أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - وإنَّ منَ الشِّعرِ لَسِحْرَا















المزيد.....


وإنَّ منَ الشِّعرِ لَسِحْرَا


حكمت الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 3658 - 2012 / 3 / 5 - 17:42
المحور: الادب والفن
    


"وإنَّ منَ الشِّعرِ لَسِحْرَا.."
__________________
قراءة في شعريّة الاستيحاء السّحري كما في نظرية د. مبروك المناعي

مدخل:

صرّح كثير من الشّعراء والنقاد بوجود صلة نوعيّة بين الشّعر والسّحر، ولكنّ تصريحاتهم لم تتجاوز الحدس في الغالب إلى الدّرس والفحص النقديين، فظلّت هذه الصّلة محتفظة بطابع باهت المعالم تستوجب محاولة تجسيمه أن يذرع الباحث مجالات علوم عدّة منها علم اجتماع الأدب والأنتروبولوجيا الثقافيّة والّتاريخ الدّيني والتّحليل النّفسي وفلسفة اللّغة والبلاغة والإنشائيّة والسيميائيّة وعلم العلامات ونظريّة الأدب وغيرها. ويأتي كتاب د. مبروك المناعي الصادر عن دار الغرب الإسلامي ببيروت بعنوان "الشعر والسحر" كمحاولة جادة في هذا السبيل. إذ يحاول إلقاء شيء من الضّوء على مسألة هامّة بعيدة الغور ويعقد عنوانه صلةَ تعالق بين ظاهرتين كلتاهما حولها هالة من العجب وكثافة من ضباب دلالي.
إنّ العلاقة بين الشّعر والسّحر مسألة متشعّبة، كما يصرح بذلك المؤلف في صدر كتابه، ويقول إنّ عمله هذا هو سعي نظري إلى استكناه الظّاهرة الشّعريّة يجعل البحث في الصّلة المفترضّة بين الشعر والسحر غايته ضمن المجال الشّعري العربي، وإن كان يتوسّل برؤًى نقديّة معاصرة، وهو نظر موضوعي في ظاهرة ذاتية يستخدم خلاصات النّقد اللّساني ويستأنس بنتائج مباحث العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة. ويعرج الباحث في طريقه على النظريّة "الكلاسيكيّة والتي قسّمت تاريخ الاجتماع البشري إلى ثلاثة عصور: عصر السّحر وعصر الدّين وعصر العلم، وتصوّرت تلك النظرية أنّ هذه العصور حلقات حضاريّة كبرى تتعاقب تعاقبًا "تطوّريًّا" وينقض بعضها بعضًا. ولكنّ نتائج هذه النّظريّة فنّدتها في علم الاجتماع الحديث نظريّة ثانية قالت بتعايش هذه الظّواهر في جميع العصور وبتقاطع نفوذ كلّ منها بنسب تقوى وتضعف تبعًا لأحوال المجتمعات. وقد تبيّن في العصر الحديث أيضًا، انّ العلم ليس نقيضًا تامّا للسّحر، بل إنّهما يتماسّان ويتنافسان في الطّموح إلى اكتناه غوامض الكون والإنسان سعيًا إلى التحكّم فيها.
يضعنا مؤلف كتاب "الشعر والسحر" منذ البداية أمام ترسيمة نقدية تظل مهيمنة على جزء كبير من مخططه الدلالي. فيشير إلى أن في البحث النّظري والنقدي في الشّعر، حتّى في خضمّ ازدهار البحث اللّساني وبعده، مشادّةً واضحة وازدواجا - في التّصوّر وفي الخطاب معًا - بين نمطيْن من التّناول ومن التّفكير: نمط "وصلي" ونمط "فصلي": النّمط الوصلي يرى أنّ اللّفظ لا يحيل على شيء خارجه بل يتماهى بالشّيء تمامًا فيصير وإيّاه واحدًا ومن ثمّ يفقد طابعه الاعتباطي التّواضعي وتنتفي المسافة بينه وبين المرجع الذي يحيل عليه فإذا هو هو. أمّا النّمط الفصلي فيقول باعتباطيّة العلامة اللّغويّة وبطابعها التّواضعي وبكون التّمايز بيْن الكلمة ومرجعها أمرًا مفروغًا منه. ويلاحظ ناقدنا في هذا الصّدد أنّ هذيْن النّمطيْن من النّظر ليسا متعاقبيْن تاريخيّا أيضًا وإنّما هما متعايشان متشادّان: فبين التّفكير الوصلي المستند إلى تصوّر أسطوري سحري والتّفكير الفصلي الصّادر عن تصوّر لساني توجد حينئذ مشادّة، في النّظر إلى مكانة اللّغة في العمل الشّعري وإلى وظيفتها، هي مظهر من مظاهر مشادّة أوسع، مجالها الحضارة الحديثة، بدأت تزدهر منذ القرن السّابع عشر واقترنت بطلائع الحركة الرّومانسيّة في الفكر الغربي ثمّ العالمي، ولكنّها وُجدت منذ اليونان وكان ظهورها في الثقافة العربيّة وفي النّظر إلى الشّعر العربي منذ أواخر الجاهليّة وبدايات التّاريخ الإسلامـي. وينطلق اهتمام صاحب "الشعر والسحر" بهذا الأمر من افتراضين اثنين: افتراض تاريخي إجماله أنّ الشّعر ربّما كان متحدّرًا من السّحر نابعًا منه، وافتراض أنطولوجي مؤدّاه أنّ الصّلة بينهما قد تكون ماثلة في طبيعة العمليْن أصلاً وأنّ بين الظّاهرتيْن تقاطعًا مثيرًا قد يكون ما في الشّعر من "سحـر" وما في السّحر من "شعر". وقد قاده في الإقدام على هذا البحث كما يثبت ذلك في الصفحة 15 من الكتاب أنّ قراءة النّصوص الكبرى في الشّعر ونقده والنّصوص الكبرى في أنتروبولوجيا الفنّ تكاد تلغي الفواصل بين الظّاهرة الشّعريّة والظّاهرة السّحريّة وتجعل القارئ يدلف بسهولة من إحداهما إلى الأخرى : ذلك أنّ موادّ السّحر اللّفظي وإجراءاته قريبة جدًّا من موادّ الشّعر وإجراءاته، وأنّ الخطابيْن البلاغي والنّقدي قد استخدما موادّ السّحر وإجراءات السّاحر في الحديث عن موادّ الشّعر وإجراءات الشّـاعر.

العزم السّحري والعزم الشعري:

يقول المؤلف انه ليس المقصود بلفظ "العزم" في هذا المقام مجرّد الطموح إلى إحراز شيء أو إيجاده بعد عُدم أو إحضاره بعد غيبة أو صرفه عن وجه إلى وجه، وإنّما هو أكثر من ذلك: إنّه التعبئة النفسيّة الكبرى والتركيز الذهني الحادّ الصّادر عن إيمان لا يكاد يداخله شكّ في قدرة الذات على التحكّم في الأشياء والذوات والظواهر وإجبارها على الامتثال لأوامر صارمة تحرّكها رغبة عارمة في أن يكون الشيء ما نريد أن يكون أو في أن يدخل حيّز تأثيرنا ودائرة نفوذنا. على أنّ الأشياء والظواهر والذوات قابلة - في العقيدة السحريّة وفي التصوّر الشعري معًا - لأن تكون ما نريد أن تكون وأن تشبه ما نريد أن تشبه وتسلك ما نرغب في أن تسلكه من صنوف السلوك، شريطة أن تكون للإنسان معرفة دقيقة بالوسائل والإجراءات الكفيلة بحملها على ذلك : أي أنّ للعزم - في العمل السحري أو في العمل الشعري - "لغة" ينبغي أن يتكلّمها واحتياطات يجب أن يحتاط بها، كما أنّ له "سلاحًا" ترتهن به نجاعته هو، بالنسبة إلى الشّعر والسّحر اللفظي، كثافة العبارة لا غير. ذلك أنّه من خصائص أسلوب الفتنة الهادف إلى تغيير وضع مّا، ودائما مع مبروك المناعي، أن يعوّل على نجاعة الملفوظ: فعندما تكون غايتنا أن نفتن وأن نثير وأن نلقي بكلام قابل لأن يتحوّل إلى أحداث وأشياء، فإنّنا نفضّل في اللفظ كلّ المظاهر التي تمنحه حضورًا كثيفًا. وقد أضحى من شبه المسلّم به اليوم حسب المؤلف، أنّ الخطاب الشعري قد نشأ باعتباره أداة من أدوات العزم، وأنّ الشعر لم يكن في أصل نشأته في عصور البشريّة الأولى تعبيرًا عن الجمال المحض أو التماسًا لإحداثه، وإنّما كان تقنية يلجأ إليها الإنسان كي يسهّل حدوث شيء أو يمنع حدوثه وأنّه كان إلى تمثيل ذلك الشيء بالكلام. كما أنّ قواعد عمل الشعر ومحسّنات الخطاب الشعري - من وزن وقافية وتجنيس ومطابقة وإيقاع وتكرار وتشبيه واستعارة وكنايــة ومجاز - لم تكن تهدف في الأصل إلى التعجيب وإحداث الفنّ، وإنّما إلى الحثّ والتحضيض والإثارة والتعزيم والتحسين والتقبيح والتمويه والخلب... وأنّ عزم الفتنة هذا لا يزال عالقًا بالشعر ملتبسًا به التباسًا: فعندما يستخدم النصّ الشعري أساليب النّداء والحثّ والتحضيض والدعاء والطلب والأمر والنهي فهو إنما يتوسل اساليب السحرة. خذ مثلا قصيدة "أحمد الزّعتر" حيث يستخدم محمود درويش أسلوب العزائم مثلما استخدمه السحرة تمامًا تقريبًا، وذلك قوله:
سنذهبُ في الحصارِ حتّى نهاياتِ العواصمْ
فاذهب عميقًا في دمي
اذهبْ براعمْ
واذهبْ عميقًا في دمي
اذهبْ خواتمْ
واذهبْ عميقًا في دمي
اذهبْ سلالمْ
يا أحمدُ العربيُّ... قاومْ

وهذا كلام يضيف إلى التعزيم مقوّمات سحريّة أخرى حاسمة أهمّها التكرار والصّرف، بمعنى التغيير، الذي يجسّم تمامًا فكرة التحويل "كُنْ كذا..." وهي فكرة أصيلة في مبادئ السّحر وعمله.
ويلفتنا المؤلف الى ان الشاعر العراقي خزعل الماجدي عنده أدلّة كثيرة باهرة على استحواذ الشّعر على العزم السحري من بينها هذا المقطع الغزلي الذي منه قوله:
"للتي ضاعتْ وضيّعتُ إليها مبتغايَ
ضُمّني يَا وَعْلُ، واسكُبْ من غصوني
بَارِقًا فوق جبيني... وتَطرّزْ برياحينِ هوايَ
وَلْتَنَمْ ما بيْن كفّيْها وتسْعى
في الفِراش العطِرِ الأسودِ تطويها وبالجمرة تكويها
وبالسهدِ تهدّ النَومَ في أجفانها
يا وَعْلُ كلّمْني وقُدْني
يا غاقُ، ويا هُدهدُ، يا قَشْعَمُ، يا وَصْعُ تعالوْا
صَوْبَ أُنثايَ وحيُّوا بذَخًا ترفُلُ فيه...

ومثلما يستخدم النصّ الشعري أساليب الطلب بغية العرض والحثّ والأمر والنهي والنّداء والدّعاء، فهو يستخدم طاقات أخرى لها دور في تحقيق كثافة الكلام المجسّمة للعزم : من هذه الطّاقات طاقة الوزن والتقفية والتوقيع والتجنيس، وهي خاصيّة في الكلام السّحري وفي الكلام الشعري يتولّى بواسطتها السّاحر والشاعر مخاتلة الشيء أو الشخص أو الظاهرة التي يتعلّق بها عزمه وإلقاؤه عليها الإلقاء المناسب الذي لا ينفرها ولا يجفلها بل يجعلها تذعن فتستسلم فتنقاد إلى رغبتـه أو تزيل رهبته... ومن هذه الطاقات أيضًا طاقة المجاز والرّمز، وهي خاصيّة أخرى في الخطابيْن السحري والشعري تتكشّف عن محاولة لتجسيم العزم نفسه، وتتمثّل في ابتكار صيغ من التشبيهات والمجازات والاستعارات والكنايات وفي اتخاذها أقنعة ورموزًا صالحة لأن يُهتدى بها إلى الأسماء المناسبة والصفات الملائمة والصّيغ الناجعة الصالحة لاستجلاب ودّ. ونظرًا إلى أهميّة هذه الطاقات، طاقات التنغيم والتمثيل والتكرار، في العمليْن السّحري والشّعري وفي الخطابيْن السّحري والشعري فإنّ المؤلف يفرد لها فصولاً أطول في كتابه الشيق هذا ويحوصل لنا الكاتب نظرته الخاطفة تلك قائلا أنّ الشعر كالسحر تمثيل لرغبة وتلبية لعزم، وذلك انطلاقًا من عقيدة ضاربة في القدم قوامها إلغاء الحدود بين الفكرة وموضوعها وبين الكلمات والأشياء وحقيقة صورتها أن يصنع الإنسان رموزه ويلقيها على العالم لتنظيمه بصورة تحقّق رغبته أو تهدّئ من روعه.
هذا الصّراع المستمرّ بين منطق الفصل ومنطق الوصل، يلاحظ المؤلف، له انعكاسات خطيرة على دراسة الشّعر تمتدّ القصيدة بمقتضاها إلى مناخات خارج ملفوظها فتظلّ مضطرّة إلى خلق خطة تسمية متغيّرة في كلّ مرّة، كفيلة بمحاصرة دوالّها لمدلـولات معتمة و"أشباح معـان" متحرّكة "قائمة في الوهم" على حدّ قول أبي نواس. ويلتقي الشّعر بمبدأين أساسيين في السّحـر - أو نوعين منه - أولهما مبدأ "المشاكلة" أو سحر المحاكاة الذي يقضي بأنّ الأشباه تدعو نظائرها: ومنه عمل السّاحر على الوصول إلى نتيجة معيّنة عن طريق تقليدها كأن يثير المطر بعمل رمزي مصغّر يحاكيه فيه، أو يقيم صورة لشخص - يصنعها من جماد أو يمثّلها بحيوان - ثمّ يفعل بها، عن بُعد، فعلاً معيّنًا فيحدث، عن ذلك، للمسحور ما أراد ساحره. والمبدأ الثّاني من مبادئ السّحر أو النّوع الثّاني منه الذي برى له د. المناعي له مثيلاً ظاهرًا في الشّعر هو مبدأ "الأتّصال" أو "سحر العدوى"، وهو يتمثّل في أنّ الأشياء التي كانت بينها صلة، في وقت ما، يظلّ بعضها مؤثّرًا في بعض حتّى بعد أن تنبتّ تلك الصّلة وتنقطع. ومنه اعتقاد السّاحر أنّ ما يفعلــه بجزئيّة مادّيّة من خواصّ شخص معيّن يسري تأثيره إلى الشّخص الذي كان ذلك الشّيء متّصلاً به، معتمدًا في ذلك على مبدإ "الاتّصال" وعلى قدرة الجزء على تمثيل الكلّ : ومن هذا القبيل قيمة الاسم والظلّ والأسنان والرّيق وقُلامة الأظافر ومُشاقة الشّعر في السّحر إذ هي تمثّل الشّخص برمّته وتُعتبر امتدادًا له، وإدخالها في العمل السّحري ينجم عنه تأثير بواسطتها في الشّخص المسحور لا شكّ فيه لدى السّاحر. ويلاحظ المؤلف في هذا الشّأن أنّ الكلمة والحركة دعامتان أساسيّتان في هذين النّشاطين، ذلك أنّ السّحر ضربان "سحر الحركة" و"سحر الكلمة"، على أنّه يبدو لنا أنّ السّحر، عند العرب، ارتبط بالكلام أكثر ممّا ارتبط بالحركة، وظهر في الشّعر بهذا الاعتبار. ويلاحظ أنّ لسحر الكلمة أشكالاً رئيسيّة ثلاثة هي التّعزيم والدّعاء واللّعن، غير أنّ الباحث يودّ أن يؤكّد في هذا المقام أنّه لئن كان للفنون الصّوتيّة أو فنون القول عامّة - والشّعر رأسها - صلة بالسّحر فهي صلة بسحر الكلمة بالذات: ولعلّ أهمّ جامع بين الشّعر والسّحر في هذا الصّدد هو موقف كليْهما من "الكلمـة": فهي فيهما موضوع اعتقاد، وهي مفتاح ألغاز الكون وطلاسمه ومغلقاته، وهي أولى الأدوات التي واجه بها الإنسان الطّبيعة كي يعيش وأولى المظاهر التي عبّر بواسطتها عن وجوده فيـها. وقد بيّـن جان جاك روسّو أنّ الكلام، باعتباره أولى المؤسّسات الاجتماعية، مدين في تشكّله للعوامل الطّبيعيّة، وأنّ الدّوافع الأولى على انبثاقه كانت دوافع الرّغبة والرّهبة.
ويبدو لنا كما سنرى مع الكاتب، أنّ الظّاهرة ذاتها تقريبًا كامنة في تصوّر منزلة اللّغة ونفوذ العلامة اللّغوية في الشّعر، ماثلة في تعويل الشّاعر على طاقة الكلام وعلى قدرته هو على الاهتداء إلى المناسب منه لاستثارة أرواح الأشياء والظواهر المستترة. هذا التصوّر أثر من آثار الحضور السّحري، وهو تصوّر عريق في الحركة الشّعريّة العالميّة، ولكنّه استعاد حيويّةً أوضح في الحركة الرّومانسيّة حديثًا. فإذا أردنا التّمثيل عليه كفانا تذكّر قول أبي القاسم الشّابيّ :

إذا الشّعبُ يومًا أراد الحياةْ فلا بدَّ أن يستجيب القــدرْ
ولا بدّ للّيْل أنْ ينجلـــي ولا بُدَّ للقيْدِ أنْ ينكســـرْ
كذلك قالت لِيَ الكائنــاتُ وخاطبني روحُها المستَتِرْ

ومن المعلوم أنّ للتكرار أهميّة قصوى في عمل الشعر مطلقًا فهو من أبرز مقوّماته الفنيّة والمعنويّة ويتجلى في وظيفتين إحداهما وظيفة تأكيد وإلحاح كما في شعر الغزل خاصّة، ولا سيما ما كان منه ناجمًا عن الخيبة في الحبّ وعن التشبّث اليائس بالمرأة.
أمّا الوظيفة الثانية للتكرار فهي وظيفة التعزيم أو الرّقية اللفظيّة، وهي وظيفة يضطلع التكرار الشعري في نطاقها بإثارة الأشياء والأشخاص والظواهر بغية حملها على الانصياع للعزم الذاتي المعلّق على الشّعر. ومن بؤرة تحكّم هذا المنزع السّحري المتأصّل يتولّد خطاب الرّمز والإشارة المعبّر عن زعم امتلاك الدّراية الذي يصوغه الشّعر صوغ اقتناع لا يكاد يخالطه الارتياب. يقول أدونيس:
"لا تطلبِ الغبطةَ في الحُـبّ
لكنْ لا تطلبْها في البُغْــضْ
اطلبْها في رَذاذٍ لا ينقطــع
من غيمة تسبـــــــحُ
في فضاءِ رغبةٍ لا اسمَ لها..."


أدعية عشتار:

لقد ارتأى الشاعر الفرنسي مالاّرميه أنّ آثار السّحر والتّعازيم القديمة لا تنفكّ عالقة بالشّعر مهما تجدّد، وأنّ السّحر يأبى أن يختفي من الشّعر أبدًا. أمّا أكبر ممثّل - في اعتقاد د. مبروك المناعي - لما نودّ تسميته "شعريّة الاستيحاء السّحري" في الشّعر العربي الحديث فهو الشاعر العراقي خزعل الماجدي، وهو في تصوّرنا وتصور المؤلف ظاهرة تستحقّ وقفة مطوّلة وعناية خاصّة فيما يتّصل بعلاقة الشّعر بالسّحر : لقد أدرك خزعل الماجدي، فيما هو يعتني نظريّا بسحر بابل وبالتّراث السّحري العراقي وسحر الشّرق القديم، أهمّ مظاهر الاتّصال اللّطيف الواهي بين الشّعر والسّحر، وتفطّن إلى الغنم العظيم الذي يستطيع أن يغنمه الشّاعر الحديث من كنوز التّراث السّحري وساعدته مؤهّلاته الخاصّة على أن يفيد من ذلك أيّما إفادة في مختلف أعماله الشّعريّة وخصوصًا في "يقظة دلمون" وفي "أناشيد إسرافيل". يقول في "يقظة دلمون"، من "كتاب السّيمياء" مستخدمًا طقس "الدّعاء" السّحري/ الشعري :
"وأنا أدعوكَ...
تقدَّمْ في شجرِ الأرضِ
وفي الأنهارِ المَهجورةِ
وخِفَّ إلى غاباتٍ صفراءَ وحقلٍ من زهرِ الآس
تعالَ..
فمَنْ يرعى أوجاعي في اللّيل ؟"

ويستخدم، في قصيدته "دعاء عشتار"، الأسلوب ذاته ولكن بصورة أكثر صراحة أي أكثر كشفًا للوصل بين الشّعر والتّعاويذ القديمة المستعملة في أنشطة السّحر اللّفظـي :
"مسّاكِ الخيرُ
يا نجمةَ العِشاءْ
يا حمراءَ كالقطيفهْ
أسألكِ أنْ ترجمي محبوبي
بثلاثِ تفاحاتْ
بثلاث جمراتْ
فوق لسانهِ كيْ لا ينطقَ إلاّ باسمي
وعلى عينيْهِ كي لا ينظر إلى غيري
وعلى أذنيْه كي لا يسمع إلاّ كلامي..."

إنّ ذات الشّاعر النصيّة تتكشّف عن ساحر يتلو عُوذته على عنصر من عناصر الكون العلويّة ويتخشّع لديْه مُنوِّهًا بنفوذه الخارق، ويستعديه على الحبيب كي يستمليه له ويأسر قلبه ويجعل حبّه مقصورًا عليه وحده...
وهو في غير هذه القصيدة يستنفر التّعزيم بصورة أشمل ويستخدم أسلوب السّاحر القديم في تسليط الطلاسم على الظّواهر والأشياء لِصرْفها عن وضع إلى وضع ويوظّف طاقة النّداء الّساحرة :

"يا أغصاني، ويا شجَرتي الفرْع
ويا نبتتي الصّافية، ويا طلاسمي
اتّحدي في العرَاء لأجْلي...
ومرّي على الآس والشجرِ الفاتن الغضِّ
صيري هباءً أو اتّحدي في أعالي الجسدْ..

عجيب أمر الشّاعر خزعل الماجدي، والكلام لمبروك المناعي، وطريف جدّا النّحو الذي نحاه فجدّد به عهود السّحر الدّارسة في هذا الزّمن "العلمي" وأعاد به إلى الشّعر طلاوته في هذا العصر "الآلي"... فهو يكتب القصيدة "الرّقية" ويتحوّل الشّعر على يديْه إلى ممارسة سحريّة في محتواها وغاياتها وإجراءاتها... بما يستعيد به النصّ الشّعري كثافته ونجاعته ويستردّ به الكلام سلطانه على الكائنات والخطاب الشّعري هويّته السّحريّة... وهو بهذا يعيد إلى شعر الغزل بالخصوص روح الطلب الجنسي الصّافي، ويصوغ أماني العاشق الأعزل يخطب ودّ المحبوب باستدرار ودّ العناصر ويستميل قوى الكون لترويض قوّة الكائن :
"سَخَّرتُ إليكَ الأفلاكْ
تقودكَ من مخدعكَ وتثني فوق قَوامكَ سُحُبَ البَرِّ
وتمسحُ ميسمَها في شفتيْكَ
ورَشقتُ لكَ التّيجان
وسُقتُ الرّيحانَ
ليسجدَ بيْن يديكْ
هيّجتُ لك الأحجارَ ونجمَ اللّيل وطينَ الجسدِ..
ولعلّ التّعزيمات تقودكَ نحو فِراشي..."

وفي قصيدة عنوانها "رُقية لجلب المحبوب "يستسلم خزعل الماجدي لإغراء التّماهي بين الشّاعر والسّاحر استسلامًا لا مزيد عليه، وتسهل مهمّة الباحث في شعره عن مظاهر الاتّصال بين الشّعر والسّحر سهولة لا سهولة بعدها إذ يسفر هدف التّعزيم وتبدو إجراءاته واضحة، ويشفّ النصّ عنها شفافية تامّة، ويستعيد الكلام الشعري شكله السّاحر ومهامّه السّحريّة :
"بحقّ نجمةِ المسَا
بحقِّ ما خلّفهُ الوردُ على الشِّفاهِ
والنّورُ على العيونْ...
بحقِّ ثديَيْكِ يحطّان على عُشْبٍ فيهتزُّ
يصبَّان إلى نبْع فيرتجّ به الماءْ
نقيًّا..تنطقُ الأسماءْ..
أقيمي في شبابي قمرًا
يفتِكُ بالظّلماءْ..
واستلقي على سحابي
واملُكي الأشياءْ"...

وفي بعض قصائده يسفر طقس التّعزيم بما هو استنفار للأرواح الشرّيرة وتلتبس موادّ الشّعر بموادّ السّحر التباسًا :
"يَا ندَى الحُمَّى
ويا ماءَ الحميمْ
اخرجي من جسدِ العاشقِ والْتفي
على خِنْصَرِهِ المخضوبِ بالدمعِ الكريمْ
اخرُجي يا نارُ منْ أعوادِهِ
قومي.. وعُودي للجَحِيمْ...

هذه الصلة المتينة بين الشّعر والسّحر، كما اتّضحت لنا في نصوص خزعل الماجدي السّابقة، تبدو في الظّاهر مدبَّرة وتوهم بأنّها معمود إليها متحكّم فيها. غير أنّ هذا الظنّ يبدّده ما هو معروف من الاهتمام البالغ الذي أبداه هذا الشاعر بالسّحر القديم وبأساطيـر الخلق ومن انفعاله بمدوّنة التّراث السّحري وانطلاقه من ذلك لارتياد آفاق شعريّة جديدة. فالأمر يمثّل عنده مشروع رؤيا في غاية الجدّ، يدلّ على ذلك النّجاح الفنّي الباهر الّذي حقّقته أشعاره والذي نسجّله له دون أدنى تحفظ. غير أنّ مظاهر الاتّصال والتّواشج التي تستوقف الباحث مبروك المناعي في شعر خزعل الماجدي وفي شعر غيره، بشكل خاصّ ومختلف، هي تلك الغامضة المشبّحة الواقعة في الضّباب، لأنّها هي التي تحدّد خصوصيّة السّحر الشّعري باعتباره محاولة لامتلاك أسرار الحقائق وأسماء الأشياء والعناصر والظّواهر، فهي تظلّ أَبدًا هشّة، حاملة لوهنها، يتهدّدها النّقص والضّعف والإخفاق. هذا هو السّبب كما يرى الباحث إلى أنّ الشّعر الحديث سحر ضالّ أو سحر خائب جاءته الخيبة من أنّه ابتعد عن أصوله السّحريّة فأصاب نجاعتَه الوهن ولغتَه التشيّؤ. بل إنّ الشّاعر الحديث يبدو قد فقد "اللّغة" المناسبة التي كان سلفه يمتلكها، أو يبدو أكثر تواضعًا منه وأقلّ زعمًا لامتلاك القدرة على "سحر" الظّواهر والكائنات، ويبدو كالوارث لمملكة اتّسعت أرجاؤها فداخله شعور بقصور إمكاناته عن السّيطرة عليها وإخضاعها لسلطانه الإخضاع التّامّ. ولعلّ المشترك الأكبر والمؤلّف الأزلي بين السحر والشعر وبين الساحر والشاعر هو التعويل على "الكلمة" في تحقيق "الصبوة" أو عزم الكلمات على إنجاز الصّبوات. ويستشهد د.مبروك المناعي مختتما بحثه الممتاز عن الشعر والسحر بهذا المقتبس الشعري من الشاعر العراقي خزعل الماجدي:

عندما تلدغُ شمسُ الفجرِ ظهرَ البحر
تنداحُ ميامي البشر الفانين
في الوديان والنّهرِ
وتبقى الكلمهْ
أوّلَ الأشياءِ في الأرضِ
وتبقى الصّبواتْ
أوّلَ الأفعال في العمرِ
وتبقى حيث أنتَ
شاغلاً...منشغلاً بالنّطفِ الأولى وبالشِّعْرِ
وتبقى حيث أنتَ
وارثا روحَ الذين ارتفعوا فوق الأوان.
___________________________________
* ولد مبروك المناعي في ولاية سليانة بالجمهورية التونسية عام 1954. دكتوراه دولة في الآداب عام 1994 صدر له: المفضليات بحث في الشعر القديم دار اليمامة 1991. المتنبي قلق الشعر ونشيد الدهر اليمامة 1992. "الشعر والمال : بحث في آليّات الإبداع الشعري عند العرب" دار الغرب الإسلامي - بيروت. 1998.
* ينشر هذا المقال بالتعاون مع مجلة القنديل التونسية الاسبوعية.



#حكمت_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيشتري بها ساعة يدوية: 50 ألف جنيه إسترليني لجوليان بارنز عن ...
- قُلْ لا حتى ولو كنتَ على نَعَم
- نادرة محمود في حوار مع حكمت الحاج حول الفن التَّقليليّ وذكري ...
- كفانا حُبَّاً.. كفى وصايةً
- من الثورة إلى المؤامرة: خريفنا وربيعهم
- تراتيل لآلامها رواية جديدة للكاتبة التونسية رشيدة الشارني عن ...
- * فاتح عبد السلام يَفتحُ -عينَ لندن- على مُدُنِ الشرق البعيد ...
- عندما زلَّ اللسان بالزميلة وَجْد وَقْفي فنطقتْ بالحقيقة المر ...
- المشهد الشعري العراقي بمختارات (الزمان) أفقٌ واسعٌ وطيفٌ بأل ...
- كلنا تونس أمّ الثورات
- الناقد السينمائي صلاح هاشم: لهذه الأسباب لن أحضر أيام قرطاج ...
- السبعيناتُ مَا قَبْلَها وَتَلاها: رؤيةٌ في التَّحْقيبِ العَش ...
- بعد فوزه بالكومار الذهبي للرواية الشاعر التونسي عبد الجبار ا ...
- السينما العربية من ضياع الحلم الى استعادته
- شامة على خد المشموم جديد الفنانة زهرة الأجنف لكل عشاق التراث
- قليل من الرغبة في رواية عن الحب والموت والوطن
- العقل المختل - كتاب جديد عن نقد الذات العربية وحروبها
- كتاب الايجنغ الصيني iChing لأول مرة بالعربية حوار مع المترجم ...
- في كتاب الاستخارة
- حوار مع جليلة بكار


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - وإنَّ منَ الشِّعرِ لَسِحْرَا