أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - مجموعة قصصية :خيال مآتة برتبة جنرال















المزيد.....



مجموعة قصصية :خيال مآتة برتبة جنرال


عادل الامين


الحوار المتمدن-العدد: 3702 - 2012 / 4 / 19 - 22:40
المحور: الادب والفن
    



الفهرس
1- الجندي الثالث ..كان طيبا
2- اللعنة التي حلت بالمكان
3- ذات الرداء الأبيض
4- حنين الي الوطن
5- صرخة ميتا
6- سنت جيمس
7- اليقين والقدر
8- خيال مآتة برتبة جنرال
9- الكلب
10- الطاعون
11- أخر جرائم مصطفى سعيد
12- الفراشة والنار
13- أم كواكية
14- الطاغية والحكيم
15- الرجل الذي يسبب الرعب للجميع










الجندي الثالث...كان طيبا


كانت الشمس كئيبة بعض الشيء عندما استيقظت مبكراً ذلك الصباح على صياح عم نواف جارنا الكويتي الذي يؤجر لنا جزء من داره نقيم فيه أنا وصديقي إبراهيم ،عم نواف رجل طيب توفت زوجته منذ أمد بعيد وتركت في نفسه جروح لا تندمل, ماتت حزناً .. على ابنها الذي مات في حادث مروع , صدمته دراجة نارية وذلك في يوم أغبر أخذهم عم نواف إلى الحديقة بعد انتهاء العام الدراسي , كما عودهم دائماً مع شقيقتيه عاد إلى المنزل من غير بسام , صدم ذلك زوجته وماتت مأسوفاً عليها , فأصبح عم نواف يتعلق بابنتيه تعلقا شديداُ جعله يرفض حتى فكرة رحيل ابنته سعاد بعد زواجها من صديقي الدكتور الصيدلي محسن , كان عم نواف يعمل موظف حسابات في بلدية الكويت وكالمعتاد كل صباح اتجه عم نواف نحو إبراهيم النائم وصب عليه الماء البارد عم نواف يحب إبراهيم كابنه تماماً هب إبراهيم مذعوراً وهو يئن .

- لا يا عم نواف !!! إني اليوم مرهق جداً .
- أنهض أيها السوداني الكسول : ذهب ملك الأرزاق وتركك نائماُ .
- لكني لم أذق طعم النوم منذ ثلاث أيام وأنا أقود تلك الشاحنة اللعينة .
نهض إبراهيم في تثاقل وأفسح لعم نواف مكاناً بجواره, إبراهيم من السودان , رجل عرك الحياه وعركته ,عاش طفولة يتيمة عمل بالجيش السوداني في مقتبل العمر, كان يقود الشاحنات العسكرية عبر حقول الألغام أبان الحرب الاهلية في جنوب السودان,ترك العمل بالجيش وهاجرإلى العراق إلتقى بشقيقى التؤم حسام.. حاربا مع العراقيين في الحرب العراقية الأيرانية, كان يقود مع شقيقي نفس الشاحنات عبر حقول الألغام الأسلاك الشائكة المكهربة ولكنهما سأما العمل بعد أن وضعت الحرب أوزارها وقرر التسلل إلى الكويت للبحث عني ,مات أخي التوأم برصاص حرس الحدود وتمكن إبراهيم من العبور والوصول ألى الكويت,أخبرني ان ذاك بأن اخي أرتكب غلطه في الظلام الدامس أشعل سيجاره كانت كافيه ان ترديه قتيلا برصاص حرس الحدود وكان ابراهيم قد حذره مراراً من اشعال السجائر في المناطق العسكرية وقد عرضهم في الماضي إلى قصف إيراني مركز أدىإلى تدمير الشاحنه التي كانا يقوداها بالتناوب, بسبب ضوء السيجاره.قام إبراهيم بدفن أخي في الصحراء الموحشه وتسلل مع خيوط الفجرالأولــى الى الكويت وهنا لم يألوا جهدا في البحث عني وجدني بسهوله علـــى ضوءالعنوان الذي كنت أراسلهم بــــــــه أبان تواجدهم في العراق ومن خلال علاقتي الطيبه بعم نواف وجدت له عملا في شركة نقل كويتيه كسائق وهو سعيد بعمله الآن , تركت الصديقان يتناوشان ونهضت أرتدي ملابسي إذ لم يبق على موعد الدوام الصباحي للمدرسة سوى نصف ساعة , اليوم أشعر بانقباض لا أدري له سبباً لا يشبه ذلك التوجس الذي أشعر به كل هذا اليوم بالذات من كل عام حيث ستقام اليوم المباراة الختامية بين مدرستنا ومدرسة الضاحية الغربية مدرسة محسن صديقي اللدود السابقة , كانوا قد انتصروا علينا في العام الماضي وأخذوا الكأس وتركوا لنا الدمع المر , أنا مدرس مادة الأدب الإنجليزي في المدرسة والمشرف على الفريق الأول في المدرسة التي تضم لاعبين من أفضل طلاب الصف الثالث الثانوي الأدبي هما وليد وطلال ..

كان عم نواف يحكي لإبراهيم حلماً مزعجاً شاهده بالأمس مما جعله منقبضاً حتى الصباح , هوٌن إبراهيم عليه أمره .. إبراهيم يدعي دائماً تفسير الأحلام ويسبب ذلك لصديقنا
نواف السعادة أحياناً وتارة يصيبه بالفزع الشديد ..

* * *
رن الجرس الصباحي وتدافع الطلاب أمامي الى داخل الفصول بعد أداة الطابور , كان يشرف عليه اليوم الأستاذ عبدا لودود من مدينة المنصورة التي تبعد عن قريتنا في مصر ثلاث أميال تقربياً , دخلت الفصل الثالث الأدبي , كان ضجيج الطلاب وأصوات المناضد يصم الآذان ولازلت أعاني من حالة الانقباض الغريبة التي انتابتني هذا الصباح , نظرت في أسى ومسحت بعيني الفصل بحثاً عن الطالبين الممتازين طلال ووليد , كان وليد بادي الاضطراب لأنه تسبب في الهدف الذي أصاب مرمانا في العام الماضي .. أخرج الطلاب كتاب الأدب الإنجليزي المقرر وهي القصة المحزنة (( وداعاً أيها السلاح )) للكاتب أرنست همنجواي , كان الدرس يدور حول الحرب العالمية الثانية , عن النازية والفاشية . . دار النقاش سجالاً بيني وبين الطلاب , وليد وطلال على تفوقهما في لعبة كرة القدم كانا أيضاً يمتازان بالجدية وسعة الأفق والنقاش بيننا لا ينقطع حتى إلى الحارة فهما من أبناء حارتنا , رفع طلال يده يريد الاستفسار . . فأذنت له .

- ما معنى اصطلاح المقاومة الوطنية يا أستاذ جمال ؟

- المقاومة الوطنية هي عندما يغزو بلد عدو يقوم أبناء الشعب القادرين على حمل السلاح على
القادرين على حمل السلاح على المقاومة بكافة السبل .

وأخذت أشرح لهم بإسهاب عن المعاني البطولية والدور المشرف لحركات المقاومة الوطنية في العالم . . جعلت الفصل يتحول إلى ثكنة عسكرية ثم أردفت قائلاً :-

- أرجو أن يكون درس اليوم دافع لنا في خوض المباراة أمام مدرسة الغربية بروح معنوية عالية.

رد وليد بصوت متحمس .

- أعاهدك يا أستاذ جمال أن سيكون حليفنا .

نظرت إلى وليد نظرة يعرفها جيداً أنه سيأتي بعدها تعليق لن يسعده .

- فعلاً إذا ذهبت لتنام فوراً بعد انتهاء اليوم الدراسي بدلاً من التسكع أمام مدرسة البنات .

ضج الفـصل بالضحـك ووجه وليد إلى وليد نظرة عتاب . . كنت أعرف أنه يحب ابنه نواف الصغرى رحاب ويجلس بجوار مدرستها , رن الجرس معلناً انتهاء الحصة وتسللت خارجاً وسط هتافات الطلاب فقد أثار موضوع الدرس حماستهم , وكان الصداع قد بدأ يشعرني بالدوار اتجهت إلى مكتب مشرف الدوام اليومي وأخذت منه أذن بالانصراف وفي الطريق استوقـفت سيارة أجرة إلى صيدلية صديقي اللدود محسن , يحكم الزيارات التي يقوم بها محسن لنا كثرت زياراتي إلى الصيدلية . محسن من الشباب الكويتي المثقـف يحب الإطلاع الحر على كافة أنواع الأدب العالمي . . يلتهم الكتب التهاماً وهذه هواية مشتركة بيننا . . دلفت إلى داخل الصيدلية بعد الدوران حول السيارة المرسيدس التي تـقـف أمام الباب ولمحته يـقـبـع في الداخـل بنظارته الطبية يطالع كتاب . . تنحنحت بصوت أجش .

- صباح الخير يا مدلل .

- يا هلا با بن النيل المعلم كرشة

- ما عندك اليوم

- رواية زقاق المدق

استدرت حول المنضدة وجلست قبالته , وضع محسن الكتاب بعيداً ونظر إلي ووجهه تضيئه ابتسامة عريضة , فقد تعود دائماً أن آتيه بالأخبار الطبية.

- أخبار طيبة وأخبار سيئة.

- فال الله ولا فالك . . هات الطيبة أولاً

- لقد وافق عم نواف على الزواج بعد أن أقنعه إبراهيم بأنكما ستقيمان معه كما يريد ثم بعد الزواج لكل حادث حديث .


ضحك محسن في جزل وقد امتلأت عيناه بالدموع وذلك لأن عم نواف كان دائماً يضع العراقيل أمام زواج ابنته سعاد بحجة أنه لا يستطيع أن يترك أبنته ترحل بعيداً عنه إلى الضاحية حيث يقيم محسن وردد محسن :

- إبراهيم له هدية مني , وجائزة كبري , ماذا أيضاً

- إننا اليوم سننتصر عليكم في المباراة هذا ما قاله إبراهيم بعد أن فسر حلم عم نواف في زيارته الصباحية اليوم
أطلق محسن ضحكة ساخرة كان لها فعلها في نفسي وزادت من إحساسي بالصداع . . نظر محسن إلي في إشفاق .

- ماذا بك تبدو مريضاً ؟ !

- لا أدري منذ صباح اليوم ينتابني شعور غريب بأن هناك شيء ما سيحدث .

- ماذا دهى أهل هذا البلد لقد حضر اليوم أكثر من ثلاثين زبون يطلبون أقراص مهدئة ويعانون من شعور غامض .
ألتفـت محسن إلى رف جواره وناولني علبة دواء كتب عليها طريقة التناول :-

- هذه الأقراص ستنهي الصداع فوراً .

- أرجو ذلك .
قطعت حديثي واتجهت نحو منحي أخـر , تذكرت الكتاب الذي وصلني بالبريد للتو من القاهرة , كنت أعده مفاجئة لصديقي الذي يحب الكتب كالقطع النادرة .
- لدي مفاجأة , ماذا تستحق ؟
أخرج محسن مفتاح السيارة المرسيدس وبطريقة درامية ألقاه على المنضدة , أخذت المفتاح ووضعته في جيب معطفي.

- نعم تستحق ذلك .

فتحت الجلدية وأخرجت منها كتاب (( ساعة نحس )) للكاتب الكولومبي جبريل جارسيا مركيز , أختطف صديقي الكتاب وأخذ القلم يقلب صفحاته في لهفه كأنه قطعة من ذهبية وهو يتمتم بعبارات الشكر :

- أسم غريب لرواية . . " ساعة نحس " !

- نعم غن هذا الكتاب الغريب الأطوار يتـفـنــن في وضع الأسماء والخواتم لرواياته في خاتمة هذا الكتاب مثلاًَ يقول (( أنتهي كل شئ . . امتلأت السجون وانتشر القتل في كل مكان وعمت الفوضى البلدة . . وجدوا أسلحة مخبأه في أرضية دكان الحلاق وتسرب أهل البلدة وانضموا إلى صفوف المتمردين في الجبال والغابات )).
كان محسن ينصت بانتباه شديد وهو يقلب الكتاب , نهضت واقفاً :

- نتقابل في الساعة الخامسة موعد المباراة .
- نتقابل في ساعة نحس !!

قالها محسن في سخرية الذي يضمن الفوز في المباراة ثم أردف قائلاً :

- هذا إذا تمكـنت من حضور المباراة !!
كانت هذه آخر كلماته وأنا أغلق الباب الزجاجي خارجـاً وفي الخارج تذكرت مفاتيح السيارة التي لا تزال في جيبي وللمرة الثالثة بعد المائة أسرق سيارة صديقي محسن الفارهة وانطلق بها إلى البيت تاركاً محسن يعود إلى داره بسيارة أجرة تحت الشمس المحرقة والسيارة منطلقة بي في شوارع الكويت المزدحمة خطر في رأسي أن أغير ملابسي في أسرع وقت ممكن وأبتلع أقراص الصداع ثم أغرق في نوم عميق حتى العصر موعد المباراة , أوقفت السيارة أمام البيت ودلفت إلى داخل المنزل لمحت رحاب بنت عم نواف , لم تذهب إلى المدرسة اليوم يبدو أنها مريضة وتعاني من قلبها الضعيف , حييتها ودلفت إلى شقتنا وأغلقت الباب على نفسي وألقيت بجسدي في الفراش بعد ابتلاع الأقراص حتى دون أن أغير ملابسي ورحت في سبات عميق .. استيقظت على ما يبدو عند منتصف الليل لا أدري كم كانت الساعة آنذاك عندما سمعت طرق عنيف على الباب , نهضت بصعوبة وفتحت البـاب لأواجه إبراهيم ووجهه يضج بالانفعالات .
- أين أنت جمال ؟ !!!
نظرت حولي في دهشة دلف إبراهيم غلى الداخل وقد بدأ عليه الانزعاج ثم أبتسم في إشفاق وقال :

- بحثت عنك في كل مكان , عندما لم أجدك ذهبت إلى المدرسة .

تذكرت المباراة وكأنما صعقت بتيار كهربائي صرخت :

اللعنة !! يبدو أنها أحد مقالب محسن , أعطاني أقراصاً منومة بدلاً من أقراص الصداع تباً له اللعين , والآن عرفت مغزى كلامه الأخير .
ضحك إبراهيم عندما ذكرت محسن وكاد يسقط على قفاه ونظر إلي مبتسماً :
- إذاً هذا هو السبب وجود سيارته في الخارج , لا عليك انتصرنا عليهم بهدفين مقابل هدف ولك أن تسعد اليوم .
رقصت طرباً وأنا أسمع الخبر نهض إبراهيم يجهز العشاء وذهبت إلى الحمام وأنا أغني كالمجنون , وعندما جلسنا على العشاء قلت لإبراهيم :

- أرجو أن تخبرني بالتفاصيل المملة على المباراة اليوم .
تنحنح إبراهيم ثم أردف :
- عندما ذهبت إلى المدرسة للبحث عنك وجدت الشباب في ذروة الاستعداد , كانوا منزعجين لغيابك , طمأنتهم وذهبت معهم المباراة وهناك كان محسن وطلاب المدرسة الغريبة تغص بهم مدرجات الملعب .
- أخبرني كيف جاءت الأهداف ؟
- أحرزوا هدفهم الأول بنفس طريقة العام الماضي , كان وليد مضطرباً وقد تخطاه جناحهم المزعج قيس عدة مرات ومن عرقلة وليد ليقس أحتسب الحكم ضربة جزاء نجم منها هدفهم الأول .
سرحت بعيداً وأنا أتخيل وجه وليد الذي غطته الدموع .

- مسكين وليد . . هذا شئ فوق احتماله.. لابد أنه بكي بكاء مراً .
- نعم أنهار تماماً , لكن اعتمدت خطة نعرفها في بلادي , غيرته من مركز الظهير إلى مركز الجناح حتى أعطيه فرصة تجدد ثقته في نفسه .
- كيف ذلك وليد يلعب في مركز الجناح .

- نعم هل تصدق أن وليد تحول فجأة إلى قاذفة نفاثة , أذهل كل المتفرجين , كان نجم المباراة , عكس العديد من الكرات تمكن طلال من استثمار أحدهما في إحراز هدف رأسي جميل أرتج لــه الملعب وانتهى الشوط الأول بهذه النتيجة تعادل الفريقين هــدف لكل منهما .

امتلأت نفسي بالرضا وأنا أسمع وقائع المباراة التي لم أراها بفعل صديقي اللدود دائماً محسن , ثم نظرت إلى إبراهيم المنفعل الذي واصل حديثه الشيق بأسلوبه السوداني وهو رجل رياضي مطبوع .
- في شوط المباراة الثاني دار اللعب سجالاً بين الفريقين , قبل آخــر المباراة بثلاث دقائق أنطلق وليد من مركز الجناح متخطياً مدافعهم العنيد بسام , توقع الجميع أن يعكس وليد الكرة لزملائه كالمعتاد حتى حارس المدرسة الغريبة توقع ذلك وتقدم كثيراً خارج مرماه لكن وليد المتألق أطلق كرة في قوس قاتل أسفرت عن هــدف في المرمي وسط ذهول الجميع , كان هدفاً رائعاً فعلاً .
ارتخيت على المسند وتنفست الصعداء .
- الحمد لله رب العالمين .
نهض إبراهيم وهو يجمع الأطباق

- كان وليد نجم المباراة بلا منازع .

- كيف كان وقع ذلك محسن ؟!

- ترك الملعب كالمعتاد وهو يلعن الحكم !

انتبهت فجأة للصمت الغريب الذي كان يلف المكان حتى الضوضاء الذي ينبعث من تلفزيون عم نواف في الشقة المقابلة غير مسموع
- ما هذا الهدوء المريب ؟ !
وكأنما أنتقل التوجس مني إلى إبراهيم فنهض وأتجه نحو النافذة ونظر إلى المدينة التي كانت تتثأب للنوم .

- حتى هذه اللحظة لم يحضر عم نواف وابنته لقد ذهبوا إلى السوق لشراء لوازم العرس ألا تعلم أنهم قرروا أن يكون الزواج في نهاية الأسبوع .
استدر إبراهيم , نظرت خلفه إلى المدينة التي تتلألأ بالأنوار كأنما ألقي خيمة من النجوم على الأرض وأبراج الكويت تلوح من البعد كأنها حرس أسطوري أو كائنات من العالم الآخر , فجأة اندفعت أضواء باهرة من بعيد تشق عنان السماء ثم تملاها انفجار قوي وصوت متقطع لطلقات رصاص , أنقطع التيار الكهربائي وأظلم المكان , أذهلتنا المفاجأة واندفعنا بعد ساعة من التوجس نتلمس طريقنا إلى الخارج على ضوء أعواد الثقاب . .
يبدو أن هناك شيء ما يحدث في المدينة، خرجنا إلى الشارع المظلم واندفعنا بين الخطوات المذعورة .

وفي أول الزقاق عند طرف الشارع جانبي أوقفنا جنديـان وقادانا عبر الزقاق إلى الفناء الخلفي للحارة حيث كان يجلس عم نواف وابنتيه المذعورتين وطلال ووليد يقبعان عند قدمي جندي ثالث يشهر عليهما بندقيته آلية , همس صديقي إبراهيم في أذني في دهشة

- أنهم العراقيون !! لك أن لا تصدق ذلك
كدت أصعق من هول المفاجئة وأنا أجلس جوار صديقي إبراهيم الذي أردف قائلا :
- أنا أعرف العراقيين كما أعرف أبنائي
رددت في أسى :
- أمر يبعث على الحيرة !!
كان الجنود الثالثة يتحركون في عصبية ويبدو على اثنين منهما أنهما متفقان تماماً بينما الثالث ظل مرتبكاً , أخذت أتفرس في ملامح الجندي الثالث الطفولية وإلى ملامح رفيقيه القاسية ولا أري أي انسجام .. السيارات العسكرية تندفع في الطريق أمامنا عند نهاية الزقاق توقفت عربة نقل سوداء نادى سائقها على الجنود إذا كان هناك أسرى ،تقدم الجنديان من وليد وطلال وقاما بسحبهما بالقوة في اتجاه العربة السوداء ثم عادا مرة أخرى، أشعل أحد الجنديين سيجارة و نظر الى الفتاتين نظرة طويلة ذات مغزى ثم نظر إلى رفيقه , احدهما سلاحه جانبا و اتجه نحو رحاب التي فرت مذعورة و اندست في صدر أبيها ، أنتزعها الجندي الضخم بالقوة بعد أن سدد لنواف لكمة قوية جعلته يغمى عليه و حملها و هي تصرخ و تتلوى و توسعه عضاً إلى الناحية المظلمة من الزقاق وحذا الجندي الثاني حذوه أيضا مع سعاد التفت الجندي إلى زميله الثالث الذي جمده الرعب و أمره أن ينتبه جيدا و استدار خلف زميله الى الزقاق المظلم شعرت ان قلبي تزق نظرت الى خلف زميله الى الزقاق المظلم , شعرت أن قلبي تمزق ،نظرت إلى صديقي إبراهيم الذي كان بتفرس في وجه الجندي الثالث وعرفت انه ينوي الهجوم على الجندي المذهول و يمزقه بمدية كان يحملها معه دائماً , مددت يدي خلسة و انتزعتها و أخفيتها تحت التراب و همست في حذر.

- إياك أن تفعل هذا !!
أخذ إبراهيم يرمق الجندي الثالث شذراً.
- إن هذا الفتى سينهار قريباً .
- أرجو ذلك.
علا صراخ الفتاتين القادم من الزقاق على صوت المدافع و طلقات الرصاص التي باتت قريبة جداًً , أفاق عم نواف و نهض بغتة و اندفع وهو يسب و يلعن , عاجله الجندي الثالث بوابل من الرصاص سقط بعده عم نواف وهو يذود عن عرضه , مات عم نواف و ماتت أشياء كثيرة غب داخلنا , فاض الدمع مــن عيني مدراراً وأنا أري جسده ممدد أمامي وعيناه اللتان لازال فيهما آثـار الغضب تشخصان إلى السماء , ظل الجندي يطلق الرصاص بصورة هستيرية عندما برز رفيقاه من الزقاق وهما ينظران إليه في غضب لم يتوقف عاجلهما بوابل من الرصاص أرداهما قتيلين , كانت هذه الأحداث تجري أمامنا كأنها فيلم سينمائي مرعب لم أدر هل هذا كابوس أم حقيقة ؟.
أنهار الجندي الثالث على الأرض الموحلة يبكي بحرقة ويلطخ وجهه وجسده وينتفض في تشنج محموم ويردد :
- يا ليتني لم أقتله , كان يشبه أبي !!
نهض إبراهيم ودلف نحو الجندي وربت برفق على كتفه :
- لا عليك يا أخي أنها الحرب وأوزارها .
هدأت أنفاس الجندي وأنهار على الجدار , يتنفس بصعوبة , تقدمت نحوه وأنا أهدي من روعه .

- ما أسمك .

- أسمي علي .
نظرت إليه في إشفاق كان وجهه الطفولى ينبئ بحالة التمزق الرهيبة التي تعاني منها دواخله المحطمة .
- لا عليك يا علي .. لقد صححت غلطتك وأخذت بثأر الرجل ويمكنك القيام بأعمال جليلة الآن ..

نظر الجندي إلي في دهشة , أخرجت مفتاح سيارة محسن من جيبي وأشرت له نحو الطرف الآخر من الزقاق .
- توجد سيارة مرسيدس وكما تعلم أن رفاقك يملئون المكان ..نرجو منك أن تحضر السيارة .

أومأ الجندي موافقاً وناول بندقيته لإبراهيم الذي نزر إليه في إشفاق وهو يمضي مبتعداً

- لو قلتُ هذا الجندي لكان هذا أسوأ عمل أقدم عليه في حياتي .

تابعت الجندي بنظري وهو يغيب في الظلام ثم ألتفت إلى إبراهيم .

- ألم أقل لك !! أن الجندي الثالث يختلف تماماً عن رفيقيه .
نهضت أنا وصديقي ودوي الحرب يملأ المكان واتجهنا إلى الزقاق حيث توجد الفتاتين .. كانتا مغمي عليهما تماماً وثيابهما ممزقة , أخرج صديقي قميصه وغطي به جسد سعاد وأمرني أن احذوا حذوه واقترب من رحاب , للأسف كانت جثة هامدة توقف قلبها الضعيف من الرعب الشديد التي كانت تعاني منه وحملتها حيث كنا نجلس أسجيتها جوار جثمان والدها , لحظات وكان نور المصابيح القوية للسيارة يبدد عتمه المكان توقفت السيارة جوارنا وترجل منها علي وحمل سعاد مع إبراهيم إلى المقعد الخلفي للسيارة ثم أنصرف الجندي وقبع جالساً عند الجدار , جلس صديقي إبراهيم على المقود وجلست جواره أحدق من نافذة العربة في ذهول إلى الجثث المتناثرة في الزقاق وقد بدأت دماؤها تتخثر :

- " من كان يظن أن هذه الأجساد التي كانت تنبض بالحياة هذا الصباح تكتنفها رهبة الموت الآن ؟! "

إنها الأقدار تصنع ما تشاء , أدار إبراهيم محرك السيارة ونظر إلى علي الذي قبع بعيداً ودفن رأسه بين ساعديه .

- هيا بنا نذهب يا علي .
رفع الجندي رأسه وعيناه المملوءتـان بالدموع والإجهاد تتطلعان ألينا ولوح بيده :
- إلى أين ؟؟ , نحن الجنود الموت هو ملاذنـا الأخير .من هذه الحروب الغبية التي لا تنتهي..
ألقيت علية نظرة وادع وقد دفن وجهه ين سـاعديه مرة أخرى وجسده يختلج في أسى , صـاح صديقي إبراهيم بلهجـة عسكرية آمــرة .
- أستاذ جمال !!! أغمض عينيك , كنت في الماضي أقود شاحنات الجيش القبيحة بين الأدغال وحقول الألغام في السودان والتاريخ يعيد نفسه وها اناذا أقوم بنفس العمل بين غابات الأسمنت..عند نهاية الزقاق سمعنا دوي طلقات مسدس ورأيته في المرآة ينهار علي الجدار ..

انطلقت السيارة كالسهم المارق تشق شوارع الكويت المشتعلة , لمحنا مدرعة على جانب الطريق , أدارت مدفعها نحونا وأطلقت قذيفة مدوية حاد عنها إبراهيم ببراعة , لولا مهارة إبراهيم في قيادة السيارة لكنا في عداد الأموات , أخذنا نتلمس طرق جانبية .. خلفنا المدينة المحترقة وراءنا وصوت المدافع والرصاص يمزق السكون كانت السيارات المذعورة تطوي طريق الإسفلت الملتوي كالثعبان متجهة جنوبا ً , ومصابيحها تتقاطع كحبات اللؤلؤ يبدوا أن الإخطبوط استشرى في المدينة , بينما السيارة الفارهة تنساب بنا في الطريـق خطر في بالي صديقنا محسن " أين هو الآن ؟ ! .. لقد أخطأت في حقه بأخذ سيارته , أرجو أن يكون تمكن من الخروج " كان إبراهيم يتمتم ويصر بأسنانه محدقاً في الطريق أمامه بعينين مفتوحتين إلى الآخر , كانت الطريق مزدحمة، أثر صديقي الانسياب بالسيارة على الرمال الناعمة في سباق مع الزمن , مرت اللحظات ثقيلة , مع أزيز المكيف الداخلي للسيارة والأنات التي تطلقها الفتاة المسكينة كلما طاحت السيارة في مطب رملي , أضحت هذه السيمفونية الرمادية* التي أغمضت عليها عيناي وأنا أسترجع وقائع هذا اليوم الرهيب في تداعي مرير .. ومع خيوط الفجر الأولى لاحت لنا أنوار مدينة الخفجي تتلامع من بعيد … كأنها ألف ابتسامة أعدت لاستقبال هناك....
هوامش السموفونية الرمادية قصيدة للدكتورة سعاد الصباح











اللعنة التي حلت بالمكان


الضيعة التي أختارها جدي ياسين لنقيم معه بعد أن حلت اللعنة بالمكان منذ نزوحنا من بلدة دير ياسين كانت أشبه بالجنة الموعودة.. منزل حجري مكون من طابقين.. به شرفة تطل على بساتين الكروم والزيتون في المنطقة التي تحيط بها الجبال من كل جانب وترتبط بمدينة رام الله بطريق ترابي، تراه من الشرفة التي أعتاد جدي الجلوس فيها كل صباح يجتر الذكريات ويشهد شروق الشمس بين الجبال.. الطريق يمتد أمام نظر جدي حتى يتوارى خلف الجبال كحية غبراء طويلة، كان جدي يتأمل هذا الطريق المترب بعينين كعيني الصقر وبقلب متوجس من شرفته العالية.. بعد أن تدفعه أمي فاطمة بكرسيه ذو العجلات فقد تقدم به العمر كثيراً..
يتألف بيتنا من أربع غرف في الطابق الأرضي، غرفة نقيم فيها أنا وشقيقي الصغير بسام.. غرفة يقيم فيها جدي وحده، غرفة يقيم فيها خالي محمود وحده أيضاً وتقيم زوجته زهرة وطفله محمد مع أمي.. لعلكم تتساءلون. لماذا يقيم خالي محمود وأسرته الصغيرة معناَ هكذاً؟!
* * *
قبل عامين وفي عيد الفطر.. قامت أمي كالمعتاد بصنع الكعك وتجهيزه لنا. أنا وجدي لنأخذه في زيارتنا المعتادة لخالي محمود في رام الله لتهنئته بالعيد والبيت الجديد، في ذلك اليوم المشهود عندما نزلنا من الحافلة واتجهنا إلى بيت خالي في الضاحية الجديدة فوجئنا بجنود الاحتلال يحاصرون المنزل والجرافات تقف عن كثب.. اقتربنا من المنزل وجدت زوجة خالي زهرة تولول.. خرج الجنود يسحبون خالي محمود النحيف البنية بقسوة ويقذفون به وطفله الذي بين يديه في الشارع وتحركت الجرافات لهدم المنزل الجديد، ظل خالي يقاوم بشدة والجنود يدفعونه ويسقط في الأرض المرة تلو المرة، استشاط جدي غضباً وناولني سلة الكعك ودفعني بعيداً وانقض على الجنود وانتزع خالي من براثنهم واحتضنه، ظل جسد خالي ينتفض بشدة وأخذ يعوي في حرقة. كانت نظرة واحدة لعينيه الطيبتين كافية لأعرف أن خالي قد فقد عقله تماماً، حدق فيه جدي في أسى متمتماً.
- يرحمك الله يا ولدي محمود .. أنت لا تتقن شيء سوى الشعر ولا تستطيع مقارعة اللعنة التي حلت بالمكان !!
ظل محمود يصرخ ويهزئ ويلعن حتى بعد تركنا المدينة.. وقفلنا عائدين إلى البيت .. هناك استقبلتنا أمي المتشحة دائماً بالسواد والهلع يغمر عينيها ومنذ لك اليوم وضع جدي القيد على كاحل خالي المجنون وحبسه في غرفته وحيداً.. كنت دائماً أنظر في عيون خالي المذهولتين وفمه المطبق بإصرار وأحس بالهوان.. ويقوم جدي بنظافته وحلاقة شعره ويحرص دائماً على ابعاد أي أداة حادة أو شيء يجعله يؤذي نفسه.
* * *
في البهو الكبير حيث نجتمع على الطعام تطالعك صورة عائلية لأسرتي.. أمي وأبي عبد الناصر الذي استشهد في حرب الاستنزاف في أواخر الستينيات بعد أن نفذ عملية ضد قوات الاحتلال ومن حينها وأمي غارقة في السواد والنواح وتردد دائماً أنها في انتظار الضيف ولما كبرت عرفت أن الضيف الذي تنتظره أمي الصابرة هو ملك الموت.
تطالعك أيضاً صورة شقيقتي سعاد، كانت تقيم معنا في الطابق الثاني مع زوجها وأولادها ثم هاجرو إلى لبنان في بداية الثمانينات، ذبحت مع زوجها وأولادها في مجزرة صبرا وشاتيلا وفي تلك الأيام بكت أمي بكاء امرأً وانهار جدي وأصبح يجلس على الكرسي ذو العجلات.
* * *
جدي ياسين رجل صلب المراس، قوي الشكيمة، له جسد فارع ومفتول العضلات، كانت تجمعني به أكثر من صداقة لابد أنه يرى نفسه في شخصي، أخبرني كيف كانوا في الماضي يقاومون الاحتلال واللعنة التي حلت بالمكان … أخبرني عن صديقه سعيد الذي يطلق عليه أبو النصر .. كان جدي يزور عائلة أبو النصر في دير ياسين .. أو قل ما تبقى من عائلة الرجل.. امرأة مسنة تجلس وحيدة في بيت كان حافل بالذكريات، ويدور هذا الحوار بيني وبين جدي.
- أين زوجها يا جدي؟
- في السجن منذ 1948.
- أين أبناؤها؟
- في امريكا وهم يحملون شهادات عليا.. أنهم أسرة عبقرية.
كنت اتجول في ردهات المنزل الخالي .. رأيت صورة لامرأة جميلة تحمل طفل وتحيط بها الملائكة.
- لمن هذه الصورة يا جدي؟
- انها مريم العذراء.
- هل هم مسيحيين يا جدي؟
- نعم.
- هل هم فلسطينيين؟
- نعم .. وعندنا تكبر قليلاً سأخذك لتزور أبو النصر.
وأظل أدور في البيت الخالي الذي يلفه الصمت وجدي جالس يرشف الشاي مع المرأة المسنة تحدثه عن أخبار ولديها وأحفادها في أمريكا وتوصيه لزوجها عندما يذهب إلى زيارته في السجن..
* * *
عندما ذهبنا إلى زيارة أبو النصر في السجن، وجدت إثارة لا توصف، كان جدي في اليوم الذي يقرر فيه السفر لزيارة صديقه يكتنفه نشاط غير عادي يرتدي أجمل الثياب ويحلق ويتطيب ويحمل معه حقيبة ملأة بكل ما يفرح الرجال خلف الأسوار، نمر خلف الأسلاك الشائكة والأبواب العديدة والجدران العالية والتفتيش المضني ونجلس في القاعة الكبرى ونلتقي بسعيد، تصيبني القشعريرة عندما أرى سعيد.. رجل في السبعين من عمره له شعر فضي وعينان زرقاوان تشعان سلام وطمأنينة، كان أيضاً ضخم الجثة كجدي، يتعانقان بقوة ويحاول كل منهما أن يقهر الآخر في لعبة قبضة اليد، وذلك بعد أن يتحدثا أحاديث ذات شجون عن اللعنة التي حلت بالمكان، وبرموز لا أفهمها.. قبل انتهاء الزيارة يقوما بفعلتهما التي تثير استياء الحراس وتزلزل قاعة السجن مستغلان التفاف السجناء حولهما وهما يمارسان لعبة لوي الذراع المفضلة لديهما.. يبدأ الضرب على الطاولة بطريقة رتيبة ويمتد الضرب إلى كل الطاولات ويندفع المساجين في ترديد كدوى النحل.
مهما هم تأخروا
فإنهم يأتون
من درب رام الله
أو من جبل الزيتون
من دمى الأطفال
من أساور النساء
باقة أنبياء
ليست لهم هوية
ليست لهم أسماء
يأتون مثل المن والسلوى
من السماء.
ويعم الهرج.. ويعلن الجرس انتهاء الزيارة ويدفعنا الحراس الساخطين للخروج ونتخطى الأبواب الكثيرة والأسلاك الشائكة والجنود المدججين بالأسلحة في رحلة العودة، يغمر وجه جدي الحزن النبيل ويظل صامتاً حتى نعود إلى البيت.
* * *
كان الصباح مهيباً والضباب يغمر الوادي، أمام البيت وجدي جالس على شرفته يتأمل الطريق المترب البعيد.. أمي تعد طعام الإفطار وتتحرك كالنحلة بين المطبخ وقاعة الطعام، زوجة خالي زهرة تجلس عن كثب تغسل ابنها على الطست وهو يصرخ في هلع من لذع الماء الدافئ ومن داخل الغرفة المغلقة ينبعث أنين خالي محمود .. ينادي بسام أخي الصغير، أنا جالس أذاكر في دروس الكيمياء اللعينة التي تحشو بها رؤوسنا جامعة نابلس .. خرج بسام ليجمع الزهور البرية ذات الرائحة الزكية والمبللة بندى الصباح لخالي الشاعر .. يشرق وجهه وتزول كل آثار الجنون عندما يجلب أخي بسام الزهور ويضعها في أصيص جوار فراشه، تعود له سكينته ويجلسان يتحدثان كصديقين ودوديين، خالي يحب بسام بصورة استثنائية ويستمع إلى احلامه الغضة، أن يكون لاعب كرة قدم ممتاز مثل اللاعب أحمد راضي.. لاعب كرة القدم العراقي.. ظل بسام دائماً يستقبلني بحفاوة عند عودتي من الجامعة، ويخطف حقيبتي ويأخذ من المجلات الرياضية التي بها صر اللاعب أحمد راضي ويقصها ويجمعها ثم يزين بها غرفتنا.
* * *
ظل الجد يتابع حفيده الصغير بنظراته من على الشرفة وعلى فمه ابتسامة عريضة، كان بسام يتنقل كالفراشة من مكان إلى آخر يقطف الأزهار..
فجأة من خلف الضباب لمح التراب والغبار يصعدان إلى عنان السماء، فقد كانت هناك دورية لجنود الاحتلال تقترب على طريق المترب.. نظر إليها الجد في توجس.. رفع بسام رأسه وأخذ يحدق في الأفق المدجج بالجنود بغضب، ألقى الزهور جانباً وأوسع الخطى نحوها.. أخذت تقترب رويداً رويداً.. تشنج الجد في كرسيه المتحرك وأخذ ينادي بصوت متحشرج كالفحيح.
- أحمد .. أحـ … مـ…د.
لا زلت جالس أذاكر دروسي وبكاء الطفل وصوت الراديو ونداء خالي في الداخل يشكلون سيموفينية الصباح.. وضعت أمي الطعام وأخذت تتلفت في توجس.
- أين بسام ؟!
- ذهب لقطف الزهور.
- هيا ناديه يا أحمد .. حتى لا يبرد الطعام.
جمعت كتبي ووضعتها في الحقيبة ودفعتها تحت المكتب وخرجت من الباب.. سمعت صوت جدي لأول مرة.. كان يصرخ ويشير بأصبعه إلى بسام الذي غدا نقطة بعيدة تتحرك في الأفق نحو الدورية.
عرفت كجدي الخطر المطبق والمقدم عليه أخي، اندفعت إلى الوادي أعدو بكل ما أوتيت من قوة، وأنا أصيح ولكن هيهات.. انحنى بسام والتقط حجر واستعد ليقذف به الدورية.. أصاب الجنود الفزع الشديد.. لعلع الرصاص بأصداء مؤلمة ممزقاً السكون وقذف بأخي كالخرقة على قارعة الطريق وابتعدت الدورية والجنود المذعورين ينظرون إلى الجسد الممدد بلا حراك في رعب شديد.
اقتربت من جسد أخي وحملته، كان قد فارق الحياة ، لم تفارق عيناي نظرة الغضب في عينيه والحجر الصغير بين أصابعه المتقلصة.
* * *
جلست أمي وأختي تولولان كالمعتاد واندفعت نحو الشرفة إلى جدي، كان رأسه قد سقط على صدره وقد انقلبت سحنته تماماً وازرق وجهه وبقايا زبد تتساقط من فمه، مات بالسكتة القلبية ولا زال على وجهه آثار السخط على اللعنة التي حلت بالمكان..
تجمع أهل البلدة اللذين أفزعهم صوت الرصاص وحملنا الجثمانين إلى المقبرة.. ومنذ تلك اللحظة عرفت المعنى الحقيقي للقهر الذي يعيشه أهلنا في فلسطين. بعد يومين من الحداد استيقظت مبكراً على صراخ زوجة خالي وبكاء طفلها الذي يصم الآذان.. خرجت من غرفتي لأواجه أبشع منظر تقع عليه عيناي، كانت الدماء تسيل من تحت باب الغرفة الموصد وتغمر الردهة وتتسرب إلى الفناء.. خيل لي أن دماء خالي ستغطي أرض فلسطين كلها.. دفعت الباب بقوة.. كان مستلقي كالنائم ويده متدلية إلى الأرض والدماء تندفع من شرايينه المقطوعة كمياه الصنبور.. "لقد عرف خالي موت بسام وجدي الذي أخفيناه عنه" ويبدو أن زهرة نسيت موس الحلاقة أمس وهي تحلق له بدلاً عن جدي الراحل.. أمي لا زالت في غيبوبتها على فراشها لا تعي شيء منذ موت والدها وبسام"..
هذه أيضاً ثالث جنازة تخرج من بيتنا في أقل من ثلاث أيام.. وأمي وأختي تندبان وتنوحان وأحزانهم التي لا تنتهي في انتظار الضيف.. أما أنا فسأذهب إليه بنفسي!!
* * *
كانت الحافلة المكتظة بالركاب تقترب من الحاجر الأمني، نظر أحمد في الجنود وأحصاهم "ثمانية عشر جندي، صيد ثمين. لعل من بينهم قاتل شقيقي، تحسس الحزام الناسف تحت ملابسه الرياضية التي لا تثير الشبهات، ابتسم في ظفر، لقد قام المهندس يحيى زميله في الجامعة بعمله بمنتهى الإتقان.. لحظات وتنطلق ألسنة الجحيم ويحيل المكان قاعاً صفصفاً، توقفت السيارة أمام الحاجز واقترب الجنود في حذر.. تمتم أحمد بالشهادتين وقفز من الحافلة وأندفع كالنمر الكاسر بين الجنود..
* * *

هوامش:القصة الفائزة بالمركز الأول في مسابقة القدس/المركز الثقافي الإيراني/الدوحة/قطر2010
















شفرة ابن عربي
خرجت اليوم من مبني البورصة أتصبب عرقا ويكاد قلبي أن يتوقف وأنا أبيت أمرا جللا راودني منذ سنين عددا، أطلقت عليه (شفرة ابن عربي)...ابتلعت حبة الأسبرين المعتادة، ركبت سيارتي ذات الدفع الرباعي،أخذت تشق بي طرقات المدينة المتشحة بالأتربة والغبار..وصلت الحارة ،رأيت جاري المهندس المعماري و الفنان التشكيلي غريب الأطوار ولوحت له من بعيد..نقلت خادمته الفلبينية أسراره إلى خادمتنا التي أيضا من بلادها أثناء ثرثرتهن في مطبخ البيت..أنا أتقن العديد من اللغات وهن يظن غير ذلك ،فقط انظروا إلى جواز سفري لتعرفوا الكم الهائل من البلدان والدول التي زرتها في حياتي ،من اليابان شرقا إلى أمريكا غربا،قالت انه يحب ارتداء ملابس زوجته ويقيم علاقات مريبة في موقع الفيس بوك باسم مستعار لامرأة مع وضعه صورة شارون ستون في ملفه ..خوفا من هؤلاء الملتحين الأوغاد الذين يتربصون بنا الدوائر في كل شارع وزقاق..وقد أحالوا حياتنا الشخصية إلى جحيم،حاصرونا بظنونهم الآثمة.. قتلوا مع سبق الإصرار والترصد بإسقاطهم المخزي روح الإبداع والتفكير الحر فينا..
*******
دلفت إلى داخل المنزل،لمحت ابني الواشي الصغير بسام،مستلقي على الأرض يحمل جهاز الريموت للألعاب والكائنات المرعبة والشنيعة التي تتقافز على الشاشة وتصدر أصوات أكثر شناعة،هذا الأمر الذي سبب له التبول اللاإرادي الليلي وجعل رائحته صباحاً لا تطاق، الصغير الواشي الذي يخبرني من اجل قطعة شكولاتة عن أخيه في الثانوية نواف الذي يمارس التدخين خلسة في الجوار ويتعاطى المخدرات أحياناً، مريم ابنتي التي تمر بفترة المراهقة الصعبة ، كلما رأتني نظرت بذعر إلي وألقت هاتفها الجوال بعيدا،ولكم أن تستنتجوا كم من الصور والمواد غير المحتشمة التي ينوء بها هذا الهاتف،بندر اكبر أبنائي يجلس على التلفاز يشاهد الأخبار في فضائية البي بي سي.. لشغفه الشديد بالسياسة..رغم انه عالق في كلية الطب ،بسبب الإمبراطورة التي تحكم المنزل وتتحكم في مصائرنا جميعا ويرتفع غطيطها من حجرة النوم الآن....أدخلته أمه سباق المائة متر حواجز، ليتعثر ويرسب كثيرا في كلية الطب.. حتى تباهي جارتنا المصرية ،ست تفيده التي تردد دائما بان لها ثلاث ابنا ء يدرسون الطب في مصر،واحدهم قد رائيته مرة عندما جاء لزيارة أسرته في العطلة الصيفية ،يبدو أن مثله الأعلى أيمن الظواهري..كانت له لحية تكفي ثلاثة مطاوعة من عندنا،ابني بندر الذكي لطالما أعجبتني تحليلاته السياسية وأحاديثه الدسمة لكل ما يدور من أحداث في العالم المضطرب الذي نعيش فيه"تسونا مي في اليابان، مجاعة في الصومال، ثورات في الجوار، انفجار مكوك في الفضاء، ثقب في الأوزون،انتخابات في أمريكا، اشتباكات بين فتح وحماس...الخ"...أجد العزاء في الحوار مع ابني أكثر من شلتي من الحرس القديم، عندما نتجمع في بيت احدهم نثرثر،ولكل منا أوهامه الخاصة وادعاءاته العجيبة..يولولون على جنازة القومية وينددون بالليبرالية..أما الماركسية فدونها خرط القتاد، وبين لفافة دخان ولفافة وبين ألكاس والكأس والخمر الرديئة المهربة من دول الجوار، الكل يجعجع ولا نرى طحينا ..
**********
دخلت حجرتي وخلعت ملابسي ، واستلقيت في نوم عميق،ستكون العملية فجرا..وكنت قد جهزت الحقيبة الصغيرة ووضعت فيها الكتاب الوحيد من مكتبتي،كتاب له قصة غريبة ،أهداني له صديقي في العمل، السوداني زين العابدين،كان رجلا صموتا يحب القراءة و لا يتحدث مع احد ويؤدي عمله في تفان كمحاسب في البنك الذي نعمل به، تداولنا عشر كلمات أو اقل فقط. طيلة سنوات عملنا معا..عندما عرضت عليه بإلحاح أن يركب معي لأوصله إلي بيته الذي يقيم فيه وحيدا في الضاحية البعيدة ،كان يفضل ركوب سيارات الأجرة ،عندما أوصلته وترجل عن السيارة قال لي"يا خالد ...أكرم أمك...واذهب لزيارتها" واهداني الكتاب الذي كان نقطة تحول في حياتي...هاجر زين العابدين إلى أمريكا عبر اليانصيب وخلف وراءه صرح من الاحترام والتفاني في العمل والصمت الجليل..
***********
استيقظت فجرا ودرت في المنزل دورة أخيرة، حملت الحقيبة وجواز السفر الذي عزمت أن افعل به أمرا جللا..وأنا في طريقي إلى مسقط راسي في الجنوب البعيد..أدرت السيارة وانطلقت بها خارج المدينة والعاصمة التي أزهقت روحي..وبعد خمس ساعات ،ولجت عالم الريف وأشجار النخيل والينابيع وأريج نسمات الجنوب الذكية،أوقفت السيارة.وحملت جواز السفر...وقذفت به إلى مياه الوادي الهادرة ليغيب في العتمة والى الأبد..وعدت انطلق بالسيارة لأدخل قريتنا والشمس تشارف على الغروب..توقفت أمام البيت الطيني الكبير، ودلفت تجتاحني المشاعر..لأحضن أمي التي نقيم وحيدة بعد وفاة أبي منذ أمد بعيد، طفحت الدموع في عينيها..وانهمكت تقبل وجهي المشعر وراسي الأصلع في حنو بالغ...وتردد كلمات صعقتني لأول وهلة"الحمد الله عدت يا وحيدي خالد،الله يحفظ زين العابدين الذي ردك لي لكي تقر عيني"..ما هذا الهذيان؟!..هل هناك هواتف سيارة روحية تربط بين البشر..وتداعي إلى أذني حديثه الهامس عندما ترجل من السيارة ولم أتبينه حين إذن مليا..جئتني أمي عند الغروب بالسطل والماء من الطلمبة الانجليزية القديمة والمتينة التي اشتراها المرحوم والدي منذ أمد بعيد..وجلست عاريا على ألطشت استمتع بحمام ريفي في الفناء الخلفي من بيت أمي،حيث لا احد يسترق النظر كجاري الغريب الأطوار المفتون بي،الذي سبب لي الكثير من الحرج حتى أتملص من إشاراته وغواية نفسي الأمارة بالسوء وضغط دعواته المستمرة لزيارته، ليقوم برسم لوحة تشكيلية لي ،كان يردد في أذني دائما " لا تسيء فهمي ،أنت يا خالد يسكنك طفل رائع، ،هذه عين الفنان"..
مسحت جسدي المغبر بألياف النخيل وهي من أروع أدوات التجميل التي يجود بها الريف..وأنا استمتع بأحاديث أمي المبهجة وهي تسكب الماء بالكوز على راسي وجسدي.."أنا لا استحي منها.. فقد ولدتني هكذا..عاريا كالحقيقة التي جئت لأبحث عنها هنا.."
**********
أخرجت كرسي الخيزران العتيق الذي كان يجلس فيه أبي خارج المنزل ويمدد رجليه في استرخاء وجواره منضدة بها كتبه في فقه السنة وابن تيمية وابن كثير والطبري..ويضيء ما حوله مصباح غازي عتيق،وقهوة أمي الساخنة تملا خياشيمه..ها أنا الآن أعيد نفس الطقوس بعد أن غرقت الدنيا في العتمة، وبدأت النجوم تظهر هنا وهناك..أضئت المصباح..وأخرجت الكتاب،وتداعي إلى أذني..دعاء أمي الليلي المعتاد قبل أن تخلد إلى النوم، على سائر الأمم التي تتربص بالعرب والمسلمين وبابنها التعيس خالد بجسده المكتنز الذي تكتنفه كل أمراض العصر...والعولمة التي تدخلت حتى في تربية أبنائه.،منذ أن جاءوا ينقبون عن الذهب الأسود في صحراءنا القاحلة..ارتشفت من قهوة أمي رشفة وسرى في جسدي النشاط ثم وضعت الفنجان جانبا..وفتحت الكتاب لأقرا..كان الكتاب للإمام محي الدين بن عربي..عنوانه"الإسفار عن نتائج الأسفار"..وصعقني الإهداء المبيت سلفا الذي كتبه زين العابدين"يا خالد..عندما ترتفع الروح فوق عارية الجسد..يتشابه كل البشر من نسل بني ادم الذي خلق من تراب"...وطفقت أقرا في الكتاب باستغراق عميق..نامت أمي وارتفع غطيتها..ولا ادري ماذا حدث لي..هل غفوت أم ماذا.ولكني شعرت فجاءه بان روحي أخذت تتخبط في سجن جسدي الطيني والمدنس بالشهوات القديمة ..وانطلقت مني كطائر جميل ملون بكل ألوان قوس قزح واخذ يحلق عاليا..شعرت باني وسط النجوم التي تبتسم لي من كل جانب..وقبلت وجه القمر المنير الذي تربع على عشر السماء فهو ملك الليل دون منازع...نظرت إلى أسفل.. كانت الأرض تدور تحتي في بهاء ولكن ليس على قرن ثور كما كان يزعم أبي عندما نجلس سويا وأنا طفل يافع نتأمل النجم والشجر يسجدان ، لم يقتنع أبي بان ليس هناك قرن ثور يحمل الأرض حتى بعد عودتي من لندن متخرجا من كمبردج ومحاوراتي المارثونية معه ..وكان البشر من نسل ادم الذي خلق من تراب يتجلون في مرآة قلبي" أمريكيون وسيريلانكيون وصينيون..ونيجيريون..وهنود..وملل وملل من كل نوع ومن كل صنف من الذين يأتون إلى بلادي من كل فج عميق حجيجا أو كسبا للرزق..يجوسون تحتي كالنمل...كنت أراهم بعين قلبي متشابهون ...وانظر إلى جسدي الذي تركته مستلقي على الكرسي يتضاءل .. وقد استحال طفل عاري يتكور كيوم ولدتني أمي الطيبة النائمة في الداخل،الطفل الذي رآه جاري التشكيلي البارع ولم أراه وأنا المشوه الذي يرفل في عالم الحس ولا يعرف شيئاً عن عالم المعاني،سامحني يا جاري العزيز!..والآن أتساءل..لماذا كنت لا أراهم هكذا في حياتي الماضية؟ وأنا أتجول في بلادهم الرائعة بجواز سفري اللعين..واراهم في بلادي بهمومهم التي لا أحس بها إطلاقا..كأني روبوت مصنوع في اليابان...
********.
جاءني صوت زين العابدين السوداني من الجهات الأربعة وأنا في تحليقي الشفيف والرائع "يا خالد هل أعجبك سفر الخروج من الجحيم؟!".. ردت روحي المتجردة"نعم إني اليوم في غاية السعادة...
إذا نزل الروح الأمين على قلبي **** تضعضع تركيبي وحن إلى الغيب
فأودعني منه علوما تقدست***** عن الحدس والتخمين والظن المريب
ففصلت الإنسان نوعين إذ رأت ***** يقوم به الصفو والتنزيه مع الشوب
فنوع يرى الأرزاق من صاحب الغيب**** ونوع يرى الأرزاق من صاحب الجيب
فيعبد هذا النوع أسباب ربه ****** ويعبد هذا خالق المنع والسيب
فهذا مع العقل المقدس وصفه ***** وهذا مع النفس الخسيسة بالعيب
- ولكن اخبرني كيف تعرف أمي وتعرفك؟"..
جاءني صوته الهامس
- اعرفها من عالم الذر عند مقام.. الست بربكم ؟!
كما ترى "..أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تخالف منها اختلف"..
أضحى الكرسي خاليا تماما تحتي... إلا بقايا من نطفة من ماء مهين انزلقت من الكرسي وانداحت في التراب..

***********

في صباح اليوم التالي..كان كل شيء قد انتهى ولم يعرف احد في المدينة أو في البنك أو في الحارة أو في البيت أو الجار الفنان التشكيلي .. أين مضى خالد؟!! ......
























ذات الرداء الأبيض
كانت السيارة المحملة بالعلف تنساب على الطريق، قادمة من مدينة المنصورية، تنقل المعلم السوداني الجديد إلى قرية السكري، أحمد جالس جوار السائق المرح الذي كان يتحدث في مواضيع متشعبة ويمطر أحمد بالأسئلة، كعادة اليمنيين في التعرف على الغرباء، الشمس قد شارفت على الغروب وأحمد يلاحقها بعينيه المجهدتين.. كانت الرحلة طويلة من صنعاء إلى الحديدة واكتملت الإجراءات في مكتب التربية بالحديدة وأنه الآن في طريقه إلى القرية والسائق الطيب لازال يتقصى منه المعلومات عن الأمطار في السودان وعن الزراعة والقات، كانت حقول الدخن تغطي الأرض في بساط أخضر داكن يمتد عبر المسافات بين القرى المتناثرة في سهول تهامة، عند مفترق الطرق أوقف الرجل السيارة وأشار لأحمد بأن يتجه في الطريق الذي يمضي شمالاً، لأنه سيذهب شرقاً إلى قريته البعيدة في الاتجاه الآخر، ترجل أحمد من السيارة وودع الرجل الذي رفض أن يأخذ نقوداً، نظر أحمد إلى السيارة وهي تبتعد. وبدأ الظلام يلف المكان بعباءته السوداء والسكون المطبق أيضاً.. ما أجمل الريف، استطاع أن يجلو ويزيل كل آثار الضجيج والتوتر الذي أحدثته حركة الدراجات النارية في الحديدة.. هبت نسمة لطيفة جعلت أعواد الدخن تتمايل طرباً، ملأ أحمد رئتيه من الهواء النقي ثم حمل حقيبته واندفع في الطريق المترب، يوسع الخطى نحو القرية التي يتداعى نباح كلابها من بعيد..

* * * * *

ظل أحمد يسير ساهماً مستغرقاً في أفكاره وذكرياته عندما سمع صوت حركة آدمية لشخص يحصد أعواد الدخن بهمة ونشاط... ولكن في هذا الوقت ؟!. التفت ولمحها.. فتاة جميلة ترفل في ثوب طويل أبيض كأنها فراشة تعمل بجد ونشاط، توقفت الفتاة عن العمل والتفتت كالغزال إلى القادم الجديد دون وجل ثم فتر ثغرها عن ابتسامة طفولية . كانت هذه الإبتسامات الطفولية المليئة بالدهشة تواجهه في كل مكان، منذ نزوله في مطار صنعاء والحديدة والمنصورية، فأحمد يتمتع بطول خارق للعادة.. إن اليمنيين كالأطفال أو قل كالملائكة لدرجة أنك لا تعرف من أين يأتي الشر والدمار الذي تجده عندما تقرأ في تاريخ هذا البلد.. توقف أحمد في ارتباك والقى تحية خجولة.

- السلام عليك.. أنا أحمد .. المعلم الجديد في مدرسة القرية.

جاء صوتها الرقيق كرن الجرس.

- أهلاً وسهلاً.. تفضل أجلس حتى أفرغ من عملي هذا وأقودك إلى القرية.. إلى بيت مدير المدرسة عثمان..

بان التردد على وجه أحمد ولاحظت الفتاة الذكية ذلك فأردفت.

- لن تستطيع دخول القرية وحدك في هذا الوقت.. ستفترسك الكلاب اجلس حتى أفرغ من عملي.

شعر أحمد كأن هناك قوة قاهرة ترغمه على الجلوس مع هذه الحسناء الساحرة، إنها حتى هذه اللحظة تبدو له كحلم غريب، جلس أحمد عند حافة الطريق وعادت الفتاة إلى عملها، أخذ أحمد يتأملها في إعجاب.

شي ما مس شفاف قلبه فسألها

من أنت ؟!

- أنا أمنة بنت المدير .. مدير المدرسة.

تنفس أحمد الصعداء، إذا هذه الفتاة تعي ما تقول وستقوده إلى بيت والدها.. حدق أحمد في يدها المخضبتين بالحناء النقوش الجميلة وعينيها المدمختين بالكحل وردد في نفسه "لا بد أنها تزوجت حديثاً". أراد أحمد أن يتحقق من ذلك دون أن يجرح شعورها فسألها.

هل تقيمي مع والدك الآن؟ .

توقفت الفتاة عن العمل ولمح أحمد طيف من الحزن على وجهها الجميل وأشارت إلى مكان بعيد عن طيف القرية الجاثم في الأفق الداكن.

- لا … أنا أقيم هناك.

نظر أحمد إلى حيث أشارت بيدها ودقق النظر في الأفق المعتم لعله يرى بين الأشجار طيف عشه أو بيت وردد في نفسه "لا بد أنها تقيم مع زوجها في مكان منفصل عن الأسرة".

* * * * *

انتهت الفتاة من عملها ودعته لمساعدتها في جمع وربط العلف في حزم صغيرة وتسويتها، أسعد ذلك أحمد، أن يقوم بهذا العمل مع ابنة المدير وردد "ليتها لم تتزوج.. ربما كانت من نصيبي كما قالت العرافة في السودان" .. انتهى العمل وتحرك أحمد خلف الفتاة التي تقدمته نحو القرية.. عند أطراف القرية حدث شيء غريب، تجمعت الكلاب في تحد تقطع عليه الطريق وتزوم في شراسة .. انحنت وحملت عصا صغيرة أفزعت الكلاب فولت هاربة وتقدم معها يشق طرقات القرية الساكنة، كان بيت المدير في الطرف الأقصى من القرية وعندما وصلا إلى السور المصنوع من أشجار السول نادت آمنة أباها بصوتها المعدني الساحر ثم ضغطت على يده الحارة.. شعر بقشعريرة لمس يدها الباردة، هذه البرودة التي تحيط بالفتاة أسكتت كل كلاب الشهوة المسعورة التي كانت تعوي في داخله أثناء عمله معها في تشوين* العلف.. سمع أحمد نحنحة المدير ووقع خطواته. التفت ليجدها مبتعدة وغابت في طرقات القرية وعادت الكلاب تنبح في كل أرجاء المكان من جديد.

* * * * *

خرج المدير عثمان وانقض على أحمد يقبله ويدعوه لدخول البيت، دخل إلى البيت وهو يشعر بألفة عالية، تجمع حوله أبناء المدير وبناته وجاءت زوجته تقدم الشاي، جلس أحمد بين أفراد العائلة يتصفح وجوههم الطيبة ولا زال غارقاً في الدهشة، جلس المدير قبالته وبنفس الابتسامة التي تذيب القلوب، ردد متسائلاً.

- كيف عرفت البيت بهذه السهولة ؟!

- دلتني عليه ابنتك آمنة.

صمت الجميع فجأة.. كأنما على رؤوسهم الطير.. قفز المدير من مقعده وجلس جوار أحمد واكتسى وجهه بالحزن والدموع تتلألأ في عينيه الطيبتين.

قلت من يا ابني؟!

- ابنتك آمنة التي تقيم مع زوجها هناك …

أشار أحمد إلى حيث أشارت آمنة.. هطلت الدموع غزيرة من عيني المدير وبدأت زوجته تنوح والأطفال يبكون.. وحملق المدير في وجه أحمد في دهشة يشوبها الحزن وردد في صوته تحنقه العبرات.

- لا يوجد هناك سوى المقبرة.. ابنتي آمنة ماتت قبل شهر من قدومك.. قتلتها الصاعقة.. الله يرحمها ..

صعق أحمد من الدهشة وشرق بالجمع " إذن كلام العرافة في السودان صحيح عندما قالت أني سأصل متأخر" .. أنساب الدمع المر على خديه وهو يسترجع تفاصيل اللحظات الماضية " يا لها من فتاة جميلة، تباً لهذه الغرابة التي تكتنف كل شيء في اليمن !!".

الهوامش:
- التشون: وضع حزم العلف على شكل هرمي.




حنين الى الوطن


كانت الأخبار والقرارات التي تبثها الإذاعة في أيام سياد بري تكتنفها الغرابة، ليست الغرابة الإيجابية التي تزيد من حب ورضا المواطنين عن الحكومة ، بل الغرابة التي تجعل الناس تشعر بالتوجس والامتعاض العميق الذي تشوبه الكآبة لما يواكب تلك القرارات من العسف والكثير من الفواجع والمآسي ... أذاع الراديو القرار العجيب " ان الدولة تزمع علي تأميم الجمال !!!" نعم تؤمم الجمال كجزء من السياسات الاشتراكية المشوهة التي تعاني منها دول العالم الثالث ... في ذلك اليوم المشهود جلس عبد الله الشيخ وهو من كبار قبيلة كاميلوا وهي تعني تقريبا ً الناس الذين يحبون الجمال ، تلك الحيوانات النبيلة، ذات العيون الدامعة الجميلة والأهداب السوداء الطويلة.
جلس عبد الله بين أفراد قبيلته في الأصيل ذو الشفق الدامي وأشعة الشمس الذهبية المشوبة بالحمرة تغمر الوادي الممتد أمامه ترتع فيه الجمال في وداعة وسلام وجهاز الراديو الذي لا يفارقه أبداً يقبع علي الرمال بجواره وأبنه عثمان وأبنته أرويلا وزوجته حليمة يجلس نعلي الرمال مع أفراد القبيلة وقد أدهشهم الخبر العجيب ، ينظرون بأعينهم المتسائلة الي وجه عبد الله الأسمر الصارم وعينيه الخمريتين تحدقان في الأفق البعيد ، الأفق الذي يأتي دائما بالكوارث والسيارات المحملة بالجنود، لأول وهلة يبدو أنه، أي عبد الله قد انفصل عن الوجوه الطيبة المنثورة حوله وسبح بعيداً في بحر الذكريات ، كان الوحيد أو علي الادق من القلائل الذين زاروا أوربا .. أختفي من القرية وهو في السادس عشر من عمره في الزمن الغابر ثم عاد لهم في العقد الرابع من عمره محمل بتجارب السنين من أوروبا من ظلمة المدن المسورة بالهواجس والضياع .. طافت ابتسامة حزينة علي شفتيه المذمومتين بإصرار وهو بتداعي في الذكريات الي الحادثة الغريبة التي جاءت به مرة أخرى الي الصومال ، لا يزال يذكر عندما هرب الي مقديشو العاصمة في ذلك الزمن الغابر وتمكن من الإبحار علي ظهر سفينة إيطالية إلى ميلانو ، هناك عمل في مطعم يملكه إيطالي طيب . ظل يعمل ويدرس أيضا حتى تمكن من الحصول علي شهادة في الهندسة المعمارية ، تزوج من أبنت صاحب المطعم الإيطالي وانجب منها ثلاثة أطفال ولدين وبنت ، فتح مكتب هندسي في المدينة وتحول إلى رجل ثري من أعلام المدينة للنماذج المعمارية التي لا تخلو من السحر الأفريقي الذي يعرضها مكتبه ، واصبح يحمل الجنسية الإيطالية بكل فخر ... طيلة حياته الناعمة والممتعة والفاحشة الثراء كان يحس أن هناك شئ ما يبكي بداخله أنها نوستلجيا أفريقيا التي تكمن في أبنائها كمون النار في الحطب وتظل تنادي أبنائها ذلك النداء الغامض الخفي أينما ذهبوا ... هذا الحنين الجارف إلى ماما أفريكا يحتاج فقط الي باعث يعمل كمثير شرطي حتى يفجر داخل الإنسان، أذن تلك الحادثة الغريبة التي جاءت به الي الصومال لم تكن وليدة الصدفة .. في ذلك اليوم وحده بطاقة دعوة في مكتبه تدعوه لزيارة معرض ميلانو الدولي .. أخذ زوجته وأطفاله لزيارة المعرض .. عندما دخل المعرض كانت هناك فترينة من الزجاج المصقول ، بداخلها نموذج مذهل لجمل بالحجم الطبيعي دعاية لشركة طيران لدولة عربية ، صنعتها أنامل فنان موهوب .. الجسم مصنوع من القطيفة الذهبية عليه وبر من الحرير ، العينان باللروعة دامعتان تلمعان كأن بهما حياة ، من الياقوت الفاخر والأهداب من الدانتيلا السوداء الموشاة بالألياف الصناعية .. تسمر عبد الله أمام هذه القطعة كالمصعوق ، ثم اقترب من الزجاج المصقول، لم يستطع الفكاك من السحر والغموض الذي يشع من تلك القطعة الفنية .." قطعة من كاميلوا في إيطاليا ، سبحان الله !!" اختفت كل المحسوسات حوله وأسرته الصغيرة التي تقف بجواره في دهشة وزوار المعرض والرنين المعدني للأقدام في البلاط اللامع .. فقط بقي الجمل والصحراء التي حلت بالمكان وأنين رياحها الوفية الممزوجة بنداءات أفراد قبيلة كاميلوا لقد عاد به الزمن بسرعة كأنه في زورق يمضي علي الصحراء عبر سراب ..آلي الطفولة البعيدة ، أندفع عبد الله بسرعة نحو الجمل بصورة مفاجئة فتهشمت الواجهة الزجاجية الرقيقة .. صعقت المفاجئة الجميع، تحلقوا حول الرجل الذي أندفع يحضن الجمل ويبكي بحرقة ، كانت حادثة غريبة استنكرتها زوجته الإيطالية في ذلك الحين ولكن عندما غادروا الي البيت من مخفر الشرطة وبعد دفع الغرامة كان كل شئ قد انتهي ، قرر ترك أوربا والعودة آلي الصومال ...طلق زوجته وترك لها كل ثروته ولم يأسف علي ذلك قط ركب الطائرة العائدة آلي بلاده .. عندما وطأت أقدامه أرض المطار اندفعت الدموع الغزيرة تبلل كل شئ كأنما كانت تشارك الأمطار الغزيرة التي كانت تهطل بكثافة، ترحب بالعائد الي أرض الوطن ..ركب سيارة متهالكة الي حيث تقيم قبيلته وهناك تخلص من الملابسة الغربية الفاخرة وارتدي ملابس أهله الرعاة التي تفوح منها رائحة الجمال .
عاد أبنهم عبد الله .. ابن شيخ القبيلة ، فرحوا به وزوجوه حليمة الجميلة التي انجب منها ولديه عثمان وأرويلا، لم يسألوه قط اين كان ولماذا عاد ؟؟
اليوم وبعد عشرة أعوام في الصومال يجلس بين أفراد أسرته وقبيلته يسمع القرار الغريب ويحدق في الأفق البعيد حيث يندفع الغبار آلي عنان السماء تحت وطأة السيارة العسكرية المحملة بالجنود التي كانت تلوح هناك وتقترب من الوادي رويدا رويداً .. توقفت السيارة عن كثب في قلب الوادي وسط الجمال المفزوعة ونزل منها ضابط مخمور يتهدد ويتوعد ويرغي ويزبد بتسلي بإطلاق النار علي الجمال .. كلن بارعاً في التصويب طلقة واحدة من بين العينين يستدير هذا المخلوق التعيس وينطوي علي نفسه ويسقط علي الأرض مثيراً زوبعة من الغبار .. ويندفع الدم ممزوجاً بالدموع من العينين الجميلتين ذات الأهداب الطويلة ويرفس برجله قليلا ثم يهمد، مع كل جمل يخر صريعاً كانت تسقط قلوب أفراد القبيلة وتتقطع آلما وهم ينظرون الي ابن الشيخ .. ألتفت عبد الله الي ابنه عثمان وردد من خلال أسنانه المصكوكة :
ـ " أذهب يا بني الي ذلك الضابط المأفون وأخبره أن تأميم الجمال هو أن تأخذها الدولة وليس تقتلها " .
نهض عثمان الشجاع وهرول نحو الوادي وأقترب من الضابط وردد بصوت عال :
ـ " يقول لك أبي خذ الجمال فقط ولا تقتلها ".
التفت الضابط في امتعاض وأطلق النار علي أذن الصبي، طار صوابه من الذهول والألم وأخذ يركض ويصرخ والدم يندفع من أذنه وهرب بعيداً ..نهضت آلام المكلومة حليمة وانحدرت نحو الوادي خلف أبنها الذي اختل عقله .. واستمرت سيمفونية الرعب والرصاص تردده جنبات الوادي الممزوج بنواح الجمال المذعورة . التفت عبد الله إلى أبنته أرويلا:
أرويلا أذهبي الي الخيمة واحضري البندقية من الصندوق ، نهضت الفتاة ودخلت إلى الكوخ وجاءت تنوء بحملها الثقيل الي أبيها ، أخرج عبد الله البندقية اللامعة من جرابها كان ينظفها دائما لمثل هذا اليوم المشئوم ، عبث بإصبعه في الجراب الملحق بها وأخرج طلقتين و وضعهما داخل الخزانة ثم نهض واستدار بجسده نحو الوادي حيث يجلس الضابط وحوله الجنود يحشون المسدسات ، أحصت عينا عبد الله الفاحصتين الجمال النافقة بدقة.
ـ " سبع وتسعون ...ثمان وتسعون .. تسع وتسعون "
ودوت طلقتان ناريتان سقط الجمل رقم مائة وسقط معه الضابط والدم يندفع بين عينيه فقد كان عبد الله يجيد التصويب أيضاً، ظل الضابط يرفس برجليه ثم همد جسده في نفس الوقت مع الجمل رقم مائة ...
ألقي عبد الله البندقية جانبا وردد في تشفي :
ـ" هذه بتلك مائة جمل تساوي روح هذا التعس "
لم يمهل عبد الله الجنود الذين تجمعوا حول ضابطهم في دهشة وذهول ، أمتطي أحد الجمال القريبة منه، أندفع عبر الصحراء حتي غاب في الأفق حيث قرص الشمس الغارب ، أنه لن يخاف أبداً ..انه يعرف طريقه الي العالم الحر....*

صرخة ميتا



(( عا آآوووه ………)) صرخة طويلة ممطوطة تشبه صرخة حيوان جريح تصحبها ضحكة مجلجلة تنم عن قلب مفعم بالطيبة ، تردد صداها جنبات مدينتنا عطبرة * ، تأتي دائماً عند الغروب ، تقشعر لها جلود الناس ثم تلين بعد ذلك ويعم السلام المدينة ، يضحك الجميع في طهر طفولي ، يشفى الأطفال المصابين بأمراض المناطق الحارة ، يتوقف العراك بين الأفراد والجماعات ، تنتهي المشاكل الأسرية داخل البيوت ، أنها صرخة صديقي ميتا ، وجدوه يوماً ملقي كعصا أبنوس سوداء سيئة التكوين ، عند ملتقى النهرين في منطقة الحلفا * .
حمله المواطنون من سكان الحلفا إلى أكواخهم البائسة . اسجوه هناك عند مريوم التي نظرت إليه فيه آسى ورددت بلكنتها العربية المكسرة (( إنها ميتا .. إنها ميتا )) فأسموه ميتا ، ومنذ ذلك الوقت لا يعرف أحد سر ظهوره الغامض على الشاطئ هل أتت به مياه النهر المتمرد نهر عطبرة الذي يندفع من الهضبة الأثيوبية حاملاً في طريقة الدمار والشرور ، جثث نافقة لمختلف الحيوانات ، جثث ناس ، وأخشاب وكائنات أخرى غريبة تحكي عنها الجدة الحرم * عندما نجلس معها في الليالي المقمرة ، لقد رأيت بنفسي وأنا صغير اندفاع هذا النهر المجنون و هديرة الصاخب الذي يبعث الرعب في القلوب ، وأنا جالس على نخلة أحدق في الأفق الشرقي .. تصتدم مياه النهر بشراسة بمياه النيل التي تبدو هادئة بعد رحلتها الطويلة من جهة الجنوب ويكون هناك فوران شديد في منطقة اللقاء أشبه بمرجل يغلي ، تطفوا أسماك نافقة تدور حولها طيور بحرية في وليمة احتفالية . هناك وجدوا ميتا تحت الجسر الحديدي الذي بناه الإنجليز لمرور قطار الشمال ، هل أتت به مياه النيل ؟؟ … لا أحد يدري فقط إنه أعلن عن قدومه السعيد عندما أفاق عند الغروب في بيت مريوم وأطلق صرخته الدواية التي تشبه صرخة حيوان جريح و انتهت بضحكة مجلجلة رددت صداها المدينة …..
* * *
كان صوت طلقات الرصاص يتداعى إلى أذني من بعيد ممزوج بهدير الأشجار في تلك الغابات المتشابكة التي تحيط بمدرسة القرية ، إني أعمل الآن معلماً بمدارس الجنوب . لم يكن اختياري للعمل في جنوب السودان بمحض الصدفة ، بل جئت بإرادتي ، والدي كان تاجراً بالأقاليم الجنوبية ومنذ أن غادر مدينتنا الوادعة في الشمال في ذلك الزمن البعيد لم يعد مرة أخرى ، انطلقت الإشاعات التي تردد بأنه تزوج من إحدى بنات سلاطين الجنوب وطاب له المقام هناك . أن ذكرياتي عن أبي الذي رحل وتركني صغير تبدو غامضة ومبهمة ، لا أدري هل أحتقره أم أحترمه ؟! . عانت أمي الأمرين لتربيني وتعلمني . عملت معلماً في مدينة كريمة * في أقصى الشمال لفترة ثم بعد تجربة حب فاشلة قررت العودة والسفر إلى الجنوب كانت أمي تخشى مثل هذا اليوم الذي قررت فيه السفر إلى حيث ذهب أبي ولم يعد ، لازلت أذكرها وهي تعدو جوار شريط القطار المبتعد حتى سقطت على الأرض وتعفر وجهها بالتراب كنت أبناً عاقاً عندما ضربت بتوسلات أمي عرض الحائط واندفعت في هذه المغامرة غير للما مونه العواقب في ذلك الجزء الذي يتصاعد منه الدخان . طافت هذه الذكريات بخيالي ولا زال صوت طلقات الرصاص يتداعى إلى أذني ، وعيون الأطفال اللامعة تحدق في توجس وحب عميق لي . كنت أحب تلاميذي من أبناء الجنوب ، بحثت عن شقيق يمكن خلف هذه العيون اللامعة والملامح السمراء ، أرتفع دوي هائل جوار المدرسة والطلقات تزداد قرباً وعنفاً وأصوات أقدام مذعورة على الشعب اليابس تقترب من المدرسة ، أوجست خيفة ولم أتمالك نفسي من الصراخ وأنا أرى حجرة المخزن تطير في الهواء متناثرة ، أصابتها قذيفة هاون ، دب الذعر بين الطلاب خرج الجميع إلى الفناء يتراكضون ثم انطرحوا أرضاً عندما صاح فيهم أحد المتمردين الذين قفزوا إلى داخل سور المدرسة القصير وهم يحاولون في يأس الرد على قوات الحكومة التي كانت تطاردهم ، دارت معركة شرسة وأنهمر الرصاص كالمطر وعلا صراخ الأطفال ، بدأت النار تشتعل المدرسة المصنوعة من الأعشاب والبوص وأنا مسجى على الأرض وقد التصق بي الأطفال كنت أحس بدقات قلوبهم المذعورة على جسدي ..تساقط المتمردين قتلى واحد تلو الأخر وعم الهدوء مرة أخرى ، مضت لحظات وحضرت الأقدام الثقيلة إلى داخل فناء المدرسة المحترقة فصيل كامل مدجج بالسلاح ، ظلوا يتجولون في حطام المدرسة ويقلبون الجثث في حذر شاهرين أسلحتهم الخفيفة وتنبه لي قائدهم ، أقترب مني وأنا دافن نفسي بين تلاميذي اللذين كانوا ينتفضون رعباً ، سحبني جندي من رجلي بقسوة من وسط كومة الأطفال وجذبني من شعري وتفرس في ملامحي جيداً ردد في غضب .
- أنت …………. مدرس !!
- نعم …….
- من أتي بك إلى هنا ؟
- الحكومة .
صفعني بغلظة وردد في استهزاء
- نحن أيضاُ أرسلتنا الحكومة !
أمرني أن أخفض رأسي ودوت الطلقات النارية من جديد ممزوجة بعويل الأطفال وعم السكون مرة أخرى ، كست رهبة الموت المكان ، لازلت أذكر دقات قلوبهم الصغيرة على جسدي ، رحلت العصافير الصغيرة وانسحب الفصيل وعم الهدوء المؤسف المكان ، نهضت أترنح دون النظر إلى الوراء أريد الهرب من هذا الكابوس الحقيقي ، أجتاح كياني شعور بالألم المرير ((هل كان أخي بينهم؟!)) … كنت أسيراً مترنحاً بين الأشجار أبحث عند حدود آمنة أعبرها كنت أريد الهروب من جسدي الذي تلتصق به قلوبهم الصغيرة ، أريد العودة إلى حضن أمي الطيبة في الشمال ، أريد أن أتحول إلى طائر يحلق بعيداً حيث لا أمنيات والكائنات تمر، أريد أن أدلي بأقوالي في محكمة عادلة عن الحرب ومجرمين الحرب ، قد أتحول إلى لاجئ تمضي به رحلة العمر الكئيبة في ضيافة شعب كريم ، ظلت أسير أياماً بلياليها على غير هدى في الغابة، كنت أتفادي دائماً طرفي الصراع ، بعد مسيرة ثلاثة أيام مضنية عند الغروب خيل لي أنني سمعتها !! .. نعم سمعتها هي نفسها !! … لكن ذلك مستحيل وشعرت بقشعريرة تجتاح جسدي ، أنها صرخة ميتا !! هل فقدت عقلي وأصبحت أهذي ؟؟ .. لقد أضناني الجوع والتعب من طعام الغابة الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، عن كثب حيث خيل لي مصدر الصرخة العجيبة كان يجلس هناك كعصا أبنوس مشوهة التكوين ، جلسة جليلة أشبه بأوثان الأديان البدائية ولهب النار يتراقص على وجهه الهادئ ، ما هذا الهذيان ؟!… إنه أبدا لن أبدا لن يكون صديقي ميتا تداعت إلى مخيلتي الذكريات المشحونة بالشجن وأنا أتقدم بخطى متعثرة نحو الرجل الذي يقبع على بعد أمام النار (( عرفت ذلك في يوم أغبر ، رحيل ميتا ، عندما عدت إلى مدينتنا من كريمة حيث كنت أعمل أولاً ، كانت نهايته أشبه بفواجع شكسبير ، كذلك أخبرتني مريوم الحزينة ، في ذلك اليوم المشهود كان هناك نفر من أفراد الجيش يحتسسون الخمور البلدية في بيت مريوم في الحلفاء كعادتهم دائماً بعد صرف المرتبات وميتا جالس بينهم يغني على قيثارته التي صنعها بنفسه أغاني بوب ماري التي يحفظها ظهر قلب ، كان الجميع سعداء لكن السعادة من هذا النوع لا تدوم طويلاً في مدينتنا ، داهمت الشرطة المكان ودارت المعارك بالأيدي والعصي بين أفراد الشرطة والجيش ، ثم تطورت الأحداث بعد أن حصل كل من الطرفين على تعزيزات مسلحة من المعسكرات في الجوار ، دارت معركة رهيبة بالذخيرة الحية ، أحزن ذلك ميتا ، فحاول التوفيق بين الأطراف المتحاربة ، للأسف اغتالته رصاصة ، أطلق صرخة ألم حقيقية لا تشبه صرخته المعتادة وسقط على الأرض مضرجاً بالدماء ، توقف القتال ألقى الجميع السلاح ، تحلقوا حول الجثة يبكون وينتفون شعورهم ، الجميع يحبون ميتا ، صانع الفرح في مدينتنا ، لا أحد يريد أن يتحمل أوزار موته أقبل الجنود من الطرفين إلى بعضهم يتلاومون وظل النزاع قائم بين سكان الحلفاء بعد هدأت الأحوال مرة أخرى (( هل يدفن ميتا في مقابر المسلمين أم في مقابر المسيحيين ؟! )) ، كان الراحل صديق الجميع ، في الماضي عندما غرق على ود فرحين في النيل جلس ميتا على الشاطئ مع المواطنين ، بعد ثلاثة أيام طفت الجثة ، قفز إلى النيل وأنتشلها وذهب مع المعزيين إلى المقابر للدفن ، وقبل أعوام ماتت تريزا بالذبحة الصدرية في ليلة الميلاد ، كانت تجهز بالونات العيد مع أسرتها وصديقهم ميتا الذي حزن عليها كثيراً وبكى بحرقة في الكنيسة ذلك اليوم .. استمر النزاع حتى ساعة الغروب عندما دخلوا إلى مكان الجثمان داخل غرفته الطينية الصغيرة في بيت مريوم لم يجدوه ن اختفى ميتا ! ومن جهة النهر حيث وجدوه أولاً سمعوا صرخته المعتادة وضحكته المجلجلة للمرة الأخيرة ، ومنذ ذلك اليوم عادت المدينة تمارس كآبتها القديمة ، كثرت الحميات والأمراض التي تقتل الأطفال ، ارتفعت المشاجرات وحاولت الطلاق ، عادت النساء إلى الانتحار باحتساء صبغة الشعر السامة والرجال بالاستلقاء على شريط القطار ، اكتسى كل شيء باللون الرمادي ، رحل ميتا الذي كانت ضحكته تطهر المدينة ، رمز الحرية في مدينتنا ، المتجرد من كل قيود الأديان والأعراق ، أنطوي حضوره الدائم أفراحنا وأحزاننا ، نحن سكان مدينة عطبرة ، مدينة النهر المتمرد … )) .
* * *
التفت الرجل الذي يسكن وحيداً في الغابة عندما سمع وقع الخطوات المتعثرة على الحشائش وأبتسم ابتسامة عريضة .
- السلام عليكم .
- عليكم السلام
- اسمي حمزة ، هل تسمح لي بالجلوس .
- تفضل على الرحب والسعة .. اسمي لوكا
هكذا تم التعارف كأننا التقينا في فليت أسريت في لندن ، كانت لغته العربية سليمة ، جلست وأنا أتأمل لوكا في فضول ، نهض إلى داخل الكوخ ثم عاد يحمل إناء به حليب ممزوج بعسل النحل ومده لي ، شربت حتى كدت أختنق واستلقيت من فرط الإعياء على العشب ورحت في سبات عميق واستيقظت في اليوم التالي فجراً لأجد نفسي نائماً على فراش وثير ، استجمعت ذاكرتي بقوة إلى أخر لحظة وصلتها أمس ، تذكرت الآن كوخ الأب لوكا ، أصبحت الصداقة بيننا عميقة في وقت وجيز لاحقاً فالرجل مثقف ثقافة عالية ، يعتنق جميع الأديان حسب ما تقتضيه الأحوال حتى يعيش في هذا الواقع المضطرب ، إذ يمر على كوخه جنود الحكومة والمتمردين أحياناً ، ظلت الحوارات بيننا سجال ، أحاديثه الغريبة تذكرني دائماً صديقي ميتا ، يتحدث كثيراً وكلامه ليس ثرثرة بل حديث عميق ذو دلالات وإيحاءات عميقة ، ذات صباح مشرق ونحن نجلس سوياً أمام الكوخ نشرب الحليب الممزوج بالعسل التفت إلي مردداً في مرارة شديدة .
- هل تعرف سبب هذه الحرب القذرة الدائرة الآن .
نظرت إليه في دهشة وبعد تفكير أجبته قائلاً
- أعتقد أنها مخلفات الاستعمار وقانون المناطق المقفولة .. *
ابتسم لوكا ابتسامة ناصعة البياض أضاءت وجهه الأسمر .
- نعم ذلك أحد الأسباب ولكن هناك سبب جديد الآن أنه الحليب الأسود ! اليانكي يحبون الحليب الأسود الذي في ثدي أمنا أفريقيا ، أينما وجد الحليب يأتون بالموت والدمار للمنطقة .
- إنها مأساتنا عبر العصور .
- منذ أن داس القرد الأبيض بقدمه بطن ماما أفريكا ، أصبحت تجهض أبنائها أو تلدهم مشوهين .
- نظرت إليه في دهشة ، خاصة للتعبير الغريب "القرد الأبيض " فأردف مسترسلاً .
- مات العم توم * وراء البحر وهو يحلم بالحرية المستحيلة التي لا تأتي أبداً أما ما تبقى من أبناء أفريقيا فقد حولوهم إلى مسوخ مشوهة ، قرود ترتدي الأزياء الغربية ويتحدثون لغة الفرنجة ، يعودون إلى أبناء جلدتهم بالويلات والدمار …
نظرت إلى الأب لوكا متسائلاً
- هذا يعني أنك غير مقتنع بالحرب الدائرة الآن .
- ضحك لوكا ضحكة مجلجلة تقطر بالأسى ونظر إلي ملياً
- كنت من جنود التمرد الأول في الماضي ، وإني اليوم نادم أشد الندم على ذلك كنّا نسعى لطموحات مريضة ، الانفصال !!. إن الحرب تسبب لنا التعاسة جميعاً نحن وحيوانات الغابة !! .
- حيوانات الغابة ؟ !!
- نعم .. قبل قدومك جاء إلى كوخي أسد حزين ، فقد زوجته وولديه بعد أن أنفجر فيهم لغم أرضي ، كثير من الحيوانات تحتمي بكوخي ، أرى التعاسة في عيونها .
- ألا تخشى حيوانات الغابة ؟؟
- لا …. أنا أخشى الإنسان فقط لأنه أكثر حيوانات الغابة انحطاطاً !
هكذا كانت أحاديث الأب لوكا الطيب حتى جاء ذلك اليوم المشئوم ، عدت من إحدى جولاتي في الجوار وجدت الكوخ يحاصره فصيل من المتمردين ، ينتزعون اعتراف من لوكا عن هوية من يقم معه ، كان المنظر بشع ، لوكا رجل شجاع صمد حتى فاضت روحه ، تركوه و انسحبوا ، اندفعت نحو الجسد الدامي والدمع يظفر من عيني مدراراً ولا زلت عالقة في ذهن عباراته الأخيرة "الإنسان أكثر حيوانات الغابة انحطاطاً" .….
* * *
دفنت صديقي جوار كوخه الصغير ، وتراجعت متجهاً جنوباً وبعد مسيرة أيام شاهدت فيها الأهوال ما لم يشهده أحد وبعد رحلة مضنية لمحت علم غريب يرفرف على البعد ، علم يوغندا ، إذا فقد عبرت حدود بلادي المصابة بالخبال، هناك خيل لي أني سمعتها مرة أخرى قادمة مع خيوط أشعة الشمس الغاربة ، إنها صرخة ميتا !! .
سرت في جسدي المنهك القشعريرة ، أطلقت زفرة حارة وانطلقت نحو العلم الذي كان يرفرف من بعيد .

















سنت جيمس

كانت الباخرة التي تحمل العلم البلجيكي تمخر عباب نهر الكنغو،نظر القس جيمس مندوب الملك لو بورد بعينيه الزرقاوين إلى كتل الأجسام السوداء شبه العارية وهى تموج على الشاطئ ،كانويرقصون فرحا وابتهاجا بالوافد الأوروبي..رست الباخرة و أنزلت المرساة،عدل القس من بدلته السوداء ووضع مبصرته عل عينيه فحجبت نظرة الازدراء والتحقيرللاجسام السوداء المبللة بالعرق والأيدي التى امتدت لمصافحته حتى تنال البركة..انهم ابناء قبيلة الكيتو ،المحاربون الأشداء..حملوه قبلا ان تطأ قدمه الارض ووضعوه على محفة واتجهوا به في موكب طويل نحو الغابة محمولا على الأعناق،ظل الأطفال العراة يتأملون الرجل الأبيض في فضول وانبهار..والنساء أيضا،كان اجمل منكل الآلهة التى تصوروها قبل اعتناقهم المسيحية..اخرج القس جيمس الإنجيل من حقيبته السوداء واخذ يقلب صفحاته في ورع زائف ويتحسس بيده الأخرى الصليب الذهبي المتدلي على صدره مثلا معا تحت أشعة الشمس الاستوائية الحارقة..كان هناك رتل من الحمالين يحملون صناديق خشبية..ابتسم جيمس في ظفر،اخذ يسترجع كل التعليمات التى أملاها له مفوض الملك في بر وكسل"إن تزويد قبائل الكيتو بالسلاح الناري يضمن لهم التفوق على أعدائهم التقليديين من قبائل البوكا ..حيث مناجم الذهب والماس،ان الواجب المناط به العمل على إبادة قبائل البوكا وتنفيذ سياسة الأرض المحروقة والتمهيد للجيوش القادمة من وراء البحار"
كان ابناء قبيلة الكيتو يحملون ضغنا مدمرا لأبناء قبيلة البوكا منذ سنين طويلة ،أيام وثنيتهم الأولى..لكن مع مرور الزمن حدث تغيير غريب في قبيلة البوكا,قدم إليهم رجل من جنوب الجزيرة العربية،من بلاد حضرموت،كان تاجرا،كل اللذين شاهدوه في الماضي قالوا:انه كان اجمل ما راته عين"،كان ابيض اللون والثياب ذو شعر اسود فاحم وتقاطيع نبيلة،دمث الخلق وينضح بالحكمة والأيمان،مس شغاف قلوبهم فاحبوه وزوجوه بنت سلطان القبيلة وعلمهم دين جديد،اخبرهم بان هناك اله واحد تخضع له كل نواميس الكون وان له بيتا في جزيرة العرب..اخذوا يحجون إليه كل عام،محملين بالذهب والنفائس والجلود الثمينة ويعودون بالملابس البيضاء التى سترت عوراتهم وعورات نسائهم وأطفالهم،اكسبهم هذا الدين روح التسامح غير المحدود..فاصبحوا ضحايا لغرمائهم الكيتو على مر السنين
**************
ظل الموكب يجوس في الأدغال بين الأشجار والأب جيمس يتصبب عرقا ويبدو ساهما وارتال المحاربين تتدفق في الممر كثعبان اسود طويل..وصلوا أخيرا إلى قرية الكيتو،وضعت المحفة على الأرض،نهض الأب جيمس من كرسيه الفخم ونزل،لاول مرة تطأ قدمه الأرض،تقدم نحو الكنيسة المبنية من الطوب المحروق ومطلية بالجير الأبيض،وضع الحمالون الصناديق الخشبية على الأرض،اخرج المحاربون البنادق الجديدة والذخائر..تناول اومام البندقية ورفعها عاليا أطلق نداء الحرب،ردد أفراد القبيلة نداءه بصوت كزئير الأسود،ارتعدت فرائص الأب جيمس وحمد الله انهم من اعوانه..كان اومام الساعد الأيمن للقس جيمس ويقوم بدور المترجم أيضا ،فقد تلقى تعليمه في بلجيكا
جلس المحاربون بعد إن وزع لهم اومام السلاح أعطى كل منهم عشر طلقات واخبرهم بان كل محارب عليه إن يقتل عشرة رجال وياتى بقدم ارجلهم اليمنى تقطر دما ويحصل بذلك على ألف فرنك وينال رضا الملك وبركة الكنيسة..
نهض الرجال وانطلقوا كالفهود الكاسرة في اتجاه جبل ماندى ،إلى مناجم الذهب والماس وقرى أعدائهم البوكا،استدار الأب جيمس ودخل الكنيسة وعلى فمه ابتسامة خبيثة،حمل الحمالون الذخائر إلى غرفة المخزن الملحق بالكنيسة
**********
في الصباح سمع القس نداء أحد المحاربين خرج من محرابه وشاهده يحمل جوال علي عاتقه وكيس آخر متدل علي منطقته يموج كأن به قطة ، وبيده اليسرى ممسكا ببندقيته الجديدة ،ابتسم الأب جيمس مرددا:
ـ خطبك يا محارب؟!
ـ قتلت عشرة منهم يا أبت.
وضع المحارب البندقية جانبا وفتح الجوال واخذ يحصي الأقدام المبتورة ويلغي بها علي العشب أمام عيني الأب جيمس المتقدمتين حماسا ودهشة .
ـ تسعة اقدام يا سيدي,
بان الغضب المنفعل علي وجه القس.
ـ نحن قلنا عشرة!!
ـ نعم قتلت عشرة رجال ولكن أحدهم كانت قدمه اليمني مبتورة سلفا، يبدو انه سقط في إحدى الفخاخ الحديدية التي نصبناها للوحوش.
ـ هذا العذر لن يجدي
ـ تمهل يا سيدي، أعددت لك شيئا آخر حتى تصدقني .
فك المحارب الكيس المعلق علي خاصرته والذي يبدو ملئ بقطع غريبة من اللحم أفرغه أمام عيني القس المذهول، تكومن عشرة أعضاء تناسلية مختونة أمام ناظره، أخذ الجندي يحصيها في فرح وحشي ، شهق القس من الدهشة وشعر بالغثيان ثم تمالك نفسه وربت علي كتف المحارب.
ـ يا لك من جندي ذكي
ابتسم المحارب وغمره فرح عظيم لهذا الإطراء من الرجل الأبيض
ـ هل سأنال الألف فرانك ورضا الملك وبركة الكنيسة؟
ـ نعم لك ما شئت ، ستكون من اليوم معاوني الثاني وسنصدر تعميم جديد بأنه لا حاجة لنا
بألا قدام اليمني المبتورة طالما أن هناك أعضاء أخرى اكثر تأكيدا.
اخرج القس ورقة النقود ولوح أمام عيني المحارب الجشعتين ، أختطف المحارب ورقة الألف فرانك من يد القس وحمل بندقيته وانطلق نحو القرية يغني، غدا ستأتي باخرة أخرى محملة بالخمور والنفائس والخرز الملون والأشياء التي تثير الدهشة من وراء البحار وتنصب الأسواق علي شاطئ النهر ، سيتمكن من شراء كل ما يلزم عشيقته جين من اجل ان ينام معها ليلة سعيدة
*********
ثم يوم جاء فيه الرجل البيض*
اكثر خبثا وتشبعا بالضغن
من أي صنف من صنوف الموت
وقايض ذهبك بخرزاته وعصيه التي لا تساوى شيئا
واستباح حرمات إخوانك وزوجتك واعتدى عليهن
وسمم بشرابه أبناءك وإخوانك
وساق أطفالك إلى ظهور السفن
وعند ذلك دوت الطبول من قرية إلى أخرى
أعلنت للناس ان سفينة أجنبية أخري
تحمل الرقيق على ظهرها
قد أبحرت في طريقها إلى السواحل البعيدة
حيث الإله هو القطن والدولار متربع على دست الملك*
القصيدة للشاعر الكنغولي باتريس لوممبا
اليقين والقدر

كنت دائما اجلس عند الغروب على صخرة عند ساحل البحر في مدينة الحديدة،ارتب المسودات للقصص القصيرة التي اكتبها دفعا للملل.. كان يأتي ويجلس عن كثب ، رجل في العقد الرابع من عمره ،رث الثياب ومشوش الهيئة،يلقي علي تحية في ود ثم يجلس في استغراقه العميق،يحدق في الأفق إلى الشمس الغاربة التي جعلت مياه البحر تبر ذائب في لجين..
سألني مرة
_ ماذا تفعل عند الساحل يا سوداني؟!!
- اجلس ...لأكتب القصص
لوحت له بالدفتر والقلم ،بانت الدهشة العميقة علي وجهه الطيب
- هذا عمل جيد...أفضل من إضاعة والوقت في مضغ القات...
- وماذا تفعل أنت؟!!
- أنا....
ارتبك قليلا ثم أردف
- إن لي قصة غريبة مع البحر ،تبدأ من قريتي البعيدة...كنا ثلاث أشقاء،لسنا من هذه المحافظة..اخبرنا والدنا قبل أن يموت بان أخي الأكبر ستكون ثروته من الإبل وأخي الأوسط ستكون ثروته من النوب/النحل..وأنا من البحر...مات أبي الله يرحمه منذ أمد بعيد
سافر أخي الأكبر إلي السعودية وقاده حظه للعمل في مزرعة أمير عسير زمن الاعتناء بالجمال النبيلة،جمع ثروة طائلة وأقام هناك في كنف الأمير..أخي الأوسط بقي في القرية..استيقظ ذات يوم علي طنين نحل في مزرعته الصغيرة..ووجد هناك خلية ضخمة وبدا معها مشوار إنتاج العسل الفاخر وهو ألان ثري وأضحى يصدر العسل إلى خارج اليمن.. وبقيت أنا انتظر البحر منذ عشرات السنين ..في هذه المدينة !!
- شيء مدهش فعلا...وهل سيصدق البحر يا ترى ؟!!
التفت نحوي ولمع الإصرار في عينيه
- أبي لا يكذب أبدا والبحر ايضا ....جلب لنا رجلا صالحا يوما في صندوق تفوح منه العطور وجعلناه مزار في بلدتنا البعيدة
ثم نهض مبتعدا وجلس في مكانه المعهود ليمارس طقوسه المعتادة، كان ينهض عن التاسعة ليلا ،ثم يتعرى عن ملابسه الرثة ويلقي نفسه في البحر.. ينضو عن جسده المنهك حر المدينة القائظ وطموحاته المجهضة...ثم يخرج من الماء ويرتدي ملابسه وينصرف ملوحا لي بيده من بعيد وتطويه العتمة
**********
اليوم كنت اجلس كالمعتاد لأضع اللمسات الأخيرة لقصة(رسول الأحزان) لاحظت أن صديقي تأخر قليلا عن موعده المعتاد جاء بعد الغروب وحياني وجلس عن كثب، أظلمت الدنيا واد لج الليل ...ثم بزغ القمر وأخذت أشعته تجلو مرآة البحر السحرية الساكنة بالأضواء الساحرة المتراقصة ...فجأة هب كالملسوع وأطلق صيحة خافتة وشاهدته ينضو أسماله البالية علي عجل ويندفع سابحا إلي داخل البحر..حدقت في الأفق وشاهدت شيء اسود أشبه بحقيبة يتراقص مع الأمواج...كان الرجل ماهر في السباحة ويبدو انه تعلمها لمثل هذا اليوم..امسك بالحقيبة وقفل عائدا نحو الساحل وخرج من الماء وجسده يختلج وأنفاسه متلاحقة واندفع نحوي ملوحا بالحقيبة ومتهلل الوجه...ونسي أن يرتدي ملابسه
- يا سوداني.... الم اقل لك إن البحر لا يكذب!!
صعقتني الدهشة أيضا... وكأني أصبحت جزء من عالم ألف ا ليلة وليلة ...تنبه الرجل لعريه فانزوي خجلا مستترا بالحقيبة والتي يبدوا أنها ستستر عورة فقره المزمن أيضا...احمر خجلا ،ثم قفل متقهقرا وارتدي ملابسه علي عجل مرددا
- آسف...آسف....لقد فقدت صوابي من الفرح
صعد علي الصخور في طريقه نحو الإسفلت الذي يمتد بحذاء الساحل في المدينة التي كانت تتثاءب للنوم..وكأنما تذكر شيئا التفت لي
- هل ستكتب قصتي ؟!!
- ربما...ربما
- إذا في أمان الله...قد لا تراني ثانيتا
- سلام يا صاحبي
أطلقت زفرة حارة وملأت رائتي العليلتين بالهواء النقي ورددت في نفسي ( لقد راهن الرجل علي البحر وتمسك بهذا اليقين...وفاز....علي ماذا راهنت أنا ؟!!
هذه الدروس الصغيرة التي يقدمها لنا بسطاء الناس في اليمن السعيد وكل يوم عندما نلتقي بهم في كل مكان يحدثونا عن أحلامهم الصغيرة والكل هنا يبحث عن كنز ويراهنون علي المجهول ويكسبون...لان لهم يقين لا يتزعزع أو تبليه السنين...إنها كائنات الشوق الأخر المدهشة...والسحر الذي يغلف الأحياء والأشياء في اليمن ..ويجعلك كأنك تعيش في حلم اخضر تتمنى أن لا تستيقظ منه أبد
**********
ا نهضت على عجل تذكرت موعدي مع المستشرقة البريطانية جين التي التقيتها في صنعاء في العطلة الماضية واخبرتني انها ستحضر لتحتفل معي براس السنة في الحديدة...في مطعم فندق الامبسدر الهاديء والمعزول في اطراف المدينة..ركبت سيارة اقلتني الي الفندق وصعدت الدرج عدوا ومع ذلك وجدتها تنتظر وقد بلغ بيها الضيق مداه
- هلو اديل...لا زلتم انتم الشرقيين لا تهتمون بالمواعيد
مدت لي بدها المجعدة فهي امرأة في السبعين وبها مسحة من جمال حزين وقديم
- اسف امي جين
كان يسعدها ان اقول لها ذلك.. صافحتها بحرارة وجلست جوارها
- لعلك تبحث عن سبب اهتمامي بالشرق
وطفقت تحكي(انه اليوم سعيد..يجلس في غرفته وحيدا علي سطح اليخت يكتب..لقد وصل إلى المياه الدافئة بعد رحلة طويلة..تحق حلمه الذي ظل يراوده منذ طفولته البعيدة..أن يعيش السحر والغموض الذي كان يكتنف أحاديث والده الثري الراحل عن هذه المناطق...كان ولده يعمل في المستعمرات ...ميناء عدن...ظل يحدق بعينيه الزرقاوتين الصافيتين إلى الأفق البعيد...عينان لا تنمان أبدا عن الداء العضال الذي يكابده ويقربه لحظة بعد لحظة من ساعته المحتومة...كان مبتهجا رغم أن تقارير الأطباء عن حالته وصراعه مع السرطان لن يمهله ليعيش طويلا ..انه سعيد لأنه محاط بأناس يحبهم وقد ارتضوا أن يأتوا معه في رحلته الأخيرة..طباخ العائلة السيد باتريك ومدبرة المنزل الزنجية السيدة قووم وابنه البستاني جيمس صديقه..وخطيبته الوفية جين التي تقف ألان على الممر متكئة على السياج أمام كبينة القيادة ترتدي ملابس القبطان وتحدق في الأفق الشرقي..واليخت يمخر عباب البحر الأحمر في طريقه إلي عدن عبر مضيق باب المندب
أحب السيد رون ابن الخمس وعشرين ربيعا ذابلا سحر الشرق من وحي أقاصيص والده الذي جمع ثروة طائلة...آلت إلي ابنه دون أن تكون طوق نجاة لدحر المرض اللعين عنه

******
كان باتريك يعد المائدة للعشاء الأخير ومسز قووم تضيء الشموع في غرفة النعش المصنوع من خشب الصندل المستورد خصيصا من الهند وتزينه بالزهور في غرفة أسفل اليخت..بينما رون يكتب وصيته الأخيرة وجواره حقيبة والد الأثرية السوداء القديمة...كان يسعل بين الفينة والفينة...مالت السفينة فجأة بفعل التيارات...انزلقت الحقيبة من المنضدة وأفلتت من أصابعه وتدحرجت من الباب إلي السطح ثم سقطت في المياه مثيرة رزاز كثيف وطوتها زرقة البحر...لم يحزن لفقدانه الحقيبة بهذه الطريقة...الكل يواجه قدره ليصنع أقدار للآخرين..كان بها فرنكات فضية ماري تريزا من ممتلكات والده القديمة وقد أوصاه بإلقائها قبالة سواحل عدن...مزق الوصية التي كان يكتبها لجين لتنفيذ رغبة والده الغريبة ..لقد فعلت الحقيبة بنفسها ذلك واختارت الرحيل هنا وهو لا يزال على قيد الحياة..
******
رن جرس العشاء في الأسفل..نهض رون في تثاقل وخرج إلى الممر وتأبط ذراع جين ودخلا غرفة القيادة وابطلا المحرك..سكن الهدير الناجم عنه وعم الهدوء المكان إلا من صيحات نوارس عابرة جنوبا
جلس الجميع على مائدة العشاء..تلى السيد باتريك الصلوات..ثم تناولوا الطعام والشراب وتبادلوا الأنخاب والرقص على أنغام البيانو الذي كانت تعزف عليه مسز قووم ببراعة
************
جلس الجميع علي الأرائك لشرب الشاي والقهوة في صمت..بدا وجه رون يزرق وأنفاسه تتلاحق...نهض في تثاقل وانتقل إلي غرفة النعش واستلقى داخل التابوت وأغمض عينيه...سكت الجميع في الخارج وأطفئت الأنوار..وفي الساعات الأولى من الفجر فاضت روحه..
حمل نعشه باتريك وبمساعدة جيمس الذي احكم غطاؤه..بينما السيدتان تزرفان الدمع في البهو..انزلا التابوت برفق على السلم ووضعاه برفق على سطح الماء..فانزلق مبتعدا نحو الشرق...صوب السواحل اليمنية....ران الصمت علي الجميع هنيهات ونهضت جين تكفف دموعها وصعدت الدرج إلي غرفة القيادة وأدارت المحركات واستدار اليخت دورة كاملة للعودة إلي الوطن...إلى انجلترا..
رحل رون كما كان يريد في يخت يجوب البحار الدافئة..البحار التي تحيط بلاد السحر والغموض ويسمونها في الغرب بالعربية السعيدة)....
**********
احتفلنا معا براس السنة في هذا المكان الغربي الطابع...ونزلت معي رغم كبر سنها لتودعني..وفي الشارع..صافحتني بحرارة مودعة
- لعلنا لا نلتقي ثانيتا...لدي جولة في تهامة بحثا عن الأضرحة المجهولة كما تعلم إني اهتم بالتدين الشعبي..سأزور ضريح اويس القرني في مدينة زبيد...وأبو الزهور في الخوخة..والحكمي والبجلي في قرية عواجة
- هذا يعتمد علي الأقدار
- هل ستكتب قصتي ؟!..لقد قلت لي في صنعاء انك كاتب مغمور..
- ربما...ربما
- إذا وداعا.. وابقي ولد طيب
- وداعا... موم جين
أوقفت سيارة وانطلقت بها إلي داخل المدينة ..لمحتها في مرآة السيارة تكفف دموعها وتستدير عائدة إلي الفندق.... تنفست الصعداء وأغمضت عينيي وغرقت في ذكريات يوم عبر..






خيال مآتة برتبة جنرال
استيقظ مبكرا كالمعتاد ومنزعجا من نعيق الغربان الذي يصم الآذان وزقزقات الطير ودبيب جحافل النمل في مزرعته في الجوار...هذه المزرعة اشتراها من مال حساباته السرية التي كانت تكتنز بها ...الهبات والعمولات التي تأتيه من الخارج..جراء العديد من الانقلابات الفاشلة التي ظل يقودها في العهود الماضية وتنتهي بفواجع أليمة وإعدامات... لعب على كل الحبال لا يهم الخارج إن كان المعسكر الشرقي أم الغربي...الآن يعيش وحيدا مع زوجته بعد أن هاجر كل أبنائه إلي الخارج...وبقي مع زوجته في تلك التخوم النائية من البلاد هروبا من صديق موجع يسمى((الضمير))...
********


خرج من المنزل ونظر إلى الأفق الشرقي..إلي خيال المآتة الذي يقف في انكسار وسط حقول الذرة الشامي.. في انكسار وقد استباحته الغربان والطيور وسلحت على رأسه وفكت بمناقيرها مشدة الرأس وجعلت الثوب الأبيض أشبه بخارطة العالم السياسية في أطلس مناهج التربية..
*********


ان خيال مآتة في شكل مواطن عادي لا يجدي مع هذا النوع الخبيث من الأعداء..في هذا اليوم اعتزم أمراً جللاً..عاد إلى البيت ودخل غرفته التي يرتفع منها غطيط زوجته النائمة وضرا طها أيضا..فتح خزانة الملابس القديمة واخرج بزة الجنرال العتيدة المزينة بالأنواط والنياشين التي أسبغتها عليه الحكومة لجهوده المقدرة في قمع كافة أشكال التمرد والعصيان في طول البلاد وعرضها..ثم نضى الغبار عنها وتركها جانبا واحضر الأخشاب اللازمة لصنع خيال مآتة برتبة جنرال
****************

في اليوم التالي ...أصاب الغربان والطيور الفزع الشديد وهربت من كل أنحاء البلاد وفي كافة الاتجاهات تتخبط بأجنحتها..والتزمت جحافل النمل بحظر التجوال...وعم السكون المطبق المكان إلا من حفيف السنابل مع الرياح..كأنها جماهير الغوغاء تهتف بحياة الجنرال الشامخ المزين بأنواط الشجاعة ووسام الخدمة الطويلة والممتازة الذي يتوسط الحقول...

ضحك الجنرال،ظل يحدق في الأفق المعتم .. إلي الطاغية الجديد..تتلامع النجوم والنياشين على صدره مع أشعة الشمس الغاربة..عاد إلى المنزل سعيدا..بعد انجازه أول وأخر انقلاب ناجح قام به في حياته دون تدبير قوى خارجية أو أرصدة في البنوك...دلف إلي غرفته التي يرتفع منها غطيط زوجته المعتاد وضرا طها أيضا..تناول آخر قرص فياجرا أرسله له ابنه الذي هاجر إلى أمريكا منذ أمد بعيد وتناول عشاؤه الخفيف قطعة خبز مع جبن فيلادلفيا واستلقي جوار زوجته ونام ..لحظات وارتفع غطيطهما معا...وتبادلا إطلاق نار متقطع في سيمفونية الليل المرعبة..

*************
في الخارج خيم السكون المطبق على كل الأرض بعد الهجرة القسرية للغربان والطيور ...والتزام كافة جحافل النمل بحظر التجول..رعبا وفرقا من الجنرال الجديد المصنوع من الخشب الذي حكم البلاد

الكلب


دخلنا مدينة ديزفول في الصباح ، كانت خرائب بعد نزوح أهلها هرباً من القصف المركز الذي قامت به مدفعيتنا طوال الليل .. كنا نحن جنود الفيلق العشرون مشاة والمسئولين عن تامين لمدينة ، بسام صديقي يسير بجواري شاهراً سلاحه ويبدو عليه الشرود ، انتشر بقية الجنود يجوسون بين الخرائب والانقاض ، تفرقنا ثم تجمعنا عند الطرف الشرقي للمدينة وأقمنا معسكرنا ونصبنا الخيام ، انتبهت بأن بسام قد اختفى عني وعاد متأخراً ، دخل وجلس جواري في الخيمة لمحت نتوء غير طبيعي يبرز من جانبه حدقت فيه في دهشة نظر الى في ارتباك .

- عمار .. أريد أن أخبرك بشئ .

حدقت فيه ساخرا وكالمعتاد .

- هل رأيت عفريتاً وتبولت على ملابسك؟! .

- ليس كذلك .. أيها الوغد المعيدي *

فك أزرار سترته العسكرية ، أدخل يده الى النتوء في جانبه وأخرج جرو صغير كان يبصبص في سكينة وبدت أضلاعه بارزة ، غمرتني دهشة شديدة .

- ماذا تريد أن تفعل به ؟

- قد يطول مقامنا هنا ، سأتخذه صديقاً بدلاً عنك ونعيم وبشار .

ابتسمت له في دهشة ، بسام من الأسر العريقة والنبيلة في بغداد ، يرجع نسبه الى الشيخ عبدالقادر الجيلاني ، رغم جسده الفارع وجثته الضخمة إلا أنه يحمل قلب عصفور وإنساني لأبعد الحدود ، فأردفت .

- إذاً عليك أن تخبئ هذا الأمر عن قائد الفيلق وبقية الجنود .

- إني أخبرتك فقط لإني أعرفك جيداً لا شأن لي بهم ،سيبقى الكلب معنا في الخيمة ..

أخرج بسام كرتون حليب وعلبة ساردين فارغة ووضع الحليب للجرو الذي أخذ يعب من الحليب بشراهة ، يبدو أنه كان جائعاً جداً استلقى بسام بعد ذلك وراح في سبات عميق وأندس الجرو في صدره ، كانت جلبة الجنود تأتي لنا من بعيد وقد أرخى الليل سدوله وهم يعربدون ويصخبون كالمعتاد .

* * * * *

استمر الحال بيننا الثلاث ، أنا و بسام والكلب الذي استعاد عافيته وكأنما عرف خطورة وضعه وأن ينكشف أمره ، ظل دائماً يختبئ في حاجيات بسام الكثيرة في ركن الخيمة .. وكلما سمع خطوات تقترب من خيمتنا انسل من بين أيدينا واختبأ داخل حقيبة بسام العسكرية .. لكن مع ذلك .. دوام الحال من المحال .. تسربت أنباء الكلب من خيمتنا بواسطة نعيم وبشار الخبثاء وبدأت النكات التي يتفنن فيها زملاؤنا يضج بها المعسكر وتنفجر الضحكات يومياً في العديد من الخيام ، كل جنود المعسكر يحبون بسام ويجلونه لنسبه الرفيع ورحابة صدره ولتقبله المزاح يطيب خاطر .. يبدو أن قائد الفيلق قد عرف بقصة الكلب وأراد أن يعبر عن شعوره لكن للأسف كانت مزحة ثقيلة أضحت نقطة تحول في حياة بسام .

في ليلة مقمرة والريح تسف الوجوه ، خرج قائد الفيلق من خيمته مخموراً وصاح فينا بأن نجتمع ، تسلل الجنود من خيامهم مذعورين .. حدق قائد الفيلق فينا بعينيه المحمرتين ثم استقر بصره على بسام .

- بسام .. يقال أنك تأوي خائن في خيمتك .

ضج الجنود بالضحك لهذه المزحة من القائد الذي أردف مستديراً نحو الجنود :

- هيا أحضروا هذا الجاسوس !!

اندفع نعيم وبشار الى داخل خيمتنا جاءوا يحملون الكلب ووضعوه في وسط الحلقة وكان الكلب المذعور يدور حول نفسه وذيله بين رجليه ، اندفع نحو بسام المرتبك صاح قائد الفيلق .

- ملازم بسام !! أعدم هذا الخائن ! .

صمت الجميع فجأة كأن على رؤوسهم الطير ، صعق الجميع لم يتوقعوا أن تصل المزحة الى هذا الحد .

- هيا أعدمه ألا تسمع .!!

خيم الحزن على الجميع وكأنما عرف الكب مصيره المحتوم ، اندفع بعيداً عن صديقه وجلس يدور حول نفسه في جزع ويطلق عواء حزين ، صرخ القائد للمرة الثالثة .

- اقتله .. اقتله .

وانتزع مسدسه وصوبه نحو بسام .. انتبه بسام من شروده وأخرج مسدسه وبيد مرتجفة وجهه نحو الكلب .. ثم تخطاه وسط همهمات الجنود ، كنت أنظر الى وجه بسام الطفولي وقد انقلبت سحنته تماماً وبقية الجنود يحدقون في الكلب في إشفاق ، تخطت يد بسام الكلب ورأيتها تتجه نحو ..!

- " يا إلهي ماذا يريد أن يفعل ؟! "

صحت فيه

- بسام !!

تراجعت يده مرة أخرى ، وأطلق النار ، عوى الكلب في ألم ممض واستدار حول نفسه وسقط مضرجاً في دمائه ، ألقى بسام المسدس جانباً تقدم في تثاقل نحو صديقه المغدور وركع جواره في إنكسار ، تفرق الجنود الى خيامهم وعاد القائد الى خيمته وهو يقهقه وصدى ضحكاته تجلجل في المكان ، جلست جوار بسام وأخرجت سكيني وحفرت قبر للكلب ودفنته ثم انهضته من يده وعدنا الى الخيمة ، استلقى على فراشه ودفن وجهه بين ساعديه ، جلست جواره استدار نحوي وعيناه مشربتان بالدمع وقد كسا وجهه الحزن النبيل .

- بسام .. لن أقول لك لا تحزن إنه مجرد كلب .. ولكن ..

أجهش في بكاء مرير .

- كنت أريد أن أعود الى بغداد .. دون أن أقتل أحد .

- عزيزي لا يمكننا أن نأخذ الكلب معنا الى هناك ، كما لا يمكننا أن نتركه يموت جوعاً ، إن ما فعلته يسمونه في الغرب قتل الرحمة .

- لا تقل ذلك يا عمار .. إن هذه المخلوقات لها خالق وهو الكفيل برزقها .. لعنة الله عليهم الخبثاء نعيم وبشار ، هم الذين أوعزوا للقائد بذلك .

* * * * *

في الصباح كان كل شئ قد تغير ، انتشر الجنود وهم لا يطيقون النظر الى بسام وابتعد أصدقاؤنا عنا وتتابعت الأيام ثقيلة وبسام غارق في صمته المخيف ، ومرت الأيام تباعاً وانتهت مهمتنا في المدينة وعدنا الى العراق .. وتفرقنا بعد أن وضعت الحرب أوزارها .. ذهبت الى مدينتي القادسية ، بعد فترة وصلتني رسالة من صديقنا نعيم من بغداد .. أخبرني بأن صديقنا بسام قد تدهورت حالته تماماً ، أصبح يجمع الكلاب الضالة ويطعمها في بيتهم العامر ثم يستدرجها ويحملها بالسيارة الى ضواحي بغداد ويطلق عليها النار .







الطاعون


- لا تذهب اليوم إلى العمل يا أبي .

- لماذا يا بني ؟!

- رأتك دنيا في المنام وأنت تحمل خبزاً على رأسك تأكل منه الطير.

نظر ضابط الدرك أحمد إلى ابنته التي تجلس عن كثب وترك ابنه خالد يرتدي قميصه بنفسه واتجه نحو ابنته الحزينة.

- ألا تريدين الذهاب إلى المدرسة يا دينا ؟!

- سنذهب نحن إلى المدرسة، فقط أبقى أنت في البيت.

شعر أحمد بالحزن الغامر، أن طفليه هما ما تبقى له ليتعلق بأهداب الحياة، نظر في حنق إلى الغرفة التي يرتفع منها غطيط امرأة نائمة، تزوجها منذ عام نزولاً عند رغبة والده.. كان يعرف انها تقسو على طفليه كثيراً، طفليه المنكودين!! ماتت أمهما بالسرطان، منذ عام تقريباً، تركت في نفسه جروحاً عميقة جعلت الموت عنده فكرة مؤجلة.. لأجل خاطر الأطفال يقوم بدور الأب والأم، فلتأخذ ماله وجسده أما روحه فلا. كان زواجاً فاشلاً بمعنى الكلمة إرضاء للأب فقط، جاهد أحمد الابتسام وردد بلهجة مرحة تشوبها المرارة:

- هيا يا أولاد. قد أزفت ساعة الرحيل.

خرج ثلاثتهم في تثاقل، ركبوا السيارة إلى المدرسة، أنزلهما عند باب المدرسة طبع الطفلان قبلاتهم المعتادة على جبين والدهما وودعاه بحرارة غير معتادة دارت السيارة مبتعدة وغابت عند المنعطف.

* * * * *

انتهى اليوم الدراسي وخرج التلاميذ إلى الطريق أمامهم المدرسة بإنتظار ذويهم، جلس خالد ودينا والزمن يمضي ولا تظهر السيارة البيضاء الحبيبة.. فجأة سمعا دوي طلقات رصاص نارية ليس ببعيد. نهض الطفلان وأخذا يركضان مع جموع المواطنين، عند المنعطف شاهدا أعداداً من الناس تتجمهر صوب سيارة مهشمة تقف على كثب وجسد ممدد عند جدار مسجد في الجوار، اندفع خالد ودينا نحو مكان الحادث وطفقا يدفعان الناس بأيديهما الصغيرة حتى وصل مكان الجثة، شاهداه ممدداً تغطي دماؤه كل شيء، فقد هشم الرصاص نصف وجهه، نظر الطفلان في فزع إلى أبيهما الجميل، يبدو أنه تألم كثيراً وهو يزحف من السيارة المحترقة إلى سور المسجد، أنقض الطفلان على الجسد المسجى ينتحبان بحرقة، كان هناك العديد من الوجوه المتكلسة التي تجمعت ثم تفرقت، فقد أعتادوا رؤية مثل هذه النوع من الطاعون، جلست دينا عند الحذاء العسكري تفك الأربعة وجلس خالد عند الرأس الدامي يمسد شعر أبيه الملوث وردد.

- إذا أردت يا أبي أن تنام هكذا على قارعة الطريق، فلا حاجة لنا بالذهاب إلى المنزل .

تمدد الطفلان جوار ابيهما وناما .. ان ا لأطفال وحدهم الذين لا يعرفون لماذا يموت رجلاً طيباً كهذا.. في شوارع الجزائر ؟!!
























آخر جرائم مصطفى سعيد


خرج من مكمنه العجيب ونظر إلى الكاتب الذي كان يغط في سبات عميق وتقدم نحو المرآة ونظر إلى وجهه " عينان واسعتان وفم ...." ابتسم في نفسه لقد أبدع الرجل في وصفه كرمز للفحولة..جلس على المكتب واخذ المسودات الآخيرة للرواية واخذ يقرأ " أن ود البشير كان له شئ كمدافع الانجليز " بان الامتعاض على وجهه وردد في نفسه " تبا لهذه العجوز الشمطاء التي تتأرجح هرموناتها وتلقي بها في منتصف المسافة بين الانثى والذكر ..بنت مجذوب الفاجرة .. ماذا يعني أن يكون ود البشير مزود بالة ضخمة .. إن تضخم هذه الأجزاء يدل على التخلف العقلي أين أولادها إذاً؟! كان زوجها الراحل يمتلك مدفع خرق يصلح لإفطار الصائمين" .. تابع القراءة .. بان عليه الغضب الشديد " اللعنة لماذا سارت الرواية على هذا النحو .. إن بنت مجذوب هي التي ارتكبت هذه الجريمة الشنعاء ليس ود الريس ".
نظر إلى الكاتب النائم .. احمرت عيناه غضباً .. كان يجب عليه أن يجعلني اقتل هذه الحيزبون بنت مجذوب فهي التي حرضت ود الريس بخزعبلاتها التي كانت تحكيها عن زوجها المقبور ود البشير .."
ألقى الأوراق فى المكتب فتناثرت فى كل ارجاء الغرفة الباردة ونهض وتقدم نحو الكاتب ومراجل الغضب تغلي في عروقه تناول وسادة الكرسي واخمد بها أنفاس الكاتب النحيل الذي انتفض وأطاح بالأدوية الكثيرة بجواره على المنضدة ولم تمر لحظات حتى اسلم الروح الى باريها ثم عاد القاتل إلى مكانه العجيب..
********
جاء رجال شرطة اسكتلنديارد بعد أن تلقوا بلاغ من صاحب عمارة في حي سوهو بان هناك كاتب إفريقي مغمور وجد ميتا في غرفته المغلقة من الداخل .. كانت جريمة غامضة ظلت الشرطة البريطانية سنين تبحث عن القاتل المجهول الذي تبخر في الهواء .. أخيراً قيدت ضد مجهول وأسدل الستار على مأساة الكاتب الأفريقي المغدور وجاء قريب الكاتب وهو رجل سوداني يعمل في هيئة الإذاعة البريطانية يدعى الطيب صالح استلم تصريح الدفن وجثمان الضحية وعهدته البسيطة التي لم تكون سوى مسودة لرواية تسمى موسم الهجرة إلى الشمال



هوامش:اقتباس من رواية موسم الهجرة الي الشمال للطيب صالح










الفراشة والنار

كانت هناك فراشة بيضاء جميلة ،تعيش في مدينة يلفها السلام، اعتادت كل صباح على التطواف..تقبل كل الأزهار الحمراء والملونة الأمينة وتمسح الحزن المسافر في عيون كل المدينة..إلا أن البلدية في المدينة كانت تعاني من التسيب والإهمال المريع..ظلت الزهور تذبل كل يوم وتموت في الحدائق المهملة..غمر الفراشة الحزن النبيل على موت أصدقائها الزهور...طارت إلى الساحل تشكو أمرها للبحر ،هناك عصفت بها الأنواء وكادت تغرق فهربت بعيدا وظلت تدور حزينة فجأة وبعد إن عسعس الليل شاهدت عن كثب رجل غامض يشعل زهور حمراء جذابة تتراقص وذات غواية لا تقاوم..اندفعت الفراشة التي برح بها الشوق إلى تلك الزهور الغريبة تريد تقبيلها..احترقت أجنحتها وسقطت مندحرة على الرمال وماتت
في الصباح عم الخبر المدينة التي ماتت جل أزهارها بسبب إهمال البلدية..أوردت الصحف ووكالات الأنباء بان محكمة الحب الدولية أصدرت بيانا تدين فيه النار لخداعها الفراشة واتخاذها شكل الزهور وارتكاب تلك المجزرة المشينة...تداول الناس الخبر كالمعتاد وأبدو أسفهم وامتعاضهم العميق ثم نسوها ...وتم دفن الفراشة في مقابر شهداء الثورة
اتشحت بالسواد زهور بعيدة عند أطراف المدينة حول المصانع وسارت في موكب حزين إلى البحر ،صديق الفراشة المغدورة واخبروه باغتيال النار لصديقتهم الوفية والمحبة للحقيقة والجمال..أرعد البحر وأزبد وهاج وماج وغضب غضبا شديدا وتوعد النار بالويل والثبور وعظائم الأمور قال انه سيرسل جنوده من المياه المحمولة جوا عبر السحاب الثقال إلى النار التى هربت واختبأت في الجبال في مدينة أزال*
************

ومنذ ذلك اليوم أضحت المدينة تمتاز بالبحر الصاخب والزهور السوداء،الزهور الحزينة التي تخلت عن الوانها الزاهية حدادا على صديقتهم الفراشة، الراحلة الحنونة التى تمسح الحزن المسافر في عيون كل المدينة...
13/1/1995 الحديدة
ازال: من اسماء صنعاء الجميلة المشرقة ودوحة اليمن الظليلة ومورقة











ام كواكية

استيقظ في الصباح مذعورا..خطف مسدسه من جواره وأطلق النار على سارية العلم عبر النافذة حيث كان يجب ان يكون هناك غراب ينعق في الفضاء ويسلح على علم البلاد..لم يكن هناك غراب يسقط مضرجا في دمائه ويقوم الحراس بدفنه في المقبرة الجماعية في فناء المنزل تحت أشجار الليمون والبرتقال
لم تنهض زوجته مذعورة توبخه على هذا الفعل المشين والمكر ور...اذ انها لم تكن موجودة الي جواره هذا الصباح"ما هذا الصمت المخيف؟؟!!"..فرك عينيه وأصاخ السمع..عله يسمع صفارة قطار بعيدة من قلب المدينة او أزيز طائرة من مطار ها او الضجيج المعهود في الشارع..."هل هذه كوابيسه المستمرة والتي جعلته يجوب بلاد العالم لطببتها...ام انها الحقيقة؟؟!!"
لم تأتي سيارة الراسة التي تقله الي القصر الراسي ، رفع سماعة التلفون ووجد المجيب الآلي في الانتظار"ناسف..اما هذا الرقم خارج نطاق التغطية او الهاتف مغلق"...تناول الريموت واراد ادارة التلفاز..ظهرت الشاشة البلورية عارية من كل بث ..فقط التشويش الذى ينبعث من مثل هذه الاجهزة الالكترونية...ادار مؤشر الراديو..نفس الامر ..انطلق صفير ولم يجد له المذياع يمحطة اخبارية واحدة"رباه ..ما هذا الذى يحدث في العالم"
هب مذعورا واخذ يركض في ردهات القصر وشرفاته الخاوية والاشجار في الفناء تحملق فيه في ذهول وقد خلت من زقزقات عصافيرها"خطب ما الم بالمدينة واغرقها في هذا الصمت المريب؟؟"
ارتدى ملابسه على عجل وقرر ان يقود سيارته بنفسه...خرج الى الطرقات المقفرة والمتشحة بالغبار...شاهد اوراق ومنشورات تغطي الشوارع...تحملها الرياح وتصفع بها زجاج سيارته...مر امام الشارع المعهود...حيث كانت تقبع مريم بائعة الشاي...وتداعي الى ذهنه المجهد ذكريات من نوع خاص

كان عندما يمر بموكبه وضجيجه المعهود امام الشجرة التي تجلس تحتها عن كثب من قصر الراسة...لا يطيق النظر اليها...ونظراتها الممتلئة بالوعيد والاحتقار تشوي جسده وتوخذه كالابر...ويحس بالازبز يجتاح كيانه بقوة الف ديسبيل ..كانما سحقته طائرة بوينج 747

عجز رجال الامن عن ازاحتها شبر من مكانها ولم ينبت احد منهم بكلمة عن ما يحدث له..كلما شرع في مضايقتها..حتى انهم مرة احضرو مشعوذ المدنية الشهير الذى تلجا الحكومة في ملماتها...لهزيمة سحرها الاسود...كانت حادثة...اقشعر لها بدن الجميع واصيبو بالغثيان والخوف معا..جعلتهم يقبلوها كأمر واقع...سقط الجرل مغشيا عليه لمجرد ان حدجته بنظرة من تلك النظرات المخيفة.. ثم نهض يتقصع ويسير ويتحدث في ميوعة فقد استوطنت جسده فجاة امراة...ليت الامر انتهى الي هذا الحد...اضحى المسكين...تحت رغبة لا تقاوم يتسكع عن المدراس يبحث عن عنفوان المراهقين...يصطاد احدهم وياخذه معه الي بيته البعيد في اطراف المدينة...ويتم الامر الذى قد قدر من اجل حفنة نقود..

بائعة الشاي مريم من قبيلة المساليت في اقصى غرب البلاد..التي تحيط بها الاساطير...لم تاتي الي المدينة بطوعها...وحبا في مباهجها...احرقت طائرات الاباتشي الصينية قريتها في دارفور...داست سنابك خيل الجنجويد على اجساد اهلها الطاهرة...قتل ابيها الشجاع واصيب زوجها بطلق الناري جعله مقعدا ويعاني من الدرن الباهظ التكاليف..وابنها الوحيد يقبع جوارها...وتقيم في هوامش المدينة الغربية...
عندما كانت مريم طفلة ترعى الماعز في فيافي دارفور الموحشة...ظهر لها رجل فجاة..امسك بها بقوة وطرحها ارضا واجرى لها عملية جراحية غريبة..دفن شيء ما في لحمها الطري اعلى الفخذ..كان يردد على مسامعها الغضة"لا تبكي يا الزينة بنت الزينين...ستتالمي الان ولكنه سيحميك من ام كوكاية ومن ناس الخرطوم بقية حياتك كلها"...ومن يومها وهي تحمل سرها معها..كانت تخيف الرجال... خاصة هؤلاء الاوغاد الذين يتعهرون معها دون حياء ولا يتكلمون بصورة لائقة معها كامراة ملتزمة تبيع الشاي... لها زوج وطفل...
اضحت الحادثة االمشينة للمشعوذ...القشة التي قصمت ظهر االبعير..وانتشرت وغدت مكان تندر المواطنين.....وفرضت وجودها المخيف تحت شجرة اللبخ جورا قصر الراسة

نظر الي موقعها تحت الشجرة بعين متوجسة...لمح كل ادواتها قابعة في مكانها والمقاعد الصغيرة متناثر تعبث بها الريح...ولا احد..."تبا..حتى هذه المراة المخيفة..رحلت !!..ما دهى هذه المدينة؟؟!!..ظل يتجول بالسيارة في الطرقات المقفرة...كان الزمن يمضي...والسيارة تائهة في الطرقات...المدينة التي سكنها الضجر منذ امد بعيد...الاوراق المريبة تعبث بها الرياح في كل حدب وصوب... والأتربة ايضا

شارفت شمس ذلك اليوم على الغروب..عاد بسيارته منكسرا وعندما مر جوار ملعب المدينة الفخم...شعر بالاسي..."اليوم االمبارة النهائية في الكاس اعياد الثورة الظافرة...كان الملعب قابع في الظلام..كانه جبل مرة..وتبرز ابراجه الكهربائية من اركانه الاربعة...مثل كائنات جيمس كاميرون الاسطورية...ترجل من
السيارة ونظر الى هذا الصرح العظيم الذى كان يملا المدينة ضجيجا وحيوية وقد خيمت عليه سكينة اللحد العميق..تملكه الاسى والرعب تماما..."هل يعقل ان احدهم اخلى المدنية باكملها دون علمه؟؟ابن الاجهزة الامنية والعسس؟؟!!..اين زوجته الوفية؟؟..اين مريم بائعة الشاي؟؟..اين مضى هؤلاء؟؟
التفت حوله نحو الاوراق التي تغطي المكان وتصفعه من كل جانب..تناول احداها التصقت بوجهه ودسها في جيبه وطفق عائدا بالسيارة الي قصره المنيف والغارق في الصمت المؤسف.....دلف يجرجر اقدامه كانه يسحب فاطرة خلفه....دخل غرفته وأضاء الشموع..حيث لم يعد هناك كهرباء او حياة تدب في جسد المدينة...اخرج الورقة من جيبه وأدناها من عينيه وقرا...كلمة واحدة بخط عريض احمر.. أنيقة وحاسمة"قرفنا"
هب كالملسوع واخذ يردد في هذيان مرير وينتف شعره" فعلوها...الاوغاد الملاعيين"

....

هوامش: ام كواكية:الفوضي الخلاقة بلغة اهلنا في دارفور
قرفنا :مجموعة من الشباب ناشطة سياسيا



الطاغية والحكيم


وقف الحكيم المصفد بالأغلال وردد في شجاعة :
- متى ترحل يا سيادة الحاكم ؟
استشاط السلطان غضباً ونظر إلى الحرس :
- خذوه واقتلوه .
رد الحكيم دون وجل :
- بعد قتلي .. هل سترحل يا سيادة الحاكم ؟
انفشا غضب الحاكم فجأة وبان عليه التفكير العميق ..
- دعوه .
- ماذا تريد أن تفعل به ؟
- سأعذبه عذاباً لم أعذبه أحد من قبل .
ردد رئيس الحرس :
- ماذا ستفعل به ؟
- سوف أضعه بين أناس يجهلون قدره .
… وقد كان






















الرجل الذي يرهب الجميع

كان منذ نعومة أظافره يتلذذ بتعذيب الحيوانات الصغيرة..إرضاءاً لجيناته السيكوباتية وعندما تقدم به العمر..تمني أن يعمل في جهاز الأمن في النظام المتغطرس الذي يحكم بلده لينكل بالبلاد والعباد ولكن بعد أن رأى التتار على الأبواب ..خاف أن يصلبوه عاريا كالحقيقة..التي لا يؤمن بها إطلاقا إمام الملا في الفضائيات..فاثر مهنة..تسبب الألم للكبار ويبكي الأطفال على عتبة بابه ..والأدهى في الأمر أنهم يدفعون له نقودا على إلحاقه الأذى والألم بهم بآلاته الرهيبة... لقد عمل طبيب أسنان



#عادل_الامين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آفاق المرأة والحركة النسوية بعد الثورات العربية
- الطريق الثالث ..!
- السودان بين رماة الحدق والغوغائية المطلقة
- شفرة ابن عربي
- زهور بابل ....رواية
- هكذا تكلم نيلسون ما نديلا
- اسرائيل ودولة جنوب السودان
- وعي البطة ووعي النسر
- في السودان..ذهبت السكرة ولم تاتي الفكرة!!
- هكذا تكلم د.عمر القراي :الدين ورجال الدين عبر السنين
- مقالات سودانية:صمتوا عن الفساد.. وطالبوا بقهر العباد!!
- خطاب الرئيس اوباما والنخب العربية
- الوعد الحق والفجر الكاذب
- سيرة مدينة:الشعب يريد اسقاط النظام
- لماذا كان د.جون قرنق وحدويا؟!
- موت الدولة المركزية
- انتخابات جنوب كردفان وافاق التغيير
- شاهدواالفكرة....وفناؤها
- مصر والسودان وافاق التنمية البشرية
- ثورات الفيس بوك....وكسل السودانيين


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - مجموعة قصصية :خيال مآتة برتبة جنرال