أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - جليل شيعان ضمد - الدينار العراقي بين مزاد البنك المركزي وأستنزاف ألأحتياطات ووهم تثبيت سعر الصرف















المزيد.....



الدينار العراقي بين مزاد البنك المركزي وأستنزاف ألأحتياطات ووهم تثبيت سعر الصرف


جليل شيعان ضمد

الحوار المتمدن-العدد: 3725 - 2012 / 5 / 12 - 10:42
المحور: الادارة و الاقتصاد
    




المقدمة :
خلال الأشهر الثلاث الأخيرة وبشكل مفاجئ بدأ سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار يتعرض الى ضغوط كبيرة مسجلا مايقارب 1320 دينار لكل دولار بعد أن كان مستقرا ولمدة طويلة عند مستوى 1170 دينار. أثار هذا الحدث الكثير من التساؤلات العلمية الموضوعية ، التي سبق وأن أثيرت في المؤتمرات والندوات العلمية (وحتى الصحافة) من قبل معظم المختصين في هذا الشأن ، حول مدى كفاءة وفاعلية السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي العراقي منذ 2003 وحتى الآن في تحقيق أهدافها المعلنة في الأستقرار الأقتصادي وفي المساهمة الفعالة في تحقيق التنمية .هذه التساؤلات التي غالبا ما كانت تجابه من قبل عرابي هذه السياسة بالتجاهل . الآن وقد وقع المحظور وما كان متوقعا منذ مدة طويلة في عدم صمود الأستقرار المفتعل لسعر صرف الدينار ، والذي اعتبر خلال المدة الماضية من قبل البنك المركزي ومن قبل البعض (غير المتخصصين ) كمؤشر نجاح للسياسة النقدية ، فقد آن الأوان لأعادة النظر في رسم هذه السياسة القاصرة غير الفاعلة لجعلها تتناغم مع شقيقاتها الأخرى وخاصة السياسة المالية ضمن اطار السياسة الأقتصادية التي يفترض أن يكون مقياس نجاحها الأول والأخير تحقيق التنمية البشرية المستدامة .
أولا – الأهداف الخاطئة :
يعلن البنك المركزي العراقي باستمرار أن هدف سياسته النقدية هوتحقيق الأستقرار الأقتصادي الذي يعني بمفهومه أستقرار المستوى العام للأسعار ومعالجة التضخم بأستخدام وسيلة أساسية تتمثل بأستقرار سعر صرف الدينار عن طريق الأحتفاظ بأحتياطات أجنبية وخاصة الدولار بنسبة 100% مقابل العملة المصدرة التي تشكل القاعدة النقدية ( M0 )، وبالتالي أستعداده الدائم لتحويل الدينار الى ما يقابله من دولار بسعر صرف ثابت . علما أن المصدر الوحيد تقريبا لهذه الدولارات هو عائدات الدولة من الصادرات النفطية التي تشكل أكثر من 95% من صادرات العراق وموازنته العامة كما تشكل أكثر من 80% من أجمالي ناتجه المحلي .

صفحة 2

أن تحديد هدف السياسة النقدية ( الأستقرار الأقتصادي والحد من التضخم ) وطريقة الوصول أليه ( أستقرار سعر الصرف ) عن طريق ( الأحتفاظ بنسبة 100% من الأحتياطيات الأجنبية) بهذا الشكل من قبل البنك المركزي العراقي أثار ويثير جملة تساؤلات وأفتراضات تستحق المناقشة يمكن تلخيصها فيما يلي :

1 – الأستقرار الأقتصادي وسعر الصرف : أذا كان هدف الأستقرار الأقتصادي بمفهوم أستقرار المستوى العام للأسعار ومكافحة التضخم عن طريق تثبيت سعر الصرف يمكن أن يكون أحد أهم أهداف السياسة النقدية ، جنبا الى جنب مع هدف مكافحة البطالة ، قد يكون مفهوما ومبررا من الناحية الأقتصادية في الدول المتقدمة التي تعاني من الركود الأقتصادي وطاقة أنتاجية معطلة وقصور في الطلب الفعال ( أي أن لديها مشكلة طلب فعال ) ، فهل يصح أن يكون هدف السياسة النقدية في الدول النامية كالعراق هو الأستقرار الأقتصادي بهذا المفهوم رغم أنه يعاني من تخلف شديد في كل المجالات بمؤشرات التنمية البشرية المستدامة ورغم أنه يعاني بشكل مزمن من أختلالات هيكلية متنوعة لعل أهمها الأختلالات الأقتصادية مع قصور واضح في مختلف قطاعاته الأنتاجية وفرص العمل (أي أن لديه مشكلة عرض ) ؟
أن الهدف ألأساس للسياسة االأقتصادية بكل فروعها بما فيها السياسة النقدية، من الناحية الموضوعية في الدول النامية ، يفترض أن يكون تحقيق التنمية البشرية المستدامة بكل مؤشراتها . وبمعنى آخر أن السياسة النقدية وهي تنسق أهدافها الجزئية ضمن خصوصياتها النقدية المتعلقة بالطلب والعرض النقدي والأحتياطات الأجنبية وأسعار الفائدة وأسعار الصرف وغيرها من الأدوات النقدية ، لابد وأن يكون كل ذلك بما ينسجم مع تحقيق الهدف التنموي للسياسة الأقتصادية ، وبما ينسجم مع أهداف أهم فروعها : السياسة المالية .
أن أختصار أهداف السياسة النقدية بهدف الأستقرار الأقتصادي وفق مفهوم البنك المركزي العراقي المتمثل بأستقرار المستوى العام للأسعار المرتبط بأستقرار سعر صرف الدينار مقابل الدولار عن طريق الأحتفاظ بغطاء كامل للعملة من الأحتياطيات الأجنبية، والأستعداد التام لتلبية جميع طلبات تحويل الدينار الى الدولار سوف يفقد البنك المركزي وسياسته النقدية أهم وظائفها في المساهمة الجادة والتناغم مع السياسات الأخرى في تحقيق الهدف التنموي المركزي من ناحية ، كما يضحي من الناحية الأخرى بأدارة وأستخدام أدوات السياسة النقدية الأخرى، كسعر الخصم وسعرالفائدة وعمليات السوق المفتوحة ( على محدوديتها ) ونسبة الأحتياطي القانوني وأدارة الأئتمان والأحتياطات الأجنبية وكل ما يؤثر على العرض والطلب النقدي ، في المساهمة الفاعلة لتحقيق هذا الهدف التنموي.



صفحة 3
2– التضخم والتنمية : أفتراض أن أستقرار المستوى العام للأسعار وتحجيم التضخم يوفر بيئة مناسبة وضرورية لتحقيق التنمية . ورغم أن هذا الأفتراض يمكن أن يكون صحيحا في الدول المتقدمة الأ أنه قد لايكون كذلك بالضرورة في الدول النامية ومنها العراق . بل يمكن التضحية بهذا الهدف في حدود معينة لتحقيق الهدف المركزي التنمية . فأضافة الى أن شيئ من التضخم أو نسبة معتدلة منه يمكن أن تكون ضرورية لتحفيز المزيد من الأستثمار ، فأنه قد يكون مدروسا ومخططا له كوسيلة تمويلية مهمة وضرورية بشكل أصدار نقدي جديد ، لأنه في التحليل النهائي يمثل ضريبة غير مباشرة على جميع أفراد المجتمع . وفي مثل هذه الحالة يمكن بل ويجب معادلة آثاره السلبية المحتملة على الفئات الفقيرة بمختلف سياسات الدعم والتعقيم .

3– ألأستقرار الأقتصادي والتضخم : ما هو مفهوم الأستقرار الأقتصادي الحقيقي ؟ هل هو الحد من التضخم ؟ وهل التضخم ظاهرة نقدية في الدول النامية مرتبط بجانب الطلب يمكن معالجته بسياسة نقدية أنكماشية ؟
أن أساس مشكلة التضخم في الدول النامية ومن ضمنها العراق متعلق بشحة جانب العرض السلعي الذي مصدره في الغالب الأستيرادات . فالتضخم أذن ، وخاصة في العراق ، هو تضخم مستورد مرتبط بالتكاليف مترافق مع تدهورفي الأنتاج المحلي وأنخفاض أهميته النسبية في توليد الناتج المحلي الأجمالي بشكل مستمر وخاصة في القطاعات السلعية الحيوية الزراعية والصناعية لأنعدام جهود التنمية الحقيقية . فالسياسة النقدية ، كما جميع السياسات الفرعية الأخرى وخاصة السياسة المالية ، يفترض أن يكون هدفها الأساس التنمية الحقيقية (بمفهوم التنمية البشرية المستدامة ) الذي لا هدف غيره ، وتستخدم جميع أدواتها بشكل فعال للمشاركة في تحقيق هذا الهدف .
فالعلاج يكمن في تطوير القطاعات السلعية الأساسية وخاصة الزراعية والصناعية وتطوير القطاعات الخدمية الحيوية من أسكان ونقل وكهرباء وماء وصرف صحي وتعليم وصحة التي بدورها تولد دخولا تتناسب مع مخرجاتها لتحقيق المفهوم الحقيقي للأستقرار والتوازن الأقتصادي . وفي حالة وجود عدم توازن أو خلل في الجوانب السلعية والمالية ، وهي حالة حتمية في المراحل الأولى للتنمية ، فالأقتصاديون لايعدمون الوسائل والأدوات الأقتصادية العديدة لمعالجة ذلك والتي من ضمنها أدارة سعر الصرف ( وليس تثبيته ) بما يتناسب مع المتاح من الأحتياطات الأجنبية .




صفحة 4
4– وهم تثبيت سعر الصرف والدولار : لنفترض مجاراة البنك المركزي العراقي في أعتماده على سياسة نقدية ترتكز على تثبيت سعر صرف الدينار العراقي كوسيلة فعالة للأستقرار الأقتصادي والحد من التضخم بأعتبار أن الأستيرادات مصدر أغلب المعروض السلعي في الأقتصاد العراقي والتي تقدر بما يقارب (50) مليار دولار كمعدل سنويا . السؤال الآن : ماهو مفهوم تثبيت سعر صرف الدينار وكيف يمكن تحقيق ذلك من وجهة نظر البنك المركزي ؟ في حقيقة الأمر يعتمد الأخير على مفهوم قاصر للتثبيت لأنه يرتكز على تثبيت سعر صرف الدينار تجاه الدولار فقط . ومن الواضح أن التثبيت الفعال لسعر الصرف للحد من التضخم المستورد ( على أفتراض صحته ) يفترض أن يكون تثبيتا تجاه عملات أهم الشركاء التجاريين للعراق مثل اليورو والجنيه الأسترليني والين وليس فقط تجاه الدولار لأن أستيرادات العراق من الولايات المتحدة الأمريكية لاتشكل الأ جزء بسيط من أجمالي أستيراداته من دول العالم ، وبالتالي فالتثبيت تجاه الدولار لمعالجة أجمالي التضخم المستورد لا يتحقق الا بهذه النسبة البسيطة .
وكما هو معروف فأن الدولار فقد أكثر من 50% من قيمته مقابل العملات الرئيسية منذ تخلي الولايات المتحدة الأمريكية ومن طرف واحد عن ألتزاماتها الدولية في تحويل دولاراتها الى ذهب بموجب أتفاقات برتن وودز، أضافة الى عامل التضخم في أقتصادها ، ولازالت حالة الدولار في تدهور مستمر نتيجة تتابع الركود والأزمات التي تحيط بأقتصادها وخاصة الأزمة المالية والأقتصادية الأخيرة التي أبتدأت منذ عام 2008 ولا زالت مستمرة الى الآن . وعليه فسياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار لايحل مشكلة التضخم بل يفاقمها . ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحاول أن تعالج أزماتها الأقتصادية تعتمد مجموعة سياسات من ضمنها سياسة التخفيض المستمر لسعر صرف الدولار تجاه العملات الرئيسية ضمن أطار ما أصطلح على تسميته ((حرب العملات)) ، وتحاول جاهدة أن تضغط بأستمرار وخاصة على الصين لكونها الشريك التجاري الأبرز لرفع سعر صرف اليوان لمعالجة عجز ميزانها التجاري . وهي بهذه السياسة تعرض الدول النامية بشكل عام ومنها العراق التي تثبت سعر صرف عملتها مقابل الدولار الى ضرر بالغ لكون الصين شريك تجاري مهم لهذه الدول أيضا ، مما يضعف بشكل أكبر تأثير سياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار في تحجيم التضخم ، وهي السياسة التي طبقها البنك المركزي العراقي ، رافعا شعارها بل ومتفاخرا بها منذ 2003 حتي ألآن ، رغم محدودية تأثيرها في تحقيق أهداف هذه السياسة ذاتها التي تم أختصارها كما أشرنا أعلاه بتخفيف الضغوط التضخمية ، وأن نجحت الى حد ما في المراحل الأولى في تخفيض التضخم فقد تحقق ذلك على حساب أٍستنزاف الأحتياطات الأجنبية الحيوية ، التي مصدرها الأساس مورد ناضب ، لتحقيق التنمية ولم تؤد سوى الى الأستقرار عند مستوى التخلف .


صفحة 5
ثانيا : البنك المركزي العراقي والمزاد والصَراف الآلي :
ترتكز السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي العراقي منذ 2003 على فكرة مركزية تتعلق بوظيفة الأحتياطات الأجنبية التي تنحصر في هدف واحد أوحد هو تلبية جميع طلبات تحويل الدينار العراقي الى ما يقابله من دولار ، وأن هذه الأحتياطات تمثل حقوقا لحاملي الدينار العراقي . وقد أستتبع ذلك أن تقتصر وظيفة البنك المركزي على القيام بهذه المبادلة بين الدينار والدولار عن طريق ما أصطلح على تسميته خطأ ((مزاد العملة )) - لأن المزاد يعني تقديم عروض تتزايد في القيمة لشراء الدولارات من قبل المشترين الذي يفترض أن يكونوا في حالة تنافس على الشراء ، لكننا نشاهد أن جميع المشترين ليسوا في حالة تنافس بل مشترين فقط وبأي كمية يرغبون وبسعر واحد مثبت من قبل البنك المركزي . أن هذا الفهم لدور الأحتياطات الأجنبية جرد البنك المركزي وسياسته النقدية من وظائفها وأهدافها الحيوية في المساهمة الفعالة مع السياسات الأقتصادية الأخرى في تعزيز جهود التنمية ، وأحاله الى ما يشبه (( الصراف ألآلي )) . فالسياسة النقدية أضحت مجرد أستجابة لطلبات تحويل الدينار العراقي الى الدولار ولا شئ غير ذلك . ومع أتباع سياسة تثبيت سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار، أضافة الى عدم وجود قيود حقيقية على التحويل الخارجي ، أصبحت هذه السياسة وسيلة سهلة لتسرب الأحتياطات الأجنبية المتراكمة ووسيلة لهروب وغسيل الأموال ، رغم الأهمية الحيوية لهذه الأحتياطات للأقتصاد العراقي في تحقيق تنميته .

أن الأدارة الكفوءة للأحتياطات الأجنبية تتطلب تحقيق أقصى العوائد والمنافع المالية والأقتصادية وأقل مايمكن من خسائر ومخاطر وتسربات لهذا المورد الحيوي، هي في صلب وظائف وواجبات البنك المركزي والسياسة النقدية . لاسيما وأن مصدر هذه الأحتياطات الأجنبية ، كما هي حالة العراق ، لم يكن أقتصاد متطور ولا طاقات أنتاجية مستدامة حقيقية ، بل أن مصدرها الوحيد عملية أستخراج وتصديرالنفط . وهذه العملية ليست عملية أنتاج حقيقي بالمعنى الأقتصادي الدقيق ، بل هي مجرد عملية (( تسييل للثروة )) أي عملية أستهلاك لمصدر ناضب لا بد من تعويضه بمصدر متجدد . وعليه لابد من أستخراج النفط وتصديره بمقدار تحدده المتطلبات التنموية وبالتالي لابد من أدارة الأحتياطات الأجنبية وأدارة سعر الصرف بما يتلائم مع هذه المتطلبات . ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذا الموضوع الحيوي للأقتصاد العراقي بشكل تفصيلي بقدر مايهمنا التأكيد على الأستخدام الأمثل للأحتياطات الأجنبية بما يحقق الأهداف التنموية وخاصة في ظل ظروف العراق الأقتصادية والأجتماعية والسياسية الحالية .
وهنا لابد أن نؤكد على حقيقة أقتصادية ثابتة تبدو غائبة عن راسم السياسة النقدية في


صفحة 6
العراق ، وهي أن تثبيت سعر صرف أية عمله له أشتراطاته التي ترتكز على هيكل أقتصادي متطور وقدرة تنافسية ديناميكية تتميز بالمطاولة ، وليس أقتصادا متخلفا أو متخلفا ((غنيا)) معتمدا على مورد واحد ناضب كما هو الحال في الدول النفطية ومنها العراق . لأن تثبيت سعر الصرف هنا يعني تقييم عملات هذه الدول بأعلى من قيمتها الحقيقية ، ولابد في النهاية من أن تكون محل مضاربة وتحقيق مكاسب ومشجعا على هروب رؤوس الأموال وغسيلها على حساب أستنزاف الأحتياطات الأجنبية . فأذا كانت هذه حقيقة متكررة يذكرها لنا التاريخ الأقتصادي كما حدث مثلا في ألأزمة ألأقتصادية التي عاشتها كوريا الجنوبية عام 1997 التي كان أحد أهم أسبابها تثبيت سعر صرف عملتها المحلية أمام الدولار وتقييمه بأعلى من قيمته الحقيقية رغم كل المؤشرات الأقتصادية السلبية ،التي أبرزها عجز الحساب الجاري وميزان المدفوعات وعجز الموازنة العامة ، والتي تؤدي بشكل موضوعي الى وجوب تخفيض سعر الصرف . ألا أن الأصرار على تثبيت سعر الصرف لأسباب عديدة (( ومنها الفساد الأداري
وما يمكن تسميته – الفساد الناعم ¬¬- أي الفساد المغلف بالأدعاءات والمبررات التي تبدو موضوعية )) أدى الى المضاربة على عملتها وشجع على هروب رؤوس الأموال وأستنزاف
خطير في أحتياطاتها الأجنبية ودخول أقتصادها في أزمة عميقة أجبرها في النهاية الى أعادة تقييم وتخفيض سعر صرف عملتها ( أضافة الى مجموعة أجراءات أخرى ) لمعالجة أزمتها الأقتصادية . فأذا كان هذا حال كوريا الجنوبية ذات الأقتصاد المتقدم فكيف سيؤول الحال في الدول النامية ومنها العراق .
وبأختصار فأن سياسة تثبيت سعر الصرف والمغالاة فيه في الدول النامية بشكل عام (رغم جاذبيتها ) لاتحقق المصالح الأقتصادية لهذه الدول بل تؤدي حتما الى المضاربة وهروب رؤوس الأموال . كما يفقد السياسة النقدية أدارة أحد أهم أدواتها للمساهمة في تحقيق وتعزيز الأهداف التنموية . وأذا أفترضنا حسن النية في أتباع هذه السياسة غير الكفوءة فمن المعروف (( أن الطريق الى جهنم مملوء بالنوايا الحسنة ))
ثالثا – البنك المركزي وصندوق النقد الدولي : بقدر تعلق الأمر بالعراق فمن المعروف أن البنك المركزي وسياسته النقدية ( وكذلك وزارة المالية وسياستها المالية ) تسترشد بسياسات صندوق النقد الدولي التي تؤكد في أحد محاورها على تخفيض سعرصرف عملات الدول النامية بما يعكس حقيقة قيمتها أمام العملات الأجنبية . فكيف أستقام الأمر والبنك المركزي يطبق عكس هذه السياسة منذ 2003 ؟ بل وعمل على الرفع التدريجي لسعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار ألى أن حدثت الأزمة الأخيرة للدينار العراقي وأنخفاض سعر صرفه أمام الدولار ، وهذا ما كان متوقع في ضوء ظروف الدول


صفحة 7
النامية كما أشرنا سابقا. علما أن البنك المركزي يقدم مبررا يبدو موضوعيا في أتباعه سياسة التحسين المستمر لسعر صرف الدينار العراقي بأعتبار أن ذلك يرفع من مستوى معيشة المواطن العراقي الذي تتوفر أغلب أحتياجاته عن طريق الأستيرادات . لكن الوصول لهذا الهدف المهم والأساسي لا يتحقق بأتباع سياسة تثبيت سعر صرف الدينار أو تحسينه لأنه سيؤدي في النهاية، وهذا ما حدث مؤخرا، الى خلق البيئة الملائمة للمضاربة عليه وهروب رؤوس الأموال وأستنزاف الأحتياطات الأجنبية وتخفيض سعر صرفه أمام الدولار، ، مما أدى ويؤدي الى تدهور في مستوى معيشة المواطنين نتيجة الضغوط التضخمية التي يتعرض لها الأقتصاد العراقي ، وأفقد ويفقد العراق جزء مهما من أحتياطياته الأجنبية الحيوية لأستيراداته وتنميته .

السؤال المهم هنا : لماذا يصمت صندوق النقد الدولي عن سياسة البنك المركزي
العراقي في رفع سعر صرف الدينار أمام الدولار رغم أن الصندوق يؤكد على وجوب تخفيض سعر الصرف ؟ للأجابة عن هذا السؤال يمكن القول وبشكل مختصر أنه من المعروف أن برنامج صندوق النقد الدولي (( ليست من مهمة هذا البحث مناقشة السياسات التفصيلية لهذا البرنامج)) يؤكد ويستند على سياسات تحقيق التوازنات وخاصة المالية والنقدية في مرحلته الأولى المتضمنة (( سياسات الأستقرار والتثبيت )) التي تنطلق من العمل على تخفيض عجز الموازنة عن طريق أتباع سياسات لزيادة أيرادات الدولة – مثل زيادة الضرائب – من ناحية ، ومن ناحية أخرى أتباع سياسات لتخفيض النفقات العامة وخاصة في مجال النفقات الأجتماعية كالصحة والتعليم والأعانات والدعم وكذلك تخفيض النفقات المتعلقة تطوير مشاريع القطاع العام وتصفيته بالخصخصة وتقليص فرص العمل العامة . هذه السياسات التي تؤدي بمجملها
الى تقليص الطلب الكلي (( رغم أنخفاضه الشديد في الدول النامية بسبب ظروف التخلف )) ليتساوى أو يتوازن مع العرض الكلي ، وهو الأمر الذي يؤدي في النهاية الى المزيد من أفقار الطبقات والفئات الفقيرة والمهمشة في المجتمع . وهذا ما حدث في جميع الدول التي طبقت برنامج صندوق النقد الدولي بدون أستثناء سواء كان ذلك في أفريقيا أو أمريكا اللأتينية ، وتعتبر مصر مثالا صارخا لذلك . أن هدف الصندوق هذا مرتبط بأهداف الدول المسؤولة عن أدارته وهي الدول الرأسمالية (( ذات الأرث الأستعماري البغيض )) وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية التي من مصلحتها بقاء الدول النامية في حالة تخلف مستمر لتتمكن من الأستمرار في أستغلالها بشكل مباشر أو غير مباشر .
أن الحجة المقدمة من قبل من قبل صندوق الدولي في أهمية سياسات المرحلة الأولى


صفحة 8
لبرنامجه (( سياسات التثبيت والأستقرار )) والتي قدر لها أن تستغرق وقتا قصير نسبيا تم تقديره بين (( 3 – 5 ))سنوات كونها ضرورية للأنتقال الى المرحلة الثانية من برنامجه ((سياسات التكييف الهيكلي )) والتي يفترض أن تؤدي الى تحقيق أعادة هيكلة ألأقتصاد وتنميته وتطويره . أن اللافت للنظر أن جميع الدول التي طبقت برنامج الصندوق لم تستطع الأنتقال الى المرحلة الثانية لكون المرحلة الأولى لم تؤدي الا الى المزيد من الفقر والتخلف ، ذلك أن سياسات المرحلة الأولى تمثل مقدمات خاطئة فلابد أن تكون النتائج خاطئة . لقد أنتظرت هذه الدول التي طبقت وألتزمت بتطبيق برنامج الصندوق طويلا على أمل الأنتقال الى المرحلة الثانية الأكذوبة ، مرحلة أعادة الهيكلة والتنمية ، ولكنه أنتظار بلا أمل : (( أنتظار گوتو ، گوتو الذي لايأتي أبدا )) .
من هذه المقدمة يبدو الجواب واضحا على التساؤل أعلاه . فأذا كانت سياسات الصندوق تؤدي الى المزيد من أفقار(( الدول النامية الفقيرة ))عن طريق تحجيم وعدم تطوير طاقاتها الأنتاجية المادية والبشرية ، فالأسلوب الأمثل لتحقيق نفس الهدف ، أي الأفقار ، في ((الدول النامية الغنية )) كالدول النفطية ومنها العراق العمل على تبديد ثروات هذه الدول في
المجالات غير الأنتاجية ، والعمل على أتباع سياسات تؤدي الى أستنزافها عن طريق فتح باب الأستيرادات على مصراعيه (( دون ضوابط من وجهة نظر تنموية )) أو هروبها الى الخارج. ومن هنا يتضح لنا سر الصمت المريب لصندوق النقد الدولي عن السياسة النقدية في العراق في تثبيت سعر صرف الدينار العراقي بل والمغالاة في تقييمه ، رغم أنه يتناقض مع سياسة الصندوق في التأكيد علي تخفيض سعر الصرف ، لأن ذلك يؤدي الي أستنزاف أحتياطاته الأجنبية وهروب رؤوس أمواله كما يضمن بقاءه في حالة التخلف.

رابعا – وهم أستقلالية البنك المركزي :
أن ألتزام البنك المركزي العراقي بسياسات صندوق النقد الدولي جعله يؤكد على أستقلاليته في رسم سياساته وعدم أمكانية تدخل الحكومة في المشاركة في رسم أهدافه وتفعيل أدواته المتنوعة والتنسيق مع السياسة المالية التي يفترض بالسياسة النقدية أن تكون تابعة لها . فمثلا قد تتطلب السياسة المالية زيادة النفقات العامة لتحقيق الأهداف التنموية والتي تترجم في عجز في الموازنة العامة الذي لابد من تغطيته عن طرق الأقتراض الداخلي ،من الجمهور أو المصارف المحلية أو البنك المركزي أولا ، أو الأقتراض الخارجي ثانيا أو الأثنين معا وفق النسب التي تخدم متطلبات التنمية . أن أمتناع البنك المركزي عن تقديم القروض التي تساعد الدولة في تنفيذ سياستها المالية ،التي يفترض أن تكون تنموية التوجه ، كما حصل فعلا عام 2010 وما بعدها بحجة أستقلاليته ، (( وهو فهم خاطئ لمفهوم الأستقلالية ، حيث أنه من


صفحة 9
الناحية المبدئية وكما هو حاصل فعلا خضوع جميع البنوك المركزية بما فيها ألأحتياطي الفدرالي الأمريكي الى الدولة وسياستها المالية بشكل أو بآخر ، رغم النص على أستقلالية بعضها ، لأن ذلك يحقق مصلحة عامة أولا ولأن البنك المركزي في النهاية مؤسسة تابعة للدولة ثانيا )) ، يثير أكثر من تساؤل وعلامة أستفهام ؟ كما أنه غير مبرر موضوعيا .
ولتوضيح ذلك يمكن القول أنه في حالة عدم كفاية حصيلة الأيرادات العامة بأنواعها لتمويل النفقات العامة فلا يجوز في هذه الحالة التوجه نحو الاقتراض الخارجي أولا (( وهذا ما يشجع عليه صندوق النقد الدولي لضمان تبعية الدولة لسياساته التي أشرنا أليها سابقا )) ، بل النظر في امكانية تمويل عجز الموازنة بالأقتراض الداخلي أبتداءا التي من ضمنها الاحتياطات الاجنبية المودعة لدى البنك المركزي العراقي لقاء سندات حكومية ضمن نسب أمينة تخضع للأعتبارات والشروط الاتية :
1- ان يكون عجز الموازنة ناتج عن زيادة الانفاق الاستثماري التنموي بشكل أساس وكذلك الضروري من الأنفاق التشغيلي الجاري .
2- أن يكون ذلك بعد أن يتم بذل كل الجهود الممكنة لرفع حصيلة الأيرادات العامة وخاصة الضرائب لتصل الى المعدلات التي تحقق الاهداف الاقتصادية والاجتماعية .
3- أن يكون الألتجاء الى الأحتياطات الأجنبية لدى البنك المركزي الى المدى الذي لايفقد فاعلية سياسته النقدية لتحقيق أهدافها في الاستقرار الاقتصادي والتنمية .
4- وكذلك الى المدى الذي يحافظ على نسبة أمينة من هذه الاحتياطات لتغطية حاجات الدولة من الأستيرادات وألتزاماتها الخارجية ولمدد يقدرها الأقتصاديون بين 3- 6 أشهر ، والتي تتاثر بالقدرة على التصدير وحالة ميزان المدفوعات .
ومن الجدير بالذكر أن أمكانية لجوء الحكومة الى الأحتياطيات الاجنبية لتمويل عجز الموازنة قد جوبهت برفض قوي من قبل البنك المركزي العراقي بحجج عديدة اهمها :
- أستقلالية البنك المركزي حيث لا ولاية للحكومة عليه.
- أن الاحتياطات الاجنبية لدى البنك المركزي هي لتغطية مطلوباته مقابل اصدار العملة المتداولة, وبالتالي فان هذه الاحتياطات هي حق للمواطنين حاملي هذه العملة .
- أضعاف قدرة البنك المركزي في تحقيق أهداف سياسته النقدية في الاستقرار الاقتصادي والسيطرة على التضخم عن طريق استقرار اسعار الصرف .

صفحة 10
وفي تقديرنا أن هذه الحجج رغم انها قد تستبطن الحرص والحذر الشديدين وقد تكون مدفوعة بأهداف نبيلة ألا أنها غير مقنعة أقتصاديا وغير موضوعية شكلا ومضمونا .
فمن ناحية الشكل فان البنك المركزي في النهاية مؤسسة تابعة للدولة وليس جزيرة منعزلة عنها ، وأن استقلاله النسبي لايعني أبتعاده عن التنسيق مع السياسة المالية في تحقيق هدف الدولة الأساس في التنمية والأكتفاء بالتركيز على هدف فرعي هو الاستقرار الاقتصادي بمفهوم تثبيت سعر الصرف (( المشكوك في فاعليته كما أوضحنا سابقا )). وعليه لابد وأن يكون هناك تنسيق وتوافق وتكامل بين السياستين المالية والنقدية .
أما من ناحية المضمون فليس من المعقول ألتجاء الحكومة الى الأقتراض الخارجي مقابل شروط متعددة الأهداف وفوائد ضخمة تثقل كاهل الموازنة وتؤدي الى المزيد من العجز وهي بالوقت نفسه تملك من الأحتياطات الاجنبية ما يكفي ويزيد عن حاجتها . علما أنه ليس
مطلوبا من البنك المركزي أن يحتفظ بنسبة 100% من الأحتياطات الأجنبية كغطاء للعملة المصدرة ، وهو في استطاعته أن يحقق جميع أهدافه ، بما فيها التنموية ،عن طريق الأحتفاظ بنسبة أقل مقابل السندات الحكومية تحدد في ضوء مؤشرات أقتصادية معروفة تتعلق بشكل أساس بمعدلات الحاجة الى تغطية الأستيرادات والألتزامات الخارجية لمدة محددة ((يمكن تشبيه الحالة بنسبة الاحتياطي القانوني الخاص بالمصارف التجارية – مع الفارق بالطبع – لكون أن الدولة تحتمل أفلاس بعض مصارفها , لكن لا يمكن تصور أفلاسها هي كدولة )) .
واذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصية الاقتصاد العراقي ألريعي وأعتماده على سلعة واحدة ,النفط الخام , كمصدر أساسي لأيراداته العامة وبالتالي أمكانية تعرضه لتقلبات غير محسوبة , فيمكن زيادة هذه النسبة من الاحتياطات الأجنبية لتصل مثلا ما بين 40%- 50% . أما المتبقي من هذه النسبة فيمكن أن يمول عجز الموازنة في المجالات الأستثمارية التنموية .

الخلاصة :
يمكن القول ، في ضوء ما أوضحناه سابقا ، أن السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي تميزت بعدم الكفاءة وعدم الفاعلية وتجاهلت تفعيل أدواتها النقدية الأخرى ، وركزت على هدف واحد أوحد هو تحقيق الأستقرار الأقتصادي بمفهوم ضيق يرتكز على مكافحة التضخم المرتبط بالأستيرادات (( وليس المساهمة الفعالة في أعادة هيكلة الأقتصاد بما يحقق تنميته )) وعن طريق سياسة أو أداة نقدية واحدة تمثلت في تثبيت سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار . والغريب أن هذا الهدف المركزي للسياسة النقدية التي يتبعها البنك


صفحة 11
المركزي لم يتحقق ، بدليل تقلبات سعر صرف الدينار في المدة الأخيرة ،الأمر الذي ترتب عليه آثار سلبية جسيمة تمثلت في الميل الى : أرتفاع المستوى العام للأسعار وعدم الأستقرار الأقتصادي ودولرة الأقتصاد وأرتفاع الطلب على العملات الأجنبية والمضاربة عليها وأستمرار أستنزاف الأحتياطات الأجنبية وهروب رؤوس الأموال بشكل متسارع .
ومن الجدير بالذكر أن ما تم تقديمه من مبررات من قبل البنك المركزي عن أنخفاض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار بسبب زيادة الطلب على الأخير لظروف أرتبطت بعوامل خارجية خاصة ببعض الدول المجاورة (سوريا وأيران) فهو محاولة للهروب للأمام. فرغم أن الباحث لاينفي هذا التأثير الخارجي على تخفيض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار وعمل على تسارعه (( وقد يكون جزء من زيادة الطلب على الدولار مبررا من الناحية الأقتصادية ، لكونه ناتجا عن أرتفاع أستيرادات المواطنين العراقيين من الدول المجاورة هذه ، لكون أسعار صرف عملاتها تجاه الدولار أنخفضت الى ما يقارب 50% ، وهذا ينسجم مع سياسة الباب المفتوح في التحويل الخارجي التي يتبعها البنك المركزي أصلا )) ، الأ أن هذه النتائج السلبية كانت ستتحقق في كل الأحوال مع الزمن حتى بدون وجود هذا العامل الخارجي كما أوضحنا بشكل تحليلي في الفقرات أولا وثانيا أعلاه . علما أن ماتحقق سابقا من أستقرار نسبي في سعر صرف الدينار العراقي يعود أساسا الى أستنزاف ألأحتياطات الأجنبية وليس الى كفاءة وفاعلية السياسة النقدية التي أحالت البنك المركزي الى مجرد صراف آلي .

مايس 2012








صفحة 12





المراجع

1 - د. جليل شيعان ضمد البيضاني ، حرب العملات والنظام النقدي الدولي ، مجلة الأدارة والأقتصاد ، جامعة كربلاء ، العدد 2 لعام 2011 .
2 - د. جليل شيعان ضمد البيضاني و د . شعبان صدام الأمارة ، متطلبات أدارة الأحتياطات الأجنبية ، مجلة القادسية للعلوم الأقتصادية ، جامعة القادسية ، مجلد 13، العدد 1، 2011 .
3- Bijan B. Aghevli and others , Exchange Rate Policy in Developing Countries: Some Analytical Issues (Occasional Paper , IMF) March 1991
4-Corden W. Max ,Exchange rate policies for developing countries , The economic journal ,RES , Jan 1993 , UK





.
الدينار العراقي بين مزاد البنك المركزي وأستنزاف ألأحتياطات ووهم تثبيت سعر الصرف

جليل شيعان ضمد

المقدمة :
خلال الأشهر الثلاث الأخيرة وبشكل مفاجئ بدأ سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار يتعرض الى ضغوط كبيرة مسجلا مايقارب 1320 دينار لكل دولار بعد أن كان مستقرا ولمدة طويلة عند مستوى 1170 دينار. أثار هذا الحدث الكثير من التساؤلات العلمية الموضوعية ، التي سبق وأن أثيرت في المؤتمرات والندوات العلمية (وحتى الصحافة) من قبل معظم المختصين في هذا الشأن ، حول مدى كفاءة وفاعلية السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي العراقي منذ 2003 وحتى الآن في تحقيق أهدافها المعلنة في الأستقرار الأقتصادي وفي المساهمة الفعالة في تحقيق التنمية .هذه التساؤلات التي غالبا ما كانت تجابه من قبل عرابي هذه السياسة بالتجاهل . الآن وقد وقع المحظور وما كان متوقعا منذ مدة طويلة في عدم صمود الأستقرار المفتعل لسعر صرف الدينار ، والذي اعتبر خلال المدة الماضية من قبل البنك المركزي ومن قبل البعض (غير المتخصصين ) كمؤشر نجاح للسياسة النقدية ، فقد آن الأوان لأعادة النظر في رسم هذه السياسة القاصرة غير الفاعلة لجعلها تتناغم مع شقيقاتها الأخرى وخاصة السياسة المالية ضمن اطار السياسة الأقتصادية التي يفترض أن يكون مقياس نجاحها الأول والأخير تحقيق التنمية البشرية المستدامة .
أولا – الأهداف الخاطئة :
يعلن البنك المركزي العراقي باستمرار أن هدف سياسته النقدية هوتحقيق الأستقرار الأقتصادي الذي يعني بمفهومه أستقرار المستوى العام للأسعار ومعالجة التضخم بأستخدام وسيلة أساسية تتمثل بأستقرار سعر صرف الدينار عن طريق الأحتفاظ بأحتياطات أجنبية وخاصة الدولار بنسبة 100% مقابل العملة المصدرة التي تشكل القاعدة النقدية ( M0 )، وبالتالي أستعداده الدائم لتحويل الدينار الى ما يقابله من دولار بسعر صرف ثابت . علما أن المصدر الوحيد تقريبا لهذه الدولارات هو عائدات الدولة من الصادرات النفطية التي تشكل أكثر من 95% من صادرات العراق وموازنته العامة كما تشكل أكثر من 80% من أجمالي ناتجه المحلي .

صفحة 2

أن تحديد هدف السياسة النقدية ( الأستقرار الأقتصادي والحد من التضخم ) وطريقة الوصول أليه ( أستقرار سعر الصرف ) عن طريق ( الأحتفاظ بنسبة 100% من الأحتياطيات الأجنبية) بهذا الشكل من قبل البنك المركزي العراقي أثار ويثير جملة تساؤلات وأفتراضات تستحق المناقشة يمكن تلخيصها فيما يلي :

1 – الأستقرار الأقتصادي وسعر الصرف : أذا كان هدف الأستقرار الأقتصادي بمفهوم أستقرار المستوى العام للأسعار ومكافحة التضخم عن طريق تثبيت سعر الصرف يمكن أن يكون أحد أهم أهداف السياسة النقدية ، جنبا الى جنب مع هدف مكافحة البطالة ، قد يكون مفهوما ومبررا من الناحية الأقتصادية في الدول المتقدمة التي تعاني من الركود الأقتصادي وطاقة أنتاجية معطلة وقصور في الطلب الفعال ( أي أن لديها مشكلة طلب فعال ) ، فهل يصح أن يكون هدف السياسة النقدية في الدول النامية كالعراق هو الأستقرار الأقتصادي بهذا المفهوم رغم أنه يعاني من تخلف شديد في كل المجالات بمؤشرات التنمية البشرية المستدامة ورغم أنه يعاني بشكل مزمن من أختلالات هيكلية متنوعة لعل أهمها الأختلالات الأقتصادية مع قصور واضح في مختلف قطاعاته الأنتاجية وفرص العمل (أي أن لديه مشكلة عرض ) ؟
أن الهدف ألأساس للسياسة االأقتصادية بكل فروعها بما فيها السياسة النقدية، من الناحية الموضوعية في الدول النامية ، يفترض أن يكون تحقيق التنمية البشرية المستدامة بكل مؤشراتها . وبمعنى آخر أن السياسة النقدية وهي تنسق أهدافها الجزئية ضمن خصوصياتها النقدية المتعلقة بالطلب والعرض النقدي والأحتياطات الأجنبية وأسعار الفائدة وأسعار الصرف وغيرها من الأدوات النقدية ، لابد وأن يكون كل ذلك بما ينسجم مع تحقيق الهدف التنموي للسياسة الأقتصادية ، وبما ينسجم مع أهداف أهم فروعها : السياسة المالية .
أن أختصار أهداف السياسة النقدية بهدف الأستقرار الأقتصادي وفق مفهوم البنك المركزي العراقي المتمثل بأستقرار المستوى العام للأسعار المرتبط بأستقرار سعر صرف الدينار مقابل الدولار عن طريق الأحتفاظ بغطاء كامل للعملة من الأحتياطيات الأجنبية، والأستعداد التام لتلبية جميع طلبات تحويل الدينار الى الدولار سوف يفقد البنك المركزي وسياسته النقدية أهم وظائفها في المساهمة الجادة والتناغم مع السياسات الأخرى في تحقيق الهدف التنموي المركزي من ناحية ، كما يضحي من الناحية الأخرى بأدارة وأستخدام أدوات السياسة النقدية الأخرى، كسعر الخصم وسعرالفائدة وعمليات السوق المفتوحة ( على محدوديتها ) ونسبة الأحتياطي القانوني وأدارة الأئتمان والأحتياطات الأجنبية وكل ما يؤثر على العرض والطلب النقدي ، في المساهمة الفاعلة لتحقيق هذا الهدف التنموي.



صفحة 3
2– التضخم والتنمية : أفتراض أن أستقرار المستوى العام للأسعار وتحجيم التضخم يوفر بيئة مناسبة وضرورية لتحقيق التنمية . ورغم أن هذا الأفتراض يمكن أن يكون صحيحا في الدول المتقدمة الأ أنه قد لايكون كذلك بالضرورة في الدول النامية ومنها العراق . بل يمكن التضحية بهذا الهدف في حدود معينة لتحقيق الهدف المركزي التنمية . فأضافة الى أن شيئ من التضخم أو نسبة معتدلة منه يمكن أن تكون ضرورية لتحفيز المزيد من الأستثمار ، فأنه قد يكون مدروسا ومخططا له كوسيلة تمويلية مهمة وضرورية بشكل أصدار نقدي جديد ، لأنه في التحليل النهائي يمثل ضريبة غير مباشرة على جميع أفراد المجتمع . وفي مثل هذه الحالة يمكن بل ويجب معادلة آثاره السلبية المحتملة على الفئات الفقيرة بمختلف سياسات الدعم والتعقيم .

3– ألأستقرار الأقتصادي والتضخم : ما هو مفهوم الأستقرار الأقتصادي الحقيقي ؟ هل هو الحد من التضخم ؟ وهل التضخم ظاهرة نقدية في الدول النامية مرتبط بجانب الطلب يمكن معالجته بسياسة نقدية أنكماشية ؟
أن أساس مشكلة التضخم في الدول النامية ومن ضمنها العراق متعلق بشحة جانب العرض السلعي الذي مصدره في الغالب الأستيرادات . فالتضخم أذن ، وخاصة في العراق ، هو تضخم مستورد مرتبط بالتكاليف مترافق مع تدهورفي الأنتاج المحلي وأنخفاض أهميته النسبية في توليد الناتج المحلي الأجمالي بشكل مستمر وخاصة في القطاعات السلعية الحيوية الزراعية والصناعية لأنعدام جهود التنمية الحقيقية . فالسياسة النقدية ، كما جميع السياسات الفرعية الأخرى وخاصة السياسة المالية ، يفترض أن يكون هدفها الأساس التنمية الحقيقية (بمفهوم التنمية البشرية المستدامة ) الذي لا هدف غيره ، وتستخدم جميع أدواتها بشكل فعال للمشاركة في تحقيق هذا الهدف .
فالعلاج يكمن في تطوير القطاعات السلعية الأساسية وخاصة الزراعية والصناعية وتطوير القطاعات الخدمية الحيوية من أسكان ونقل وكهرباء وماء وصرف صحي وتعليم وصحة التي بدورها تولد دخولا تتناسب مع مخرجاتها لتحقيق المفهوم الحقيقي للأستقرار والتوازن الأقتصادي . وفي حالة وجود عدم توازن أو خلل في الجوانب السلعية والمالية ، وهي حالة حتمية في المراحل الأولى للتنمية ، فالأقتصاديون لايعدمون الوسائل والأدوات الأقتصادية العديدة لمعالجة ذلك والتي من ضمنها أدارة سعر الصرف ( وليس تثبيته ) بما يتناسب مع المتاح من الأحتياطات الأجنبية .




صفحة 4
4– وهم تثبيت سعر الصرف والدولار : لنفترض مجاراة البنك المركزي العراقي في أعتماده على سياسة نقدية ترتكز على تثبيت سعر صرف الدينار العراقي كوسيلة فعالة للأستقرار الأقتصادي والحد من التضخم بأعتبار أن الأستيرادات مصدر أغلب المعروض السلعي في الأقتصاد العراقي والتي تقدر بما يقارب (50) مليار دولار كمعدل سنويا . السؤال الآن : ماهو مفهوم تثبيت سعر صرف الدينار وكيف يمكن تحقيق ذلك من وجهة نظر البنك المركزي ؟ في حقيقة الأمر يعتمد الأخير على مفهوم قاصر للتثبيت لأنه يرتكز على تثبيت سعر صرف الدينار تجاه الدولار فقط . ومن الواضح أن التثبيت الفعال لسعر الصرف للحد من التضخم المستورد ( على أفتراض صحته ) يفترض أن يكون تثبيتا تجاه عملات أهم الشركاء التجاريين للعراق مثل اليورو والجنيه الأسترليني والين وليس فقط تجاه الدولار لأن أستيرادات العراق من الولايات المتحدة الأمريكية لاتشكل الأ جزء بسيط من أجمالي أستيراداته من دول العالم ، وبالتالي فالتثبيت تجاه الدولار لمعالجة أجمالي التضخم المستورد لا يتحقق الا بهذه النسبة البسيطة .
وكما هو معروف فأن الدولار فقد أكثر من 50% من قيمته مقابل العملات الرئيسية منذ تخلي الولايات المتحدة الأمريكية ومن طرف واحد عن ألتزاماتها الدولية في تحويل دولاراتها الى ذهب بموجب أتفاقات برتن وودز، أضافة الى عامل التضخم في أقتصادها ، ولازالت حالة الدولار في تدهور مستمر نتيجة تتابع الركود والأزمات التي تحيط بأقتصادها وخاصة الأزمة المالية والأقتصادية الأخيرة التي أبتدأت منذ عام 2008 ولا زالت مستمرة الى الآن . وعليه فسياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار لايحل مشكلة التضخم بل يفاقمها . ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحاول أن تعالج أزماتها الأقتصادية تعتمد مجموعة سياسات من ضمنها سياسة التخفيض المستمر لسعر صرف الدولار تجاه العملات الرئيسية ضمن أطار ما أصطلح على تسميته ((حرب العملات)) ، وتحاول جاهدة أن تضغط بأستمرار وخاصة على الصين لكونها الشريك التجاري الأبرز لرفع سعر صرف اليوان لمعالجة عجز ميزانها التجاري . وهي بهذه السياسة تعرض الدول النامية بشكل عام ومنها العراق التي تثبت سعر صرف عملتها مقابل الدولار الى ضرر بالغ لكون الصين شريك تجاري مهم لهذه الدول أيضا ، مما يضعف بشكل أكبر تأثير سياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار في تحجيم التضخم ، وهي السياسة التي طبقها البنك المركزي العراقي ، رافعا شعارها بل ومتفاخرا بها منذ 2003 حتي ألآن ، رغم محدودية تأثيرها في تحقيق أهداف هذه السياسة ذاتها التي تم أختصارها كما أشرنا أعلاه بتخفيف الضغوط التضخمية ، وأن نجحت الى حد ما في المراحل الأولى في تخفيض التضخم فقد تحقق ذلك على حساب أٍستنزاف الأحتياطات الأجنبية الحيوية ، التي مصدرها الأساس مورد ناضب ، لتحقيق التنمية ولم تؤد سوى الى الأستقرار عند مستوى التخلف .


صفحة 5
ثانيا : البنك المركزي العراقي والمزاد والصَراف الآلي :
ترتكز السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي العراقي منذ 2003 على فكرة مركزية تتعلق بوظيفة الأحتياطات الأجنبية التي تنحصر في هدف واحد أوحد هو تلبية جميع طلبات تحويل الدينار العراقي الى ما يقابله من دولار ، وأن هذه الأحتياطات تمثل حقوقا لحاملي الدينار العراقي . وقد أستتبع ذلك أن تقتصر وظيفة البنك المركزي على القيام بهذه المبادلة بين الدينار والدولار عن طريق ما أصطلح على تسميته خطأ ((مزاد العملة )) - لأن المزاد يعني تقديم عروض تتزايد في القيمة لشراء الدولارات من قبل المشترين الذي يفترض أن يكونوا في حالة تنافس على الشراء ، لكننا نشاهد أن جميع المشترين ليسوا في حالة تنافس بل مشترين فقط وبأي كمية يرغبون وبسعر واحد مثبت من قبل البنك المركزي . أن هذا الفهم لدور الأحتياطات الأجنبية جرد البنك المركزي وسياسته النقدية من وظائفها وأهدافها الحيوية في المساهمة الفعالة مع السياسات الأقتصادية الأخرى في تعزيز جهود التنمية ، وأحاله الى ما يشبه (( الصراف ألآلي )) . فالسياسة النقدية أضحت مجرد أستجابة لطلبات تحويل الدينار العراقي الى الدولار ولا شئ غير ذلك . ومع أتباع سياسة تثبيت سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار، أضافة الى عدم وجود قيود حقيقية على التحويل الخارجي ، أصبحت هذه السياسة وسيلة سهلة لتسرب الأحتياطات الأجنبية المتراكمة ووسيلة لهروب وغسيل الأموال ، رغم الأهمية الحيوية لهذه الأحتياطات للأقتصاد العراقي في تحقيق تنميته .

أن الأدارة الكفوءة للأحتياطات الأجنبية تتطلب تحقيق أقصى العوائد والمنافع المالية والأقتصادية وأقل مايمكن من خسائر ومخاطر وتسربات لهذا المورد الحيوي، هي في صلب وظائف وواجبات البنك المركزي والسياسة النقدية . لاسيما وأن مصدر هذه الأحتياطات الأجنبية ، كما هي حالة العراق ، لم يكن أقتصاد متطور ولا طاقات أنتاجية مستدامة حقيقية ، بل أن مصدرها الوحيد عملية أستخراج وتصديرالنفط . وهذه العملية ليست عملية أنتاج حقيقي بالمعنى الأقتصادي الدقيق ، بل هي مجرد عملية (( تسييل للثروة )) أي عملية أستهلاك لمصدر ناضب لا بد من تعويضه بمصدر متجدد . وعليه لابد من أستخراج النفط وتصديره بمقدار تحدده المتطلبات التنموية وبالتالي لابد من أدارة الأحتياطات الأجنبية وأدارة سعر الصرف بما يتلائم مع هذه المتطلبات . ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذا الموضوع الحيوي للأقتصاد العراقي بشكل تفصيلي بقدر مايهمنا التأكيد على الأستخدام الأمثل للأحتياطات الأجنبية بما يحقق الأهداف التنموية وخاصة في ظل ظروف العراق الأقتصادية والأجتماعية والسياسية الحالية .
وهنا لابد أن نؤكد على حقيقة أقتصادية ثابتة تبدو غائبة عن راسم السياسة النقدية في


صفحة 6
العراق ، وهي أن تثبيت سعر صرف أية عمله له أشتراطاته التي ترتكز على هيكل أقتصادي متطور وقدرة تنافسية ديناميكية تتميز بالمطاولة ، وليس أقتصادا متخلفا أو متخلفا ((غنيا)) معتمدا على مورد واحد ناضب كما هو الحال في الدول النفطية ومنها العراق . لأن تثبيت سعر الصرف هنا يعني تقييم عملات هذه الدول بأعلى من قيمتها الحقيقية ، ولابد في النهاية من أن تكون محل مضاربة وتحقيق مكاسب ومشجعا على هروب رؤوس الأموال وغسيلها على حساب أستنزاف الأحتياطات الأجنبية . فأذا كانت هذه حقيقة متكررة يذكرها لنا التاريخ الأقتصادي كما حدث مثلا في ألأزمة ألأقتصادية التي عاشتها كوريا الجنوبية عام 1997 التي كان أحد أهم أسبابها تثبيت سعر صرف عملتها المحلية أمام الدولار وتقييمه بأعلى من قيمته الحقيقية رغم كل المؤشرات الأقتصادية السلبية ،التي أبرزها عجز الحساب الجاري وميزان المدفوعات وعجز الموازنة العامة ، والتي تؤدي بشكل موضوعي الى وجوب تخفيض سعر الصرف . ألا أن الأصرار على تثبيت سعر الصرف لأسباب عديدة (( ومنها الفساد الأداري
وما يمكن تسميته – الفساد الناعم ¬¬- أي الفساد المغلف بالأدعاءات والمبررات التي تبدو موضوعية )) أدى الى المضاربة على عملتها وشجع على هروب رؤوس الأموال وأستنزاف
خطير في أحتياطاتها الأجنبية ودخول أقتصادها في أزمة عميقة أجبرها في النهاية الى أعادة تقييم وتخفيض سعر صرف عملتها ( أضافة الى مجموعة أجراءات أخرى ) لمعالجة أزمتها الأقتصادية . فأذا كان هذا حال كوريا الجنوبية ذات الأقتصاد المتقدم فكيف سيؤول الحال في الدول النامية ومنها العراق .
وبأختصار فأن سياسة تثبيت سعر الصرف والمغالاة فيه في الدول النامية بشكل عام (رغم جاذبيتها ) لاتحقق المصالح الأقتصادية لهذه الدول بل تؤدي حتما الى المضاربة وهروب رؤوس الأموال . كما يفقد السياسة النقدية أدارة أحد أهم أدواتها للمساهمة في تحقيق وتعزيز الأهداف التنموية . وأذا أفترضنا حسن النية في أتباع هذه السياسة غير الكفوءة فمن المعروف (( أن الطريق الى جهنم مملوء بالنوايا الحسنة ))
ثالثا – البنك المركزي وصندوق النقد الدولي : بقدر تعلق الأمر بالعراق فمن المعروف أن البنك المركزي وسياسته النقدية ( وكذلك وزارة المالية وسياستها المالية ) تسترشد بسياسات صندوق النقد الدولي التي تؤكد في أحد محاورها على تخفيض سعرصرف عملات الدول النامية بما يعكس حقيقة قيمتها أمام العملات الأجنبية . فكيف أستقام الأمر والبنك المركزي يطبق عكس هذه السياسة منذ 2003 ؟ بل وعمل على الرفع التدريجي لسعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار ألى أن حدثت الأزمة الأخيرة للدينار العراقي وأنخفاض سعر صرفه أمام الدولار ، وهذا ما كان متوقع في ضوء ظروف الدول


صفحة 7
النامية كما أشرنا سابقا. علما أن البنك المركزي يقدم مبررا يبدو موضوعيا في أتباعه سياسة التحسين المستمر لسعر صرف الدينار العراقي بأعتبار أن ذلك يرفع من مستوى معيشة المواطن العراقي الذي تتوفر أغلب أحتياجاته عن طريق الأستيرادات . لكن الوصول لهذا الهدف المهم والأساسي لا يتحقق بأتباع سياسة تثبيت سعر صرف الدينار أو تحسينه لأنه سيؤدي في النهاية، وهذا ما حدث مؤخرا، الى خلق البيئة الملائمة للمضاربة عليه وهروب رؤوس الأموال وأستنزاف الأحتياطات الأجنبية وتخفيض سعر صرفه أمام الدولار، ، مما أدى ويؤدي الى تدهور في مستوى معيشة المواطنين نتيجة الضغوط التضخمية التي يتعرض لها الأقتصاد العراقي ، وأفقد ويفقد العراق جزء مهما من أحتياطياته الأجنبية الحيوية لأستيراداته وتنميته .

السؤال المهم هنا : لماذا يصمت صندوق النقد الدولي عن سياسة البنك المركزي
العراقي في رفع سعر صرف الدينار أمام الدولار رغم أن الصندوق يؤكد على وجوب تخفيض سعر الصرف ؟ للأجابة عن هذا السؤال يمكن القول وبشكل مختصر أنه من المعروف أن برنامج صندوق النقد الدولي (( ليست من مهمة هذا البحث مناقشة السياسات التفصيلية لهذا البرنامج)) يؤكد ويستند على سياسات تحقيق التوازنات وخاصة المالية والنقدية في مرحلته الأولى المتضمنة (( سياسات الأستقرار والتثبيت )) التي تنطلق من العمل على تخفيض عجز الموازنة عن طريق أتباع سياسات لزيادة أيرادات الدولة – مثل زيادة الضرائب – من ناحية ، ومن ناحية أخرى أتباع سياسات لتخفيض النفقات العامة وخاصة في مجال النفقات الأجتماعية كالصحة والتعليم والأعانات والدعم وكذلك تخفيض النفقات المتعلقة تطوير مشاريع القطاع العام وتصفيته بالخصخصة وتقليص فرص العمل العامة . هذه السياسات التي تؤدي بمجملها
الى تقليص الطلب الكلي (( رغم أنخفاضه الشديد في الدول النامية بسبب ظروف التخلف )) ليتساوى أو يتوازن مع العرض الكلي ، وهو الأمر الذي يؤدي في النهاية الى المزيد من أفقار الطبقات والفئات الفقيرة والمهمشة في المجتمع . وهذا ما حدث في جميع الدول التي طبقت برنامج صندوق النقد الدولي بدون أستثناء سواء كان ذلك في أفريقيا أو أمريكا اللأتينية ، وتعتبر مصر مثالا صارخا لذلك . أن هدف الصندوق هذا مرتبط بأهداف الدول المسؤولة عن أدارته وهي الدول الرأسمالية (( ذات الأرث الأستعماري البغيض )) وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية التي من مصلحتها بقاء الدول النامية في حالة تخلف مستمر لتتمكن من الأستمرار في أستغلالها بشكل مباشر أو غير مباشر .
أن الحجة المقدمة من قبل من قبل صندوق الدولي في أهمية سياسات المرحلة الأولى


صفحة 8
لبرنامجه (( سياسات التثبيت والأستقرار )) والتي قدر لها أن تستغرق وقتا قصير نسبيا تم تقديره بين (( 3 – 5 ))سنوات كونها ضرورية للأنتقال الى المرحلة الثانية من برنامجه ((سياسات التكييف الهيكلي )) والتي يفترض أن تؤدي الى تحقيق أعادة هيكلة ألأقتصاد وتنميته وتطويره . أن اللافت للنظر أن جميع الدول التي طبقت برنامج الصندوق لم تستطع الأنتقال الى المرحلة الثانية لكون المرحلة الأولى لم تؤدي الا الى المزيد من الفقر والتخلف ، ذلك أن سياسات المرحلة الأولى تمثل مقدمات خاطئة فلابد أن تكون النتائج خاطئة . لقد أنتظرت هذه الدول التي طبقت وألتزمت بتطبيق برنامج الصندوق طويلا على أمل الأنتقال الى المرحلة الثانية الأكذوبة ، مرحلة أعادة الهيكلة والتنمية ، ولكنه أنتظار بلا أمل : (( أنتظار گوتو ، گوتو الذي لايأتي أبدا )) .
من هذه المقدمة يبدو الجواب واضحا على التساؤل أعلاه . فأذا كانت سياسات الصندوق تؤدي الى المزيد من أفقار(( الدول النامية الفقيرة ))عن طريق تحجيم وعدم تطوير طاقاتها الأنتاجية المادية والبشرية ، فالأسلوب الأمثل لتحقيق نفس الهدف ، أي الأفقار ، في ((الدول النامية الغنية )) كالدول النفطية ومنها العراق العمل على تبديد ثروات هذه الدول في
المجالات غير الأنتاجية ، والعمل على أتباع سياسات تؤدي الى أستنزافها عن طريق فتح باب الأستيرادات على مصراعيه (( دون ضوابط من وجهة نظر تنموية )) أو هروبها الى الخارج. ومن هنا يتضح لنا سر الصمت المريب لصندوق النقد الدولي عن السياسة النقدية في العراق في تثبيت سعر صرف الدينار العراقي بل والمغالاة في تقييمه ، رغم أنه يتناقض مع سياسة الصندوق في التأكيد علي تخفيض سعر الصرف ، لأن ذلك يؤدي الي أستنزاف أحتياطاته الأجنبية وهروب رؤوس أمواله كما يضمن بقاءه في حالة التخلف.

رابعا – وهم أستقلالية البنك المركزي :
أن ألتزام البنك المركزي العراقي بسياسات صندوق النقد الدولي جعله يؤكد على أستقلاليته في رسم سياساته وعدم أمكانية تدخل الحكومة في المشاركة في رسم أهدافه وتفعيل أدواته المتنوعة والتنسيق مع السياسة المالية التي يفترض بالسياسة النقدية أن تكون تابعة لها . فمثلا قد تتطلب السياسة المالية زيادة النفقات العامة لتحقيق الأهداف التنموية والتي تترجم في عجز في الموازنة العامة الذي لابد من تغطيته عن طرق الأقتراض الداخلي ،من الجمهور أو المصارف المحلية أو البنك المركزي أولا ، أو الأقتراض الخارجي ثانيا أو الأثنين معا وفق النسب التي تخدم متطلبات التنمية . أن أمتناع البنك المركزي عن تقديم القروض التي تساعد الدولة في تنفيذ سياستها المالية ،التي يفترض أن تكون تنموية التوجه ، كما حصل فعلا عام 2010 وما بعدها بحجة أستقلاليته ، (( وهو فهم خاطئ لمفهوم الأستقلالية ، حيث أنه من


صفحة 9
الناحية المبدئية وكما هو حاصل فعلا خضوع جميع البنوك المركزية بما فيها ألأحتياطي الفدرالي الأمريكي الى الدولة وسياستها المالية بشكل أو بآخر ، رغم النص على أستقلالية بعضها ، لأن ذلك يحقق مصلحة عامة أولا ولأن البنك المركزي في النهاية مؤسسة تابعة للدولة ثانيا )) ، يثير أكثر من تساؤل وعلامة أستفهام ؟ كما أنه غير مبرر موضوعيا .
ولتوضيح ذلك يمكن القول أنه في حالة عدم كفاية حصيلة الأيرادات العامة بأنواعها لتمويل النفقات العامة فلا يجوز في هذه الحالة التوجه نحو الاقتراض الخارجي أولا (( وهذا ما يشجع عليه صندوق النقد الدولي لضمان تبعية الدولة لسياساته التي أشرنا أليها سابقا )) ، بل النظر في امكانية تمويل عجز الموازنة بالأقتراض الداخلي أبتداءا التي من ضمنها الاحتياطات الاجنبية المودعة لدى البنك المركزي العراقي لقاء سندات حكومية ضمن نسب أمينة تخضع للأعتبارات والشروط الاتية :
1- ان يكون عجز الموازنة ناتج عن زيادة الانفاق الاستثماري التنموي بشكل أساس وكذلك الضروري من الأنفاق التشغيلي الجاري .
2- أن يكون ذلك بعد أن يتم بذل كل الجهود الممكنة لرفع حصيلة الأيرادات العامة وخاصة الضرائب لتصل الى المعدلات التي تحقق الاهداف الاقتصادية والاجتماعية .
3- أن يكون الألتجاء الى الأحتياطات الأجنبية لدى البنك المركزي الى المدى الذي لايفقد فاعلية سياسته النقدية لتحقيق أهدافها في الاستقرار الاقتصادي والتنمية .
4- وكذلك الى المدى الذي يحافظ على نسبة أمينة من هذه الاحتياطات لتغطية حاجات الدولة من الأستيرادات وألتزاماتها الخارجية ولمدد يقدرها الأقتصاديون بين 3- 6 أشهر ، والتي تتاثر بالقدرة على التصدير وحالة ميزان المدفوعات .
ومن الجدير بالذكر أن أمكانية لجوء الحكومة الى الأحتياطيات الاجنبية لتمويل عجز الموازنة قد جوبهت برفض قوي من قبل البنك المركزي العراقي بحجج عديدة اهمها :
- أستقلالية البنك المركزي حيث لا ولاية للحكومة عليه.
- أن الاحتياطات الاجنبية لدى البنك المركزي هي لتغطية مطلوباته مقابل اصدار العملة المتداولة, وبالتالي فان هذه الاحتياطات هي حق للمواطنين حاملي هذه العملة .
- أضعاف قدرة البنك المركزي في تحقيق أهداف سياسته النقدية في الاستقرار الاقتصادي والسيطرة على التضخم عن طريق استقرار اسعار الصرف .

صفحة 10
وفي تقديرنا أن هذه الحجج رغم انها قد تستبطن الحرص والحذر الشديدين وقد تكون مدفوعة بأهداف نبيلة ألا أنها غير مقنعة أقتصاديا وغير موضوعية شكلا ومضمونا .
فمن ناحية الشكل فان البنك المركزي في النهاية مؤسسة تابعة للدولة وليس جزيرة منعزلة عنها ، وأن استقلاله النسبي لايعني أبتعاده عن التنسيق مع السياسة المالية في تحقيق هدف الدولة الأساس في التنمية والأكتفاء بالتركيز على هدف فرعي هو الاستقرار الاقتصادي بمفهوم تثبيت سعر الصرف (( المشكوك في فاعليته كما أوضحنا سابقا )). وعليه لابد وأن يكون هناك تنسيق وتوافق وتكامل بين السياستين المالية والنقدية .
أما من ناحية المضمون فليس من المعقول ألتجاء الحكومة الى الأقتراض الخارجي مقابل شروط متعددة الأهداف وفوائد ضخمة تثقل كاهل الموازنة وتؤدي الى المزيد من العجز وهي بالوقت نفسه تملك من الأحتياطات الاجنبية ما يكفي ويزيد عن حاجتها . علما أنه ليس
مطلوبا من البنك المركزي أن يحتفظ بنسبة 100% من الأحتياطات الأجنبية كغطاء للعملة المصدرة ، وهو في استطاعته أن يحقق جميع أهدافه ، بما فيها التنموية ،عن طريق الأحتفاظ بنسبة أقل مقابل السندات الحكومية تحدد في ضوء مؤشرات أقتصادية معروفة تتعلق بشكل أساس بمعدلات الحاجة الى تغطية الأستيرادات والألتزامات الخارجية لمدة محددة ((يمكن تشبيه الحالة بنسبة الاحتياطي القانوني الخاص بالمصارف التجارية – مع الفارق بالطبع – لكون أن الدولة تحتمل أفلاس بعض مصارفها , لكن لا يمكن تصور أفلاسها هي كدولة )) .
واذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصية الاقتصاد العراقي ألريعي وأعتماده على سلعة واحدة ,النفط الخام , كمصدر أساسي لأيراداته العامة وبالتالي أمكانية تعرضه لتقلبات غير محسوبة , فيمكن زيادة هذه النسبة من الاحتياطات الأجنبية لتصل مثلا ما بين 40%- 50% . أما المتبقي من هذه النسبة فيمكن أن يمول عجز الموازنة في المجالات الأستثمارية التنموية .

الخلاصة :
يمكن القول ، في ضوء ما أوضحناه سابقا ، أن السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي تميزت بعدم الكفاءة وعدم الفاعلية وتجاهلت تفعيل أدواتها النقدية الأخرى ، وركزت على هدف واحد أوحد هو تحقيق الأستقرار الأقتصادي بمفهوم ضيق يرتكز على مكافحة التضخم المرتبط بالأستيرادات (( وليس المساهمة الفعالة في أعادة هيكلة الأقتصاد بما يحقق تنميته )) وعن طريق سياسة أو أداة نقدية واحدة تمثلت في تثبيت سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار . والغريب أن هذا الهدف المركزي للسياسة النقدية التي يتبعها البنك


صفحة 11
المركزي لم يتحقق ، بدليل تقلبات سعر صرف الدينار في المدة الأخيرة ،الأمر الذي ترتب عليه آثار سلبية جسيمة تمثلت في الميل الى : أرتفاع المستوى العام للأسعار وعدم الأستقرار الأقتصادي ودولرة الأقتصاد وأرتفاع الطلب على العملات الأجنبية والمضاربة عليها وأستمرار أستنزاف الأحتياطات الأجنبية وهروب رؤوس الأموال بشكل متسارع .
ومن الجدير بالذكر أن ما تم تقديمه من مبررات من قبل البنك المركزي عن أنخفاض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار بسبب زيادة الطلب على الأخير لظروف أرتبطت بعوامل خارجية خاصة ببعض الدول المجاورة (سوريا وأيران) فهو محاولة للهروب للأمام. فرغم أن الباحث لاينفي هذا التأثير الخارجي على تخفيض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار وعمل على تسارعه (( وقد يكون جزء من زيادة الطلب على الدولار مبررا من الناحية الأقتصادية ، لكونه ناتجا عن أرتفاع أستيرادات المواطنين العراقيين من الدول المجاورة هذه ، لكون أسعار صرف عملاتها تجاه الدولار أنخفضت الى ما يقارب 50% ، وهذا ينسجم مع سياسة الباب المفتوح في التحويل الخارجي التي يتبعها البنك المركزي أصلا )) ، الأ أن هذه النتائج السلبية كانت ستتحقق في كل الأحوال مع الزمن حتى بدون وجود هذا العامل الخارجي كما أوضحنا بشكل تحليلي في الفقرات أولا وثانيا أعلاه . علما أن ماتحقق سابقا من أستقرار نسبي في سعر صرف الدينار العراقي يعود أساسا الى أستنزاف ألأحتياطات الأجنبية وليس الى كفاءة وفاعلية السياسة النقدية التي أحالت البنك المركزي الى مجرد صراف آلي .

مايس 2012








صفحة 12





المراجع

1 - د. جليل شيعان ضمد البيضاني ، حرب العملات والنظام النقدي الدولي ، مجلة الأدارة والأقتصاد ، جامعة كربلاء ، العدد 2 لعام 2011 .
2 - د. جليل شيعان ضمد البيضاني و د . شعبان صدام الأمارة ، متطلبات أدارة الأحتياطات الأجنبية ، مجلة القادسية للعلوم الأقتصادية ، جامعة القادسية ، مجلد 13، العدد 1، 2011 .
3- Bijan B. Aghevli and others , Exchange Rate Policy in Developing Countries: Some Analytical Issues (Occasional Paper , IMF) March 1991
4-Corden W. Max ,Exchange rate policies for developing countries , The economic journal ,RES , Jan 1993 , UK





.
الدينار العراقي بين مزاد البنك المركزي وأستنزاف ألأحتياطات ووهم تثبيت سعر الصرف

جليل شيعان ضمد

المقدمة :
خلال الأشهر الثلاث الأخيرة وبشكل مفاجئ بدأ سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار يتعرض الى ضغوط كبيرة مسجلا مايقارب 1320 دينار لكل دولار بعد أن كان مستقرا ولمدة طويلة عند مستوى 1170 دينار. أثار هذا الحدث الكثير من التساؤلات العلمية الموضوعية ، التي سبق وأن أثيرت في المؤتمرات والندوات العلمية (وحتى الصحافة) من قبل معظم المختصين في هذا الشأن ، حول مدى كفاءة وفاعلية السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي العراقي منذ 2003 وحتى الآن في تحقيق أهدافها المعلنة في الأستقرار الأقتصادي وفي المساهمة الفعالة في تحقيق التنمية .هذه التساؤلات التي غالبا ما كانت تجابه من قبل عرابي هذه السياسة بالتجاهل . الآن وقد وقع المحظور وما كان متوقعا منذ مدة طويلة في عدم صمود الأستقرار المفتعل لسعر صرف الدينار ، والذي اعتبر خلال المدة الماضية من قبل البنك المركزي ومن قبل البعض (غير المتخصصين ) كمؤشر نجاح للسياسة النقدية ، فقد آن الأوان لأعادة النظر في رسم هذه السياسة القاصرة غير الفاعلة لجعلها تتناغم مع شقيقاتها الأخرى وخاصة السياسة المالية ضمن اطار السياسة الأقتصادية التي يفترض أن يكون مقياس نجاحها الأول والأخير تحقيق التنمية البشرية المستدامة .
أولا – الأهداف الخاطئة :
يعلن البنك المركزي العراقي باستمرار أن هدف سياسته النقدية هوتحقيق الأستقرار الأقتصادي الذي يعني بمفهومه أستقرار المستوى العام للأسعار ومعالجة التضخم بأستخدام وسيلة أساسية تتمثل بأستقرار سعر صرف الدينار عن طريق الأحتفاظ بأحتياطات أجنبية وخاصة الدولار بنسبة 100% مقابل العملة المصدرة التي تشكل القاعدة النقدية ( M0 )، وبالتالي أستعداده الدائم لتحويل الدينار الى ما يقابله من دولار بسعر صرف ثابت . علما أن المصدر الوحيد تقريبا لهذه الدولارات هو عائدات الدولة من الصادرات النفطية التي تشكل أكثر من 95% من صادرات العراق وموازنته العامة كما تشكل أكثر من 80% من أجمالي ناتجه المحلي .

صفحة 2

أن تحديد هدف السياسة النقدية ( الأستقرار الأقتصادي والحد من التضخم ) وطريقة الوصول أليه ( أستقرار سعر الصرف ) عن طريق ( الأحتفاظ بنسبة 100% من الأحتياطيات الأجنبية) بهذا الشكل من قبل البنك المركزي العراقي أثار ويثير جملة تساؤلات وأفتراضات تستحق المناقشة يمكن تلخيصها فيما يلي :

1 – الأستقرار الأقتصادي وسعر الصرف : أذا كان هدف الأستقرار الأقتصادي بمفهوم أستقرار المستوى العام للأسعار ومكافحة التضخم عن طريق تثبيت سعر الصرف يمكن أن يكون أحد أهم أهداف السياسة النقدية ، جنبا الى جنب مع هدف مكافحة البطالة ، قد يكون مفهوما ومبررا من الناحية الأقتصادية في الدول المتقدمة التي تعاني من الركود الأقتصادي وطاقة أنتاجية معطلة وقصور في الطلب الفعال ( أي أن لديها مشكلة طلب فعال ) ، فهل يصح أن يكون هدف السياسة النقدية في الدول النامية كالعراق هو الأستقرار الأقتصادي بهذا المفهوم رغم أنه يعاني من تخلف شديد في كل المجالات بمؤشرات التنمية البشرية المستدامة ورغم أنه يعاني بشكل مزمن من أختلالات هيكلية متنوعة لعل أهمها الأختلالات الأقتصادية مع قصور واضح في مختلف قطاعاته الأنتاجية وفرص العمل (أي أن لديه مشكلة عرض ) ؟
أن الهدف ألأساس للسياسة االأقتصادية بكل فروعها بما فيها السياسة النقدية، من الناحية الموضوعية في الدول النامية ، يفترض أن يكون تحقيق التنمية البشرية المستدامة بكل مؤشراتها . وبمعنى آخر أن السياسة النقدية وهي تنسق أهدافها الجزئية ضمن خصوصياتها النقدية المتعلقة بالطلب والعرض النقدي والأحتياطات الأجنبية وأسعار الفائدة وأسعار الصرف وغيرها من الأدوات النقدية ، لابد وأن يكون كل ذلك بما ينسجم مع تحقيق الهدف التنموي للسياسة الأقتصادية ، وبما ينسجم مع أهداف أهم فروعها : السياسة المالية .
أن أختصار أهداف السياسة النقدية بهدف الأستقرار الأقتصادي وفق مفهوم البنك المركزي العراقي المتمثل بأستقرار المستوى العام للأسعار المرتبط بأستقرار سعر صرف الدينار مقابل الدولار عن طريق الأحتفاظ بغطاء كامل للعملة من الأحتياطيات الأجنبية، والأستعداد التام لتلبية جميع طلبات تحويل الدينار الى الدولار سوف يفقد البنك المركزي وسياسته النقدية أهم وظائفها في المساهمة الجادة والتناغم مع السياسات الأخرى في تحقيق الهدف التنموي المركزي من ناحية ، كما يضحي من الناحية الأخرى بأدارة وأستخدام أدوات السياسة النقدية الأخرى، كسعر الخصم وسعرالفائدة وعمليات السوق المفتوحة ( على محدوديتها ) ونسبة الأحتياطي القانوني وأدارة الأئتمان والأحتياطات الأجنبية وكل ما يؤثر على العرض والطلب النقدي ، في المساهمة الفاعلة لتحقيق هذا الهدف التنموي.



صفحة 3
2– التضخم والتنمية : أفتراض أن أستقرار المستوى العام للأسعار وتحجيم التضخم يوفر بيئة مناسبة وضرورية لتحقيق التنمية . ورغم أن هذا الأفتراض يمكن أن يكون صحيحا في الدول المتقدمة الأ أنه قد لايكون كذلك بالضرورة في الدول النامية ومنها العراق . بل يمكن التضحية بهذا الهدف في حدود معينة لتحقيق الهدف المركزي التنمية . فأضافة الى أن شيئ من التضخم أو نسبة معتدلة منه يمكن أن تكون ضرورية لتحفيز المزيد من الأستثمار ، فأنه قد يكون مدروسا ومخططا له كوسيلة تمويلية مهمة وضرورية بشكل أصدار نقدي جديد ، لأنه في التحليل النهائي يمثل ضريبة غير مباشرة على جميع أفراد المجتمع . وفي مثل هذه الحالة يمكن بل ويجب معادلة آثاره السلبية المحتملة على الفئات الفقيرة بمختلف سياسات الدعم والتعقيم .

3– ألأستقرار الأقتصادي والتضخم : ما هو مفهوم الأستقرار الأقتصادي الحقيقي ؟ هل هو الحد من التضخم ؟ وهل التضخم ظاهرة نقدية في الدول النامية مرتبط بجانب الطلب يمكن معالجته بسياسة نقدية أنكماشية ؟
أن أساس مشكلة التضخم في الدول النامية ومن ضمنها العراق متعلق بشحة جانب العرض السلعي الذي مصدره في الغالب الأستيرادات . فالتضخم أذن ، وخاصة في العراق ، هو تضخم مستورد مرتبط بالتكاليف مترافق مع تدهورفي الأنتاج المحلي وأنخفاض أهميته النسبية في توليد الناتج المحلي الأجمالي بشكل مستمر وخاصة في القطاعات السلعية الحيوية الزراعية والصناعية لأنعدام جهود التنمية الحقيقية . فالسياسة النقدية ، كما جميع السياسات الفرعية الأخرى وخاصة السياسة المالية ، يفترض أن يكون هدفها الأساس التنمية الحقيقية (بمفهوم التنمية البشرية المستدامة ) الذي لا هدف غيره ، وتستخدم جميع أدواتها بشكل فعال للمشاركة في تحقيق هذا الهدف .
فالعلاج يكمن في تطوير القطاعات السلعية الأساسية وخاصة الزراعية والصناعية وتطوير القطاعات الخدمية الحيوية من أسكان ونقل وكهرباء وماء وصرف صحي وتعليم وصحة التي بدورها تولد دخولا تتناسب مع مخرجاتها لتحقيق المفهوم الحقيقي للأستقرار والتوازن الأقتصادي . وفي حالة وجود عدم توازن أو خلل في الجوانب السلعية والمالية ، وهي حالة حتمية في المراحل الأولى للتنمية ، فالأقتصاديون لايعدمون الوسائل والأدوات الأقتصادية العديدة لمعالجة ذلك والتي من ضمنها أدارة سعر الصرف ( وليس تثبيته ) بما يتناسب مع المتاح من الأحتياطات الأجنبية .




صفحة 4
4– وهم تثبيت سعر الصرف والدولار : لنفترض مجاراة البنك المركزي العراقي في أعتماده على سياسة نقدية ترتكز على تثبيت سعر صرف الدينار العراقي كوسيلة فعالة للأستقرار الأقتصادي والحد من التضخم بأعتبار أن الأستيرادات مصدر أغلب المعروض السلعي في الأقتصاد العراقي والتي تقدر بما يقارب (50) مليار دولار كمعدل سنويا . السؤال الآن : ماهو مفهوم تثبيت سعر صرف الدينار وكيف يمكن تحقيق ذلك من وجهة نظر البنك المركزي ؟ في حقيقة الأمر يعتمد الأخير على مفهوم قاصر للتثبيت لأنه يرتكز على تثبيت سعر صرف الدينار تجاه الدولار فقط . ومن الواضح أن التثبيت الفعال لسعر الصرف للحد من التضخم المستورد ( على أفتراض صحته ) يفترض أن يكون تثبيتا تجاه عملات أهم الشركاء التجاريين للعراق مثل اليورو والجنيه الأسترليني والين وليس فقط تجاه الدولار لأن أستيرادات العراق من الولايات المتحدة الأمريكية لاتشكل الأ جزء بسيط من أجمالي أستيراداته من دول العالم ، وبالتالي فالتثبيت تجاه الدولار لمعالجة أجمالي التضخم المستورد لا يتحقق الا بهذه النسبة البسيطة .
وكما هو معروف فأن الدولار فقد أكثر من 50% من قيمته مقابل العملات الرئيسية منذ تخلي الولايات المتحدة الأمريكية ومن طرف واحد عن ألتزاماتها الدولية في تحويل دولاراتها الى ذهب بموجب أتفاقات برتن وودز، أضافة الى عامل التضخم في أقتصادها ، ولازالت حالة الدولار في تدهور مستمر نتيجة تتابع الركود والأزمات التي تحيط بأقتصادها وخاصة الأزمة المالية والأقتصادية الأخيرة التي أبتدأت منذ عام 2008 ولا زالت مستمرة الى الآن . وعليه فسياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار لايحل مشكلة التضخم بل يفاقمها . ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحاول أن تعالج أزماتها الأقتصادية تعتمد مجموعة سياسات من ضمنها سياسة التخفيض المستمر لسعر صرف الدولار تجاه العملات الرئيسية ضمن أطار ما أصطلح على تسميته ((حرب العملات)) ، وتحاول جاهدة أن تضغط بأستمرار وخاصة على الصين لكونها الشريك التجاري الأبرز لرفع سعر صرف اليوان لمعالجة عجز ميزانها التجاري . وهي بهذه السياسة تعرض الدول النامية بشكل عام ومنها العراق التي تثبت سعر صرف عملتها مقابل الدولار الى ضرر بالغ لكون الصين شريك تجاري مهم لهذه الدول أيضا ، مما يضعف بشكل أكبر تأثير سياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار في تحجيم التضخم ، وهي السياسة التي طبقها البنك المركزي العراقي ، رافعا شعارها بل ومتفاخرا بها منذ 2003 حتي ألآن ، رغم محدودية تأثيرها في تحقيق أهداف هذه السياسة ذاتها التي تم أختصارها كما أشرنا أعلاه بتخفيف الضغوط التضخمية ، وأن نجحت الى حد ما في المراحل الأولى في تخفيض التضخم فقد تحقق ذلك على حساب أٍستنزاف الأحتياطات الأجنبية الحيوية ، التي مصدرها الأساس مورد ناضب ، لتحقيق التنمية ولم تؤد سوى الى الأستقرار عند مستوى التخلف .


صفحة 5
ثانيا : البنك المركزي العراقي والمزاد والصَراف الآلي :
ترتكز السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي العراقي منذ 2003 على فكرة مركزية تتعلق بوظيفة الأحتياطات الأجنبية التي تنحصر في هدف واحد أوحد هو تلبية جميع طلبات تحويل الدينار العراقي الى ما يقابله من دولار ، وأن هذه الأحتياطات تمثل حقوقا لحاملي الدينار العراقي . وقد أستتبع ذلك أن تقتصر وظيفة البنك المركزي على القيام بهذه المبادلة بين الدينار والدولار عن طريق ما أصطلح على تسميته خطأ ((مزاد العملة )) - لأن المزاد يعني تقديم عروض تتزايد في القيمة لشراء الدولارات من قبل المشترين الذي يفترض أن يكونوا في حالة تنافس على الشراء ، لكننا نشاهد أن جميع المشترين ليسوا في حالة تنافس بل مشترين فقط وبأي كمية يرغبون وبسعر واحد مثبت من قبل البنك المركزي . أن هذا الفهم لدور الأحتياطات الأجنبية جرد البنك المركزي وسياسته النقدية من وظائفها وأهدافها الحيوية في المساهمة الفعالة مع السياسات الأقتصادية الأخرى في تعزيز جهود التنمية ، وأحاله الى ما يشبه (( الصراف ألآلي )) . فالسياسة النقدية أضحت مجرد أستجابة لطلبات تحويل الدينار العراقي الى الدولار ولا شئ غير ذلك . ومع أتباع سياسة تثبيت سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار، أضافة الى عدم وجود قيود حقيقية على التحويل الخارجي ، أصبحت هذه السياسة وسيلة سهلة لتسرب الأحتياطات الأجنبية المتراكمة ووسيلة لهروب وغسيل الأموال ، رغم الأهمية الحيوية لهذه الأحتياطات للأقتصاد العراقي في تحقيق تنميته .

أن الأدارة الكفوءة للأحتياطات الأجنبية تتطلب تحقيق أقصى العوائد والمنافع المالية والأقتصادية وأقل مايمكن من خسائر ومخاطر وتسربات لهذا المورد الحيوي، هي في صلب وظائف وواجبات البنك المركزي والسياسة النقدية . لاسيما وأن مصدر هذه الأحتياطات الأجنبية ، كما هي حالة العراق ، لم يكن أقتصاد متطور ولا طاقات أنتاجية مستدامة حقيقية ، بل أن مصدرها الوحيد عملية أستخراج وتصديرالنفط . وهذه العملية ليست عملية أنتاج حقيقي بالمعنى الأقتصادي الدقيق ، بل هي مجرد عملية (( تسييل للثروة )) أي عملية أستهلاك لمصدر ناضب لا بد من تعويضه بمصدر متجدد . وعليه لابد من أستخراج النفط وتصديره بمقدار تحدده المتطلبات التنموية وبالتالي لابد من أدارة الأحتياطات الأجنبية وأدارة سعر الصرف بما يتلائم مع هذه المتطلبات . ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذا الموضوع الحيوي للأقتصاد العراقي بشكل تفصيلي بقدر مايهمنا التأكيد على الأستخدام الأمثل للأحتياطات الأجنبية بما يحقق الأهداف التنموية وخاصة في ظل ظروف العراق الأقتصادية والأجتماعية والسياسية الحالية .
وهنا لابد أن نؤكد على حقيقة أقتصادية ثابتة تبدو غائبة عن راسم السياسة النقدية في


صفحة 6
العراق ، وهي أن تثبيت سعر صرف أية عمله له أشتراطاته التي ترتكز على هيكل أقتصادي متطور وقدرة تنافسية ديناميكية تتميز بالمطاولة ، وليس أقتصادا متخلفا أو متخلفا ((غنيا)) معتمدا على مورد واحد ناضب كما هو الحال في الدول النفطية ومنها العراق . لأن تثبيت سعر الصرف هنا يعني تقييم عملات هذه الدول بأعلى من قيمتها الحقيقية ، ولابد في النهاية من أن تكون محل مضاربة وتحقيق مكاسب ومشجعا على هروب رؤوس الأموال وغسيلها على حساب أستنزاف الأحتياطات الأجنبية . فأذا كانت هذه حقيقة متكررة يذكرها لنا التاريخ الأقتصادي كما حدث مثلا في ألأزمة ألأقتصادية التي عاشتها كوريا الجنوبية عام 1997 التي كان أحد أهم أسبابها تثبيت سعر صرف عملتها المحلية أمام الدولار وتقييمه بأعلى من قيمته الحقيقية رغم كل المؤشرات الأقتصادية السلبية ،التي أبرزها عجز الحساب الجاري وميزان المدفوعات وعجز الموازنة العامة ، والتي تؤدي بشكل موضوعي الى وجوب تخفيض سعر الصرف . ألا أن الأصرار على تثبيت سعر الصرف لأسباب عديدة (( ومنها الفساد الأداري
وما يمكن تسميته – الفساد الناعم ¬¬- أي الفساد المغلف بالأدعاءات والمبررات التي تبدو موضوعية )) أدى الى المضاربة على عملتها وشجع على هروب رؤوس الأموال وأستنزاف
خطير في أحتياطاتها الأجنبية ودخول أقتصادها في أزمة عميقة أجبرها في النهاية الى أعادة تقييم وتخفيض سعر صرف عملتها ( أضافة الى مجموعة أجراءات أخرى ) لمعالجة أزمتها الأقتصادية . فأذا كان هذا حال كوريا الجنوبية ذات الأقتصاد المتقدم فكيف سيؤول الحال في الدول النامية ومنها العراق .
وبأختصار فأن سياسة تثبيت سعر الصرف والمغالاة فيه في الدول النامية بشكل عام (رغم جاذبيتها ) لاتحقق المصالح الأقتصادية لهذه الدول بل تؤدي حتما الى المضاربة وهروب رؤوس الأموال . كما يفقد السياسة النقدية أدارة أحد أهم أدواتها للمساهمة في تحقيق وتعزيز الأهداف التنموية . وأذا أفترضنا حسن النية في أتباع هذه السياسة غير الكفوءة فمن المعروف (( أن الطريق الى جهنم مملوء بالنوايا الحسنة ))
ثالثا – البنك المركزي وصندوق النقد الدولي : بقدر تعلق الأمر بالعراق فمن المعروف أن البنك المركزي وسياسته النقدية ( وكذلك وزارة المالية وسياستها المالية ) تسترشد بسياسات صندوق النقد الدولي التي تؤكد في أحد محاورها على تخفيض سعرصرف عملات الدول النامية بما يعكس حقيقة قيمتها أمام العملات الأجنبية . فكيف أستقام الأمر والبنك المركزي يطبق عكس هذه السياسة منذ 2003 ؟ بل وعمل على الرفع التدريجي لسعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار ألى أن حدثت الأزمة الأخيرة للدينار العراقي وأنخفاض سعر صرفه أمام الدولار ، وهذا ما كان متوقع في ضوء ظروف الدول


صفحة 7
النامية كما أشرنا سابقا. علما أن البنك المركزي يقدم مبررا يبدو موضوعيا في أتباعه سياسة التحسين المستمر لسعر صرف الدينار العراقي بأعتبار أن ذلك يرفع من مستوى معيشة المواطن العراقي الذي تتوفر أغلب أحتياجاته عن طريق الأستيرادات . لكن الوصول لهذا الهدف المهم والأساسي لا يتحقق بأتباع سياسة تثبيت سعر صرف الدينار أو تحسينه لأنه سيؤدي في النهاية، وهذا ما حدث مؤخرا، الى خلق البيئة الملائمة للمضاربة عليه وهروب رؤوس الأموال وأستنزاف الأحتياطات الأجنبية وتخفيض سعر صرفه أمام الدولار، ، مما أدى ويؤدي الى تدهور في مستوى معيشة المواطنين نتيجة الضغوط التضخمية التي يتعرض لها الأقتصاد العراقي ، وأفقد ويفقد العراق جزء مهما من أحتياطياته الأجنبية الحيوية لأستيراداته وتنميته .

السؤال المهم هنا : لماذا يصمت صندوق النقد الدولي عن سياسة البنك المركزي
العراقي في رفع سعر صرف الدينار أمام الدولار رغم أن الصندوق يؤكد على وجوب تخفيض سعر الصرف ؟ للأجابة عن هذا السؤال يمكن القول وبشكل مختصر أنه من المعروف أن برنامج صندوق النقد الدولي (( ليست من مهمة هذا البحث مناقشة السياسات التفصيلية لهذا البرنامج)) يؤكد ويستند على سياسات تحقيق التوازنات وخاصة المالية والنقدية في مرحلته الأولى المتضمنة (( سياسات الأستقرار والتثبيت )) التي تنطلق من العمل على تخفيض عجز الموازنة عن طريق أتباع سياسات لزيادة أيرادات الدولة – مثل زيادة الضرائب – من ناحية ، ومن ناحية أخرى أتباع سياسات لتخفيض النفقات العامة وخاصة في مجال النفقات الأجتماعية كالصحة والتعليم والأعانات والدعم وكذلك تخفيض النفقات المتعلقة تطوير مشاريع القطاع العام وتصفيته بالخصخصة وتقليص فرص العمل العامة . هذه السياسات التي تؤدي بمجملها
الى تقليص الطلب الكلي (( رغم أنخفاضه الشديد في الدول النامية بسبب ظروف التخلف )) ليتساوى أو يتوازن مع العرض الكلي ، وهو الأمر الذي يؤدي في النهاية الى المزيد من أفقار الطبقات والفئات الفقيرة والمهمشة في المجتمع . وهذا ما حدث في جميع الدول التي طبقت برنامج صندوق النقد الدولي بدون أستثناء سواء كان ذلك في أفريقيا أو أمريكا اللأتينية ، وتعتبر مصر مثالا صارخا لذلك . أن هدف الصندوق هذا مرتبط بأهداف الدول المسؤولة عن أدارته وهي الدول الرأسمالية (( ذات الأرث الأستعماري البغيض )) وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية التي من مصلحتها بقاء الدول النامية في حالة تخلف مستمر لتتمكن من الأستمرار في أستغلالها بشكل مباشر أو غير مباشر .
أن الحجة المقدمة من قبل من قبل صندوق الدولي في أهمية سياسات المرحلة الأولى


صفحة 8
لبرنامجه (( سياسات التثبيت والأستقرار )) والتي قدر لها أن تستغرق وقتا قصير نسبيا تم تقديره بين (( 3 – 5 ))سنوات كونها ضرورية للأنتقال الى المرحلة الثانية من برنامجه ((سياسات التكييف الهيكلي )) والتي يفترض أن تؤدي الى تحقيق أعادة هيكلة ألأقتصاد وتنميته وتطويره . أن اللافت للنظر أن جميع الدول التي طبقت برنامج الصندوق لم تستطع الأنتقال الى المرحلة الثانية لكون المرحلة الأولى لم تؤدي الا الى المزيد من الفقر والتخلف ، ذلك أن سياسات المرحلة الأولى تمثل مقدمات خاطئة فلابد أن تكون النتائج خاطئة . لقد أنتظرت هذه الدول التي طبقت وألتزمت بتطبيق برنامج الصندوق طويلا على أمل الأنتقال الى المرحلة الثانية الأكذوبة ، مرحلة أعادة الهيكلة والتنمية ، ولكنه أنتظار بلا أمل : (( أنتظار گوتو ، گوتو الذي لايأتي أبدا )) .
من هذه المقدمة يبدو الجواب واضحا على التساؤل أعلاه . فأذا كانت سياسات الصندوق تؤدي الى المزيد من أفقار(( الدول النامية الفقيرة ))عن طريق تحجيم وعدم تطوير طاقاتها الأنتاجية المادية والبشرية ، فالأسلوب الأمثل لتحقيق نفس الهدف ، أي الأفقار ، في ((الدول النامية الغنية )) كالدول النفطية ومنها العراق العمل على تبديد ثروات هذه الدول في
المجالات غير الأنتاجية ، والعمل على أتباع سياسات تؤدي الى أستنزافها عن طريق فتح باب الأستيرادات على مصراعيه (( دون ضوابط من وجهة نظر تنموية )) أو هروبها الى الخارج. ومن هنا يتضح لنا سر الصمت المريب لصندوق النقد الدولي عن السياسة النقدية في العراق في تثبيت سعر صرف الدينار العراقي بل والمغالاة في تقييمه ، رغم أنه يتناقض مع سياسة الصندوق في التأكيد علي تخفيض سعر الصرف ، لأن ذلك يؤدي الي أستنزاف أحتياطاته الأجنبية وهروب رؤوس أمواله كما يضمن بقاءه في حالة التخلف.

رابعا – وهم أستقلالية البنك المركزي :
أن ألتزام البنك المركزي العراقي بسياسات صندوق النقد الدولي جعله يؤكد على أستقلاليته في رسم سياساته وعدم أمكانية تدخل الحكومة في المشاركة في رسم أهدافه وتفعيل أدواته المتنوعة والتنسيق مع السياسة المالية التي يفترض بالسياسة النقدية أن تكون تابعة لها . فمثلا قد تتطلب السياسة المالية زيادة النفقات العامة لتحقيق الأهداف التنموية والتي تترجم في عجز في الموازنة العامة الذي لابد من تغطيته عن طرق الأقتراض الداخلي ،من الجمهور أو المصارف المحلية أو البنك المركزي أولا ، أو الأقتراض الخارجي ثانيا أو الأثنين معا وفق النسب التي تخدم متطلبات التنمية . أن أمتناع البنك المركزي عن تقديم القروض التي تساعد الدولة في تنفيذ سياستها المالية ،التي يفترض أن تكون تنموية التوجه ، كما حصل فعلا عام 2010 وما بعدها بحجة أستقلاليته ، (( وهو فهم خاطئ لمفهوم الأستقلالية ، حيث أنه من


صفحة 9
الناحية المبدئية وكما هو حاصل فعلا خضوع جميع البنوك المركزية بما فيها ألأحتياطي الفدرالي الأمريكي الى الدولة وسياستها المالية بشكل أو بآخر ، رغم النص على أستقلالية بعضها ، لأن ذلك يحقق مصلحة عامة أولا ولأن البنك المركزي في النهاية مؤسسة تابعة للدولة ثانيا )) ، يثير أكثر من تساؤل وعلامة أستفهام ؟ كما أنه غير مبرر موضوعيا .
ولتوضيح ذلك يمكن القول أنه في حالة عدم كفاية حصيلة الأيرادات العامة بأنواعها لتمويل النفقات العامة فلا يجوز في هذه الحالة التوجه نحو الاقتراض الخارجي أولا (( وهذا ما يشجع عليه صندوق النقد الدولي لضمان تبعية الدولة لسياساته التي أشرنا أليها سابقا )) ، بل النظر في امكانية تمويل عجز الموازنة بالأقتراض الداخلي أبتداءا التي من ضمنها الاحتياطات الاجنبية المودعة لدى البنك المركزي العراقي لقاء سندات حكومية ضمن نسب أمينة تخضع للأعتبارات والشروط الاتية :
1- ان يكون عجز الموازنة ناتج عن زيادة الانفاق الاستثماري التنموي بشكل أساس وكذلك الضروري من الأنفاق التشغيلي الجاري .
2- أن يكون ذلك بعد أن يتم بذل كل الجهود الممكنة لرفع حصيلة الأيرادات العامة وخاصة الضرائب لتصل الى المعدلات التي تحقق الاهداف الاقتصادية والاجتماعية .
3- أن يكون الألتجاء الى الأحتياطات الأجنبية لدى البنك المركزي الى المدى الذي لايفقد فاعلية سياسته النقدية لتحقيق أهدافها في الاستقرار الاقتصادي والتنمية .
4- وكذلك الى المدى الذي يحافظ على نسبة أمينة من هذه الاحتياطات لتغطية حاجات الدولة من الأستيرادات وألتزاماتها الخارجية ولمدد يقدرها الأقتصاديون بين 3- 6 أشهر ، والتي تتاثر بالقدرة على التصدير وحالة ميزان المدفوعات .
ومن الجدير بالذكر أن أمكانية لجوء الحكومة الى الأحتياطيات الاجنبية لتمويل عجز الموازنة قد جوبهت برفض قوي من قبل البنك المركزي العراقي بحجج عديدة اهمها :
- أستقلالية البنك المركزي حيث لا ولاية للحكومة عليه.
- أن الاحتياطات الاجنبية لدى البنك المركزي هي لتغطية مطلوباته مقابل اصدار العملة المتداولة, وبالتالي فان هذه الاحتياطات هي حق للمواطنين حاملي هذه العملة .
- أضعاف قدرة البنك المركزي في تحقيق أهداف سياسته النقدية في الاستقرار الاقتصادي والسيطرة على التضخم عن طريق استقرار اسعار الصرف .

صفحة 10
وفي تقديرنا أن هذه الحجج رغم انها قد تستبطن الحرص والحذر الشديدين وقد تكون مدفوعة بأهداف نبيلة ألا أنها غير مقنعة أقتصاديا وغير موضوعية شكلا ومضمونا .
فمن ناحية الشكل فان البنك المركزي في النهاية مؤسسة تابعة للدولة وليس جزيرة منعزلة عنها ، وأن استقلاله النسبي لايعني أبتعاده عن التنسيق مع السياسة المالية في تحقيق هدف الدولة الأساس في التنمية والأكتفاء بالتركيز على هدف فرعي هو الاستقرار الاقتصادي بمفهوم تثبيت سعر الصرف (( المشكوك في فاعليته كما أوضحنا سابقا )). وعليه لابد وأن يكون هناك تنسيق وتوافق وتكامل بين السياستين المالية والنقدية .
أما من ناحية المضمون فليس من المعقول ألتجاء الحكومة الى الأقتراض الخارجي مقابل شروط متعددة الأهداف وفوائد ضخمة تثقل كاهل الموازنة وتؤدي الى المزيد من العجز وهي بالوقت نفسه تملك من الأحتياطات الاجنبية ما يكفي ويزيد عن حاجتها . علما أنه ليس
مطلوبا من البنك المركزي أن يحتفظ بنسبة 100% من الأحتياطات الأجنبية كغطاء للعملة المصدرة ، وهو في استطاعته أن يحقق جميع أهدافه ، بما فيها التنموية ،عن طريق الأحتفاظ بنسبة أقل مقابل السندات الحكومية تحدد في ضوء مؤشرات أقتصادية معروفة تتعلق بشكل أساس بمعدلات الحاجة الى تغطية الأستيرادات والألتزامات الخارجية لمدة محددة ((يمكن تشبيه الحالة بنسبة الاحتياطي القانوني الخاص بالمصارف التجارية – مع الفارق بالطبع – لكون أن الدولة تحتمل أفلاس بعض مصارفها , لكن لا يمكن تصور أفلاسها هي كدولة )) .
واذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصية الاقتصاد العراقي ألريعي وأعتماده على سلعة واحدة ,النفط الخام , كمصدر أساسي لأيراداته العامة وبالتالي أمكانية تعرضه لتقلبات غير محسوبة , فيمكن زيادة هذه النسبة من الاحتياطات الأجنبية لتصل مثلا ما بين 40%- 50% . أما المتبقي من هذه النسبة فيمكن أن يمول عجز الموازنة في المجالات الأستثمارية التنموية .

الخلاصة :
يمكن القول ، في ضوء ما أوضحناه سابقا ، أن السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي تميزت بعدم الكفاءة وعدم الفاعلية وتجاهلت تفعيل أدواتها النقدية الأخرى ، وركزت على هدف واحد أوحد هو تحقيق الأستقرار الأقتصادي بمفهوم ضيق يرتكز على مكافحة التضخم المرتبط بالأستيرادات (( وليس المساهمة الفعالة في أعادة هيكلة الأقتصاد بما يحقق تنميته )) وعن طريق سياسة أو أداة نقدية واحدة تمثلت في تثبيت سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار . والغريب أن هذا الهدف المركزي للسياسة النقدية التي يتبعها البنك


صفحة 11
المركزي لم يتحقق ، بدليل تقلبات سعر صرف الدينار في المدة الأخيرة ،الأمر الذي ترتب عليه آثار سلبية جسيمة تمثلت في الميل الى : أرتفاع المستوى العام للأسعار وعدم الأستقرار الأقتصادي ودولرة الأقتصاد وأرتفاع الطلب على العملات الأجنبية والمضاربة عليها وأستمرار أستنزاف الأحتياطات الأجنبية وهروب رؤوس الأموال بشكل متسارع .
ومن الجدير بالذكر أن ما تم تقديمه من مبررات من قبل البنك المركزي عن أنخفاض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار بسبب زيادة الطلب على الأخير لظروف أرتبطت بعوامل خارجية خاصة ببعض الدول المجاورة (سوريا وأيران) فهو محاولة للهروب للأمام. فرغم أن الباحث لاينفي هذا التأثير الخارجي على تخفيض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار وعمل على تسارعه (( وقد يكون جزء من زيادة الطلب على الدولار مبررا من الناحية الأقتصادية ، لكونه ناتجا عن أرتفاع أستيرادات المواطنين العراقيين من الدول المجاورة هذه ، لكون أسعار صرف عملاتها تجاه الدولار أنخفضت الى ما يقارب 50% ، وهذا ينسجم مع سياسة الباب المفتوح في التحويل الخارجي التي يتبعها البنك المركزي أصلا )) ، الأ أن هذه النتائج السلبية كانت ستتحقق في كل الأحوال مع الزمن حتى بدون وجود هذا العامل الخارجي كما أوضحنا بشكل تحليلي في الفقرات أولا وثانيا أعلاه . علما أن ماتحقق سابقا من أستقرار نسبي في سعر صرف الدينار العراقي يعود أساسا الى أستنزاف ألأحتياطات الأجنبية وليس الى كفاءة وفاعلية السياسة النقدية التي أحالت البنك المركزي الى مجرد صراف آلي .

مايس 2012








صفحة 12





المراجع

1 - د. جليل شيعان ضمد البيضاني ، حرب العملات والنظام النقدي الدولي ، مجلة الأدارة والأقتصاد ، جامعة كربلاء ، العدد 2 لعام 2011 .
2 - د. جليل شيعان ضمد البيضاني و د . شعبان صدام الأمارة ، متطلبات أدارة الأحتياطات الأجنبية ، مجلة القادسية للعلوم الأقتصادية ، جامعة القادسية ، مجلد 13، العدد 1، 2011 .
3- Bijan B. Aghevli and others , Exchange Rate Policy in Developing Countries: Some Analytical Issues (Occasional Paper , IMF) March 1991
4-Corden W. Max ,Exchange rate policies for developing countries , The economic journal ,RES , Jan 1993 , UK





.














الدينار العراقي بين مزاد البنك المركزي وأستنزاف ألأحتياطات ووهم تثبيت سعر الصرف

جليل شيعان ضمد

المقدمة :
خلال الأشهر الثلاث الأخيرة وبشكل مفاجئ بدأ سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار يتعرض الى ضغوط كبيرة مسجلا مايقارب 1320 دينار لكل دولار بعد أن كان مستقرا ولمدة طويلة عند مستوى 1170 دينار. أثار هذا الحدث الكثير من التساؤلات العلمية الموضوعية ، التي سبق وأن أثيرت في المؤتمرات والندوات العلمية (وحتى الصحافة) من قبل معظم المختصين في هذا الشأن ، حول مدى كفاءة وفاعلية السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي العراقي منذ 2003 وحتى الآن في تحقيق أهدافها المعلنة في الأستقرار الأقتصادي وفي المساهمة الفعالة في تحقيق التنمية .هذه التساؤلات التي غالبا ما كانت تجابه من قبل عرابي هذه السياسة بالتجاهل . الآن وقد وقع المحظور وما كان متوقعا منذ مدة طويلة في عدم صمود الأستقرار المفتعل لسعر صرف الدينار ، والذي اعتبر خلال المدة الماضية من قبل البنك المركزي ومن قبل البعض (غير المتخصصين ) كمؤشر نجاح للسياسة النقدية ، فقد آن الأوان لأعادة النظر في رسم هذه السياسة القاصرة غير الفاعلة لجعلها تتناغم مع شقيقاتها الأخرى وخاصة السياسة المالية ضمن اطار السياسة الأقتصادية التي يفترض أن يكون مقياس نجاحها الأول والأخير تحقيق التنمية البشرية المستدامة .
أولا – الأهداف الخاطئة :
يعلن البنك المركزي العراقي باستمرار أن هدف سياسته النقدية هوتحقيق الأستقرار الأقتصادي الذي يعني بمفهومه أستقرار المستوى العام للأسعار ومعالجة التضخم بأستخدام وسيلة أساسية تتمثل بأستقرار سعر صرف الدينار عن طريق الأحتفاظ بأحتياطات أجنبية وخاصة الدولار بنسبة 100% مقابل العملة المصدرة التي تشكل القاعدة النقدية ( M0 )، وبالتالي أستعداده الدائم لتحويل الدينار الى ما يقابله من دولار بسعر صرف ثابت . علما أن المصدر الوحيد تقريبا لهذه الدولارات هو عائدات الدولة من الصادرات النفطية التي تشكل أكثر من 95% من صادرات العراق وموازنته العامة كما تشكل أكثر من 80% من أجمالي ناتجه المحلي .

صفحة 2

أن تحديد هدف السياسة النقدية ( الأستقرار الأقتصادي والحد من التضخم ) وطريقة الوصول أليه ( أستقرار سعر الصرف ) عن طريق ( الأحتفاظ بنسبة 100% من الأحتياطيات الأجنبية) بهذا الشكل من قبل البنك المركزي العراقي أثار ويثير جملة تساؤلات وأفتراضات تستحق المناقشة يمكن تلخيصها فيما يلي :

1 – الأستقرار الأقتصادي وسعر الصرف : أذا كان هدف الأستقرار الأقتصادي بمفهوم أستقرار المستوى العام للأسعار ومكافحة التضخم عن طريق تثبيت سعر الصرف يمكن أن يكون أحد أهم أهداف السياسة النقدية ، جنبا الى جنب مع هدف مكافحة البطالة ، قد يكون مفهوما ومبررا من الناحية الأقتصادية في الدول المتقدمة التي تعاني من الركود الأقتصادي وطاقة أنتاجية معطلة وقصور في الطلب الفعال ( أي أن لديها مشكلة طلب فعال ) ، فهل يصح أن يكون هدف السياسة النقدية في الدول النامية كالعراق هو الأستقرار الأقتصادي بهذا المفهوم رغم أنه يعاني من تخلف شديد في كل المجالات بمؤشرات التنمية البشرية المستدامة ورغم أنه يعاني بشكل مزمن من أختلالات هيكلية متنوعة لعل أهمها الأختلالات الأقتصادية مع قصور واضح في مختلف قطاعاته الأنتاجية وفرص العمل (أي أن لديه مشكلة عرض ) ؟
أن الهدف ألأساس للسياسة االأقتصادية بكل فروعها بما فيها السياسة النقدية، من الناحية الموضوعية في الدول النامية ، يفترض أن يكون تحقيق التنمية البشرية المستدامة بكل مؤشراتها . وبمعنى آخر أن السياسة النقدية وهي تنسق أهدافها الجزئية ضمن خصوصياتها النقدية المتعلقة بالطلب والعرض النقدي والأحتياطات الأجنبية وأسعار الفائدة وأسعار الصرف وغيرها من الأدوات النقدية ، لابد وأن يكون كل ذلك بما ينسجم مع تحقيق الهدف التنموي للسياسة الأقتصادية ، وبما ينسجم مع أهداف أهم فروعها : السياسة المالية .
أن أختصار أهداف السياسة النقدية بهدف الأستقرار الأقتصادي وفق مفهوم البنك المركزي العراقي المتمثل بأستقرار المستوى العام للأسعار المرتبط بأستقرار سعر صرف الدينار مقابل الدولار عن طريق الأحتفاظ بغطاء كامل للعملة من الأحتياطيات الأجنبية، والأستعداد التام لتلبية جميع طلبات تحويل الدينار الى الدولار سوف يفقد البنك المركزي وسياسته النقدية أهم وظائفها في المساهمة الجادة والتناغم مع السياسات الأخرى في تحقيق الهدف التنموي المركزي من ناحية ، كما يضحي من الناحية الأخرى بأدارة وأستخدام أدوات السياسة النقدية الأخرى، كسعر الخصم وسعرالفائدة وعمليات السوق المفتوحة ( على محدوديتها ) ونسبة الأحتياطي القانوني وأدارة الأئتمان والأحتياطات الأجنبية وكل ما يؤثر على العرض والطلب النقدي ، في المساهمة الفاعلة لتحقيق هذا الهدف التنموي.



صفحة 3
2– التضخم والتنمية : أفتراض أن أستقرار المستوى العام للأسعار وتحجيم التضخم يوفر بيئة مناسبة وضرورية لتحقيق التنمية . ورغم أن هذا الأفتراض يمكن أن يكون صحيحا في الدول المتقدمة الأ أنه قد لايكون كذلك بالضرورة في الدول النامية ومنها العراق . بل يمكن التضحية بهذا الهدف في حدود معينة لتحقيق الهدف المركزي التنمية . فأضافة الى أن شيئ من التضخم أو نسبة معتدلة منه يمكن أن تكون ضرورية لتحفيز المزيد من الأستثمار ، فأنه قد يكون مدروسا ومخططا له كوسيلة تمويلية مهمة وضرورية بشكل أصدار نقدي جديد ، لأنه في التحليل النهائي يمثل ضريبة غير مباشرة على جميع أفراد المجتمع . وفي مثل هذه الحالة يمكن بل ويجب معادلة آثاره السلبية المحتملة على الفئات الفقيرة بمختلف سياسات الدعم والتعقيم .

3– ألأستقرار الأقتصادي والتضخم : ما هو مفهوم الأستقرار الأقتصادي الحقيقي ؟ هل هو الحد من التضخم ؟ وهل التضخم ظاهرة نقدية في الدول النامية مرتبط بجانب الطلب يمكن معالجته بسياسة نقدية أنكماشية ؟
أن أساس مشكلة التضخم في الدول النامية ومن ضمنها العراق متعلق بشحة جانب العرض السلعي الذي مصدره في الغالب الأستيرادات . فالتضخم أذن ، وخاصة في العراق ، هو تضخم مستورد مرتبط بالتكاليف مترافق مع تدهورفي الأنتاج المحلي وأنخفاض أهميته النسبية في توليد الناتج المحلي الأجمالي بشكل مستمر وخاصة في القطاعات السلعية الحيوية الزراعية والصناعية لأنعدام جهود التنمية الحقيقية . فالسياسة النقدية ، كما جميع السياسات الفرعية الأخرى وخاصة السياسة المالية ، يفترض أن يكون هدفها الأساس التنمية الحقيقية (بمفهوم التنمية البشرية المستدامة ) الذي لا هدف غيره ، وتستخدم جميع أدواتها بشكل فعال للمشاركة في تحقيق هذا الهدف .
فالعلاج يكمن في تطوير القطاعات السلعية الأساسية وخاصة الزراعية والصناعية وتطوير القطاعات الخدمية الحيوية من أسكان ونقل وكهرباء وماء وصرف صحي وتعليم وصحة التي بدورها تولد دخولا تتناسب مع مخرجاتها لتحقيق المفهوم الحقيقي للأستقرار والتوازن الأقتصادي . وفي حالة وجود عدم توازن أو خلل في الجوانب السلعية والمالية ، وهي حالة حتمية في المراحل الأولى للتنمية ، فالأقتصاديون لايعدمون الوسائل والأدوات الأقتصادية العديدة لمعالجة ذلك والتي من ضمنها أدارة سعر الصرف ( وليس تثبيته ) بما يتناسب مع المتاح من الأحتياطات الأجنبية .




صفحة 4
4– وهم تثبيت سعر الصرف والدولار : لنفترض مجاراة البنك المركزي العراقي في أعتماده على سياسة نقدية ترتكز على تثبيت سعر صرف الدينار العراقي كوسيلة فعالة للأستقرار الأقتصادي والحد من التضخم بأعتبار أن الأستيرادات مصدر أغلب المعروض السلعي في الأقتصاد العراقي والتي تقدر بما يقارب (50) مليار دولار كمعدل سنويا . السؤال الآن : ماهو مفهوم تثبيت سعر صرف الدينار وكيف يمكن تحقيق ذلك من وجهة نظر البنك المركزي ؟ في حقيقة الأمر يعتمد الأخير على مفهوم قاصر للتثبيت لأنه يرتكز على تثبيت سعر صرف الدينار تجاه الدولار فقط . ومن الواضح أن التثبيت الفعال لسعر الصرف للحد من التضخم المستورد ( على أفتراض صحته ) يفترض أن يكون تثبيتا تجاه عملات أهم الشركاء التجاريين للعراق مثل اليورو والجنيه الأسترليني والين وليس فقط تجاه الدولار لأن أستيرادات العراق من الولايات المتحدة الأمريكية لاتشكل الأ جزء بسيط من أجمالي أستيراداته من دول العالم ، وبالتالي فالتثبيت تجاه الدولار لمعالجة أجمالي التضخم المستورد لا يتحقق الا بهذه النسبة البسيطة .
وكما هو معروف فأن الدولار فقد أكثر من 50% من قيمته مقابل العملات الرئيسية منذ تخلي الولايات المتحدة الأمريكية ومن طرف واحد عن ألتزاماتها الدولية في تحويل دولاراتها الى ذهب بموجب أتفاقات برتن وودز، أضافة الى عامل التضخم في أقتصادها ، ولازالت حالة الدولار في تدهور مستمر نتيجة تتابع الركود والأزمات التي تحيط بأقتصادها وخاصة الأزمة المالية والأقتصادية الأخيرة التي أبتدأت منذ عام 2008 ولا زالت مستمرة الى الآن . وعليه فسياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار لايحل مشكلة التضخم بل يفاقمها . ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحاول أن تعالج أزماتها الأقتصادية تعتمد مجموعة سياسات من ضمنها سياسة التخفيض المستمر لسعر صرف الدولار تجاه العملات الرئيسية ضمن أطار ما أصطلح على تسميته ((حرب العملات)) ، وتحاول جاهدة أن تضغط بأستمرار وخاصة على الصين لكونها الشريك التجاري الأبرز لرفع سعر صرف اليوان لمعالجة عجز ميزانها التجاري . وهي بهذه السياسة تعرض الدول النامية بشكل عام ومنها العراق التي تثبت سعر صرف عملتها مقابل الدولار الى ضرر بالغ لكون الصين شريك تجاري مهم لهذه الدول أيضا ، مما يضعف بشكل أكبر تأثير سياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار في تحجيم التضخم ، وهي السياسة التي طبقها البنك المركزي العراقي ، رافعا شعارها بل ومتفاخرا بها منذ 2003 حتي ألآن ، رغم محدودية تأثيرها في تحقيق أهداف هذه السياسة ذاتها التي تم أختصارها كما أشرنا أعلاه بتخفيف الضغوط التضخمية ، وأن نجحت الى حد ما في المراحل الأولى في تخفيض التضخم فقد تحقق ذلك على حساب أٍستنزاف الأحتياطات الأجنبية الحيوية ، التي مصدرها الأساس مورد ناضب ، لتحقيق التنمية ولم تؤد سوى الى الأستقرار عند مستوى التخلف .


صفحة 5
ثانيا : البنك المركزي العراقي والمزاد والصَراف الآلي :
ترتكز السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي العراقي منذ 2003 على فكرة مركزية تتعلق بوظيفة الأحتياطات الأجنبية التي تنحصر في هدف واحد أوحد هو تلبية جميع طلبات تحويل الدينار العراقي الى ما يقابله من دولار ، وأن هذه الأحتياطات تمثل حقوقا لحاملي الدينار العراقي . وقد أستتبع ذلك أن تقتصر وظيفة البنك المركزي على القيام بهذه المبادلة بين الدينار والدولار عن طريق ما أصطلح على تسميته خطأ ((مزاد العملة )) - لأن المزاد يعني تقديم عروض تتزايد في القيمة لشراء الدولارات من قبل المشترين الذي يفترض أن يكونوا في حالة تنافس على الشراء ، لكننا نشاهد أن جميع المشترين ليسوا في حالة تنافس بل مشترين فقط وبأي كمية يرغبون وبسعر واحد مثبت من قبل البنك المركزي . أن هذا الفهم لدور الأحتياطات الأجنبية جرد البنك المركزي وسياسته النقدية من وظائفها وأهدافها الحيوية في المساهمة الفعالة مع السياسات الأقتصادية الأخرى في تعزيز جهود التنمية ، وأحاله الى ما يشبه (( الصراف ألآلي )) . فالسياسة النقدية أضحت مجرد أستجابة لطلبات تحويل الدينار العراقي الى الدولار ولا شئ غير ذلك . ومع أتباع سياسة تثبيت سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار، أضافة الى عدم وجود قيود حقيقية على التحويل الخارجي ، أصبحت هذه السياسة وسيلة سهلة لتسرب الأحتياطات الأجنبية المتراكمة ووسيلة لهروب وغسيل الأموال ، رغم الأهمية الحيوية لهذه الأحتياطات للأقتصاد العراقي في تحقيق تنميته .

أن الأدارة الكفوءة للأحتياطات الأجنبية تتطلب تحقيق أقصى العوائد والمنافع المالية والأقتصادية وأقل مايمكن من خسائر ومخاطر وتسربات لهذا المورد الحيوي، هي في صلب وظائف وواجبات البنك المركزي والسياسة النقدية . لاسيما وأن مصدر هذه الأحتياطات الأجنبية ، كما هي حالة العراق ، لم يكن أقتصاد متطور ولا طاقات أنتاجية مستدامة حقيقية ، بل أن مصدرها الوحيد عملية أستخراج وتصديرالنفط . وهذه العملية ليست عملية أنتاج حقيقي بالمعنى الأقتصادي الدقيق ، بل هي مجرد عملية (( تسييل للثروة )) أي عملية أستهلاك لمصدر ناضب لا بد من تعويضه بمصدر متجدد . وعليه لابد من أستخراج النفط وتصديره بمقدار تحدده المتطلبات التنموية وبالتالي لابد من أدارة الأحتياطات الأجنبية وأدارة سعر الصرف بما يتلائم مع هذه المتطلبات . ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذا الموضوع الحيوي للأقتصاد العراقي بشكل تفصيلي بقدر مايهمنا التأكيد على الأستخدام الأمثل للأحتياطات الأجنبية بما يحقق الأهداف التنموية وخاصة في ظل ظروف العراق الأقتصادية والأجتماعية والسياسية الحالية .
وهنا لابد أن نؤكد على حقيقة أقتصادية ثابتة تبدو غائبة عن راسم السياسة النقدية في


صفحة 6
العراق ، وهي أن تثبيت سعر صرف أية عمله له أشتراطاته التي ترتكز على هيكل أقتصادي متطور وقدرة تنافسية ديناميكية تتميز بالمطاولة ، وليس أقتصادا متخلفا أو متخلفا ((غنيا)) معتمدا على مورد واحد ناضب كما هو الحال في الدول النفطية ومنها العراق . لأن تثبيت سعر الصرف هنا يعني تقييم عملات هذه الدول بأعلى من قيمتها الحقيقية ، ولابد في النهاية من أن تكون محل مضاربة وتحقيق مكاسب ومشجعا على هروب رؤوس الأموال وغسيلها على حساب أستنزاف الأحتياطات الأجنبية . فأذا كانت هذه حقيقة متكررة يذكرها لنا التاريخ الأقتصادي كما حدث مثلا في ألأزمة ألأقتصادية التي عاشتها كوريا الجنوبية عام 1997 التي كان أحد أهم أسبابها تثبيت سعر صرف عملتها المحلية أمام الدولار وتقييمه بأعلى من قيمته الحقيقية رغم كل المؤشرات الأقتصادية السلبية ،التي أبرزها عجز الحساب الجاري وميزان المدفوعات وعجز الموازنة العامة ، والتي تؤدي بشكل موضوعي الى وجوب تخفيض سعر الصرف . ألا أن الأصرار على تثبيت سعر الصرف لأسباب عديدة (( ومنها الفساد الأداري
وما يمكن تسميته – الفساد الناعم ¬¬- أي الفساد المغلف بالأدعاءات والمبررات التي تبدو موضوعية )) أدى الى المضاربة على عملتها وشجع على هروب رؤوس الأموال وأستنزاف
خطير في أحتياطاتها الأجنبية ودخول أقتصادها في أزمة عميقة أجبرها في النهاية الى أعادة تقييم وتخفيض سعر صرف عملتها ( أضافة الى مجموعة أجراءات أخرى ) لمعالجة أزمتها الأقتصادية . فأذا كان هذا حال كوريا الجنوبية ذات الأقتصاد المتقدم فكيف سيؤول الحال في الدول النامية ومنها العراق .
وبأختصار فأن سياسة تثبيت سعر الصرف والمغالاة فيه في الدول النامية بشكل عام (رغم جاذبيتها ) لاتحقق المصالح الأقتصادية لهذه الدول بل تؤدي حتما الى المضاربة وهروب رؤوس الأموال . كما يفقد السياسة النقدية أدارة أحد أهم أدواتها للمساهمة في تحقيق وتعزيز الأهداف التنموية . وأذا أفترضنا حسن النية في أتباع هذه السياسة غير الكفوءة فمن المعروف (( أن الطريق الى جهنم مملوء بالنوايا الحسنة ))
ثالثا – البنك المركزي وصندوق النقد الدولي : بقدر تعلق الأمر بالعراق فمن المعروف أن البنك المركزي وسياسته النقدية ( وكذلك وزارة المالية وسياستها المالية ) تسترشد بسياسات صندوق النقد الدولي التي تؤكد في أحد محاورها على تخفيض سعرصرف عملات الدول النامية بما يعكس حقيقة قيمتها أمام العملات الأجنبية . فكيف أستقام الأمر والبنك المركزي يطبق عكس هذه السياسة منذ 2003 ؟ بل وعمل على الرفع التدريجي لسعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار ألى أن حدثت الأزمة الأخيرة للدينار العراقي وأنخفاض سعر صرفه أمام الدولار ، وهذا ما كان متوقع في ضوء ظروف الدول


صفحة 7
النامية كما أشرنا سابقا. علما أن البنك المركزي يقدم مبررا يبدو موضوعيا في أتباعه سياسة التحسين المستمر لسعر صرف الدينار العراقي بأعتبار أن ذلك يرفع من مستوى معيشة المواطن العراقي الذي تتوفر أغلب أحتياجاته عن طريق الأستيرادات . لكن الوصول لهذا الهدف المهم والأساسي لا يتحقق بأتباع سياسة تثبيت سعر صرف الدينار أو تحسينه لأنه سيؤدي في النهاية، وهذا ما حدث مؤخرا، الى خلق البيئة الملائمة للمضاربة عليه وهروب رؤوس الأموال وأستنزاف الأحتياطات الأجنبية وتخفيض سعر صرفه أمام الدولار، ، مما أدى ويؤدي الى تدهور في مستوى معيشة المواطنين نتيجة الضغوط التضخمية التي يتعرض لها الأقتصاد العراقي ، وأفقد ويفقد العراق جزء مهما من أحتياطياته الأجنبية الحيوية لأستيراداته وتنميته .

السؤال المهم هنا : لماذا يصمت صندوق النقد الدولي عن سياسة البنك المركزي
العراقي في رفع سعر صرف الدينار أمام الدولار رغم أن الصندوق يؤكد على وجوب تخفيض سعر الصرف ؟ للأجابة عن هذا السؤال يمكن القول وبشكل مختصر أنه من المعروف أن برنامج صندوق النقد الدولي (( ليست من مهمة هذا البحث مناقشة السياسات التفصيلية لهذا البرنامج)) يؤكد ويستند على سياسات تحقيق التوازنات وخاصة المالية والنقدية في مرحلته الأولى المتضمنة (( سياسات الأستقرار والتثبيت )) التي تنطلق من العمل على تخفيض عجز الموازنة عن طريق أتباع سياسات لزيادة أيرادات الدولة – مثل زيادة الضرائب – من ناحية ، ومن ناحية أخرى أتباع سياسات لتخفيض النفقات العامة وخاصة في مجال النفقات الأجتماعية كالصحة والتعليم والأعانات والدعم وكذلك تخفيض النفقات المتعلقة تطوير مشاريع القطاع العام وتصفيته بالخصخصة وتقليص فرص العمل العامة . هذه السياسات التي تؤدي بمجملها
الى تقليص الطلب الكلي (( رغم أنخفاضه الشديد في الدول النامية بسبب ظروف التخلف )) ليتساوى أو يتوازن مع العرض الكلي ، وهو الأمر الذي يؤدي في النهاية الى المزيد من أفقار الطبقات والفئات الفقيرة والمهمشة في المجتمع . وهذا ما حدث في جميع الدول التي طبقت برنامج صندوق النقد الدولي بدون أستثناء سواء كان ذلك في أفريقيا أو أمريكا اللأتينية ، وتعتبر مصر مثالا صارخا لذلك . أن هدف الصندوق هذا مرتبط بأهداف الدول المسؤولة عن أدارته وهي الدول الرأسمالية (( ذات الأرث الأستعماري البغيض )) وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية التي من مصلحتها بقاء الدول النامية في حالة تخلف مستمر لتتمكن من الأستمرار في أستغلالها بشكل مباشر أو غير مباشر .
أن الحجة المقدمة من قبل من قبل صندوق الدولي في أهمية سياسات المرحلة الأولى


صفحة 8
لبرنامجه (( سياسات التثبيت والأستقرار )) والتي قدر لها أن تستغرق وقتا قصير نسبيا تم تقديره بين (( 3 – 5 ))سنوات كونها ضرورية للأنتقال الى المرحلة الثانية من برنامجه ((سياسات التكييف الهيكلي )) والتي يفترض أن تؤدي الى تحقيق أعادة هيكلة ألأقتصاد وتنميته وتطويره . أن اللافت للنظر أن جميع الدول التي طبقت برنامج الصندوق لم تستطع الأنتقال الى المرحلة الثانية لكون المرحلة الأولى لم تؤدي الا الى المزيد من الفقر والتخلف ، ذلك أن سياسات المرحلة الأولى تمثل مقدمات خاطئة فلابد أن تكون النتائج خاطئة . لقد أنتظرت هذه الدول التي طبقت وألتزمت بتطبيق برنامج الصندوق طويلا على أمل الأنتقال الى المرحلة الثانية الأكذوبة ، مرحلة أعادة الهيكلة والتنمية ، ولكنه أنتظار بلا أمل : (( أنتظار گوتو ، گوتو الذي لايأتي أبدا )) .
من هذه المقدمة يبدو الجواب واضحا على التساؤل أعلاه . فأذا كانت سياسات الصندوق تؤدي الى المزيد من أفقار(( الدول النامية الفقيرة ))عن طريق تحجيم وعدم تطوير طاقاتها الأنتاجية المادية والبشرية ، فالأسلوب الأمثل لتحقيق نفس الهدف ، أي الأفقار ، في ((الدول النامية الغنية )) كالدول النفطية ومنها العراق العمل على تبديد ثروات هذه الدول في
المجالات غير الأنتاجية ، والعمل على أتباع سياسات تؤدي الى أستنزافها عن طريق فتح باب الأستيرادات على مصراعيه (( دون ضوابط من وجهة نظر تنموية )) أو هروبها الى الخارج. ومن هنا يتضح لنا سر الصمت المريب لصندوق النقد الدولي عن السياسة النقدية في العراق في تثبيت سعر صرف الدينار العراقي بل والمغالاة في تقييمه ، رغم أنه يتناقض مع سياسة الصندوق في التأكيد علي تخفيض سعر الصرف ، لأن ذلك يؤدي الي أستنزاف أحتياطاته الأجنبية وهروب رؤوس أمواله كما يضمن بقاءه في حالة التخلف.

رابعا – وهم أستقلالية البنك المركزي :
أن ألتزام البنك المركزي العراقي بسياسات صندوق النقد الدولي جعله يؤكد على أستقلاليته في رسم سياساته وعدم أمكانية تدخل الحكومة في المشاركة في رسم أهدافه وتفعيل أدواته المتنوعة والتنسيق مع السياسة المالية التي يفترض بالسياسة النقدية أن تكون تابعة لها . فمثلا قد تتطلب السياسة المالية زيادة النفقات العامة لتحقيق الأهداف التنموية والتي تترجم في عجز في الموازنة العامة الذي لابد من تغطيته عن طرق الأقتراض الداخلي ،من الجمهور أو المصارف المحلية أو البنك المركزي أولا ، أو الأقتراض الخارجي ثانيا أو الأثنين معا وفق النسب التي تخدم متطلبات التنمية . أن أمتناع البنك المركزي عن تقديم القروض التي تساعد الدولة في تنفيذ سياستها المالية ،التي يفترض أن تكون تنموية التوجه ، كما حصل فعلا عام 2010 وما بعدها بحجة أستقلاليته ، (( وهو فهم خاطئ لمفهوم الأستقلالية ، حيث أنه من


صفحة 9
الناحية المبدئية وكما هو حاصل فعلا خضوع جميع البنوك المركزية بما فيها ألأحتياطي الفدرالي الأمريكي الى الدولة وسياستها المالية بشكل أو بآخر ، رغم النص على أستقلالية بعضها ، لأن ذلك يحقق مصلحة عامة أولا ولأن البنك المركزي في النهاية مؤسسة تابعة للدولة ثانيا )) ، يثير أكثر من تساؤل وعلامة أستفهام ؟ كما أنه غير مبرر موضوعيا .
ولتوضيح ذلك يمكن القول أنه في حالة عدم كفاية حصيلة الأيرادات العامة بأنواعها لتمويل النفقات العامة فلا يجوز في هذه الحالة التوجه نحو الاقتراض الخارجي أولا (( وهذا ما يشجع عليه صندوق النقد الدولي لضمان تبعية الدولة لسياساته التي أشرنا أليها سابقا )) ، بل النظر في امكانية تمويل عجز الموازنة بالأقتراض الداخلي أبتداءا التي من ضمنها الاحتياطات الاجنبية المودعة لدى البنك المركزي العراقي لقاء سندات حكومية ضمن نسب أمينة تخضع للأعتبارات والشروط الاتية :
1- ان يكون عجز الموازنة ناتج عن زيادة الانفاق الاستثماري التنموي بشكل أساس وكذلك الضروري من الأنفاق التشغيلي الجاري .
2- أن يكون ذلك بعد أن يتم بذل كل الجهود الممكنة لرفع حصيلة الأيرادات العامة وخاصة الضرائب لتصل الى المعدلات التي تحقق الاهداف الاقتصادية والاجتماعية .
3- أن يكون الألتجاء الى الأحتياطات الأجنبية لدى البنك المركزي الى المدى الذي لايفقد فاعلية سياسته النقدية لتحقيق أهدافها في الاستقرار الاقتصادي والتنمية .
4- وكذلك الى المدى الذي يحافظ على نسبة أمينة من هذه الاحتياطات لتغطية حاجات الدولة من الأستيرادات وألتزاماتها الخارجية ولمدد يقدرها الأقتصاديون بين 3- 6 أشهر ، والتي تتاثر بالقدرة على التصدير وحالة ميزان المدفوعات .
ومن الجدير بالذكر أن أمكانية لجوء الحكومة الى الأحتياطيات الاجنبية لتمويل عجز الموازنة قد جوبهت برفض قوي من قبل البنك المركزي العراقي بحجج عديدة اهمها :
- أستقلالية البنك المركزي حيث لا ولاية للحكومة عليه.
- أن الاحتياطات الاجنبية لدى البنك المركزي هي لتغطية مطلوباته مقابل اصدار العملة المتداولة, وبالتالي فان هذه الاحتياطات هي حق للمواطنين حاملي هذه العملة .
- أضعاف قدرة البنك المركزي في تحقيق أهداف سياسته النقدية في الاستقرار الاقتصادي والسيطرة على التضخم عن طريق استقرار اسعار الصرف .

صفحة 10
وفي تقديرنا أن هذه الحجج رغم انها قد تستبطن الحرص والحذر الشديدين وقد تكون مدفوعة بأهداف نبيلة ألا أنها غير مقنعة أقتصاديا وغير موضوعية شكلا ومضمونا .
فمن ناحية الشكل فان البنك المركزي في النهاية مؤسسة تابعة للدولة وليس جزيرة منعزلة عنها ، وأن استقلاله النسبي لايعني أبتعاده عن التنسيق مع السياسة المالية في تحقيق هدف الدولة الأساس في التنمية والأكتفاء بالتركيز على هدف فرعي هو الاستقرار الاقتصادي بمفهوم تثبيت سعر الصرف (( المشكوك في فاعليته كما أوضحنا سابقا )). وعليه لابد وأن يكون هناك تنسيق وتوافق وتكامل بين السياستين المالية والنقدية .
أما من ناحية المضمون فليس من المعقول ألتجاء الحكومة الى الأقتراض الخارجي مقابل شروط متعددة الأهداف وفوائد ضخمة تثقل كاهل الموازنة وتؤدي الى المزيد من العجز وهي بالوقت نفسه تملك من الأحتياطات الاجنبية ما يكفي ويزيد عن حاجتها . علما أنه ليس
مطلوبا من البنك المركزي أن يحتفظ بنسبة 100% من الأحتياطات الأجنبية كغطاء للعملة المصدرة ، وهو في استطاعته أن يحقق جميع أهدافه ، بما فيها التنموية ،عن طريق الأحتفاظ بنسبة أقل مقابل السندات الحكومية تحدد في ضوء مؤشرات أقتصادية معروفة تتعلق بشكل أساس بمعدلات الحاجة الى تغطية الأستيرادات والألتزامات الخارجية لمدة محددة ((يمكن تشبيه الحالة بنسبة الاحتياطي القانوني الخاص بالمصارف التجارية – مع الفارق بالطبع – لكون أن الدولة تحتمل أفلاس بعض مصارفها , لكن لا يمكن تصور أفلاسها هي كدولة )) .
واذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصية الاقتصاد العراقي ألريعي وأعتماده على سلعة واحدة ,النفط الخام , كمصدر أساسي لأيراداته العامة وبالتالي أمكانية تعرضه لتقلبات غير محسوبة , فيمكن زيادة هذه النسبة من الاحتياطات الأجنبية لتصل مثلا ما بين 40%- 50% . أما المتبقي من هذه النسبة فيمكن أن يمول عجز الموازنة في المجالات الأستثمارية التنموية .

الخلاصة :
يمكن القول ، في ضوء ما أوضحناه سابقا ، أن السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي تميزت بعدم الكفاءة وعدم الفاعلية وتجاهلت تفعيل أدواتها النقدية الأخرى ، وركزت على هدف واحد أوحد هو تحقيق الأستقرار الأقتصادي بمفهوم ضيق يرتكز على مكافحة التضخم المرتبط بالأستيرادات (( وليس المساهمة الفعالة في أعادة هيكلة الأقتصاد بما يحقق تنميته )) وعن طريق سياسة أو أداة نقدية واحدة تمثلت في تثبيت سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار . والغريب أن هذا الهدف المركزي للسياسة النقدية التي يتبعها البنك


صفحة 11
المركزي لم يتحقق ، بدليل تقلبات سعر صرف الدينار في المدة الأخيرة ،الأمر الذي ترتب عليه آثار سلبية جسيمة تمثلت في الميل الى : أرتفاع المستوى العام للأسعار وعدم الأستقرار الأقتصادي ودولرة الأقتصاد وأرتفاع الطلب على العملات الأجنبية والمضاربة عليها وأستمرار أستنزاف الأحتياطات الأجنبية وهروب رؤوس الأموال بشكل متسارع .
ومن الجدير بالذكر أن ما تم تقديمه من مبررات من قبل البنك المركزي عن أنخفاض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار بسبب زيادة الطلب على الأخير لظروف أرتبطت بعوامل خارجية خاصة ببعض الدول المجاورة (سوريا وأيران) فهو محاولة للهروب للأمام. فرغم أن الباحث لاينفي هذا التأثير الخارجي على تخفيض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار وعمل على تسارعه (( وقد يكون جزء من زيادة الطلب على الدولار مبررا من الناحية الأقتصادية ، لكونه ناتجا عن أرتفاع أستيرادات المواطنين العراقيين من الدول المجاورة هذه ، لكون أسعار صرف عملاتها تجاه الدولار أنخفضت الى ما يقارب 50% ، وهذا ينسجم مع سياسة الباب المفتوح في التحويل الخارجي التي يتبعها البنك المركزي أصلا )) ، الأ أن هذه النتائج السلبية كانت ستتحقق في كل الأحوال مع الزمن حتى بدون وجود هذا العامل الخارجي كما أوضحنا بشكل تحليلي في الفقرات أولا وثانيا أعلاه . علما أن ماتحقق سابقا من أستقرار نسبي في سعر صرف الدينار العراقي يعود أساسا الى أستنزاف ألأحتياطات الأجنبية وليس الى كفاءة وفاعلية السياسة النقدية التي أحالت البنك المركزي الى مجرد صراف آلي .

مايس 2012








صفحة 12





المراجع

1 - د. جليل شيعان ضمد البيضاني ، حرب العملات والنظام النقدي الدولي ، مجلة الأدارة والأقتصاد ، جامعة كربلاء ، العدد 2 لعام 2011 .
2 - د. جليل شيعان ضمد البيضاني و د . شعبان صدام الأمارة ، متطلبات أدارة الأحتياطات الأجنبية ، مجلة القادسية للعلوم الأقتصادية ، جامعة القادسية ، مجلد 13، العدد 1، 2011 .
3- Bijan B. Aghevli and others , Exchange Rate Policy in Developing Countries: Some Analytical Issues (Occasional Paper , IMF) March 1991
4-Corden W. Max ,Exchange rate policies for developing countries , The economic journal ,RES , Jan 1993 , UK





.
الدينار العراقي بين مزاد البنك المركزي وأستنزاف ألأحتياطات ووهم تثبيت سعر الصرف

جليل شيعان ضمد

المقدمة :
خلال الأشهر الثلاث الأخيرة وبشكل مفاجئ بدأ سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار يتعرض الى ضغوط كبيرة مسجلا مايقارب 1320 دينار لكل دولار بعد أن كان مستقرا ولمدة طويلة عند مستوى 1170 دينار. أثار هذا الحدث الكثير من التساؤلات العلمية الموضوعية ، التي سبق وأن أثيرت في المؤتمرات والندوات العلمية (وحتى الصحافة) من قبل معظم المختصين في هذا الشأن ، حول مدى كفاءة وفاعلية السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي العراقي منذ 2003 وحتى الآن في تحقيق أهدافها المعلنة في الأستقرار الأقتصادي وفي المساهمة الفعالة في تحقيق التنمية .هذه التساؤلات التي غالبا ما كانت تجابه من قبل عرابي هذه السياسة بالتجاهل . الآن وقد وقع المحظور وما كان متوقعا منذ مدة طويلة في عدم صمود الأستقرار المفتعل لسعر صرف الدينار ، والذي اعتبر خلال المدة الماضية من قبل البنك المركزي ومن قبل البعض (غير المتخصصين ) كمؤشر نجاح للسياسة النقدية ، فقد آن الأوان لأعادة النظر في رسم هذه السياسة القاصرة غير الفاعلة لجعلها تتناغم مع شقيقاتها الأخرى وخاصة السياسة المالية ضمن اطار السياسة الأقتصادية التي يفترض أن يكون مقياس نجاحها الأول والأخير تحقيق التنمية البشرية المستدامة .
أولا – الأهداف الخاطئة :
يعلن البنك المركزي العراقي باستمرار أن هدف سياسته النقدية هوتحقيق الأستقرار الأقتصادي الذي يعني بمفهومه أستقرار المستوى العام للأسعار ومعالجة التضخم بأستخدام وسيلة أساسية تتمثل بأستقرار سعر صرف الدينار عن طريق الأحتفاظ بأحتياطات أجنبية وخاصة الدولار بنسبة 100% مقابل العملة المصدرة التي تشكل القاعدة النقدية ( M0 )، وبالتالي أستعداده الدائم لتحويل الدينار الى ما يقابله من دولار بسعر صرف ثابت . علما أن المصدر الوحيد تقريبا لهذه الدولارات هو عائدات الدولة من الصادرات النفطية التي تشكل أكثر من 95% من صادرات العراق وموازنته العامة كما تشكل أكثر من 80% من أجمالي ناتجه المحلي .

صفحة 2

أن تحديد هدف السياسة النقدية ( الأستقرار الأقتصادي والحد من التضخم ) وطريقة الوصول أليه ( أستقرار سعر الصرف ) عن طريق ( الأحتفاظ بنسبة 100% من الأحتياطيات الأجنبية) بهذا الشكل من قبل البنك المركزي العراقي أثار ويثير جملة تساؤلات وأفتراضات تستحق المناقشة يمكن تلخيصها فيما يلي :

1 – الأستقرار الأقتصادي وسعر الصرف : أذا كان هدف الأستقرار الأقتصادي بمفهوم أستقرار المستوى العام للأسعار ومكافحة التضخم عن طريق تثبيت سعر الصرف يمكن أن يكون أحد أهم أهداف السياسة النقدية ، جنبا الى جنب مع هدف مكافحة البطالة ، قد يكون مفهوما ومبررا من الناحية الأقتصادية في الدول المتقدمة التي تعاني من الركود الأقتصادي وطاقة أنتاجية معطلة وقصور في الطلب الفعال ( أي أن لديها مشكلة طلب فعال ) ، فهل يصح أن يكون هدف السياسة النقدية في الدول النامية كالعراق هو الأستقرار الأقتصادي بهذا المفهوم رغم أنه يعاني من تخلف شديد في كل المجالات بمؤشرات التنمية البشرية المستدامة ورغم أنه يعاني بشكل مزمن من أختلالات هيكلية متنوعة لعل أهمها الأختلالات الأقتصادية مع قصور واضح في مختلف قطاعاته الأنتاجية وفرص العمل (أي أن لديه مشكلة عرض ) ؟
أن الهدف ألأساس للسياسة االأقتصادية بكل فروعها بما فيها السياسة النقدية، من الناحية الموضوعية في الدول النامية ، يفترض أن يكون تحقيق التنمية البشرية المستدامة بكل مؤشراتها . وبمعنى آخر أن السياسة النقدية وهي تنسق أهدافها الجزئية ضمن خصوصياتها النقدية المتعلقة بالطلب والعرض النقدي والأحتياطات الأجنبية وأسعار الفائدة وأسعار الصرف وغيرها من الأدوات النقدية ، لابد وأن يكون كل ذلك بما ينسجم مع تحقيق الهدف التنموي للسياسة الأقتصادية ، وبما ينسجم مع أهداف أهم فروعها : السياسة المالية .
أن أختصار أهداف السياسة النقدية بهدف الأستقرار الأقتصادي وفق مفهوم البنك المركزي العراقي المتمثل بأستقرار المستوى العام للأسعار المرتبط بأستقرار سعر صرف الدينار مقابل الدولار عن طريق الأحتفاظ بغطاء كامل للعملة من الأحتياطيات الأجنبية، والأستعداد التام لتلبية جميع طلبات تحويل الدينار الى الدولار سوف يفقد البنك المركزي وسياسته النقدية أهم وظائفها في المساهمة الجادة والتناغم مع السياسات الأخرى في تحقيق الهدف التنموي المركزي من ناحية ، كما يضحي من الناحية الأخرى بأدارة وأستخدام أدوات السياسة النقدية الأخرى، كسعر الخصم وسعرالفائدة وعمليات السوق المفتوحة ( على محدوديتها ) ونسبة الأحتياطي القانوني وأدارة الأئتمان والأحتياطات الأجنبية وكل ما يؤثر على العرض والطلب النقدي ، في المساهمة الفاعلة لتحقيق هذا الهدف التنموي.



صفحة 3
2– التضخم والتنمية : أفتراض أن أستقرار المستوى العام للأسعار وتحجيم التضخم يوفر بيئة مناسبة وضرورية لتحقيق التنمية . ورغم أن هذا الأفتراض يمكن أن يكون صحيحا في الدول المتقدمة الأ أنه قد لايكون كذلك بالضرورة في الدول النامية ومنها العراق . بل يمكن التضحية بهذا الهدف في حدود معينة لتحقيق الهدف المركزي التنمية . فأضافة الى أن شيئ من التضخم أو نسبة معتدلة منه يمكن أن تكون ضرورية لتحفيز المزيد من الأستثمار ، فأنه قد يكون مدروسا ومخططا له كوسيلة تمويلية مهمة وضرورية بشكل أصدار نقدي جديد ، لأنه في التحليل النهائي يمثل ضريبة غير مباشرة على جميع أفراد المجتمع . وفي مثل هذه الحالة يمكن بل ويجب معادلة آثاره السلبية المحتملة على الفئات الفقيرة بمختلف سياسات الدعم والتعقيم .

3– ألأستقرار الأقتصادي والتضخم : ما هو مفهوم الأستقرار الأقتصادي الحقيقي ؟ هل هو الحد من التضخم ؟ وهل التضخم ظاهرة نقدية في الدول النامية مرتبط بجانب الطلب يمكن معالجته بسياسة نقدية أنكماشية ؟
أن أساس مشكلة التضخم في الدول النامية ومن ضمنها العراق متعلق بشحة جانب العرض السلعي الذي مصدره في الغالب الأستيرادات . فالتضخم أذن ، وخاصة في العراق ، هو تضخم مستورد مرتبط بالتكاليف مترافق مع تدهورفي الأنتاج المحلي وأنخفاض أهميته النسبية في توليد الناتج المحلي الأجمالي بشكل مستمر وخاصة في القطاعات السلعية الحيوية الزراعية والصناعية لأنعدام جهود التنمية الحقيقية . فالسياسة النقدية ، كما جميع السياسات الفرعية الأخرى وخاصة السياسة المالية ، يفترض أن يكون هدفها الأساس التنمية الحقيقية (بمفهوم التنمية البشرية المستدامة ) الذي لا هدف غيره ، وتستخدم جميع أدواتها بشكل فعال للمشاركة في تحقيق هذا الهدف .
فالعلاج يكمن في تطوير القطاعات السلعية الأساسية وخاصة الزراعية والصناعية وتطوير القطاعات الخدمية الحيوية من أسكان ونقل وكهرباء وماء وصرف صحي وتعليم وصحة التي بدورها تولد دخولا تتناسب مع مخرجاتها لتحقيق المفهوم الحقيقي للأستقرار والتوازن الأقتصادي . وفي حالة وجود عدم توازن أو خلل في الجوانب السلعية والمالية ، وهي حالة حتمية في المراحل الأولى للتنمية ، فالأقتصاديون لايعدمون الوسائل والأدوات الأقتصادية العديدة لمعالجة ذلك والتي من ضمنها أدارة سعر الصرف ( وليس تثبيته ) بما يتناسب مع المتاح من الأحتياطات الأجنبية .




صفحة 4
4– وهم تثبيت سعر الصرف والدولار : لنفترض مجاراة البنك المركزي العراقي في أعتماده على سياسة نقدية ترتكز على تثبيت سعر صرف الدينار العراقي كوسيلة فعالة للأستقرار الأقتصادي والحد من التضخم بأعتبار أن الأستيرادات مصدر أغلب المعروض السلعي في الأقتصاد العراقي والتي تقدر بما يقارب (50) مليار دولار كمعدل سنويا . السؤال الآن : ماهو مفهوم تثبيت سعر صرف الدينار وكيف يمكن تحقيق ذلك من وجهة نظر البنك المركزي ؟ في حقيقة الأمر يعتمد الأخير على مفهوم قاصر للتثبيت لأنه يرتكز على تثبيت سعر صرف الدينار تجاه الدولار فقط . ومن الواضح أن التثبيت الفعال لسعر الصرف للحد من التضخم المستورد ( على أفتراض صحته ) يفترض أن يكون تثبيتا تجاه عملات أهم الشركاء التجاريين للعراق مثل اليورو والجنيه الأسترليني والين وليس فقط تجاه الدولار لأن أستيرادات العراق من الولايات المتحدة الأمريكية لاتشكل الأ جزء بسيط من أجمالي أستيراداته من دول العالم ، وبالتالي فالتثبيت تجاه الدولار لمعالجة أجمالي التضخم المستورد لا يتحقق الا بهذه النسبة البسيطة .
وكما هو معروف فأن الدولار فقد أكثر من 50% من قيمته مقابل العملات الرئيسية منذ تخلي الولايات المتحدة الأمريكية ومن طرف واحد عن ألتزاماتها الدولية في تحويل دولاراتها الى ذهب بموجب أتفاقات برتن وودز، أضافة الى عامل التضخم في أقتصادها ، ولازالت حالة الدولار في تدهور مستمر نتيجة تتابع الركود والأزمات التي تحيط بأقتصادها وخاصة الأزمة المالية والأقتصادية الأخيرة التي أبتدأت منذ عام 2008 ولا زالت مستمرة الى الآن . وعليه فسياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار لايحل مشكلة التضخم بل يفاقمها . ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحاول أن تعالج أزماتها الأقتصادية تعتمد مجموعة سياسات من ضمنها سياسة التخفيض المستمر لسعر صرف الدولار تجاه العملات الرئيسية ضمن أطار ما أصطلح على تسميته ((حرب العملات)) ، وتحاول جاهدة أن تضغط بأستمرار وخاصة على الصين لكونها الشريك التجاري الأبرز لرفع سعر صرف اليوان لمعالجة عجز ميزانها التجاري . وهي بهذه السياسة تعرض الدول النامية بشكل عام ومنها العراق التي تثبت سعر صرف عملتها مقابل الدولار الى ضرر بالغ لكون الصين شريك تجاري مهم لهذه الدول أيضا ، مما يضعف بشكل أكبر تأثير سياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار في تحجيم التضخم ، وهي السياسة التي طبقها البنك المركزي العراقي ، رافعا شعارها بل ومتفاخرا بها منذ 2003 حتي ألآن ، رغم محدودية تأثيرها في تحقيق أهداف هذه السياسة ذاتها التي تم أختصارها كما أشرنا أعلاه بتخفيف الضغوط التضخمية ، وأن نجحت الى حد ما في المراحل الأولى في تخفيض التضخم فقد تحقق ذلك على حساب أٍستنزاف الأحتياطات الأجنبية الحيوية ، التي مصدرها الأساس مورد ناضب ، لتحقيق التنمية ولم تؤد سوى الى الأستقرار عند مستوى التخلف .


صفحة 5
ثانيا : البنك المركزي العراقي والمزاد والصَراف الآلي :
ترتكز السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي العراقي منذ 2003 على فكرة مركزية تتعلق بوظيفة الأحتياطات الأجنبية التي تنحصر في هدف واحد أوحد هو تلبية جميع طلبات تحويل الدينار العراقي الى ما يقابله من دولار ، وأن هذه الأحتياطات تمثل حقوقا لحاملي الدينار العراقي . وقد أستتبع ذلك أن تقتصر وظيفة البنك المركزي على القيام بهذه المبادلة بين الدينار والدولار عن طريق ما أصطلح على تسميته خطأ ((مزاد العملة )) - لأن المزاد يعني تقديم عروض تتزايد في القيمة لشراء الدولارات من قبل المشترين الذي يفترض أن يكونوا في حالة تنافس على الشراء ، لكننا نشاهد أن جميع المشترين ليسوا في حالة تنافس بل مشترين فقط وبأي كمية يرغبون وبسعر واحد مثبت من قبل البنك المركزي . أن هذا الفهم لدور الأحتياطات الأجنبية جرد البنك المركزي وسياسته النقدية من وظائفها وأهدافها الحيوية في المساهمة الفعالة مع السياسات الأقتصادية الأخرى في تعزيز جهود التنمية ، وأحاله الى ما يشبه (( الصراف ألآلي )) . فالسياسة النقدية أضحت مجرد أستجابة لطلبات تحويل الدينار العراقي الى الدولار ولا شئ غير ذلك . ومع أتباع سياسة تثبيت سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار، أضافة الى عدم وجود قيود حقيقية على التحويل الخارجي ، أصبحت هذه السياسة وسيلة سهلة لتسرب الأحتياطات الأجنبية المتراكمة ووسيلة لهروب وغسيل الأموال ، رغم الأهمية الحيوية لهذه الأحتياطات للأقتصاد العراقي في تحقيق تنميته .

أن الأدارة الكفوءة للأحتياطات الأجنبية تتطلب تحقيق أقصى العوائد والمنافع المالية والأقتصادية وأقل مايمكن من خسائر ومخاطر وتسربات لهذا المورد الحيوي، هي في صلب وظائف وواجبات البنك المركزي والسياسة النقدية . لاسيما وأن مصدر هذه الأحتياطات الأجنبية ، كما هي حالة العراق ، لم يكن أقتصاد متطور ولا طاقات أنتاجية مستدامة حقيقية ، بل أن مصدرها الوحيد عملية أستخراج وتصديرالنفط . وهذه العملية ليست عملية أنتاج حقيقي بالمعنى الأقتصادي الدقيق ، بل هي مجرد عملية (( تسييل للثروة )) أي عملية أستهلاك لمصدر ناضب لا بد من تعويضه بمصدر متجدد . وعليه لابد من أستخراج النفط وتصديره بمقدار تحدده المتطلبات التنموية وبالتالي لابد من أدارة الأحتياطات الأجنبية وأدارة سعر الصرف بما يتلائم مع هذه المتطلبات . ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذا الموضوع الحيوي للأقتصاد العراقي بشكل تفصيلي بقدر مايهمنا التأكيد على الأستخدام الأمثل للأحتياطات الأجنبية بما يحقق الأهداف التنموية وخاصة في ظل ظروف العراق الأقتصادية والأجتماعية والسياسية الحالية .
وهنا لابد أن نؤكد على حقيقة أقتصادية ثابتة تبدو غائبة عن راسم السياسة النقدية في


صفحة 6
العراق ، وهي أن تثبيت سعر صرف أية عمله له أشتراطاته التي ترتكز على هيكل أقتصادي متطور وقدرة تنافسية ديناميكية تتميز بالمطاولة ، وليس أقتصادا متخلفا أو متخلفا ((غنيا)) معتمدا على مورد واحد ناضب كما هو الحال في الدول النفطية ومنها العراق . لأن تثبيت سعر الصرف هنا يعني تقييم عملات هذه الدول بأعلى من قيمتها الحقيقية ، ولابد في النهاية من أن تكون محل مضاربة وتحقيق مكاسب ومشجعا على هروب رؤوس الأموال وغسيلها على حساب أستنزاف الأحتياطات الأجنبية . فأذا كانت هذه حقيقة متكررة يذكرها لنا التاريخ الأقتصادي كما حدث مثلا في ألأزمة ألأقتصادية التي عاشتها كوريا الجنوبية عام 1997 التي كان أحد أهم أسبابها تثبيت سعر صرف عملتها المحلية أمام الدولار وتقييمه بأعلى من قيمته الحقيقية رغم كل المؤشرات الأقتصادية السلبية ،التي أبرزها عجز الحساب الجاري وميزان المدفوعات وعجز الموازنة العامة ، والتي تؤدي بشكل موضوعي الى وجوب تخفيض سعر الصرف . ألا أن الأصرار على تثبيت سعر الصرف لأسباب عديدة (( ومنها الفساد الأداري
وما يمكن تسميته – الفساد الناعم ¬¬- أي الفساد المغلف بالأدعاءات والمبررات التي تبدو موضوعية )) أدى الى المضاربة على عملتها وشجع على هروب رؤوس الأموال وأستنزاف
خطير في أحتياطاتها الأجنبية ودخول أقتصادها في أزمة عميقة أجبرها في النهاية الى أعادة تقييم وتخفيض سعر صرف عملتها ( أضافة الى مجموعة أجراءات أخرى ) لمعالجة أزمتها الأقتصادية . فأذا كان هذا حال كوريا الجنوبية ذات الأقتصاد المتقدم فكيف سيؤول الحال في الدول النامية ومنها العراق .
وبأختصار فأن سياسة تثبيت سعر الصرف والمغالاة فيه في الدول النامية بشكل عام (رغم جاذبيتها ) لاتحقق المصالح الأقتصادية لهذه الدول بل تؤدي حتما الى المضاربة وهروب رؤوس الأموال . كما يفقد السياسة النقدية أدارة أحد أهم أدواتها للمساهمة في تحقيق وتعزيز الأهداف التنموية . وأذا أفترضنا حسن النية في أتباع هذه السياسة غير الكفوءة فمن المعروف (( أن الطريق الى جهنم مملوء بالنوايا الحسنة ))
ثالثا – البنك المركزي وصندوق النقد الدولي : بقدر تعلق الأمر بالعراق فمن المعروف أن البنك المركزي وسياسته النقدية ( وكذلك وزارة المالية وسياستها المالية ) تسترشد بسياسات صندوق النقد الدولي التي تؤكد في أحد محاورها على تخفيض سعرصرف عملات الدول النامية بما يعكس حقيقة قيمتها أمام العملات الأجنبية . فكيف أستقام الأمر والبنك المركزي يطبق عكس هذه السياسة منذ 2003 ؟ بل وعمل على الرفع التدريجي لسعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار ألى أن حدثت الأزمة الأخيرة للدينار العراقي وأنخفاض سعر صرفه أمام الدولار ، وهذا ما كان متوقع في ضوء ظروف الدول


صفحة 7
النامية كما أشرنا سابقا. علما أن البنك المركزي يقدم مبررا يبدو موضوعيا في أتباعه سياسة التحسين المستمر لسعر صرف الدينار العراقي بأعتبار أن ذلك يرفع من مستوى معيشة المواطن العراقي الذي تتوفر أغلب أحتياجاته عن طريق الأستيرادات . لكن الوصول لهذا الهدف المهم والأساسي لا يتحقق بأتباع سياسة تثبيت سعر صرف الدينار أو تحسينه لأنه سيؤدي في النهاية، وهذا ما حدث مؤخرا، الى خلق البيئة الملائمة للمضاربة عليه وهروب رؤوس الأموال وأستنزاف الأحتياطات الأجنبية وتخفيض سعر صرفه أمام الدولار، ، مما أدى ويؤدي الى تدهور في مستوى معيشة المواطنين نتيجة الضغوط التضخمية التي يتعرض لها الأقتصاد العراقي ، وأفقد ويفقد العراق جزء مهما من أحتياطياته الأجنبية الحيوية لأستيراداته وتنميته .

السؤال المهم هنا : لماذا يصمت صندوق النقد الدولي عن سياسة البنك المركزي
العراقي في رفع سعر صرف الدينار أمام الدولار رغم أن الصندوق يؤكد على وجوب تخفيض سعر الصرف ؟ للأجابة عن هذا السؤال يمكن القول وبشكل مختصر أنه من المعروف أن برنامج صندوق النقد الدولي (( ليست من مهمة هذا البحث مناقشة السياسات التفصيلية لهذا البرنامج)) يؤكد ويستند على سياسات تحقيق التوازنات وخاصة المالية والنقدية في مرحلته الأولى المتضمنة (( سياسات الأستقرار والتثبيت )) التي تنطلق من العمل على تخفيض عجز الموازنة عن طريق أتباع سياسات لزيادة أيرادات الدولة – مثل زيادة الضرائب – من ناحية ، ومن ناحية أخرى أتباع سياسات لتخفيض النفقات العامة وخاصة في مجال النفقات الأجتماعية كالصحة والتعليم والأعانات والدعم وكذلك تخفيض النفقات المتعلقة تطوير مشاريع القطاع العام وتصفيته بالخصخصة وتقليص فرص العمل العامة . هذه السياسات التي تؤدي بمجملها
الى تقليص الطلب الكلي (( رغم أنخفاضه الشديد في الدول النامية بسبب ظروف التخلف )) ليتساوى أو يتوازن مع العرض الكلي ، وهو الأمر الذي يؤدي في النهاية الى المزيد من أفقار الطبقات والفئات الفقيرة والمهمشة في المجتمع . وهذا ما حدث في جميع الدول التي طبقت برنامج صندوق النقد الدولي بدون أستثناء سواء كان ذلك في أفريقيا أو أمريكا اللأتينية ، وتعتبر مصر مثالا صارخا لذلك . أن هدف الصندوق هذا مرتبط بأهداف الدول المسؤولة عن أدارته وهي الدول الرأسمالية (( ذات الأرث الأستعماري البغيض )) وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية التي من مصلحتها بقاء الدول النامية في حالة تخلف مستمر لتتمكن من الأستمرار في أستغلالها بشكل مباشر أو غير مباشر .
أن الحجة المقدمة من قبل من قبل صندوق الدولي في أهمية سياسات المرحلة الأولى


صفحة 8
لبرنامجه (( سياسات التثبيت والأستقرار )) والتي قدر لها أن تستغرق وقتا قصير نسبيا تم تقديره بين (( 3 – 5 ))سنوات كونها ضرورية للأنتقال الى المرحلة الثانية من برنامجه ((سياسات التكييف الهيكلي )) والتي يفترض أن تؤدي الى تحقيق أعادة هيكلة ألأقتصاد وتنميته وتطويره . أن اللافت للنظر أن جميع الدول التي طبقت برنامج الصندوق لم تستطع الأنتقال الى المرحلة الثانية لكون المرحلة الأولى لم تؤدي الا الى المزيد من الفقر والتخلف ، ذلك أن سياسات المرحلة الأولى تمثل مقدمات خاطئة فلابد أن تكون النتائج خاطئة . لقد أنتظرت هذه الدول التي طبقت وألتزمت بتطبيق برنامج الصندوق طويلا على أمل الأنتقال الى المرحلة الثانية الأكذوبة ، مرحلة أعادة الهيكلة والتنمية ، ولكنه أنتظار بلا أمل : (( أنتظار گوتو ، گوتو الذي لايأتي أبدا )) .
من هذه المقدمة يبدو الجواب واضحا على التساؤل أعلاه . فأذا كانت سياسات الصندوق تؤدي الى المزيد من أفقار(( الدول النامية الفقيرة ))عن طريق تحجيم وعدم تطوير طاقاتها الأنتاجية المادية والبشرية ، فالأسلوب الأمثل لتحقيق نفس الهدف ، أي الأفقار ، في ((الدول النامية الغنية )) كالدول النفطية ومنها العراق العمل على تبديد ثروات هذه الدول في
المجالات غير الأنتاجية ، والعمل على أتباع سياسات تؤدي الى أستنزافها عن طريق فتح باب الأستيرادات على مصراعيه (( دون ضوابط من وجهة نظر تنموية )) أو هروبها الى الخارج. ومن هنا يتضح لنا سر الصمت المريب لصندوق النقد الدولي عن السياسة النقدية في العراق في تثبيت سعر صرف الدينار العراقي بل والمغالاة في تقييمه ، رغم أنه يتناقض مع سياسة الصندوق في التأكيد علي تخفيض سعر الصرف ، لأن ذلك يؤدي الي أستنزاف أحتياطاته الأجنبية وهروب رؤوس أمواله كما يضمن بقاءه في حالة التخلف.

رابعا – وهم أستقلالية البنك المركزي :
أن ألتزام البنك المركزي العراقي بسياسات صندوق النقد الدولي جعله يؤكد على أستقلاليته في رسم سياساته وعدم أمكانية تدخل الحكومة في المشاركة في رسم أهدافه وتفعيل أدواته المتنوعة والتنسيق مع السياسة المالية التي يفترض بالسياسة النقدية أن تكون تابعة لها . فمثلا قد تتطلب السياسة المالية زيادة النفقات العامة لتحقيق الأهداف التنموية والتي تترجم في عجز في الموازنة العامة الذي لابد من تغطيته عن طرق الأقتراض الداخلي ،من الجمهور أو المصارف المحلية أو البنك المركزي أولا ، أو الأقتراض الخارجي ثانيا أو الأثنين معا وفق النسب التي تخدم متطلبات التنمية . أن أمتناع البنك المركزي عن تقديم القروض التي تساعد الدولة في تنفيذ سياستها المالية ،التي يفترض أن تكون تنموية التوجه ، كما حصل فعلا عام 2010 وما بعدها بحجة أستقلاليته ، (( وهو فهم خاطئ لمفهوم الأستقلالية ، حيث أنه من


صفحة 9
الناحية المبدئية وكما هو حاصل فعلا خضوع جميع البنوك المركزية بما فيها ألأحتياطي الفدرالي الأمريكي الى الدولة وسياستها المالية بشكل أو بآخر ، رغم النص على أستقلالية بعضها ، لأن ذلك يحقق مصلحة عامة أولا ولأن البنك المركزي في النهاية مؤسسة تابعة للدولة ثانيا )) ، يثير أكثر من تساؤل وعلامة أستفهام ؟ كما أنه غير مبرر موضوعيا .
ولتوضيح ذلك يمكن القول أنه في حالة عدم كفاية حصيلة الأيرادات العامة بأنواعها لتمويل النفقات العامة فلا يجوز في هذه الحالة التوجه نحو الاقتراض الخارجي أولا (( وهذا ما يشجع عليه صندوق النقد الدولي لضمان تبعية الدولة لسياساته التي أشرنا أليها سابقا )) ، بل النظر في امكانية تمويل عجز الموازنة بالأقتراض الداخلي أبتداءا التي من ضمنها الاحتياطات الاجنبية المودعة لدى البنك المركزي العراقي لقاء سندات حكومية ضمن نسب أمينة تخضع للأعتبارات والشروط الاتية :
1- ان يكون عجز الموازنة ناتج عن زيادة الانفاق الاستثماري التنموي بشكل أساس وكذلك الضروري من الأنفاق التشغيلي الجاري .
2- أن يكون ذلك بعد أن يتم بذل كل الجهود الممكنة لرفع حصيلة الأيرادات العامة وخاصة الضرائب لتصل الى المعدلات التي تحقق الاهداف الاقتصادية والاجتماعية .
3- أن يكون الألتجاء الى الأحتياطات الأجنبية لدى البنك المركزي الى المدى الذي لايفقد فاعلية سياسته النقدية لتحقيق أهدافها في الاستقرار الاقتصادي والتنمية .
4- وكذلك الى المدى الذي يحافظ على نسبة أمينة من هذه الاحتياطات لتغطية حاجات الدولة من الأستيرادات وألتزاماتها الخارجية ولمدد يقدرها الأقتصاديون بين 3- 6 أشهر ، والتي تتاثر بالقدرة على التصدير وحالة ميزان المدفوعات .
ومن الجدير بالذكر أن أمكانية لجوء الحكومة الى الأحتياطيات الاجنبية لتمويل عجز الموازنة قد جوبهت برفض قوي من قبل البنك المركزي العراقي بحجج عديدة اهمها :
- أستقلالية البنك المركزي حيث لا ولاية للحكومة عليه.
- أن الاحتياطات الاجنبية لدى البنك المركزي هي لتغطية مطلوباته مقابل اصدار العملة المتداولة, وبالتالي فان هذه الاحتياطات هي حق للمواطنين حاملي هذه العملة .
- أضعاف قدرة البنك المركزي في تحقيق أهداف سياسته النقدية في الاستقرار الاقتصادي والسيطرة على التضخم عن طريق استقرار اسعار الصرف .

صفحة 10
وفي تقديرنا أن هذه الحجج رغم انها قد تستبطن الحرص والحذر الشديدين وقد تكون مدفوعة بأهداف نبيلة ألا أنها غير مقنعة أقتصاديا وغير موضوعية شكلا ومضمونا .
فمن ناحية الشكل فان البنك المركزي في النهاية مؤسسة تابعة للدولة وليس جزيرة منعزلة عنها ، وأن استقلاله النسبي لايعني أبتعاده عن التنسيق مع السياسة المالية في تحقيق هدف الدولة الأساس في التنمية والأكتفاء بالتركيز على هدف فرعي هو الاستقرار الاقتصادي بمفهوم تثبيت سعر الصرف (( المشكوك في فاعليته كما أوضحنا سابقا )). وعليه لابد وأن يكون هناك تنسيق وتوافق وتكامل بين السياستين المالية والنقدية .
أما من ناحية المضمون فليس من المعقول ألتجاء الحكومة الى الأقتراض الخارجي مقابل شروط متعددة الأهداف وفوائد ضخمة تثقل كاهل الموازنة وتؤدي الى المزيد من العجز وهي بالوقت نفسه تملك من الأحتياطات الاجنبية ما يكفي ويزيد عن حاجتها . علما أنه ليس
مطلوبا من البنك المركزي أن يحتفظ بنسبة 100% من الأحتياطات الأجنبية كغطاء للعملة المصدرة ، وهو في استطاعته أن يحقق جميع أهدافه ، بما فيها التنموية ،عن طريق الأحتفاظ بنسبة أقل مقابل السندات الحكومية تحدد في ضوء مؤشرات أقتصادية معروفة تتعلق بشكل أساس بمعدلات الحاجة الى تغطية الأستيرادات والألتزامات الخارجية لمدة محددة ((يمكن تشبيه الحالة بنسبة الاحتياطي القانوني الخاص بالمصارف التجارية – مع الفارق بالطبع – لكون أن الدولة تحتمل أفلاس بعض مصارفها , لكن لا يمكن تصور أفلاسها هي كدولة )) .
واذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصية الاقتصاد العراقي ألريعي وأعتماده على سلعة واحدة ,النفط الخام , كمصدر أساسي لأيراداته العامة وبالتالي أمكانية تعرضه لتقلبات غير محسوبة , فيمكن زيادة هذه النسبة من الاحتياطات الأجنبية لتصل مثلا ما بين 40%- 50% . أما المتبقي من هذه النسبة فيمكن أن يمول عجز الموازنة في المجالات الأستثمارية التنموية .

الخلاصة :
يمكن القول ، في ضوء ما أوضحناه سابقا ، أن السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي تميزت بعدم الكفاءة وعدم الفاعلية وتجاهلت تفعيل أدواتها النقدية الأخرى ، وركزت على هدف واحد أوحد هو تحقيق الأستقرار الأقتصادي بمفهوم ضيق يرتكز على مكافحة التضخم المرتبط بالأستيرادات (( وليس المساهمة الفعالة في أعادة هيكلة الأقتصاد بما يحقق تنميته )) وعن طريق سياسة أو أداة نقدية واحدة تمثلت في تثبيت سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار . والغريب أن هذا الهدف المركزي للسياسة النقدية التي يتبعها البنك


صفحة 11
المركزي لم يتحقق ، بدليل تقلبات سعر صرف الدينار في المدة الأخيرة ،الأمر الذي ترتب عليه آثار سلبية جسيمة تمثلت في الميل الى : أرتفاع المستوى العام للأسعار وعدم الأستقرار الأقتصادي ودولرة الأقتصاد وأرتفاع الطلب على العملات الأجنبية والمضاربة عليها وأستمرار أستنزاف الأحتياطات الأجنبية وهروب رؤوس الأموال بشكل متسارع .
ومن الجدير بالذكر أن ما تم تقديمه من مبررات من قبل البنك المركزي عن أنخفاض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار بسبب زيادة الطلب على الأخير لظروف أرتبطت بعوامل خارجية خاصة ببعض الدول المجاورة (سوريا وأيران) فهو محاولة للهروب للأمام. فرغم أن الباحث لاينفي هذا التأثير الخارجي على تخفيض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار وعمل على تسارعه (( وقد يكون جزء من زيادة الطلب على الدولار مبررا من الناحية الأقتصادية ، لكونه ناتجا عن أرتفاع أستيرادات المواطنين العراقيين من الدول المجاورة هذه ، لكون أسعار صرف عملاتها تجاه الدولار أنخفضت الى ما يقارب 50% ، وهذا ينسجم مع سياسة الباب المفتوح في التحويل الخارجي التي يتبعها البنك المركزي أصلا )) ، الأ أن هذه النتائج السلبية كانت ستتحقق في كل الأحوال مع الزمن حتى بدون وجود هذا العامل الخارجي كما أوضحنا بشكل تحليلي في الفقرات أولا وثانيا أعلاه . علما أن ماتحقق سابقا من أستقرار نسبي في سعر صرف الدينار العراقي يعود أساسا الى أستنزاف ألأحتياطات الأجنبية وليس الى كفاءة وفاعلية السياسة النقدية التي أحالت البنك المركزي الى مجرد صراف آلي .

مايس 2012








صفحة 12





المراجع

1 - د. جليل شيعان ضمد البيضاني ، حرب العملات والنظام النقدي الدولي ، مجلة الأدارة والأقتصاد ، جامعة كربلاء ، العدد 2 لعام 2011 .
2 - د. جليل شيعان ضمد البيضاني و د . شعبان صدام الأمارة ، متطلبات أدارة الأحتياطات الأجنبية ، مجلة القادسية للعلوم الأقتصادية ، جامعة القادسية ، مجلد 13، العدد 1، 2011 .
3- Bijan B. Aghevli and others , Exchange Rate Policy in Developing Countries: Some Analytical Issues (Occasional Paper , IMF) March 1991
4-Corden W. Max ,Exchange rate policies for developing countries , The economic journal ,RES , Jan 1993 , UK



#جليل_شيعان_ضمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دبي... جدلية التنمية والمديونية
- مبادئ ستراتيجية اولية لتطوير محافظة البصرة - عراق
- ثراء الموازنات وفقر التنمية -تحليل الموازنات العامة العراقية ...
- حرب العملات والنظام النقدي الدولي
- حرب العملات والنظتم النقدي الدولي
- سقف الدين الأمركي والنظام النقدي الدولي


المزيد.....




- صندوق النقد: مصر ستعالج تسهيلات السحب على المكشوف من البنك ا ...
- كيكة شوكولاتة غرقانة بصوص رهيب.. اقتصادية جداً ومفيش أسهل من ...
- المغرب وفرنسا يسعيان لتعزيز علاقتهما بمشاريع الطاقة والنقل
- مئات الشاحنات تتكدس على الحدود الروسية الليتوانية
- المغرب وفرنسا يسعيان إلى التعاون بمجال الطاقة النظيفة والنقل ...
- -وول ستريت- تقفز بقوة وقيمة -ألفابت- تتجاوز التريليوني دولار ...
- الذهب يصعد بعد صدور بيانات التضخم في أميركا
- وزير سعودي: مؤشرات الاستثمار في السعودية حققت أرقاما قياسية ...
- كيف يسهم مشروع سد باتوكا جورج في بناء مستقبل أفضل لزامبيا وز ...
- الشيكل مستمر في التقهقر وسط التوترات الجيوسياسية


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - جليل شيعان ضمد - الدينار العراقي بين مزاد البنك المركزي وأستنزاف ألأحتياطات ووهم تثبيت سعر الصرف