- الأونروا: وفاة طفلين في غزة بسبب ارتفاع درجات الحرارة مع تفا ...
- ممثلية إيران: القمع لن يُسكت المدافعين عن حقوق الإنسان
- الأمم المتحدة: رفع ملايين الأطنان من أنقاض المباني في غزة قد ...
- الأمم المتحدة تغلق ملف الاتهامات الإسرائيلية لأونروا بسبب غي ...
- کنعاني: لا يتمتع المسؤولون الأميركان بكفاءة أخلاقية للتعليق ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والحلول المحتملة ب- الوضع الراهن في الشرق الاوسط والمستجدات المحتملة - 1