أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - مدام حرب















المزيد.....



مدام حرب


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3622 - 2012 / 1 / 29 - 22:53
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الروايات (10)

د. أفنان القاسم

مدام حرب
رواية فلسفية


الطبعة الأولى المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت1980
الطبعة الفرنسية تحت عنوان نابليونة دار لارماطان باريس2003


إلى جان – بول سارتر



الحب من شغل العاطفة الشاغل لا الإرادة.
كانط

الإنسان هو ما يفعل.
سارتر

إذا كانت هناك قصة للكون - وبالطبع هناك قصة - فهي مجموعة من الارتجالات الفوضوية أو الاحتمالية، دون مشروع... أو ذاكرة.
كونت - سبونفيل



1
أعطى الشتاء يومًا آخر باردًا، سقط العالم في عبث الأشياء، ورست مراكب الغيم في بحيرة السماء. بدت الأرصفة غريبة، والناس كلٌّ يلامس طريقه. كانوا مبطئين، رغم أنهم ذاهبون إلى أعمالهم. وكانوا تعبين، رغم أنها بداية الصباح.
* * *
تراءى من أقصى الطريق رجل طويل القامة، يرتدي معطفًا أسود طويلاً، بيدٍ مظلة سوداء طويلة، كان يقبض على المظلة بقوة قاطعًا بها الطريق، فكأنها إحدى ساقيه، وبيدٍ محفظة سوداء كبيرة. وكان، وهو ينقل ساقيه الواسعتين في الهواء، يبدو مغروسًا في حذائه الأبيض، وقد بانت على وجهه حزوزُ أرقٍ عميقة، أضفت على سماته الجادة هيئة من الكآبة. كان يغذ السير دون أن يتوقف لحظة واحدة حتى غاب مع المنعطف.
* * *
في أسفل الطريق، كانت فتاة تسير، وهي تشرئب بقامتها القصيرة إلى أعلى، للتعويض عن شائبة قَوامها. بدت لها هي الأخرى هيئة جادة، جسيمة، بعينيها السوداوين وشعرها الأسود وثوبها الأزرق ومحفظتها السوداء الصغيرة. ومن آن لآن، كانت تلقي نظرة على مراكب الغيم، وتتمنى لو ترسو مثلها. دخلت إحدى دكاكين البقالة من أجل مكالمة. عندما طلبت الرقم، وأتاها صوت امرأة، قالت:
- آلو! مدام حرب؟
- مدام حرب نائمة، من تتكلم؟
- كريمة.
ارتفع صوت المرأة محتدًا:
- ها أنت تعودين إلى إزعاجنا! ألا يمكنك الانتظار حتى المساء؟ تعرفين جيدًا أن مدام حرب تنام كل صباح على الساعة الرابعة.
- أعرف.
- أنا مضطرة إذن لقطع المكالمة.
سارعت كريمة إلى القول:
- اسمعي لي، من فضلك...
لكن صوتها ضاع في الفراغ، والهاتف يقفل في وجهها. وضعت السماعة، وأرسلت زفرة محبطة. دفعت ثمن المكالمة لصاحب الدكان، وخرجت.
* * *
كان طويل القامة في طريقه إلى المدرسة، وهو يفكر: لِمَ الذهاب إلى المدرسة في هذا الصباح البارد؟ تردد قليلاً، وفترت سرعته. أحس بلسعة البرد تسري في بدنه، فشدَّ من حول رقبته ياقة معطفه، وقال لنفسه: البرد أمر مكروه إلى نفسي! ودَّ لو تسطع الشمس، فنظر إلى السماء، وصدمه تزايد الغيوم. قال لنفسه، وقد خمدت همته: لن تسطع الشمس أبدًا! وعاد يفكر في المدرسة: وإذا ما لم أذهب إليها اليوم، ماذا سيجري؟ المدير صديقي، وسيغمض عينيه عن تغيبي. وعلى أي حال، ليست دروسي ذات أهمية. سيفرح الأولاد، فيعودون إلى بيوتهم ليلوذوا بالدفء. عاد يسير بخطوات عازمة، وهو يقول: سيأتي يوم أشد برودة، وسأنفذ عندئذ عن طيب خاطر ما أردت اليوم تنفيذه. بدت المدرسة من بعيد، والأولاد يغذون الخطى للإفلات من البرد، وهبات الريح تلسع كالسياط الشفافة لاهبة خدودهم، محيلة إياها والجمر إلى أديم واحد. بدا له أن بعضهم ينظر إليه مقطبًا، وبعضهم الآخر لم يلتفت إليه متجاهلاً. همس: إنهم يكرهونني! وقبل أن يصل إلى البوابة، قفل راجعًا، وهو يشعر بالغبطة والتسلية معًا. كان يظن أنه قد تحرر من طريقةٍ في الحياة، وأنه قد مارس حرية اختياره، تاركا أناه البعيدة الغور تتصرف، وكان يشعر كما لو أنه ولد منذ برهة.
* * *
- آلو! لا تقطعي المكالمة من فضلك! أريد مدام حرب فقط لدقيقة واحدة!
انقطعت المكالمة، فجن جنون كريمة، وكادت تحطم الهاتف، لولا أنها رأت صاحب الدكان يسترق النظر إليها. وضعت السماعة بهدوء، وفي الوقت نفسه، تقدم صاحب الدكان منها. عسل صوته قائلاً:
- لا بد أن الآنسة في مأزق، وهي تحتاج حتمًا إلى مساعدة.
تابعت الاهتزاز العصبي لوجنتيه المترهلتين، وقالت لنفسها: كان يتلصص عليّ هذا الثعلب! همّت بصفعه، لكنها ابتسمت له شاكرة، وخرجت.
سارت شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وهي في بلبلة نفسية رهيبة، القلق وعدم الفهم ملء عينيها. سارت، وسارت، وسارت، وتأوهت، وتأوهت، وتاهت. كان كل من يلتقيها يقول عنها تتسكع برصانة، لها جِبْلَة وادعة، بينما قلبها كالبحر يمور، وتكاد تصرخ من شدة الألم.
* * *
اقترب طويل القامة من إحدى المقاهي، وهو يبحث من بعيد عن طاولة وكرسي في زاوية هادئة. تخيل نفسه جالسًا من وراء تلك الطاولة الوردية المنفردة، والتي تعزلها صفوف أخرى من الطاولات البيضاء. ظن أنه سيجد الهدوء من وراء تلك الطاولة الوردية بالذات، وعلى ذلك الكرسي الأصفر. حتى أنه قبل أن يجلس، شعر بالارتياح. جلس، ولم يتحقق حدسه: كانت الطاولة أعلى بقليل ممّا تصور، والكرسي أكثر غورًا. وكان ظهر الكرسي بعيدًا عن الحائط، والكرسي راسخًا في الأرض، لا يمكن زحزحته. كان عليه أن يُبقي رأسه على استقامة، ويديه متدليتين. نظر من حوله، فرأى أنه يرى ما يراه دون أن يبالي بذلك. حاول بكل ما أوتي من قوة زحزحة الكرسي، ولكنه فشل. أخذ يحلم برأسه، وهي ترتكز على الحائط، دون أن ينال من الراحة ما صبا إليه، وظلت تلك الرغبة ظَمِئة.
أتاه النادل، كان عجوزًا أسود، شدت انتباهه تقاطيع وجهه البراقة، وما تضفي عليه ملابسه البيضاء من أناقة. سأل بأدب جم:
- ماذا يريد سيدي أن يشرب؟
تابع عصمت حركة الشفة الضخمة، فحسبها جناح طائر يضرب في الجو دون صوت. أعاد النادل بأدب جم دومًا:
- ماذا يريد سيدي أن يشرب؟
تدفقت القهوة بنقائها الأسود مثل نهر يجرف كل شيء، فقال:
- واحد قهوة.
كان يريد شيئًا آخر، لكن النادل ابتعد قبل أن يبدل ما طلب. اختفى في حجرة إلى جانب المشرب، وما لبث أن عاد بفنجان قهوة كبير، وخيط دخان ينسحب منه.
* * *
- آلو! أتوسل إليك، لا تقطعي المكالمة!
ومن الناحية الأخرى للخط، زعق الصوت النسائي مزعزعًا الهاتف:
- تبًّا لك، أيّتها الحمقاء!
- من فضلك، يا سيدتي!
- ماذا تريدين من مدام حرب، أيّتها الحمقاء؟
ترددت، وهي تلتفت حواليها، ثم همست بصوتٍ راجٍ:
- الحقيقة...
- ماذا؟
- أريد أن أراها.
زعق الصوت ثانية:
- أحقًّا تطمعين برؤيتها الآن بعد أن أصغيت إليك! قلت لك مدام حرب نائمة. تكلمي، أيّتها الحمقاء، وإلا أضعت عليك فرصة ثمينة! وعلى أيِّ حال أنت تعرفين أن مدام حرب إن لم تكن نائمة فهي مشغولة!
- أعرف، ولكن... (وهي تظن أن أحدًا يراقبها) لا مجال هنا لقول ما أريد قوله بحرية، ليس هنا.
- ما تريدين قوله بحرية؟
- أريد أن أراها لبعض الوقت، بضع دقائق معدودة.
هبَّ الصوت يزعق بأقصى حدة:
- ليس عند مدام حرب وقت تضيعه معك، أيّتها الحمقاء! فلتذهبي إلى الشيطان!
انقطعت المكالمة بعنف أشد هذه المرة، ندّت عن كريمة تأوهة مُرَّة، وعادت إلى الطريق مَرَّة أخرى. أخذت تسير، وتسير، وتسير. وعندما تعبت، أخرجت من حقيبتها مرآة مشروخة، واختلست النظر إلى وجهها. رأت في عينيها آفاقًا تلفها الغيوم، وعلى جبينها آثار ملح ووحل، وقد تناثر شعرها مثل ليل مظلم على الحقول. لم تقوَ على السير أكثر، فاتجهت إلى مقعد تحت ساق ضخمة. كان المقعد رطبًا، فأحست بالماء ينفذ إلى بدنها، ولكنها أحبت برودة الماء تلك. نظرت إلى قدم المقعد، فرأت حفرة امتلأت بالماء المعكر، طفت على سطحها وريقات صفراء. اقشعرت لقلقها، وشعرت، لأول مرة في حياتها، بتركها وحيدة في العالم، مثل تلك الوريقات التي كانت تهتز. أرادت جمعها قرب بعضها، ودفعها بطرف قدمها، فأخذت الوريقات تدور متلاصقة ببعضها. بعث فيها ذلك بعض الارتياح، وقالت لنفسها: لن تشعر بالوحدة في تلك الأنسة الخلوية وهي الآن معًا! عادت تتطلع إلى نفسها، فألفت نفسها تجلس على مقعد رطب، لا أحد إلى جانبها، ولا إرادة لها في مواجهة العدم، عاجزة عن اتخاذ قرار! نظرت إلى أقصى الطريق، كانت هناك مقاعد أخرى فارغة، وأوراق أخرى جافة. تأملت أغصان الأشجار، فإذا بها كلها تشكو بلا أثواب. كانت بين فينة وأخرى تعود إلى نفسها، فترى نفسها مثل تلك الأشجار العارية التي انتشرت هنا وهناك، وتلك الأغصان الرمادية الرافعة أياديها إلى السماء، وتلك المقاعد الرطبة التي صُفت على الطريق. كادت تجهش باكية لولا أنها رأت عصفورًا بريًا يعبر من فوق الأشجار، ويقف على إحداها قليلاً قبل أن يمزق عزاءها، ويتم العبور. قالت لنفسها: يمكن أن يكون تائهًا، أو أعمى، ضلَّ الطريق! وهي تضبط دمعة، فهي ستحتاج إليها في أيام آتية، لأن فصل العواصف لم يزل.
سمعت خطوات آتية من بعيد، فأدركتها بعض الهواجس، لأن تلك الطريق معروفة بعزلتها. كادت تعتقد أنها هواجس بعثتها كوامن في نفسها قلقة، أو أنها تحلم بخطوات غريب تاه عن دربه إليها. راحت أصوات الخطوات تتضح كلما اقتربت، فأرادت غلق عينيها، سدَّ أذنيها، ألا تحس بصوت. فعلت كل العكس، كلما اقتربت الخطوات أصغت أكثر، وحملقت أكثر، وركزت انتباهها على كل صوت أكثر.
مضت لحظات، فإذا بها تراه آتيًا في معطفه الأسود الطويل، ومظلته السوداء الطويلة بيده، وقد اكتسى حذاؤه الأبيض بحلة من طين. كان يسير ببطء شديد، ولا ينظر إلى شيء. شدّت ظهرها على المقعد، ومالت بأفقها بعيدًا عن أفقه، وعند ذلك التفت إليها، إلى ذلك الشيء الذي لا يتحرك، فوق ذلك المقعد الرطب، القائم في زاوية منعزلة. اقترب منها كالكائن الآلي، وتوقف من أمامها. نظر إلى شعرها المتناثر، وتابع الخصلات التائهة على ظهر المقعد. اكتشف أن المقعد كان مكسورًا، فتمني في تلك اللحظة لو أنه كان ذلك المقعد المكسور، وفي الوقت ذاته تلك الحفرة الممتلئة بماء المطر، وتلك القدم الصغيرة الغارقة في الوحل، وذلك الثوب الأزرق. أحسَّ بانشداده العميق إلى تلك الشمعة المنطفئة في غور عينيها الليليتين، وعلى تلك الشفة، إلى ذلك المركب الثمل الذي لا يعرف الطريق إلى الميناء. أخذته الرغبات المتناقضة، أن يموت وألا يموت، أن يعيش وألا يعيش، أن يرغب وألا يرغب. فكر في كل ذلك دفعة واحدة قبل أن يقول لها:
- أسعدت صباحًا، يا سيدتي!
ترددت، ولكنها رأت أن لا شيء يمنعها من أن ترد عليه التحية:
- أسعدت صباحًا، يا سيدي!
ارتعش مع ارتعاش شفتيها، فرحل طائر الشتاء من جزيرة الحلم البعيد، وأتى ليعشش على زاوية شفتها السفلى. كانت شفتها اللحيمة تذكّرُ بثمرة ناضجة تتدلى من أعلى غصن أضناه الشوق إلى عناق المستحيل. بدا الثغر شهيًّا، تربض عليه نحلة، وغدا النحلة، ومن قبل كان الطائر، فابتسم، وقال:
- لأول مرة أقدم نفسي لشخص لا أعرفه، عصمت، هذا هو اسمي، ربما اعتبرتني مجنونًا.
انحنى، ومدَّ يده إليها. أخذ بشيء من القلق يراقب الموجة التي تدفع يدها إلى يده، ومضت لحظات حسب أنها ستدوم إلى أبد الدهر، وأن راحتها لن تقطع تلك المسافة القصيرة التي تفصلها عن راحته. بدت المسافة بينهما شاسعة، وبدأت تتسلل إلى نفسه الخيبة، لكنها حطمت كل ما يفصلها عنه في اللحظة التي قررت فيها نقل أصابعها، وطويها في راحته:
- كريمة، هذا هو اسمي.
بدا لها أنها تسرعت بعض الشئ، فسألت بجفاف:
- أي خدمة أقدمها إليك، يا سيدي؟
لم يسعد عصمت ذلك، فلم يجبها في الحين.
- أرجو أن تسمح لي بالبقاء وحيدة.
سقطت آخر ورقة عن الشجرة القريبة، فأحسّت بنفسها عارية في عينيه. تراجع خطوة، وقال معتذرًا:
- أنا آسف لإزعاجك، يا سيدتي، كنت متطفلاً، فاعذريني!
ومضى.
كادت تصرخ به: انتظر! لولا أن الضيق قد أدركها في اللحظة الأخيرة. أرادت أن تقول له: عُدْ أيُّها الرجل، أنت من كنتُ بانتظاره! أنَّبت نفسها على صمتها: لقد كان لطيفًا، ماذا أريد أكثر؟ دوَّى في أعماقها صوت: تريدين رجلاً فظًا، وحشيّ الطباع! غادرت مكانها فجأة، وهي ساخطة، فأرعبت الأشجار، وأخذت الغيوم تعدو. ولِجَوْرِ نفسها على نفسها رأت نفسها تتحول إلى لبؤة صغيرة جبانة أصابها في أعماقها ندم يفطر لها الفؤاد، فقد كان لطيفًا، ولكنه مضى، فلتسعَ إليها الوحوش الضارية!


2
تقلب عصمت في سريره، وقال لنفسه: يا له من فراش وثير!
غرق في بحر من الزغب الناعم، والزغب الناعم يجذبه في طياته. تحسس دربًا فيه، وكان ذلك يسليه. نظر إلى المدفأة الكهربائية، فأثارت النار فيه نوعًا من الذنب. غالبًا ما كان يتخيل فوقها جسدًا يشوى. أحس بالحرارة تجتاحه لدرجة لم يعد فيها يطيق الغطاء. رماه على الأرض: الأرض بحاجة إليه! رأى في ذلك تعبيرًا عن ((إنسانيته)). رغب في أن يلامس بأصابعه الأرض، وأن يتابع في بدنها سيل الحرارة. كاد يقوم إليها، لكنه تراجع، وهو يفكر في أنه سيبرد دون مقابل. ما كان يهم أولاً وقبل كل شيء ((أناه ))، الأنا الإنسانية بكل تناقضاتها. تأمل عروق النار كيف تصطلي كالجحيم في شدقين متقدين، وهمس: يكفي شدق واحد. وفي اللحظة ذاتها بدأ العرق يتلألأ على جبينه، فمدَّ يده إلى زر كهربائي على الجانب، وأطفأ الشدق الأعلى تاركًا فقط الشدق الأدنى يبصق النار. نقل نظره إلى الحائط المقابل، كان في ذلك الحائط باب، وإلى جانب الباب صورة. تأمل الصورة، كان في الصورة قط، يجثم قرب مدفأة. سخر من نفسه، فقد بدا القط معجبًا بما تبثه المدفأة من حرارة، وبدا والهًا بالنار، وكأنه يشتهيها كطبق من اللحم. كان القط يوهم بالتعبد في محراب، مما أضاق عصمت، فبحث عن تبرير: ولكنه قطٌّ ! وأضاف بنبرة ساخرة: ولكنه قطٌّ! ولكنه قطٌّ! قهقه، وقال في تحدٍ: أنا لست قطًّا! ثم خاطب النار: أنا لن أعبدك! أطفأ الشدق الثاني، وقضى على اللهب تمامًا.
تابع عقرب ساعة الحائط الزاحفة نحو التاسعة بكسل، وباغتته فكرة: أن يخرج من السرير، أن يترك عالم الأشياء هذا، أن يذهب تحت المطر. سيتحدى القط هكذا، ويثبت له أنه موضوعٌ وُهِبَ العقل، مهما كانت هذه الذاتية متقلبة، سيقيم له الدليل على أنه لن يكون حيوانًا أبدًا ولا على صورة حيوان! لكنه تردد: سيلفحني الهواء، وأسقطُ في الغد طريح الفراش. عندما تذكر أن الأطباء موجودون في المدينة على الرغم من قلتهم، غادر سريره، ارتدى ثيابه، واتجه إلى المغسلة. بلّل وجهه، وبعد أن خرج، تبين أنه نسي مظلته. هَمّ بالعودة لأخذها، لكنه تخيّل نفسه للحظة، وهو يسير برأسه العاري تحت المطر: سأشرب ماء السماء، وسأغتسل بالماء الصافي. ومع ذلك، عاد يصعد الدرج، وتناول المظلة. أزاح الستارة، فرأى العتمة تغدو شديدة، والمطر يسقط مع الليل في حضن المدينة.
نزل عصمت الدرج بخفة، وبحث قرب الباب الزجاجي الضخم عن البواب الشيخ الذي لم يكن يفارق أبدًا مقعده. كان ينتظر منه أن يحييه تحيته المعتادة، لكن البواب لم يكن هناك. أصابه القلق في البداية، ثم قال لنفسه: لا بد أنه ينام. وكان فعلاً ينام في حجرته، وقربه موقد صغير من الفحم. هزَّه عصمت موقظًا، فأفاق قافزًا. ألقى عليه التحية، وعاد في الحال يغرق في نومه. عند ذلك، كان عصمت على استعداد ليقضي تحت المطر ما يلزم من الوقت مطمئن النفس.
كان المطر يتساقط الهوينا، وعصمت يمشي الهوينا. نظر إلى المظلة بيده، فوجد أنها لم تزل مطوية. تبين أنه لم يستعملها، وتمنى ألا يحتاج إليها. كان يريد الذهاب إلى نهاية فكرته، أن يكبر تحت المطر. راح يضحك من نفسه، لأنه كان يتحدى قطّاً! تعالت ضحكته، وأطلق صيحة: أنا أتحدى قطّاً! وفي اللحظة نفسها، مرَّ به أحدهم، وهو يرميه بنظرة ساخرة، وعند ذلك، أحس بنفسه صغيرًا، لا شأن له. خفَّ يجري من وراء الرجل، وعلى مسافة بضع خطوات منه، صاح من جديد: أنا أتحدى قطّاً كبيرًا، وما أنت سوى قط صغير، صغير جدّاً! فلم يأبه الرجل به. أخذ عصمت يلوّح بمظلته متوعدّاً، ولكن الرجل لم يكلف نفسه عناء الالتفات. همس بألم: يا لي من مجنون! وتساءل: ما دخلي بشؤون الآخرين؟ عاودته نظرة الرجل الساخرة، وقال لنفسه بدهشة: ولكن ما دخل الآخرين بي؟ أفعل ما أريد أو لا أفعل، وفي كلتا الحالتين أنا المسؤول. أنا صاحب القرار فيمن أريد أن أكون. نظر إلى حيث اتجه الرجل، فرآه يختفي تحت مصباح باهت الضوء. اقترب من المصباح لينظر إلى ساعته المقلوبة على معصمه، فلم يرَ الوقت في تلك الحلكة إلا بصعوبة. لم يكن يهتم بالوقت أبدًا، وساعته المقلوبة على معصمه تشير إلى التاسعة مساءً، وفي الوقت ذاته إلى الثالثة صباحًا. مرَّ ببعض الدكاكين التي لم تزل بعد مفتوحة، ومن ورائه لا تترك الأضواء الباهتة رؤية شيء. همَّ أن يقطع الطريق إلى الرصيف الآخر عندما سمع صوتًا يناديه:
- سيدي!
التفت، وبعد جهد جهيد، استطاع أن يميز وجهًا بائسًا لصبي صغير.
- أستحلفك بالله، يا سيدي، ألا تصدَّ فقيرًا لم يذق طعامًا
ولا شرابًا منذ أيام وأيام! أنا يتيم، سرقتني الحرب والديّ، وليس لي من أحد في هذه الدنيا يعينني على شراء رغيف، وأنا، كما ترى، لم أزل صغيرًا. وأنت، أرى على وجهك أنك ذو قلب طيب. أنا واثق من أن نفسك الكريمة ستقدم لي قليلاً من المال، فليس هناك أسخى من رجل يأتلق وجهه طيبة حتى في قلب الدجى.
أراد عصمت أن يهب به صائحًا: كاذب! وليس هذا فقط، بل ومنافق! تحاول أن تصطاد الناس بفصاحة اللسان التي علموك إياها، ولم تشتد عودك بعدُ، فكيف لما تزداد بك الأيام؟ اغرب عن وجهي وإلا مسحت بك الأرض، أيُّها النصاب! لكنه لم يفه من كل هذا شيئًا. والصبي يداوم على الاستجداء:
- الرحمة، يا سيدي!
وندت عنه آهة ألم:
- أنا أتلوى من الجوع، الرحمة، يا سيدي!
منع عصمت ضحكة جزل أراد أن يطلقها، وأبدى هيئة كاذبة بقدر كلام الصبي الكاذب. جمع في يده كل ما في جيبه من قطع نقدية، ومدها إلى الشحاذ الذي سقط على يده، وهو يبتسم. وفي اللحظة الأخيرة، جذب عصمت يده، فعاد الصغير إلى الشكوى أكثر مما سبق، ورأى عصمت دمعة تسيل على خده، فتساءل: أيكون كل هذا تمثيلاً حقًا؟ فتح كف الصبي، ووضع فيها كل ما في يده من قطع نقدية. عندما حصل الصغير على بغيته، سارع إلى الاختباء في لحاف الليل، وصاح بأعلى صوته:
- أبله!
وكان الصدى يعيد:
- أبله! أبله!
انطلق عصمت يقهقه: هذا ما يعود عليك من فعل مجاني! تابع طريقه راضيًا حتى قنطرة فوق النهر. راح يتأمل اللجة كيف تغرز في جسد الليل مبضعها الألمع، وبين آن وآن كيف تنشقّ مثل ثوب أخفى في طياته نهدًا بضًّا. اغترف من تلك الفضة، ومن ذلك الجرح الأسود، وخرير الماء يدغدغه هازًّا كل عضلة من عضلات جسده، وكل نسمة من أنسام روحه. هبط إلى الرصيف ليذوب في أضواء أعمدته الباهتة الضائعة في امتداده البعيد. فجأة، شم رائحة الموت. تخيل الأعمدة جثثًا معلقة، وفكر: ماذا لو كنت عمودًا؟ رغب، مثلها، في أن يبذل ذلك الضوء الباهت المائل إلى الاصفرار، وأن يطلق، بدوره، رائحة الموت. حاول أن يأخذ شكلَ عمودٍ، غدا جسده صلبًا، امتدت ذراعاه نحو السماء، وانحنى رأسه قليلاً إلى الأمام. تساءل: من أين آتي بنفس الضوء الباهت؟ جعله سؤاله يبتسم، واتسعت ابتسامته كاشفة عن أسنانه: تسلل ضوء باهت من بين شفتيه! لا بأس في ذلك، أنا واثق من الآن فصاعدًا أن بإمكاني التبدل إلى عمودٍ في يوم من الأيام، عمود قائم على ضفة النهر، محرر من غموض الشرط الإنساني وعبث الوجود، لأن قوة الخلق تعود بما لا يقبل الجدل إلى ما ليس معقولاً! اختار أن يكون عمودًا متنقلاً، فسار قليلاً، وهو يترك أثرًا هنا، وأثرًا هناك. أراد أن يبعثر على ضفة النهر الكثير من طبع قدميه. راح يدندن لحنًا، والتفت من جديد، فوقع على خيال قائم لرجل يرتدي معطفًا أسود، وحذاء أبيض، وبيده مظلة سوداء. كانت الأضواء في جوف النهر تشبه بقايا أشرعة ممزقة، عشق ذلك لأنها بلا مراكب. أراد متابعتها، وهي تضرب صفحة الموج قبل أن تغرق بالتدريج. تعمقت تلك الرغبة لديه بالشرعية والمعنى اللذين أعطتهما له، فاتجه نحو الضفة. اقترب أكثر ما يكون من النهر، والنهر يعبر هادئًا، صامتًا، فقال له: أحبك! آه، يا أخي! متمنيًا لو أن النهر حقًّا أخوه، فليس له أخوة بين الناس. أراد أن يصافح النهر، فأحس بيد ماردة تعصر يده، وبالماء يسيل من بين أصابعه. أراد أن يكلم النهر، تردد: يا لي من مجنون! ولم تمطر السماء بَعْدُ بعنف وقوة كما كان يتمنى، فرفع رأسه إليها دون أن يقع عليها. وجد نفسه، وهو يتابع مجرى النهر، تحت قنطرة تمر فوقها طريق.
* * *
- آلو! مدام حرب!
ومن الطرف الآخر للخط، سمعت كريمة صرخات فاحشة وصخب الموسيقى والضحك:
- من تتكلم!
- كريمة.
- من؟
- كريمة. أريد أن أتكلم مع مدام حرب!
- ماذا؟
- أريد أن أتكلم مع مدام حرب!
رنَّت في أذنها الضحكات الفاحشة والفظيعة دون أن تكف عن الرجاء:
- يجب أن أكلمها، من فضلك!
وعلى حين غرَّة، انقطع الخط.
وضعت السماعة بأسى، وأطلقت زفرة عميقة. توجهت إلى حيث نقدت ثمن المكالمة، وهي تفكر: لماذا لا تكون المكالمات مجانًا؟ كانت تتمنى أن تصبح مجانًا، طالما أن مدام حرب لا تعبأ بها. ندَّت عنها ضحكة. والدموع في عينيها، اقترب أحدهم منها، فبحثت عن مكان شديد الظلمة، قليل الحركة، لتبكي بحرية. أحست بالتعب، ورأت العودة إلى المنزل، كانت الفتاة الوحيدة التي في الطريق. أكّدت ضرورة العودة إلى المنزل، والنوم لتزيل عناء يوم كامل. كانت حتمًا ستنام أول ما ترمي بجسدها في السرير. تذكرت أنها لم ترتب فراشها، وأن الآنية في المجلى منذ أيام بانتظارها: سأكسر الآنية، وأنام في فراش غير مرتب! عزمت على الذهاب إلى رؤية مدام حرب في الحال، وما لبثت أن بدلت رأيها، وهي تقول: سترفض مدام حرب استقبالي. نظرت إلى نفسها في إحدى الواجهات التي كانت بالكاد ضاوية، لم تكن أنيقة، ومظهرها يوحي بالبؤس. همست: ستطردني مدام حرب حتمًا! بدأت تدور في رأسها لازمة مدوّخة: اذهبي! لا تذهبي! ستطردك! لن تطردك! بائسة! غير بائسة! اذهبي! لا تذهبي! ستطردك! لن تطردك! بل ستسحقك مثل ذبابة! نعم، مثل ذبابة! مثل ذبابة! ستسحقك مدام حرب مثل ذبابة!
طنَّت في أذنها ذبابة، ارتفع الطنين، وراح يعلو، حادًّا، مبرّحًا، فسدّت أذنيها بكل قواها، وعادت اللازمة: ما أنت إلا ذبابة! ما أنت إلا ذبابة! إلى أن انتهت بإطلاق صيحة:
- أنا كريمة، الكريمة!
بدأ المطر يهطل بقوة، فسارت، وهي تغسل قلقها بماء المطر، وسارت إلى أن وصلت القنطرة. وعلى مسافة بضع أمتار تحتها، دخل عصمت النهر، وراح يوغل فيه، فصاحت:
- النجدة! الحقوا الرجل!
هبطت السلم إلى الرصيف بسرعة، لم يكن أحد آخر غيرها هناك، لا أحد، لا عابر واحد هناك. طرقت مسامع عصمت دقات كعبها القادمة إليه، وأحس بدقات النهر مثل دقات قلب كبير، فاندفع يعبر إلى قلبه، وقد أخذها الجنون:
- النجدة! غريق!
أثلج وقع الكلمة صدره، وتمنى لو يغرق بالفعل، فاستمر يوغل في العبور، والمياه تغمره أكثر فأكثر.
صاحت به هذه المرة:
- توقف أيها المجنون! ماذا تفعل؟
توقف، نظر إليها مبتسمًا ابتسامة صغيرة، وقال:
- كما ترين، أريد الغرق!
حاولت أن تقنعه بالعدول عن ذلك:
- منذ متى كان الغرق أمنية؟ هيا اصعد، فلا يكن بك مسٌّ!
ومع ذلك استمر عصمت يتقدم، وصاح:
- أريد الغرق!
حملقت مفكرة، وسألت بنبرة أقل قوة:
- أيكون الغرق مرادًا؟
قالت لنفسها: لا فرق بين الغرق في النهر والغرق في بحر الحياة، وكلاهما كارثة!
فأبدت:
- إذا كان الغرقُ مرادًا، فالموتُ مرادٌ أيضًا، وكلاهما سوء.
أكد:
- إرادة الغرق هي بالأحرى البحث عن أن تكون حرًّا! وما أن نصل إلى الحرية لا أهمية للموت أو الحياة.
- تهوى الموت إذن؟
- لا، وإنما الغرق.
- وما الفرق بين الغرق في الماء والغرق في الحياة؟
ردَّ عليها والماء يغمره حتى عنقه:
- حرية الاختيار. ثم الغرق في الماء حقيقي، حاسم، ومخلّص. إنه سعادة النفوس الضائعة. وفوق هذا، هو لا يسبب أي ألم.
كانت تتألم لأجله:
- إني لأرفق بك أيها المسكين!
و... تحفزت:
- قل لي...
بدأ الموج يغمره من حين إلى حين.
- ماذا؟
- أتألم أنا، أغرق في فوضى الحياة. كيف الغرق حقّاً، لأشاركك بعضًا من سعادتك، وأخفف عني بعضًا من عذابي؟
وقبل أن يجذبه الموج في لجينه وضوئه صاح:
- فقط ألقي بنفسك في الماء.
وهي مجتاحة بالكآبة العميقة، فكرت في كفران مدام حرب، وأمرّت يدها على بطنها حيث كان طفلها ينام بأمن وسلام.
هتفت وعيناها مفعمتان بالحقد:
- إلى الجحيم كل قوادات الأرض!
خلعت حذاءها، وصاحت:
- تحيا الحرية.
قذفت بنفسها في النهر، وأخذت تخبط صفحة الماء بعنف، وتصيح مستغيثة. هزَّت عصمت صيحاتها، وشدَّته استغاثاتها. رأى يديها مستسلمتين في الفضاء دون شروط، فأخذ يزاحم النهر معاكسًا مجراه، حتى وصل إليها. حملها بين ذراعيه، وراح ينجو بها من الأمواج، وعلى الضفة أنزلها، وجعلها تبصق ما ابتلعته من ماء النهر حتى هدأت.
أبعد عن عينيها خصلاتها المبتلة، وأقرّ:
- ما زلت جديدة العهد، يا صغيرتي، فالغرق في الماء يحتاج إلى تدريب وممارسة، تمامًا كالموت المحرر، أم أنك معتوهة؟
- من المعتوه فينا؟
- كلانا.
- ها أنت تقبل ذلك.
- أردت أن يستحيل دمي إلى جداول، وعظامي إلى أمواج، أردت أن أغدو نهرًا، وأن أرى حياتي تجري في صوب واحد، ولو أنه متعرج، ولكنها تقدر على إدراك البحر. بدأتُ بتحولي منذ عدة لحظات، فإذا بك تنبثقين من قلب الليل دون توقع صائحة: (( النجدة! الحقوا الرجل! )) ولم تكوني تعلمين أنك تبعدينني عن جوهر وجودي ذاته.
كانت تسمع له طوال الوقت، وهي تعصر ثيابها، وترمي بشعرها المبتل على ظهرها.
- نعم، إنه ذنبي!
ولم تقل له: أنا مركب على غير هدى يبحر منذ أجيال بحثًا عن منارة!
أعادت بحزن:
- نعم، إنه ذنبي!
وعلى مدى ثانية واحدة، أضاءت وجه عصمت سيارة مضت بسرعة، فشهقت دهشة عندما عرفته: هناك في بعض الأقدار صُدَفٌ تفرض نفسها كما لو كانت خيارات! كان الرجل ذاته! ذاك الذي قدم إليها نفسه في الصباح دون سابق معرفة، والذي كان كيّسًا ولطيفًا! عندما سأل عمَّا بها، كتمت ذلك، وقالت لنفسها: ربما كان لقاءً معدًّا سلفًا! أسعدها أن تجده مرة أخرى، قرب النهر، في الليل، ولا أحد من حولها. بدا لها أن كل شيء كان يجرى بشكل طارئ فعلاً.
سألها:
- فيم تفكرين؟
- في لا شيء.
صعدت السلم، وهي لم تزل تعصر ثيابها، فصاح من ورائها:
- ها أنت ذاهبة إذن!
- وماذا تريدني أن أفعل؟
رمت كلماتها وهي تتمنى أن يتبعها.
- وإذا طلبتُ منك أمرًا.
- طلبتَ مني...
- أمرًا واحدًا.
- أمرًا واحدًا؟
- نعم، أمرًا واحدًا قبل أن نفترق.
توقفت، وسألت، وفي صوتها نوع سابق من التعلق والرقة:
- ماذا؟
- أن ألقاكِ غدًا على الساعة الثالثة في وضح النهار قرب هذه القنطرة.
وتركها قبل أن تعطيه ردَّها. كان يخاف رفضها. تركها هكذا، كما يجري في المسرح، ويتم تحديد الموعد بأمر الواقع. تابعته بعينيها حتى آخر مصباح يمكنها أن تراه. كان الموعد قد تحدد. وفجأة، وَهّجَ البرق الدنيا، وزمجر الرعد، وسقطت أطنان المطر. ذهبت كريمة من نفس الطريق التي ذهب عصمت منها، وبعد أن سارت طويلاً، اقتربت من منزل يقع في أقصى المدينة. رأت الأضواء الهاربة، وهي تنسحق على ثِخَنِ الظلال، وتجرفها الأمطار الغزيرة. طرقت الباب، وهي تفكر في الشخصيات التي ستكون في الداخل، الشخصيات الهامة: طغاةٌ في السموكنغ، دكتاتوريون يبادلون مدةَ سهرةٍ فيما بينهم جورهم العنيف بجور آخر من المداعبات الرقيقة! فتحوا لها الباب، وأدخلوها في دغل متفسخ انتشى بالموسيقى والصخب. سألت عن مدام حرب، وألحت:
- أريد أن أراها.
انطلقت ضحكات مبتذلة مغطيةً عجاج المطر.


3
صاح الأولاد:
- أشرقت الشمس!
قذفوا الكرة، وركضوا، وصاحوا من جديد: أشرقت الشمس! كانوا ينتثرون كاللؤلؤ في ملعب الشعاع، والشمس يتبارون عليها.
جسَّ عصمت ذقنه، فخدشته كالأشواك. ورغم الضيق الذي سببه له ذلك، فإن ملمس الأشواك قد أعجبه. كان يرتدي بذلة رمادية، دون كي، منذ عام تقريبًا لم تذق طعم المكوى! بذلة رمادية بلا قوام، وذقن مشوكة، ونفس تتوق إلى التقيؤ، وبداية صداع! نظر إلى قرص الشمس المبحر في بحيرة السماء: ما هذا سوى وهم! لن يقاوم القرص الشتاء! هذه الشمس ما هي سوى خدعة، قطعة من جليد ملتهبة! تابع المياه التي كانت تسيل من الأرصفة إلى القنوات. تذكر لماذا لم يشأ أن يحلق ذقنه في الصباح. كان الصباح باردًا: أكره حلاقة ذقني في الصباحات الباردة. وهذه الشمس، ماذا تصنع بالأجساد؟ إنها تجمدها. دخل مقهى، نظر حواليه، وتطلع إلى الرواد. رأى في ركن بعيد فتيين، أشقر وأسمر. كانا يتحدثان بصوت مرتفع. كانا يتكلمان عن ملابس الصيف، كل الزبائن كانوا يتكلمون عن ملابس الصيف، وخاصة قمصانه ذات الأكمام النصفية. تخيل الفتى الأشقر فتاة شقراء تنثر شعرها على وجه الفتى الأسمر، فابتسم، ثم قطب، وفكّر في كريمة. كان يظن أنها تحبه، وكان يحس أنه وقع في غرامها! أخذ الفتى الأسمر شكل طائر أسود عنيف المظهر، انطلق في الليالي المظلمة، وغطى وجه القمر بالغيوم، فقط لأنه كان عاشقًا. جلس عصمت وسط أولئك الزبائن المهتمين بالموضة والمنفتحين على العالم، وانطوى على نفسه. همس: أنا لا حبيب لي! كان واثقًا من الفشل معها، مع كريمة. كان قد أحب مرات عديدة، ولم تقاسمه الحب فتاة واحدة، لهذا سيفشل هذه المرة أيضًا معها. تخيل نفسه عاشقًا، كان ذلك يساعد على إشغاله. طلب قهوة، وكالمرة السابقة أراد شيئًا آخر. لم يكن النادل أسود، ومع ذلك طلب قهوة. لمس ذقنه الخشنة، وأحسَّ ببدلته تضغط عليه مثل شرنقة. نظر إلى حذائه الأبيض، فكان، ويا للصدفة يلمع من شدة البياض. تمنى لو يكون عاشقًا بالفعل، لا أن تكون له هيئة العاشق، كان يريد أن يحس بنفسه إحساس العاشق. لكن العشاق ما كانوا هكذا، ما كانت لهم ذقن مشوكة، وبدلة مكسرة، ونفس مكتئبة، رغم الحذاء الملتمع. نهض دون أن يشرب قهوته، ودون أن يدفع ثمنها، وغادر المكان.
كانت الشمس تبحر بكل زهوها في بحيرة السماء، وعصمت ينظر إلى المياه السائلة في القنوات بعد أن غسلت الأرض. بدت الأرصفة نظيفة: الحسنة الوحيدة للشتاء أنه يغسل الأرصفة القديمة! سار بقدم رشيقة، كان حذاؤه يلمع، والرصيف يلمع، وذقنه مشوكة. عزم على أن يحلقها في الحال، فاتجه صوب أول حلاق، وهو يلاحظ أن كل الذين مروا به حليقو الذقون. اعتبرهم جراذين حليقة، ولحيته حقل شوك، وهو لن يدعوهم إلى الاختباء فيه. اشتد عزمه على أن يصبح جرذونًا حليقًا مثلهم، ودلف إلى دكان الحلاق.
خرج أملس الخد، وبعد أن تحسس خده، أخذ نفسًا عميقًا. تطلع إلى المارة، وهو يتحسس خده الناعم ليجد الرجال منهم كلهم مشوكي الذقون، وكأنه أطلق لهم الحرية. أقرّ: لقد خدعت! ضحك، وهو يفكر أنه الجرذون الحليق الوحيد! نظر إلى ساعته المقلوبة دائمًا على معصمه، كانت تناصف العاشرة: تلاميذي في الشمس منذ أكثر من ساعة، وهو يضحك ملء فيه. تخيلهم مغادرين مقاعدهم داعين له بطول الغياب! عمته الراحة؛ لأنهم لم يعودوا يكرهونه في الوقت الحاضر. مرَّ ببعض الصبية الذين يلعبون الكرة في عرض الطريق: تلاميذي الآن يلعبون الكرة هم أيضًا، مثلهم تمامًا في عرض الطريق. تدحرجت الكرة نحوه، ولمست قدمه. همَّ بإطلاقها، ولكن أحد الأولاد سبقه إليها، وكاد يسقطه على الأرض، فضحك الأولاد ملء أشداقهم. ابتسم عصمت، وعاد إلى السير، وهو يضحك من نفسه: لا أجيد حتى إطلاق كرة! عاد الأولاد ورموه بها، فأصابت رأسه. التفت حانقًا، فلم يقع على أحد منهم. تقدم من الكرة، وتناولها، وتابع طريقه. بعد عدة خطوات، سمع همسات الصبية من ورائه، ووقع أقدامهم: يتساءلون كيف يمكنهم استعادة الكرة، لن أعطيهم إياها، وسأعلمهم كيف يحترمون العابرين! مال برأسه ميلاً خفيفًا، وتطلع إليهم بطرف عينه: كانوا يتباحثون عن المسألة فيما بينهم قبل أن يجمعوا على أمر. أخذ عصمت يضحك اغتباطًا وإشفاقًا، واستعاد ذكرى جعلته يستشيط غضبًا. كان يحب اللعب بالكرة كثيرًا، ومع ذلك لم يمارس اللعب بها سوى مرة واحدة. كان أبوه قد منعه من التكلم مع أولاد الحارة، فكيف اللعب بالكرة معهم، وخاصة في عرض الطريق! تذكر تلك المرة التي عصى فيها أمر أبيه، ولعب مع أولاد الحارة، رغم أنه كان أقلهم براعة. علم أبوه بالأمر، فكانت النتيجة أن ضربه بالسوط، وأسال دمه. ومنذ ذلك الحين، لم يلمس عصمت الكرة إطلاقًا.
التفت إلى الأولاد، ورآهم ينظرون إليه بهيئة متوسلة، فأشفق عليهم، حتى أن دمعة كادت تسقط من عينيه. ابتسم لهم، وبكل هدوء رمى الكرة إليهم، فجروا، وكل واحد منهم يحاول أن يكون أول من يمسك بها، وأول من يتحمل مسؤولية قذفها. صاحوا شاكرين، والناس يمرون بعصمت، وشعر لحاهم كلهم يقفُّ كالأشواك. تساءل كيف انقلب الناس إلى قنافذ دفعة واحدة. أراد أن يقول لهم: أنت، يا سيدي، قنفذ كبير، وأنت، يا سيدي، قنفذ صغير، وأنتِ، يا سيدتي، قنفذة، وأنتِ، يا آنستي، ابنة قنفذة! أحس بنفسه فريدًا وأرفع منزلة. لم يكن من العادة موفقًا في الاختيار مثلما لم يكن موفقًا في كل قراراته، بينما هنا أصاب دون إرادة منه. نظر إلى الواجهات الزجاجية ليرى صورته، وابتسم راضيًا. لكنه، وهو يبتعد قليلاً قليلاً، كانت صورته في الزجاج تكبر قليلاً قليلاً إلى أن تغدو هيولى. اصطدم الناس به دون أن يعتذروا، ودفعوه دون أن يبدو في عيونهم أي لون من التعاطف. دخل مقهى أخرى، وجلس، دون أن يتوصل إلى كبح جماح أنفاسه. عندما أتاه النادل، كان قد فقد عادة فعل شيء يريده قبل أن يبدل رأيه، فطلب كأس ماء، شربه، دفع ثمنه، وخرج، والنادل ينظر إليه دون أن يصدق عينيه.
أشارت ساعته المقلوبة على معصمه إلى الحادية عشرة، وقال لنفسه: بقيت ساعات أربع على موعدي مع كريمة! لم يعد الزمن يبدو له رتيبًا إلى تلك الدرجة، لكن قلقه لم يتوقف لحظة واحدة. ستأتي؟ لن تأتي؟ سار طويلاً، سار، وسار، وسار، وجاع، فأخرج بعض الأوراق النقدية من جيبه، كل ما تبقى له من مرتبه، ولم يزل الشهر في أوله. كان يكره الاستدانة، فقرر ألا يتناول في اليوم أكثر من وجبة واحدة من أجل الصمود حتى آخر الشهر مع ما تبقى من مرتبه. اشتد به الجوع أكثر فأكثر، وشاهد شحاذًا عجوزًا يمد يده من أجل قطعة نقدية. التفت إلى حاله: كلانا سواء، الفرق الوحيد بيننا أن له الجرأة على الاستجداء. ودفعة واحدة، حقد على أبيه وأمه وعمه النائب وخاله الحاكم وعلى كل الأغنياء دون أن يعرف كيف ينتقم منهم. وعندما مرت به إحدى السيارات اللوكس القلائل في المدينة، رغب في قذفها بحجر، وحتى هذا لم يستطع تنفيذه. أطلق آهة عميقة. ستأتي؟ لن تأتي؟ هل ستأتي كريمة! ومن جديد، أطلق آهة عميقة. ما كان يمكنه لفظ اسم كريمة إلا ويتأوه، وكأنه يلفظه منذ سبعة وعشرين عامًا، منذ سبعة وعشرين ربيعًا، مضت كطيور الشتاء المهاجرة. ردد بسخرية: منذ سبعة وعشرين ربيعًا أو بالأحرى منذ سبعة وعشرين خريفًا! كان الخريف قد علَّمه كيف يحب الأشجار العارية، وكيف يتجرد مثلها. راعه ذلك: سبعة وعشرين خريفًا! آه! إنني شاب ذاهب إلى القبر! وكم يقسو الخريف عليّ! أحبك، عزيزي الخريف، حبًّا قويًّا، وكأنني أنت، وأنت أنا، وكأن لنا قلبًا واحدًا! هل كريمة تحب الخريف؟ كان يهمه الجواب كثيرًا، كانت صورتها التي يحتفظ بها بعد محاولتها الغرق تملأ عليه روحه. كانت تريد أن تتعلم الغرق، أن تموت في الماء! نعم، طبعًا، كريمة تحب الخريف! كانت تناجي الشجر العاري، وهي جالسة على ذلك المقعد الوحيد. وبالمقابل، لم يلاحظ عراء سيماء وجهها رغم شفافيتها، ذلك الجمال النقي الذي تتعلق العين به، ربما لأنها لم تكن جائعة إلى الموت بما يكفي من نهم. سيكون الخريف قاسيًا: سيداوم على نشر الموت طيلة شهور، حتى في قلب الربيع، حتى ما بعد الشتاء. في كل مرة يحس بنفسه توأمًا للخريف، كان يتخيل الأوراق تتساقط على كل حسده. أما الرياح، فكانت تصرخ في قلبه بصمت، وتعضه، دون أن يحس بالألم. كان يترك دمه يغدو نهرًا تعوم فيه صغار العصافير التي تلعب، وتغدو أزواجًا دونه.
دارت سيارة عند المفترق، ولوثته بالوحل من أخمص القدم إلى قمة الرأس. كيف سيقابل من انتظر موعدها منذ الصباح الباكر بهذه الحال؟ عزم على العودة إلى البيت ليغير ملابسه. وهو يعود أدراجه، اعترضه صوت لم يكن عنه غريبًا:
- ما هذا الذي تغطس فيه؟
التفت عصمت ليرى عادل، الصحفي الكبير والصديق القديم، خارجًا من سيارة صغيرة وقفت قربه، فسلَّم عليه بحرارة، وقال:
- كما ترى، فالفصل شتاء!
- أين كنت مختبئًا كل هذه المدة؟
- وأنت؟
- بحثت عنك في كل مكان. آه لو تدري... أريد أن أراك. لماذا لا تأتي عندي؟
أطلق عادل ضحكة قبل أن يضيف:
- أنت لا تعلم، لقد وقعت في الشرك، تزوجت، وسأصبح عمَّا قريب أبًا.
شدّ عصمت على كتفه مهنئًا:
- أنت جدير بأن تصبح أبًا، وأحسبك من أسعد الأزواج!
- لكن امرأتي تلزمني بكل شيء، حتى السعادة، فهي من اختصاصي! أنا لا أشكو من شيء، ولكنني أقول لك أن تتزوج ماذا يعنى ذلك!
- لقد كنتَ دومًا هكذا، أنت، أيُّها الصحفي الكبير، لا تشكو من شيء أبدًا.
أكَّد عادل بهزة راضية من رأسه:
- وسأبقى هكذا مثلما كنت دومًا وإلى الأبد!
تابع بشيء من الاهتمام:
- أتوق إلى الاجتماع بك، هناك أمور كثيرة هامة، أريد الحديث عنها معك، ربما كانت من الأهمية إليك أكثر مما هي إليّ.
ودون أن يفهم عصمت ما يرمي إليه صديقه، قال:
- أنا تحت أمرك في أي وقت تشاء، أنت تعرف عنواني.
- ظننت أنك بدلت مسكنك.
- لا، لم أبدله.
- هذا المساء، ما رأيك؟ يمكنني المجيء على الساعة التاسعة.
- اتفقنا.
ابتسم عادل، وهو يتأهب لوداعه:
- آه! يا صديقي، تلك الليالي الجميلة بصحبتك كم أنتظرها!
- وزوجتك، أيُّها الأب القادم؟
- كل هذا معًا، يا صديقي، كل هذا معًا!
اقترح على عصمت المغطى بالوحل إيصاله إلى البيت، لكنه رفض. ركب عادل سيارته، وصاح قبل أن يذهب:
- إلى هذا المساء!
- إلى هذا المساء!
نظر عصمت إليه، وهو يبتعد بسيارته حتى اختفى. أنا أمشي على قدمي، ولعادل، له، هو، سيارة! تساءل كيف حصل عليها؟ كان يعرف يد عادل المنبسطة كالسماء، وفوق هذا، اليوم، هو متزوج. أما نبرته، فكانت تدل على أنه واثق تمامًا من نفسه، وعلى الخصوص من كل ما يريد: (( كل هذا معًا، يا صديقي، كل هذا معًا! )) بِشَرَهٍ لا يخفيه. لم يكن يشكو، عادل، لأنه كان يصل دوما إلى ما يبتغي. كان يمكنه تحقيق أحلامه الصغيرة، وكان عصمت كله فُضول ليعرف ما هي تلك المسائل الكثيرة الهامة التي يريد الحديث عنها والتي (( ربما كانت من الأهمية إليه أكثر مما هي إلى عادل )). تلك المسائل، تلك الأحلام الكبيرة، كانت تتطلب من الطَموح عادل الكثير من السلطة. (( كل هذا معًا، يا صديقي، كل هذا معًا! )) عندما تعرف عليه، كان ذا حزبين، حزب نساء وحزب سياسة، وفي تلك الأيام كان عادل عازبًا.
* * *
هبط الضباب على القباب، وكسا الظهور القرميدية. كان يمتزج بالدخان المتصاعد من المداخن، ويبتلع قرص الشمس الخائف. قال عصمت لنفسه، وهو يفكر في الشمس التي ((أشرقت)) في قلب الشتاء: كنت أعرف أن هذه الشمس ما هي سوى خدعة كبيرة! اقترب من درابزين القنطرة، ونظر إلى النهر المترقرق بخريره المكروب، والضباب يرتفع على صفحته المنطفئة. ومن جديد رفع رأسه إلى الشمس التي تغرق رويدًا رويدًا في بحيرة السماء القاتمة، وارتعش لموت الشمس البطيء. كان يقف في الضباب، على قنطرة، والنهر يترقرق بانعكاساته المحزنة، كالدموع السائبة على خد بريء. رفع يده، وكشف عن ساعته المقلوبة على معصمه. كانت تتقدم الثالثة بثلاث دقائق. همس: ثلاثة وثلاثة! عاودته صورة العقرب الكبير مستبقًا العقرب الصغير، وأعاد: ثلاثة وثلاثة. تخيل نفسه مع كريمة، وكلاهما يرتجف في الضباب. كره الضباب، لم يعد يرى لا بداية القنطرة ولا نهايتها. لعن الضباب، ونظر إلى ساعته المقلوبة على معصمه مرة ثانية: كان العقرب الكبير يقف على خمسة. ثلاثة وخمسة! ولم تصل كريمة بعد. أراد أن ينادي: كريمة! لم تكن دومًا هناك. نظر إلى ساعته المقلوبة على معصمه مرة أخرى. الثالثة وست دقائق. ست دقائق ما بعد الثالثة: ثلاثة وستة. بينما كان العقرب الصغير يقف، كان العقرب الكبير يتقدم. التفت عصمت إلى الشمس التي لم تعد أكثر من قرص أسود. ومن جديد، فحص طرفي القنطرة. لم ير أحدًا، لم يرَ ظلاً لأحد. استشار من جديد ساعته المقلوبة على معصمه، تأمل أن يكون عطب فيها، ونَكِرَ أن ساعته لم تؤخر أو تقدم أبدا ثانية واحدة منذ سنوات. أحس العطب في جسده، فضغط قلبه، وعنقه، وأعلنت الساعة المقلوبة على معصمه الثالثة وعشر دقائق. فَهِمَ ما يجول في نفس العاشق فريسة القلق من خواطر، ولم يكن يريد أن يفوّت موعده. عاد يفحص طريق الآلام، وحاول أن يثقب بعينيه الضباب من أمامه. ثم بدأ يحرك يده في الضباب، كما لو كان يضرب الضباب، وهتف: أيُّها اللعين يا ضباب! لا بد أن الضباب أفقدها الطريق، ومع هذا، كانت تعرف جيدًا هذه القنطرة. هنا بكت الليلة الماضية، ومنها صاحت: الحقوا الرجل! وأرادت أن تنقذ غريقًا. اجتاحه القلق من جديد، وبدأ يدور في نفسه، ويدور، وبدأ يدور حول نفسه، ويدور: هذه هي نفسي، وأنا أدور فيها تارة، وتارة حولها. غطته دوامة، ولم يعد يرى شيئًا، وهو يدور، ويدور، ويدور. تخيل أنه صار فراشة تحوم بجناحيها الضعيفين. عصفت الدوامة به، وأصابه العمى. ود لو يعبر الدوامة، لكنه لم يستطع. ود لو يتسلق سورها، لكنه لم يستطع. ود لو يفتح للضوء نوافذها، لكنه لم يستطع، لم يستطع، لم يستطع... إلا إذا قذف بنفسه من نفسه، لكنه لم يستطع.
دمعت عيناه، فمسح دموعه، وهو يئن. الدموع، القلق، ألم العمر، كل ما كان يمكن عاشقٌ غبيٌّ مثله أن يشعر به. لمس كل شيء حواليه، فوجد نفسه قرب حاجز من حديد. تذكر أنه كان يقف على قنطرة يسير من تحتها نهر حزين. دب بقدم مترددة، وقلبه يبطئ الوجيب، لم يكن يرى إلا عتمة الطريق. بحث بأصابعه عن عينيه، وارتعب، كانت له عينان ميتتان. دب بقدم مترددة، وقلبه يبطئ الوجيب. رفع عينيه إلى الشمس التي لم تعد سوى ظلام يغطي الكون، وغدا الكون كوكبًا هائلاً أسود. استمر بالدبيب بقدم مترددة، متعثرة، وصرخ: أنا أعمى! وأعاد بصوتٍ شاكٍ: أنا أعمى، مثل تلك الفراشة التي بعد أن صارعت في دوامة الوجود، ندمت لسبلها بيدها عينيها.
اقترب من حديقة قريبة، وجلس على مقعد غارق في الضباب. رفع رأسه المثقل، مد ساقيه الخائرتين، رمى مظلته جانبًا، ضاع بعيدًا مع أفكاره، وقد التهمه القلق. أشارت الساعة المقلوبة على معصمه إلى الرابعة تقريبًا: لن تأتي كريمة. تراجع، وهو يسمع بعض الخطوات العاجلة. كان كلبًا ضائعًا، فخاب أمله مرة أخرى. توقف العقرب الصغير على الرابعة: لن تأتي كريمة، لن تأتي. لن تنطلق نحلة النار من ثغرها إلى ثغره. أيقن أن ذلك كان وهمًا، أن تلك الفتاة لم تكن له، أن ما كان عليه أن يضرب موعدًا معها، وفوق كل هذا من يكون؟ بحث عن السبب الذي دفعه إلى ذلك: ربما لأننا أردنا الغرق نحن الاثنين، أو بسبب النهر الحزين. صعّدَ زفرة طويلة، وحاول أن يبكي بإرادته، خاصة عندما بدا له، في تلك اللحظة بالذات، أنه وحيد في العالم، لكنه لم يستطع البكاء. قبض على مظلته، وجعل منها سلاحًا ليضرب الضباب، والضباب لا يتذمر تحت ضرباته. كانت المظلة أداة مستلبة، في يد مستلبة، تضرب جسدًا مستلبًا. وجد نفسه واقفًا أمام شجرة سنديان، فلمس شعرها المقطوع، وجذعها المنشور. أدارت رأسه رائحة قوية، رائحة تراب رطب ولحاء عفن. أصابه الغثيان، وبداية جيشان النفس. نظر حواليه، وعاد إلى الشجرة، تلك الشجرة المعمرة التي كبرت منذ لحظة! أخذ بها ضربًا هي أيضًا ليخفف بعضًا من انحراف مزاجه. بقيت الشجرة صامتة، وكانت تلك الشجرة كريمة.
صاح بكل قواه:
- أنت صنم الكره!
وصاح بكل قواه:
- أنت صنم الحب!
انطوت أجنحة الضباب عليه كمن ينطوي عليه كل الوجود. عاد يصيح بكل قواه، وهو يضرب الشجرة، ويضرب، وكأنه يريد التحرر من تبعة انتمائه لوجود مستلب:
- أنت صنم كل المشاعر!
وإذا بغناء الصبي المتسول يصل إلى أذنيه:

طال ليل الليل في الشتاء الكبير،
فغنى
صاحب العش الصغير،
وغنى
آخر ليل فلا
آخر صبح بعد ذاك الليل الأخير،
وغنى
صاحب العش الصغير
وإلا
طال ليل الليل، وما
عاد سرب العصافير
وإلا
طال ليل الليل، وما
عاد سرب العصافير

عندما توقف الصبي عن الغناء لحظةً كان عصمت يغرق في نوم عميق.
سألت كريمة المغني الصغير:
- لماذا توقفت عن الغناء؟
بحث الصبي عن صاحبة الصوت، رآها تخرج كالحورية من سُمك الضباب، إحدى عذراوات الجنة التي نلقاها في القرآن. سأل، وبه خوف:
- هل أنا أحلم، يا سيدتي؟
مدت يدها، وداعبته من شعره:
- لا، أنت لا تحلم، يا صغيري.
اشتد به الخوف:
- هل أنت جنية، يا سيدتي؟
ضحكت :
- لا، لست جنية، أنا إنسية!
عادت تضرب خيال الصبي صورة الحورية الخارجة من سُمك الضباب، فأغمض عينيه بقوة، وفتحهما، وتراجع عدة خطوات:
- بل أنت جنية، يا سيدتي!
وما لبث أن هرب صارخًا:
- جنية!
وضاع مع الصدى: جنية! جنية!
دوى الصدى طويلاً في رأس كريمة، وكأنه التمتع بالسلطة على شيء، تاركًا لها إحساسًا بالقلق والمرارة: ربما كان محقًّا. بحثت عن نفسها دون أن تجد نفسها. دخلت الحديقة، وتأملت أعشاش الضباب. جثت فوق جثث الأوراق، وتساءلت أسيانة: لماذا لم تجد الرجل الذي قدم نفسه إليها دون سابق معرفة؟ ذلك الرجل الذي كان لطيفًا! أيمكن أن يكون مزاحًا موعده معها؟ جزءًا من غرائب عالم يعيش الناس فيه على هامش الوجود؟ ومع ذلك كان يبدو لها جادًّا. أين اختفى؟ لمست صدرها، لم تعد تشعر بدقات قلبها. كانت تريد أن تنجز على طريقتها الشيء الذي لم تحصل عليه، وأن تمارس على طريقتها استلاب كل يوم، كل لحظة تجد فيها الذريعة لتنفيذ ذلك، فلم يعد لها غير ذلك بعد مغادرة النوارس للبحر. تركت يدها تغوص في الفراغ، في التّماس الضبابي. أرادت أن تدفع يدها إلى القاع أكثر، تركتها تغوص كما لو كانت بعوضة. حطت في يدها بعوضة، فجمعتها، وندَّ عن البعوضة صوت كالأنين، ولسعتها. أحست بنفسها تغوص هي نفسها في الفراغ، واشتد أنين البعوضة في يدها، في قلبها، في عقلها. انضغط العالم حولها، وغدا أصغر من حبة قمح. أخذت تدلك يدها لتزيل عنها الخدر، وتحرك رأسها لتبعد عنها الصدى، وتضغط قلبها لتخنق فيها الضيق. لم تكف البعوضة لحظة واحدة عن الأنين. أنّت معها، وترنحت. كالعمياء. استمرت تترنح، كالعمياء، وتئن. عاودتها صرخات الصبي، وفجأة، بدا لها عصمت كطيفٍ أبيض في حلمٍ أسود. اتجهت إليه، وقد رد لها وجوده الملقى على حافة الكون أنفاسها. كان جالسًا على ذلك المقعد، تحت تلك الشجرة، ومن حوله آثار معركة الموت والحياة. حاولت إيقاظه دون فائدة، فدست كلمة في جيبه، وذهبت.


4
رن جرس الهاتف، فرفع عصمت عينيه باتجاهه، وتابع رنينه الذي توقف بعد عدة لحظات. لم يرد على الهاتف منذ يومين، ولم يفتح الباب. كان يقرأ ويعيد قراءة كلمة كريمة. بعد قليل، رن جرس الهاتف من جديد. هذه المرة، لم يُلق عصمت عليه أقل نظرة، تطلع حواليه، والجرس يرن بإصرار مالئًا الفراغ. فجأة، سكت. اقتربت منه أشباح الأثاث الغامضة، ووقفت تحدق فيه كما لو كانت جاهزة للقفز عليه. قال لنفسه وهو يهز رأسه: هذا أيضًا أثر من آثار مخيلتي الجامحة! أعاد قراءة الكلمة عدة مرات متتالية مضاعفًا من ضغطه:
(( أحب شخصًا آخر، ولكن اطمئن، لن أكون لأحدكما. أتيت ولكنك كنت نائمًا. أرجو أن تنساني في اللحظة التي تنتهي فيها من قراءة هذه الكلمات، ولا تسأل إذا ما سأنساك من طرفي، فقد فعلت )).
رن جرس الهاتف مرة أخرى، فانفجر عصمت: لينفلق الهاتف! ومن على الهاتف! وهو يفكر في فرصته الضائعة. جاب طولاً وعرضًا الحروف المدهشة التي بين أصابعه بحزن، ولم يصدق أن الأمر كان جادٌّا لديها إلى درجة الحب و... النسيان! لم يكن يمكنه الاعتقاد أنها هي من كتبت تلك الكلمات. حاول أن يقنع نفسه بعكس ما جاء فيها، إن كريمة لا تحب إلا هو، ولا تنتظر شيئًا في هذه الدنيا إلا أن تراه. تخيلها تأتي إليه في ثوب داكن، وهي تلف شعرها الفاحم، وتذرف دمعة قبل أن تقول له الوداع. سيتساءل: من أجل الإله، كيف تودعينني قبل أن تعرفيني؟ سترتمي على صدره، وتأخذ في البكاء. سيطوق خصرها، ويهمس في أذنها: حبيبتي، لا تقولي لي وداعًا!
لا تتركيني وحيدًا!
رن جرس الهاتف مرة أخرى، فتقدم عصمت منه هائجًا، ثم تمالك نفسه، وقرر في النهاية رفع السماعة. قال بهدوء شديد:
- آلو!
فهتف عادل من الطرف الآخر، وهو يبدو منشغل البال :
- أخيرًا، يا صديقي، هل أنت بخير؟
- أنا بخير.
- كدت أجن لفقداني لك مرة أخرى، هل أنت بخير حقًّا؟
- أنا بخير تمامًا.
- أتيت على موعدنا ذاك المساء، فلم أجدك. وبعد ذلك، عدت ما يقارب أربع مرات، فلم أفلح بلقائك. حاولت الاتصال بك هاتفيًّا ما يزيد عن عشر مرات، وشككت في كون هاتفك معطوبًا. أين كنت خلال اليومين الماضيين؟
كان عصمت يستمع إلى عادل مفكرًا: لا بد أنه بحاجة ماسة إليّ!
تذرع:
- سافرت فجأة.
- آه! لم أتوقع ذلك!
- ولا أنا، لم أتوقع ذلك.
- ومتى أراك؟
- متى تشاء.
كان يكذب، كان يكذب لأجلها، وضميره مرتاح تمامًا. أحس عادل بالبرودة في صوت صديقه، على الرغم من استعداده للقائه، فاستفسره بكثير من الريبة:
- عصمت! في صوتك ما ليس طبيعيًّا، هل تخفي عني شيئًا؟
راح عصمت ضاحكًا:
- أبدًا. إذا أردت، أتيتك حالاً.
صاح عادل من شدة الحماس:
- ستجدني في مقهانا، أتذكر مقهانا، المطل على النهر؟ ستجدني هناك.
رد عصمت بانفعال غير جاد:
- سأطير إليك.
وضع السماعة، ونظر إلى يده، كانت كلمات كريمة محاصرة بين أصابعه. عاوده الشعور بالكآبة، فقال لنفسه: كل شيء بسببي! وهو يفكر في أنه أضاع أعظم فرصة في حياته، وهو لهذا يستحق العقاب. راح يعلك كلماتها بين أصابعه حتى جعلها كتلة واحدة، نظر بهول إلى قبضته، وضربها برأسه: آه، يا إلهي! كيف أمكنني إضاعة أعظم فرصة في حياتي! ضرب بقبضته الحائط، وتخدر بالألم. ضرب بقبضته الحائط، وفتح جرحًا. ضرب بقبضته الحائط، وانفجر الدم أحمرَ، فاقعًا، فاتنًا، ساخنًا، كأنه الياقوت المشتعل. قتل يده، فرفعها بعناء مع الشعور بجرم صغير، وناء بالذنب. غسل يده بالماء، ولفّها بمنديل، وخرج ساحبًا إياها مثل جثة قتيل. سبح في الشارع الكبير، ولم ينكر هذه المرة مركب الشمس المبحر في بحيرة السماء. هرب من ضوضاء المدينة، وأتى طريقًا فرعيًّا يهبط إلى النهر. كان المقهى قائمًا عند نهايته مثل صندوق مربع، وقبل أن يدخله، تأمل النهر للحظات. كان يمضي مثل أنشودة زرقاء، لحنها الكآبة، فأكربه ذلك. دفع باب المقهى، وهناك، في زاوية، رأى يدًا تلوح له، فاتجه نحوها، وعادل يبتسم.
سلم عليه بحرارة:
- أخيرًا!
- نعم، أخيرًا، لكنها الظروف.
- لعن الله الظروف!
كان الركن هادئًا، والمقهى فارغًا. أخذ عادل نفسًا مديدًا، وقال:
- نجد بعضنا، فإذا بنا لم نفترق أبدًا!
تابع نظرة عصمت عبر النافذة، ورأى أمواج النهر المنسابة، فتنهد:
- والنهر يمضي!
أراد عصمت أن يذكره بأن النهر لا يمضي صاخبًا كعهده في فصل الشتاء، وما لبث عادل أن أضاف:
- أحبه إذا انساب، وأحبه إذا هدر!
ابتسم عصمت بحزن، كان الهدوء اللاعادي للنهر يكربه دومًا، لكنه لم يعلق بحرف. عاد عادل إلى القول:
- في العام الماضي، عندما ابتلعت الأمواج تلك السفينة في مثل هذه الأيام، وأغرقت كل من عليها، هتفت: أحب النهر الصاخب الذي يفرض إرادته! ولم يصبني أدنى طرفٍ من حزن على أولئك الغرقى الذين لم يستطيع واحد منهم النجاة.
أذاب نظره في الأمواج التي تداعبها الأشعة، وتابع:
- أما هذا الانسياب المهيب، هذا السكون الذي يصل تقريبًا إلى حد الجمود، فهو يعبر أيضًا عن الإرادة العاتية، إرادة تفوق إرادة العاصفة.
استمر عصمت يبتسم بحزن، وهو يفكر في النهر: لكنه لا يمضي صاخبًا مزمجرًا كعهده في فصل الشتاء! لألأت الحرارة على جبينه العرق، وبعفوية، رفع ليمسحه يده المصابة. سأل عادل عما أصابه، فكذب عليه كذبة صدقها. نظر عصمت إلى عيني صديقه، ووجدهما مدورتين فوق اللازم، صغيرتين فوق اللازم. بدا على عادل القلق، وراحت علامات الجسامة تبرز على وجهه. لم يدخل بعد في الموضوع الذي دعاه من أجله.
ضرب كفّاً بكف، وهتف:
- جرسون!
وأضاف:
- لم نطلب بعد ما نشرب.
أتى النادل متثاقلاً بخطواته، متنافخًا بوجهه الأشبه بثريٍّ من سيلان، متباهيًا بكرشه الممتلئة شحمًا. تساءل عصمت: كيف يمكن للناس أن يصبحَ جسدٌ كهذا؟ وشعر بنتوء عظام صدره. سأله عادل عما يريد أن يشرب، فطلب فنجان شاي. طلب عادل فنجان شاي أيضًا. ذهب النادل، ومال عصمت قليلاً إلى الأمام. راح يمر بأصابعه على تقاطيع صورة لفتاة ريفية مطبوعة على غطاء الطاولة، في ثوبها التقليدي، وعلى كتفها جرة ماء، وقال:
- فلاحة جميلة!
استغرب عادل:
- هذه الصورة!
أكد عصمت:
- نعم، هذه الصورة. يخيل إليك أن ماء الجرة ينسكب، فإذا بالطاولة تفيض بالحياة.
وضع عادل أصابعه على فوهة الجرة، ورفعها جافة كالأعواد، وانفجر ضاحكًا:
- لا تقل لي الآن إنها من الإبداع لدرجة أن رونوار هو راسمها.
أحس عصمت بأنها صورته هو، وهو راسمها. سمع عادل يضيف كما لو كان في مؤتمر صحفي:
- ما هي إلا صورة عادية، لا جمال فيها، ككل الصور المطبوعة على الأغطية، لا تعطي ألوانها ما تريد الصورة التعبير عنه لكثرة تنافرها ومسوختها.
نبر عصمت هائجًا، وهو يصر على رأيه:
- ولكنني أنا أشم فيها رائحة الأرض، الأرض الحقيقية، أتريد أن تمنعني أنت أيضًا من هذا؟
أجفلت عادل نبرة عصمت، فأسند ظهره على الكرسي جسيم التعابير، وأطلق آهة:
- الأرض!
تابع بعد لحظة صمت:
- إنها عذابنا جميعًا، هذه الأرض المغتصبة!
رد عصمت بحدة أكثر:
- لا، أنت لا تفهم. أنا أتكلم عن الأرض، الأرض فقط، الجنة.
- الضائعة، يا صديقي، الجنة الضائعة! ولكن ليس إلى الأبد، فلتطمئن!
لم يشأ الفهم. نظر عصمت إلى الصورة من جديد وهو يفكر: لأنني لن أكون ذاتي! كانت لحظات الوضوح هذه فريدة لديه، مع أنه كان مستعدًا ليدفع حياته ثمنًا لها. فجأة، صار يحقد على عادل، وفكر أنه يرغب في أن يجعل منه فريسته، ولكنه ابتسم، ونسي ما أوحته له الصورة منذ قليل: أنه مزيف. ركز انتباهه على النهر، وعليها، على كريمة: هي كل من بقي لي! حتى ولو أنها أنهت قصتهما.
صحا على عادل، وهو ينحني نحوه بكل ثقله، وضربت مسامعه حروفه الفخمة:
- اسمع يا عصمت، أنا أثق بك كما لو كنت أخي! الذي قلته صحيح، لهذا بحثت عنك، فنحن اليوم نبحث عن الأصدقاء الجديرين بالثقة. أنت أدرى بمشاعري نحوك، الليالي التي قضيناها معًا تاريخ، نعم، تاريخ لا ينسى! لهذا السبب بحثت عنك، ولأنني أعرف أنك تتعذب مثلما نتعذب نحن كلنا. أنت قلت الأرض، وأنا أقول الوطن، والوطن هو الأرض، وأين هي الأرض؟ انتزعوها منا ليقذفوا بنا في حياة من الويل. سرقوا منا سنيننا العظمى ليسقطونا في الأجداث. نحن جيل الضحايا! والموت هو سيدنا ومولانا! ومع هذا، نحن لم ننهزم بعد، نريد استعادة الأرض كلنا، ولكن كيف؟ ونحن لا نعرف بعد الطريق لتحقيق ذلك، ونحن كالعميان! مع أن الطريق واضح كالنهار. اسمع...
التفت يمنة، والتفت يسرة، اقترب أكثر ما يكون من عصمت، وأضاف بصوت خفيض، ولكن بذات النبرة الفخمة:
- أمس تظاهرنا، وأضربنا، وقُتل بعضنا، وغدًا سوف نقلب النظام!
ها نحن ذا! فكر عصمت. قلب النظام. هذه هي أحلام عادل الكبرى، أحلامه المهووسة بالسلطة والامتيازات. وهذه هي الحجة الجميلة جدًا: استرجاع الأرض، (( جنته الضائعة )) كما يقول عادل. كان عادل يحدد النظر إلى وجه عصمت ليحزر مدى الأثر الذي أحدثته كلماته، ولكنه اصطدم برؤية تعابير جيفة باردة، وبغياب كامل للإرادة، وكأن لا شيء يعنيه:
- وما شأني أنا بهذا؟
اقترب عادل منه أكثر:
- نحن بحاجة إليك.
- أنا!
وفكر: أنا أقلب النظام! أجاب ساخرًا:
- أنتم بحاجة إليّ! بماذا سأفيدكم، وأنا لا أملك فكرًا،
ولا مالاً، ولا قدرة لي على حمل السلاح.
قال عادل بسرعة:
- انخرط في الحزب، وسنعطيك كل شيء.
أمام دوام استنكاره، أضاف:
- وسنعلمك كلَّ شيء، كلَّ شيء.
قبض عليه من ذراعه:
- أنت رجل مبادئ، يا عصمت، وستبقى رجل مبادئ! أريدك فقط أن تصغي إليّ، أصغ إليّ جيدًا، وهبني قلبك وعقلك وبصرك فقط لبضع لحظات.
توقف عادل، والنادل يقترب من بعيد، وغيّر الحديث:
- آه! لو تعرف، لا أنام في الليل بسبب البرد، وهذا الشتاء الذي لا ينتهي!
كانت أشعة الشمس تنفذ من النافذة إلى الفراغ القائم بينهما، فتضاعف بينهما المسافة. فكر عصمت بـ (( هذا الشتاء الذي
لا ينتهي ))، وقال لنفسه: يظن أن النادل على هذه الدرجة من الغباء مع هذه الشمس النادرة وهذه الحرارة الغريبة!
سمعه يتابع:
- ومن عادتي ألا أشعل المدفأة في الليل.
تدخل النادل:
- فكرة عظيمة! فأنت لا تدري، ربما احترق البيت بسبب شرارة!
وضع الطلب، وذهب. تابعه عصمت بعينيه متسائلاً: هل حقًّا لا يتقن إلا جلب طلبات الزبائن؟ بدا له صبورًا ومثابرًا بشكل عنيد.
أخذا يحركان سكرهما، وكل منهما لا ينظر إلى الآخر. قال عادل، والبخار يتصاعد من الفنجان مغطيًا وجهه:
- ستتعلم بسرعة، أنا أعرف، وستكون لنا ذا فائدة كبيرة.
- سأكون لكم ذا فائدة كبيرة في ماذا؟
- في كل شيء.
أشعل عادل سيجارة، لف الدخان وجهه بكثافة، وصار على عصمت من الصعب أن يراه.
- أيُّ شيء؟
غضب عادل، وصاح:
- كلَّ شيء، يا أخي، كلَّ شيء!
حاول أن يطرد الدخان، والدخان يطارده دون هوادة.
ابتسم عصمت:
- هذا، هذا آخر ما خطر على بالي. إنه لمن المحال!
أحْدَدَ عادل النظر إليه، وركّز على كل كلمة من كلماته:
- المحال لا يعرفه أبدًا حزبنا.
وبدا غريبًا:
- المطلوب فقط حد أدني من الوعي، هذا كل ما نطلب، فتسير الأمور كما (( نخطط )) لها.
كان عصمت يرفض أن يقرر الآخرون عنه، أن يحرموه من حرية الاختيار، إن كانت هناك حرية اختيار حقًّا، حرية اختيار فردية، أنانية، أقل من فردية، في فضاء من عدم الحرية. فكر: لا، لن ألبس ثوبًا جاهزًا!
ردد عادل بشيء من الندم في صوته:
- الوطن! الوطن!
ثم:
- الشعب! الشعب!
وعندما سأله:
- ما دخل الشعب في كل هذا؟
قال:
- لن نستعيد الوطن طالما بقي الشعب أعمى ورضي بالتعايش مع الموت، وطالما لم تبادر الطليعة، فمن سيبادر؟
- بقلب النظام؟
- ستكون الخطوة الأولى.
- والخطوة الثانية؟
- استرداد الوطن.
ردد عصمت بنوستالجيا:
- الوطن! الوطن!
نظر إلى يده الجريحة التي ذكرته بكريمة، وتساءل: كيف يمكنني أن أجدها؟ بدأ يشعر بالملل، أراد أن ينهض تاركًا عادل ليسترد الوطن وحده، لكن عادل قال بإصرار:
- لهذا، نحن نحتاج إليك، وإلى كل مثقف مثلك، لنتقدم معًا بقوة بركان هادر. لا يغرنا ثوب، ولا يخدعنا لون، ولا يصدنا عن تحقيق هدفنا الأسمى شيء. قوتنا في وحدتنا، من المحيط إلى الخليج، في وحدتنا، وبفضل وحدتنا سنجرف كل الحواجز التي تعترض طريقنا، سيجتاح المد الثوري كل شيء، ومن جديد، سيغدو شعبنا عظيمًا!
سحب نفسًا عميقًا، وعصمت يواصل احتساء شايه على مهل مفكرًا في: تسير الأمور كما (( نخطط )) لها. سمع صديقه يقول واثقًا:
- أعرف من الآن أنك ستوافق، فأنت صاحب مبادئ، أعيد، ولا أكلّ من الإعادة.
المبادئ فقط؟ والحقوق؟ والمسئوليات؟ أراد أن يقول له: سأخيب ظنك، ولكنه طلب:
- دعني أفكر في الأمر.
- من العدل أن تفكر في الأمر، وأنا، عادل، العادل، أقول لك بالطبع ستفكر، وخلال يومين ستعطيني ردك.
استند عادل على يد الكرسي بكل قوته، وراح يلوح بسبابته أمام عينيه:
- حقّاً الكلمة الأخيرة لك، لكن للوطن كلمته الأولى عليك. لهذا، تجدني من الآن واثقًا من موافقتك. وفوق هذا، أنت...
تمهل في لفظ كلماته:
- ... يعجبك أن تصبح بطلاً.
ضحك عصمت في صدره حتى كل من التعب: لا، ليطمئن، فلم أحاول مرة واحدة الظفر بهذا الشرف! ولم أتصور أبدًا أن أصبح بطلاً في يوم من الأيام! قام عادل مستأذنًا لاجتماع هام لديه، وشحن صوته قبل أن يذهب بكل الحرارة التي توجبها الحال:
- فكر في الأمل المشترك.

5
بطل! عصمت بطل!
شرب ما تبقى من الشاي، وأعاد: عصمت بطل! ولأنه يعجبك أن تصبح كذلك! كان يفكر في عادل، أجهد نفسه لقاء لا شيء، ومع ذلك، فقد كان واثقًا من موافقتي! راح يضحك: لا بد أنه يضحك مني هذه اللحظة لأنه يعرف أي جبان هو أنا. راقت له الفكرة: الجبان البطل! أو البطل الجبان! ضحك مرة أخرى، ولكنه لام نفسه: جففت لعادل حلقه، وليس هذا فقط بل وأفقدته أوهامه. كيف يمكنه أن يحلم بي بطلاً، زعيمًا، ثائرًا؟ كيف يجرؤ خياله على ابتكار مثل هذه الصور السخيفة، السياسي الكبير، الصحفي العظيم؟ لم أكن مصنوعًا كي ألتزم وأقل من هذا كي أحمل مثل هذه مسؤولية. تذكر كلمات عادل: أنت صاحب مبادئ! هراء! أراد أن يحرك يده الجريحة، فلم يقدر رجل المبادئ! كانت تسكن مشلولة في حضنه. بطل! بطل مشلول! أفعم قلبه بالحبور. كيف بإمكانهم أن يحتاجوا إلى بطل مشلول؟ ورغم ذلك، فإن عادل كان واثقًا من موافقتي، لأن للوطن كلمته الأولى عليّ، ولكن عن أي وطن تراه يتكلم؟ أنا لا وطن لي. وعن أي أمل مشترك؟ سيارة؟ زوجة جميلة؟ وزارة قادمة؟ ربما أراد الحديث عن التعاسة المشتركة. أنا لا أحتمل فكرة أن تنهش لحمي الطيور الكاسرة، ولا أن تقضم عظمي الوحوش الضارية! وتحول الوطن في فمه إلى مرارة، فشعر بالضيق.
بحث بعينيه عن ظله، فلم يكن موجودًا. وتطلع إلى النهر، كان منسابًا، أبدًا منسابًا، وصار له الشتاء ذكرى. استعاد وعد عادل له: سنعطيك كل شيء! سنعلمك كل شيء! الحزب لا يعرف المحال، فقط انخرط! فتأوه: كيف يمكن السجين أن يريد الانطلاق من قفص إلى قفص؟ يجب عليّ أن أجد حقيقتي الخالصة، فكرة من أجلها أموت أو أحيا. أريد أن أذهب إلى الحياة، وأن تأتي الحياة إليّ، لا أن يعطيني إياها أحد. أريد أن تتحد إرادتي مباشرة بتلك القوة المجهولة التي هي سر الحياة العظيم، لا قوة أخرى، ولا إرادة أخرى! أرعبته فكرة الانتماء إلى (( إرادتهم )) ، و(( قوتهم )) ، و(( طموحهم )) الممتد من المحيط إلى الخليج، وحرية التصرف أين هي من كل هذا، فقال لا، خذوا الوطن، واتركوا لي كريمة!
صفق للنادل، فأتاه هذه المرة مهرولاً رغم ثقله. أراد أن يشرب كأس نبيذ، لكنه حاسبه فنجاني الشاي، ونهض بعد أن اتخذ قرارًا: لا لبطولة الحزب، ولا لسيارة الحزب، ولا لزوجة الحزب الجميلة! فليقولوا إنني لا أتمتع بوعي، وسنرى النتيجة. كان يتجنب الاعتراف بأنه شخص لا يسعى إلى تحمل مسؤولية أي شيء. وليهرب من هذه المعضلة الأساسية، معضلته، فكر في كريمة: إنها تهرب مني! ولكنها لن تفلت إلى الأبد من يدي، سأبحث عنها في كل مكان إلى أن أجدها. تخيلها تركض نحوه من أقصى الطريق، وهو يركض نحوها، فيتلقفها بين ذراعيه، وتفلت من عينها دمعة، فيرشفها. أحس فجأة بحماسٍ قويّ، كان عليه أن يبحث عنها حالاً. نسي أنه دعي ليصبح بطلاً، ولم يعد يفكر في أحد سواها. كان عليه أن ينقب بحثًا عنها كل الشوارع وكل النواحي. نظر إلى وجوه الناس التي لم يتبدل فيها شيء، لا البشاعة ولا البلادة ولا اللامبالاة من نفير السيارات المصم، ومن صخب الأكعاب الأبدي على الأرصفة. نظر إلى وجوه الرجال والنساء على حد سواء، عساه أن يجدها مختبئة في ثوب امرأة أو رجل. سار، وسار، وحرث الطرق، وحرث الوجوه، وحصد نظرات التأفف، والنفور، وكلمات اللوم. سار، وسار، وتعب، وتعب، وقف تاكسي قربه، وصاح به السائق: تاكسي؟
صعد، وهو يفكر في المبلغ الذي سيدفعه، وأعاد لنفسه ما قرر: ألا يتناول سوى وجبة طعام واحدة طوال النهار، وأخذ يتلوى من الجوع.
قال للسائق:
- سنجوب كل شوارع المدينة، وسننظر إلى وجوه العابرين، فلا تسرع، لأنني أبحث عن صديق.
صاح السائق بحماس:
- سنجوب شوارع المدينة واحدًا واحدًا عن بكرة أبيها حتى الشارع الأخير!
وانطلق، لكنه عاد إلى السير ببطء كما طلب عصمت. راح يشاركه التحديق في وجوه العابرين، دون أن يدري عن أيها يبحث. التصق عصمت بزجاج النافذة، وأخذ ينظر إلى كل عابر، ولم ينسَ أولئك الذين يقفون على أبواب الدكاكين. حدق أيضًا في عتمة الدكاكين، ورأى ظلالاً فحصها دون أن يرى كريمة. كان يردد لنفسه: كريمة! كريمة! دون أن يصيبه التعب. كريمة! كريمة! كريمة! كاللازمة. وفي كل مرة كان يمر فيها بمجموعة من العابرين، كان يخيل له أنها ستكون الأخيرة، فيهمس: كريمة! كريمة! كريمة! دون أن يصيبه اليأس. كانت تثور فيه هبة من الحماس، ولكن لا تلبث الخيبة أن تتبعها.
توقف قرب مقهى رأى فيها فتاة تعطيه ظهرها في زاوية منعزلة: شعرها الفاحم! شعرها القاتل! وبعدما دار بالطاولة، رأى فيمن حسبها فتاته شابًا دميمًا يضع على عينيه نظارة: كانت له تعابير الأعمى، ولم يهتم أبدًا بفضول عصمت، بل تابع نظرته الضائعة إلى جهة ليست محددة. اقترب النادل الأسمر من عصمت مرحبًا، إلا أن عصمت حدجه بقسوة. بدوي! تجاهله عصمت، وراح يفحص وجوه الرواد واحدًا واحدًا، ثم عاد إلى التاكسي. ظن أن كريمة تبحث عنه هي الأخرى، من إحدى السيارات العابرة، فبدأ يفحص داخل كل منها متمنيًا الوقوع عليها أو الوقوع عليه. تذكر: أحب شخصًا آخر، ولكن اطمئن، لن أكون لأحدكما، فأسقط الفكرة: لن تكلف نفسها هذا العناء. نبتت أشواك في صدره، وراحت تغز له الأضلاع.
هربت منه الأرصفة، ولم يعد باستطاعته تحديد ملامح أحد في الطريق، لا ملامح الرجال، ولا ملامح النساء، ولا ملامح الحيوانات، والسائق المسكين يتطلع إلى العالم الهارب مذهولاً. هرب بالسيارة، هو الآخر، ونسي أنه يحمل راكبًا. مرت السيارة بالمقاهي الهاربة، والدكاكين الهاربة، والأقدام الهاربة، الفالتة من أشعة الشمس الحارقة. اشتدت بعصمت الحرارة، فمسح العرق، ونظر: كانوا كلهم عرايا، وكان ذلك يعني بالنسبة له بداية غثيان.
بدا له أنه كان كرةً في جوف السيارة الهاربة، والهاربة به معها. انفجر العالم، وكان في جوفه الأعمق. وعلى حين غرة، توقفت السيارة، وهو ينط لصرير فراملها.
هتف السائق:
- هناك يا سيدي، إنها المقهى الوحيدة التي لا يمكننا المرور من أمامها.
كانت المقهى تضيع في أقصى ساحة مبلطة، وكان من الصعب رؤية وجوه الزبائن من السيارة. بدت المقهى رديئة الشكل، سيئة الأنحاء، فتساءل عصمت: لماذا يشير عليّ بهذا المكان؟
قال للسائق:
- استمر، لن ترتاد كريمة مقهى كهذة.
ابتسم الرجل بمكر:
- كريمة! كنت أعرف أنها فتاة!
تردد عصمت قليلاً، ثم اعترف:
- نعم، فتاة أحبها.
وأضاف كمن يبحث عن تبرير:
- لكنني لا أعرف عنوانها.
- ألهذا أردت البحث عنها في كل مكان؟
- نعم.
قهقه السائق:
- أنتم كلكم هكذا يا شباب هذه الأيام، تتعرفون على فتاة، وتقعون في حبائلها، وتنسون أن تأخذوا عنوانها قبل ترككم لها.
كان السائق شابًّا هو الآخر، حتى أنه بدا أصغر من عصمت بعدة سنوات. قال عصمت لنفسه: لو يعرف فقط القصة من أولها! لو يقبل العيش مثله في عدم اليقين إلى الأبد! سمعه يضيف:
- تخدعكم النشوة الكاذبة.
غرق عصمت في مقعد السيارة، وبعد لحظات، قال:
- عندما تعرفت عليها لم أطلب عنوانها، ولم تخدعني النشوة التي أحسست بها قربها. وإن أردت الصدق، دعني أقول لك، في الحقيقة، أنا، أنا لا أعرفها.
ظن السائق أنه يسخر منه:
- أتعتبرني مغفلاً إلى هذه الدرجة؟ فتاة تحبها دون أن تعرفها! إذن كل مجهوداتنا ضاعت سدى!
- سأدفع لك.
- نعم، ستدفع لي، هذا شيء أكيد.
ومتهكمًا:
- لا تحزن! ستأتيك إذا ما لم تظفر برقاد، أؤكد لك، هذه الفتاة التي تحبها دون أن تعرفها!
ثم اقترح:
- سأذهب أنا، وأرى بنفسي، فما أدراك. ثم، إنها المقهى الوحيدة التي لم نعبر من أمامها. ما شكلها فتاتك، إذا كان لها شكل؟
أراد أن يغادر السيارة لغضبه، ومع ذلك قال:
- سمراء وشعرها الليل!
خرج السائق، وهو يصفع باب السيارة. رآه عصمت، وهو يعدو ويترنح قليلاً إلى أن غاب داخل المقهى. فكر: فتاتي لا ترتاد مكانًا كهذا، منتظرًا مع ذلك أن يأتيه السائق بها. لقد فقدتها، أيُّها الأبله! لقد فقدتها إلى الأبد! أبوك على حق أن يدعوك أبله العائلة! أغمض عينيه. ومن جديد، انصفع باب السيارة، وانطلق السائق بسرعة. راح السائق يشق طريقًا طويلاً، بينما كان عصمت في الخلف يغمض دومًا عينيه. ظنّه السائق ينام: هذا واحد من شباب هذه الأيام! ضحية حب ساذج! لو كنت مكانه لما سقطت روحي المعنوية في الحضيض! طرف بعينه إلى صورة يعلقها أمامه: زوجه الشابة وطفله الذي لم يبلغ عامًا. ظلمتُ هذا الفتى كثيرًا! عندما رفض أبو زوجتي أن يعطيني يدها بحجة ألا صنعة لي، كدت أفقد عقلي، ومن أجل عينيها فقط تعلمت السواقة، وصرت سائقًا ماهرًا. صحيح السيارة ليست لي، ولكنها ستكون لي فقط من أجل عينيها! أمّا أن أحب دون أن أعرف، أو أن أعرف دون أن آخذ العنوان، فهذا العته بعينه! وعلى حين غرة، ضغط على الفرامل. سأل عصمت، وهو يفتح عينيه على سعتهما:
- أين نحن الآن؟
- في ضواحي المدينة. أين تريدني أن أوصلك؟
- إلى بيتي.
أعطاه العنوان، ولم يفه بعد ذلك بكلمة واحدة. في منتصف الطريق، التفت السائق، وقال، وهو يبدو في غاية الأسف:
- لم أجدها فتاتك في تلك المقهى، نعم، فهي مقهى، كيف أقول؟ مشبوهة، ويا لغبائي! كيف سمحت لنفسي الذهاب بحثًا عنها هناك؟ إنها مقهى مشبوهة، كما قلت لك. هل تفهم؟
وعصمت لا يفهم شيئًا.
اعتذر السائق:
- آسف لأنك لم تجد فتاتك، يا سيدي!
ابتسم عصمت بمرارة على فكرة فتاته الضائعة، وفكّر في الوطن الضائع الذي يريد عادل تحريره بانقلاب.
عاد السائق إلى القول:
- وأنا أدخل، رأيت فتاةً، وفكرت أنها فتاتك، كانت سمراء، وشعرها الليل، تماما كما وصفتها لي.
اعتدل عصمت، وأنصت له مهتمًا.
- نعم، رأيت فتاة سمراء شعرها الليل، في زاوية معتمة، واقتربت منها...
اقترب عصمت منه:
- ... ولكن ما فاجأني، ذلك الرجل العملاق الضخم المتغضن الوجه الجالس معها. عندما رأيت نظارته السوداء الضخمة، قلت لنفسي لا، ليست فتاتك، خاصة أن هذا الرجل يعمل لحساب امرأة معروفة هنا. هل تفهم؟
وعصمت لا يفهم شيئًا.
ترك السائق لسانه يقول:
- عميدة القوادات في هذه المدينة! هل تفهم الآن؟
وكأنه سدد في قلبه طعنه خنجر. انهار عصمت على مقعده، والرجل يسارع إلى طمأنته:
- طبعًا، طبعًا لم تكن فتاتك، فشتان... نعم، شتان بين الشيطان والملاك!
سكت، ولم ينطق بكلمة واحدة حتى العمارة التي كان عصمت يسكن فيها، وعصمت لم يزل منهارًا.
قال السائق:
- كله بكله دينار واحد.
نقده عصمت إياه، وهو يقول لنفسه إنه ضاعف عليه الأجرة، وهكذا عليه ألا يأكل في اليوم بدل الوجبة وجبتين. أعاد السائق:
- آسف لأنك لم تجد فتاتك، يا سيدي!
سأله عصمت في اللحظة التي وطئ فيها بقدمه الأرض، وهو يحاول أن يتماسك:
- وما اسم هذه المرأة التي تقول عنها عميدة ال... ؟
أفلت السائق قبل أن يذهب كمن يريد أن يخضعه له:
- مدام حرب.
والواضح قد ازداد غموضًا.
6
كان كل شيء قد تشوش في نفس عصمت، خطا عدة خطوات بين ظلال أثاثه، وراعه أنها ثابتة كلها، وأنها تسقط في السكون في رحلة ساكنة إلى الأبد الساكن، كما لو كان يراها لأول مرة، جامدة وفاقدة الحس. رآها تقعد دون أن تقوم، وتخيلها تسعل دون أن تفتح فمها. التفت إلى أباجورة بقدم من رخام، فوجدها تميل بعناء نحو الأرض، فلم يمتعه ذلك. تقدم ليرفعها دون أن يفلح، وبقيت تميل بعناء نحو الأرض. ظن ذلك الشيء الذي يتكور مع انحناء ظهرها حدبة، وظنه مرضًا ينفخ الحجر.
نظر تحت قدميه العاريتين، فرأى بساطًا مخمليًّا يغطي الأرض، أراد أن يطير به إلى حيث يعجز أن يطير، وألفاه أشبه بجناح طائر قتيل. سار خطوتين، وأخذته الشفقة عليه: لماذا يقتلون الطيور؟ تقدم من كرسي ذهبي، وتذكر أنه أحب هذا الكرسي، واشتراه لأنه ذهبي. كلما نظر إليه، ذكره بفتاة شقراء لم يستطع ضمها بين ذراعيه يوم كان مراهقًا. وكلما نظر إلى مشجب أسود، ومد يدًا مترددة إليه، لم يمنعه ذلك من اعتباره غرابًا ميتًا. كان يخشى أن يعلق عليه مظلته خوفًا من عقاب جائر. عاد يفكر في جولة التاكسي الكبرى، وقال كريمة هي من يحكم عليه بهذا العقاب، ولم يحاول كعادته طرد هذه الفكرة، بل على العكس ازداد تعلقًا بها. أما مدام حرب ((المعروفة هنا))، فلم يكن يعرفها، ولم يكن يسمع أبدًا بها إلى اليوم. دمدم، في أي عالم أعيش! لقد لوثوا طفولتي، لقد أفسدوا براءتي، لقد خنقوا ذاتيتي! كان مثل شيء بين تلك الأشياء.
فتح باب غرفته، وأصغى إلى الصمت، صمت تام كان يدفع حدود عالمه، ويقيم عالمًا من الظلام عميقًا فيه، عالمًا لا يمكن غير الظلال أن توجد فيه. أطلق آهة: كل شيء! تستطيعين أن تأخذي كل شيء مني إلا الأسرار! أحس في نفسه بابًا يُفتح على الظلام، ويُولج رائحة العدم. نظر إلى سريره المعطر، المرتب، النظيف، ونظر إلى صورة القط السعيد، السعيد بشكل لا يصدق، السعيد بشكل مشين، وهو لا يكف عن التهام النار بعينيه الجمرتين. اختلطت الرائحة باللهب، وامتلأت الأجواء بالرماد والموت كما لو كان ذلك من أجل احتفال مأتمي. راح يقطر بالعرق، وتذكر مرة أخرى جولته الكبرى، وعياء الروح، وتعب الجسد المنهك.
خاطب كريمة ثانية: لن أُذهبك إلى الشيطان، بل على العكس، لن أفلتك، وسأعرف سرك! نظر إلى عيني القط الجمريتين، وفي قلبه تدب الغيرة، وطرب على فكرة الحريق الكبير. دخل الحمام، ثقيلاً كمعدن، وجعل الماء ينهمر على رأسه. أغرق في الماء الذنب، والعصيان، وفكرة الموت، فخنقه الشعور بالغربه بين الجدران المنضغطة. أحس بنفسه ثقيلاً دومًا، مطاردًا برائحة بول، وعفن، فترك نفسه نهبًا للماء إلى أن أصبح خفيفًا كالقطن.
نظر إلى نفسه في المرآة الكامدة، وبدا مثل ذاك العمود السجين في الأسمنت على ضفة النهر، نحيفًا ومديدًا بعظامه البارزة. تأمل كتفيه، فكانا مثل غصنين من أغصان الخريف. تأمل فخذيه، والغابة الكثيفة التي يطل فرجه منها برأسه الخجول. قرّب وجهه من وجهه، وراح يتأمله بكل تفاصيله، شاحبًا ولَدْنًا في بعض النواحي، بعينين ضبابيتين، وأنف كبير، وفم أقلع منذ زمن طويل عن متعة تقبيل شفة أخرى تحبل بالجمر.
اتجه إلى سريره عاريًا، وتساءل ماذا سيحصل لو خرج هكذا إلى الشرفة؟ قال لا شيء، بما أنني لست أنا. انزلق تحت الغطاء ليدفأ، وبعد ربع ساعة لم يعد خفيفًا، ولم يعد نظيفًا. أحس بنفسه دبقًا ورخوًا. أصابه الدوار، ورغب في القيء، وقال: إنني شيء كريه! وهو يفكر كيف نسي تلاميذه تمامًا، والمدرسة، والدروس. تحول قلبه إلى حجر يدق برتابة، وأيقن أن كل شيء لم يكن سوى سراب: الحب والعمل، الهواء والوطن! سرى في بدنه تيار بارد، جعله يرتعش كالسلك المنتزَع. كان يكفي أن يدير زر المدفأة، هذا ما كانت الغرفة في حاجة إليه، ولكن حاجته هو كانت شيئًا آخر، فهمس: حرارة امرأة! هذا ما أحتاج إليه، حرارة امرأة! تذكر امرأة كان يعرفها، زوجة قديمة للاجئ قديم، جسدًا بائسًا وروحًا لعينة، فنهض بسرعة. تمشط، وتعطر، وارتدى ثيابًا نظيفة، وذهب بخطوات واسعة، وعازمة، إلى حيث تسكن في المخيم الأسود القابع تحت ظفر المدينة.
ومن بعيد، بدا المخيم مثل شاطئ تحطمت فيه المراكب، وقد تحطم الموج بالحطام وبالهياكل. دنا عصمت من رأس الطريق المؤدية إلى المخيم، فشم عنه عطرًا وقحًا، ورأى عنه ظلاً وقحًا، ولكنه استمر يدنو من رأس الطريق، ودخل في الخط الضيق. أحس بالمتعة الهائلة، وهو يغوص في الليل السميك، وأحس بالحرية الزائفة، فلا مترصد، ولا رقيب، وأحس بالسيادة المطلقة، بإرادة اقتياد العالم رغم عجزه عن تمييز آثاره في ذلك الخضم من البقايا والبقايا والوحل الرهيب.
طرق بابها المحطم، وهو يرفع رأسًا شامخًا، ونسي ما في أعماقه من عطب، وما في أوصاله من وصب. اجتاز كل شيء، كل شيء، ونادى: كريمة! كان عليه من أجلها ان يسيطر على الناس والأشياء! فتحت الباب امرأة مذعورة، في عينيها البرد والنعاس، وشعرها الفحمي المشعث يضفي عليها هيئة من الجنون والعذاب. غادرته عندما عرفته، ورمت الغطاء على وجه طفليها النائمين. أدخلته، وأجلسته على الأرض، ولمست كل جسده، فجذبها إليه، ومزق ثوبها الممزق، ودفن وجهه في البضاضة والأسى. كانت تقهقه بصوت مكتوم بالاستسلام الحر والنشوة المغتالة، مقتول بالعذاب السنيّ والبقول المغتصبة، مسفوح بالند والملح وبهارات البلدان الاستوائية اللامكتشفة.
نهض أحد الطفلين مناديًا أمه، وهو يسترق النظر إلى الرجل الغريب الذي لم يره أبدًا، فوثبت نحوه معنفة، وأخفت وجهه تحت الغطاء من جديد، ثم عادت إلى عصمت بابتسامتها المتكسرة في العتمة، وذابت بين ذراعيه كالشمعة المستهلكة. أخذت تخلع عنها قطعها، وهي تقهقه بذات الطريقة، وعصمت يفكر في كريمة، وفي مدام حرب، وفي البطولة، وفي عادل، ومرة أخرى في كريمة، ومرة أخرى في البطولة. قدمت له جسدها ليجنيها، أينما شاء، وكيفما شاء، فقط ليجنيها، وهو واجم، جامد، ذاهل: هذا واحد من أطواره الغريبة، وأخذت تخلع ثيابه. دفعته فوقها، فربض على ماضيها وحاضرها ومستقبلها، فإذا ما انحرف قليلاً عن خاصرتها، هوى، وتحطم كالزجاج إلى آلاف الشظايا. شدته من شعره، ولهثت: أيُّها الخنزير! أيُّها الخنزير! ولكن دون أية ضغينة أو وعيد، ولم يكن ذلك من أجل أن تجرحه. كان الطفل قد أبعد عن وجهه الغطاء، وأيقظ أخاه، وراحا يتابعان لحظة التنفيذ. كانت للعقاب طرائقه، وتلك أشدها دقة. راح العرق يسيل في عينيهما، وهما يتقدمان نحو الوحشية المستساغة. تقدما نحو القتالية المعلنة، وتقدما نحو اللاشرعية المحللة، وقطعا شوطًا بعيدًا ثم تعبا وتساقطا جسدًا على جسد، وعضلاً على عضل. احتضنهما التاريخ المريض، ووصمهما، وانسحب. أتت عينا عصمت في عيني الطفلين المحدقين في تفاصيل الإجراء، فرمى على نفسه ثيابه بسرعة، وللمرأة عشرة قروش، واجتاز الحطام إلى الحطام، والجليد يتسلل حتى إلى داخل عينيه، وقدماه تترددان بين هاويتين، واحدة من ورائه، وأخرى من أمامه، ولم تترددا طويلاً.

7
سأذهب اليوم إلى المدرسة.
وتردد، وهو يرى المطر منهمرًا، وأنهار الوحل تهجم مع الناس الهاجمين في الطرقات، فكأن العالم يذهب دون أن يعود أبدًا. قرر أن يأخد الحافلة، فتمشط، وتعطر، ولبس معطفه الأسود، وحذاءه الأبيض، وأخذ محفظته السوداء، وهو على الباب المظلة. نزل الدرج، وهو لا يفكر إلا في التلاميذ والمدير والمدرسة، وهو يبحث عن تبرير لغيابه الطويل، دون أن يجده. وما أن رآه بواب العمارة الشيخ، حتى أطلق له تحياته المعتادة.
نظر عصمت في خط مستقيم من أمامه، فرأى قافلة من المظلات المتقدمة في الشتاء. كان يحب رائحة المطر، ولم يشقه أن الشتاء لا يقترب من نهايته. وصل المحطة، فاندس بين القامات المبتلة للمنتظرين تحت الكُنّة المعدنية. التفت مع الملتفتين إلى الجهة التي كانت الحافلة تأتي منها، وتأمل مع المتأملين ظهور طلعتها من بين خيوط المطر التي تكر على الأرض، والتي تفر على الأرض. تابع بعينيه فتاة عبرت الطريق تحت المطر، وقد بللها تبليلاً، إلى أن وقفت قربه. حزر أنها تلميذة من ضفائر شعرها، والحقيبة البلاستيكية التي تشدها بقوة مثل فتى أحلام إلى قلبها! ابتسم، واستعاد في ذاكرته وجوه تلميذاته وتلاميذه. كان يشتاق كثيرًا إليهم، وود لو يلمس تلك الفتاة من ضفائرها، أو يطبع قبلة بريئة على خدها. كان إلى جانب الفتاة عجوز ضخم مثل فيل طيب، يشبه بطله المفضل، ذلك الذي كان يقرأ عنه في قصص المغامرات عندما كان طفلاً: بطل إنسان! يعطف على الحيوانات وصغارها، ويساعد الجرحى، ويتصدق على الفقراء، ويربي الأزهار في الحديقة!
شدّت انتباهه حركة صغيرة قرب التلميذة، فرأى فتى دقيق الملامح قد انسل إلى جانب (( الرجل-الفيل ))، وراح يختلس النظر إلى الفتاة. ابتسمت له، وابتسم لها. فكر: عاشقان صغيران، وأعادته هذه الابتسامات الخفية إلى مراهقته، هذه النظرات المختلسة. كان يفعل مثلهما، ويقف الأمر عند ذلك. تركهما يلعبان لعبتهما الصغيرة، والرجل العجوز يحميهما، وفكر أنه سيذهب مبكرًا إلى المدرسة ليقول زملاؤه: ها هو يعود نشيطًا أكثر ما يكونه النشاط. ومع ذلك، كان يشعر بالكهولة تحت المطر أكثر من النشاط. بحث عن نفسه فى عيون جيرانه من المنتظرين، دون أن يكون واثقًا من أنها صورته التي كان يراها، ودون أن يثير رد فعل لدى الآخرين. كانت العيون نفسها فى الوجوه نفسها التي ملها انتظارها دون أن تملَّه، بينما هو، كان الملل أخاه، والتي ملها عدم حسدها دون أن تمله، بينما هو، كان الحسد ينهش قلبه منها لما فيها من عدم اكتراث ولامبالاة. ابتسمت الفتاة بلا تردد هذه المرة، فتضرج وجه الفتى الذي لم تمرّسه الأيام بعد، ونظر فى عيني عصمت الذي راح يبتسم له بدوره مشجعًا. ومع ذلك، بعث فى تعابير الفتى الضيق، وكيلا يحرجه أكثر تصنع الالتفاف من حوله. لم يكن أحد يراقب العاشقين الصغيرين إلاه، كانوا كلهم يغطسون فى وحل الانتظار (بمن فيهم الرجل-الفيل في الوقت الحاضر)، ولا يهتمون إلا بوصول الحافلة.
تململ قليلاً، وضع قدمًا مكان الأخرى، ورفع رأسًا إلى أعلى. فحص صدأ سقف المخبأ، كان الصدأ يجتاح الصباغ الأسود من كل الأنحاء فوق الرؤوس الكثيرة للمنتظرين، وكان يبدو كالأخطبوط المهدد لوجودهم، ولا أحد ينتبه إليه. ظهرت الحافلة السوداء من أقصى الطريق، وقال عنها: نعش! وانتظر أن يمضي موكب الجنازة بالأحياء. أسعدته الفكرة، وحصل التدافع، كان كل واحد أول من يريد الصعود. عندما توقفت الحافلة، عمت الفوضى، وانتصرت الشراسة. دفعه الناس إلى الوراء، وسار الموكب المأتمي دونه. قطع القنطرة، وهو لم يزل في مكانه واقفًا يحدق فيه مبتعدًا دون أن يتحرك خطوة واحدة. انفجر في قلبه الحقد، لأن موكب الجنازة قد تركه وحيدًا في وجه الحياة، فبصق، وقرر أن يتحرر من التقنية، وأن يذهب إلى المدرسة ماشيًا.
سار تحت المطر، تحية للطبيعة، ونكاية في الصناعة. وهو في منتصف الطريق، توقف المطر، وبدأت الغيوم تنجاب عن بحيرة السماء مثل برقعٍ تخلعه امرأة. أحس بالارتباك، أغلق المظلة، وأخذ طريقًا دائريًّا. اقترب من بوابة المدرسة، فهمس: لا بد أن تلاميذي بانتظاري! وساعته المقلوبة على معصمه تعلمه أنه تأخر لا كما توقع: كل ذلك بسبب الحافلة اللعينة! اتجه رأسًا إلى قسمه، متأكدًا أن المدير بانتظاره معهم، فقد كان من عادته أن ينتظر مع التلاميذ إذا تأخر المعلم: لكنه لا يتوقع قدومي بعد كل هذا الغياب. إذا لم يكن هناك ذهبت لأراه فيما بعد. راح قلبه يضرب بقوة شديدة، وهو على باب القسم. طرقه طرقتين، وفجأة ثارت به المشاعر. أراد أن يهتف: كم أشتاق إليكم، يا تلاميذي الأحباء! وتخيل اللقاء المؤثر. دفع الباب ليجد نفسه أمام معلم آخر، بينما تلاميذه يهمسون، أو يبتسمون بلامبالاة.
بعد أن قدم نفسه، أخبره المعلم بأنه أخذ مكانه، ومدَّ له رسالة موجهة من المدير، مضيفًا أن المدير مسافر. فتفاجأ عصمت للخبر الأول، وتفاجأ للخبر الثاني. حمل الرسالة، وخرج. طواها بعد أن قرأها، ودسها في جيبه. قال لنفسه، وهو كالمجنون من شدة الغضب: يتآمرون علي! كلهم! لأنهم يعتقدون أن ما حصل بدافع المِزاج. قطع الفناء، ليتلقفه الشارع مرة أخرى. راح يستعيد ما جاء في الرسالة من لوم وتأنيب، وكيف دُعي لامسؤولاً، لأن الواجب المهني مقدس، وهو قد داس على واجبه المقدس. كانت الرسالة توجه له تهمًا كثيرة، وفي مقدمتها عدم تحمله مشقة الرد على رسائل الإدارة العديدة المستفسرة عن سبب غيابه، تلك الرسائل التي لم يستلمها على الإطلاق، واعتبروا ذلك ضربًا من اللاوعي، وهذه تهمة خطيرة، مؤداها الفصل. ومع ذلك، فقد أقرت محكمة خاصة برئاسة المفتش العام نقله إلى قرية على الحدود حتى يثبت جدارته المفقودة، ويؤكد جدارته على حمل راية وزارة (( التربية )) و(( التعليم ))، وهم يلفتون نظره إلى شدة وصرامة الإدارة الجديدة، فأي خطأ ستكون نتيجته الطرد. وفي الأخير، تعلن الرسالة عن اعتماد تقارير المدير كمرجع أول وأخير للقرار. راح عصمت يشتم: القذر! وأنا الذي كنت أعتبره صديقي طوال الوقت! القذر! القذر! تذكر خوف المدير على منصبه منه أول ما تم تعيين عصمت بسبب شهادته المهمة، وعائلته المهمة، المنغرسة في عدد من المناصب الحساسة. اتضح له كل شيء، كان يتظاهر بصداقته معه إلى أن حانت له فرصة طرده. حزن عصمت لمصيره، ولمنصب لم يشكّ يومًا في انتزاعه منه. تألم لذلك: آه! لو كان يعرف!
استبدت به فكرة أن يلغي القرار بقرار، وأن يبقى على عين المدير متحديًا، ثم، تلك القرية النائية التي على الحدود لم يكن الذهاب إليها مشجعًا. فضَّ الرسالة من جديد ليرى إذا ما كان اسم القرية مذكورًا، فلم يكن مذكورًا، وإذا ما كان تاريخ النقل محددًا، فلم يكن محددًا. قرر أن يبقى على عين المدير متحديًا، وأن لا يتصل بالمفتشية من أجل العنوان والتاريخ. استعاد حب القتال لديه: سأعمل المستحيل، وسأبقى دون قدميه كالبئر العميقة، وسأستعد لإسقاطه هذه المرة. لكنه كان يرفض طلب العون من أبيه، ولم يتصور أن يرجو أمه على الهاتف، لترجو أباه. استجمع ذاته، وهتف: لا، تركتهم يصنعون حياتي، ولن أدعوهم ليتدخلوا مرة أخرى في شؤوني! فكّر في عمه النائب، وقال: لم أره منذ سنوات، وفوق هذا أنا أكره عمي النائب! وفكر في عمه الآخر القاضي، وقال: فلأجرب. اتجه رأسًا إلى المحكمة قبل أن يبدل رأيه، فأخبره الساعي بأن عمه يقاضي، وإذا أراد الانتظار في مكتبه، فلا مانع أن ينتظره هناك. فضل عصمت حضور جلسة المحكمة، فهو لم يشاهد محاكمة واحدة طوال حياته. دلَّه الساعي على القاعة الجسورة، فجلس على كرسي بعيد، ولكنه كان باستطاعته أن يرى عمه في زيه الأسود تحت تمثالٍ لامرأة عارية تمثل العدالة، ورأى المتهم، والنائب العام، وتابع باهتمام مجرى الجلسة.
عرف أن المتهم قاتل خدمه وكلابه وبعض العابرين، وطالب النائب العام الحكم بالإعدام، ولكن المحامي رفع تقريرًا طبيًّا للقاضي يؤكد جنون القاتل، فخفَّف الحكم من الإعدام إلى السجن ثلاثة أعوام. أتوا بقاتل آخر، اعتبر النائب العام أن جريمته ليست جريمة في عرف القانون، فالمتهم قاتل بقرة جاره، وبعض الدجاجات والديوك، وطالب بالسجن ثلاثة أعوام. لم يكن للمتهم محام يرفع عنه تقريرًا طبيًّا يؤكد جنونه، فكان الحكم بالإعدام. لم ينتظر المحاكمة التالية بعد أن عدل عن الوساطة، أراد ترك عالم العدالة، واختار أن يقبل بقرار الإدارة. لم تكن الأوراق الضرورية تحت تصرفه، فذهب يسأل عنها، وإلى أية قرية على الحدود سيذهب، ومتى سيذهب.

8
سيكون السفر هذا المساء!
وبعد أن حجز له مكانًا في القطار، عزم على العودة إلى البيت، ليستحم، ويعد حقائبه. كانت الساعة المقلوبة على معصمه تشير إلى العاشرة صباحًا، فقال: آخذ فنجان قهوة! كان لديه وقت طويل أمامه. في المقهى، فكّر في كريمة، وفكّر في عادل. لم يجد كريمة، ولم يجده عادل. تساءل: أين حزبه الآن؟ وأنا الذي وعدت أن أعطيه جوابًا خلال يومين. ربما لم يعودوا بحاجة إليّ، أو أنهم ينتظرون مني الخطوة التالية، أن أتصل بهم أنا، لا أن يتصلوا هم بي. لقد تم اختياري: أنا أرفض أن أختار. فكّر في القرية التي على الحدود، الذاهب إليها في المساء، ابتسم، ثم هتف: وداعًا أيها الحزب! وداعًا أيُّها الحب! لا عادل ولا كريمة، لا كريمة ولا عادل. وفكّر مرة أخرى في القرية التي على الحدود، وفي وضعها الذي هو على الحدود خصوصًا، وبدأ الوطن المغتصب يأخذ معنى لديه، هذا الوطن الذي لم يضعه أبدًا في حسابه يشغل الآن كل فكره، فأحس بالاختلاف عن عادل: عن عادل أولاً، وثانيًا عن كريمة، بالاختلاف، ولكن بالتشابه بنفسه، وبكلام آخر باختياره لنفسه. اعتبر ذهابه إلى الحدود التزامًا، تحديًّا لوجوده. هذا ما كان يعتقده في تلك اللحظة بالذات، ونسي الدافع الآخر عندما شاهد محاكمة القاتليْن. تمنى من كل قلبه أن يسافر، الآن لو أمكن ذلك، أن يسافر إلى (( خط النار )). طرب للفكرة، وتخيل عادل منسحقًا أمام تلك الخطوة التي كان على وشك القيام بها، تلك الخطوة التاريخية. بالنسبة له، كانت تلك الخطوة تعطي كل القيمة لالتزامه، لهذا كان من الواجب عليه القيام بها. برفض كريمة لحبه، استعاد الكرامة. وبمعاقبة المدير له، قدم له أعظم خدمة. تحولت العقوبة إلى دعم ومكافأة، وحصل الانتصار على القرار المجحف. أحس بالسعادة، وبعشقه لفكرة الحرية كعشقه لفكرة الوطن، وقال: أخرج من حصارهم، ولا حصار إلا للوطن عليّ! آه! يا وطني الحبيب.
خرج من المقهى، وسار في الطريق: أقضي عمري متجولاً من طريق إلى طريق! تلك كانت حياته الآن بعد أن قطع مع حياة أمه وأبيه: فلتسقط أمي، وليسقط أبي، ولتحيَ حياتي! وسار، وسارت الطريق تحت قدميه، ووصل إلى الطرف الآخر من المدينة دون أدنى تعب. لم يعد يكربه الابتعاد، ولا تلك الغربة المزدوجة: عن أمه وأبيه وعن وسطه. ابتسم، وقفز، وصاح: أيُّتها السماء! نظر إلى البحيرة الزرقاء والغمام عنها ينسحب، وقرأ على الوجوه قلقها الجلي، وتأثرها الصادق، فهو ذاهب. تحولت البشاعة فيها إلى وداعة، والجفاء إلى حنين، وتأكد من أنه يرى، ويرى الألم الوادع، ومن أنه يتذوق، ويتذوق سكر الدموع، ولم يعد يفكر في الليل وسيوف الحدائق، ولم يعد يفكر في الليل، والجليد، وحرائق الجحيم. كان يريد الانطلاق من الآن إلى ما بعد الآن، إلى ما بعد الذات. وكان يريد الخروج من الداخل إلى الخارج، فيرى، نعم، أن يرى أنه يرى مثل الذين يرون موتهم الآتي إليهم، وهم يبتسمون. ولكنه عاد إلى نفسه، ودخل في عالم ما قبل البداية، في اللحظة التي رأى فيها كريمة، وهي تمضي من أمامه بسرعة، فألجمه ظهورها كما يُلْجَمُ الحصان عندما ينفجر الرعد. وبعد أن استقلت سيارة أجرة صاح، ولم يتأكد من أنه صاح باسمها. استقل سيارة أجرة أخرى، وعاد العدو والصراع ضمن اللاصراع، التخلي، الاستسلام. كان اللامعقول، كان الانتحار قبل قتل الذات.
أخذت سيارته تطارد سيارتها، والعابرون يسبون المطاردة، ويضربون بأقدامهم الأرض الطائعة، والمطاردة متواصلة. خرج عندما حاذاها برأسه من النافذة، وناداها، لكنها بقيت جامدة. اندهش الناس: أي مجانين! ولا أثر للدهشة على عصمت، كانت دهشته الوحيدة هروب كريمة. حثَّ السائق: أسرع! وناداها للمرة الثانية، وهي دومًا جامدة، كتمثال من جليد! أسرع! أسرع! ظنَّها تجلس في براد، فتساءل: أيمكن هذا؟ أكل هذه المطاردة ولا تدري شيئًا عن المطاردة؟ أم أنها مخدرة بالحشيش؟ كان الأمر بالأحرى أمرًا غير قابل للتصرف مثل شيء لا يباع ولا يوهب، وقد غدت كريمة شيئًا من الأشياء. انقلب إلى الوراء يائسًا: يا لي من معتوه! كل هذا دون معنى، كل هذا دون جدوى، كل هذا لأنني أتصرف دون أن أفكر. أخذ يراقب شعرها الليلي، وأخذ يراقب وجهها القمري. كان السائق قد دخل زقاقات قديمة، وقطع أماكن غريبة، حارات لم يأت عصمت إليها في حياته مرة واحدة. همس: فلتستمر المطاردة! وهو في ظنِّه القول: فلتنتهِ المطاردة! لاحظ أن التاكسي يخرج إلى طريق رحبة، ويبتعد عن المدينة. كان حزينًا، لأن الهروب ما زال مستمرًا. إلى أين؟ إلى ذلك البيت الفخم. رأى كريمة تختفي داخله، فنزل بهدوء، ودفع للسائق، وهو يفكر في الاستدانة من أجل السفر. وقبل أن يدق على الباب، قرأ على لوحة محفورة بحروف من ذهب: مدام حرب! فغُشي على بصره، لكنه تمالك نفسه عن العمى، ودقَّ على الباب، فالجرس. بعد قليل، انفتح الباب، وظهرت في فتحته فتاة قصيرة، جميلة، بشعر قصير جميل، فاستبعد أن تكون الخادمة. قالت قبل أن يفوه بكلمة واحدة:
- سيدتي الآن في فراشها، فعد على الساعة التاسعة مساء.
قال:
- أنا أبحث عن كريمة.
أعادت الآنسة باستغراب:
- كريمة!
- الفتاة التي دخلت منذ لحظة.
- منذ لحظة؟
- منذ لحظة!
- لا بد أنك مخطئ، يا سيدي.
- دخلت أمام عيني، منذ لحظة.
- يجب أن أفتح لمن يدخل الباب، يا سيدي!
غضب، ولم يقل لها مع كريمة مفتاحها الخاص. أكَّد:
- رأيتها بأم عيني!
- أنت مخطئ، يا سيدي، فلم يدخل أحد منذ الصباح، زد على ذلك نحن لا نستقبل أحدًا في هذه الساعة، ولا نعرف أحدًا بهذا الاسم، أنا آسفة، يا سيدي!
أغلقت الباب، وهو حائر تماما. قرأ من جديد: مدام حرب! وتذكر: امرأة معروفة هنا! رنَّ الجرس مرة أخرى، وعادت الفتاة تفتح الباب، ولكن بحنق هذه المرة:
- أخبرتك أن سيدتي نائمة، وأن هذه الفتاة التي تبحث عنها لم تجتز عتبة بابنا، فمعذرة.
أعاقها عن إغلاق الباب:
- قولي لها إنني أتيت...
وتردد قبل أن يضيف:
- ... ولكنني لن أعود ثانية.
اختار حريته الفردية، فرديته الحرة، من أمام ابنة ((هوى))، وذهب، وهو يفكر: حبيبتي ملك كل الناس! ابيضت عيناه من الحزن، لأن لها سيدة، وسيدتها معروفة من كل الناس! هتف: أبدًا لن أشتريك! أبدًا لن أدفع ثمن ليلة معك! وعزم على العودة إلى البيت حالاً ليعدّ حقائبه، فساعة السفر كانت تقترب. فكر في القرية المنغرسة وسط أشواك الحدود، وصاح: يحيا الوطن! عن غير اقتناع.

9
صاحب نقل الحقائب إلى التاكسي بعض البلبلة، ولولا إعانة السائق والبواب لعصمت لما استطاع أن ينقلها وحده. أبدى البواب أسفه لعصمت عدة مرات، ولكن عصمت كان مشغول البال بأمر آخر: ماذا لو اتصل بمدام حرب هاتفيًّا، وطلب أن يتكلم مع كريمة؟ كانت المرأة نقطة ضعف أمام اختيارات الحياة. رفع يد الهاتف، وطلب الرقم الذي وجده في الدليل، ولكن أحدًا لم يجبه. كرر طلب الرقم عدة مرات دون أن يحصل على جواب، وعندما زحف إلى أصابعه اليأس، أمسك بصوت نسائي:
- آلو!
- آلو! من تتكلم؟ مدام حرب؟
- مدام حرب نائمة.
- أريد أن أتكلم مع كريمة.
- كريمة! أعتذر، يا سيدي، نحن لا نعرف أحدًا بهذا الاسم.
علت نبرة عصمت:
- من تتكلم؟
فانقطع الخط، وهو يواصل الصياح في الفراغ منفعلاً:
- آلو! آلو! آلو!
عندما استدار، وجد البواب بوجهه المحروث بالسنين يحدق فيه، وقد احتلته الحيرة. افتعل عصمت الجد:
- لم يبقَ شيء لنقله؟
- كل الحقائب في التاكسي.
أغلق عصمت الباب، وسلمه المفاتيح، فقال البواب الشيخ:
- سأرافقك إلى المحطة.
- لا، ليس ضروريًّا، ستتعب نفسك.
أعاد البواب كما لو لم يسمع:
- سأرافقك إلى المحطة، الحقائب ثقيلة، وربما لن نلتقي ثانية!
اندهش عصمت من مشاعر الشيخ القلقة، وقال بانفعال:
- لا تقل هذا!
ثم لنفسه: تسافر، فتكتشف أنهم كانوا يحبونك دون أن تدري! كان البواب إذن لا يلقي عليه التحية لواجب بل لعاطفة. بدا مصممًا على الذهاب معه إلى المحطة، وقبل أن يركبا في التاكسي، أخبره عصمت بأنه سيقتطع له النقود التي أدانه إياها من أول راتب قادم، ويبعثها له، فطلب الشيخ منه، وهو يأخذ مكانًا إلى جانبه، ألا يفكر في هذا، وأن يكتب له إن أمكنه ذلك.
- بالطبع سأكتب لك!
- وانتبه إلى نفسك جيدًا.
فاندهش عصمت من جديد:
- ممن؟
- من الجنود البيض.
أطلق عصمت ضحكة، وقال لنفسه: يريد أن يضيع عليّ أسعد لحظات حياتي! ولكنه طمأنه:
- سيكون كل شيء على ما يرام.
- انتبه إلى نفسك جيدًا على أي حال.
ابتسم، وسبح في خياله، والسيارة تأخذ طريقًا حتى الحدود، ويرى العصافير كيف تقيم في قلب الأسلاك الشائكة أعشاشها! التفت إلى وجه الشيخ المجمد في خوف الحدود، وازدادت ابتسامته اتساعًا.
عزم عصمت، وهو في المحطة، على أن يتصل بكريمة مرة أخرى، أن يحاول، فمن يدري؟ ربما وجدها! كان الإصرار الذي لا يريده، ولكنه كان ينجذب إليها على الرغم منه. ترك للبواب والسائق مهمة وضع حقائبه في العربة، وذهب ليهاتف، بينما بقي الهاتف أخرس رغم جهوده.
عاد إلى الرصيف، كان البواب يأتي وحده من الناحية الأخرى بعد أن ذهب السائق. أشار إلى عربة القطار الأولى، وقال:
- الحقائب هناك.
وعصمت يفكر في أنه لم يجد كريمة، في أنه لم يكلم كريمة.
قال للبواب:
- لقد أتعبتك!
- أبدًا!
- أشكرك كثيرًا لعونك.
- أكتب لنا.
كان يفكر أنه لن يكتب لكريمة.
- سأكتب لك.
- عد إلى رؤيتنا.
كان يفكر أنه لن يرى كريمة.
- سأعود. سنرى بعضنا.
صاحب البواب عصمت إلى العربة الأولى، وقال:
- لو كان سريعًا لما توقف في كل محطة.
- سأصل في النهاية.
- بالطبع ستصل في النهاية.
كان عصمت يفكر أنه لن يصل حتى كريمة، لن تكون المحطة الأخيرة.
قال:
- محطتي هي المحطة الأخيرة.
أخذ البواب يبكي:
- ستصل بالسلامة، إن شاء الله.
صعدا إلى العربة الأولى، ثم دخلا في المقصورة، فأشار الشيخ إلى الحقائب. كانت موضوعة على الرف، وقد أخذت مساحة كبيرة. قال البواب، وهو يمسح دموعه:
- سيساعدك أحدهم في نقلها عندما تصل بالسلامة، إن شاء الله.
- أشكرك كثيرًا! أزعجت نفسك بمرافقتي فوق كل هذا التعب الذي سببته لك!
- لا تقل هذا!
بدا على الشيخ التأثر، اقترب منه، وضمه. ابتعد قليلاً، ثم أدار ظهره، وذهب في عاصفة من البكاء.
بقي عصمت واقفًا في قلب المقصورة، أكثر من متأثر، بعد ذلك الوداع المثير الذي لم يستطع أحد غير البواب الشيخ القيام به. هو الذي لم يتوقع ذلك يومًا، لم يتصور ذلك أبدًا خلال كل تلك الأيام التي عرفه فيها. تمنى لو أنه كان يعرف ذلك من قبل، لفعل شيئًا، ولكنه مسافر الآن!
تذكر، بابتسامة ساخنة، رد فعل البواب في الحال عندما طلب منه أن يدينه بعض النقود، وكم أثر فيه ذلك.
رفع كم معطفه عن الساعة المقلوبة على معصمه، لم يزل هناك بعض الوقت قبل أن يتحرك القطار. وعند ذلك فكر في كريمة: ماذا لو أتلفن لها للمرة الأخيرة؟ خرج من المقصورة، وسار في الممر الضيق. نزل من العربة إلى الرصيف، واتجه إلى صندوق الهاتف، دخله، ووضع قطعة نقد، وطلب الرقم الذي حفظه عن ظهر قلب. لم يبال به أحد على الطرف الآخر! كان يتوقع أن يقول له أحد (( آلو ))، وكان يتمنى أن توقع الصدفة كريمة بين يديه، فتذيبه موسيقى صوتها، ولكنه كلَّ الانتظار: وضع السماعة، وخرج من صندوق الهاتف. عاد إلى العربة الأولى بين الجموع المودعة على الرصيف، والقطار رابض مثل تمساح طويل. استشار ساعته المقلوبة على معصمه، وهي تقترب ببطء من لحظة بدء الرحلة، بثقة، بقدرية. كان يتمنى أن توقع الصدفة كريمة في طريقه، قبل أن يقوم القطار، ولم يكن يريد لن تبدأ الرحلة الطويلة قبل أن تذيبه موسيقى صوتها. كانت رغبته الكبرى، هو، لم تذب! وجد نفسه يركض نحو الهاتف ليفاجأ برجل في عقده الخامس لا يبدو عليه الاستعجال. تلفت من حوله، فوجد صندوق هاتف آخر على بعد عدة أمتار. خفَّ إليه، ولكنه توقف، وامرأة في عقدها السادس تشغله معتمدة على عصا. نظر إلى ساعته المقلوبة على معصمه، لم تبقَ إلا دقيقتان على ذهاب القطار. انقلب إلى الصندوق الأول عائدًا في اللحظة التي رأى فيها الرجل الخمسيني يغادره. دخله، ورفع السماعة. وضع قطعة نقد، وطلب الرقم بعصبية، بينما كانوا في الطرف الآخر من الخط لا يبالون بالقطار الذي على وشك الرحيل، وفي الطرف الآخر، كان يدوي في الفراغ الرنين الرتيب. كان يدوي... يدوي... اجتاحت قلبه دوامة الرحيل والرنين الذي كان يدوي... ويدوي... وراحت أصداء الرنين تُسمع في اللحظة ذاتها السابقة للرحيل. كان الرنين يدوي... يدوي... أعلنت الأصداء أن الحنين عذاب، وأن موسيقى صوت الحبيبة، في الماضي كالحاضر والمستقبل، أشبه بأشعة الشمس الغنّاء! نظر من حوله، والضباب يتسلل في كل الجهات، والأضواء تنوء بالعتمة. قبض اليأس على قلبه، كغريق يسقط في حضن أخطبوط من العجين: مدام حرب! مدام حرب! مدام حرب! هذا اليأس الساحق لغريق على وشك الاستسلام. نسي كريمة، ولم يعد يذكر إلا أمرًا واحدًا: أنه لم يلعب الكرة يوم كان طفلاً إلا مرة واحدة. انطلقت صفارة القطار، وبدأ نعيب العجلات، والأنات، وانزلق الجسد الثقيل، وفي تلك اللحظة فقط، توقف الرنين، وأتاه الصوت النسائي:
- آلو! من يتكلم؟
كان القطار قد أخذ يبتعد بالتدريج، فأسقط عصمت السماعة، وانطلق يعدو على الرصيف، دون أن يكف ذلك الصوت الشيطاني بغرابة عن الترداد في عالم اللامعقول:
- آلو! آلو! آلو!
قفز عصمت ليتسلق العربة الأخيرة، ويذهب به القطار إلى الحدود البعيدة.

10
بذل عصمت جهدًا كبيرًا أثناء عملية التسلق تلك، والتي تأرجح خلالها في الهواء عدة مرات، ولكنه استطاع أن يتلافى خطر السقوط، وهي تمتد لانتشاله بعض الأيادي المسافرة. وليذهب إلى العربة الأولى، كان عليه أن يقطع كل العربات، واحدة تلو واحدة، ابتداء من العربة الأخيرة. كانت بعض الأيادى الأخرى ما زلت تلوح للمودعين، فقال لنفسه: تقول وداعًا! أو ربما، إلى اللقاء القريب! أمّا عن يده، هو، فقد كانت غائصة في الفراغ، ساكنة، بلا حياة. لم تكن كريمة هناك لوداعه، أوصدوا عليها الباب عند مدام حرب! ولم ينتظر البواب الشيخ حتى النهاية، يبدو أنه لا يحب ضباب الأرصفة. أحسَّ عصمت بالبرد، وتراءت له أطياف عالم عزلته القادم، فارتعش، وتمنى ألا تكون تلك الرحلة الأخيرة. باغتته الرغبة في الهرب، وهو يفكر في الوطن. تقدم من العربة الأولى، وهو يسارع الخطى إلى أن وصلها، وبقي الوطن يرتمي بعيدًا هناك قرب الحدود المتعذر الوصول إليها.
فكّر مرة أخرى في كريمة، وقال لنفسه: لم تودعني! لم أظفر منها بجملة واحدة! لم أظفر منها بكلمة واحدة! رفض الاعتقاد أن علاقته بها قد انتهت إلى الأبد، وأن القطار يخترق به الحقول صوب الحدود البعيدة، وأن الأمنيات تغدو عذابات سعيدة! تذكر البواب الشيخ، وهو يوصيه بأن يأخذ حذره من الجنود البيض، وفجأة، شم رائحة الحرب، وفجأة، شم رائحة الجمر، ورائحة الدم، شمَّ رائحة الوطن المجزوز الشعر، كالنعجة بعد أن وقع عليها قرار الذبح. شعر بالغبطة في ألم الذهاب، وشعر بالسعادة في مرارة الوداع، وفي عدم الإياب. صار قلبه لا يخشى إلا شيئًا واحدًا، الشعور بالألم الذي يشعر به كل واحد، الموت كالموت المهدد لكل واحد، الألم بفظاعة دائمة، الموت بوحشية مستمرة.
سحب عصمت باب مقصورته، فرأى أن هناك من يشاركه فيها. لم يخطر على باله قط أن تكون من تشاركه في المقصورة فتاة. فتاة جميلة في العشرين أو في الثانية والعشرين. دخل وأعاد غلق الباب. جلس مقابلاً إياها قرب النافذة. كانت تركز النظر على نقطة بعيدة في الليل عند القمم العالية، والتي يحاول القطار، وهو يخترق الحقول، جرها معه، ولكنها تبقى دومًا ثابتة. وضع يديه على ركبتيه، وراح يتطلع سرًا إلى الفتاة الصامتة: كانت صامتة صمت الساجي في تابوت! التفت مرة أخرى إلى حيث تركز الفتاة عليه نظرها، فرأى بعض القمم الثابتة، الممسوك بها بين أصابع الليل، في غابات الضباب المترامية. عاد يتطلع إلى الوجه الصامت، ونظر إلى العينين الزرقاوين، فلاحظ كالقمم الشامخة، كيف يلفهما الليل والضباب! استند بظهره على المقعد، وأعاد وضع يديه على ركبتيه، واستمر ينظر إلى الوجه الجميل، ويتابع الأنفاس المنتظمة. قفز على حركة مفاجئة للقطار، قبل أن يعود وينزلق على الخطين الحديدين انزلاقًا لا ينقطع، فنظر إلى ساقيها المطويتين بهدوء أبيض، مثل شجرة مثقلة بالثلج. بدأ يجرف عنهما بخياله الثلج، ويجردهما من الأوراق، ويحزر من تحت ثوب الكتان جسدًا مغريًا! لكن مثابرتها على الصمت قد ألجمت في صدره كل اضطرام، فالتفت مرة أخرى إلى القمم الضائعة في الليل والضباب، ثم إلى الفتاة، ورأى في عينيها قنديلين قديمين ينوسان. عينان حسبهما لن ترمشا أبدًا دون الطيران المفاجئ لبعض الطيور التي انزعجت لمرور القطار بأعشاشها. وما لبثت الفتاة-التمثال أن عادت تركز نظرتها على القمم البعيدة، فدسَّ يديه في جيبيه، وأغمض عينيه. حاول أن ينام، أن يهرب من الحقيقة، واستمر كذلك لبضع دقائق، ثم سمع زفرات عميقة، ممَّا جعله يسارع إلى فتح عينيه. كانت تبكي بصمت، وهي تدفن وجهها بين كفيها. وعصمت يراها تبكي بغزارة، حاول أن يحزر لماذا: ربما تذكرت لحظة الوداع أو مضت في رأسها ذكرى حزينة! أو ربما كان ذلك بسبب القمم الضائعة! أتاه صفير حاد، وعلا هدير العجلات، فأحس بالحزن وبالقلق، وعاد ينظر إلى وجهها. جعلته يفكر في فراشة مكبلة بالحديد! تمنى لو ترفع وجهها إليه، وتتكلم معه، لو تقاسمه الألم، فلا تتألم وحدها، لو تقول له سبب عذابها، فلا يغوص أكثر في قلبها نصل اللوعة، وتتحرر! لكنها بقيت تنهل دموعها بصمت وقوة! واندهش للنبع المصر على النضب، وهو لهذا دفع بمنديله إليها لتأخذه بحركة لا شعورية، ووجد نفسه يهمس، وفي صوته كل ما قدر عليه من عاطفة أخوية:
- هوني عليك! عند الموت لن نأخذ معنا شيئًا من هذه الدنيا!
جففت دموعها، ورمته بنظرة قلقة، حزر فيها قرفًا كبيرًا من الحياة، ثم أرسلت زفرة:
- آه، لو يريد الموت أن يأخذني!
حاول التخفيف عنها:
- من يطلب الموت في مثل عمرك يرتكب جريمة! أنتِ شابة، تتفجرين حيوية، والدنيا تفتح ذراعيها للشباب.
تمخطت، وتحكمت بدمعها:
- بل قل إنني عجوز!
نظر إليها بانتباه، فرآها، رغم أنها لم تعد تبكي، تتوقد عذابًا:
- أبسبب الرحيل كل هذا الحزن؟
- لا.
- كانت الأيادي الملوحة في القطار أو على الرصيف إشارة إلى الوداع عجيبة لروعتها!
- ولكنها لم تكن تضاهي روعة الأيدي المدفونة في الجيوب، الأيدي التي تعبر عن العجز.
- إذن، ذاك الذي يبكيك.
- لا.
استندت على المقعد، وضاعت بعينيها عبر النافذة من جديد: كان للضباب والليل طعم الموت. تمنى لو ينجاب الضباب في عينيها، وينبت العشب الأزرق.
قال بصوت منخفض:
- عندما تكون الرحلة طويلة، فما فائدة البكاء!
قبل أن يضيف:
- لم أكن أتوقع مشاركتك في المقصورة لي، كنت أعرف أن الرحلة طويلة، ولكنني لم أكن أتوقع دموعك.
- يحزنني الرحيل.
- أمن أجل هذا تبكين؟
- ليس هذا فقط.
- هناك سبب دومًا من أجله يكون الرحيل.
- هذا صحيح .
- وما أن نعد حقائبنا حتى يصبح الرحيل سببًا ثانيًا.
- هذا صحيح.
- أيضا ليس هناك شعور مرده الشعور، وحزن مرده الحزن، ودموع مردها الدموع، هناك دومًا سبب آخر .
- ولكننا لا نفكر في هذا أبدًا عندما نرغب في البكاء.
- أنت طيبة!
- وأنت كذلك!
نظرت إليه في عينيه، فرأى كيف غسل الدمع عينيها الشفيفتين.
ابتسم لها:
- لا بد أن يذهب الحزن يومًا، حتى الحزن العميق الجذور، لا بد أن يذهب يومًا.
سألت ما الحزن العميق الجذور؟ فأوضح:
- يكفي أن تنظري إلى أرض محروثة بالضباب، وتسمعي صفارة القطار في عمق الليل معلنة عن النهاية القادمة للرحيل، وصراخ الطيور الفزعة على أعشاشها من الهدم.
- ولكن الرحيل مستمر.
- إلى بلد آخر دومًا.
- ألا تحس بهذا لأنك فلسطيني؟
- لأنني أنا.
وساخطًا:
- فلسطيني... فلسطيني...
ثم انفجر ضاحكًا:
- الحدود لا تعني المحطة الأخيرة.
- ومع هذا، فهي المحطة الأخيرة.
- نعم، ومع هذا، فهي المحطة الأخيرة.
لم يجد شيئًا آخر يقوله، لاحظ كيف كانت تحادثه بعفوية، وبطريقة أخوية. نظر إلى ساقيها، ولم يندم لأنه كان يخون عواطفها.
تابع:
- إذا سلمنا بالأمر، فالحدود هي محطتي الأخيرة. بلدة صغيرة نقلوني إليها مؤخرًا.
فجأة، أضاءت تعابير وجهها كطفلة ضاعت، ووجدت طريقها:
- وجهتنا إذن واحدة!
- أنت ذاهبة أيضًا إلى الحدود؟
- نعم.
- مفاجأة!
- ويا لها من مفاجأة!
ابتسم، تطلع إلى خدها النديّ، وفكر: لا بد أنها ناعمة نعومة الحليب! وفي الخارج، كان الليل أشد عمقًا والضباب أشد سمكًا. سمعا مرة أخرى صرخات الطيور، فتمنى لو يصبح طيرًا ينقر لها شفتيها، وتمنت لو تصبح طفلة تقفز على ركبتيه. تركا نفسيهما يتأرجحان مع تأرجح القطار، ونظرا إلى الليل. أحسا بالعذاب، ورغم الليل، رأت في عينيه ضوءًا، لم يكن ضوءًا فقط، ولكنه كان ضوءًا! لم تمسك نفسها عن البكاء مرة أخرى، وما لبثت أن ذرفت دمعة، واعتذرت. أراد أن يجمعها من كتفيها، ويجعلها ترمي برأسها على صدره، ويتركها تبكي. منذ قليل كان البواب الشيخ، والآن هي. آه! ها هو يكتشف أنه ضعيف أمام الدموع. سمعها تقول:
- عندما كان يجرؤ على السير إلى جانبي، تحت أعين الناس المستنكرة، وهو يتظاهر بتأمل الليل، كنت أنظر إلى عينيه فأرى فيهما ضوءًا ليس ضوءًا فقط، ولكنه ضوء! كان يحتفظ بالأمل دومًا.
تساءل عصمت: هل ذكرتها به؟ ومع هذا ضوئي أسود، في عينيّ اليأس.
أوضحت:
- رأيت نفس الضوء في عينيك، وأنت تنظر إلى الليل، منذ قليل.
- إذن، دموعك كانت بسببه!
- إنه يضحك الآن!
قهقهت:
- وأنا أيضًا!
- ألأنك تتألمين؟
- لا، لأنه يضحك الآن!
بدا الكره في عينيها العاشقتين.
أضافت:
- ولأنكم كلكم تضحكون منَّا!
أراد أن تثوب إلى رشدها، فيقول لها: كيف يمكنك أن تكوني عمياء إلى هذه الدرجة؟! ألا ترين يأسي؟! ألا ترين ألمي؟! و... لأول مرة منذ أن رآها فكر في كريمة، وأطلق زفرة. تساءل أين يمكنها أن تكون؟ والقطار يبتعد باستمرار، ويبتعد، يبتعد باستمرار عن المدينة التي لم تزل قريبة، ويقترب باستمرار من القرية التي لم تزل بعيدة، والمدينة تبتعد أكثر فأكثر، والقرية تقترب أكثر فأكثر. في المدينة كانت كريمة، وفي القرية سيكون عصمت، ومدام حرب في كل مكان.
ألح:
- لا، أنت تقولين هذا لأنك تتألمين!
كانت على وشك البكاء من جديد، لكنها تمالكت نفسها عن النحيب عندما سمعت كلماته:
- أما أنا، فما عرفت الألم يومًا!
كان يكذب ليحفظ الصورة الزائفة التي لديها عنه، لتكون
((كاملة))، ولينخدع بها هو أيضًا. هكذا سيمكنه ربما احتمال الألم الذي سببته كريمة له.
تركت نفسها تنخدع، و... كما لو كانت تريد مضاعفة كُربتها:
- أكثر من صفة تجمعكما، يتأمل كلاكما الليل، فإذا بالليل في عينيكما نبع ضوء، وكلاكما لا يعرف الألم!
- ألهذا ترحلين؟
- لا، لأنني أحبه.
- ولأنه لا يحبك كما تتمنين!
- لا، لأنني أحبه!
كان عصمت يحب أيضًا كريمة، ولكن لا علاقة لرحيله بها.
- وهو أيضًا يحبني حتى الجنون!
أطرقت برأسها، ثم نظرت مباشرة في عينيه:
- أتعتبرني مجنونة لأنني أعترف؟
أراد أن يزيل كل أثر للشك من عينيها، فسارع إلى القول:
- أبدًا!
- إذن تقول كل هذا ليس معقولاً.
- أبدًا! أبدًا!
- نعم، الفتاة ليست عادية!
سكتت، وهو لم يزل يتابع أصداء كلماتها. فكر في الفتاة التي ليست عادية، وقال:
- إذا كانت الرحلة دومًا واحدة، فالمسافرون ليسوا أبدًا هم أنفسهم.
- نعم، فتاة ليست عادية!
- أو رجل ليس عاديًّا!
تأوهت:
- أنا لا أعرف نفسي!
أكد:
- إذا كانت الرحلة دومًا واحدة، فالمسافرون ليسوا أبدًا هم أنفسهم.
- مختلفون، أهذا ما تريد قوله؟
- وغير عاديين.
مما جعلها تقول:
- أنت رجل طيب!
- أرجو أن أكون طيبًا بما فيه الكفاية لتحكي لي قصتك.
نظرت إلى الليل والضباب، وقالت:
- تحاببنا منذ سبع سنوات، سبع سنوات طويييييلة، هل تدرك مدى ذلك، سبع سنوات؟ خلال كل ذلك الزمن لم أكلمه كلمة واحدة! أنت لن تصدقني، ومع ذلك إنها الحقيقة، أقسم لك. عرفت أول ما عرفت أنه يحبني عندما رأيت ذلك في سواد عينيه، قالت لي عيناه إنه يحبني، وابتسامته التي كان يرميها لي من بعيد، وحتى حركة رأسه التي كانت تدعوني إلى حفلة أحلام أراه فيها فتى حياتي الوحيد!
تأوهت:
- ولكنني عزمت على الابتعاد عنه بعد أن اكتشفوا حبي له.
وكما لو كانت معلقة على جدار الرعب:
- لما عرف أخي، أغلق عليّ الباب، وتقدم نحوي بالسكين، ولكنهم حطموا الباب، وأنقذوني في اللحظة الأخيرة. كان أخي يعرف أنني أحب أحدهم، ولكنه لم يكن يعرف من. طلب مني الاعتراف، لكنني رفضت، وبقي اسمه سري! من يومها، وأنا أتحاشى عينيه، والبحث عن الضوء الغريب فيهما. لم تكن لدي حرية الموت. قال إنه يريد أن يتزوجني بعد أن يتخرج...
- ماذا يدرس؟
- هندسة.
- الهندسة مهنة لا بأس بها.
- قال إنه يريد أن يتزوجني بعد أن يتخرج...
- ولماذا إذن هذا الرحيل؟ نعم، لماذا؟ لن يبدل هذا من الأمر شيئًا.
- وعلى الخصوص إذا صار سكين أخي أداةً لقدرٍ رهيب! كنت أخشى خلال انتظاري لحبيبي أن يكتشفوا هويته، أتدري ما معنى أن يكتشفوا هوية حبيبي؟
- الدم رخيص في بلدنا!
- لهذا، حتى ولو كنت أحبه، أبتعد عنه.
بدت خاضعة لقدرها، أشفق عليها، وأراد أن يخفف ألمها قائلاً: لا بأس في ذلك! الحياة هكذا! الحب عذاب! نجوت بنفسك من موت محقق! فكّرَ في الجنود البيض الذين أوصاه البواب أن يأخذ حذره منهم، واتضحت الفكرة لديه: موت آخر مختلف عما حدثته عنه، موت الرصاصة الجسورة التي تتحدى كل الأبعاد والتي تخترق الحدود البعيدة. ابتسم منهيًا: أية أمنية رهيبة!
أبطأ القطار، واقتربت بعض الأضواء المنسحقة في الليل والضباب من النافذة أو ابتعدت كلما أنهى القطار توقفه على الرصيف الطويل. رأيا أناسًا ينزلون وأناسًا يصعدون، فقالت:
- إنها محطة.
- إذا ما توقف القطار فهي محطة.
- إنه يقف الآن.
- الناس عابرون، بعضهم يأخذونه وبعضهم يغادرونه.
- وسيعود إلى السير بعد قليل.
- نحو محطة أخرى.
واستدعى ذكرى:
- دعيت مرة إلى أن أكون بطلاً، فلم أرفض ولم أقبل.
لم تفهم، رغب في أن يحكي لها عن عادل، كيف دعاه مرة إلى الانخراط في حزبه، وكيف بعد أن طلب منه أن يعطيه وقتًا ليفكر في الأمر، ذهب، ولم يعد ثانية.
وبعينين تومضان فجأة، سألت:
- بطل؟
- لكنني لم أفكر أبدًا في أن أغدو بطلاً ذات يوم.
سكت، وعاد إليه قلقه. تركها تتابع الناس الذين نزلوا، والناس الذين صعدوا، مع أن الليل كان كثيفًا. أراد أن ينام، فأغمض عينيه. فكّر في عادل، وفي كريمة، وفي مدام حرب. وفكّر في السكين الذي كان يرفض الحب، والذي كان يفعل كل شيء ليمنعه، الذي كان مستعدًا حتى لارتكاب جريمة: نحن في حرب ولا ندري! أغفى، وحلم بها، بمن تشاركه في المقصورة. كانت تتبادل مع حبيبها رسائلهما البريئة: كانا يتركان الرسائل تحت حجر، على طرف الطريق، فيأخذانها بأصابع مرتعشة تقمعها العيون. أوضحت له: كنُّا صغيرين للغاية، ولكننا كنا نعرف كيف نحب، وكيف نعبر عن شوقنا بنظرة تمر رغم آلاف الأنوف. قال لها: كبارًا كنُّا أم صغارًا تبقى القلوب واحدة! اعترفت له بأنها تحتفظ بالرسالة الأولى. ابتسم، وعبس، ثم ابتسم من جديد. لم يعد يحلم. انسحب باب المقصورة، وظهرت امرأة بدينة في عقدها الخامس، تلف رأسها وكتفيها بوشاح صوفي طويل. تكوَّم عصمت في زاوية المقعد تاركًا لها باقي المكان لتتصرف فيه بحرية. التفت إلى الفتاة، وهمس:
- قولي لي اسمك قبل أن تمتلئ المقصورة .
ابتسمت بحذر، وهي ترمي النظر إلى المرأة البدينة، وقالت بصوت منخفض:
- اسمي مني.
- منى؟ ما أجمله من اسم! فلتتحقق كل مُنانا!
- وأنت؟
- عصمت، من العصمة أو شيء كهذا.
- العصمة!
- أو شيء كهذا.
- العصمة أحسن ما يمكن المرء الحصول عليه من نفسه، كما يقول كاتب كبير.
- القوة الأخلاقية. مع الأسف لست أخلاقيًّا كثيرًا، وأقل منه واعظًا في الأخلاق. وماذا تعملين؟
- معلمة، وقد تم نقلي بناء على طلبي.
ارتفع صوته للمفاجأة:
- نحن إذن زملاء!
نبهته إلى وجود المرأة، فأعاد بصوت منخفض:
- نحن إذن زملاء! وهذه مفاجأة لي!
- ولي أيضًا، هذه مفاجأة حقًّا! مفاجأة أخرى، وما أكثر المفاجآت!


11
أطلق القطار صفارته إيذانًا بإتمام الرحلة، فأغمضت المرأة البدينة عينيها، وذهبت أول ما تحركت العجلات في نوم عميق، ثم ما لبثت أن راحت تطلق شخيرًا متقطعًا، وكأنها لم تذق طعم النوم منذ مدة طويلة. أشار عصمت إليها بحركة ساخرة من رأسه دفعت منى إلى الضحك بخفوت، فملأت الشهوة خاصرتيه، ثم ضجيج القطار أذنيه. فكر فجأة في أنه يتقدم على خطين متوازيين يمتدان إلى نقطه معلومة، وأن الفتاة التي تجلس من أمامه ليست أية فتاة بل منى، تلك المنى التي جعلت من سكين أخيها المهدد قدرها.
بدأ يتفحصها من جديد، ولكن في الوقت الحاضر دون ضيق، فماذا يعني الاحتشام في رحلة المساء الطويلة؟ أراد أن يقتحم عليها الوضوح، ويجعل من نقائها وصمته الوحيدة، أراد أن يقتحم عليها الطهارة، والثقة، ويجعل من عنائها عذاباته العنيدة، أراد أن ينقذها من الخضوع، ويفتح أبواب عوالمها الحميمة. أحقًّا بعد السفر يكون الحنين، وبعد الحنين يكون السفر؟ لا بد أن نقترب من بعضنا بعد كل هذه المُسارّات، فلم إذن كل هذا البعد؟
نظر في الليل، ثم في عينيها المقتَحَمَتين بالليل، وقال لنفسه: كانت صريحة معي كطفل غادر عالم الكبار! دوت صفارة القطار، فارتعشت، وأغلقت مثله على الليل جفنيها. نامت بينما بدأ عصمت حفلته الخيالية مجتاحًا دون مشقة عابرًا بحرية ذلك الجسد العاري، نعم، ذلك الجسد العاري! فخذاها المصبوبتان بالأشواق، ونهداها المجبولان بالآهات، ولهيب الخصر!
سال لعابه رغبة فيها، فنهض، وقفز خارجًا. دخل المرحاض، وأحكم من ورائه الباب. وجد نفسه في حجرة لا تزيد مساحتها عن متر مربع، أحسَّ باهتزازات القطار قد حوصرت في المساحة الضيقة، وأعادته إلى نفسه صدمة أقوى من غيرها، فشدَّ قدميه في الأرض جيدًا، ورأى أن له وجهًا ينتفض في المرآة. تأمل وجهه، فوجده بشعًا، لا تناسق فيه، وصار يمقته. أخرج من جيبه مشطًا، وحاول تسريح شعره، والهزات تزداد أكثر، والهزات تقوى أكثر، وتكاد ترميه أرضًا. شدَّ قدمه في الأرض جيدًا، ودفعة واحدة، فك حزامه. كان القطار يندفع على الخطين الحديديين إلى النقطة المعلومة، وكان ينتفض، وكان ينتفض. زلق سرواله، وأحس بدغدغة في ساقيه بسبب الاهتزازات، وفجأة انقلب إلى الأمام، وضرب رأسه في المرآة. تمكن من الاعتدال، ودس يده في لباسه. قبض على عضوه محاولاً تخفيف الاهتزازات. كان كل شيء يهتز، كان كل شيء ينتفض، كان القطار ينتفض، كان ينتفض... كان ينتفض... كان يهتز. كشفت حركة مباغتة عن فخذي منى، فالتصق بها حتى ملأ بها حضنه، والقطار ينتفض دومًا، ينتفض، وشيئًا فشيئًا اجتاحته اللذة. انفتلت بين ذراعيه، فأخذها من نهديها، والتصق بها أكثر، ثم سقط على ركبتيه. راح يطبع قبلاته على فخذيها قبل أن يلقيها أرضًا، والقطار بضجته العظمى يندفع أكثر، والقضيبان الحديديان قد تجاوزا نقطة الوصول، وراحا يمتدان إلى ما لا نهاية، إلى ما لا نهاية، نعم، إلى ما لا نهاية، يمتدان إلى ما لا نهاية، ولم يعد بالإمكان رؤيتهما. جثم عليها، ثم صفر القطار...
* * *
عندما خرج عصمت من المرحاض، واجهه فتى قصير القامة تتربع على شفتيه ابتسامة صغيرة، فقال لنفسه: لا بد أنه فهم. خفض عينيه، وما التفت إليه إلا وهو في وسط الممر، كان الفتى قد دخل المرحاض، وسمعه يحكم إغلاقه. فكّر: سيمارس الأمر بنفسه! مما جعله يرتاح، رغم شعوره بالاكتئاب. نظر إلى ساعته المقلوبة على معصمه، فوجدها تشير إلى منتصف الليل وعدة دقائق. تمنى لو تشرق الشمس، الشمس، تشرق الشمس. كان على وشك التوعك، الغثيان، جيشان النفس. تمنى لو يضاعف القطار سرعته لأجل الوصول في أقرب وقت، وقف قرب نافذة في الممر، وفتحها: ساطت وجهه الأنسام الباردة، وشيئًا فشيئًا، أخذ القطار يخفف سرعته، وأخذت بعض الأضواء الخافتة تقترب أو تبتعد إلى أن توقف القطار. نزل أناس، وصعد أناس، وعاد القطار يسير مرة أخرى نحو النهاية.
بقي عصمت في مكانه طويلاً قرب النافذة، وهو يستنشق الهواء، إلى أن ذهب عنه توعكه. عندما سحب باب المقصورة، ظن للوهلة الأولى أنه وقع في خطأ، بقدر ما اكتظت بالمسافرين. رأى بعد ذلك منى، وقد حُشرت قرب النافذة. كان هناك أب وأم وتسعة أطفال بينهم رضيع، وعجوزان جالسان إلى جانب المرأة البدينة، فكأنهما عودان إلى جانب جميزة! بقي متجمدًا للحظات، واحتار أين يجلس، وقد احتل مكانه الأطفال، والأب والأم لم يرفعا إليه عينيهما، متجاهلين إياه. أشارت منى إلى مكان ضيق قربها، أتاه متعثرًا بأقدام الأولاد والحقائب والسلال، وانتهى به المطاف إلى الجلوس دون أن يرتاح.
همس عصمت:
- ولكنهم يخنقوننا!
وبعد قليل، قال لها في إذنها:
- سأدفع العجوزين قليلاً.
أخفت ضحكتها خلف أصابعها، وهي ترى كيف انزلق العجوزان خفيفين تحت تأثير دفعة يسيرة من كتفه.
قال عصمت وقد انفرجت أساريره:
- يمكننا أن نرتاح قليلاً الآن!
رفعت رأسها لتتأمل الليل والضباب، وقال لنفسه: لا تتعب أبدًا من الظلام! ألقى بدوره نظرة إلى الليل، فلم يرَ شيئًا. استدار ناحية الأطفال، وراح ينظر إليهم واحدًا بعد الآخر، ليحزر في العتمة اختلافهم وتشابههم، والأب يراقب الجميع (( بسلطة )). بدا له الأمر غريبًا: كان الأولاد يتحركون كما يشاؤون، ويتكلمون كما يشاؤون حتى أن بعضهم كان يجرؤ على النظر إلى الأب دون مبالاة! سره ذلك. عاد إلى الليل، يرمي إليه النظر، ويفكر في العيون السود التي لا تخاف من شيء. تمنى لو كانت له عينان مثلها، وهو طفل، وبحث عن طريقة يعوض فيها شيئًا مما فقده. تذكر غناء ذلك الصبي المُجلي لمجانية الفعل وشيئية الفاعل في آن، فراح يعيد الغناء بصوت خافت:

طال ليل الليل
في الشتاء الكبير
فغنى
صاحب العش الصغير
وغنى آخر ليل فلا
آخر صبح بعد ذاك الليل الأخير

تركت منى الليل إليه، شبه واجمة، فقد كان لعصمت صوت جميل، ولكلماته أثر آخر غير ما تفعله عينا الأب (( المعنفتان)). نظر إليه الأطفال مسحورين، تملأ عيونهم الدهشة. لم تكن الدهشة نفسها التي لمنى، ولكن كانت لسحر الكلمات والصوت عليهم سلطة من نوع آخر. أحسها تزلق في جلستها حتى لامسته، وفهم أن صبوتها إلى الدفء الجسدي هي السبب، وإلى الشهوة الحسية: ألم تكن له أكثر من سمة مشتركة مع حبيبها؟ ارتفع صوته بالغناء:

وغنى
صاحب العش الصغير
وإلا
طال ليل الليل وما
عاد سرب العصافير
وإلا
طال ليل الليل وما
عاد سرب العصافير

الكلمات. الكلمات لم تكن شغل الكبار فقط. أغمض الأطفال عيونهم بعد أن ابتسموا، واستمر عصمت يدندن حتى أغمض بدوره عينيه. ودون أن يكون ذلك مرامه، استطاع ما لم تسطعه السلطة البطريركية على الجميع. نهض الأب، وأطفأ الضوء، فالتصقت ساق منى بساقه، متوترة، وهي تبحث عن الحب مع إيقاع القطار. بكى الطفل الرضيع، ففتح عصمت عينيه في اللحظة التي فكَّت الأم فيها أزرار ثوبها، وأخرجت ثديًا عامرًا ألقمته الفم الجائع بسرعة. نظر إلى الثدي الفخم كلما انكشف في العتمة، وتابعه بين الأصابع المطوقة له من كل ناحية. دخل في التراكم، والساق العصبية قد بدأت تلين على ساقه، وأحس بالثراء. ندَّت عن منى آهة، وهي تواصل الاقتراب منه. حدق عصمت في الثلج الأسود، واستنشق رائحة كريمة المبتلة بالماء ورطوبة رواق قديم، فاستدار على جانبه برخاء، وفكر: أبدًا لن أصل إلى مدام حرب! ومنى تواصل الاقتراب منه. دخل القطار فى قنطرة، وفى الوقت نفسه، أكملت منى اقترابها منه. صارت كلها في حضنه، وجعلت حركةٌ للقطار مباغتة رأسَها على صدره. تضاعف أثر الرطوبة، وتضاعف عمق البرودة، فالتهب رغم كل ذلك الجليد، وبدأ يمارس فعله اللاحر في فصلين معًا، فصل الصيف، وفصل الخريف. تركت نفسها تهتز مع اهتزازات القطار المتواصلة، مع الاهتزازات... مع الاهتزازات... مع اهتزازات القطار المتواصلة. لم تعد في المقصورة سوى حركة واحدة، حركة متحدة. طوى أصابعه على أعلى ساقيها، ولكنها بقيت تتحرك باستمرار. انتفضت فجأة، ثم صفر القطار...
* * *
توقف القطار، فأشعل الأب ضوء المقصورة. اعتدل عصمت ومنى فى جلستهما بلياقة، وتثاءبا. نزل أناس، وصعد أناس. وما أن تابع القطار طريقه حتى أطفأ الأب الضوء من جديد، وعادوا جميعًا إلى النوم. بعد وقت قليل، فتح عصمت عينيه على دمعة تسقط من عيني منى، فسألها فى أذنها إذا كان ذات السبب الذي جعلها تبكي فى أول الرحلة. لم تجبه، وتركته يمسح لها عينيها. أشار إلى جهة فى الليل، وهمس لها:
- الضباب يزداد كثافة!
بدا الضباب كجبالٍ تتأرجح قرب النافذة. أضاف:
- من الممكن أن يقع حادث.
خافت، ولكنه طمأنها:
- لقد قطعنا نصف الطريق.
ولم يشأ أن يقول لها: لم يزل نصف آخر! تفاجأ من نفسه وهو يقول:
- ابتداء من الآن سنصعد شيئًا فشيئًا حتى الحدود. لا عواصف هناك فى المناطق العالية، لكن البرد يقص الحجر!
- لدي معطف من صوف.
- هذا حسن.
وبعد لحظة:
- علينا أن نحاول النوم.
أغمض عينيه، وذهب فى نوم عميق. أدهشها أنه لم يتحرك، لم يفتح عينيه عندما كان القطار يتوقف لينظر إلى الصاعدين أو النازلين من الركاب. كلما اقتربوا من الحدود قلَّ الصاعدون، وكثر النازلون. كان الفجر يصعد تدريجيًّا، وكانوا يتقدمون فى غيمة من الرماد، عالية علو القمم السرابية، يبدو عليها أنها لا تريد أبدًا التوقف عن السقوط، مدى الدهر.
فزع عصمت من نومه على صفير القطار الممزِّق، بينما يتقدم النهار تعبًا من بعيد، والضباب يوحي بألف لوحة. توقف القطار، واستطاع أن يقرأ من النافذة اسم القرية التى يقصدها على مأطورة مكسورة. كانت منى تنام قربه، والمقصورة فارغة. أيقظها، حمل حقائبه وحقائبها، وخرج بها إلى الممر، ثم وضعها على الرصيف. عندما غادر القطار، وجدا نفسيهما وحيدين على طرف العالم. حملا الحقائب إلى داخل المحطة، والصباح الكامد يغطي المحطة، فيزيد من انطباع العزلة لديهما، وأصبح الضباب عبئًا رهيبًا!
قال عصمت وضجة القطار تتلاشى خلف الجبال:
- كنت مع هذا واثقًا من أن القطار لن يذهب أبعد.
افترضت منى:
- لربما يعبر الحدود.
- لا، تمنعه الأسلاك الشائكة.
- إذن يعود من حيث أتى.
- بلا ركاب؟
- سيجدهم فى الطريق.
أزعجه ذلك، أن يجدهم هو لا أن يجدوه هم.
بدا حائرًا للمحطة المنعزلة، وللصباح الكامد. حاول أن يأخذ نفسًا عميقًا، فلم يستطع من شدة البرد.
تساءل عصمت:
- كيف بإمكاننا الذهاب الى المدرسة؟
- من المفروض أن يكون أحدهم بانتظارنا.
- أرى أنك تعبة، فاجلسي.
- لا.
كانت تعبة من البقاء جالسة، ففضلت الوقوف. ذهب عصمت ليطل من خارج المحطة، فوجد نفسه على الرصيف من جديد. تقدم ضوء أحمر مخترقًا سمك الضباب، وما لبث أن ميز خيالاً لرجل يحث الخطى مقتربًا، وفى يده قنديل. وهو على بعد أمتار من عصمت، حيّاه بحرارة:
- أسعد صباحك، يا سيدى!
- أسعد صباحك!
- كان عليّ أن أنتظر ذهاب القطار من أجل وصل الخطوط، لهذا تأخرت عليك قليلاً. أنا مأمور المحطة.
- أهلاً وسهلاً!
- أنت المعلم الجديد؟
- أنا المعلم الجديد.
- وأين الحقائب؟
- جميعها فى الداخل.
- سنذهب رأسًا عند المدير، كما هو متفق عليه.
في الداخل، قال مأمور المحطة:
- من المفروض ألا تكون وحدك.
وأضاف وهو يرى منى:
- نحن بانتظاركما أنتما الاثنان.
سلم على منى، وأوضح أنهم لو بعثوا إليه بمن يساعده لما جعلهما ينتظران دقيقة واحدة. وعدوه بذلك منذ مدة طويلة، لكن وعودهم هواء لا يكلفهم شيئًا! وهو يستمع إلى مأمور المحطة، كان لعصمت انطباع من يضرب رأسه في الصخر. نظر مأمور المحطة إلى الحقائب، وقال سينقلونها على دفعتين، لأن له سيارة صغيرة، وسينقلون أولاً حقائب الآنسة. كانت سيارته فولكس فاكن بالفعل صغيرة، ومع ذلك تعجبا لعدم نقل كل الحقائب، فنصفها بقي فارغا. طمأن مأمور المحطة عصمت، وقال إن المحطة أمان، وسيعود حالاً من أجل حقائبه. وهم فى السيارة، قال لهما مأمور المحطة إن البرد شديد! ولكنه اندفع يؤكد وهو يقهقه أنهما لن يلبثا أن يعتادا على الجو.
والسياره تقفز بهما فى الطريق الضبابية، سمعا بوقًا بدائيًّا آتيًا من قلب الحقول، تبعته طبول رتيبة، فأوضح مأمور المحطة:
- هذا من أجل أن يصب المطر، إن شاء الله، الحقول ((المعلقة))، هكذا يسميها الناس، تحترق من البرد، والضباب لا ينقشع!
قال عصمت لنفسه: لا بدَّ أنها عادة قديمة، عادة وثنية تخاطب آلهة وثنيين! بدأت أفواج من الفلاحين المنفيين تعترضهم، وهم يشقون الطريق المعاكس: كانوا ينبثقون من بين أشرعة الضباب فجأة، ويختفون فجأة. مرَّ بعضهم بعرباته وبغاله وأحماله، وعصمت يتابع الوجوه العاجزة بغضب عاجز. حَسْبَ مأمور المحطة: تلفظهم الأرض، فيرحلون إلى المدينة، وتلفظهم المدينة، فيرحلون إلى مدينة أخرى. كان يقول ذلك بلامبالاة كلية.
لم تتمالك منى نفسها عن القول:
- فى البرد! ومشيًا على الأقدام!
- القطار يكلفهم غاليًّا.
وعصمت يتابع الوجوه العاجزة بغضب عاجز، وعصمت يتابع الوجوه العاجزة بعجز غاضب: ليس ذلك بسبب الأرض! سقطت السيارة فى حفرة ثم قامت بصعوبة، فاعتذر لهما مأمور المحطة:
- الطريق محفرة، حفرتها دواب الفلاحين وعرباتهم.
وكما لو كان يرى سرابًا، امتلأت عيناه بالأمل:
- قريبًا جدًا ستعيد البلدية تعبيد الطرق كلها.
ثم بحماس جدًا:
- ستعجبكم الإقامة هنا، وبعدما يمضى الشتاء، ستكتشفون الجنة فى بلدنا! عدا عن ذلك، الناس يقدسون المعلم!
ودوى نفير البوق البدائى مرة أخرى.

12
توقفت السيارة وسط بعض البيوت التنكية التى توحي بثكنات الجنود، فأوضح مأمور المحطة فى الحال إنها كانت فعلاً ثكنة، وثكنة مهجورة سنوات طويلة قبل أن تصبح مدرسة. قال: إن المدير ينام فيها، وجعلهم المدير ينتظرونه طويلاً قبل أن يأتى لاستقبالهم.
خلال ذلك، كان مأمور المحطة قد ذهب ليأتي بالمعلمة وداد التى تسكن هى الأخرى فى المدرسة. عرّفها على عصمت ومنى، وقال لها إنهما سيخففان عنها شيئًا من العبء الذى تحمله وحدها. شم عنها عصمت رائحة الجماع، فاحتار، وسألها عن عدد التلاميذ الذين هم لديها: حوالى المائة، وأبدت منى دهشتها:
- تقومين بتدريس مائة تلميذ وحدك!
أجاب مأمور المحطة بدلاً من المعلمة:
- نعم تقوم بتدريس مائة تلميذ وحدها، وبين وصول قطار وآخر أساعدها فى بعض الأحيان.
أضافت وداد:
- وللعلم إنه أستاذ ماهر!
فسرَّه ذلك كثيرًا.
دخلت وداد مطبخ المدير دون أية كلفة، وأعدت لهم قهوة ساخنة، شربوها مع بعض الخبز المحمص. تأكد لعصمت، وهو يشم رائحة القرية فى الخبز، أنه بعيد الآن عن المدينة، بعيد عن كريمة. نظر من النافذة إلى الضباب السميك، وفكر فى الفلاحين الراحلين إليها، إلى المدينة، داخل الحدود. بدّد كل ذلك فى نفسه العزيمة، فراح يفكر: يا ليت فقط لو تقوم الحرب الآن! وجذبته من أفكاره ضحكة مأمور المحطة وكلماته التى تمتدح قهوة وداد.
فجأة، سمعوا صراخ بعض الأولاد والحيوانات، واستطاعوا أن يروا من النافذة عددًا منهم. اقترح عصمت الذهاب لإحضار حقائبه ريثما يأتى المدير، فأجاب مأمور المحطة أن المدير سيكون هنا بين لحظة وأخرى، وأعاد بأن المحطة أمان، ولا داعى للخوف إذا ما تأخروا قليلاً. سيحضر الحقائب بعد أن (( يسلمهما )) للمدير هو بنفسه، فهما أمانة فى عنقه! أطلق ضحكة، كان كالثور المحنط الذي ترك قدره من ورائه، ولم يبد عليه الاستعجال. نهض، وأخذ فنجانًا آخر من القهوة. قالت وداد إن عليها الذهاب بسبب التلاميذ، وفى تلك اللحظة، ظهر المدير. كان شابًّا فى الثلاثين، محمر الوجنتين، قصيرًا، متأنقًا.
كان وجهه يزداد احمرارًا كلما تكلم، ومن ذقنه تنبعث رائحة صابون الحلاقة. سأل إذا كانوا قد أخذوا قهوة، ومع ذلك، طلب من وداد أن تعد أخرى، فأطاعت كالفقمة البرية التي اعتادت على بيئتها الجديدة، ولم تذهب وداد إلى تلاميذها. بدا المدير طيبًا، متساهلاً، متسامحًا، على عكس ما تدعيه المفتشية.
بعد أن شرب المدير قهوته، ودخن سيجارته، وتفحص طويلاً المعلميْن الجديديْن، كشف أن منى ستعمل مع وداد، أما عصمت، فسيعمل فى الفرع التابع للمدرسة. ستنام منى مع وداد، وعصمت مع مأمور المحطة.
ضحك عصمت نصف ضحكة، وقال:
- لا تقل لي بأننى سأنام فى المحطة.
- بلى.
أمام اغتياظ عصمت أمام اللامتوقع، وعجزه عن فعل شيء، قال مأمور المحطة:
- تعرف الآن لماذا تركت حقائبك هناك؟
تمتم عصمت مخيبًا:
- نعم.
وقال لنفسه: آخر ما كنت أتصور أن تنتهي حياتى فى محطة كالقطارات المتعطلة أو المتوقفة توقف الطارئ والآني إلى ما لا نهاية! أصابه عناء مفاجئ، فلاحظ المدير ذلك:
- لا بد أنكما تعبان، وأنتما بحاجة إلى الراحة.
أعطاهما إجازه يومين، وطلب من وداد أن تصطحب منى، ومن مأمور المحطة أن يصطحب عصمت. لم يسأل عصمت أين مكان عمله، ركب سيارة مأمور المحطة التى لم تتوقف عن السعال، واختفى فى الضباب من جديد.

13
دوى نفير البوق البدائي بقوة، ففزع عصمت من نومه، ووصله قرع الطبول الرتيب. فهم أن الصباح يتقدم بعيدًا في مساره، إلى اللاجدوى.
نظر من النافذة إلى صباح الضباب، علّه يقع على بعض المنفيين، ولكنه لم يقع على شيء، كان العالم يضمحل فى الضباب اللازب. تذكر عند ذلك قول مأمور المحطة: تلفظهم الأرض، فيرحلون إلى المدينة، وتلفظهم المدينة، فيرحلون إلى مدينة أخرى! قال عصمت لنفسه لا، الأرض لا تلفظ عاشقها! أطلق الحرية للمعرفة، فأراد أن يعرف معنى العشق، ذلك العشق، بعيدًا عن كتب الفلاسفة والمريدين، أن يشمه، أن يترك بدنه يتسلل فيه كالضباب فى الشقوق، كان ذلك ضربًا من جنون الفكرة، ولكن. فكّر فى أنه على مرمى حجر من الوطن الضائع، على مرمى حجر من الوطن القابع فى الجهة الأخرى من لعنة الضباب، وهذيان العقل. تذكر عادل، وحرية التصرف، حرية لم تكن موجودة إلا في الذهن، وعدم تحمل مسؤولية شيء، وهمهم: يا لها من تجربة! تخيل المنفيين، وهم يغيرون الطريق، يشقون الأسلاك، ويذهبون إلى حيث يجب عليهم أن يذهبوا، ولكنه ابتسم بأسى، كان كل ذلك استيهامًا، نوعًا من الاستمناء الوطني. وانطلق البوق البدائى يدوي مرة ثانية، وهو دومًا فى الضباب لا يرى شيئًا.
ابتعد عن النافذة، وأخرج من خزانة ذات جوارير قديمة ثيابًا نظيفة ارتداها. اتجه إلى مغسلة بلون القرميد، من فوقها برميل تنكي صغير ذو صنبور عتيق، وغسل وجهه وشعره. لم تكن فى الغرفة مرآة، فعزم على أن يشتري واحدة. فجأة، أتته صفارة القطار، وسمع هدير عجلاته. ابتسم، كان قد وصل بالأمس، وصارت لديه اليوم رغبة في السفر، فأحس بالضيق. ارتدى حذاءه الأبيض ومعطفه الأسود، وخرج إلى الريف ليمشي. ألم يعطه المدير يومين إجازة؟ فليسر إذن! بدأ الضباب يرتفع، ولكن البرد كان شديدًا. سار، وبحث عن المنفيين، وصفر القطار مرة أخرى، ومضى من ورائه، وكل الكون الذي تركه كان من ورائه. رأى كيف تحترق النبتات المطأطئة الرأس في جوف الأرض، وبدت الأثلام له جديدة، غريبة مع كل ذلك الجو الموغل في القِدَم، وكأنهم شقوها العشية!
دوى نفير البوق البدائي من جديد، فبحث بجهد عن مكانه، وفكر أنه يأتي على التأكيد من فوق هضبة. حث خطاه، والبرد يسليه بشكل متناقض. راقب بحِبور من يراقب شكلاً لا شكل له ارتفاع الضباب مع عبوره، ووصله خوار بقرة عجوز صدئ ونباح كلب ضائع منذ الأزل. كانت أمنيته أن يذهب إلى الأسلاك الشائكة، أمنية وحشية لا شأن لها بهذيان المعرفة أو العلم، وأن يقبض عليها بيديه، فقط أن يقبض عليها بيديه. وبدافع حبوره الغريب فكّر في شيء آخر، فكر في كريمة، التي لا بد أنها كانت نائمة بعد في تلك اللحظة، تنعم في دفء فراشها الوثير. لم يغبطها، بل لامها لأنها لم تعش مثله تجربة البرد هذه، تجربة من نوع اصطياد الوعول القطبية قبل الوقوع عليها، تجربة الوهم على الرغم من كل طابعها الملموس. أتاه قرع الطبول الرتيب، وهبت في فمه عاصفة من الكلمات: فليعل الضباب! فليسقط المطر!
قهقه، وراح يجري من شجرة إلى شجرة، ومن ظن إلى ظن، وسحق في الإثلام بعض النبتات المحترقة، وبعض القامات المُغَيّبة. نظر إلى الأغصان العارية، فرآها تتساقط مستسلمة في أحضان بشر سرياليين. دخل في فضاء من العراء، وقهقه من جديد. كان يقهقه من شدة البرد، ومن أجل الشعور بالذنب. راح يجري بسرعة كبيرة، إلى أن فقد أنفاسه. ارتمى في ثلم رطب، وراح يتمرغ في عمقه، كالحيوان يتمرغ في عمقه، كالحيوان الخيالي الذي لا وجود له يتمرغ في عمقه. دفن في الأرض أنفه، واستنشق رائحتها بلذة، وحِدّة، ورعب مثمل، رعبٍ مدوّخ. ومرة أخرى: فليعل الضباب! فليسقط المطر! ضرب صدغيه الألم، ولم يستطع القهقهة أكثر، بل على العكس، اجتاحه شعور بالأسى، واليأس. فكر في كريمة التي لا بد أنها نسيته، وهمهم: إلى الجحيم!
وعلى التو، سمع ضربات سوط لاسع، فضاعفت الضربات انتباهه. رفع يده لينهض، فإذا به يلمس الأسلاك الشائكة لمسات المبصر - الأعمى. استعاد كل أمانيه التي لن تتحقق، ولم يتوقف صوت السوط اللاسع عن التصادي لحظة واحدة في محيط خيباته.
أخيرًا، نعم، أخيرًا! كان على باب الوطن الضائع، أخيرًا! على باب الساحر المهتدى الذي تخضع له السهول والجبال والزمان في غموضه ووضوحه! فلم يخفق قلبه من الفرح، وبدلاً من أن يلقي على الوطن التحية، راح يبحث عن مصدر ذلك السوط الصارّ، ذلك السحر المستبد بالنفوس. عاد من حيث أتى، مجذوبًا بإرادة السوط المتسلط، ودخل في السعي الحثيث، وقد اخترقه القلق، قلق السوط الرهيب. ظن أنه سيحقق المستحيل. انطوى على نفسه معطوبًا من وراء شجرة، ومن هناك رآهم. رأى فلاحين يترامون على الأرض في بضعة صفوف، والسوط الرهيب في قبضة السيد الرهيب يعرف طريقه جيدًا إلى أبدانهم. كان الرجل العملاق يطلق الأنين تلو الأنين، للبرق الذي يسري في قبضته، كلما رفع سوطه، وأهواه. كان يضع على عينيه نظارات سوداء، وفي وجهه غضون عميقة. وكان الفلاحون قد فقدوا كل إرادة، رآهم عصمت خانعين، منسحقين، وكأنهم أكياس متمزقة تكدست قرب بعضها البعض دون عناية. سال الدم من عيونهم، رواقيون، ممتنعون عن الألم، صامتون. ثم توقف الرجل العملاق تعبًا، وعلى الرغم منه، كان نفس أبيض يفلت من تحت شاربه الأسود ككل قدر ليس وهمًا. سمعه عصمت يهدد ملوحًا بسوطه:
- هذه أجوري لكم، أيها الكسالى! وأنا، على الأقل، بسوطي أدفئ قليلاً أبدانكم! لا أجر لمن لا يعمل، هل فهمتم؟ ألا يكفيني احتراق زرعي؟ لن أدفع لكم أجور أيام لم تعملوا فيها، فانتظروا أن يصب المطر، وبعد ذلك أن تبزغ الشمس. لكم إله، وللمطر إله، وللشمس إله، فلا تطلبوا الرحمة من عندي بل من عند الإله!
امتطى الرجل العملاق حصانه الأبيض، وانطلق يعدو كالملاك المحلق صاعدًا الجبل الرابض خلفه. عند قمته، رأى عصمت قصرًا مبرقشًا ملونًا شبيهًا بقصور الأحلام، قصرًا محلقًا بأجنحة الضباب.
* * *
مضى الفلاحون بعصمت، وهم يحملون بين أذرعهم ضحايا السوط أنصاف الموتى ممن اختاروا ما لم يختاروا. مضوا به وكأنهم لا يرونه، وكأنهم لا يحسون بوجوده، وكأنهم لا يبحثون عنه، دون أن يبالوا باعتراضه لهم الطريق. وبعد قليل، سمع أصوات بعض العربات والحيوانات، فقال لنفسه: لا بد أنه الرحيل!
تقدم دون أن يعرف إلى أين يذهب، أخذته خطواته كما اتفق، وخطواته لا تعرف خطواته، بلا تبصر. لم يعد البرد يسليه أو يضحكه، كان يخترقه حتى العظم. اقشعر، ولفَّ نفسه بمعطفه الأسود. عزم على الرجوع إلى المحطة، ولكنه لم يعرف الطريق إليها، وبدا له الأمر كالمشروع المعقد. فجأة، ضرب الآفاق شيء كالرعد لم يكن غير زوبعة من الطيور الراحلة، لاحظ ريشها الأسود والأبيض، وعند عبورها كانت تضاعف الصراخ مضيفة إلى آثار الضباب أثرَا آخر يجعله أكثر بعدًا عن الواقع.
هذه هي طيور الشتاء! ولكنه شتاء استثنائي لطيور ليست استثنائية اللونين بعد أن غَدَوَا رمزًا للملاك والشيطان، طيور مرغمة على الرحيل بحثًا عن شتاء أقل شدة. بقي يرفع رأسه إليها متابعًا إياها بعينيه، وعن غير قصد منه، تورطت قدمه في ثلم طويل، ثلم جهنميّ، واخترقته الرطوبة، والصرخات البعيدة. لاحظ حصانًا يعدو باتجاهه، ففكر في صاحب السوط اللاسع. جمد في مكانه دون تحفز ولا حافز، وبعد لحظة، وجد نفسه وجهًا لوجه مع حصان أسود، وفارس شاب لا يتعدى الثامنة عشرة، بجمال عليّ، وشموخ خالد. صهل الحصان، وهو يشبُّ عدة مرات قبل أن يقف أمام عصمت الذي تراجع خطوة، ثم خطوة، ثم خطوتين. سأل الشاب بصوت صارم:
- أنت المعلم الجديد، أليس كذلك؟
- نعم.
- ألا تعلم أين أنت؟
- لا.
أشار الشاب إلى الأسلاك الشائكة، فأصاب عصمت الرعب على فكرة أنه قطع الأسلاك إلى الطرف المحرم، ولكن الشاب طمأنه:
- لا تخف، أنت لم تقطع الأسلاك الشائكة إلى الطرف المحرم، ولكن هذه الناحية خطيرة، فلنذهب من هنا.
رفعه على سرجه، وسار به، وعصمت يحس به أخًا كبيرًا أو أبًا. أشار إلى نقطة في الضباب، وقال:
- هناك ثكنة عسكرية، والجنود البيض يشددون الحراسة من هذه الناحية.
بقي عصمت لا ينطق بكلمة، أضاف الشاب:
- يبدو عليك أنك لا تعرف الأحداث!
- أية أحداث؟
- ملائكتنا السود عبروا من هنا السنة الماضية.
لم يعلق عصمت. خاطب الشاب حصانه، فانطلق بهما عاديًا إلى أن أتيا كوخًا أحيط بسياج. نزلا، أدخل الشاب حصانه إلى الحظيرة، وقال لعصمت:
- إنني أدعوك إلى فنجان شاي ساخن بما أنك في إجازة ليومين، فما رأيك؟
ابتسم له عصمت، لا لأن هذا الصبي يدعوه، ولكن لأنه يعرف أنه المعلم الجديد قبل أن يقدم إليه نفسه، وأنه في إجازة، وفي إجازة ليومين، قبل أن يقول له ذلك!
وافق:
- فكرة جيدة!
علم عصمت أن اسم الشاب (( المعتصم بالشجاعة ))، فاندهش لأصل اسميهما الواحد، وعلم أيضًا أن اسم الحصان (( برق ))، اشتراه بكده وعرقه. كان الشاب حارس الأرض، وهذه مهنة ورثها عن أبيه الذي مات في حادثة. سأله عصمت إذا كان له أهل، فقال إن له أمه، ولكنها تسكن في مخيم اللاجئين.
- في مخيم اللاجئين! أي مخيم لاجئين؟
- ألم تر مخيم اللاجئين المقام في الوادي؟
- لا.
- ومع هذا كان من المفروض أن تعرفه بما أنك ستعمل هناك.
- سأعمل هناك؟
- ألم يقل لك المدير بأنك ستعمل في فرع المدرسة؟
فكر عصمت: حقًا، إنه يعرف كل شيء هذا الشيطان الصغير!
ثم أكَّد:
- بلى، قال لي ذلك.
- كان يقصد مخيم اللاجئين.
دار به من خلف الكوخ، وسار معه عدة أمتار حتى حافة الهضبة. أشار من تحت الضباب المعلق في الفراغ باتجاه الوادي، فرأى عصمت المخيم المنسحق في هوة عميقة، وقال:
- كنت أظن أن القرية هي أعلى نقطة في البلد.
أجاب المعتصم:
- هي أعلى نقطة في البلد، ولكن المخيم أقل علوًّا. الحقيقة أن هؤلاء اللاجئين طردوا من بيوتهم، ففضلوا إقامة مخيمهم قرب الحدود ليكونوا أول العائدين في اللحظة القادمة. إذن ليس المخيم جزءًا من القرية، ولكنه يبقى تحت إمرة هذا...
تابع عصمت إصبع الشاب المشير إلى الناحية الأخرى، فإذا به يقع على القصر الملون الجاثم فوق الهضبة. فكَّر عصمت: لم أكن إذن بعيدًا عن هنا هذا الصباح، لم أكن بعيدًا عن القدر المتجبر للمخيم! بينما نطق المعتصم هذه الكلمات المثيرة للدهشة والتعجب:
- أقدم لك قصر مدام حرب!
* * *
قال عصمت لنفسه: إذن أنت ملاحق يا صنو نفسي دون أن تدري، تلاحقك مدام حرب حتى أعمق أغوار الأرض أو أعلى قممها، وكأنَّها لعنتك! عارك هي، قدرك هي، وستلاحقك أينما ذهبت، وأينما حللت، وإذا ما هربت منها إلى أفكارك، ستلاحقك إن شئت أم أبيت، وحتى ما بعد مماتك! هي لك كل شيء: قوتك وخورك، مجدك وخرابك، عظمتك وخزيك، هي لك كل شيء، كل شئ، حتى التافه الذي لا معنى له!
عرف من المعتصم أن العملاق صاحب السوط اللاسع ذا النفس الأبيض والشارب الأسود والحصان الملائكيّ هو وكيل أعمالها. أوضح المعتصم: هي سيدته، وهو سيدنا! وحسبما قال، وكيل أعمالها هذا لا يكلم الفلاحين إلا بالسوط، ولا يحييهم إلا بالسوط، حتى أنهم إذا مرضوا عالجهم بالسوط، وكل ذلك برضاء سيدته التي لم يروها في حياتهم مرة واحدة!
تمنى عصمت أن يرى كريمة، فيقول لها إنه اكتشف السر الكبير، سر (( المرأة المعروفة هناك ))! تذكر بحثه اللامعقول عنها في كل مكان دون أدنى فائدة، وكيف انتزعتها مدام حرب منه عندما أوجدتها الصدفة له. امرأة معروفة هناك، امرأة مجهولة هنا! حتى الصدفة تعرفها وتجهلها! كان مهمومًا وكئيبًا ومكروبًا. وبعد أن رأى المدير، وأخذ التعليمات عاد إلى غرفته ليكون وحيدًا. قال لمأمور المحطة إنه سينام باكرًا الليلة ليبدأ العمل باكرًا الغد، ولم يقل له إنه لن ينام الليلة بطولها لأنه كان مهمومًا وكئيبًا ومكروبًا! اقترح مأمور المحطة عليه أن يصحبه إلى المدير بالسيارة من أجل التعليمات، فمكان عمله، ولكن عصمت أوضح أنه رأى المدير، وأخذ التعليمات، وسيذهب إلى المخيم على قدميه، ولم يقل له إنه تحرر من تبعة اصطحابه إياه. وبينما كان على وشك الصعود إلى حجرته في الطابق الأول، أتى ضابط، فقال مأمور المحطة لعصمت:
- أقدم لك شاويش مخفرنا، يا أستاذ.
حيا عصمت الشاويش، والشاويش يقول:
- تشرفنا، يا أستاذ!
قال عصمت:
- تشرفنا!
- تعال، يا أستاذ.
- الحقيقة أنني...
- فلتجلس إلى جانبي، يا أستاذ.
اضطر عصمت إلى الجلوس قليلاً بمعية الشاويش، والشاويش يسأل إذا ما أعجبته البلدة، وقال ما سبق وقاله مأمور المحطة: الإقامة ستعجبه بينهم، وبعدما يمضي الشتاء سيكتشف الجنة في بلدتهم!
أضاف مأمور المحطة أن الناس هنا يقدسون المعلم، فابتسم عصمت رغم أنه سمع هذا الكلام أكثر من مرة، كان مهمومًا وكئيبًا ومكروبًا دومًا، وكان يريد أن يكون وحيدًا بأي ثمن، أن يستأذن من أجل الذهاب إلى النوم بحجة العمل باكرًا غدًا صباحًا، لكن الشاويش حذّره من اقترابه من الأسلاك الشائكة مرة ثانية، وأكد أن الناس رأوه، وهو يشد عليها بيديه، فهل ينوي اقتلاعها أم ماذا؟ أبدى عصمت عظيم اندهاشه، وقال إنه لم يلاحظ ذلك، ولا يتذكر انه قام بذلك، وهو لا ينوي أبدًا اقتلاعها، أضف إلى ذلك أنه لن يعيد الاقتراب منها أبدًا. تضاعف اندهاشه عندما حذّره الشاويش من الاختلاط كثيرًا بالمعتصم، لأنه ولد مشكوك فيه، وقال لنفسه: الكل يعرف عن الكل كل شيء، فلا أسرار هناك في عالم الجحيم! ومع إلحاح الشاويس على عدم اختلاطه بالمعتصم طرق هذا السؤال عليه باب فكره: كيف يمكن أن يكون المعتصم ولدًا مشكوكًا فيه وهو حارس الأرض، ثم... عليه وحده يعود قرار مدى أفعاله على المستويين الخلقي والقتالي. وفي النهاية، اعتذر بحجة العمل باكرًا غدًا، والذهاب إلى النوم. كان يفضل بالطبع أن يختلي بنفسه. أحضر مأمور المحطة لعبة الطاولة، وأخذ يلعب مع الشاويش بانتظار قطار منتصف الليل، فقال عصمت لنفسه، وهو يتركهما من ورائه وحيدين بعيدًا عن أسرار الواحد والآخر: يشغلان نفسيهما، يتسلحان ضد السأم.
لم يستطع عصمت النوم، وهو حائر كل الحيرة ومليء بالتساؤلات: كان يفكر فيما قيل عن مدام حرب، وفيما قاله المعتصم، وفيما قاله الشاويش، وكان يفكر في الفلاحين، وفي الحدود الممنوعة، وفي الملائكة السود الذين عبروها السنة الماضية، في ملائكة زمن لم يكن موجودًا بعد. أحس بنفسه مجتاحًا حتى أعماق روحه، فتبرم، ولم تبق له سوى الفكرة الخالدة. وبعد أن مضى القطار الأخير، سمع صرخاتٍ قريبةً، ونباحًا بعيدًا آتيا من قلب الحقول.
14
نهض عصمت من فراشه على نفير البوق البدائي، وعيناه تصبوان بعد إلى النوم. نهض كل جزء من جسده على حدة، جزءًا جزءًا: يده اليمنى، فيده اليسرى، ثم صدره، فبطنه، بينما كان رأسه لم يزل يسقط على كتفيه، فدفعه إذن إلى الحركة، وأجبره على النهوض، ثم جاء دور ظهره، وخصره، وحوضه. تحركت ساقه اليسرى أولاً، بينما بقيت اليمنى في مكانها كالمشلولة، وشئيًا فشيئًا بدأت تتحرك، ومع استعادة القوة الضرورية، وُضعت القدم على الأرض، وتمددت الساق اليمنى دون تناسق مع اليسرى. سارت كل أجزائه إلى النافذة، وتابعت عينا عصمت نهوض الصباح التعب في الضباب الذي لم يزل داكنًا. نفض نفسه، فلم يكن سوى مجموعٍ من الأعضاء جمعها ليغدو الذي كانه أمس مساء.
غسل وجهه وشعره في المغسلة التي بلون القرميد، وفكر أن عليه شراء مرآة ليمكنه رؤية نفسه، وتسريح شعره كما يجب. ارتدى ثيابًا نظيفة، ومعطفه الأسود، وحذاءه الأبيض. أخذ محفظته السوداء الكبيرة، وكذلك مظلته السوداء الطويلة، ولكنه وضعها، فلا حاجة له بها وكل ذلك الضباب!
وهو في طريق الضباب، الطريق الوحيدة في العالم، قال لنفسه، ولم يكن قصده تشجيع ذاته، إن نهاره الكبير قد جاء، وذلك في مكان لم يتخيله أبدًا في حياته! تذكر مرة أخرى ما قاله المعتصم، وما قاله الشاويش، وفكر في مدام حرب، وفي الملائكة السود الذين عبروا الحدود الممنوعة السنة الماضية، وفي الفلاحين أيضًا، الأبطال المستلبين. فَهِمَ أنه مقدم على فعل بطولي خاص ولا يتوقف عليه! تضاعفت حمى الحماس لديه، وتضاعف سمك ستارة الضباب عند باب المخيم. بدأ بعض الأولاد يمضون في الأزقة المقفرة، ففكر عصمت في أهل المخيم الغائبين: لا بد أنهم ما زالوا نيامًا! كان النوم في مثل تلك الشروط راحة لهم ولذواتهم المريضة دواءً لا يؤتى به من الصيدليات. وفجأة فكر في منى التي يمكن أن تكون مريضة، وعزم على أن يذهب إلى رؤيتها بعد الدوام، وأن يذهب إلى رؤية المعتصم أيضًا غير آبه بتوصيات الشاويش، وكأنه يسعى إلى أن ينهي شيئًا من واجبه إنهاءه. ابتسم على فكرة لقائه بحارس الأرض الجميل! وأحس بأنه يحبه، بأنه يحبه بقوة. وبالمقابل، عزم على عدم الاقتراب من الأسلاك الشائكة، دون أن يبحث عن تبرير لذلك.
في الفرع المدرسي، أحاط به أولاد وبنات من كل الأعمار، فصفهم، ونظر إلى وجوههم التي تنظر إليه. ومرة فوق مرة، فكر في مدام حرب، وفي السوط، وفي وكيل أعمالها المستبد بحصانه الأبيض وشاربه الأسود ونظارته السوداء ونَفَسِه الأبيض الملائكيّ، وخاطب نفسه: يعرف المعتصم سرًّا لا يعرفه أحد غيره دون شك. أما عنه، فلم يكن، في الواقع، يهمه شيء إلا أن يجد كريمة، تلك الشوكة المزروعة في القلب، بينما كان يعلم تمام العلم أنه لن يجدها.
لاحظ أن إحدى البنات اللواتي يشدك مظهرهن دون أن تدري لماذا تنظر إليه، وهي تبتسم برقة، فاقترب منها، وسألها:
- ما اسمك؟
- رقية.
- كم عمرك؟
- خمسة عشرة.
- لِمَ هذه الابتسامة؟
- ل... ل...

تضاعفت ابتسامتها، ابتسامة امرئ غريب التصرف، وضحكت، فضحك كل الأولاد والبنات معها.
* * *
ذهب عصمت بعد الدوام ليرى مني، فخرج المدير من مسكنه، وكأنه كان ينتظر قدومه، وسأله كيف جرت الأمور. أجاب مضى كل شيء على ما يرام. دعاه المدير ليشرب شيئًا، فرفض لأنه كان يريد أن يرى منى. ألحّ المدير، وطمأنه على منى، منى لا ينقصها شيء.
في الداخل، اقترح المدير على عصمت أن يأخذ كأس ويسكي معه، مفصحًا أنه ويسكي إسكتلندي معتق يحتفظ به منذ عهد طويل، فقال عصمت لنفسه: ها هي ذي (( شدة وصرامة الإدارة الجديدة ))! كان المدير يرغب في انتشاء انقطع مؤقتًا كانقطاع الحيازة على شيء وهميّ، ومكابدة العذاب الأبدي. وافق عصمت على أن يأخذ كأسًا صغيرة، ولاحظ أن كأس المدير لم تكن الأولى. بدا مرحًا على غير العادة، وفرحًا على وجه الخصوص. أوضح أنه هنا منذ سنة، وأنه أتى لينظم المجموعة المدرسية، ويرقيها، ومن ناحية ثانية، هو بانتظار معلمين آخرين ليجري دروسًا من أجل محو الأمية. كل ذلك يتوقف على إرسال معلمين جددٍ، لكن حبال اتخاذ القرارات طويلة، وتنفيذها أطول! إنها تلك الصخرة دومًا التي نضرب عليها الرأس إلى أن نفلقه! نوع من المازوشية المشتهاة! أراد عصمت أن يجيب: والخبز؟ الناس تفكر في بطونها وفي نبتات الأرض المحترقة لا في تعلم القراءة. كان ذلك جزءًا من مشيئة مجهضة سلفًا لذلك أيد مشروع محو الأمية، ورأى أنه جميل لو تحقق. لاحظ أن المدير يشرب الويسكي دون أن يكسره بالماء، ودون ثلج، وكان يجرع منه جرعات كبيرة. همهم المدير: كل شيء جميل لو تحقق. نهض بعد ذلك ليأتي بالفستق والجبن والزيتون، جرع ما تبقى في كأسه دفعة واحدة، وصبَّ فيها ثانية.
فجأة، خلى الفرح على وجهه المكان لحزن غائر، حزن قوي الجمال كما لو كان يتحقق كمطلب من مطالب الحياة وكمقصِد لا كنتيجة لمقصِد. وفاجأ عصمت عندما باح له بالانتحار الذي حاوله أكثر من مرة! وعندما سأله عن السبب، ابتسم، وقال بقرف إن القرية على وشك أن تقتله!
قال عصمت:
- كنت أعتقد أنك سعيد بتنظيم المجموعة المدرسية.
فصاح المدير، وقد بدت حقيقته عارية دون ثوبها القشيب:
- أنت لا تفهم شيئًا!
قبل أن يضيف حانقًا:
- أنا ابن المدينة، صخب شوارعها يجري في دمي!
- ولماذا أنت هنا إذن؟
- أتظن أنهم سيستشيرونك قبل أن يعينوك؟
- إذن لم تكن دروس محو الأمية إلا مزاحًا.
كانت على الحائط لوحة لبعض الحور، فنظر المدير إليها، وحلق طويلاً، حلق بعيدًا، مما زاد عصمت قلقًا. قال لنفسه: لا بد أن حياته هنا كارثة حقيقية! ورغب في التخفيف عنه:
- ماذا بإمكاني أن أفعل كي أساعدك؟
- هل يمكننا الإفلات من قدرنا؟
- لا.
- إنه قدرنا.
لم يقل عصمت له: صار قدرنا. حتى القدر هنا كلمة خفيفة أمام الإصرار على عدم الإفلات من قدرنا.
نهض، ونظر من النافذة. كانت الساحة خالية من الأولاد، والظلام قد بدأ يتساقط في الوقت نفسه مع ستارة الضباب السميكة. سمع المدير يقول، وكأنه فهم:
- إنه قدرنا بمعنى ألا أمل في تغيير شيء، ألا أمل في تغيير أنفسنا.
بدا المدير عاجزًا، فانهار على أريكة، وظل صامتًا للحظة، ثم عاد إلى الكلام:
- صدقني، أنا لا أكره أحدًا في البلد، أنا أكره حياتي في البلد، ويقف الأمر عند هذا الحد!
رغب عصمت في أن يقول له: فلتذهب! نعم، فلتذهب! وأراد أن يشير إلى الحدود الممنوعة، إلى الحدود المسموحة، إلى أية حدود، شرقًا أم غربًا، شمالاً أم جنوبًا. رغب في أن يقول له: فلتذهب! نعم، فلتذهب! بقي انتباهه ينصب على هذه الكلمات المدانة بعدم البوح بها إلى الأبد. قال لنفسه: كل هذا غير معقول! كل هذا كابوس لا نهاية له! هذا المكان لا يمكن فهمه، ولا الناس الذين هم فيه، كل شيء فيه لامبالاة وخضوع واستسلام! تساءل المدير عما يفعله عصمت هنا، لم يكن هنا بسبب قرار تعسفي. لم يقل له هو هنا لسبب آخر، لسبب شخصي، ظل صامتًا، وكأنه كان يريد أن يفهم هو أيضًا جسامة القرار الذي اتخذه.
ابتسم المدير، وأكل زيتونًا بشراهة، قال إنه زيتون السنة الماضية. أشعل الراديو، وما لبث أن أطفأه. أتت طرقات على الباب، كانت وداد. أدخلها، فحيت عصمت، وقالت إن مدفأة الكاز التي لها لا تشتغل. قال المدير إنه سيشعل لها بعض الحطب. كلما رآها عصمت كان يشم عنها رائحة الجماع، لم يكن ذلك بسبب عطرها السميك، ولكن بسبب رغبتها الجنسية التي كانت تعلقها على صدرها كسلسال، وتجعل من جسدها أشبه بمنارة. سألها عصمت عن منى، فأجابت أنها بخير، وأن العمل يعجبها كثيرًا! كان الليل قد سقط بكليته، بكليانيته، فنهض عصمت، وأجل زيارة منى إلى الغد. لاحظ، وهو يمر بطاولة في المعبر عليها جرائد، عنوانًا كبيرًا يقول: اكتشاف مؤامرة لقلب نظام الحكم في البلاد... مضى ذلك كالضوء المتساقط بحزم كثيفة على قدر يمكننا الإفلات منه على الرغم من كل شيء. دقَّ قلبه بعنف، وفكّر قبل كل شيء في عادل. تناول الجريدة، وأخذ يقرأ بسرعة. ألقى نظرة على التاريخ، كان العدد قديمًا، يعود إلى ما قبل سفره، فقدم له المدير باقي الجرائد:
- بإمكانك الاحتفاظ بها.
وعصمت يفكر: لا بد أنهم قبضوا على عادل، وهذا ما يفسر اختفاءه.
* * *
أنهى عصمت قراءة المقال حول المؤامرة، وجاءت في النهاية بعض أسماء دعوها بالرؤوس المخربة، من بينها كان اسم عادل، فشرد مع أفكاره: لهذا لم يتصل بي عادل، لهذا لم يعد ثانية. آه! يا لعادل المسكين! تخيله مضروباً بقضيب من الحديد في السجن الرهيب الطرافة، أو منهى عليه منذ أمد بعيد المسافة المدغدغة للمرء من أحشائه رغم المصاب الذي هو فيه. لهذا راح يضحك على فكرة أنه على باب الوطن، هو الذي ظن أنه سيطرقه بكل قواه ليفاجئ عادل بتطفله المعجز! وصاح في داخله: أية محاولة متعسة! وأي حلم قصيّ!
غاص في الليل والبرد والضباب، ثم لطم نفسه بكلتا يديه، وصاح: آه! كيف أمكنه الانتقام بفشله مني، ذلك العادل الأهوج! جمع قواه ليركض بأكثر ما يمكنه من سرعة، ولكن قواه كانت قد تركته، فاستسلم لقوة البرد، لقوة المصير الواحد. أقفل عينيه على ذلك اللون الأسود الساحق، فقط ليخترقه الظلام واليأس. لم يعد بإمكانه فتح عينيه، فتقدم كالأعمى، كالأعمى، نعم كالأعمى! كالأعمى المستلب من كل شيء، من بصره ومن كل شيء. تحسس قضبان السكة الحديدية حتى المحطة، وترك نفسه للضحك وللدمع. سالت الدموع، ففتح عينيه، لكنه لم ير شيئًا. قال مرة أخرى: آه! يا عادل، تحت فشلك يختفي غضبك، وعلى عاتقي تُلقى النتائج! أقفل جفنيه، وهو يسترد كل قواه الضائعة، وفتحهما بكل قواه المستردة. ومع ذلك، لم يقع إلا على ألوان قاتمة. افترض أن القطارات تذهب من هناك، وراء الجبال. تقدم، وزلق في الليل والسكون، وتعثر، ولم يضرب قلبه كالعادة من الخوف. تناول غصنًا، وجعل منه عصًا إلى الأشياء، ولكن كيف التحقق من الأشياء؟ كيف له أن يعرفها؟ ولم يأته العقل بأي إنقاذ أو إغاثة.
ترك انشغالات الفكر هذه جانبًا، لأنه أعمى كان، لأن الليل كان، لأنه في اللون الأسود كان، لأن كل شيء قاتم كان، لأنه يتعثر كان. كان العمى يسبق البصيرة. ابتسم كالطفل السعيد، فإذا بيد على كتفه تشده إلى الخلف، ليجد نفسه صائحًا:
- إنني برئ، أقسم لك!
وفي اعتقاده أن جنديًا من جنود الإمبراطورية البيضاء قد أسره، أو أنه صاحب السوط المستبد. جاء صوت المعتصم الهادئ:
- ألم أقل لك إن هذه الناحية خطيرة؟
دخل في الهدوء، ودخل في الوضوح، والاطمئنان، ودخل في ضوء الوجه الضاوي الملقي بحزمٍ كالتي هجمت منذ قليل على قدر يمكننا الإفلات منه على الرغم من كل شيء. أمر المعتصم:
- لنذهب من هنا، فالجنود البيض يقومون الليلة ولا يقعدون على غير العادة!
سار عصمت تحت تأثير دفعة خفيفة من يد المعتصم. وهما في الطريق، باح عصمت للمعتصم بكل شيء. تكلم عن تحذيرات الشاويش، والمراقبة التي كان موضوعها، أوضح أن أحد أصدقائه في السجن، أو أنهم قتلوه، وقال إن المدير لا يجد طعمًا لحياته، وهو يفكر في الانتحار. كان يقول له كل شيء كما لو كان من المفروض عليه أن يقول له كل شيء، كان ذلك نوعًا من التئام الانشطار، أن يحكي نصفك لنصفك. وكان المعتصم يهز رأسه في الليل، ولا يقول شيئًا. أوصل عصمت إلى باب المحطة، فدعاه ليشرب فنجان شاي، ولكن كان عليه أن يعود بأسرع ما يكون للحراسة، فالجنود البيض يقومون الليلة ولا يقعدون على غير العادة. وفوق ذلك، تضاعفت الأضواء في قصر مدام حرب، ولا بد من بعض القادمين الجدد.
لم يستطع عصمت النوم كالليلة الماضية، عاد يستذكر كل شيء: عادل، المدير، رقية، ابتسامة رقية، المعتصم المنذر حياته لالتزامه الشخصي والمغرم بإنقاذ الأرض وبالمعركة من أجل استرداد وهم اسمه الوطن، الجنود البيض الذين يقومون الليلة ولا يقعدون على غير العادة، قصر مدام حرب المضيء بسبب بعض القادمين الجدد، فهل تكون كريمة من بينهم؟ كان سؤال جوهري كهذا مقلقًا، وبالنسبة له أكثر من مقلق، كان وجوديًا، تتوقف عليه كل حياته. وبعد عبور قطار منتصف الليل، سمع صرخاتٍ قريبةً ونباحًا بعيدًا آتيًا من قلب الحقول.

15
أمضى عصمت كل يومه التالي في فرع المدرسة، وهو ينظر إلى عيني رقية السوداوين متابعًا حركة الحزن والضوء فيهما. لاحظ أنها لم تنصرف مثل باقي البنات والأولاد بعد انتهاء الدوام. عندما اقترب منها، رأى على خديها دمعًا يسيل، فسألها عن السبب. قالت إنها إذا لم تعد لأمها برغيف خبز ضربتها، وجعلتها تنام في الضباب. أعطاها عصمت ثمن الرغيف، ورجاها أن تمسح دمعها، وألا تبكي. انتظر أن تنصرف، فلم تنصرف. أوضحت أنها إذا حصلت على ثمن الرغيف اليوم، فلن تحصل عليه غدًا، وإذا لم تضربها أمها اليوم، فستضربها غدًا. سألت عصمت أن يجد لها عملاً، فابتسم، وفكر في أنه حديث الإقامة في البلد، وأنه لا يعرف أحدًا. وفوق هذا، ماذا بإمكانه أن يجد لها، والحقول تحترق من البرد؟ كانت أزمة رقية بالنسبة له من أزمة البلد. لكنه سمعها تقترح غسل ثيابه، وتنظيف غرفته، وإعداد وجباته. وافق عصمت على أن يحل لها أزمتها بالشكل القيصري الذي اقترحته، بشرط ألا تنقطع عن دروسها، وأن تأتيه قبل الدروس أو بعدها في الصباح أو في المساء.
ذهب عصمت لزيارة منى، فوجدها شاحبة وباردة، وسحنتها سيئة. سألها إذا كانت مريضة، فنفت، وسألها إذا كان العمل لا يعجبها، فنفت أيضًا. لاحظ عصمت أنها لا تنظر إليه في عينيه، أو أن نظرتها تهرب في الحال، وتسقط في الفراغ. كانت كالسديم، مجموعة من النجوم البعيدة وكأنها سحابة رقيقة. سألها عن علاقاتها بوداد، فأكدت أنها عادية.
عندما ذهب عصمت ليحيي المدير، خرجت وداد من عنده، وعيناها في الأرض، وغادرت المكان بسرعة تاركة من ورائها رائحتها الغريبة. دعا المدير عصمت إلى شرب كأس، لكنه رفض. أخذ المدير يشرب وحده، كمن يقتله الظمأ، وبدأ يحدق في الحور زاحفًا بعينيه على أجسادها. عندما كان عصمت على وشك الذهاب، رشق المدير ما مفاده أنه سيهاجر إلى أمريكا في أول فرصة. لم يتوقع عصمت أن يبوح له بذلك، وهمهم المدير بقلق من يعاني عذابًا مبرّحًا:
- سأحقق هذا الحلم أو أقتل نفسي!
خاطبه عصمت في طويته: في هذه الحال، من الأسهل أن تقتل نفسك، يا عزيزي! لكنه لم يكن يمكنه إدراك كونه الحقيقي، بمعنى ذاتيته، وكذلك لم يكن يمكنه طرد نظرة منى المازعة من خياله. قرر الذهاب إلى قصر مدام حرب حالاً، وطرق بابه، فربما فتحت له كريمة، فيخرج من سديمية نفسه. راح يردد: كريمة، كريمة، كريمة! آه، يا كريمة! أنت الحلم الذي لا أستطيع تحقيقه، الحلم الذي يمزعني، ومن أجله أقتل نفسي لو يلزم!
خرج من عند المدير، والضباب يتساقط، ويغطي الطريق، وكأنه لازم، وضروري، ولا بد منه. كان بعض الفلاحين يترامون كالأكياس المتمزقة على عتبات أبوابهم، وهم يدسون أياديهم في جيوبهم، وأنفاسهم تحجب وجوههم السديمية، وكانوا لا يتحركون كالحجارة. نظر عصمت إلى بيوتهم البدائية، وأبوابهم الحطبية. أطلت بعض النساء من نوافذها لتنظر إليه، فرأى، وهو يعبر، أثوابها البسيطة، ووشمها المعقد الزاحف من الذقن إلى العنق مثل قافلة فطر أبدية. مرَّ بالمقهى، وبعد أن تردد قليلا على بابها دخل ليسقط في دخان النراجيل. كانت نظرات الشيوخ أشبه بنظرات التماثيل، لم يكونوا يطلبون شيئًا، لم يكونوا ينتظرون شيئًا، كانوا يتخلون عن كل شيء. فكر: كنت ذاهبًا إلى كريمة، فإذا بي أجدني في عالم الخضوع الطوعي هذا والأخطاء المضطلع بها! ورغم دقات الخوف المتزايدة في قلبه، فإن بعض الهيجان قد اجتاحه عندما جلس على مقعد مقتطع من جذع شجرة، أمام طاولة قديمة منشقة. ود لو يتوجه إلى تلك الوجوه الفظة قائلا لها: لا بد أنك ما عدت تنتظري انقشاع الضباب، ولا تأملي سقوط المطر، وأنت تعيشي السقوط سقوط الثمرات الجِرابيّة! اضطرب على مرأى أحدهم، وهو يتثاءب بكل كسل العالم، ولكنه حسده على كل ذلك التجرد. بدأ يسترخي، فقال لنفسه: تعيش تجردك بغبطة، استسلامك حقيقة مدهشة. ركز ذهنه ليحزر هذا التجرد في طريقة جلستهم، في زاويتهم البدائية، وخراطيم نراجيلهم القديمة تبصق الدخان على الدوام. أراد هو أيضًا أن يعرف الاستسلام الجبري، مثلهم تمامًا.
طلب قهوة، وتراخى. مدَّ قدما من تحت الطاولة، فارتطمت بقطعة حجرية، قطعة من الصخر لم تستطع فلقها الفأس القوية. نظر إلى الأرض الصخرية، أرض المقهى، وألم قدمه يجرده من ألم نفسه: هذه المقهى ما هي سوى جحر من نوع غريب، جحر إنساني! دفع بقدمه الأخرى عن عمد، فارتطمت بالصخر. ندت عنه صرخة صغيرة، ولكنها محبورة، وتمنى لو يسيل دمه، كان ذلك نوعًا من التضحية بالأنا. ابتسم. وضع صبي المقهى فنجانًا خشنًا غريبًأ أمامه، فذاق ذلك الطعم الأوّلي، الطعم القديم، وذاق ذلك الطعم الغريب. كل شيء غريب في العالم الطوعي، ولذيذ! تحسس جذع الشجرة الذي كان مقعدًا، وعاد يغرق في تأمل المكان: الوجوه التعبة التي تتبخر في الدخان، الجذوع الغليظة التي تشكل المشرب، الحيوان المنقرض الذي يعد القهوة على نار من الفحم خفيفة، عمامته القذرة، سترته الدرنة، الرماد، لون الرماد، اللون الوحيد للعالم، الإبريق، البخار، الهباء، رائحة القهوة المرة بالسكر المالح، أصوات السعال، مطحنة القهوة، النراجيل، الموت الزاحف ببطء، والقرار الذي لا قرار له، قرارُ سكونٍ كبيرٍ.
* * *
خرج عصمت في جَمَدِ الضبابِ متعافيًا، وعزم على الذهاب إلى قصر مدام حرب المبرقش حالاً، مع أمل الوقوع على كريمة هناك. كانت فكرة أن يذهب إليها تحثه على مضاعفة سرعته رغم البرد الشديد والحفر التي تمتلئ بها الطريق. وعلى دهشة من أمره، وجد نفسه يصيح:
- إنني قادم!
دون أن يتحول مجرى الأشياء مع ذلك، فالليل قد انتشر في كل مكان، وبدا عصمت، وهو يتدثر بمعطفه الأسود، جزءًا منه. أحقًّا يتلاشى الضوء في حدة الضوء، والظلام في حدة الظلام؟ ولكنه، في أبعد أعماق نفسه، كان يرى ذلك القصر المبرقش، منتصبًا فوق هضبة، وكانت تلك الصورة تحتكر عليه روحه. صاح مرة أخرى:
- إنني قادم!
دون أن يتحول مجرى الأشياء مع ذلك، فالصدى قد ارتد كمن تعيقه هو أيضًا صعوبة السير. وفي اللحظة ذاتها، انبثق حصان جمح أمامه صاهلاً بقوة. حدق في الفارس عبر الضباب ليرى إذا ما كان المعتصم بالشجاعة أو الرجل الرهيب، ولم يكن هذا أو ذاك بل كريمة، كريمة بقضها وقضيضها، متشحة بالبياض الصاخب! ذهب الحصان عاديًا، فجرى في أعقابه مناديًا:
- كريمة!
ولكن الحصان صعد بها الهضبة إلى القصر. عندما وصله عصمت، ألفاه مغلقًا، معتمًا، معلقًا خارج الزمن، فراح يطرق بابه دون أن يرد عليه أحد، دون أن يظهر منه أحد.
عاد عصمت إلى المحطة خائبًا، فوجد مأمورها والشاويش يلعبان النرد. كان قربهما شخص ثالث لم يره في البداية جيدًا، ثم عرف فيه عادل، وكاد يصيبه الجنون. تعانق الصديقان، وهما منشلان من فرط التأثر، وعصمت يردد لنفسه منذهلاً: أية مفآجات الليلة! أية مفآجات لا يصدقها العقل!
أعلمه عادل بأنه خرج من المعتقل هذا الصباح ليأخذ طريق النفي، فاستغل الشاويش ذلك ليذكره بأن عليه الحضور إلى مركز الشرطة، كل صباح، وكل مساء، كي يتأكدوا من وجوده، وأنه سيسكن في المحطة طالما بقيت هناك غرفة فارغة. حذَّره الشاويش من الاقتراب من الأسلاك الشائكة، ومن كل محاولة للعمل السياسي بين الفلاحين، وأضاف:
- دع الفلاحين ينفخون في بوقهم ما شاء لهم، وإلى ما شاء الله!
أراد عصمت إيضاح أن الفلاحين فقدوا إيمانهم، لكن الشاويش رفع إليه إصبعًا مهددًا، وألزمه ألا يتسكع طويلاً في الليل، وأن يعود إلى النوم مبكرًا ككل الناس. حذره بصفته رجلاً مخلصًا ومسؤولاً عن أمن الناس. كرر طلبه إليه عدم الاقتراب من الأسلاك الشائكة، وتحاشي الاختلاط بالمعتصم، لأنه ولد مشكوك في أمره.
في تلك الليلة، لم يستطع عصمت الحديث مع عادل بحرية، إلا أنه عرف أن امرأته قد انجبت صبيًّا ميتًا، وعرف أيضًا أشياء أخرى لا أهمية لها. بقيت في رأسه آلاف الأسئلة، ولم يستطع النوم. أحس بنفسه منبوذًا، ليس فقط لأن عادل هنا، وهم لم يقتلوه، ولكن أيضًا لأنه رأى كريمة. حاول إقناع نفسه أن ذلك لم يكن إلا حلمًا همجيًا، وراح يتعذب على فكرة أنه سيجدها بالفعل. مضى القطار في عمق الليل، ثم سمع صرخاتٍ قريبةً، ونباحًا بعيدًا آتيًا من قلب الحقول.

16
علا نفير البوق البدائي مدويًّا في سماء صافية كالبلور، فنهض عصمت من فراشه إلى النافذة ليرى الضباب، وقد انقشع، وبحيرة السماء، وقد تألقت بكل امتدادها وصمتها ولونها، لدرجة أن الأرض تبدو زرقاء، والدنيا شفافة، خالية من كسور كل ملكوت ما ورائيّ! كان البرد شديدًا، أشد حدة من جمر الجليد، فلم يستطع عصمت ترك نافذته مفتوحة أكثر من ثوان معدودة. أتته قرعات الطبول الرتيبة، فقال: انقشاع الضباب لا يعد بالمطر! احتدَّ البوق البدائي فجأة، مستصرخًا السماء، والسماء تزداد صفاءً وعمقًا وقرصًا بعقربها اللا مرئيّ!
عندئذ، سمع طرقات على الباب، كانت رقية من أجل عملها. أدخلها، وابتسم لابتسامتها. قالت:
- انقشع الضباب، ولكن البرد يقص الحجر!
ارتدى عصمت ثيابه النظيفة بسرعة، ولم يمكنه رؤية نفسه في المرآة، لأنه لم يشترها بعد. ارتدى معطفه الأسود، وحذاءه الأبيض، وحمل محفظته السوداء، وترك رقية في الحجرة وحدها لتمارس مهنة لم تُرصَد لها. ذهب إلى المقهى ظانًا أنه سيكون أول الرواد، فإذا بالمقهى تعج بمدخني النراجيل، وقد حجزوا مكانًا دائمًا لهم في عالم الجحيم. شرب قهوته بسرعة، واتجه إلى فرع المدرسة، وأزقة المخيم فارغة، أبدًا فارغة. بدا له أن المخيم أُفرغ من سكانه، فمن غير الممكن أن يكونوا بعد نائمين حتى تلك الساعة. وعلى فكرة أن يكونوا موتى، أراد طرق أحد الأبواب، لكنه استدار على إيقاع حافر آت من قلب البرد. وجد نفسه وجهًا لوجه مع المعتصم، فارس الحصان الأسود ذي الثغر المبتسم.
سأله:
- أين كنت؟ لم أرك منذ يومين.
قال:
- بحثت عنك أنا أيضًا...
ووجد سببًا ميتافيزيقيًا:
- لم يكن بإمكاننا أن نرى بعضنا بسبب الضباب، تمامًا كما يجري في الأوديسة، أما الآن...
- نلتقي الليلة إن وافقت، أنا وأنت وصديقك، فلا بد أن المنفى صعب عليه!
سيقدم له عادل، نعم، هو الذي أراد قلب النظام وفشل، ومع ذلك - وهذا هو الأهم- هو الذي لم يمكنهم قتله!
سمع الشاب يضيف:
- من الأفضل أن نلتقي في الليل.
فكر عصمت: ليس لدينا الخيار على أي حال، فالشاويش يراقبنا، يراقبك أنت على الخصوص، ويجب علينا أن نجد مكانًا آمنًا. وكأنه قرأ أفكاره إذ سمعه يقول:
- سنلتقي عند أمي.
انطلق المعتصم بحصانه الأسود حتى غاب مع الأفق، لم يفهم عصمت لماذا بقي جامدًا كالصنم في مكانه، وهو يتابعه بعينيه. ربما كان ذلك بسبب الأوديسة الجديدة التي يصنعها، ويلعب عصمت دورًا غيرَ متوقعٍ فيها. بدأ الأولاد يخرجون من بيوتهم التنكية أو خيامهم المتهاوية، ويتجاوزونه. أعادت هيئاتهم المصممة الحياة إلى جسده، ولاحظ أنهم يرتدون كلهم ثيابًا رتقت عدة مرات. سمع خلفه خطوات رقية المسرعة، وابتسم لابتسامتها عندما صارت على مستواه: ها هي ذي بينيلوب الجميلة تذهب إلى المدرسة، كما وعدتني، بعد أن قامت بعملها. جعله ذلك منشرحًا، نظر في عيني الفتاة السوداوين، وعادت إليه بشاشته. غادرته هواجس الموت تمامًا، وهو يفكر في اقتراب رؤيته لكريمة، وعزم على الذهاب إلى قصر مدام حرب ليلقاها بعد الدوام مباشرة. تابع طريقه، وما لبث أن جذبه اجتماع الأولاد حول بعض الحطام، وعندما أطل برأسه من فوق رؤوسهم رأى سيقانًا وأياديَ ووجوهًا سرى البرد فيها، فجمدها، وجعلها مزرقة كمخمل آخر الليل، ورأى شفاهًا تطبق على قلب المنون.
ارتعدت فرائصه، ولم يقدر على احتمال مشهد كهذا لم ير أكثر منه ما ورائية. لفتت انتباهه ضربات فأس غير بعيدة عنه: كان بعضهم يحفر في الأرض حفرة كبيرة كانت تشبه القبر ولم تكن قبرًا، كانت أقرب إلى أساس منزل فخم.
* * *
آه، لو يعكر الموج قليلاً هدوء بحيرة السماء!
وقبل أن تنسحق شمس الغروب، لطخت السماء بالدم، دون أن تلين بردها أو سكونها. كان عصمت قد عزم على الصعود إليها، إلى كريمة، وطرق بابها إلى أن تفتح له. كان ذلك نوعًا من التحدي للنفس، ولكن خاصة نوعًا من المواجهة التي فات أوانها، وكأن الزمن يعود به إلى الوراء، عندما طرق باب مدام حرب عليها، وخبأت منه نفسها. وبينما كان في الطريق، سمع اصطفاق السوط الرهيب، والأنات، أنات الرجل الرهيب، لشد ما كان وجعه. طالع عصمت مشهد المرة الماضية ذاته: صفوف الفلاحين المترامين على الأرض كالأكياس المتمزقة، كالمخالب المقتطعة، والرجل العملاق بنظارته السوداء، وهو يضربهم بسوطه، وهو يضربهم بسوطه، وهو يعود ويضربهم بسوطه. أفلت نفسه الأبيض من تحت شاربيه السوداويين ومن فوقهما دون أن يستطيع التحكم به، وفي اللحظة التي أهلكه فيها التعب، أطلق صيحة:
- هذه أجوري لكم، أيتها الكائنات البدائية!
قفز على حصانه الأبيض، وانطلق كالملاك صاعدًا الهضبة الى القصر المبرقش. بعد قليل، نهض الفلاحون، وهم يعتمدون على بعضهم البعض، وحملوا أشلاءهم إلى سفر الخروج. مضى المعتصم من هناك، فنسوا جلادهم، وابتسموا لبطلهم. كان ذلك طبيعيًا عندما تفقد الأشياء طبيعتها، عندما تفقد الطبيعة جوهرها. وما لبثت أن وصلت عصمت أصوات عربات وصرخات حيوانات، ثم، قليلاً قليلاً، ابتعدت، ومن جديد، سقط كل شيء في السكون.
وصل عصمت إلى باب القصر، فوجده مفتوحًا، ولم يتردد لحظة واحدة عن الدخول إلى القاعه الكبيرة. جاءت إلى لقائه كريمة، وسألته عن سبب زيارته. على الرغم من لهجتها الفوقية، والمتحفظة، فإن عصمت لم يلاحظ ذلك. اقترب منها، من كريمة بقضها وقضيضها. أراد أن يلمسها، أن يقول لها شيئًا. كانا وجهًا لوجه، بعد كل تلك المدة من الفراق، وكان ذلك كافيًا لإذابة سلاسل الجليد في هملايا. بدأت نظرة كريمة تنعم، رطبت شفتيها بلسانها، ثم، هبت بها عاصفة الحنين، فارتمت بين ذراعيه لتقبله مرددة:
- لماذا أتيت؟ لماذا أتيت؟ لماذا أتيت؟
راح يئن إلى أن أعياه الأنين:
- حبيبتي! حبيبتي! حبيبتي! أحقًّا ذراعاي طوقٌ حول خصرك، يا حبيبتي؟ أحقًّا شفتاي وردٌ حول عنقك، يا حبيبتي؟ أحقًّا أشم النهار في أنفاسك وأريج جسدك؟ أحقًّا أشم الليل في شعرك؟
أبعدها عنه قليلاً، ليتأملها أفضل. كان بين مصدق ومكذب. ومن جديد جذبها إليه. نثر على شفتيها النجوم، وفي شعرها القمح الأسود. لمعت مناجل الحصادين، انتهى العذاب، وانتهى الأنين، وصارت القرية في عيد، والعالم في احتفال لم يكن قسريًا.
- لن أضيعك هذه المرة، لن أدعك تذهبين، سنبقى معًا إلى الأبد، سنحيا معًا حتى الموت!
كانت تموت: تركت نفسها بين ذراعيه بكليتها المستسلمة، ولما كان يطوقها بكل جبروته، همست بافتتان:
- حذار، أنت تؤلمني!
فضاعف من تطويقها، وسقط برأسه تحت شعرها. غطى بشفتيه عنقها، وصاح:
- أحترق رغبة فيك! وأنت، يا حبيبتي، هل تشعرين بالشيء نفسه؟ قولي إنك تحترقين رغبة فيّ.
تأوهت تحت مطر من القبلات:
- أحترق رغبة فيك!
- قولي إنك بحثت عني مثلما بحث عنك.
- بحثت عنك!
- قولي إنك لم تأت إلا من أجلي.
انتظر عبثًا جوابها، أحسها توترت، وأحسها بردت، ثم تجمدت. نظر إليها غير قادر على تصديق ذلك التحول المفاجئ، هل كانت تريد التخلص منه، إعطاءه ظهرها، تحت سطوة الحزن؟ وبثوان من الزمن، أُفرغت كأس سعادته في بحر الأسى، وهو الذي انتظر ملأها، منذ سنين طويلة.
- ماذا دهاكِ؟
شددت على كل كلمة من كلماتها:
- لا، لم آتِ من أجلك. إنها لبحت صدفة أن أجدك هنا. ما أتيت إلا لأنني حامل.
لم يعد يفهم شيئًا، ألقته في الحيرة، وفي الغموض، وتركته يسقط، وكأنما كان قدره هناك، في هاوية التساؤل.
- لا بد أنك تعرف من هي مدام حرب، وأنا لهذا حامل، رغم كل الاحتياطات التي اتخذتها، فأرسلتني إلى قصرها هنا من أجل واحد من اثنين، إما أن ألد الطفل بعيدًا عن عيون الناس، وإما أن أجهض.
فكر عصمت مُذْهَلا: هكذا إذن يكون انتقامك، يا مدام حرب، ويكون عقابك! ضمَّ كريمة، وعجز عن الكلام. قالت له، وهي تتأوه، وتبكي، إنها تحبه، هو، ولا تحب أحدًا آخر، إنها لم تكن سوى ضحية، وإن مدام حرب خدعتها!
امتزجت آهتها بآهته، ودمعتها بدمعته، وردد عصمت خائر العزم:
- لا، لن تكوني هزيمتي! لن تكوني هزيمتي!
جمعته من وجنيته، ونظرت إلى دموعه. رشفتها، وهي تتوسل إليه:
- خذني بعاري! ارحل بي بعيدًا، ولنخلص من هذا الكابوس، أريد أن أكون لك إلى الأبد!
توقف عصمت عن تعذيبه لذاته، وترك ذراعيه تسقطان ميتتين. لم يستطع الوقوف أكثر، ترك نفسه يسقط في أقرب مقعد، وهو يضع رأسه بين كفيه. بعد قليل، قال بصوت مختنق:
- عليك أن تتخلصي من الطفل...
ونظر إليها معطوبًا كمركب قديم قبل أن يضيف:
- ... كي تكوني لي.
تناهى إلى سمعه نواح، وصرخات صغيرة، فنهض بدافع الفضول، وسار باتجاه إحدى الحجرات المغلقة. نظر من ثقب غَلَقِها، فرأى الرجل العملاق، وكيل أعمال مدام حرب المستبد، يبكي كطفل مرتعب. كان يشد بين ذراعيه قطّاً أبيض، لهدوئه الشديد ظنه عصمت دمية. ولما فشل في فتح الباب، أدرك أن كل شيء من حوله كان محكم الإغلاق، كل شيء من حوله كان متقن الإغلاق.


17
طلب عصمت من كريمة أن تفكر في أمر الإجهاض حتى مساء الغد، ولكنها قالت إنها إذا لم تختر السقوط حبلى، فستختار الاحتفاظ بالطفل. رجاها أن تعيد النظر في الوضع، وأن تعطيه الجواب غدًا. غادر القصر المبرقش إلى المحطة، فوجد رقية هناك بانتظاره، وقد أعدت طعام العشاء. أخبرته أن عادل أتى ليراه، وأنه ذهب بصحبة مأمور المحطة عند المدير، وهو يطلب منه اللحاق به. كان عصمت يريد الاجتماع بعادل وحده، ليسمعه يحكي، ويسمعه يحكي. كان أكثر ما يكون شوقًا إلى سماع قصته، والتحدث معه.
طلب من رقية ألا تنتظره في المرة القادمة، وأن تعود إلى بيتها باكرًا. أعطاها بعض النقود، وحملها بعض الطعام، فابتسمت له بفيض من نور ولؤلؤ قبل أن تذهب .
لم يكن عصمت وحيدًا مع نفسه، كان مع كريمة، بعقله وروحه، كان مع كريمة الخزي والعار كما لو كان مع أم له لم تنجبه من أبيه! أية مهزلة هي الحياة! أية مأساة هي الإنسانية! قرر أن يذهب بعادل حال وصوله إلى بيت المدير، للحاق بالمعتصم. في الطريق، سيحكي له عن كل شيء، عن كريمة، وعن الوطن، وعن البرد. سيجعله يحكي عن فشل المحاولة، وعن الحزب، وعن السبب الذي لأجله لم يقتلوه رميًا بالرصاص. سيجعله يحكي حتى يذوب الجليد الكاسي لقلبه. كانت ملايين النجوم تتلألأ على شراع الليل، وفي ميناء العذاب ترسو المراكب. تلفف في معطفه جيدًا، وحث الخطى.
وهو على عتبة بيت المدير إذا بوداد تخرج وبيدها قنديل الليل، قالت إنها جاءت من أجل بعض الكاز، وإضافة إلى ذلك أعلمته أن منى مريضة.
- ماذا بها؟
- لست أدري، ولكنها مريضة.
- سآتي لزيارتها غدًا.
وهو يشم رائحة جماعها في الكاز، وفي الأشياء، في مسام الأشياء التي تحيط بها، رائحة هِزة الجماع، وهِزة التبول، والعطن الممتزج بالمني، ورغب في عناقها لأول مرة. كان ذلك بمثابة تفجير لاختناق فيه بسبب ما كان يعانيه من شعور بالإحباط بعد لقائه بحبيبته. وأول ما دخل، كان المدير قد جثا، والكأس بيده، عند أقدام الحور متوسلاً إليهن أن يهبطن إليه، وعادل ومأمور المحطة يبكيان لشد ما ضحكا. ألقى عصمت:
- لن تهبط حورك أمام أعين الغرباء!
صاح المدير محتدًّا:
- بلى، سيهبطن!
غمز مأمور المحطة بعينه، وقال:
- يكفي أن يجرع كأسًا أخرى.
ملأ كأس المدير من جديد، ولعصمت كأسًا، وعصمت يقول لعادل، وهو يتوقع جوابًا سلبيًا:
- لا بد أن الجو يعجبك!
- جدًّا!
كان جادًّا، فجلس عصمت مخيبًا. فكر: حتى في السقوط،
لا يشكو عادل من شيء أبدًا! لن نخرج من هنا قبل ساعة، وأيضًا بشرط أن يريد عادل ذلك. رأوا المدير ينزل اللوحة على الأرض، ويركبها، ويصيح بعصمت منتصرًا:
- لقد هبطت حوريّ رغم أنفك!
ثم أتى يضرب كأسه بكؤوسهم تحية للهبوط القسريّ.
تدخل مأمور المحطة:
- وما رأيكم لو أتيتكم بحور من لحم وشحم يهلكها البرد في المخيم؟
صفق المدير كفًّا بكف، وهتف:
- فكرة رائعة!
ثم التفت إلى عادل:
- لنأخذ رأى سياسينا الخطير!
أجاب عادل بابتسامة رديئة:
- لا رأي للمنفيّ في منفاه.
لم يسعد عصمت كل ذلك، وحاول الإمساك بذراع مأمور المحطة قائلا له:
- الجليد طبقات، ومن المؤكد أنه سيجعل سيارتك تزلق في إحدى الحفر.
فجأة، وتحت تأثير الكحول، صب مأمور المحطة جام غضبه على الفلاحين:
- يا لهؤلاء البرابرة الذين لا يتركون هم ودوابهم شيئًا سالمًا!
ثم أضاف بمزيج من الزهو والعنجهية:
- ولكن بلديتنا ستعبد لنا الطرق كلها، وإذا أفسدها الفلاحون ودوابهم من جديد، أجهزتُ عليهم جميعًا، وجعلتُ من نساءهم أرامل ومن أطفالهم يتامى!
نهض المدير كالثور الهائج، وقد أحس فجأة أنه فقد وقاره، أمسك بخناق مأمور المحطة، ونبر:
- كف عن الإسراف في شتائمك، أيُّها المدعي!
جفل المأمور، وتحول إلى حشرة ضعيفة تخبط جناحًا بجناح. ركله المدير بقدمه، وقال، وفي صوته المرارة:
- إنه يتجسس علينا كلنا هذا الخرع!
- أنا أتجسس عليكم؟!
تضاعفت حدة المدير، وزمجر غضبًا:
- أنت تتجسس علينا لحساب الشاويش، هاءَنَذا أقولها بصوت عال كي أنذر الجميع، ويأخذون حذرهم منك!
قذفه في الخارج، وعاد إلى عصمت وعادل، وهو يبدو نير الذهن بعض الشيء، ولكنه في كامل الوضوح. سمعوا سيارة مأمور المحطة تبتعد، فقال لهما المدير بمثابة اعتذار:
- كان من اللازم أن أصفي معه حسابي منذ مدة.
جلس مستعيدًا هدوءه، شرب كأس ماء، وتوجه إلى عادل:
- بإمكانك أن تنام عندي ابتداء من الغد لو أردت.
بذل عادل ابتسامته الرديئة من جديد، وقال:
- ولكن ليس عندي ما أخفيه لا عن مأمور المحطة ولا عن غيره. عندما فشل الحزب في محاولة قلبه النظام، كل رفاقي أعدموا إلاي، لماذا؟ لأنني لا أمثل أي خطر. أنا العجز بعينه! أنا يمكنني كتابة مقال جيد، ولكن لا يمكنني قلب نظام، وأقل من هذا عمل ثورة أو تحرير وطن. أنا دجال! لم أكن في مستوى أحلامي الكبيرة، كنت أعتقد أنني في مستواها، أنا، الصحفي الكبير، ولكنني في الواقع، لم أكن من القدرة حتى على قلب بيضة على رأسها وإبقائها واقفة هكذا دون أن تقع! أنا رجل عظيم زائف، منافق، تافه! لم أحسن اختيار قدري!
وترك اثنيهما ذاهلين.
* * *
أراد عصمت الإمساك بعادل ليأخذه عند المعتصم، وبعد أن تبعه عدة أمتار، عادت كلماته تدوي في رأسه، فعدل عن ذلك. كان ذهوله عظيمًا من ذلك التغيير المفاجئ في الرأي وفي المسلك، ولم يصدق أذنيه: أصحيح ما كشف عنه عادل أم كان فقط للتعمية؟ كان يبدو جادًّا، ولهذا خشي عصمت الذهاب به إلى المعتصم، كان خائفًا على فارس الحصان الأسود. ضاق من نفسه، وتمنى لو يكون مخطئًا، فعادل كان صديقه قبل محاولة الانقلاب، كان ينتمي إلى الحزب، ولكن لم يكن عصمت يفكر أن هذا التنظيم بنظامه الصارم يمكنه التأثير فيه تأثيرًا سيئًا.
قال للمعتصم كل ما وقع، قال له كل ما يفكر فيه، حكى له عن ذهوله، أراد أن يحكي له عن كريمة أيضًا، ولكنه قال لنفسه سأحكي له عنها في المرة القادمة: يجب ابتداع اللحظة القادمة، لحظة الحرية من اللاشيء، من العدم، لهذا السبب كان فارس الحصان الأسود فكرةً لتجسيد البطولة أو عدمها.
تكلم المعتصم، قال إن الوطن مفتوح على الوطن، ولكنهم يمنعون السلاح، ويكرسون البرد والموت والشتاء بلا مطر ولا أي نبع ممكن! كانت أمه تجلس قرب النار، وكانت تدعوه يا (( بطلي )). كانت ترفع رأسًا عاليًا، فكأنها تراقب قدوم السحاب، أو أياد لطيور ذات مخالب دموية. شربا من تحت يديها الشاي، وحمصت لهما بعض الخبز، أحرقت بعضه، وذهّبت بعضه، وراحت تنظر باتجاه الباب، وكأنها بانتظار بعض القادمين.
قال المعتصم لعصمت إن أمه لا تنتظر أحدًا غيره، وهو معها، وهو ليس معها، لا تنتظر أحدًا غيره. وقال إنه سيقدمه لصديقه جواد، المطارد من طرف الشرطة. قال له إن لجواد حزبًا غير حزب عادل، وهو يعمل بصمت، ولكن ليس إلى الأبد. خلال بضع ساعات، بضع دقائق، وربما بضع ثوان، سيدوي فعله على كل الحدود. كان على استعداد ليتحدى كل العالم باسم الوطن والحياة الأفضل.
فجأة، دوى انفجار هائل.
هتف المعتصم:
- ليتحدى هكذا!
خرج دون أن يودع أمه، وعصمت يخف من ورائه. قفز الفارس على حصانه، ثم عاد يهتف:
- لا بد لي أن أتركك.
- للذهاب إلى أين؟
صاح فارس الحصان الأسود:
- إنها الثورة.
- ماذا؟ ماذا تقول؟ إنها الثورة؟
- إنها الثورة... إنها الثورة...
- كنت أعتقد أن الثورة انطلقت السنة الماضية مع اجتياز الملائكة السود حدود الوطن السليب.
ومن جديد، صاح المعتصم قبل أن يختفي:
- إنهم الملائكة السود دومًا، ولكن الآن إنها الثورة الكبرى، ثورة الحدود من ناحيتيها، ثورة الأرض والحرية.

18
أيقظت عصمت طرقات حادة على الباب، ودخلت رقية منقطعة الأنفاس، مرتجفة كلها. أخبرت عصمت بمحاصرة دبابات الجيش للمخيم، وتفتيشه كل بيت، واستجوابه الأهالي، كل هذا بسبب الانفجار المهول الذي سمعوه عشية البارحة، وقالت إن بناية عسكرية دُمرت.
حوالي الساعة العاشرة، في وضح النهار، انسحب الجيش بعد أن ذبح كل الأغنام، وأخذ معه عددًا كبيرًا من شباب المخيم. كانت هناك إذن أغنام في المخيم، وكان هناك شباب ونساء وشيوخ وأطفال. كانوا موجودين، على الرغم من كل شيء، في فضاء يوحي بنهاية الوجود. اختلطت التوسلات بصرخات الاستغاثة، نساء ورجال بكوا ضعفهم، واستسلامهم، وبكوا عراءهم التام. خلال المساء، داهم جنود الإمبراطورية البيضاء البيوت، وبدورهم ألقوا القبض على عدد آخر من ناس المخيم، ففضاؤه كان مفتوحًا لكل من يريد الدخول، كان عبقريًا لحد الاغتصاب والقتل.
كان عصمت حزينًا، حزينًا جدًّا، وكان قلقًا، قلقًا جدًّا. لم يعد يفكر في كريمة. عزم على أن يثمل لينسى، أن يُغرق في الكحول كل أحاسيسه. ذهب عند المدير، فوجد وداد شعثاء الشعر، ومع وصوله ذهبت مرتبكة: لا بد أنهما على علاقة حميمة. كان ذلك برهانًا آخر على رائحتها الغريبة، ولم يكن سببًا، فعصمت سيشم عنها رائحة الجماع حتى ولو لم تكن تجامع أحدًا. كانت رائحتها بالنسبة له علامة تميزها عن غيرها، كسيزيف مع صخرته، علامة للوجود، على الوجود. لم يهتم بالأمر أكثر. ابتسم، واعتذر. قدم له المدير كرسيًّا، ومد له كأسًا، وجلس كلاهما صامتًا.
ألمح عصمت إلى ما جرى:
- أنا مضنى، حزين أعظم الحزن!
أجاب المدير:
- لا يستطيع أحد أن يفعل شيئًا.
جرع كأسه دفعة واحدة، وأشعل الفونوغراف. وضع السيمفونية السادسة، وبعد ذلك أوقف الفونوغراف. دخل عادل، وجلس. طلب كأسًا جرعها دفعة واحدة، وسمعاه يهمهم:
- يا لهؤلاء المساكين!
فنبر عصمت:
- لماذا لا تفعل شيئًا؟
استمر عادل يهمهم، وهما لا يفهمان مما يقول شيئًا، فقال عصمت بنبرة ملأى بالمرارة:
- عليكِ السلام، يا سنوات المجد!
هز المدير رأسه موافقًا:
- صحيح كان الناس أكثر حماسًا، كانوا يتظاهرون، وكانوا يضربون عن العمل، وكانوا يعرّضون أنفسهم للقتل.
سأل عادل:
- مع كل ما يعانيه هؤلاء المساكين، أتظنون أنهم يقلقون من أجلكما؟
أعاد عصمت:
- عليكِ السلام، يا سنوات المجد!
ثم هب في وجه عادل صائحًا:
- لأنه ذنبك أنت قبل ذنب أي امرئ آخر!
رفع عادل رأسًا مثقلاً:
- رويدًا، يا صديقي!
- لم أعد صديقك!
- إذا أردت أن تحاسبني، فلا تحاسبني على السنوات الحاضرة. الزمن تبدل مثلما تبدل الذين شاركوا في الهياجات الشعبية. حاسبني على تلك السنوات المجيدة إن شئت، ولن تمسك عليّ شيئًا يستأهل اللوم.
همهم المدير، وهو يتأمل للحظة حور اللوحة:
- عليكِ السلام، يا سنوات المجد!
ثم... متهكمًا:
- إلى السفر! إلى الحرية!
وَمَضَ بريق أمنية منسية لدى عصمت:
- نستطيع أن نفعل شيئًا.
طلب عادل بلذعة من السخرية:
- تريد أن تلعب دور البطل الآن؟
لعق ما تبقى في قعر كأسه، وانفجر يقهقه، كان يقهقه بقوة جعلت كل جسده يهتز، بينما عصمت والمدير ينظران إليه باستغراب. وعما قليل، حل القلق الوجودي محل المرح الصاخب، كان خائفًا من أن يحمل على عاتقه مسؤولية مستحيلة، والتزامًا لا طائل تحته. قال بكل استسلام الكون:
- لا يمكن المنفيُّ أن يفعل شيئًا في منفاه.
نهض، واعيًا لأول مرة في حياته أنه لم يكن حرًا، وأنه
لا يمكنه بالتالي اختيار ولا كيل تبعات أفعاله. تقدم بطيئًا من عصمت، وأشار بإصبعه التعب إلى هاويتين متشابهتين:
- المنفى أو الجليد، الجليد أو المنفى.
ثم خرج.
* * *
لا، لن يذهب إلى رؤية منى، كان مغيظًا ومشمئزًا ومقلَقًا ومحزَنًا، وبإمكان منى الانتظار حتى الغد. وإذا ما كان مرضها خطيرًا؟ على أي حال كان قد اتخذ قراره المتخاذل مثل كل مرة، لن يزورها إلا الغد. نظر إلى ساعته المقلوبة على معصمه، فوجد أن الوقت متأخر، وأن الليل والجليد يتساقطان في كل مكان. كان ذلك سببًا على سبب لئلا يزور منى. أخذ الطريق الصاعدة إلى قصر مدام حرب، إلى كريمة، وفي رأسه فكرة وحيدة: أن يجهضها! وإذا ما مانعت، أن يعمل كل ما بوسعه ليقنعها. لا بد أن أستأصل منك العار، وإلا لن تكوني لي أبدًا! كان يعي الصعاب التي يجب عليه مواجهتها، أو كان يظن أنه يعي. استعاد ما قاله المعتصم: الوطن مفتوح على الوطن، ولكن...! وأيقن: كل شيء ضدنا، نعم، كل شيء على الإطلاق! وبكى قلبه دموع الدم. وجد باب القصر مفتوحًا، فدخل إلى القاعة الكبيرة، ولكن لم تأت كريمة هذه المرة إلى لقائه. ألقى نظرة في بعض حجرات الطابق الأرضي، ثم صعد إلى الطابق الثاني، وانتهى بالوقوع عليها متمددة في سريرها. اقترب من المدفأة القديمة، وخلع كل ثيابه. تقدم منها بخطوات صامتة، وهو عارٍ تمامًا، صعد على السرير الضخم، وتمدد قربها. فتحت عينيها، وشدت الغطاء على نهديها. بدا له أنها تبكي. كان يفهم كل ما يعتصرها من ألم. لمس بإصبعه شفتيها، فسرى في وجهها تيار أشبه بالبرق، وغدت وجنتاها جمرية الملمس قرمزية اللون. أزاح عنها الغطاء، فبدا كتفا الحمام اللذان لها، كتفاها المشيقان، ونهداها المديخان، نهداها المعطران. كان حُسن جسدها أروع من حُسن جسد ملاك الخطيئة. وضع وجهه بين نهديها، وتنفس رائحتها من أعماق رئتيه، ثم ربض عليها. أخذت تتأوه، وتشده إليها، تتأوه، وتشده، وتنفث: حبيبي! حبيبي، حبيبي! لعق لها أذنها وذقنها وأسفل عنقها، وهمهم:
- لا أريد الطفل.
فقالت:
- بلى!
عضعض حلمة نهديها كجرو أعمى، ورضع، وهي تتشنج بلذة ككلبة مستباحة:
- أريدكِ أنتِ فقط.
- يا لك من أناني!
ترك نفسه يسقط على بطنها، وقبّل سرتها، وفرجها، فتأوهت تأوهة كبيرة. عاد يصعد، وولجها، فعلت، ثم هبطت. ترامى إلى جانبها جامدًا، مغطى بالعرق. شعر باللزوجة، وشم رائحة وداد، الرائحة المسيخة لحيواناته المنوية. قال لنفسه: لم يكن ممكنًا تحاشي القتال المنتهي دومًا بهزيمة لذيذة! لحد تلك الساعة أنفق كل طاقته، وحتى ولو لم يكن الوضع إلا مؤقتًا، ستكون الجولة القادمة خاسرة مسبقًا. تركته كريمة للحظة إلى الحمام، فأحس بنوع من الارتياع: أراد أن تعود إلى شرنقته، شرنقته هو، إلى علبة سردينه، إلى عالم عذابه، إلى واحة سلامه، ليس ذلك إلا ليشعر بنفسه صافيًا، حتى دون أمنية. المهم أن يبعد ذلك الخوف. وقال لنفسه: لا، لن توافق على الإجهاض!
أخذ مكانها أول ما خرجت من الحمام، واغتسل بدوره. عاد قرب المدفأة القديمة، وارتدى ثيابه البيضاء والسوداء.
- أتعرفين لماذا أريدك أن تجهضي؟
نبرت بسورة، وهي تصر على رأيها:
- سأحتفظ بالطفل شئت أم أبيت.
- لماذا لا تفهمين؟
- ماذا تريدني أن أفهم؟
صاح:
- يجب عليّ أن أنزع عنّا آثار العيب، وإلا فكيف تريدينني أن أخلص من ملاحقة مدام حرب الدائمة لي؟
أرادت أن تقول شيئًا، لكنه قاطعها:
- واذا ما كان الفاعل أبي؟
فرمت بنفسها بين ذراعيه:
- لماذا تريد موتي؟ لماذا تحكم علي بالعذاب الأبديّ؟
- وإذا ما كان عمي النائب، أو عمي القاضي، أو عشيق أمي؟
و كالمجنون:
- مدام حرب هي أمي، أتفهمين؟ هي أمي! مدام حرب هي جرمي، فلا ترغميني على الشعور بالذنب طوال حياتي.
بعد مضي لحظة الذعر الأولى، جمع بين أصابعه ليلها المنهزم، وهمس:
- نحن عفنون حتى العظم، والطفل، هو، الطفل برئ، نعم، برئ، لهذا أنا لا أريده أن يصبح النتاج النموذجي لمجتمع فاسد عن بكرة أبيه!
وقبل أن يتركها:
- سأمرُّ عليك الجمعة وسأرافقك من أجل هذه العملية الصغيرة، فهو اليوم الوحيد الذي لا أعمل فيه. هل تعرفين المكان؟
- أعرفه.
- ستنتظرينني؟
- نعم.
- أنت لك روح عظيمة ونبيلة، أتعرفين؟ لم يسموك كريمة للا شيء، نعم، أنت كريمة الكريمة!
وإذا لم تخضع له ماذا ستكون عندئذ؟
وهو يهبط الدرج إلى الطابق الأرضي، سمع من جديد نواح الرجل الرهيب، وصرخاته القانطة، فحث الخطى إلى الخارج، إلى الليل والبرد. وفي الخارج، أحس بالانتعاش. عندما وصل إلى المحطة، كان قطار منتصف الليل قد توقف لتوه. وجد الشاويش وعادل يلعبان النرد كالشيطان والإله، حيّاهما، وصعد إلى حجرته. فكّر في كريمة، كان لديه شعور كلما فكّر في كريمة بأنه ينفصل عن نفسه، وأنه يأخذ وجها آخر، أراد أن يرى نفسه في المرآة، ولكنه لم يشترها بعد تلك المرآة اللعينة. لم يكن يتعمد ذلك، لم يكن يريد ذلك، لم يكن ينسى ذلك: كان يتحول ما ينقصك إلى شيء أساسي في حياتك مثل كل ما
لا ينقصك، المرآة المفقودة مثل ثيابك النظيفة، ويغدو كل شيء شرط نفسه، عبثٌ هو، ولكن... هو هكذا. وقس على ذلك كل ما هو ناقص في الحياة، من الوطن الضائع إلى الحذاء الأسود والمعطف الأبيض والحقيبة البيضاء والمظلة البيضاء. ذهب القطار، وبقي عصمت يتقلب في سريره طويلاً دون أن يجد النوم. كان يبحث بيأس عن أساس عقلاني لحياته. دون فائدة. كل شيء ما كان سوى تفاهة وبطلان. وفي عمق الليل، سمع صرخاتٍ قريبةً، ونباحًا بعيدًا آتيا من قلب الحقول.

19
لم ينطلق نفير البوق البدائي كما هي عادته كل صباح، فنهض عصمت مشغول البال، وقد أربكه ألا ينفخ الفلاحون في بوقهم العتيد، ومن أجل ذلك تطلع من النافذة، لا من أجل أن يرى إذا ما كان المطر يصب مدرارًا في باطن الأرض. اتجه إلى مغسلته البدائية، تغسل، وتمشط. حلق ذقنه على زجاج النافذة، وملأها بالجروح. ارتدى ثيابه النظيفة، وتعطر. نظر إلى ساعته المقلوبة على معصمه: ستأتي رقية بين لحظة وأخرى. وبانتظار أن تأتي، شرب قهوة، وأكل خبزًا بالزيت والزعتر. طرقت رقية الباب، ففتح لها، وابتسم لابتسامتها. في كل مرة كان يبتسم فيها لابتسامتها كان يشعر بفقدانه لشيء منها، لم يكن يعرف ما هو. قالت: الجليد يذوب، ولكن لم يزل البرد يقص الحجر! ارتدى عصمت معطفه الأسود، وحمل محفظته السوداء، وسار بحذائه الأبيض في شارع القرية الوحيد. كان وحيدًا. نظر إلى الأزقة والبيوت والأبواب والنوافذ، ولم يقع على أثر واحد لشخص حي غير أثره . قال لنفسه: يمكن أن يكونوا قد ذهبوا كلهم خلال الليل! كانت القرية تسقط في صمت رهيب. نظر إلى بحيرة السماء، فبدت ضحلة، قليلة العمق، ومحدودة الامتداد، تنتهي مثلما تبدأ عند حواف الأرض الميتة. أحس عصمت في فمه بطعم غريب، راح يلوكه بفظاعة: كانت مكابدة كل ذلك العقاب قليلة التصديق! أي عصر مقيت، أي مكان مقيت، أي هواء مقيت، أي ضوء مقيت، أي عقل مقيت، أي قلب مقيت، أي وطن مقيت، أي طريق مقيتة إلى المجد!
بدأ يشم رائحة العفن، فسد أنفه، كانت الرائحة الكريهة غير تلك التي للجماع، كانت تنبثق من أمعاء الأشياء نفسها. صارت حاجته إلى كريمة بقوةِ حاجتِهِ إلى إزالة تلك العفونة، ولولا أنه وصل أبواب المخيم، ورأى بعضًا من تلاميذه لقفل راجعًا إلى ذراعيها. أصبحت الرائحة في المخيم المنعزل لا تطاق، أشبه بمزيج من اللحم الآنض والجثث المتفسخة. تخيل أجساد أسماك ميتة طافية في زيت مُفْسَد، تخيلها في علبة محكمة الإغلاق، وتحول العالم إلى علبة ضخمة للأجساد الميتة. سعى في الداخل، وفي الداخل كل شيء كان ميتًا. تذكر رغبة المدير في السفر إلى أمريكا، وقال لنفسه: حتى إلى الجحيم إذا كان يمثل ذلك أقل حظ للخلاص! لأنه كان يرغب في العيش تمام العيش، وليس كما اتفق، لأنه كان يرغب في العيش، لأنه كان يرغب في العيش دون أن يشمئز من العيش! وسارع يطمئن نفسه: سأجهضها ثم سأتزوجها، وسأذهب معها بعيدًا عن هنا، بعيدًا عن هذه الحدود التي تمنعني من التحرك والانتقال، والتي تجبرني على التجمد والتخثر! سأذهب معها إلى قلب الأشياء، وسأصنع لها طفلاً آخر إذا بقيت تصر على أن يكون لها واحد. ابتسم بحزن: ما فائدة العودة إلى بداية النهاية ذاتها! سنواصل جرَّ ذنبنا، وستحتفظ مدام حرب بحرية فعلها وقدرتها على ملاحقتنا ووصمنا!
مرَّ بعين ماء المخيم الوحيدة، ولاحظ ما لم يلاحظه أبدًا فيما مضى: كان النبع المتجمد يذوب! وكانت تند عنه رائحة نتنة. حتى النبع! فكّر في السكان المختفين بين جدران التنك: لا بد أنهم يموتون من الظمأ! إنها النهاية! إنها نهاية كل شيء! ولم يجد في تخلص كريمة من الطفل ما يجدي نفعًا. ردد: إنها النهاية! إنها النهاية! أدرك أن رقية لم تلحق به كعادتها، فالتفت، وهو على باب فرع المدرسة مرات، عله يقع عليها. لم تأت رقية إلى صفها طوال النهار، فتضاعف قلقه: ماذا حصل لها؟ لم تكن حجرته على مثل تلك القذارة ليأخذ تنظيفها منها كل هذا الوقت. وما أن انتهى الدوام حتى اتجه إلى المحطة ليقف على الأمر. كان قد عزم على الذهاب لرؤية منى المريضة، ولكن بعد أن يطمئن على رقية، صاحبة الابتسامة التي تدفئ له القلب، والتي تفقدها في كل مرة شيئًا منها. وجدها، وقد نقعت بلاط المحطة في الماء، وزحفت على يديها وقدميها تجرف الأوساخ والأوحال. رقية الرقي، التقدم، والرفاه. رأى فخذيها، وشعرها المتساقط حتى الأرض، ورأى عنقها الطويل. انزرع أمامها. ابتسمت له ابتسامة، إحدى ابتساماتها الخاصة بها. كان قد فقدها كلها. أراد أن يرفعها، ولكنه بقي مستمرًا أمام كل ذلك الخضوع، وكل ذلك الاستسلام، وكل ذلك الإصرار على العبودية. لم يطلب أي تفسير، وقد فهم كل شيء.
قالت وهي تنتصب بوسطها الأعلى:
- طلب مني مأمور المحطة أن أقوم بالتنظيف مقابل بعض النقود.
أمسكها من ذراعها، ورفعها متوسلاً:
- سأعطيك كل ما تريدين، ولكن ارفضي المهانة، ليست المهانة مهنة لك.
كان في عينيه دمع النبي، ولكنها هي، كان على شفتيها دمع الملح:
- ماذا أفعل؟ وأمي تريد أكثر ما يكون من النقود!
أعاد بنبرة مالنخولية:
- سأعطيك كل شيء، كل شيء، سأعطيك كل شيء، ولكن ارفضي المهانة.
أحسَّ بها تفلت من بين أصابعه، وتعود إلى وضعها المهين. عندئذ، وصل مأمور المحطة، فحياها لمهارتها في التنظيف، وربت على كتفها، وطلب منها أن تصعد لتنظيف حجرته بعد أن تنتهي. نظر في عيني عصمت، وأعلمه أن صديقه عادل قد وافق على العمل معه كمساعد، ثم راح يقهقه، وصعد بعد ذلك إلى الطابق العلوي.
* * *
سأل عصمت منى:
- لماذا لم تقولي لي إنك مصابة بكبدك؟ آه، يا لمنى المسكينة!
كانت لها نظرة ضائعة في الفراغ، في نقطة بعيدة، وكانت عيناها صفراوين بعد أن شحب لونهما الأزرق. كان عصمت قلقًا عليها:
- لماذا لم تأتي بطبيب؟
لم تجبه، فسألها قلقًا أكثر فأكثر:
- ماذا هناك، يا منى؟
- أتعرف أنه كتب لي؟
تذكر ذلك الصديق الذي أراد أخوها أن يذبحها بسببه.
- ماذا يقول؟
- لم يزل يريد الزواج مني، بعد أن يتخرج.
- هذا رائع! عليك إذن أن تعالجي نفسك.
- أتعرف ماذا أجبته؟
- ماذا؟
- أن ينزع هذه الفكرة من دماغه.
رمى عصمت يده بحركة يائسة، وهمهم:
- آه، كم أنت قاسية، يا منى!
ابتسمت، ونهضت. أشعلت شمعة، فغرقت الحجرة في اللون الأصفر. قالت بصوت منخفض:
- آه، كم أريد الموت!
أحسَّ عصمت بقلبه يقفز، وأحسَّ بنفسه أقرب ما يكون منها، في نعش واحد. ارتعش: لا بد أنها تتمنى الموت من كل قلبها! عزم على الذهاب، وعدم العودة، فسمعها تقول:
- طالما أنني أموت موتًا بطيئًا.
انحاز عصمت إلى الضحك:
- لا بد أنك تبالغين، فكبدٌ مريضٌ ما قتل في الحياة أحدًا.
أشارت إلى الشمعة:
- بلى، أنا مثلها تمامًا، في الصباح أكون قد انتهيت.
ثم، بعد سكوت طويل، نبرت:
- لماذا لا تذهب؟ أعرف جيدا أنني مسئمة!
أختار عصمت الضحك مرة أخرى، وطمأنها. سألها إذا ما تناولت عشاءها: لم تشرب سوى بضعة أكواب من القهوة، فصاح:
- كل شيء إلا القهوة، القهوة هي السم للكبد! انظري إلى عينيك، تتوقدان اصفرارًا!
ابتسمت، وعبست:
- وماذا يهم؟ لا بد للشمعة أن تنطفئ على أي حال.
جحظت عيناها، فبعثت في قلبه الذعر، وتابع بعينيه شفتيها اللتين راحتا تتحركان بآلية:
- انفذ بجلدك، وإلا وقعت في كارثة اللون الأصفر، فأنا، لو تعلم، أراك أنت الذي يتوقد من شدة الاصفرار!
ألح:
- لا بد أن يأتي طبيب ليفحصك.
- لا!
- لماذا؟
- لأنني أريد الموت، بالموت فقط أحرره مني.
حلَّ سكوت أطول من السابق إلى أن بدأت تصلهما من وراء الجدار المقابل لهثات المتعة الصادرة عن المدير ووداد. علت اللهثات في أجواء الغرفة إلى أن وصلت أقصاها، ثم بدأت تخفت بالتدريج، وتغرق مثل حطام قارب في وسط الأمواج. راح عصمت يشم رائحة الجماع عبر الحائط، رائحة أداخته، وكادت تطرحه أرضًا. أمام استغراب عصمت ونظرة الاستهجان التي كان يلقيها من حوله، انفجرت منى تضحك كالمعتوهة.
رددت كالمختلة في عقلها:
- آه، أي منى ضائعة، أي منى ضائعة!
فغادر المكان بعجلة.



20
قبض الرجل الرهيب على سوطه الرهيب، ولسع به ظهور الفلاحين، فنضح الدم، وهو يجرف أكوام الجليد. بدأ الرجل المستبد يئن من الوجع، والجرح في كفه يبعث في قلبه الفزع مثلما تبعث الفزع في قلوب الضباع الجراح التي في أكفها. صاح:
- هذا ما أدفعه لكم، أيها الأوباش! هذا ما أدفعه لكِِ، أيتها الكائنات البدائية!
ماجت صفوف الفلاحين، وهبت ريح التمرد. كان الدم قد حفر طريقًا إلى بطن الأرض، والقامات المتساقطة قد حاولت النهوض. فحَّ السوط من جديد، لكن بعضهم أبدى عن نواجذه، وبعضهم الآخر أشهر مخالبه أو جرد سيوف جراحه من أغمادها، وراحوا يجأرون جميعًا كالثيران الذبيحة. تراجع العملاق بحصانه، فانقض الفلاحون على السوط الذي مزقهم يريدون بدورهم تمزيقه. أفلته الرجل المستبد، وانطلق نحو القصر، فانطلقوا في أعقابه، وازدادت ريح التمرد عتيًا. صاح الرجل الرهيب، وتوسل، وطلب العون من السماء، فهرع لنجدته الشاويش مع بعضٍ رجاله المسلحين، وهم يسددون بنادقهم إلى الصدور، ودوت الطلقات دوي الرعود. رموا الفلاحين العصاة في الشاحنات، ثم في المعتقلات. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد بل اتجه أعوان الشاويش إلى الأكواخ التي أحرقوها، ثم وثبوا على بعض الحيوانات الهزيلة التي ذبحوها. تضاعف طوفان الدم، وتصاعدت أطواد الدخان. كان عصمت في طريقه إلى موعده مع كريمة، فشاهد كل هذا دون أن يكون باستطاعته فعل شيء. مثل كل مرة، كان كل شيء يتجاوزه. ومثل كل مرة، كان كل شيء يزيد من يأسه. كان اليأس في كل مرة بداية جديدة ليأس قديم، وكان دم المقهورين يجدده، ويزيده قوة ومناعة. أسماه عصمت باليأس - الهامة، كالجثة التي تنهض من قبرها ليلاً لتمتص دماء النائمين. وقبل أن ينهي رجال الشاويش شغلهم، أتت الريح بوقع الحوافر، ثم بدت بعض الخيول السود، وبدا بعض الفرسان الملثمين. أطلقوا النار على بيادق الأمن، وقتلوا بعضها، وابتعدوا بعد ذلك بسرعة البرق.

21
أول ما رأته كريمة، رمت بنفسها بين ذراعيه. كان قد تأخر، وهي تعيش في القلق، وقلبها يدق دقًا عنيفًا.
- حبيبي! أنا مكروبة، يا حبيبي! لماذا تأخرت كثيرًا،
يا حبيبي؟ لماذا تركتني وحدي؟
مست بأنفها أنفه، ومزجت بنَفَسها نَفَسه. شمت فيه رائحة الاضطراب الجليّ والكآبة المبهمة، فسألته:
- ماذا بك، يا حبيبي؟ ماذا أصابك، يا حبيبي؟
أبعدها عنه بكل هدوء، وسأل:
- ألم تري المذبحة؟
- سمعت بعض الطلقات.
- لقد قتلوا الفلاحين.
عادت ترمي بنفسها بين ذراعيه:
- أنا خائفة!
- لا تخشي شيئًا.
- أنا خائفة! أنا خائفة!
- لا تقلقي!
- لهذا أنا لن أذهب اليوم إلى حيث أردنا الذهاب.
- إذا لم تتخلصي من الطفل الآن، كان من الصعب ذلك فيما بعد.
ولكنها بقيت على موقفها:
- لا، أنا لن أذهب اليوم.
تركت ذراعيه إلى مقعد:
- إنهم يقتلون الجميع، وأنا خائفة!
همهم يائسًا:
- كما شئت.
أراد الذهاب، فنهضت إليه تجري. طوقته من ظهره، وراحت تتوسل:
- لا تذهب، يا حبيبي، لا تتركني وحدي.
- في النهاية، أنا لم أصنع لك!
- بلى!
- أردت أن نبدأ حياتنا معًا، ولكن، يا إلهي! أين الفائدة؟ بالطفل أو بدونه، فلن يغير ذلك من الأمر شيئًا.
- كلا!
سكت. اعترفت كريمة:
- إذا كنتُ لا أريد أن أذهب إلى الإجهاض اليوم، فهذا لأنني خائفة، وليس لأنني لا أود ذلك. إذا ذهبت اليوم مت، أنا أعرف. أيرضيك أن أموت؟ الموت يترصدني في وضح النهار، في الخارج، وأنا، لو تعلم، لا أحب ضوء النهار!
أراد أن يقول لها: ابقي داخل صدفة مدام حرب التي لا تقهر إلى الأبد، واتركيني أواجه الموت وحدي. ولكنه ربت على كتفها:
- الجمعة القادمة إذن؟
- نعم، الجمعة القادمة.
سار خطوتين باتجاه الباب، فأوقفته:
- ولكنني بحاجة إليك.
ومن جديد جاءت تضمه من ظهره:
- أريدك أن تبقى. أريدك أن تكلمني، قل لي شيئًا. أتذكر يوم التقينا للمرة الأولى على ذلك المقعد المنعزل؟
واصطنعت طريقته في الكلام:
- لأول مرة أقدم نفسي لشخص لا أعرفه، عصمت، هذا هو اسمي، ربما اعتبرتني مجنونًا!
وضحكت، أدارته، وبشفتيها مست شفتيه مسًا خفيفًا:
- آه، يا حبيبي! هل تحبني؟ قل إنك تحبني! وبعد ذلك، جاءت قصة الغرق في النهر. صحت بك: توقف أيها المجنون! ماذا تفعل؟
وقلدته من جديد:
- كما ترين، أريد الغرق!
ومرة أخرى ضحكت، جذبت رأسه إلى عنقها، وغابت للحظات من شدة الانتشاء:
- ثم أردتَ أن تلاقيني في النهار، وحددت موعدًا. أتيتُ، ولكنك كنت نائمًا. في الكرى خلاص النائمين، هكذا يقولون. ومع ذلك، لو لم تنم، واستقبلتني بملء ذراعيك، لاختلف الأمر، لوجدت خلاصي أنا. لهذا لم يكن الرجل الذي أحبه في الكلمة التي دفعتها في جيبك سوى اختراع محض، اخترعت هذه القصة لأبعدك عني، ولهذا أيضًا هربت منك عندما وجدتني بالصدفة بعد ذلك بأيام، وتبعتني. أتذكر؟ يبقى ذلك السباق اللامجدي كجرح عميق في قلبي. كنت أسمع صوتك على عتبة باب مدام حرب، ولم أكن لأجرؤ على التنفس لئلا تسمعني المدام. ومع ذلك، أيًا كان الأمر، فهو ليس كذلك، ليس كما هو عليه أبدًا، ونحن نجهل إذا كنا ما نعرفه مخالفًّا للصواب. أحيانًا أتساءل ما معنى كل هذا البحث، كل هذا الهرب، كل هذا الألم، والعالم واسع بما فيه الكفاية كي يسعنا كلنا، مدام حرب ونحن كلنا. وفي اللحظة التي أرى فيها شعاعًا من الأمل يختلط كل شيء في نفسي. أنا لا يقين لي، يا حبيبي، هذا شيء لا يرضي، أنا أعرف، ولكنه أقوى من طاقتي، شيء يتجاوز إدراكي.
توسلت كريمة:
- نادني باسمي كما ناديتني في المرة الأخيرة، هلا ناديتني باسمي؟
همهم عصمت قبل أن يذهب:
- هذا ما أردت سماعه منك، منك أنت، أن تناديني، أن تناديني أنا، باسمي.
* * *
عرف عصمت من تلاميذه أن أمَّ المعتصم بالشجاعة قد ألقيت في المعتقل بدلاً من ابنها، فعزم على الذهاب إلى المخفر من أجل السؤال عنها. وهو في الطريق، صادف قافلة من الراحلين الذين يتقدمون عكس مسار الريح، شيوخ وأطفال ونساء، يسيرون تحت تهديد بنادق المنفى. وهو أمام باب المخفر، لم يصدق عينيه، رأى رقية مقعيةً، وهي تجرف الأوحال والأوساخ، ورأى كيف دغدغ لها شرطي إليتيها، وسمع قهقهات زملائه الآخرين. نظر إليها في عينيها، فلم تبتسم له كما هي عادتها، ولاحظ أنها صارت دميمة ونحيلة.
احتج عصمت لدى الشاويش:
- ماذا يعني هذا؟ تريدون المعتصم، فتحبسون أمَّه؟! ما جريمة الأم إذا أُلصقت على رأس ابنها تهمة؟
نصحه الشاويش ألا يعود إلى طرح الموضوع ثانية، فالأمر خطير، يتعدى صلاحياته، وهو يتعلق بالخيانة، وخيانة الوطن في عرف القانون أعظم جريمة. ليس من المقبول إذن أي تدخل ولا أية وساطة للحيلولة دون تطبيق العقوبة المستحقة. كان من الأفضل له أن يلزم بيته، وألا يتدخل فيما لا يعنيه. لقد سبق وحذره من المعتصم عدة مرات قائلاً إنه ولد مشكوك في أمره، وقد أثبتت الأحداث صدق كلامه. وهبَّ به صائحًا فجأة:
- إطلاق الرصاص على رجال الأمن جريمة يستحق صاحبها الإعدام فورًا!
أضاف أن المعتصم لا يعمل وحده كما ثبت ذلك للجميع، فهو يتزعم عصابة من اللصوص والقتلة الآتين من الطرف الآخر.
وأشار بإصبعه إلى الحدود.
خلال ربع ساعة، حاول عصمت النظر إليه بعين موضوعية ومجردة دون أن يصل إلى ذلك. كان يحقد عليه.
***
مضت أيام والريح تولول في أزقة الحداد، وبقيت بحيرة السماء عذراء من كل غيمة بشكل يائس. رافق منبه عصمت نفير البوق البدائي في ذلك الصباح، فنظر من النافذة، ورأى الأغصان المتكسرة. لم ينتظر رقية بعد أن توقفت عن العمل عنده، تذكر حالها، وأحس بالذنب. اتهم نفسه بالضعف، وبكونه عاطفيًا، وقال لنفسه: لا يد لي في شيء! فهي التي أرادت ذلك، هي بنفسها أرادت ذلك، وليس صحيحًا أن أمها أجبرتها بدافع الجشع. كان بإمكانها أن تقول لا! وضحك من نفسه ومن نظرية النفي ونفي النفي: هل بإمكان أحد أن يفعل ما يشاء؟ كان كل شيء يتجاوزهم، كان كل شيء يتجاوز إرادتهم، كان كل شيء يتجاوز قواهم، كان كل شيء يتجاوز وسائلهم، حتى نَفَس الحياة، حتى الأماني، حتى الأحلام، هذا إذا لم يزل كل هذا موجودًا بالنسبة لهم، كان كل شيء يتجاوزهم! قطع قرعاتِ الطبل الرتيبة سيفُ الريح، فعجل عصمت بارتداء ثيابه النظيفة، شرب قهوته، وأكل بضع حبات زيتون. قبل أن يخرج، ارتدى حذاءه الأبيض، ومعطفه الأسود، وأخذ محفظته السوداء. رغب في رؤية نفسه في مرآة، عزم للمرة الألف على شراء واحدة بعد الدروس، وذهب إلى فرع المدرسة.
في الطريق، سمع سعالاً حادًّا، متقطعًا، واندفع أمامه أحدهم دون أن يمنع نفسه من التقيؤ. امتد عند قدمه مستنقع صغير من المائع الأصفر اللزج، ولم يستطع عصمت أن يفعل شيئًا. وكلما رفع قدمه، وحطها من جديد امتد مستنقع القيء. كان الناس يخرجون، وكأنهم يخرجون من اللامكان فجأة، ويقيئون، فلا تسمع سوى الحشرجات، ولا تشم سوى رائحة القيء الثخينة الخانقة للأنفاس، المتفّهة لكياناتنا الرخيصة. ألا يوجد طبيب في البلد؟ فكر في منى: هي أيضًا بحاجة إلى طبيب. على بعد خطوات من هناك، وجد كلبًا ميتًا، ثم رجلاً ميتًا، وطفلاً ميتًا، وطفلة ميتة، وبعد ذلك رأى امرأة ميتة، وقطًا ميتًا، وكلبًا آخر ميتًا، وطفلاً آخر ميتًا، وطفلة أخرى ميتة. اندفع رجل عاري البدن خارج بيته التنكي، وكأن أمه ولدته كبيرًا منذ قليل، وهو يبصق مائعًا مقرفًا، وذهب لينسحق في حفرة. هرع كلب كالمسعور نابحًا على أي شيء، قافزًا فوق الجثث، متخبطًا في مستنقعات القيء. ارتعد عصمت، وجعل الرعب قلبه يدق بقوة شديدة جدًا. كان عاجزًا أمام الموت والقيء والنباح والسعال. كانوا يسيطرون على البيئة وحدهم، الناس الذين يسعلون، والكلاب الذين ينبحون. رأى من يبصق الدم، ورأى من يعض الحجر، ورأى من يحاول الانتصاب بكل قواه، الانتصاب لماذا؟ ذهب عصمت يعدو في طلب عون المدير، فوجد رقية في بيته، وهي تجثم على البلاط، وهي تجرف الأوحال والأوساخ. لم يستهجن سلوكها، ولم تبتسم له رقية. لاحظ كيف يحفر الهزال وجنتيها، ويكسر انسجام شفتيها، وتناسق عينيها الجميلتين. قال لها إنه يريد رؤية المدير، فأخبرته بأنه نائم. دخل عصمت عليه غرفته، وأيقظه. استغرب المدير، في البداية، ثم ابتسم على نبأ المرض الفاتك الذي يجتاح المنطقة. تساءل ماذا باستطاعته أن يفعل؟ واقترح أن يخبر مأمور المحطة أو الشاويش، فلدى كل منهما سيارة بفضلها يمكن الذهاب إلى أقرب مدينة وإحضار طبيب. فضل عصمت الاتصال بمأمور المحطة. كان مأمور المحطة وعادل مشغوليْنِ بزرع خطوطٍ، وقلع خطوطٍ، والريح تصفر، وتكاد تجتث الأشجار من جذورها. أخبره بالكارثة الزاحفة ضدهم جميعًا دون استثناء، فرد مأمور المحطة أنه قوي كثور، أنه لا يخشى شيئًا، وأنه إذا ما وقع له شيء، فهو مقدر من عند الله. لم يكن متحمسًا للذهاب حتى المدينة من أجل الإتيان بطبيب، إلا أنه وعد بأن يقوم بذلك بعد وصول قطار منتصف النهار. لاحظ عصمت عليه أن من المستحسن الذهاب حالاً، فحالة الطرقات تجعل من السياقة صعبة. طلب منه مأمور المحطة ألا يقلق للأمر، فسيارته صغيرة لكنها قوية، لا تخشى لا الحجارة ولا الريح ولا الحفر. استغل الفرصة ليخدع نفسه أمام الإدارة التي لا تُرى ولا تُقَدّر ولا تُلْمَس، والتي لا تتوقف عن التهديد رغم عدم تجليها، معيدًا أن البلدية ستعبد كل الطرق عما قريب. ابتسم عادل لعصمت، وقال: لو كنت طبيبًا لانتظمت الأمور! كان من السهل عليه أن يقول ذلك، فمن لا التزام له لا موقف له. وطلب منه ألا يهتم، وألا يعقد الأشياء، هذا المرض ليس خطيرًا إلى الدرجة التي يتصورها، أكثر ما يهم أن تتوقف الريح. كان يقف مواجهًا الريح، والريح تجعله يترنح.
عندما عاد ثلاثتهم إلى المحطة، وجدوا رقية قد وصلت لتوها، ففحص مأمور المحطة ساعته، وتقدم منها هائجًا لأنها كانت متأخرة. جذبها من شعرها، وصاح:
- أتريدينني أن أدغدغ لك الإليتين حتى أدفعك إلى العمل؟!
تخلصت رقية منه، وصعدت إلى الطابق العلوي جريًا، وعصمت يقف في مكانه متسمرًا. التفت مأمور المحطة إليه، وقال:
- هؤلاء البشر عليك أن تكون ليثًا ما بينهم وإلا اعتبروك جرذونًا! أنظر، بالله عليك، هذه البنت، انتشلناها من عرض الطريق لنسترها، وها هي تستهين بنا، عديمة الذمة!
راح يبصق على قرية الرعاع، ويشتم، وعصمت يقف دومًا في مكانه متسمرًا، ليس باستطاعته أن ينبس ببنت شفة.
سمع عصمت من حجرته بكاء رقية، فأخذ يبكى هو أيضًا. وقف طويلاً من وراء النافذة، وهو ينظر إلى الصَّبَر والريح، ويبكي. كان يبكي بكاء الولد الصغير الذي كانه. وصل قطار الثانية عشرة، ثم غادر، ولم يذهب مأمور المحطة في طلب الطبيب. فضل عصمت ألا يتدخل من جديد، وظل يغلق على نفسه باب حجرته، وهو يكاد يموت من القلق. حط الظلام، فخلع ثيابه، واندس في فراشه. فكر في رقية، وفي كريمة، وفي مدام حرب. فكر في المرض، وفي الموت. سمع ضربات حجارة النرد، وقهقهة مأمور المحطة الحادة، وصوت الشاويش الخشن، وسمع كلمات عادل المداجية. كانوا في حجرة مأمور المحطة. وصل قطار منتصف الليل، فطلب مأمور المحطة من عادل الذهاب لتحويل الخطوط وحده، لأنه لا يريد قطع لعبته مع الشاويش. تابع عصمت خطوات عادل على الدرج، وابتعدت الخطوات مع ابتعاد الريح. ذهب بخياله إلى الحدود، فشاهد أشباحًا غريبة الشكل تأتي من الإمبراطورية البيضاء، ولم يمسك نفسه عن القول: إنها الكارثة! إنها الكارثة! إنها الكارثة! أخذت الأشباح تقفز، وتقفز، وتقهقه، محاصرة المحطة. لم تكن العزلة تحميه. خبأ عصمت رأسه تحت الغطاء، وسد أذنيه. بقي هكذا حتى ما بعد الساعة الواحدة، ثم، في عمق الليل، سمع صرخاتٍ قريبةً، ونباحًا بعيدًا آتيًا من قلب الحقول.

22
وصل مأمور المحطة بسيارته التعبة، وحمل حقائب منى مع عصمت وعادل. خرجت منى مرتكزة على ذراع وداد، وقد احتلها المرض لدرجة لم يعد فيها إلا ظل ماضيها. تابع المدير المشهد من وراء النافذة، جرع كأسه دفعة واحدة، وأتى لوداعها. نظر عصمت إلى منى بحزن، وخاطبها في طويته: يا لمنى المسكينة! جئتِ هنا مشرقة كالشعاع، وعدتِ كالشمعة المنطفئة! قال مأمور المحطة لوداد إنه سيعود إلى مساعدتها بين وصول قطار وآخر، بانتظار من يحل محل زميلتها، ثم راح يقهقه. وقفوا على رصيف المحطة منتظرين مجيء القطار، والريح تصفر في آذانهم دون انقطاع. ظهرت رقية شاحبة، وكنست الرصيف من تحت أقدامهم دون أن ترفع عينيها إلى عصمت أو أن تنبس بكلمة. ثم جاء القطار، كان فارغًا، فلا من آتٍ إلى الحدود! وقبل أن يذهب بمنى، سلم السائق لمأمور المحطة بعض الرسائل الرسمية. رفعوا لمنى أيديهم حتى اختفت، بينما هي لا تنظر إلى أحد، وعيناها ضائعتان في الفراغ.
ترك عصمت المحطة، واتجه إلى حيث هناك كريمة، والريح تصفر وتولول. حاول عصمت الذهاب إلى قصر مدام حرب عكس الريح، الوصول إلى مدام حرب، حاول الوصول إلى صولجان المدام القوية، ذلك الصولجان المنيع! ومع ذلك، كانت كريمة من عليه أن يجد. تساءل: أهي مضطرة حقًّا إلى الإجهاض؟ بعد كل شيء، ماذا يعني الإجهاض في عالم من العبث الجليّ؟ غدت الريح من القوة بحيث سمرته في مكانه، حتى أنها دفعته إلى الوراء، كما لو كان الكون كله يقاتله. ماذا يعني الإجهاض أمام تفاهة الحياة؟ كان كل شيء دون فائدة، كان كل شيء ضده، ولو لم يضاعف الجهد، لما استطاع أبدًا الوصول إلى القصر. ماذا يعني الإجهاض عندما لا يبدي العالم إلا اللامبالاة، مع الطفل أو دونه؟ وقال لنفسه: يمكن أن أفقدها، فلماذا أعرضها للموت؟ وجد عصمت القصر مفتوحًا كالعادة، والريح تصفر على أعتابه، والريح تصفر. لم يجد كريمة في القاعة الكبيرة، فصعد إليها في غرفتها. عندما وقعت عليه، أتته تجري. كانت خائفة. جعلته يطويها بين ذراعيه، وربضت بين فخذيه. دفعت أنفها بأنفه مازجة أنفاسها بأنفاسه، وراحت تهمس:
- أنفاسك يا حبيبي، أنفاسك!
كانت دومًا خائفة. التقمت شفتيه، وتوترت بين فخذيه. وبعد أن طردت الشهوةُ الخوفَ، تركت لعابها يسيل في فمه، فطرد القرفُ الشهوةَ. ابتعد عنها. القرف، الغثيان، الدوار. كاد يسقط. كان هنا صدفة، وكان يمكنه أيضًا أن يكون هناك. ترنح، كالكون كله تحت قدميه. كان كل شيء عارضًا: حضوره، حضور كل شيء. كان كل شيء وليد الصدفة. فكت أزرار قميصه لتلمس بيدها صدره، والتقطت بشفتيها حلمته. هبطت بشفتيها إلى أسفل بطنه، فاعتمد على المدفأة القديمة مثبتًا نظره في الجمر المتوهج. دمرته اللذة في الوقت الحاضر حتى انتزعت منه كل ما تبقى فيه من اشمئزاز. أطلق أنين اللذة، وانحنى ليرفعها، فطلبت لاهثة:
- خذني بين ذراعيك!
لكنه رفض، فلعابها الذي لم يزل طعمه في فمه كان يثير قرفه. اجتاحها شعور بالاحتقار، وأحست بالاستلاب في أعمق غور فيها.
قال لها:
- ليس هناك من سبب لأجل الإجهاض.
الاحتقار! الشعور الهائل بالاحتقار! وكأنه أعادها إلى الفكرة التي كانت تثيرها:
- بلى! أريد أن أتخلص من هذا العار!
- كنت تريدين الاحتفاظ بالطفل في البداية.
- في البداية، هذا صحيح، أما الآن، فأنا أدرك أنني
لا أستطيع الاستمرار هكذا.
الاحتقار والآن العار، كان استلاب كريمة يعمُقُ أكثر فأكثر. قال لنفسه: إذن هي لا تفعل هذا من أجلك، أيُّها الغبي!
أخذت يده، وقالت:
- يدك باردة، يا حبيبي!
وخشي أن تعود إلى لعبتها الصغيرة، لعبة الخوف والقرف والشهوة، فتخلص منها، وهو يفكر في إصرارها على التخلص من الطفل، وقال:
- هذا لا يخص أحدًا سواك.
لم يدفئها البرد في لهجته:
- ويخصك أنت أيضًا.
ابتسم بمرارة.
- هذا صحيح من قبل، أما الآن...
أراد أن يتركها، فرمت بنفسها بين ذراعيه، وابتهلت:
- لا تتركني، يا حبيبي، لا تتخل عني، سأتخلص من الطفل، ثم سأذهب معك إلى آخر الدنيا، سأفعل كل ما تشاء، كل ما تطلب مني.
لم يكن من الفائدة أن يحاول إقناعها، أن يضاعف عذابها. أراد أن يقول لها: أردت ذات يوم أن أكون عمودًا على ضفة نهر، وهاءَنَذا هو بالفعل، بعيدًا عن ضفة النهر، عمود لا يضئ! بعد أن تحققت الأمنية الكريهة، لم تبق له أية إرادة. تأوَّه، فسألته عما به.
- لدي ألم في رأسي!
وتمنى لو يغادر القصر بأي ثمن:
- أنت مستعدة؟
- نعم.
قال بصوت منخفض:
- لنذهب حالاً.
في الطريق، لفت انتباهها إلى خطورة العملية، ولكنها كانت قد قطعت قرارًا، ففكر: تريد أن تلعب ورقتها الأخيرة.
* * *
وصلا إلى كوخ مهجور، والريح تولول. طرق عصمت الباب المرتج، وعلى وجه كريمة يقرأ كل قلق العالم. ظنَّ أن الكوخ يتخلخل تحت طرقاته، رغم عدم حدتها، فالتفت إليها، وسأل لآخر مرة:
- ما زلت مصممة؟
هزَّت رأسها، أخرجت من محفظتها حفنة كبيرة من الأوراق النقدية، وأعطته اياها. قال كمن يسعى إلى نفي التهمة عن نفسه:
- انت مستعدة لاحتمال الألم، لاحتمال كل شيء؟
انبثق في عيني كريمة الحقد الذي اختفى منذ بعض الوقت، وهمست:
- لا يمكن أن يكون هناك ألمٌ أقوى مما بي.
- حتى الألم الأخير؟
نظرت إلى مقبض الباب البدائي، على فكرة الموت، وغرقت عيناها في الموج كالمرساة. قالت:
- الموت في كل مكان، أمامنا، خلفنا!
ومن جديد، أخذ عصمت يخبط على الباب بكلتا يديه، وقال:
- إنه لمن الخطر الشيء الكثير، وهاءَنذا أحذرك، لا أكف عن تحذيرك.
تمتمت كريمة، وقد اشمأزت من الحياة أو من الحلم كثيرًا:
- لقد وقع قراري، وعليّ أن أتحمل كل تبعاته.
فجأة، فتحت الباب عجوز شمطاء بشعة الابتسامة، فتراجعا قليلاً، وتعثرت كريمة. شدها عصمت من ذراعها، ودفعها:
- ادخلي.
أجلستهما العجوزعلى كرسيين مرتجين، ثم غابت من وراء ستار أسود يقسم الكوخ نصفين. اقتربت كريمة، وشدت نفسها إليه. أخذت تراقب هذا العالم الغريب الذي تقبع في جوفه، فترى موقدًا قديمًا منطفئًا، ومن السقف يتدلى نسيج عنكبوت تتحرك بطمأنينة، والنافذة مغطاة بطبقة من القذارة، وفي الحائط شقوقًا، وفي الشقوق لطخات دموية وطينية، وعلى رف مكسور قنديلاً مريضًا. قفزت كريمة من الرعب عندما اندس بين ساقيها فأر كأنه لعبة ميكانيكية معطلة. شدت نفسها إلى صدر عصمت، وهي تتنفس بصعوبة. سيطر عليها الخوف. راحت تتابع بعينيها زحف العنكبوت بأقدامها الألف قدم وقدم المشعرة، بينما وقفت، على مقربة منها، كتيبة من الصراصير المفزعة. وصلتهما همهمات المرأة الكهلة من وراء الستار، وقعقعة بعض الأدوات. شما رائحة العقاقير وغيوم الدخان. كانت ثمة بؤر في الأرض، وفيها تغوص أعمدة الدود. نفخت كريمة نفخات قصيرة من الخوف أثارت زوابع الغبار ملوثة أكثر الجو الملوث. أخذت تهتز كورقة، فطلب منها الذهاب، والوقت لم يكن بعد متأخرًا، لكنها بقيت في مكانها متجمدة، وكأنها فقدت القدرة على الحركة، ومن حولها فقط تنشط الدويبات. شل الخوف تنفسها، ومن حولها فقط تتنفس الأنقاض. وعلى حين غرة، جذبت الكهلة الستار جذبة ناشفة، وتقدمت من كريمة، وبين أصابعها المعروقة ذات الأظافر السوداء محقنًا ضخمًا. رأى عصمت السرير الملطخ، وطاولة الأدوات الرهيبة. بينما راحت الشمطاء تضغط المحقن، فيندفع العقار من رأسه الدقيق، وكريمة تجحظ عينيها، مرتعبة.
سألت العجوز بصوت فظيع:
- ماذا يا صغيرتي، أنت خائفة؟
هزَّت كريمة رأسها دون أن تفلت عصمت، كانت تشد نفسها دومًا إلى صدره، وكأنها في صدد السقوط. عادت العجوز تسأل بصوتها الفظيع:
- أين النقود؟
بحث عصمت في جيبيه، وما أن أخرج الأوراق النقدية حتى امتدت الأصابع المعروقة ذات الأظافر السوداء نحوه، وانتزعتها منه. أخذت الكهلة تلعق بلسانها إصبعها ليسهل عليها عدها، دون أن تتوقف عن الهمهمة لحظة واحدة. أخفتها كلها في مكان متعرج تحت قماط صدرها، ومن جديد، لوحت بيديها القذرتين في وجه عصمت، ونعقت:
- ليست هذه كل النقود!
وجد في جيبه بعض القطع الفضية التي اختطفتها، ومدت أظافرها السوداء إلى خاتم في إصبع كريمة، وانتزعته. وبعد أن تفحصته مليًا، دسته والقطع الفضية في صدرها، وراحت تقهقه كاشفة عن أسنان قرضها السوس.
دفعت كريمة إلى السرير، وشدت من ورائهما الستار. سمع عصمت همهماتها المرعبة، وأنفاس كريمة الواهنة، ثم غاب مع روائح العقاقير والدخان. لم يشعر بالكوخ، وهو يهتز تحت ضربات الريح. لم يشعر بالكون، وهو يترنح على حافة الزمن اللانهائي. لم يشعر بالآلهة، وهي تهرب من عبث الأقدار. كان يغيب عن كل ما يحيط به تحت أثر روائح الموت، وكان يذهب كالثمل بين أذرع فاتنات المنون كعوليس من قبله. فجأة، أعادته إلى نفسه صرخة حادة. جذب الستار، فرأى الكهلة تغرق في الدم، وقطرات كالجمر تسيل من أظافرها السوداء.
* * *
ترك عصمت نفسه للريح العنيفة تدفعه إلى الأمام، وقلبه يبكي دموع الدم: قتلتك مدام حرب، يا كريمة! هي التي قتلتك! كنت أحلم بأجمل حياة مع كريمة بعد الإجهاض، فأماتها الإجهاض. وكنت أسعى إلى إنقاذ رقية من وضعها البائس، فسقطت في وضع أشد بؤسًا. وكانت منى تهرب من حبيبها خوفًا من حب مهدد، فوقعت في أحابيل المرض بدلاً من أحابيل الحب. وقِسْ على ذلك كل حياة، كل ما هو جوهري فيها، وكل ما لا قيمة له. ملأ الدمع عينيه، ولولا الريح التي كانت تدفعه إلى الأمام لما وجد إلى المعتصم بالشجاعة طريقه. قبل أن يطرق عليه الباب، جاءت الريح بإيقاع الحوافر، وإذا بالحصان الأسود يشق له في الريح ممرًا، وكأنه يخرج من جسدها، فتنفتح الريح،
ولا تلبث أن تلتحم من ورائه.
نزل المعتصم عن حصانه الأسود، وعلى كتفه سلاح كالقمر. أخذ عصمت بين ذراعيه بأسى، وقال له إنه علم منذ قليل فقط بموت كريمة، موت النفس الكلية، وهو من أجل هذا عاد. كان عصمت ينظر إليه، وفي عينيه حزن الكون. أضاف المعتصم إن كريمة ضحية بين العديد من الضحايا، ولكنها ضحية الضحايا، وسيهدر شلال الدم عما قريب، فتنهض كل الضحايا، كل الضحايا بلا شك، كل الضحايا.
أدخله، وقدم له فنجان شاي. أخبره أنهم ألقوا القبض على صديقه جواد، ألقوا القبض عليه يومين قبل اجتماعه بالملائكة السود. أخبره أيضًا أن زنزانة صديقه تجاور زنزانة أمه، وهو سيعمل كل ما بوسعه من أجل إعتاقهما من ليل السجن. أراد أن يذهب، فسأله:
- إلى أين؟
أجاب المعتصم، وهو يبتسم:
- ستنشب الحرب عما قريب.
بدا على عصمت عدم الفهم، كان كالمخبول أو كالغائب، يابسًا كلوح الخشب، ينهبه الشعور بالإثم. أعاد بشكل آلي:
- ستنشب الحرب عما قريب! أي حرب؟
- الإمبراطورية البيضاء تحشد قواتها على طول الحدود، فالجيش مضطر إذن إلى القتال.
ودائما لم يكن يبدو على عصمت أنه فهم، أن عليه مبادلة الجحيم الأبدي بجحيم آخر، فاقترب المعتصم منه، أخذه من كتفيه، ونفضه:
- كُفَّ عن التفكير في كريمة، واذهب إلى أمي، وقل لها إنني آتٍ بالحرية.

23
طلب عصمت أن يرى الشاويش للحصول على تصريح بزيارة أم المعتصم، فكشف له شرطي أن الشاويش بصحبة ضابط كبير أتى خصيصًا للاجتماع بأهالي القرية، وسيكون الاثنان في الساحة العامة بعد ساعة، وما عليه إلا أن يذهب هناك، ولا بد أنه - بصفته معلمًا، هو السيد وأهل القرية العبيد - واجد الفرصة للحديث مع الشاويش.
خرج من مخفر الشرطة في نفس الوقت الذي خرجت فيه رقية، فناداها، ونظر إليها، إلى عينيها، كان الضوء الأسود يغرق في ليل العينين الجميلتين. ابتسم لها، لشفتيها، وما عادت شفتاها تعرفان طعم الابتسام الحزين. سألها إذا كانت تتعب كثيرًا، فأجابت لا. وسألها إذا كانت تربح من النقود كثيرًا، فأجابت لا.
صاح:
- ما الفائدة إذن؟!
أخذا طريقًا إلى قلب أحد الحقول، وهما يقتلان مرة أخرى النبتات القتيلة، فتمضي الريح الغضبى في بحيرة السماء، وهي تولول منذرة بالعاقبة. كان يبدو ذلك كلعبة شرسة من لعب الأطفال تغضب الآباء. طلب عصمت من رقية أن تعود إلى المدرسة، وأن تعمل عنده ما كانت تعمله، سيعطيها معادل ما تربح في مجموعه من شاويش المخفر، ومأمور المحطة، ومدير المدرسة. هكذا لن تستشيط أمها عليها، ولن تضربها، لأن لا فائدة تعود عليها من عملها القاسي هذا سوى أن تخسر صحتها وابتسامتها. أعلمته بأنها لم تعد تخشى أمها، ولتذهب أمها إلى الشيطان! وهي على أي حال تركت البيت منذ مدة، ولن تعود إليه. ومثلما قالت لا تربح شيئًا كبيرًا، ولكنها توفر معظم ما تربحه من أجل أن تشتري بيتًا خاصًّا بها وحدها. وبما أن ما تربحه ليس كافيًا، فهي توافق على العمل عنده إضافة إلى أعمالها الأخرى، طالما هو من يطلب ذلك. ستحتفظ بعملها عند الشاويش وعند المأمور وعند المدير. أشفق عصمت عليها، وقال لنفسه: لا تعرف المسكينة رقية أن الموت يرصدها، وأن الحياة عبارة عن إحالة وعبث ولامعقول. ها هي في الأخير اختارت المهانةَ نزعةً والكابوسَ حلمًا.
ختمت:
- أريد بيتًا كبيرًا يصل السحاب.
تابع أين ذهبت عيناها، فوقع على القصر المبرقش بكل الألوان، قصر مدام حرب البعيد أكثر ما يكون بعدًا، والقريب أكثر ما يكون قربًا.
* * *
وصل عصمت إلى الساحة في نفس الوقت الذي وصل فيه بعض سكان المخيم والقرية المتأخرين، كانت الساحة غاصة بالناس، ولا مكان هناك لقدم واحدة. وبصعوبة شقَّ عصمت ممرّاً بين صفوف الجالسين على الأرض أو الواقفين إلى المنصة. كان الضابط يتكلم، ومن ورائه جلس وكيل أعمال مدام حرب والشاويش ومأمور المحطة وعادل والمدير. لاحظ قربهم بعض وجهاء الفلاحين الذين يراهم لأول مرة، كانوا حليقي الذقون، نظيفي الديمايات، كحيلي العيون. تساءل: أين كانوا مختبئين كل هذا الوقت؟ عندما رآه الشاويش، أفسح له مكانًا إلى جانبه. صعد عصمت على المنصة بخفة، وجلس بانفعال.
أخذ الضابط يصيح بالناس مهيبًا بهم روح العزيمة:
- أنتم الأمة! إذا شئتم أن تكونوا أمة حقيقة، فالله يشاء! وإذا أبيتم أن تكونوا أمة حقيقية، فالله يأبى! لقد كنّا نترقب منذ زمن بعيد اليوم الذي ستُحَدّد فيه ساعة الصفر، لاسترجاع الحق وتحرير الأرض، وهاءَنَذا أقول لكم إن ساعة الصفر تقترب، وعمَّا قريب سنضرب ضربتنا الكبرى، وستكون هزيمتهم أفظع هزيمة!
قال عصمت لنفسه: إنها الحرب إذن! أمس حاصرهم الجيش، وذبحهم، ورماهم في المعتقل، واليوم يعدهم وعودًا لا أكثر منها شططًا. بدأ يراقب الوجود المتوترة، المتأثرة بِحَمْوِ القتال القادم، فالحرب هي المطر الذي سيسقط أخيرًا! أخذت الريح تصفر فوق الرؤوس المرهقة بالفكرة الرهيبة، ولم يقل ليس أكيدًا نصرهم، ولكنه فكر إذا انتصروا، فسيكون نصرهم، وإذا انهزموا، فستكون هزيمته! نظر حواليه، وتأمل من جديد وجوه الجالسين على المنصة، المنقبضة أو المرتخية. انحنى قليلاً ليشاهد بشكل أفضل وجه الضابط المصمم، والواثق تمام الثقة من قطف ثمار النصر بعد أن (( نضرب ضربتنا الكبرى ))، وكم وجده قبيحًا! طابق بين ذلك الوجه، بدمامته الكبرى، ووجه العجوز القاتلة التي زرعت أظافرها السوداء في مهبل كريمة، وتأوه: آه، يا كريمة، لو أمتلك القوة على الانتقام، لبدلت دفة الحرب إلى حيث يجب هناك أن يبدأ القتال! تفحص شفتي الضابط الغليظتين، المشققتين، وأصغى لصيحته التي تحاول عاجزة تغطية صيحة الريح:
- أعظم من التشتت هل يوجد؟ أعظم من تدمير الشتائل هل يوجد؟ أعظم من المرض والظلم والبحث عن الخبز والشقاء هل يوجد؟ إذن كيف ستكون قوة أعدائنا أمام كل قوانا الجبارة هذه التي أراها فيكم؟ لا شيء! مسيرتنا المقدسة إلى الوطن هي طريقنا الأوحد إلى التحرر من فقرنا ومرضنا وبؤسنا ومن كل أشكال الظلم الأخرى. وما العدو إلا حشرة جبانة يمكننا سحقها! سنكون محصنين ضد العدوى لباقي السنين، وسنعود لنملأ صدورنا بعطر البرتقال الذي زرعناه بأيدينا، وبرائحة البحر، وأثير الياسمين بزهره الأبيض!
صرخ، وعيناه تجحظان:
- إلى الحرب! كلنا إلى القتال!
ضجَّ الحضور، وعصمت يحدق في الأفواه التي راحت تجلجل كطلقات المدافع في عمق واد يرجّع الأصداء والأوهام: إلى الحرب! إلى الحرب! رأى حقلاً من الأذرع المرتفعة فوق الرؤوس التي كلت الانحناء. أحس بنفسه مشبعًا برائحة الموت، فقال لنفسه: سيكون الغد داميًا! كان يخشى أن يعم العالم لون الحداد، ولكنه تفجر متعة على فكرة ان كل هذا الدم الأسير سينطلق فجأة كالأنهار الهائجة. فكر أيضًا كم سيلذ الغرق في موج من القِرْمِز.
انفجرت صيحة:
- نريد سلاحًا!
زمجرت الحناجر مدوية:
- نريد سلاحًا! نريد سلاحًا!
رمى عصمت وجه الضابط بنظرة، فرآه وقد ازداد قبحًا بسبب ارتباكه. تأتأ الضباط:
- انتظروا الأوامر، لم نستلم بشأن توزيع السلاح بعد أي أمر.
لحظة من الصمت، ثم...:
- علينا أن نرص الصفوف في الوقت الحاضر من حول جيشنا المظفر، نعم، فلنرص الصفوف من حول جيشنا المظفر، ولنكن روحًا وقلبًا لجيشنا المظفر!
ولكن لم يعد أحد يستمع إليه بعد أن أجمعوا على حمل السلاح، فغطت الصيحات المدوية صوته:
- نريد سلاحًا! نريد سلاحًا! نريد سلاحًا!
دوى نفير البوق البدائي تدعيمًا للصيحات، ثم جاء دور الطبول، التي من عادتها أن تكون رتيبة الإيقاع، ساخنةَ التناغم وسريعة. تضاعف الهرج والمرج في ساحة القرية، وكأنه يوم الحشر!
نهض الشاويش، تبعه مأمور المحطة، وبعض الفلاحين الوجهاء، وأسكتوا الأفواه الصائحة، المتحمسة على فكرة إعلان الحرب. كمموا سر النصر، ليكمل الضباط كلمته، وعصمت لم يزل يفكر: سيكون نصرهم إذا انتصروا، وستكون هزيمتي إذا انهزموا! ورغم طاعتهم السريعة تلك، فإنهم بدوا واثقين من جديد ثقتهم بأن تلك الرياح البعيدة لن تأتيهم بالمطر القريب! تبدى لعصمت أن في أياديهم مشعلاً كبيرًا، انطلقوا به إلى ساحة الحرب، والبوق البدائي يصرخ بكل حناجرهم، معلنًا عن موت جميع الآلهة. نعم، فهم أمة حقيقية إن شاء الضابط أم أبى، وإذا ما كان بينهم أولاد أو بنات، فسيعودون بعد الحرب رجالاً حقيقيين ونساء حقيقيات. فكّر عصمت أنه سهل العطب، متردد، متقلب، شفوق، خالٍ من الأحلام الكبرى، أن له رأسًا مليئًا بالأفكار وحياة فارغة. فكر أنه إذا لم يذهب معهم، فلن يكون مثلهم رجلاً حقيقيًّا! ومع ذلك كان يعلم أن انتصارهم انتصار لهم وحدهم، وهزيمتهم هزيمة له وحده!
صاح الضابط بقوة حتى بح صوته:
- انتظروا ساعة الصفر، انتظروا الأوامر، وكونوا يقظين، فالأعداء يتربصون بنا من كل جانب. ستأتي الأوامر بين عشية وضحاها، ربما مع القطار القادم، وما علينا في الوقت الحاضر إلا الانتظار.
تحرك الحشد عبر الحقول نحو الطرق المؤدية إلى المحطة، وتقدم بعضهم بصعوبة بسبب هبوب الريح، ولم تزل بعض الهتافات تدوي:
- تحيا الحرب!
- يحيا التحرير!
- تحيا الحرية!
- الموت للجنود البيض!
همس عصمت في أذن عادل بصوت يفله القلق:
- سيسمعون كل هذا الضجيج، في الطرف الآخر.
أجابه عادل كما لو لم يكن يشعر بألم ولا بمتعة ولا بخوف ولا بشهوة:
- سيكون الأمر قد انتهى!
تركهم عصمت، وهو يفكر: سيكون الأمر قد انتهى! وبعد أن تخيل كيف ستندك الحصون، وكيف ستتساقط في رحم الحرائق، أحس بأن هناك حزنًا عميقًا في جهة ما من صدره، وأن كل شيء يحيط به سيتغطى قريبًا بنفس ذلك الحزن. لكن سيكون الأمر قد انتهى! ستسطع الشمس السوداء للكآبة المبهمة دومًا. شدت انتباهه رائحة كحول نافذة، فرأى مديره يمرُّ به دون أن يقول كلمة واحدة. تساءل: كم من كأس استطاع أن يشرب؟ هو الآخر سينفق في معركة الشرف، هو الذي حاول الانتحار أكثر من مرة! فهل ستكون محاولته الأخيرة الناجحة؟ تخيله وهو يحمل سلاحه بيد وزجاجة ويسكيه المعهودة بيد، وفكر: هذه الزجاجة ستكون أكثر سمكًا وأكثر صفاء من أنهار الدم. سيشرب لموت كل جندي أبيض يقتله، ولموت كل قرويّ يقتله جندي أبيض، سيشرب كثيرًا؛ لأن أمواتًا كثيرين سيسقطون. فكر في أن الكائن الإنساني مرصود للعيش بسلام، ورفض فكرة الموت بما أن الأرض كبيرة بما فيه الكفاية بحيث تسعنا كلنا، مدام حرب، ونحن كلنا! لكنهم اختاروا أن يقتلوا ويموتوا. اختاروا بعد أن اختير لهم. إنه اختيار عدم الإرادة العظيم. اختيار عدم اليقين، المشبع بالأحلام الكبيرة، الكبيرة ولكن المجهضة. كانت كريمة حلمه الكبير المجهض. أراد أن يصرخ باسم كريمة، أن يناديها، أن يقول لها: أحبك. الآن وقد متِّ أحبك حبًّا عظيمًا، يا كريمة! أحبك حبًّا أقوى من كل الحروب! لو لم تمت، لكانت الحياة قابلة للحياة! كان أحد الفلاحين الذين بقوا في المؤخرة قد سبقه إلى المحطة في أعقاب الآخرين، وهتف به:
- كلنا فداء للوطن!
فكر عصمت في مدام حرب: مرة أخرى ستغسلين الدم عن أظافرك السوداء الرهيبة! أراد أن يقول لها في وجهها إنها ليست أفضل من حشرة رغم كل ما في يديها من أسرار! عندئذ ارتسمت أمام عينيه صورة الحريق القريب، وقد أحال اللهب البلاد إلى مجمرة ضخمة. ومع ذلك، فقد كان اللهب يحرق طوال الوقت، ولكنه كان باردًا كالشمس القطبية فوق صفحة الأرض المزروعة بالنبات القتيل، الشمس الجبارة، كتلة النار، ستسقط على الأرض عما قريب. ستحترق الأرض كما احترقت عظام أجداده، كما سيحترق الجسد الملوث لحبيبته، كما ستحترق ذكراها التي ظنها اغتسلت بضوء داكن، تلك الذكرى التي عذبته كثيرًا. ستختنق ذنوبها وحبها وحقدها وكل خطاياها في الدخان المدمر. ستحرق منى مرضها، منى التي لم تكن حرة في سجن هواها، مع غرامها، وقلبها، وعينيها، وأيام غدها التي لم تَعِدْ عصمت سوى عذاباتٍ ومآسٍ. لقد اشتهاها مرة، واستسلم لرغائبه معها مرتين أثناء رحلتهما في القطار مدفوعًا بالوثوب الحيوي والانفعال الذي لا جدوى منه. ستتحرر منى، وسيحررها عصمت من ألمها بدفعها في قلب المجمرة. سيتعاظم الحريق، سيضطرم الليل، وسيضطرم النهار، وستغدو مدام حرب حفنة من رماد، وسيكون ذلك متعةَ كريمة، الضحية، أن تراها تتفحم. سيحترق الشاويش، ومأمور المحطة، والمدير، والحقول، وأكواخ التنك، وحلم رقية الجميل المشؤوم، وستحترق دموع الكل، وكل نُفُوسهم، وكل أنفاسهم. نعم، سيحترق نَفَسي، هذا النَّفَس الذي كان يُثمل كريمة عندما كان يخرج من رئتيّ السهلتي العطب! سيتصاعد دخان سميك وحزين، ولن تكون هناك طيور في السماء، فهي الأخرى ستكون قد امحقت، وسينضاف الدخان الكاسف إلى الخراب والتدمير، وسيغرق الكائن الأعلى في السواد الرهيب للهول. لن يبصر عصمت شيئًا في عالم البؤس هذا، حيث يرتشق لون الحداد في كل مكان. لن يبقى لديه أدنى أمل. لن يبقى لديه أدنى تفاؤل. ستمحق الأعمدة المضاءة منها والمنطفئة، وستتبخر الأنهار المتلاطمة منها والمستسلمة. لن تضطهده كريمة أبدًا، ولن يشعر بالقرف من جراء ابتلاعه لعابًا تتركه يسيل في فمه، فلا قبلات بعد، ولا سفر في قطار صوب حدود أخرى، ولا منى، ولا لعبات حب، فلن يكون ثمة حديد بعد أن تنصهر خطوط السكة الحديدية، ويذوب كل شيء أو يتحول إلى بخار. لن يكون ثمة جديد.
كان الدمار يقترب. كان يبدو وشيك الوقوع. كان يقترب، ويقترب. سيخسر الإنسان كل شيء، الأم والبحر، الوالد والوليد، ولن تبقى - إن بقيت - سوى عاطفة واحدة، عاطفة الحيوان نحو أخيه الحيوان. سيقع العالم قاطبة في خسارة عظمى لن يعوضها شيء، حتى ولا العودة إلى زمن الأنبياء.

24
تساءل عصمت: ما معنى كل هذا إذن؟ هل يبقى قابعًا ما وراء الحريق منتظرًا إلى أبد الآبدين؟ كان الناس يمسونه، وهم يمرون به في الظلام، دون أن تنجح مشاعلهم على الصمود في وجه الريح، ولم تتوقف الريح عن الصفير. كانوا يأخذون طريقهم اللامعبدة إلى المحطة، بانتظار أن يأتيهم القطار بنبأ اندلاع الحرب الواعدة حلمًا وغبطةً. اندفعت بعض الكلاب المتعاركة بين ساقيه، فقذفها ببعض الحجارة. وصلته هتافات بعيدة:
- كلنا فداء للوطن!
فكر: إنها الحرب! إنها الحرب الأكيدة! حتى ولو انهزموا، فعليه أن يلعب دور البطل الذي أراد حزب عادل أن يفرضه عليه ذات مرة. إنها البطولة الجبرية! أعجبته الفكرة، فذهب معها تمحيصًأ. كان البطل بالأحرى المعتصم الذي سيأتي بالانتصار تاركًا له الهزيمة. سيكون بطل الهزيمة، ولكنه بطل دومًا على الرغم منه. دبَّت في نفسه رغبة ملحة في كأس. تقدم من باب المدير بقدم حازمة، طرقه طرقتين، وانتظر. وصلته موسيقى الفونوغراف بوضوح، ولكنه لم يمكنه أن يحزر إذا ما كانت لموزارت أو لبتهوفن. فتح له المدير الباب بقميص أحمر، وكأس ويسكي بيده، فهتف عصمت بنبرة بدت مرحة على غير العادة:
- امنعوا المدير من أن ينحني!
انحنى المدير، وقال:
- الأستاذ أحق بالتكريم والولاء!
تصافحا، وسارا إلى ركن قرب المدفأة، والنار الحطبية تفرقع، وتزفر، وترسل صرخات التوجع. أشار المدير إلى الفونوغراف، وقال:
- لا بد أنك تعرف هذا اللحن. شتراوس، وهذا هو (( دانوبه الأزرق الجميل ))!
قال عصمت ضاحكًا:
- كنت أظنه موزارت أو بتهوفن، ومع هذا حتى طفل صغير كان سيعرف (( الدانوب الأزرق الجميل )).
كانت الحرب قد انفجرت في كيانه، وكانت قد بدأت بالهجوم على معارفه، وعما قريب ستُفرغ كل روحه، ستُعدم كل شيء. قدم له المدير كأسًا، وهتف، وهو يحاول بجهدٍ خنقَ ضحكة:
- إنها الحرب إذن!
هز عصمت رأسه بثقل علامة الموافقة، ونظر إلى النافذة، فرأى أضواء المشاعل عبرها تظهر تارة وتارة تختفي. أتاه غناء بعض الأطفال الساهرين:

طال ليل الليل
في الشتاء الكبير
فغنى
صاحب العش الصغير

وغنى
آخر ليل فلا
آخر صبح بعد ذاك الليل الأخير

وغنى
صاحب العش الصغير
وإلا
طال ليل الليل وما
عاد سرب العصافير

وإلا
طال ليل الليل وما
عاد سرب العصافير

ردد عصمت: ما هذه سوى حيلة! ما هذه سوى حيلة! وبالأحرى ما هذا سوى كلام شرير، شرير، وباعث على الشعور بالإثم، لأننا كلنا ضحايا ليلٍ وأغنية، بريئون ومذنبون. ستكون الحرب المخربة هذه آخر أغنية، حرب لا تفرق أي تفريق بين الطفل والبالغ، بين الإنسان والحيوان. لم تهدأ الحركة في الخارج، فنظر عصمت إلى ساعته المقلوبة على معصمه، وقال:
- ولكنها لن تصل إلى ساعة الصفر ساعتي هذه المقلوبة على معصمي!
جاء صوت المدير عنيفًا:
- ليتها لا تصل أبدًا!
جرع كأسه دفعة واحدة، عاد وملأها، وطوّر وجهة نظره:
- أفضل أن أراك تقطع الزمن لا أن أرى الزمن يقطعك.
قال عصمت مبتسمًا:
- هذه الحرب لن تكون حربك على أي حال.
- بلى! إذا وقعت الحرب، فستكون حربي، وستجدني في صفوفها الأمامية.
رد عصمت:
- ولكن هذه الحرب بعيدة أكثر ما يكون البعد عن أمريكا.
- يجب عليك القول: الحرب ليست حياتي، ومع ذلك، تتوقف عليها كل حياتي.
- وهل ستخرج منها منتصرًا؟
- لا، لا أعتقد!
رفع المدير عينيه إلى حور اللوحة المعلقة على الجدار، فرآهما عصمت حمراوين كجمرتين على وشك التفجر الأخير. ما لبث المدير أن ابتسم، وواصل:
- في الجنة أو في الجحيم لن نكون أنفسنا.
نهض، وأوقف الأسطوانة. جرع كأسه دفعة واحدة، ثم عاد وملأها. تقدم بالزجاجة العتيدة من كأس عصمت، لكنه رفض:
- لا، كفاني!
- ألا تشرب ليلة الحرب؟
- أشرب، ولكن على فكرة الحرب كل جرعة تضاعف سكري، دماغي مسقى بها.
- كل الدلائل تشير إلى أنها على وشك الوقوع، ألم تلاحظ خطاب الضابط الحماسي؟ والراديو؟ ورد فعل الناس؟ كل شيء يغلي!
عاد إلى الفونوغراف، وضع تشا تشا تشا، وعصمت يفكر: كل شيء يغلي! ورغم أن كلمة (( يغلي )) لا تثلج الصدر، فإن الصورة كانت مغرية. هكذا كان وضعهم، وضعٌ يوشك أن يدوم طويلاً. نظر إلى الآخر الذي يحاول الاهتزاز على إيقاع الرقصة، وفكر: على الرغم من هبوب الريح، فإن الأرض تموت. أهو شرط الريح؟ أهو شرط الرقص؟ سمعا طرقات على الباب، فقال المدير:
- هذه وداد.
وذهب ليفتح لها، فإذا به يقع على مأمور المحطة الذي دخل بقدم خفيفة، وقال بصوت لاهث، إنه يبحث عن المعلم. قفز قلب عصمت في صدره، وسأل عن السبب، فشرح مأمور المحطة:
- الحرب واقعة بين لحظة وأخرى ما في شك، والأرصفة ملأى بالبشر، بانتظار القطار القادم الآتي بالنبأ، وكأنه يوم النشور!
قال عصمت مبتسمًا:
- ليكن يوم النشور، أتخشى الحساب، يا مأمور المحطة؟
اعترف:
- أخشى العقاب! العقاب الذي نستحقه لأننا تركنا الطيور تغادر أقفاصها دون أن نقص لها الأجنحة. يجب علينا تهدئتها بأقصى سرعة، وإلا غدت خطيرة لا تتراجع أمام شيء.
وكما بدا أن عصمت لا يفهم شيئًا، أوضح المأمور:
- الضابط يطلب منك، يا أستاذ عصمت، أن تقنع أهل القرية بالعودة إلى بيوتهم، وبترك الحرب لصاحبها الشرعي، وصاحبها الشرعي هو الجيش، والجيش وحده.
أطلق عصمت صيحة استغراب، وكل التبعات التي له والتي لغيره تلزمه الحرب بها:
- أن أقنع أهل القرية بـ...
- نعم، أن تقنعهم بالعودة إلى بيوتهم، والعدول عن مشاركتهم في الحرب، بعد أن تُبين لهم استحالة ذلك.
- ولكنني لست ابن سينا.
- أنت وحدك، بصفتك معلمًا، من يستطيع ذلك، لأنك أنت السيد، وهم العبيد!
ما أن أتم مأمور المحطة كلامه، حتى اقتحم عدد من أفراد الشرطة بيت المدير، واصطحبوا عصمت إلى المحطة حيث كان الناس منتظرين. طلب عصمت إليهم العودة إلى بيوتهم، فلم يطع (( العبيد سيدهم )). صاح بعضهم مطالبًا بالأسلحة، ودون أن يتوقع أحد، أتت قوة كبيرة من فرسان الخيول الصهباء، من الناحية التي يترقبون منها القطار، وراحت تضرب بعصيها المتجمهرين وبأعقاب البنادق، فتفرقوا، وهم يصرخون من شدة الارتعاب، وتم اعتقال الكثيرين من العُصاة.
في سجن الليل، لم تغف لعصمت عين، ونار الأعقاب الدموية تقدح في جبينه. أية حرب دامية نخوضها بأنفسنا ضد أنفسنا! أية حرب لعينة نضرب فيها بيدنا على يدنا! تقلّب، وهو يحاول التخلص من صفير الريح العاصفة، ونحيب الشجر الممزَّق. وما لبث أن سمع قرقعات طاولة النرد، وصوت الشاويش الأجش، وقهقهة المأمور الحادة، وكلمات عادل المتملقة. أتت صفارة القطار عند منتصف الليل كالعادة، ففكر: انتهت الحرب ولما تبدأ بعد! أخذت أسنة الرماح الدموية تحفر في جبينه. تخيل المعتقل الذي ضاق بالمعتقلين، وتَمثّل أم المعتصم، وهي تبكي بحرقة دون أن يمكنها غسل الدم، وجواد، وهو يقبض على القضبان بقوة دون أن يمكنه زحزحتها. صاح بفم مطبق: وامعتصماه! كان القطار قد غادر الأرصفة الدموية، وفي عمق الليل، سمع صرخاتٍ قريبةً، ونباحًا بعيدًا آتيًا من قلب الحقول.

25
مضت شهور طويلة دون أن تعلن الحرب رسميًا. لم تحشد الإمبراطورية البيضاء قواتها على طول الحدود كما كان يعتقد الجميع، ولم تعقد النية على اجتياح البلاد. ما كان يقلق عصمت، خلال ذلك، انتفاخ بطن رقية يومًا بعد يوم، فرقية ذات الخمسة عشر ربيعًا كانت حبلى! نهض من فراشه على دوي البوق البدائي، وفي الغرفة شمس رهيبة لم يستطع الصمود في أشعتها سوى بضع لحظات: حتى مع ذهب الصباح الأبيض، كانت الشمس تسلخ البدن سلخًا. تصبب عرقًا، فاتجه إلى المغسلة البدائية. اغتسل، وتمشط، وتحسس لحيته النابتة، ولكنه لم يستطع الوقوف في الشمس ليحلقها أمام زجاج النافذة. عزم على شراء تلك المرآة الكريهة في الحال. ارتدى قميصه الأسود، وبنطاله الأسود، وحذاءه الأبيض، وخرج، فوقع على رقية راكعة ببطنها المنتفخ، وهي تفرك الدرج الوسخ. توقف، ونظر إلى بطنها بذعر، ولكنها لم ترفع إلى عينيه عينيها. سار في الطريق اللامعبدة، وغاص في شبكة الخيوط اللاهبة. كان بعض الأشخاص يتجهون إلى المحطة، قالوا له إنهم سمعوا من الراديو أن الحرب واقعة بين ليلة وضحاها، وهم ذاهبون ليقفوا على صحة الخبر من القطار القادم. رأى عصمت عامة الناس تزداد كلما أوغل في الطريق اللامعبدة، فقال لنفسه: لا بد أن الأمر جاد هذه المرة! ولكنهم حتى الآن لم يكونوا يبتسمون، وكانوا يمتنعون عن الهتاف. اسودت الطريق اللامعبدة بالزاحفين، ووجد عصمت نفسه مجروفًا بين أكتافهم صوب المحطة من جديد. أحس خلال وقت وجيز بحركةٍ، كنهرٍ صغيرٍ يصب في نهر عظيم. ورغم شعوره بالذوبان في قوة عضلاتهم، فإن القوة على النتوء كانت قوته. ارتفع على أطراف أصابعه ليرى من فوق رؤوس كثيرة، محاولاً مقاومة الأشعة المدمرة. حلقت في خياله الطيور التي صفقت بأجنحتها في الريح، ولكن ذلك لم يكن كافيًا، فقد كانت الحرارة تسلخ أبدانهم سلخًا، وصورة كهذه سرابية لا معنى ولا مبرر لها. تساءل: لماذا ينتظرون إعلان الحرب ولا يبدأونها هم أنفسهم هذه الحرب التي لا يمكن إلا أن تكون رهيبة في كل الأحوال؟! امتلأت أرصفة المحطة شيئًا فشيئًا بالقامات المديدة وأمل القتال المخلّص. وماذا لو عاد فرسان الأحصنة الصهباء بعصيهم وبأعقاب بنادقهم مثل المرة الماضية؟ ستكون الحرب قد اندلعت، فالعزم المقروء في العيون يبدو شديدًا. دنا أقرب ما يكون من القضبان: سيأتي القطار بالصفارة المنذرة بالحرب عما قليل، وسيهتف الناس بصوت هادر كهدير العاصفة: كلنا فداء للوطن! وسيحسون على أكتافهم، ولأول مرة، سلاحًا حقيقيًّا، وعند ذلك، سينشدون نشيدًا حماسيًّا، وسيهتفون: نعم للحرب! نعم للتحرير! نعم للحرية! سيزخ الرصاص، وبعد كل رشقة سيهتفون: نعم للحرب! نعم للتحرير! نعم للحرية! وَفْقَ عصمت، كانت القافلة التي عثرت أخيرًا على نبع ماء في وسط الصحراء بعد أن تفجر نبع دمها.
أخذ العرق ينضح من جبينه، ومن عنقه، ومن صدره، ومن عقله، ومن عينه، ومن كله، من كل كيانه، وتابع العيون المثبّتة بالأفق، من الجهة القادم منها نبأ الحرب، وهمهم: إنه الارتقاب الكلي! نظر إلى السماء، وفكر في أنه الارتقاب لمدام حرب مثلما هو لهم: كانت مدام حرب تراقبهم جميعًا! وبسرعة، خفض عينيه، وعاد يتحاور مع نفسه. بدأ ثمة هدير يتعالى، فانتظر أن يكتشف طيورًا حقيقية تنقض من كل جهة.
علا صوت إلى جانبه:
- الساعة تقترب!
صاح آخر:
- هناك ما يأتي على خطي السكة الحديدية!
هناك ما يأتي على خطي السكة الحديدية، هناك من يأتي بالحرب... وبالحرية! أيمكن حقّاً أن تتماهى أمنية الحرب وأمنية الحرية؟ أما أنا، فأمنياتي بقيت هناك، فيما وراء الحرب. أيمكننا أن نأملَ بعدُ أيَّ شيءٍ أمامَ أملِهم الرهيب، أمل الحرب... أمل الحرية! ضحك في سره حتى دمعت عيناه، وتخيل رد فعل أمه عندما تعلم أن الحرب قد أُعلنت. سمعها تقول: نعم، هي حربي، بشرط ألا يشارك فيها ولدي! كانت بطبيعتها تخشى الموت، كانت الحرب لها هي الموت، كانت الحرب لها موت الآخر، دم الآخر، دمار الآخر، ألمه. إذن لم يكن هناك فرق بينهما إلا حول نقطة واحدة، أنه هو، في الحقيقة، كان يرى في ((حربهم)) الحياة، حتى في الموت، لحظة الانتصار. لهذا سيذهب معهم إلى ساحة القتال، وهو يعرف مسبقًا أن انتصارهم انتصار لهم، وأن هزيمتهم هزيمة له.
عاد الرجل يصيح:
- هناك ما يأتي على خطي السكة الحديدية!
رد عليه آخر:
- إنها الحرب!
زعق ثالث:
- لنا النصر!
رد عليه رابع من الرصيف المقابل:
- عمَّا قريب! عمَّا قريب!
عمَّا قريب! عمّا قريب! سال العرق في عيني عصمت كما سال في عيونهم كلهم، ولم يتوقف عن ترداد: عمَّا قريب! عمَّا قريب! اجتاحه يقين أشبه بيقين الفلاح العازم على الحصاد غدًا، وقد أثقلت الشمس حبيبات القمح بالذهب والحلم. بدوا من حوله يموجون كالسنابل في حقل الحياة المندفعة على أسرجة جياد الضوء، ولكنه تذكر الشتاء قاتل الزرع في الأثلام الحمراء قبل أن تشتد الأعواد اللينة، تذكر الضباب والبرد والليل والريح التي لم تقاوم الحرارة، تذكر سوط العملاق الجائر وكيل أعمال مدام حرب الرهيب، وفخذي كريمة الملوثتين بالدم والخطيئة، تذكر عيني منى الصفراوين، والحور المصلوبة على جدار المدير، وقال: عمَّا قريب! عمَّا قريب!
سأله أحدهم بعد أن أعياه الوقوف:
- هل ترى شيئًا؟
فلم يجد إلا إعادة:
- هناك ما يأتي على خطي السكة الحديدية!
جلس الرجل على الأرض، وصفوف أخرى قلدته. كانت الحرارة قاتلة، تستنفد منهم القوة بالتدريج، ولكن عيونهم بقيت تحدق في الارتقاب الكلي، ولم تعد أمنية هناك غير أمنية الحرب... وأمنية الحرية! آه، يا إلهي! أية أمنية رهيبة!
حصلت حركة غير متوقعة هزت الحشد، فإذا بالضابط والشاويش ومأمور المحطة وعادل والمدير ووجهاء الفلاحين وبعض أفراد الشرطة يشقون الصفوف إلى الرصيف بقدم مصممة. اغتبط البعض أمام مرور الموكب الرسمي، فحيوا الحرب، وحيوا الجيش، وحيوا الانتصار.
ومرة أخرى، استدارت الرؤوس إلى الناحية التي ستأتي منها البشارة. فجأة، دوت صفارة القطار الآتي بأقصى سرعته، فجلجلت الجموع بأصواتها. نهض الجالسون، وانضغط الواقفون. لم تعد أشعة الشمس المحرقة مهمة رغم أنها لم تتوقف عن سلخ أبدانهم سلخًا. تفجرت رائحة العرق، وجمدت تماثيل اللحم في دهشة الأمنية القادمة إليهم، ومرة أخرى دوت صفارة قطار المصير والنذير. دخل القطار ملآن بالجنود والأعلام، فتفجرت الصيحات والهتافات، ولما يقف القطار على طول الرصيف بعد حتى تسلقته الأيدي إلى الأيدي، والصدور إلى الصدور، والشفاه إلى الوجنات. صار الحَضْن، وصار العناق، وصار عيد النصر، والحرب لم تبدأ بعد.

26
انتشروا أيها الرجال، إلى خط النار، تفرقوا أيها الرجال!
كان القطار قد أفرغ حمولته من الجنود، واختفى من وراء الهضاب، بعيدًا، في سراب الرحلة. قفز نفر من الرجال عابرين القضبان إلى الأشجار العارية، وقفز نفر آخر من الشيوخ والنساء والأطفال. استقبل الحقلُ الملتهبُ الأقدامَ الذاهبةَ إلى الحرب من أجل شرف الأرض، وعاد الفم المتحمس يطلب من الرجال الانتشار، والاتجاه إلى الشمال، دون تحديد أكثر. أخذ بعض الرجال يجرون في خط منحرف، ففكر عصمت: لا بد أن ذلك بسبب سوط الشمس الحارق، بسبب حرير النار! صعد إحدى التلال، وصاح: مدام حرب، أنا لن أتي إليك! أغمض عينيه، وراح يجري بسرعة كبيرة، وكأنه يراهن على الهرب من قدره بإرادة لا طبيعية كإرادته، إلى أن اصطدم بجذع شجرة. مضت ساعة، وهو يجري مفتوح العينين هذه المرة، فاندهش لأن الطريق التي أخذها لا تصله إلى الحدود الشمالية. كانت تستمد طبيعتها من حيث هي إشارة إلى شيء آخر. وجد نفسه وحيدًا، فخاف بعد أن فقد قيمته الباطنة. وصله دوي البوق البدائي من بعيد، وسمع قرعات الطبول المتتالية، الزمجرة المعلنة للحرب. أصغى عله يسمع تفجير القنابل أو أزيز الرصاص، ولكن الهدوء كان مطبقًا. اتجه إلى الناحية التي يأتي منها دوي البوق، فإذا به وجهًا لوجه مع قصر مدام حرب المبرقش، وقد تمثل قدره الأعمى، مفتوحَ العينين أم مغلقهما. تنهد، وأوجع قلبه الحنين إلى كريمة. وجد نفسه يصعد الهضبة إلى غرفتها، ووصلها كما لو كان في حلم. أحس بظلالها تحيط به، أحس بقبلاتها، بنَفَسِها. تقدم من قميص ليلها، وحمله بين يديه، وهمس: كم أنت ثقيلة، يا عزيزتي! شدَّ قميص الليل إلى صدره بقوة حتى كاد يمزقه. تذكر أنه ذاهب إلى الحرب، وأن ساعة الصفر تدنو. لم تبق سوى بضع لحظات حتى تندك الحصون، ويتساقط كل شيء في رحم الحرائق. كان مشبعًا برائحة كريمة من قمة الرأس إلى أخمص القدم. علَّق قميص الليل، وهبط الدرج ثملاً. عندما وصل إلى القاعة الكبيرة، انفتح باب حجرة الرجل الرهيب، وخرج القط الأبيض، وهو يموء برقة. تقدم عصمت بحذر، ودخل الحجرة، لكنه لم يجد الطاغية بين الستائر المسدلة. فجأة، شدّته صورة امرأة في إطار على الجدار المقابل. كان وجهها يجمع بين العظمة والعجرفة معًا. تقدم من النقش المذهّب، وعرف من كانت تلك المرأة: مدام حرب! أصابه الدوار. تمالك نفسه عن غيظه، ووقف تحت الإطار مفكرًا. بدأ دمه يغلي، وامتلأ بالتحدي. قفز القط في صندوق مفتوح إلى جانبه، وجلس باطمئنان لا يصدق. اندهش عصمت عندما رأى ما يتكدس في الصندوق من شتى أنواع البنادق. تناول إحداها، وراح يقلّبها بمتعة. فجأة، تشنجت أصابعه، ولمعت في رأسه فكرة: أن يقتل مدام حرب! نعم، أن يقتلها! رفع البندقية، وصوبها إلى الصورة الرهيبة، وأطلق. كانت البندقية مفرغة من الرصاصة المخلّصة.
عاد عصمت يأخذ طريق المعركة، والبندقية غير المعبأة بالرصاص على كتفه، عاديًا صوب الشمال. ركضت الأشجار العارية معه، فأحسَّ بكل العبء الرابض على صدر الأرض، وفكر في أن الأمة عن بكرة أبيها ذاهبة إلى ساح الوغى. لم يعد الأمر خطيرًا جدًّا، كان خطيرًا، ولكن ليس خطيرًا جدًّا. كان السكون أشد خطرًا الآن وكل شيء سيتفجر! رأى ثلاثة رجال يجرون على ذات الطريق، صعدوا التلة معًا، وهبطوها حتى الوادي. تناول أحدهم حجرًا، وقذفه في الهواء محاولاً اللحاق به قبل أن يسقط على الأرض، وفشل. أعاد الكرّة، ومرة أخرى فشل. كان الحجر وجود الإنسان السابق لجوهره، لكنه لم يترك له حرية الاختيار ومسئوليته، كان من المستحيل اللحاق به. تساءل عصمت: هل حقًا نحن ذاهبون إلى الحرب؟ هل يمكننا اختيار الذهاب إلى الحرب بحرية؟ ولكننا لا نملك أي اختيار حر دون حرية الاختيار. بدأ يهب على وجهه نسيم خفيف ومنعش، فتراخت عضلاته. نظر إلى الشمس الراحلة على مركب الفكرة المدمرة، ورأى مدام حرب تنحني بوجهها الجامع بين العظمة والعجرفة مقهقهةً، وكأنها تريد أن تقول له: إلى أين أنت ذاهب، أيها المجنون! انكشف صدر عصمت، وغدا النسيم أكثر قوة. أجاب: ولكنني ذاهب إلى حيث يذهب الرجال! انتهرته بنبرة أمومية: هذه الحرب ليست سوى كذبة، عُدْ! لم يستمع إليها. كان عدد المقاتلين قد ازداد، مروا بقناة جافة مزقها نصل الظمأ، فقفزوا من فوقها واحدًا واحدًا. قفز عصمت بسلاحه المفرغ من الرصاص مثلما قفزوا، وتهالك قليلاً عندما وطئوا بأقدامهم الأرض في الناحية الأخرى مثلما تهالكوا. وصلهم هدير البوق البدائي، فقال له ظله: نحن نقترب من قلب المعركة. انتظر أن ينهمر الموت والرصاص كالمطر الذي أبى أن ينهمر طوال فصل الشتاء. كان النسيم قد ازداد قوة أكثر فأكثر، وجرف رمل بحيرة السماء بأصابعه العصبية، فتماوجت مراكب الشمس الغاربة، تخضب العالم، وتلونت المدافع الذاهبة إلى الميدان.
صاح أحدهم:
- لنا النصر!
راح النشيد في قلبه يكبر: الحرية هي النغمة، والحرب هي الأداة! تمنى لو يطأ بقدمه النار حالاً، فلربما تحققت المعجزة، ولكن النهاية لا تبدو دومًا، ولم يكونوا إلا في البداية. رفع مقاتلٌ في رأس المسيرة ذراعه مشيرًا إليهم بالوقوف، فأطاعوا، وأتوه زاحفين. أراهم فرقة من الجنود البيض كانت تقترب من الأسلاك الشائكة، وقال:
- العدو!
اندهش عصمت على رؤية الجنود البيض، وهم يقطعون الأسلاك الشائكة في ظهورهم، واندهش مرة أخرى، وهو يتابع بزاتهم المؤتلقة، وأسلحتهم الملتمعة، وخطواتهم المتميزة، فكأنهم كانوا يأتون من كوكب آخر! وما لبثت دبابة براقة أن تبعتهم، وهي تطلق الأشعة المهددة في كل الاتجاهات جاعلة العصافير تهرب إلى السماء القرمزية. كان يريد أكثر ما يريد أن يصليهم بالنار، ولكن بندقيته لم تكن معبأة.
علَّق أحد الرجال:
- أين تراهم سيذهبون وجيشنا منتشر في كل المناطق؟
ميزوا بعض الهَزء في صوته.
رد آخر:
- لا بد أنها فرقة ضائعة!
عادوا يركضون، وأحدهم يصرخ في الآخرين:
- انتشروا أيها الرجال! انتشروا على دروب الحرية!
* * *
في الطريق المعاكسة لهم جميعًا انطلق الحصان الأسود بالمعتصم، ورقية الحبلى من أمامه. كانت رقية بين الذراعين الساخنتين ساكنة سكون شجرة برتقال مطعمة بعرق صبار تبرعم بالأكواز المخضرة. كان من أجلها، من أجل ذلك البطن بصورته العبثية قد التزم موقفًا لصالح قضية عادلة. انقض الحصان على قلب المخيم، مثيرًا دوامات الغبار التي ما لبثت هبات الريح أن أقلّتها. كان المعتصم في طريقه إلى الوطن، لم يكن يعدو في الاتجاه ذاته الذي يعدو فيه الآخرون، وإن كانت الوجهة واحدة. رأوه وهو يعلو في الجو، ورأوه وهو ينشق كالبرق، ورأوه وهو يغدو زوبعة.
* * *
سمع عصمت شاحنة تقترب، فاختبأ وستة آخرون معه في حَدَرٍ ترابي. عندما رأوا فيها إحدى شاحنات الجيش الذاهبة إلى الميدان، خرجوا من مخبئهم، وطلبوا من السائق أن ينقلهم. صعدوا جميعًا، وأخذوا مكانًا بين الجنود، والصناديق. زمجر محرك الشاحنة، فجسّ عصمت الصندوق الذي كان يجلس عليه، وفكر: لا بد أنه مليء بالذخيرة! جسّ سلاحه الذي لم يكن يحتوي على طلقة واحدة، وربط هذا بذاك: يا له من مخادع، وكيل أعمال مدام حرب هذا، فلا بد أنه يخفيها أحزمة الرصاص، وفي مكان لا يعرفه أحد سواه! تابعت الشاحنة طريقها، فقال عصمت لنفسه: لا، كل شيء حقيقي، الشاحنة، الطريق، صندوق الذخيرة. الحرب حقيقية، وليست كذبة، إنها هذه الحقيقة التي تقتل! أنتِ فقط الكذبة الوحيدة، يا مدام حرب! لهذا السبب نحن ذاهبون إلى الحرب، لقتالك، ولتحررنا من هيمنتك، لنخلص من الكذبة التي تقهرنا. حاول بعض الرجال أن يغمضوا أعينهم، وأن يرتاحوا، رغم الهزات الدائمة التي تدفعهم الواحد على الآخر. انعطف السائق آخذًا طريقًا فرعيةً، فانزاحوا كلهم في الداخل، وأفاق من أغمض عينيه. رأى الجميع، تحت ضوء القمر، كيف عبرت الشاحنة طريقًا مغطاةً بالرمل والحصى. عاد البعض وأغمض عينيه بسرعة، ونظر البعض الآخر مقطب الوجه. فكر عصمت: ثمانية عشر رجلاً في قلب شاحنة ذاهبة إلى الميدان! عاد يَجُسّ صندوق الذخيرة قائلاً لنفسه: هذه العيون المغمضة لا تنام! هم يهتزون كلهم، وهم كلهم يحسون ما يحسه السائق بخطر العبور. علت الشاحنة دفعة واحدة، ثم هوت. رأى البعض، تحت ضوء القمر، صخرة ضخمة كانت تعترض الطريق. قرر عصمت أن يغلق عينيه، وحاول أن يغفو، ولكن إحساسه بالخطر كان أقوى. فتح جفنيه، وتابع بعينيه ضوء القمر عله يرافقهم خلال كل المسافة، مسافة تمنى أن تكون قصيرة، حتى ساحة القتال. لم يكن السائق يستطيع الإسراع أكثر، ولم يكن يستطيع الوصول إلى الخط الدامي. ارتسمت على شفتيه بسمةُ من يعرف ما هو الواقع متأخرًا: إذن لم تكن قريتك، يا عصمت، معرضة لخطر كبير، حتى وإن كانت تنزرع في قلب الأسلاك الشائكة! لم تكن حدودك، يا عصمت، خط النار، فهي حدود تمتد على مئات الكيلومترات! وها هم لا يسعون إلا للذهاب نحو النقطة الساخنة، النقطة الدامية، هذه النقطة التي سيتقرر فيها كل شيء: النصر أو الخراب!
سارت الشاحنة بين صفين من الأشجار العارية يشكلان قوسًا فوق رأسه، فشعر ببعض المتعة مع ملامسة أغصانها. قطع غصنًا، وأمسكه، ورأى فيه، تحت ضوء القمر، بعضَ بقعٍ حاول قشطها بظفره. كانت البقع كثيرة، وكانت تغطي الغصن كله. قال متذكرًا فصل البرد الحارق: كان بإمكانها أن تصبح براعم! داوم على حك البقع، ومع ذلك لم يُبْعِد عن صدر السائق وطأة الإحساس بالخطر. فاجأ عصمت عيون البعض وهي تنظر إليه، وشفاه البعض وهي تحاول الابتسام له، ففكر: هناك ثمة مصير، ليس هناك مصير آخر غيره عندما يكون الهدف تحرير الوطن واسترداد الكرامة. انتظر الرجال بنفاد الصبر أن يصل السائق أخيرًا إلى الخط الذي كان عليهم قطعه لتحرير الوطن، واسترداد الكرامة. كان بعضهم لم يزل يطلب النوم الهادئ لمن يشعر بالسلم، وأسرته من حوله: لا بد أن لهم زوجاتٍ وأطفالاً. تخيلهم هم وأسرهم في الشاحنة، وهم يمضون معًا إلى ساحة القتال. تخيل نفسه، وهو يغترف من صندوق الذخيرة الذي تحته كل الطلقات القاتلة التي سيحتاج إليها ليعبر ذلك الخط الوهمي المحض! ابتسم، رمى غصنه، وتساءل: أين سأجده، هذا المعتصم؟
* * *
كان المعتصم وحصانه الأسود والريح يعدون برقية، وفي أحشائها رُشَيْم اللعنة! وكانت وجهته واضحة وضوح القمر الألق الصاعد على ربى الإمبراطورية البيضاء، من الناحية الأخرى. كانت بندقيته تحبل بالرصاص، وصهيل جواده يزف بشرى مقدمه. لأول مرة منذ زمن طويل، ابتسمت رقية، رغم كل الألم الذي يطحنها. بدت الطريق طويلة، مديدة كجسد أفعى يلتف بالهضاب، فقال لها المعتصم:
- إنها الطريق الذاهبة إلى أمي!
* * *
فكّر عصمت: نحن على وشك الوصول، فالطريق بدأت تضيق بشكل لافت للنظر، والشاحنة تتقدم بصعوبة، هذا يعني أن ميدان المعركة قد غدا على مرمى حجر! بدأت أشرطة المدافع الملونة والدبابات العجيبة تتجلى لذهنه تدريجيًّا. عاد إلى طفولته، لم يستمر ذلك طويلاً، فلم يكن التفكير في طفولته يبعث على أي فرح لديه. كانت أمه، المرتعدة خوفًا من فكرة الموت، تريد أن تدفعه إلى الانتفاع من الحياة. تذكر ما قررته، باتفاق مع أبيه، أن يصبح طبيبًا. عاد يراها، وهي تتنهد، وتتأوه قائلة: آه، لو يصبح هذا الطفل الجميل طبيبًا! كانت تسكت قبل أن تضيف: الجمال والمال وحدهما لا يمكنهما مواجهة الموت عندما تحل كارثة المرض! الطبيب، والطبيب وحده الغني والجميل من يمتلك مفتاح الصحة والرفاه! لم يحقق عصمت ما تمنت. كان يعتقد أن الموت الناجم عن المرض كارثة حقًا، ولكن الموت بفيض الصحة والرفاه يمكن أن يكون خلاصًا! وإذا به يقع على سرِّ القصة، قصة النزاع الذي كان على خلاف فيه مع أعداء الوطن كلهم، فعدّل موقعه، وبدّل فكرته، ووجد أخيرًا حقيقته: إذا بقوا أحياء، فسيكون نصرهم، وإذا مت، فسيكون موتي بابًا مفتوحًا على الحياة!
* * *
أخذ حصان المعتصم يعدو أكثرَ سرعةً من الريح، مد الفارس الشاب يده نحو بقعة كانت تظهر على ضوء القمر، وقال:
- هناك بعض الملائكة السود الذين هم بانتظارنا.
صاح قبل وصوله إليهم صيحتين، وردوا عليه بصيحة واحدة. ترك رقية عالية فوق السرج، وذهب ليحادثهم. تقاطعت ظلالهم، وبعد قليل، امتطوا كلهم أحصنتهم، وانطلقوا مع صيحة الريح.
* * *
لم تتوقف الشاحنة بعد، وعصمت يشد السلاح العقيم في قبضته: لو لم يقتلوا كريمة لجعل حضورها وحده الحرب أقل فظاعة! حاول الوقوف، ولكنه لم يستطيع الاستمرار أكثر من بعض ثوان. عاد يسقط عاجزًا على صندوق الذخيرة، ولاحظ أن القمر قد اختفى تحت أجنحة بعض الغيوم: أيمكنُ المطرُ المدرارُ أن يسقطَ في صميم الحر؟ تكاثفت العتمة بشكل باعث على الهلع، فانشغل بال عصمت بكل ما كان يكاد يسقط كلما اهتزت الشاحنة فوق طريقها الطويلة الضيقة. انشغل بال عصمت بغياب القمر الطويل، الذي يطيل الليل أكثر. انشغل بال عصمت بالمرحلة الأخرى، تلك التي ستتبع هذه اللحظة في الشاحنة طوال الطريق الضيقة واللامتناهية. انشغل بال عصمت بكل ما لم يكن متوقعًا، بإرادة عدم التوقع عليه وعلى كل فرد، وبجعل كل فرد سريع العطب، انشغل باله بأرخبيل عدم التوقع الذي يقفُ عليهِ مهددًا إياه في كل لحظة بالذوبان وابتلاع اليم له، ولكل البشرية معه، وكان موقنًا بتوقعات مذهلة. سيطر عليه القلق، وازدادت العتمة كثافة. انتظر أن تصرخ الأرض راجية منقذها أن يحول دون غرقها في بحر الدياجير الغائر، ودون دخولها النهائي في العدم. كان منقذها على وشك المجيء، ولكن بعد فوات الأوان، ستكون الأرض قد ذهبت هباء منثورًا، وكل أثر لوجه العالم قد امحى، ولن تبقى إلا الفكرة المغلفة بالحزن. لا بد من وجود إرادة أخرى بلا ريب، أقوى من الموت، ومن كل المدافع! إرادة أخرى، إرادة غير إرادة الأديان والحضارات. كل الأديان وكل الحضارات لم تدخر جهدًا في تفسير ما يجري هناك، فوق، في السماء، وعجزت عن تفسير ما يجري هنا، تحت، على الأرض. رأى جسده الجالس، وسلاحه البارد، وفكر أن رغبتهم كانت في جعله يذهب هباء منثورًا، وأن أياديهم كانت تدفع الأمل والرغبة معًا في الدخان، وفي الخواء، وتَحُول دون أن يطلق صرخته الأخيرة.
بدأت النار التي كانت تمحق الأرض تدب في الناحية الأخرى من طريق الحصى والرمل، طريقٌ تتمازجُ بطريقِ عصمت. أغمض عينيه بقوة، ثم فتحهما: كان دخان سميك يعلو، كان يعلو بسرعة طاويًا في جوفه الأعمى والرهيب الغيم والقمر. أعاد ساعته المقلوبة على معصمه إلى وضعها، وترك الوقت يجري في لحظةِ ما بعد الأشياء، عندما ينتهي الوجود، ومع هذا، يستمر سعينا في عالم العدم. راح الوقت يجري، وراح الوقت يهرب من الدخان ليهوي في الدخان من جديد، وعصمت يتدحرج في قعر الشاحنة، والشاحنة تهزه، والشاحنة تهزه، والشاحنة تهزه.


باريس ربيع 1979


أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1980
3) الاغتراب 1982
4) حلمحقيقي 1988
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1998

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004

[email protected]


يرى أفنان القاسم أن على الفلسفة كغذاء للروح ألا تقتصر على بعض المحظوظين من الناس، لهذا السبب، يكتب هذه الرواية التي تذهب بنا إلى بعض تأملات الفلاسفة الوجوديين مضيفًا إليها ما يتفرد به من فكر خاص. مدام حرب هي الصاحبة المتنفذة لبيت دعارة، والتي تمتد بسيطرتها المستبدة حتى حدود بلدٍ خياليّ تغلب عليه شدةُ شتاءٍ قاسٍ. مدام حرب، دون أن تظهر أبدًا، تُخضع لسلطتها كل شخصيات هذه الرواية، شخصيات قلقة، مهمشة، مغتربة، مطرودة من جنة تشبه الجحيم، يتصرفون كلهم كعبيد، ومع ذلك، دون خجل، بعضهم يبحث عن جوهره ليفهم وجوده بطريقة أفضل، فيصطدم كل فعل من أفعاله بهذه السلطة التي تترصده دون هوادة، وتكبله: حين إعاقة التعبير الفردي تصبح حرية الاختيار مثل حرية الفعل وهمًا من الأوهام. تجعل عبودية الضحايا منهم مذنبين، وتزيف المشاعر الكريمة التي لهم. انفعالاتهم، شهواتهم، أحلامهم، اشمئزازاتهم، وتخوفاتهم كلها تصدر عن عبث الشرط الإنساني الذي تختبئ السلطة خلفه مقابل لامبالاة الكون. يفلت فارس الحصان الأسود رمز الأمل والثقة وحده – مقابل عدم اليقين وعدم التفاؤل اللذين يطريهما الفلاسفة الوجوديون – من الاستسلام للقوة اللامرئية، ولكن الحاضرة دومًا، والتي تضيّق الخناق عليه. مدام حرب نُشرت لأول مرة منذ ثلاثين عامًا، دون أن يقرأها العالم العربي أو يدرسها النقاد، وهم لو فعلوا لتغيرت بعض نظرتنا إلى علاقات المجتمع وعلاقات الخطاب في لحظات العطب المصيري، فالنص، على الرغم من كل الفاجع الذي فيه، عبارة عن قصيدة غنائية طويلة.


* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النقيض
- شارع الغاردنز
- لؤلؤة الاسكندرية
- باريس
- بيكاسو
- قل لنا ماذا ترى في حالنا؟
- القدس
- الشعراء
- البرابرة
- الأخرق
- الباشا رواية النكبة الأولى
- تراجيديات
- تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا
- فلسطين الشر
- المواطئ المحرمة
- العاصيات
- غرب
- العودة
- وظائف الكلام في قصة الزكام لنبيل عودة
- الحجر


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - مدام حرب