أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبد الله شطاح - نرجسية بلا ضفاف. التخييل الذاتي في (أنثى السراب) لواسيني الأعرج















المزيد.....



نرجسية بلا ضفاف. التخييل الذاتي في (أنثى السراب) لواسيني الأعرج


عبد الله شطاح

الحوار المتمدن-العدد: 3590 - 2011 / 12 / 28 - 21:00
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


تمهيد.
في نصوص كثيرة لواسيني الأعرج، لا سيما الأخيرة منها، يجد القارئ نفسه مضطرا إلى الانتباه إلى بعض المكونات الفنية والموضوعاتية المترددة باطراد رتيب، من نص إلى آخر، ومن عنوان إلى عنوان آخر بعده، مصنفة جميعا تصنيفا واحدا، ومنتسبة انتسابا واحدا هو جنس الرواية، بينما الاطراد الرتيب في الموضوعات والشخوص الروائية وسطوة الذات تكاد تجمع النصوص كلها، على اختلاف عناوينها وتفاصيلها، ضمن متن روائي واحد، أو نص روائي واحد مفرط الطول والرتابة والتكرار، لا يشذ عنه، في اعتقادنا، سوى نصي (كتاب الأمير)1 الذي وقع، بحكم خلفيته التاريخية، خارج النمطية الموضوعاتية سالفة الذكر، و (كريماتوريوم ـ سوناتا لأشباح القدس)2، وهما نصان جاءا بعد سلسلة من النصوص التي انصرفت إلى التعبير عن فواجع العشرية السوداء التي زجت بالبلاد في معمعان حرب أهلية قذرة، لا تزال آثارها بادية في الحياة الاجتماعية وفي وجدان الناس خصوصا، طالت الثقافة الجزائرية، كما طالت الأدب الجزائري في اللغتين، العربية والفرنسية، طبعت موضوعاته، وأساليبه، وأحدثت فيه مميزات وظواهر خاصة التفت إليها النقد الجامعي وغير الجامعي وما زالت لم تستنفذ مكنوناته وأسراره بعد.
أصدر واسيني الأعرج، خلال فترة العشرية السوداء، مجموعة من النصوص في اللغتين، العربية والفرنسية، كرسها لإعادة قراءة الراهن والماضي وإرث جزائر الاستقلال، واستشراء الفساد في دواليب الإدارة والسلطة الحاكمة، و مكونات الخطاب السياسي والإيديولوجي والثقافي الذي أدى إلى نمو التيار الإسلامي المتطرف وهيمنته على الساحة السياسية هيمنة أدت إلى فوزه الكاسح في انتخابات 1991، ثم توقيف المسار الانتخابي والتجربة التعددية الأولى في الجزائر، ثم دخول البلاد في دوامة العنف الدموي الذي حصد الآلاف من أرواح الأبرياء، وكيف الذهنية الجزائرية تكييفا ما زلنا لم نعرف عمقه وآثاره بعد، وسعى إلى استئصال المثقفين والفنانين وإلى اضطرار بعضهم نحو الهجرة والمنافي الاختيارية. لقد كانت تلك النصوص بمثابة استبطان الذات والمحيط والثقافة عن الأسباب والنتائج والمقدمات التي أدت إلى حصول ما حصل، وعما إذا لم يكن ثمة كثير من المناسبات التي أخطاتها البلاد من أجل البناء والتحديث وإرساء أسس دولة ديمقراطية مدنية بالمقاييس المعاصرة.
كان ذلك هو الخيط الرفيع الذي انتظمت خلاله النصوص التسعينياتية لواسيني الأعرج، حتى ليمكن اعتبارها عملا واحدا مكونا من أربعة أجزاء هي (سيدة المقام)3 و(حارسة الظلال)4 و(ذاكرة الماء)5 و( شرفات بحر الشمال)6، لم تلبث إلا يسيرا حتى تبعتها أجزاء نصوص روائية أخرى، وهي وإن كانت جديدة صادرة بعد العشرية السوداء، إلا أنها ظلت وفية للخط الذي ألفناه في التجربة الروائية للكاتب عموما، فلم تفتأ تحاور فترة العشرية السوداء وهواجسها الأمنية والإيديولوجية، ولم تفتأ تعيد صياغة الموضوعات القديمة وتشتغل اشتغالا فنيا يستمد الذاكرة والذات واللغة الفنية الشعرية الشفافة والتجربة الحياتية التي لم تفلح كثيرا في التشويش على آثارها الظاهرة على جسد النص، حتى تحولت، في كثير من المناسبات، إلى ذريعة فنية للكتابة الأوتوبيوغرافية التي يسهل تتبع جزئياتها وتفاصيلها على الرغم من ترددها في الإفصاح عن نفسها.
الواقع إن ما في تجربة الأعرج من نمطية موضوعاتية لا يستدعي ذكاء استثنائيا ولا منهجا نقديا فذا للتوصل إلى الموضوعة الأساس التي تتكرر في جميع أعماله، سواء تلك التي كتبت قبل التسعينيات، أو تلك المكتوبة أثناءها أو بعدها، لسبب جوهري في اعتقادنا هو صدور تلك النصوص جميعا عن التجربة الذاتية الحميمة، وعن الحياة الخاصة التي خضعت لسلسلة من التحويلات والاستنساخات المناسبة للعبة الروائية، سواء بتغيير طفيف في وظائف الشخوص، وفي أسمائها، أو بموضعة النصوص في أفضية مختلفة بحسب السياقات الروائية المتنقلة بين أماكن الطفولة في القرية، وفي الجامعة ( مكان العمل غالبا) أو في أقطار الأرض الأخرى التي زارها أو عاش فيها مهاجرا أو منفيا.
أبطال الأعرج غالبا ما يكونون فنانين أو جامعيين أو كتابا أو صحفيين، يصدرون عن نزوع تحرري وطيد، وعن إيديولوجيا مشبعة بقيم الحرية والحداثة الغربية في أقصى صورها تجليا، أغلبهم أبن شهيد، وأغلبهم يرمق بحسرة انزلاق البلاد نحو هاوية الفساد والمافيا والليبرالية الشرسة، يواجهونها بعجز رومانسي مفرط الميوعة، ويبكون ضياع الأحلام الجميلة في رسائل مراهقة طويلة تتناص جماليا مع خواطر الطفولة وهواجسها وأحلامها المجهضة. أما نساؤه فهن حنا الكبيرة، الأم، زوجة الشهيد التي ذبلت زهرتها وهي ترعى أيتامها، تنتزع الحب والتقدير من أكثر القلوب تحجرا، وتنتصب في ما يشبه الذاكرة الجمعية الزاخرة بالأساطير والحكايات وقصص الأولين، تحتفظ بالفلكلور القومي المهدد بالزوال، وتفتح أعين الصبي/الكاتب، مبكرا، على الجذور الموريسكية النبيلة للبطل المتعلق أبدا بالخيال الأندلسي الشفيف، في موسيقاه وآدابه وتاريخه المنسي وبحره المطل على دنيا قاسية شديدة الوحشة.
يشعرنا الإلحاح المفرط على الجذور الموريسكية للناص الذي هو غالبا الكاتب متخفيا تحت مسميات عديدة لا تخدع العين المتمرسة بالملاحظة الدقيقة، مثلما يشعرنا التسلل المباغت لشذرات السيرة الذاتية في جميع النصوص، وبتكرار ملح، بأن النرجسية المعروفة عند الكتاب والشعراء والفنانين، لم تقدر هنا على كشط النتوءات الحادة، وتدوير الزوايا القاطعة، والخطوط الأفقية والعمودية الخارجة بحدة من سواد النص، ومن جسده المنشور على متعاليات المعاني الإنسانية الرفيعة، وقيم الانمحاء الذاتي في مواجهة العالم المليء بالتناقضات والصراعات والمتاعب الشاغلة عن عبثية الامتلاء بالذات، والوقوع في فخ النرجسية المتربص بالأحياء، بصرف النظر عن عظمتهم أو منجزاتهم. وعليه يصعب الأخذ بالدعوى أخذا يعطيها الحق في الصواب انطلاقا من كون الشقة الفاصلة بين الحاضر الجزائري الخارج من ماض استعماري طمس أكثر الصفحات الوطنية إشراقا، وبين التاريخ الموريسكي الخارج بدوره من ظلامية محاكم التفتيش المقدس، وزبانيتها الذين أمعنوا في استقصاء أكثر التفاصيل تخفيا في حيوات الموريسكيين بغية تنصيرها أو تهجيرها أو دفعها إلى المحارق في أغلب الأحيان. من أجل ذلك يصبح الإلحاح على الأصل الموريسكي خيارا فنيا مكشوف الهدف، مفضوح القصد، يروم الالتباس بالبعد الأسطوري الذي يدغدغ الأحاسيس الإنسانية المتشوقة إلى البطولات والملاحم والفرسان، ويثير حاسة الشعر والتصوف والغموض المحبب، فأشواق الإنسان الغامضة وحاجته الفطرية إلى الأبطال والخرافة، وما يقع خارج تفاهة الحس المبذول، حقيقة جوهرية في المكون البشري، تفسر الشعر والنبوءة والأسطورة وكثيرا من الممارسات الشعائرية ذات الرمزية الثرية والغموض الباذخ.
يوفر الإلحاح الشديد على الأصل الموريسكي إذن، صورة مميزة من البعد الأسطوري في الانتماء، يقوم بإبراز نبالة شخصية سليلة النبالة القديمة، وشرف لا سبيل إلى إنكاره، وأرستقراطية تاريخية تشرئب الأعناق إلى مجدها الغابر ورونقها البهي، مكونات موروثة تتضافر في النهاية لتكوين الخلفية الملحمية للبطل الدرامي الذي يثير في المتلقي عاطفتي الخوف والشفقة، عندما يقع في الخطيئة التي يقوده إليها، بحتمية قدرية، تركيبه النفسي، وتكوينه العقلي المشتمل على بذور الفضيلة والرذيلة جميعا، وفق مفهوم التطهير الذي استحدثه أرسطو ليفسر به وقوع أبطال الدراما الإغريقية العظام في الأخطاء التراجيدية الفادحة.
هذا ما يفسر في رأينا الصورة النمطية المكرورة للضحية المضطهدة التي يتقمصها الناص في مواطن متعددة من نصوصه، ضحية تدين العدوان الواقع عليها منذ اللحظة التي اختار فيها الجد الموريسكي المفترض منفاه الجنوبي هروبا من محاكم التفتيش المقدس، اللحظة التي سيعيشها الحفيد/الناص بدوره، في تسعينيات القرن المنصرم، عندما تجبره الجماعات الإرهابية التي أهدرت دمه وسعت في اغتياله على الهجرة صوب الشمال. هنا يدفعنا مفهوم التطهير الأرسطي إلى البحث عن المكونات الدرامية في شخصية البطل التي أجبرته في نهاية المطاف على ارتكاب الخطأ التراجيدي القاتل، وفي هذا السياق، يسعفنا ملمحان رئيسان يرجع إليهما الفضل في تكييف الشخصية تكييفا يؤهلها لاحتمال الآلام الشديدة والنهايات المؤسفة، ملمح الولع الرهيب بالحروف والكتابة والأسرار المقدسة الذي يتقاطع رمزيا وضمنيا بأسطورة بروميثيوس، الإله الإغريقي العظيم، سارق النار المقدسة من الآلهة، والمعذب الأبدي الذي سلطت عليه هذه الأخيرة جحافل النسور تأكل كبده المتجددة كلما انقضت، في دورة أبدية من عذاب عبثي لا نهاية له.
تتقاطع النار المسروقة من الآلهة بالكتابة التي احترفها الناص على أكثر من مستوى، الاشتراك في النورانية وتبديد الظلمة، والابتذالية التي أنزلتها من حيز الآلهة الخاص، إلى حيز البشر العام، من الخصوصية المطلقة إلى العمومية المشاع، من السر المحروس في قمم الأوليمب إلى الخبر المبذول للحاضر والبادي، يضاف إليها احتمالية قريبة لمعاني الجراءة الاستثنائية على مراودة العويص والطمع في المستحيل، وشجاعة نادرة لا تأبه بقدسية الأشياء ولا بجميع الاستحالات.
أما الملمح الثاني فهو سطوة العشق اللانهائي للمرأة. عشق جعل نساء الأعرج تركيبة أنثوية مميزة أشد ما يكون التميز، فهن بلا استثناء عاشقات بارعات، وفنانات مرهفات الحس والشعور، يعشن أغلب الأحيان تحت أزواج غلاظ شداد، جاهلين شرهين، ومافيويين عنيفين لا يعنيهم سوى الكسب كيفما كان، يجبرون نساءهم الرقيقات المثقفات على مغامرات عاطفية موازية هي دائما قصة حب باذخة، عشنها قبل الزواج وأثناءه، مع البطل/الناص الذي يحبهن حبا نبيلا بالغ الرقة واللهفة، يسعفه تكوينه الذكوري الفحل على الوفاء بمتطلبات الجسد، وتسعفه ثقافته الرفيعة وإنسانيته الرقيقة على الاستجابة لأدق الرعشات الأنثوية، ورغباتها المكبوتة، وشهواتها الخفية والمعلنة. لا يصرفه الحب الملتهب الذي يعيشه مع إحداهن عن حب أخريات يتهالكن على فحولته المشوقة ورجولته وشهامته وإنسانيته الفريدة. وهن مع ذلك، أو بسبب ذلك، مثقفات من طراز نادر، وغالبا مبدعات، متحررات وثائرات على شرق يراهن حريما وولائم داخل السرير، يقابلن المجتمع بازدراء وتمرد واحتقار، ويتكررن نمطيا في نموذج المرأة العربية التي تعيش أقسى أنواع التمزق بين ثقافتها المتحررة وبين مجتمعها المحافظ، بين أشواقها إلى عالم مدني حر، وواقع المجتمع العربي الشرقي المرتكس في ثقافة بدائية الشكل والمحتوى، بين الحرية في أقصى دلالاتها ومعانيها، ودوائر التابوهات والمحرمات المغلقة.
هذه الملامح الفنية المتكررة باطراد ورتابة، وتلك الموضوعات المتجددة على مسافات النصوص المنشورة بكثافة وزخم مدهشين، دفعتنا إلى قراءة الكاتب قراءة مغايرة، تنطلق من الفرضية التي أفرزتها الملاحظة المتأنية، وتشتغل ضمن الحيز النصي لإثباتها بناء على المكونات الداخلية وليس الخارجية، على الرغم من الإغراء الذي يمارسه علينا المتن الخارج نصي الذي يمكن أن يدعم الفرضية ويؤكدها، بالنظر إلى سعة المتن الخارجي المكون أساسا من الحوارات الصحفية التي أنجزت مع الكاتب ومن كتابات أخرى، مقالات وخواطر، تؤكد الملاحظات التي أوردناها، وتسند الخيار القرائي الذي سطرته هذه الدراسة التي سوف تجتهد في موضعة النص قيد الدراسة ضمن ممارسة التخييل الذاتي، الممارسة الإشكالية المثيرة للجدل، سواء بآلياتها السردية المتاخمة للآلية الروائية، أو برفضها الإفصاح عن انتمائها إلى هذا الجنس الوليد المشاكس منذ فضاء الصفحة الأولى.
ولم يقع اختيارنا على نص (أنثى السراب) لمقاربته وفق بنية التخييل الذاتي اعتباطا، وإنما أملى علينا النص هذا الاختيار إملاء وفرضه علينا فرضا، فقد انبنى في مختلف مستوياته بناء يتوسل الآلية الذاتية في التخييل، وفي التفضية، وبناء الشخوص، والتيمات، وحتى في الهوية الأعلامية التي وردت بأسمائها الحقيقية مثلها مثل بعض أسماء الشخوص في رواية (ذاكرة الماء) التي وقفنا عندها طويلا في المقالة السابقة، والتي انتهينا فيها، بعد التحليل، إلى تجنيسها ضمن الرواية الأوتوبيوغرافية التي لا تختلف عن التخييل الذاتي سوى في تفاصيل قليلة أهمها، تنضيد الأحداث بصورة تغطي آثار السيرة الذاتية، والسعي إلى طمس بروزها بعض الطمس، وتعويمها وتذويبها في الوعاء الروائي الكلي بشكل يقطع أطرافها البارزة، وبقعها المشعة الفاضحة، بخلاف التخييل الذاتي المكشوف في أنثى السراب كخيار فني لا يسعى إلى التخفي والتواري بقدر ما يؤكد الرغبة في كتابة الذات وتسجيل التجربة الحياتية، والإصرار على مكانها وموقعها من العالم.

1. التطابق مع المرجع.

الهويات الأعلامية.

بالنظر إلى خلفية الأحداث التي قامت على سياقات منتهية تتحايل على الذاكرة والحنين، اندرج النص ضمن ما يعرف بالميتاتخييلي، أي تخييل قائم على تخييل، وكتابة عن الكتابة، وكلام على كلام، بمعنى آخر، تكلمت الرواية الراهنة عن الروايات السابقة، شرحت بعض مغمضاتها، وظروفها كما لو كان الكاتب غير مقتنع بجدوى الممارسة الإبداعية التي تترك للناقد مهمة الكشف والإضاءة والتأويل، فقام هو ذاته بهذا الدور النقدي الذي التبس بحيثيات الرواية وأساليبها الإبداعية الخالصة، ولا سيما في ما يخص شخصية مريم التي أولع بها الكاتب أيما ولع، وأغرم بها أيما غرام، فهي بطلة أعماله جميعا، وحبيبة البطل/الناص غالبا، امرأة فاتنة الجمال، ساحرة الأنوثة، متمردة و ملهمة، جعلت المرأة الحقيقية/ البطلة/الشخصية المحورية في أنثى السراب، حبيبة الظل القابعة في الخلفية المظلمة، وامرأة التخييل الأول، تفقد أخيرا أعصابها بفعل الغيرة من مريم/امرأة التخييل الثاني، ذات الحضور الملح المتكرر في سالف النصوص على كثرتها، فقررت الانتقام أخيرا، بتصفية مريم تصفية جسدية بعدما صفتها تصفية ورقية، فحشت المسدس بالرصاص وراحت تطلق النار على شبح مريم المتحرك وسط الجموع في شوارع العاصمة الجزائرية، في نوبة جنون عارم أجبر الشرطة على إطلاق الرصاص عليها وقتلها.
لينجز النص معناه هذا، اضطر إلى إعادة صياغة موضوعاته القديمة والأثيرة، بوتيرة وتطابق مدهشين، إعادة تشرع أبواب السؤال والبحث عن المنطق الفني المضمر وراء تلك الاستعادة اللحوح للموضوعات المطروقة بشكل يجعل التفسير الأوتوبيوغرافي، على الرغم من وجاهته الفنية، غير قادر على تفسير الظاهرة تفسيرا محيطا بكل تشعباتها. مهما يكن، فقد عمد الناص الذي يحيل، بتلميح يقرب من التصريح، على الكاتب الحقيقي في حيزه المتحقق عبر التوثيقية وهيمنة المرجعي على التخييلي، إلى التصريح، في أكثر من موضع من الرواية، بالمصدر السيري للكتابة كما مارسها الكاتب/الأعرج، فقد أوردت ليلى، بطلة أنثى السراب، هذا المقبوس الطافح بفضيلة الاعتراف أخيرا بحقيقة طال كبتها: "منذ البداية، راودتني فكرة جهنمية، أجمل بكثير من كتاب عن سيرة واسيني الذي نويت إنجازه بعد تأكدي من غرقه في غيبوبة طويلة. تأكد لي مع الزمن، أن سيرة واسيني الأولى والأخيرة، والأكثر شفافية، موجودة في كتاباته، حتى ولو تعنت ولم يعترف بذلك."7، وفي موضع آخر: "لا أشك مطلقا في أن كل ما قاله واسيني عني، قد ينطبق أيضا على الكثير من نسائه اللواتي لسن في النهاية إلا استعارات لامرأة واحدة ووحيدة ركَّبها واسيني من كل تفاصيله الحياتية، ومن امرأة شكلت كل مدار حياته."8.
بالإضافة إلى هذين المقبوسين، يتكرر التصريح باسم الكاتب في موضعين آخرين من الرواية، أين يفصل الحديث عن نعيه الخطأ الذي نشرته الصحف عندما تعرض رجل مجهول إلى الاغتيال على أيدي الإرهاب إبان العشرية السوداء، رجل لم يكن له من ذنب سوى مشاركة الكاتب في نصف اسمه الذي كان واسيني الأحرش، يقول:" أسترجع ذهنيا المانشيت التي قرأها علي صديقي مالك، في جريدة النصر: : اغتيال الروائي واسيني، لن يقهر القتلة صوتك الكبير. أشعر بشيء من الزهو الغريب والافتخار وكأن موتي الافتراضي زاد من قيمتي قليلا في مجتمع لا يعترف بك إلا إذا قتلك. ثم ينتابني خوف عميق. أول شيء قمت به هو إخبار أهلي، أمي خصوصا وتكذيب الخبر وطمأنة كل الأصدقاء الذين كانوا يعرفون مكان إقامتي.
في أعماقي أشعر بعقدة ذنب لا أستطيع مقاومتها أبدا. لابد أن يكون قد حدث خطأ ما، في لحظة ما. القتلة يخطئون أيضا. أشعر دائما بأن هناك رجلا حماني بصدره ليمنحني كل هذا الزمن، وأنا مدين له بالرغم من أنه لا يدري لماذا قتل بالضبط؟ الرجل الذي قتل، كان موظفا بسيطا في الأمم المتحدة، يمر كل صباح بالقرب من الجامعة، يشرب قهوته في لابراس La Brasse المقابلة للجامعة، يتبادل أطراف الحديث مع أصدقائه من الجامعة، ثم يتوجه إلى عمله في منظمة الأمم المتحدة. لم يكن بين اسمي واسمه إلا بعض القلب. من نفس مدينتي الأصلية. كان اسمه: واسيني الأحرش. حرفان كلفاه رصاصة في الرأس لم تمهله ثانية واحدة لكي يعلن عن الخطأ، وأنه ليس هو المعني."9. كما يتكرر الاسم الصريح للكاتب في الصفحة 86 من الرواية، وما بعدها، تكررا متتاليا أملته المرافعة الطويلة التي أنجزتها ليلى للتنويه بإنسانيته الرائعة، ونبل قلبه، وعمق إحساسه بطلابه وطالباته، وتفانيه في خدمتهم وتوجيههم والتعاطف معهم، بل والتعاطف الذي يشبه الحب الصوفي الخالص من الشوائب لجميع البشر حتى أولئك الذين طعنوه مرارا في الظهر وهم يبتسمون في وجهه.
من الصعب هنا ألا ننتبه إلى النرجسية * العميقة التي ينحدر إليها الكاتب وهو يسعى إلى أن يسوق تلك الصورة الملائكية المرهفة عن نفسه، صورة محرجة بشاعريتها الخلابة، وعاطفتها المشبوبة، ورغبتها اللاهبة في استدرار التعاطف، واستجداء الحب الذي يبقى استحقاقا يتعالى عن المرافعات الخطابية مهما أوتيت من سحر البيان، ومهما جنحت بها الصبابة، و لوح بها الهيام بالذات الذي يظل بدوره، أولا وآخرا، مظهر من مظاهر النرجسية التي تورط فيها التخييل الذاتي كممارسة تستسلم خلالها الأنا لغوايات اللغة، وفتنتها الخلب، وسحرها المضلل. و ما يثير الانتباه حقا، كما يثير الدهشة أيضا، هو أن الاسم الصريح للكاتب قد ورد في النص أكثر من 300 مرة، بتردد يشبه الإغراق في لحظة انخطاف صوفي لا يكف اللسان أثناءها عن ترديد اسم معشوقه، وموضع فنائه، في ما يشبه التسبيح الذي يبقى آخر علامات الحياة التي يبعثها الجسد الفاني، والعقل المصطلم، والروح المتصلة بالمعشوق الأعلى.
أما أسماء ولدي الكاتب (باسم) و (ريما) ووالدته (أميزار) فقد وردت وفق هويتها الأعلامية الحقيقية مرارت عديدة في النص، تكرر اسم ريما أكثر من 26 مرة واسم باسم أكثر من 12 مرة، وأميزار 08 مرات، وقد اختص الكاتب ابنته بالذكر المتواصل ـ كما فعل في رواية (ذاكرة الماء) التي التبست بمقومات الرواية السيرية أكثر من التخييل الذاتي، فكانت الابنة ريما والوالدة أميزار، والدة الفاعل الذاتي، الاسمين الوحيدين الحقيقيين في النص كليهما ـ لسبب جوهري في نظرنا هو أنها كاتبة ناشئة، مولعة باللغة وصنعة الكلام مثله تماما، الأمر الذي يؤهلها لأن تشارك والدها وجدانيا وتفهم شطط الكتابة وعنفوانها أكثر من بقية الأفراد المحيطين به، من أجل ذلك وجدناه يعرف بالكاتبة الناشئة وبكتابها ( سلطان الرماد) الذي أدرج صفحات منه في الرواية.
لقد انتبه النقد الروائي مبكرا إلى استلهام الكتاب وقائع حيواتهم وتجاربهم الخاصة التي تكشف عن نفسها في بناء الشخصيات وعوالمها الحميمية على وجه الخصوص، بالدرجة نفسها التي توقفت عندها بعض المدارس الأدبية التي جعلت من الواقع، والمجتمع، والمرجع الخارجي، مناط العملية الأدبية برمتها، بيد أن هذا المعطى الذي يركز الواقع والتجربة الخاصة في قلب العملية الإبداعية، لا ينسينا حقيقة أن الأمر ليس بالدرجة الانعكاسية الجافة نفسها عندهم جميعا، وليس بالضائقة التخييلية نفسها التي تجبر بعضهم على قصر المدى الفني الرحيب على الذات وتجاربها، دون القدرة على اختلاق عوالم لا تقل في حميميتها وصدقها وتمكنها من إحداث الإقناع الفني عن التجربة الذاتية الخالصة، والأدب مليء بأسماء استطاعت أن تبتكر عوالم شديدة الثراء والتنوع، مدهشة الاختلاف داخل السيرورة الإبداعية للكاتب الواحد، إذ لا يكاد عمله اللاحق يمت بصلة من الصلات إلى العمل السابق، ينفرد بقضاياه وفضاءاته وأساليبه، وينشد التفرد، والأصالة، بقدر ما ينشد التخلص من ضيق التصنيف والتبويب، ينجح البعض، بينما يخفق البعض الآخر إخفاقا ذريعا، لأن الطبيعة العميقة المستقرة في التجربة الإنسانية التي تتمظهر بفعالية مبهرة عبر الإبداع الأدبي، تنزع نحو الانبناء بنيويا، والتشكل تحت مكونات مائزة ميزة الشفرة الوراثية المستقرة داخل أجساد العائلة الواحدة، فلا تخلو مدونة كاتب من الكتاب مما يشبه خط الظل الخفي في أجساد العملة الورقية، أو ما يشبه البصمة الشخصية الحاضرة بقوة رغم خفائها، تمنح الأعمال الإبداعية شرعية الانتساب من حيث تمنحها الاندراج في سلالة ما دون سواها.
بناء على ما سبق، يمكن القول بأن المقبوسات التي أسلفنا الإشارة إليها يمثلان ما يوازي بصمة الكاتب الشخصية، وخيط الظل العابر لمجمل المتن الروائي الذي أنجزه إلا في الاستثناء النادر، وعليه، فليست سيرة واسيني موجودة في كتابته فحسب، بل إن كتابات واسيني ليست سوى استعادة لا نهائية لتفاصيل السيرة الذاتية، وتنويع على التجربة الخاصة الضيقة على الرغم من اتساعها في الزمان والمكان، ومساءلة دؤوبة للذات وأحلامهما، ومراجعة لذكرياتها وأوهامها، وتكريس نرجسي للأنا خاصة، وسعي حثيث لبناء أسطورة الذات وتشييد ملحمتها الخاصة استجابة لنداء داخلي غامض، وهاجس قهري، لا يفتأ يذكر بضيق الزمن الحياتي عن تشييد صرح الفكرة الهائلة التي لم تلبث الذات تكونها عن نفسها منذ لحظة الالتباس بسحر الكتابة المفعم بالنشوة، كأن الكتابة في النهاية، لا تزيد عن كونها مساحة إشهارية لا حد لاتساعها، ولا حد لقدرتها على استيعاب الجمل، والعبارات، والأفكار، والمعاني، التي تكدسها الذات على جسد البياض دون أن تكلف نفسها، بل دون أن تلزم بمحو السالف، لتحل محله الآنف، فالمساحة مبذولة، والخيال خصب، والمشاعر ثرة، دفاقة، والإيلاع بالذات مكين في نفس البشر، والرغبة في الخلود، منذ الأزل، كانت ـ إلى جانب الرغبة في البقاء التي تظل، في النهاية، مظهرا آخر من مظاهر الرغبة في الديمومة والاستمرارية المتحررة من قيود الزمان والمكان ـ محركا قويا في معظم النشاطات الإنسانية، ووازعا عميقا ما انفك يدفع الإنسان إلى ترسيخ عبوره على وجه العالم.
لعل هذا الإحساس القاتل بسرعة انطفاء الحياة وبمآل الأشياء الحتمي إلى التلاشي والزوال، في زمن العولمة المقوض للهدوء النسبي الذي كانت تنعم به الأشياء في القدم، يبرر لوحده انزلاق الناس إلى الأنانية الضيقة التي يمليها أساسا قلق الوجود وحتمياته القاسية، من أجل ذلك تصبح السيرة كما لاحظ الأعرج نفسه:" هي اللحظة الأدبية الأولى التي يفتح عليها الإنسان وجوده لتثبيت زمن يتسرب من بين يديه بسرعة كبيرة وهي تجسيد لرغبة باطنية لتقاسم ذاكرة أصبحت بين حافتي النهاية والاستعادة: حافة القبر حيث ينتهي كل شيء ويتحلل نحو عناصره التكوينية الأولى. لا ذاكرة ولا عواطف ولا تاريخ، وحافة الحياة الممكنة حيث يمكن توريث أو نقل، بعض عناصر الذاكرة عن طريق السيرة ومنحها إمكانية جديدة للحياة، وهو ما يجعلها فعلا إنسانيا طبيعيا ليس رهين قومية أو اثنية أو ثقافة معينة دون غيرها."10.
الفرصة الثانية للحياة التي تتيحها السيرة، والتي نوه بها الكاتب في هذا المقبوس، هي، في نهاية المطاف، الوجه الآخر الخفي لإرادة الحياة، ولإرادة الخلود التي قنعت بالمعادل المعنوي الذي تتيحه الكتابة، بعدما أعجزها الخلود المادي المباشر المتحقق عبر الجسد، وهي استحالة لم تلغ الرغبة في توريث المنجز الإنساني الذي يمثل الأدب أرقى أشكاله وأسماها، وفي هذا السياق، يحضر الاسم بكل مدلوله العلامي المحيل على هوية محددة، تحصرها، وتركزها، وتستدعيها محفوفة بهيلمان ماضيها مهما أوغل الزمان في التقادم، استدعاء شبيها بفعل بيت امرئ القيس بامرئ القيس، كلما قرأنا، أو تذكرنا قوله:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا...عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل.

مهما يكن من أمر، فإن الهوية الأعلامية التي أتاحها النص، وصرح بها الفاعل الذاتي، بتطابق توثيقي بين النص والمرجع، الخيال والواقع، تجعل التصنيف ضمن المجال السيري أكثر من وجيه، وضمن التخييل الذاتي تحديدا أكثر من ضرورة تمليها المكونات السردية التي كشفنا عن تفاصيلها في المقدمة النظرية التي عقدناها لهذا الغرض، وقد أمكننا أن نتوصل إلى أن الهوية الأعلامية التي تطابق فيها المرجع مع التخييل، تظل لوحدها الذريعة الرئيس التي تقيم نصا ما في قلب التخييل الذاتي مهما أفلح الكاتب في تشويش المصادر السرية وفي تبني الآليات الروائية الصرف. وعلى هذا الأساس، يسمح التطابق المتحقق في أسماء الكاتب الحقيقي ( واسيني) و الابنة (ريما) والابن (باسم) والوالدة الكبيرة (أميزار) بأن نقول بالفعالية التخييلية الذاتية التي حكمت النص من أوله إلى آخره، بشجاعة وإصرار كبيرين، لم يتخلفا سوى في الإعلان عن الانتماء النوعي للنص إلى هذه الممارسة في صفحة النص الأولى، حيث اكتفى الكاتب بالتصنيف النوعي المعوم ضمن جنس الرواية، إما احتياطا وإما نزولا عند مقتضى الماركة التجارية، وإما جريا على العادة التي اجترحها الكتاب الفرنسيون وسار عليها اللاحقون.

2. التفاصيل الحياتية.

تنفرد (أنثى السراب) بكونها النص الأكثر استعادة لما كتب واسيني وقال ونشر هنا وهناك، ولا سيما في نصوص سابقة، حذو النعل بالنعل، حتى ليتعذر على القارئ العادي، الذي يباشر النص طلبا لمتعة القراءة البريئة، أن يستمر في مغامرة القراءة إذا لم يكن مسلحا بقدر لا بأس به من سعة الصدر، خصوصا إذا سبق له الإطلاع على نصوص الكاتب الأخرى التي تستعيد أنثى السراب محكياتها وأفضيتها، دون أن تتوفر على الطبخة الروائية التي تشد القارئ العادي الباحث أساسا، في قراءاته الروائية، عن المغامرة والقص والنهايات التي تشده إليها توترات العقدة، وهي مكونات افتقرت إليها الرواية التي بين أيدينا كما افتقرت إليها النصوص التي أحالت إليها مرارا: (شرفات بحر الشمال) و (ذاكرة الماء) و (طوق الياسمين).
الواقع إن بطلة الرواية مريم عندما تصرح بأن ما تخشاه " هو أن يصبح تكرارها مملا في النصوص."11، فإنها لا تعبر عن مجرد خوف غامض يتعلق بشخصية ورقية مهيمنة على كل المتن الذي أنجزه واسيني، بقدر ما تعبر عن الوقائع التي اتصلت بالشخصية المحورية التي كانتها، وبهواجسها وأفكارها ومتعلقات حياتها وحتى بخلفيتها الثقافية التي حصرت الرقعة الموضوعاتية لتلك النصوص، ضمن أطر ثقافية واجتماعية مخصوصة، لم تستطع الفكاك منها، مثلما لم تستطع أن تخلق موازيات تخييلية قادرة على اجتراح عوالم مبتكرة. من أجل ذلك لم يكن خوف مريم وهما بقدر ما كان حقيقة حاضرة شديدة الوضوح، لأن استعادة الأشياء مملة، والقديم لا بهجة فيه تضاهي بهجة الجديد ورونق المبتكر، ومن الصعب ألا تستفز القريحة نصوص تخرج عن المألوف بمضمونها، أو بأسلوبها وشكلها، كما أنه من الصعب ألا تحبطنا الموضوعات المستعادة، وتفاصيل المغامرات المعروفة سلفا، وقد وجدنا الكاتب، في أكثر من موضع من النص، يخرج عن الطور الإبداعي إلى طور الشرح والتفسير، ويتخلى عن اللغة الموضوعة من أجل لغة محمولة تنهمك في شرح الخيارات الفنية التي آثرها فيما سلف من نصوصه، وتجتهد في إضاءة الأنفاق المعتمة أمام القارئ المحترف الذي يباشر النص، لا طلبا للمتعة البريئة، وإنما تقصيا لطرائقه، وأساليب انبنائه، وأدواته الإجرائية المتوسلة، وتيماته، وإشكالاته وسوائها من الأغراض الذي تحرض على التفتيش والتنقيب والتحري.
عندما يصرح الفاعل الذاتي بالقول:" زالت بعض الموانع من ذاكرتي، وانتابتني رغبة محمومة لكتابة نفسي قبل فوات الأوان."12، ندرك بأن الاسترجاع المطرد لتفاصيل الحياة، و الوقوع المتكرر في استعادة الموضوعات المطروقة، يعد اعترافا بالمحذور الذي طالما تجنبه الكاتب بتفعيل أكثر الألاعيب الروائية لطافة، بغية موضعة مدونته الروائية على مسافة كافية من البعد عن السيرة الذاتية التي تبقى الهواية الأثيرة عند معظم الشخصيات العامة، والمهمة، من قادة وساسة ومسؤولين، في أخريات أيامهم، وعندما تصرفهم الظروف، وتمنعهم الموانع، وتحول الحوائل بينهم وبين مواصلة المسار، فيقعدون إلى مكاتبهم لتصفية الحسابات الأخيرة العالقة عن طريق الكتابة التي تتيح، بما لها من إمكانات ذاتية هائلة، من الانتقام البارد، الهادئ، اللذيذ، من الخصوم والظروف والأشياء، وتنقل المعركة من أرض الحاضر إلى المستقبل، من ضيق الشخصي الحميم إلى سعة العالم، ومن ظرف لا شاهد فيه إلى ظروف حاشدة بما لا يحصى من شهود العيان الذين تستدرجهم الكتابة إلى رحابها الممتعة.
أما عندما يصرح بالقول:" لم أفعل الشيء الكثير سوى أني استعملت حيلة الكتابة لأجعل من المستحيل ممكنا (...) ولهذا ما أنشره في الروايات هو حقيقة محاطة بأجمل كذبة هي الأدب."13، فإننا ننتهي إلى اليقين بأن هذا الاعتراف لا يقل في صداميته وجرأته عن اعترافات Confessions جاك روسو ( 1712 ـ 1778) الشهيرة، كما يصبح لزاما علينا أن نعيد قراءة الرجل على ضوء اليقين، الذي كان قبل هذا الاعتراف، مجرد شكوك نقدية إن صح القول، ومحض تخمينات، وتكهنات، وظنون تمليها مواطن (العري) السيري التي وقعت فيها النصوص لما خانتها روافد التخييل، وافتضحت وقائعه المرجعية، وتعطلت أجهزة التشويش التي طالما سحبها الكاتب وراءه على مساحة النص من أجل التمويه، والتعمية، وإزالة الآثار التي تمكن القارئ المحترف من تتبع تفاصيل السيرورة الحكائية وطبيعة المواد التي استعارها الناص لبناء عالمه التخييلي.
والحق أن الكاتب لم يفعل الشيء الكثير، في النص الذي بين أيدينا، من أجل التمويه والتشويش على القراءة المتحرية كما فعل في نصوصه السابقة، خصوصا في (شرفات بحر الشمال) و (طوق الياسمين)، النصين اللذين استعاد معظم قضاياهما من دون أن ينزلق إلى حيز الخانة التصنيفية التي توجبها الهوية الأعلامية للشخوص، كما لو أنه لم يكن مقتنعا، في تلك المرحلة من حياته الأدبية، بجدوى التخييل الذاتي، و بأدواته الفنية كممارسة جديدة لم تراكم بعد منجزا كافيا للتعريف بها، أو ربما كان ينتظر أن ينجز متنا روائيا وافرا، يمكن له الانتشار، ويسوغ له الكتابة في التخييل الذاتي كإنجاز سيري تبرره الشهرة وتستدعيه. هذا ما يفسر في نظرنا إحجام الكاتب عن الكتابة في هذا النمط الجديد في مراحل مختلفة من حياته على الرغم من الطابع السيري الذي تميزت به عموم كتاباته، إلى حد يبيح لنا التقرير بأن واسيني الأعرج يظل، من بين جميع كتاب جيله، وحتى من بين أجيال الكتاب السابقين، أهم من استرفد الذات وتجاربها، واستقصى الحميمية الذاتية، ونقل الحياة الواقعية الحقيقية إلى مضمار التخييل الأدبي، بما يجعله رائد الكتابة الذاتية بدون منازع. استقصى عوالمه وهواجسه، واستبطن الذات المثقفة الممزقة بين الجغرافيات والإديولوجيا، وأوغل في حرب عبثية ضد طواحين الهواء، شانه شان جميع المثقفين الذين يعيشون عمق ثقافتهم كسلوك يومي يرفض التنازل عن يوطبياه وقيمه العليا، كما يرفض التواطؤات الظرفية والحلول الوسطى.
لقد كتب واسيني واقع المجتمع الجزائري الذي تزاحمت حول تاريخه القصير المتراكب مآسي لا حد لآلامها، وفجائع لا يمكن التعبير عن شططها وغلوائها سوى بالإخلاص الأناني إلى الذات اليقظة لأدق الانفعالات والمشاعر والمراحل التي تعبرها مع تاريخها القريب، المشاكس، المضطرب، بالغ العنف، فهي تكتبه من حيث تكتب ذاتها، وتؤرخ له من حيث تظن بأنها تكتب تاريخها الخاص، كما لو أن للنرجسية وجها آخر، وللتخييل الذاتي موضوعية ترقى أحيانا إلى حد إمداد السوسيولوجيا، والتاريخ الرسمي، بمادة لا تدخل بالضرورة في حيز اهتمامهما، وذلك هو الوجه الأكثر مراوغة وزئبقية في الأدب الذي لا ينفك يدافع عن حقه في الوجود، وعن مبررات حضوره الدائم في قلب العلوم الإنسانية.
الحق إن الطبيعة الإفضائية الحميمة لأدب واسيني هي التي أملت علينا عرض نصوصه على مقولات التخييل الذاتي كما حددتها أقلام المهتمين بهذا اللون من الممارسة في فرنسا خاصة، طبيعة انتبهنا إليها منذ نصوصه الأولى، حيث كانت المكونات السيرية أقل بروزا بالقياس إلى المكونات التخييلية التي بدت أكثر إقناعا بطبيعتها الروائية، غير أنها سرعان ما تخلت عن (عمقها) التخييلي في سبيل عمقها الواقعي المرجعي، ثم سرعان ما تخلت عن (حذرها) الابتدائي لتنصرف انصرافا كليا إلى الكتابة الذاتية الصرف التي يمثلها نصا (ذاكرة الماء) و (أنثى السراب) أحسن تمثيل، كما لو أن (الموانع) التي زالت عن ذاكرته فدعته إلى كتابة ذاته كتابة صرح بها في المقبوس الذي أوردناه من قبل، لم تكن سوى حذر (أدبي) مؤقت لم يعد له ما يبرره. و من ثم انصرف في النص الذي بين أيدينا إلى كتابة سيرته الذاتية الصريحة التي لم تكن رغبة ليلى، الشخصية الرئيسة، في استعادة موقعها من مريم، سوى ذريعة فنية تمكنه من ممارسة ضرب من التخييل على التخييل، حيث يعيد قراءة بعض وقائع نصوصه السابقة من داخل لا يعرفه أحد بقدر ما يعرفه الكاتب نفسه. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن نصوصه التي تشكل ما يشبه الثلاثية، (شرفات بحر الشمال) و(ذاكرة الماء) و(طوق الياسمين)، والتي انبنت وفق تقنيات التخييل الذاتي، بدرجات متفاوتة من الإفصاح والترميز، قد وردت بعناوينها الحقيقة في رواية (أنثى السراب)، بالإضافة إلى عنوان (سوناتا لأشباح القدس)، وهي عناصر تتضافر مع الهوية الإعلامية لتؤكد المنحى السيري الخالص الذي اختاره الكاتب بوعي كامل.
ويتجلى النزوع السيري الخالص عبر السيرورات النصية التي لا تخفي الرغبة الضمنية في التأريخ للمسار الشخصي ومنجزه، تأكيدا على النجاح المتحقق الذي يبرر بشكل من الأشكال هيمنة البعد السيري على المدونة الروائية التي أنجزها منذ بداية التسعينيات من القرن المنصرم. وفي هذا السياق وحده يمكن أن نصنف مقتضيات التفاصيل الحياتية الخاصة التي يسردها الناص بعناية بالغة، في مواطن متعددة من النص الذي بين أيدينا، ومن النصوص الأخرى المشكلة للمدونة التسعينية المشار إليها آنفا، ففي الصفحة الرابعة عشر مثلا تحضر الابنة (ريما) باسمها الحقيقي، والابن (باسم) باسمه الحقيقي كذلك وبمكان إقامته (مونتريال) ونصه المنشور (سوناتا لأشباح القدس) بالعنوان نفسه، وجامعة (السوربون) التي يسدرس بها كذلك، كما يذيل رسالته الطويلة بإمضاء (لزعر الحمصي)14 اللقب الذي أطلقه عليه أهله إشارة إلى لون بشرته ذي الشقرة المصفرة، وهو اللقب الذي ورد في نص (ذاكرة الماء) حرفيا بما يؤكد الطبيعة السيرية لأدب الأعرج التي أكدنا عليها، في أكثر من موطن، من هذه الدراسة. لقد اشتغل التخييل في النص الذي بين أيدينا على نصوص سابقة عليه، سواء بتوضيح المغمض، أو بإعادة إنتاج الثيمات القديمة نفسها بشيء من التعديل الطفيف الذي لا يشوه ملامح المعنى ودلالات الملفوظ، كما لو أن الكاتب يسعى إلى استدراك النقائص التي وقع فيها السرد بانحيازه إلى التعمية والتشويش على الآثار السيرية، رغبة في تحقيق ضرب من الوجاهة الروائية، وفي هذا الصدد يحضرنا مثال (ياسين) بطل رواية (شرفات بحر الشمال) الذي يتقاطع مع المؤلف الحقيقي في مواطن متعددة، لا تقف عند الشبه الجسدي بل تتعداه إلى الفضاء المعنوي والموروث الثقافي، وحتى في الجذر الذي يستحيل تمويهه أو تعديله أو إلغاؤه بالمرة: الجد الأندلسي المستقر على الدوام في الخلفية الأدبية والثقافية والملحمية للكاتب، بالإضافة إلى (حنا ميزار)، غير أن (الورع) النقدي إن صح القول، يوجب لونا من الأناة وحسن التلطف والوقوف عند موجبات النسبية الرديفة لتعدد وجوه التأويل، فلم نقطع بتطابق المؤلف الحقيقي بالشخصية الرئيسة، على الرغم من حدسنا الداخلي الذي أثمرته الصحبة الطويلة لنصوص الكاتب، حتى صرح الناص على لسان بطلة أنثى السراب بالقول: " قد أكون مارست نفس اللعبة المجنونة، ولكني لم أكن محترفة، حتى في اسمه الذي أعطيته له في مدارات حياتنا الصغيرة. أسميته ياسين تيمنا باسم صبي كان يمكن أن يكون ثمرة حبنا لو شاء واسيني. فاجتزأها: سين. ولم يحتفظ في رسائله، من الاسم، إلا بجزئه الأخير الذي كان في النهاية قريبا من اسمه الأصلي. لم يكن الأمر عسيرا. فقد اخترت له هذا الاسم لأنه كان يحب كاتب ياسين، الذي عرفه قبل أن يموت، والتقى به في مسرح سيدي بلعباس وبلدة تنيرا. وتكونت بينهما صداقة جميلة لم تنته إلا بموت ياسين."16.
يتأكد التطابق بين الشخصية الرئيسة والمؤلف الحقيقي في نص (شرفات بحر الشمال) في مواطن عديدة من (أنثى السراب)، مثل الرسالة المقدمة بـ (من مريم إلى ياسين)17، والرسالة الموقعة بـ ( ياسين، الدوحة، 2006)18، والرسالة الأخيرة المكتوبة من (ستوكهولم) المدينة التي توجه إليها ياسين في (شرفات بحر الشمال) هاربا من القتلة المتربصين به، والتي يبعث منها برسالته في (أنثى السراب) معنونة بـ(من ياسين إلى مريم..أشواق ستوكهولم)19. تمثل النماذج التي أوردناها عما سميناه اشتغال التخييل عن التخييل، حيث يستدرك النص الذي بين أيدينا على النصوص السابقة، ويحيل إليها، ويشرح بعض ملابساتها، ويعلق ويِرخ لها أحيانا، ما يمكن اعتباره ماركة مسجلة لواسيني الأعرج الذي كتب مبكرا جدا في التخييل الذاتي دون أن يجنس نصوصه به، فجاءت تحمل، بقوة الدلالة المنتشرة في أثناء السيرورة النصية، ملامح التصنيف السيري المنتشي بتوثيق الحياة، ومنجز الإنسان الذي كانه، والذي هو عليه بطبيعة الحال، ومغامرته الوجودية والعقلية والانفعالية، بما يشكل تجربة إنسانية جديرة بالقراءة والتأمل بعض النظر عن جميع الاعتبارات.
يشكل المقبوس الطويل، الذي يمتد على أزيد من ثلاث صفحات، نموذجا لاشتغال التخييل على التخييل، الذي وظفه الناص ببراعة، لاستدعاء نصوص سابقة تمتد على مسافة زمنية تتجاوز ربع القرن، وتؤرخ لتجربته الروائية من خلال الشخصية الرئيسة (مريم) التي تعقبت تمظهراتها الأنثوية المختلفة عبر النصوص والسنين، تقول: " قتلني في حادث سيارة غير مرقمة، في ضمير الغائب، وكنت دائما أنبهه من مخاطر اللعبة. ولكنه كان يضحك مصرا على فكرته الثابتة التي لم أستطع تغييرها: الأدب أكبر من الحياة. ثم بلمسة ساحر لغوي، حولني إلى طالبة في العلوم السياسية، وأنا لا علاقة لي بذلك مطلقا بذلك، في فاجعة الليلة السابعة بعد الألف. صحيح أني درست شهورا قليلة في الجامعة، في قسم الأدب في وهران، قبل أن التحق بكونسرفتوار المدينة، ربطني بالبشير الموريسكي الهائم. عرفت مصدر الحكاية طبعا. فقد استثمر علاقتنا الجميلة مع عمي البشير الحاج علي، شاعر الأندلس التائه، الذي أجهز عليه زبانية النظام بالتعذيب والسطل الألماني، فافقدوه الذاكرة والحركة. كان عمي البشير جميلا مثل شمس ربيعية، وهشا مثل فتيلة قنديل، في مهب العواصف البحرية. صديقة عمي البشير ومرافقته، هي الفنانة مريم بان، ولست أنا. وتوهني واسيني، سامحه الله، في مدينة مبهمة، لم أعرف هل هي مدينة شرقية أم غربية في مصرع أحلام مريم الوديعة وتركني في سوق غريبة بعد أن سرق مني بوصلتي الوحيدة في الدنيا: قلبي. أحيانا أرى في تلك السوق، سوق الحميدية الشعبية، وفي أحيان أخرى أراها سوقا مبهمة بلا هوية. وجعلني أموت في مستشفى بارد، على وقع كلماته الأخيرة في سيدة المقام. حسدت مريم على جرأتها وموتها الاستثنائي بين ذراعي الرجل الذي أحبته أبدا، وعلى وقع الكلمات الجميلة. وضع في رأسي رصاصة صدئة سماها رصاصة خريف الغضب الذي عم البلاد في سنة 1988، ثم جعلني مجنونة على رمسكي كورساكوف. كنت حقيقة مهبولة على هذا الموسيقي العظيم، ولكني لم أكن أبدا راقصة في حياتي. أعرف جيدا مصادر الاستعارة. الجميل في واسيني هو أنه كان يحكي لي عن كل التفاصيل. ربما سأرويها يوما عندما أستريح من الشطط الذي أعاني منه. فقد تعرف على راقصة بالي في دمشق، وجاب معها جزءا من مدن الشرق بحثا عن سحر شهرزاد الذي التصق بلحمها، قبل أن يفترقا على أجمل ليلة. اكتفى كل واحد منهما بحياة كان يصنعها بشطط غريب. رآها يوما على شاشة التليفزيون وقد فقد جسدها كل نضارته، وهي تطلب من وزير الثقافة أن يهتم بها وبأولادها، بعد أن تركها زوجها وهرب معها إلى المغرب. بكى واسيني ليلتها، ومسح بسرعة تلك الصورة من عينيه وفضل أن يعيش على صورته التي صنعها معها. إلى اليوم يرفض أن يراها. كان يعلق صورتها في بيته وهي تطير في الفضاء كالفراشة، وسط عرس من الألوان المضاءة. ثم رماني في باريس، في أيام الشدة الكبرى، في شتاء 1993، مع ابنته ريما في ذاكرة الماء، وغيَّر الرسالة التي بعثتها له من بيروت وكنت ممتلئة به، أدعوه فيها إلى أن يرفض منصب وزير الثقافة الذي سمعت أنه اقترح عليه، حتى قبل أن أسافر. كنت أراه دائما فوق كل هذه التفاصيل التي لا تشرفه. أفرحني عندما سمعت أنه هرب إلى تونس بدعوة من جامعة القيروان، لكي لا يواجه غوايات الأصدقاء، ولم يعد إلا عندما تم تعيين الحكومة الجديدة. ثم دفع بي نحو مغارات الموت، في طوق الياسمين، مع ابنتي سارة، في مشهد جنائزي جعلني أصدق ما فعله بي. لست أدري من أين اخترع واسيني اسم سارة؟ ونسى أو تناسى، أن الطفلة الوحيدة التي سرقناها من العسس وقتلة هذا الزمن، هي مايا. مايا التي ورثت نبضه ونبضي، وتحس بكل التفاصيل الخفية التي تخترقنا. السحَّارة، كما اسميها ويروق لها ذلك. المرة الوحيدة التي ذكرني فيها باسم غير اسم مريم، كان ذلك في وقع الأحذية الخشنة. ربما لأنها كانت البدايات."20.
إذا أغفلنا جميع التفاصيل الحياتية التي يوردها المقبوس تصريحا أو طي مضمرات النص، وتوقفنا عند استدعاء العناوين الروائية بملفوظاتها المعروفة بانتسابها إلى شخصية المؤلف الحقيقي المثبت على الصفحة الأولى، إثباتا مسجلا للنسبة والامتلاك القانوني والأخلاقي، استطعنا أن نضع أيدينا مرة أخرى على مكون سيري لا يشببه في التصريح سوى الإلحاح على تكرار اسم المؤلف أكثر من 300 مرة. كما إن عناوين النصوص التي أعادت الشخصية المتلفظة صياغة وقائعها المتعلقة بالنماذج التي تقمصتها، وفق منظورها الشخصي المحتفي بتقلباتها بين النماذج والأشكال والصيغ النسوية التي يكونها التخييل تكوينا سحريا خلابا مهما ظلت، في نهاية المطاف، نماذج تتناسخ بلا تغييرات جوهرية، وتتشابه إلى حد التماهي، وتحيل إلى شخصية واحدة تتضافر جميع مكوناتها على التأكيد على طبيعتها المرجعية، وبعدها السيري الوثيق بحياة حقيقية لمؤلف حقيقي.
الواقع أنه كلما أمعنا في تتبع الوقائع الحياتية الحقيقية المسرودة على جسد البياض، وكلما أوغلنا في القبض على طائفة من المكونات الروائية التي ظللنا حينا من الدهر نأخذها مأخذ التخييل الصرف في سابق المتن الروائي لواسيني الأعرج، كلما ازدادت الحقيقة نصاعة ووضوحا، وتبينا تجذر الحياة الحقيقية للمؤلف في قلب عالمه الروائي، ولا سيما أنثى السراب الممحضة لسيرة معلنة لا ينقصها سوى التصنيف الموجه لعقد القراءة، من ذلك إشارة البطلة إلى العمودين الصحفيين الخاصين بالكاتب في جريدتين من أكثر الجرائد الوطنية انتشارا وصيتا: الوطن والخبر، تقول:" فقد خلتني يوم بداية غيبوبته، أن أحمل قلمه وأستمر في الكتابة كأن شيئا لم يكن. أكتب زاويتَيْ دياسبوراه، و أهل الكتاب، في يوميتي الخبر والوطن، باسمه، أو حتى باسم مستعار، لا يهم. الأكثر أهمية أن يظل واسيني حيا."21. وهكذا يوضح هذا المقبوس مع المقبوس الذي قبله بأن الحديث ينصرف إلى شخصية واقعية معروفة بزاويتها من جريديتين معروفتين، وبعناوين روائية منتشرة بين الناس باسم مؤلفها المذكور في القبوسين بصراحة لا مزيد عليها، بما يجعل البحث الذي نحن بصدد إنجازه مجرد تحصيل حاصل كما يقول المناطقة، لأن البحث الهين، اليسير، في ظاهر النص المعلن قد أفضى بسرعة إلى تصنيف النص في جنس السيرة الذاتية التي لم تحاول أن تلغم النص، أو تراوغ، أو تتخفى كما هو الحال في النصوص السابقة، ولم تأت من قريب أو بعيد بما يدفع عنها (شبه) السيرة، ولا بما يقربها من الروائي الخالص دون سواه من أجناس السرد.
من هنا، يصبح الإشكال في اعتقادنا، ليس البحث المنهجي عن جنس النص بقدر ما هو التساؤل عن المعنى المستقر في خلفية الناص الذي أملى عليه التصنيف الذي صنف به النص، كرواية، تدعو إلى قراءتها وبحثها من منظور روائي وافر الأدوات، والآليات، القادرة على اكتشاف عوالم النص، وخباياه وأساليبه الفنية، وطرائقه الجمالية، وبما يعنيه ذلك من إعداد مسبق لأفق التلقي وضبطه ضبطا خاصا لاستقبال عالم مخصوص، بينما يفاجأ، وهو ينزلق بين تصاعيف النص، بعالم روائي، أو كالروائي، لا يدخر له شيئا جديدا باستثناء حياة معادة، معروفة كليا أو نسبيا، قد تعنيه وقد لا تعنيه قليلا أو كثيرا.
من الصعب ألا يشعر القارئ الذكي، وظنه يخيب، وتوقعه يرتكس، وانتظاره لا يفضي إلى شيء، بأن الأمر لا يعدو ضربا من (النصب) على شهوته للقراءة، و(الاحتيال) على ذائقته الأدبية.
عند هذا المستوى من القراءة، يصعب إرجاء الأسئلة الكثيرة التي تتدافع بقوة حول موجبات التخلف عن واجب التصنيف والتجنيس اللذين يقتضيهما العمل، تدليلا على هويته ونوعه ومقوماته، وضبطا لبوصلة القراءة والتأويل معا. ولا يحضرنا سوى مبررين يفسران المنحى التضليلي الذي تعمده الناص وأنجزه نصه منذ البداية، هما، في نهاية المطاف، خلاصة ما اهتدينا إليه بعد التأمل وتقليب النظر في جنس التخييل الذاتي كما فهم ومورس في الغرب، وفي فرنسا على وجه التحديد، و خلاصة النظر الطويل في طبيعة المتن الروائي الذي أنجزه الأعرج منظورا إليه من زاوية المكونات السيرية المضفورة ضفرا روائيا، والمخرجة إخراجا تخييليا، أفلح النص في تعمية آثارها حينا وفشل أحايين كثيرة. أما الأول فهو، كما أسلفنا الإشارة في مواطن سابقة من هذه المقالة، مقتضى السير التابع للأصل المبدع المتبوع، بمعنى أن الناص لم يخرج عن التقليد المتبع عند معظم الروائيين والكاتبين العرب الذين لا يكادون يخرجون جميعا عن النهج الأمم الذي يرسم معالمه الكتاب الغربيون، بجرأة واقتدار، وحرية لا يضاهي عنفوانها سوى الغياب المطلق لهذا الإحساس المنعش بالحرية الذي يطلق القدرات الهاجعة من معاقلها، ويرسلها في فضاءات الإبداع الرحيبة رشيقة، خفيفة، واثقة لا يحدها حد ولا يكبتها كابت. وعلى هذا الأساس، اضطر الكاتب، نزولا عند مقتضى التبعية والعجز المشار إليهما آنفا، إلى تسجيل نصه ضمن لائحة الرواية المريحة بغطائها الفضفاض الذي ترسله على التفاصيل، والنتوءات المزعجة، فتصبح جسدا له خوار لا يختلف عن غيره من الأجساد، ولا عن مثيله من الخوار، لا يحمل مسؤولية، ولا يجر تبعية، ولا يدعو إلى مساءلة، ولا يعرض لمسطرة الأخلاق، والصدق، والكذب، والنزاهة العقلية والعاطفية التي تثيرها السيرة، من حيث هي فن مرتبط أساسا بواقع مرجعي، وتاريخ محفوظ، وشهود موجودين بالقوة في كثير أو قليل من تفاصيل التاريخ المسرود.
أما الثاني فهو ما أملته الحتمية الذاتية إن صح القول، الحتمية الذاتية الملتبسة بمقومات الهوية التي تتسم بها نصوص كاتب دون كاتب، ومبدع دون مبدع، بالنظر إلى الطبيعة الشخصية جدا للأسلوب الأدبي هنا بالمناسبة، والرؤية الخاصة، والفلسفة الحياتية التي تحرك الذات في اتجاه مخصوص من اتجاهات الحياة، وفق إيديولوجيا معطاة، هي في نهاية المطاف عصارة ما يشكل الذات والهوية الفردية المميزة في سياق زمني راكمت فيه من الخبرة، والتجربة والمعرفة، والإحساس بالوجود، ما يؤهلها للتعبير الجمالي المتطلع إلى إشراك الآخر، وإغرائه، واستدراجه إلى المشاركة في التجربة، وإلى تذوقها في أقل تقدير.
إن الحتمية الذاتية المحركة للفرد في مصطرع الحياة العريض توازي أدبيا وفنيا ما يمكن التمثيل له بالبصمة، أو بالقانون البنائي المتدرج من مقدمات محددة إلى نتائج مقررة سلفا، بما يشبه القسر والإكراه والحتمية العلمية الصارمة، وقد انتبه أدباء التراث والبلغاء والنقاد جميعا إلى المنحى الأدبي الضيق الذي قد يدفع إليه الشعراء والكتاب، وإلى السمة الواحدة، والأسلوب الواحد، و(الغرض) المحدد الذي يلزمه الفرد منهم التزاما يمنعه من الانصراف إلى سواه، وإن انصرف عنه منعه من الإجادة فيه، ومن بلوغ الغاية كما يقول أولئك الأقدمون. وعلى هذا الأساس لم يخل التراث العربي الضخم من أسماء مقرونة بلون خاص من القول لا تعدوه، فيهم من صرف همته أو صرفته (الحتمية) إلى القول في الخمر، فقال وأوفى وبلغ الغاية ونصب قصب السبق في علو من الأمر لا تدانيه الهمم، ومنهم من انصرف إلى الغزل يقول فيه، ويعيد، ويصرف القول، ويستنبط المعاني العذبة الرائقة التي تعيي من يغوص إليها إرادة لا ملكة وموهبة، وهكذا دواليك في مواضيع شديدة الاختلاف، متباعدة النسب، بين الإبداع والنقد والترسل والخطابة وغيرها.
أما في عصرنا الحديث هذا، فإن الدأب، والديدن، والهجيرى، فيستعار لها من الاصطلاح ما يناسبها، كالقول بهيمنة الثيمة، أو الموضوعة، دون الظاهر من القول المنصرف إلى الأسلوب، والمعجم اللغوي، والتنضيد اللفظي المتصرف وفق طرائق مخصوصة يعرف بها الكاتب والشاعر دون سوائهما من الكتاب والشعراء. وقد وجدنا في عصرنا الغالب عليه السرد وأنماطه دون الشعر وأغراضه، ما يشبه ذلك التفرد القديم بالغرض الواحد من الشعر، وبالأسلوب الواحد من القول، فترى الروائي لا يفتر يحوم حول الموضوعة الواحدة من موضوعات السرد على اختلاف الأشياء القابلة للتسريد، لا يقول إلا فيها ولا يبحث سواها مهما أوغل به التخييل أحيانا في اختلاق الشخوص والأحداث والأفضية، فتأتي متشابهة يستدعي السابق منها اللاحق، في تصاد وتتابع عجيبين.

2. الثيمات المهيمنة.

لقد سبق لنا التفصيل في شأن المقومات السيرية التي حكمناها في التصنيف الجنوسي للنص الذي بين أيدينا، وانتهينا إلى التأكيد على البعد السيري الخالص الذي يتمتع به النص، على الرغم من الاستعانة بتفريع تخييلي واحد استقر في قلب السيرورة السردية التي تشعبت انطلاقا من موقعه السردي، ومن رؤيته الذاتية للأحداث التي خرجت دفاقة من ذاكرة لا تمل من استعادة ماض مجلل بنوستالجيا شفيفة، وتاريخ ذاتي منفوخ فيه المجد، والكرم، والسمو الإنساني الموغل في المثالية التي أجادت تصوير رقيها عاطفة نرجسية لا حد لتوهجها. ولم تأت المقومات السيرية المذكورة في سياق غير السياق المعروف به الكاتب، ولا في موضوعة مبتكرة مدهشة بخروجها عن النسق الروائي الذي تعرفنا على ملامحه منذ بواكيره الأولى، بما يجعل ثيمات المتن الواسيني برمتها شهادة مزدوجة، وبعدا ثانيا موازيا، ومؤكدا، على الممارسة التخييلية الذاتية التي اجترحها الكاتب في مرحلة مبكرة من عمره الأدبي، وفي هذا الصدد سنفصل التدليل على تفاصيل الهيمنة الموضوعاتية التي يعيد الكاتب إنتاجها بإخلاص مدهش، ورتابة عنيدة، وجرأة لا حد لـ(شجاعتها).

2. 1. الجد الأندلسي.

يبدأ النص معزوفته الأبدية عن الجد الأندلسي المجيد بإشراك البطلة في الانتماء إلى المجد الأندلسي الغابر، ولعل التوافق العجيب بين الكاتب وحبيبته في الانتماء إلى سلالة العاشقين العظام، بقدر ما تثير العجب، تدعو إلى القول كما يقول القدامى (إنه لمن عجيب الاتفاق). قالت ليلى في الصفحة السادسة: "...من آخر رسالة بعثت بها لواسيني من غرناطة. لا أدري بالضبط، ماذا أصابني يومها، وهل فهمني كما يليق برجل حساس، يخاف على حبيبته؟ منذ عودتي من مدينة أجدادي الحزينة."22، فالبطلة العاشقة الهائمة تربأ بالحب عن الاستحواذ على قلب لا تخفق في شرايينه دماء الأندلسيين، الذين يصر المخيال العربي الحديث على تصوير سلالتهم تصويرا أسطوريا يكرسه الأدب تكريسا يمثل المقبوس السالف شكلا من أشكاله المفعمة بالحلم، والشعر، والغموض، ومعاني البراءة البكر التي تحيل، في معظم حالاتها، على النزوع الصوفي في التركيبة الإنسانية الباحثة عن أي حلم جميل ينسيها واقعها الشقي، وعلى الحنين إلى الوطن المفقود الذي يعبر عنه النمط اليونجي العالي23 بالجنة التي أخرج منها آدم وحواء مطرودين بفعل الخطيئة الأولى.
أما الكاتب فيبدأ عزفه المنفرد الأثير، على اللحن الأندلسي الشجي، ابتداء من الصفحة الثانية عشر بالقول على لسان ليلى:" فتحت صندوق الرسائل الخشبي، آخر موروثاته عن جده الأندلسي."24، و " يقول واسيني إن هذا الصندوق هو آخر ما تبقى من مكتبة جده الأندلسي."25، و " وأنا لا أعلم قوة اليد التي سحبتني نحو الصندوق الخشبي لجده الأندلسي."26 و " ربما صادفت جدتك ونمت في حجرها على وقع حكاية مخطوطة جدك الأندلسي."27، و " لا أريد أن أعض على يدي كما كان يفعل أجدادي الأندلسيون لحظة الندم العميق."28 و " لست مريم كما أرادني واسيني، ولا حتى كوراثون ميا التي ابتدعها من عطر أجداده الأندلسيين."29، و " كما كان يفعل أجداده الأندلسيون عندما يجلسون وراء براد الشاي ويبدؤون سرد الخفايا وقصص العشاق."30، و " هناك بعض أسرار أجدادك الأندلسيين المخبوءة داخل جمل سرفانتس."31، و " المسافة بيني وبين جدي الأندلسي كانت كبيرة، أكثر من أربعة قرون."32، و " كنت صغيرا عندما دخلت، للمرة الأولى، تلمسان، مدينة أجدادي الأندلسيين والصوفي سيدي بومدين لمغيث."33، و " جدتي التي منحتني سحر الحكاية بخرافاتها وقصص أجدادها الأندلسيين."34، و" عندما ذكرت لك سفرة القدس. قلت لي اذهبي ولا تسألي إن كنت مقتنعة بما يجيش في قلبك. قلت لك: أريدك معي. أجبتني بحزن شديد: تلك الأرض سرقت مني ومن جدي الأندلسي سيدي بومدين لمغيث."35.
تلك بعض المقبوسات التي تبين الحضور الطاغي، للجد الأندلسي المزعوم، على طول المساحة السردية التي تحتلها الأحداث الاسترجاعية الخارجة من ذاكرة حالمة لا يفسد عليها نشوتها الذاتية شيء. وقد كان بالإمكان التعامل مع الجد الأندلسي بكثير من الأناة لو اقتصر حضوره على النص الذي بين أيدينا، وكان أمكن اعتباره مكونا سرديا ضروريا لهذا اللون من الممارسة التي موقعاها في صميم التخييل الذاتي، بيد أن احتكاكنا الدائم بأدب الأعرج، وتتبعنا المحايث لموضوعاته، وأدواته الروائية، وآلياته التخيليية، جعلنا ندرك مدى الهيمنة المطردة التي يمارسها ذلك الجد المزعوم البعيد على معظم المتن المنجز، بما دفعنا إلى التأمل في الأمر بغية الوقوف على ما له وما للأدب منه أو عليه.
قبل ذلك نريد في هذا الموطن من القراءة أن تتبع التمظهرات النصية الأخراة التي يتقمصها الجد الأندلسي المجيد خارج النص الذي بين أيدينا، وسنبدأ البحث من (ذاكرة الماء)، النص الشبيه بأنثى السراب إلى حد التماهي، من حيث الشخوص والموضوعة الأساس، واسترفاد الذاكرة، والإيغال في الذات والاستبطان المليء بالحنين والشجن، وفوق كل ذلك، الانتماء غير المعلن إلى حيز الأدب السيري وإلى التخييل الذاتي منه بالتحديد. قال:" بي شوق كبير لفعل ما كان يفعله أجدادي الأوائل. جدي القديم، عندما غادر أندلسه التي نبت فيها، يقول الرواة، إنه لم يحمل في جيبه إلا حفنة تراب، عندما فاجأه الموت، طلى به كل جسده ثم قال بأعلى صوته أمام الذين كانوا يحيطون باحتضاره: ـ طز في الموت، هاأنذا ألبس وطني."36، و " نزلت إلى ساحل جينوفا لألمس الموجات القادمة من بعيد، بعدما يئست من صعود البحر إلى غرفتي، كان مهجورا عن آخره، لا شيء فيه إلا السفن القديمة، بعضها مهجور، والبعض الآخر حول إلى مقاه وبارات عائمة، ها هنا كان أجدادي، يشربون قهوة الفجر، يصلون صلاتهم، ثم يشقون الموجات بحثا عن رزقهم وتجارتهم."37، و سيقول الناس يوم جنازته:" يقولون أنه شيوعي؟ محال، حاشا أن يكون كذلك. لم يسرق ولم يكذب وأجداده قادمون من الأندلس."38، كما لو أن الأصل الأندلسي فضيلة لا تقل عن فضيلة الصدق والنزاهة وغيرها من الفضائل التي يحيل إليها سياق المقبوس.
أما نص (طوق الياسمين)39، الذي جاء بدوره (استنساخا) أمينا للقى الأركيولوجيا المنقبة في ذاكرة نرجسية مملوءة بالذات والذاتية، فلم يغفل الاستعمال المستنزف للمخزون الأسطوري الذي يحيل عليه الانتماء إلى ماض أندلسي محفور في مخيال عربي، مسكون بدوره، بمجد قديم، وفردوس مفقود، وجنة من البراءة التي لم يحسن الدفاع عنها عندما كان بين جنباتها الخضر منهمكا في أعمال لا تمت إلى المجد بصلة. هنا كذلك تلوح بالكاتب أشواق الوجد بغصن الأندلس الرطيب، فيمد له أسبابا من الوصل، ليس له وحده فحسب كما اضطررنا أن نتقبل تحت طائلة الإلحاح المتكرر، بل لحبيبته الأبدية مريم التي أصبحت ليلى، قال:" مدينتك التي شهدت ولادتك الثانية وتفتحك، تعشق البحر وتفتخر بأجدادك الأندلسيين وبجبال فلاوسن وزندل، التي لا تموت خضرتها، وبالغابات الرائعة التي لا ينتهي امتدادها وبالقديس سيدي عبد المومن بوقبرين، الذي باع تاريخه الأندلسي وراهن على الدنيا مقابل ابتسامة هذه المدينة وبحرها."40، وفي موضع آخر من النص نفسه:" جدي عبد المومن بوقبرين وهو يركب سفينة العبدة41 بصحبة خادمته مريم وأخته التي تجلس بجواره."42.
واضح مما سبق، الحضور المكثف لثيمة الجد الأندلسي التي يستدعيها الكاتب، ويفرط في استعمالها، في مناسبات متباينة جدا، ويستسلم راضيا للغوايات الإيحائية، التي تمارسها عليه قبل أن تمارسها على المتلقي، بتصاديها مع التاريخ الأندلسي العابق بأشذية مسكرة ومتناقضة، داخل مخيال عربي ليس بالضرورة منطقيا، ولا متصالحا مع مكوناته الواقعية.
إن كوننا غير معنيين بمحاكمة (النوايا) الإبداعية للمؤلف، ليس معناه أن نحجم عن البحث الجاد عن الخلفيات الواعية واللاواعية التي (أكرهت) الكاتب على الاستدعاء المتكرر للثيمة المشار إليها آنفا، فقد أصبح في حكم البديهي عند النقاد وعند المشتغلين بالأدب بصفة عامة، أن النص يقول أكثر مما يريد صاحبه أن يقول، وأنه كثيرا ما يراوغ المبدع أيما مراوغة، وكثيرا ما يزيف معانيه الواضحة، ويتلف مقاصده، ويحور معانيه وأفكاره، لأن اللغة التي هي قوقعة الوجود البشري على حد تعبير جاستون باشلار، ليست في الحقيقة بذلك الصفاء المفترض، ولا بتلك الذرائعية العارية عن الخلاف المستكن بالقوة بين تفاصيل المعجم اللغوي نفسه، ناهيك عن البعد المجازي والاستيعاري الذي يحيل أي طموح ذراعي في النقاء التواصلي الصرف، مجرد حلم من أحلام البشرية الكثيرة المستعصية على التحقق.
من أجل ذلك لا مناص من تمكين الثيمة من كافة الأبعاد التي تتيحها إمكانات التأويل، بالنظر إلى كثافتها الدلالية التي تتخذ أحيانا بعدا رمزيا صرفا، ينبض بإيقاعات شعرية لا تلتفت كثيرا إلى ما تحدثه من تقاطب وتنافر، و غالبا ما تقع في تناقض لا يبرر وجوده في الفضاء الدلالي للسرد، سوى كثافة اللحظة الإبداعية الملتفتة إلى التقاط الشعرية الخلب، بغض النظر عن موقعها من معايير الخطأ والصواب. وعلى هذا الأساس ربما، ظل الهرمسيون43 يدعون بأن للنص حقيقة أصلية هي مناط العملية التأويلية برمتها، وأن وظيفة التأويل الأولى هي التوصل بأيسر السبل إلى ذلك المعنى، وذلك الأصل، مهما لجت بالمؤولين السبل، ومهما اضطرتهم إلى سلوك الوعر، والملتوي، وغير المؤدي بالضرورة إلى جوهر العمل، لأنها في نهاية المطاف، ستبقى تمظهرا عقليا للنشاط الإنساني، إن لم يغن في التوصل إلى الأصل، فلن يخطئ الإضافة إلى الركام المعرفي الذي أنجزته الإنسانية في تاريخه الطويل الذي ما زالت تستميت فيه للاهتداء إلى الحقيقة التي غالبا ما يغالبه الشعور أثناءها بأنها مستحيلة.
مهما يكن فإن ثيمة الجد الأندلسي المجيد التي ألح الكاتب على توظيفها في متنه الروائي، قد كفت مرارا عن إلزامنا بمقاربتها على أنها مكون تخييلي كغيره من المكونات، في اللحظة التي وجدنا الأعرج يصر على الانتساب إلى المجد الأندلسي التليد في سياق غير تخييلي بالمرة، ونقصد بذلك الحوارات الصحفية التي أدلي بها هنا وهناك، أو الأعمدة الصحفية التي كتبها باستمرار في الصحافة الوطنية التي أشرنا إلى بعضها في مستهل هذه المقالة.
إن فرضيات القراءة التي أقمناها أسسها على البعد السيري الصرف الذي يتمتع به النص الذي بين أيدينا، كغيره من النصوص الأخرى في واقع الأمر، تجعلنا نتصور في هذا الموضع من القراءة بان الكاتب لم يكن مدفوعا بالرغبة التي تستبد بالشر في منتصف العمر، أو في خريفه، عندما تهجم الشيخوخة وينساب الزمن لايلوي على شيء، وغير عابئ بشيء، ببرودة قاتلة ولامبالاة محبطة، هنالك تنجم الرغبة في التأبيد وفي التملص من أنياب الفناء التي لا فكاك منها، وهنالك لا يكون لشيء ما للحكاية من قدرة على الالتصاق بالذاكرة الجمعية الخالدة، ومن موهبة في تحيين الماضي والغابر والمطوي مع صفحات الأزمان المتقادمة.
هنالك تصبح الحكاية الشخصية أقدر من السلالة الخارجة من الصلب على تأبيد الحضور في سيل الزمن الهادر بأمواج البشر والحيوات والمصائر. وقد يشبه الولد أباه بعض الشبه، وقد يخالفه كل الخلاف، ولكنه في الحالتين معا ليس هو، ولن يكون هو ولو حرص، ولو سعى في التقليد واجتهد، فأسنن الكون وحتمياته تلزم كل فرد بأن يحمل صليبه لوحده. وحدها الحكاية لا تفعل ذلك، والأدب، والقصيدة والرواية، وكل عمل فني خارج من أتون الإبداع الذي تحمل الكينونة المبدعة وحدها تبعات إيجاده وإخراجه من العدم. من أجل ذلك ليس هنالك في العالم أوفى من دلالة (الصنعة) على (الصانع)، و(الخلقة) على (الخالق). ليس هنالك أدل من الرواية على كاتبها ومن القصيدة على منشدها، ذلك ما يجعل الرغبة الإنسانية العميقة في الخروج من السديمية الكونية، والضبابية الزمنية الملزمة للأشياء بالفناء، تقف شامخة على الرغم مما توحيه من أنانية ضيقة، ومن نرجسية طفولية ساذجة.
إن الميزة الجوهرية للعملية السردية هي قيامها على مكون ثلاثي لا سبيل إلى فصل واحد عن الآخر، الفعل، السلوك والكينونة. فعل الشخصية، بغض النظر عن طبيعتها وسلوكها أثناء تأدية عملها، بغض لنظر كذلك عن طبيعة العمل الذي تِؤديه وبعيدا عن أي تصنيف أخلاقي أو طبقي أو وجودي، وأخيرا تتضافر ثنائية الفعل والسلوك لتعبر عن الكينونة في أعمق صورها. وما الكينونة، عند إعمال النظر، في أبعادها الظاهرة والباطنة، سوى الهوية الفردية التي اجتهد السرد في رسم حدودها وأبعادها ونتوءاتها وملامحها التي لا يمكن لغير السرد توصيفها.
لم نكن في واقع الأمر نرغب رغبة خاصة في قراءة الثيمة المشار إليها آنفا قراءة غير نسقية تستدعي الآليات التأويلية دون السردية، غير أن خطاطة القراءة المفترضة أوجبت، بحكم الأسباب التي أسلفنا الإشارة إليها، أن نسعى إلى فهم العوامل الضمنية التي دفعت بالكاتب إلى تكريس الكتابة السيرية الذاتية في معظم متنه الروائي إن لم نقل كله، بالإضافة إلى إسباغ مكونات يصعب إثبات مرجعيتها أساسا بما يفسد البعدين المفترضين في النص ولا يعطيهما فرصة التحقق في مضمار على حساب آخر، فلا النص سيرة محض، ولا هو رواية، ولا الفاعل الذاتي هو الكاتب بعينه الذي نعرفه في المرجع المادي الحي ولا هو شخصية تخييلية مختلقة لضرورات المعنى والتصميم.
وفي هذا السياق كانت رغبتنا واضحة في محاصرة الضرورة التخييلية، أو السيرية، التي أوجبت الظواهر النصية التي وقفنا عند بعضها في ما تقدم، كالسيرة الأبدية العابرة للنصوص، إن صح القول، التي كرسها الكاتب، وسوائها من الأبعاد السيرية غير المخلصة لضرورات الجنس الذي اندرج تحته النص بالفعل والقوة معا. وفي هذا الحيز من التأويل يمكن أن ندرج الكثير من (المزاعم) الأدبية التي حفل بها النص دون خوف حقيقي من التكذيب، فبلورة موضوعات بعينها، والإلحاح على أسطرة الذات وتفعيل الغموض المنعش للتأويل، واستدعاء الصبا و الفتوة والطفولة، كلها تنويعات على الرغبة العميقة في تجاوز واقع تدفع مرارته إلى التعلق بماض، لم يكن بالضرورة، ماضيا ملكيا مخمليا الحواف.

3. 2. مؤسسة الزواج.

المؤكد أن الشكل السردي الذي تتحق عبره النصوص، يدين بأنواعه جميعا إلى الشخصية المحورية التي توجه خيط السرد، وفق منظورها الشخصي، ووفق زاوية النظر التي تقبع وراءها، موجهة للأحداث، ومشعبة لها، ومغيرة في مساراتها، ومهيأة فالفتحات النصية المناسبة لولوج فواعل جدد، تدفع بدورها في اتجاه بلورة الحركية المخصوصة، التي يرغب الكاتب الحقيقي القابع في الخلفية المظلمة كالإله المصرف للوقائع، الرائي لتفاصيل كونه التخييلي، دون إمكانية أن يرى أو يحاسب ضمن الوضعية الأدبية الخالصة التي نقرا فيها ذلك العالم، ونعجب به، أو لا نعجب، ونتأثر به أو لا نتأثر.
ضمن هذا الإطار السردي المحض، نستطيع أن نفسر ولو جزئيا هيمنة الخصائص المتعلقة بالإخلاص الكلي لتوظيف الوقائع الحياتية الخاصة، واستدعاء ثيمات بعينها تتصادى، وتتداعى من نص إلى نص، ومن رواية إلى رواية، بل من سيرة ذاتية متنكرة و غير قادرة عن الإعلان عن نفسها، إلى سيرة ذاتية أخرى تعيد تفاصيلها بحنين أكبر، ونرجسية أعمق، واكتشاف معجب بذاتية تتناسل داخل نفسها، وتتضخم، وتنتشر كالورم الخبيث حتى غطت على كافة العالم التخييلي المنتج.
لم يفعل الناص/الفاعل الذاتي/الكاتب الشيء الكثير باستثناء تحرير الأنا من إكراهات لجنس الروائي الملزم بحد أدنى من الانسجام المنطقي والفني بين مكوناته، وتمكينها، أي الذات، من الأدوات الروائية لإنتاج خطاب حول نفسها. انطلاقا من هذه اللحظة الجنينية الفاصلة، التي تتكون فيها الملامح الأولى للمخلوق الروائي، ارتكبت جميع (الخطايا) الأدبية إن صح القول، وعلى رأسها الاتكاء المفرط على الذاكرة، والاعتماد على قدراتها التكوينية الفذة في صياغة الخطاب الذاتي عن الأنا الذي لم يتمكن، وهو يستشعر دفئ الاختباء تحت عباءة الرواية الواسعة، من الخروج إلى الجو الواقعي الحابل بالتغيرات المناخية القاتلة، الصحو والدكنة، الحر والقر، ضوء الشمس الساطع ونور القمر الساجي، بيد أنها على الرغم من تغيراتها المقلقة، تظل قادرة على تسجيل العابرين على جلد الأرض، وقادرة على تمكين المهتم بتحديد التناسب بين الواقع والمتخيل، الخطاب وواقع الخطاب، الخيال الصرف والمرجع الحي، غير أن الخطاب الذاتي الذي تنتجه الأنا عن نفسها في غفلة من العناصر الطبيعية، يسمح بالتجاوز والتمطط والقفز على الضرورات المختلفة وإلغاء كافة (الكوجيتوهات) المستعارة.
من أجل ذلك لم يحفل العالم التخييلي، الذي يستضيفنا النص ضمن مكوناته الرتيبة، بأي تحول دلالي ذي بال، أو بأي بناء مبتدع للمكون الإنساني الذي نتعرف على أبعاده ضمن الأطر المورفولجية والنفسية للشخوص الروائية، أو بأي صياغة أصيلة للكرونوتوب المشخص للحظة الفارقة في الزمكان الروائي المحيل على الممكن والمحتمل في السيرورة البشرية السادرة في الغموض الحابل بما لا يحصى من الاحتمالات. على النقيض من ذلك، يحشرنا النص في ليلة واحدة متطاولة، بل مفرطة الطول، زمنها الداخلي الممتد أثنتا عشرة ساعة يختلف بالكلية المطلقة عن الزمن الواقعي القصير نسبيا، تنصرف فيها الذات إلى خلق عالم داخلي مواز يتجاوز منتصف القرن هو عمر الكاتب/الفاعل الذاتي، تهجم فيه الذاكرة على ما اكتنزته بعناية منقطعة النظير، وتهجم فيه الأنا على كتابة خطابها السيري، دون أن تبالي كبير مبالاة، بكون ما هي بصدد استعادته قد كتب مرات، ونشر، متنكرا مرة أخرى، ومستغلا لإمكانات التضليل التي يتيحها الجنس الروائي بعبقرية منقطعة النظير، وعلى هذا الأساس من المراوحة في قلب التخييل الذاتي، ظل الكاتب حبيس ثيمات روائية مكرورة ومستعادة استعادة استنزافية مرهقة.
على رأس الثيمات السالفة الذكر، نجد الرأي في المؤسسة التقليدية للزواج يترأس القائمة الطويلة للموضوعات التي يستدعيها الكاتب كل مرة، فهي لصيقة بالنماذج النسائية التي يتحقق عبرها التخييل الذاتي كما مارسه الكاتب منذ مرحلة مبكرة من عمره الأدبي، ولصيقة أكثر ببطلاته/مريم الأبدية التي تتقمص كيانات أنثوية مختلفة لكنها في جميع الأحوال، وعلى تعدد الوضعيات الأنثوية التي تتخذها في النصوص، هي دائما عاشقة ولهانة تضطر إلى التخلي عن الكاتب/الفاعل الذاتي في منتصف الحب من أجل أن تتزوج رجلا آخر لا تحبه ولكنها تطمئن إلى الحماية التي يوفرها له بماله، أو جاهه، أو مكانته الاجتماعية، وهي/مريم/البطلات المتعددات العاشقات، يحملن دائما، وهن يغادرن البطل، جنينا هو ثمرة الحب المتروك قبل النهاية.
وإذا كان حال البطلات العاشقات دائما هو حمل ثمرة الحب في أحشائهن وهن يغادرن إلى الأزواج الجدد، كما يحملن منتهى الحب، ومنتهى الحنين إلى البطل الرافض للزواج، فلابد أن يكون الزواج الذي يتزوجنه خاضعا لمعايير غير تقليدية بالمرة، ولابد أن تبرر (الخيانة)، ولابد أن يبرر النسب المزيف الملحق بالولد الذي كان جنينا، ولابد أن تجتمع كل أعذار العالم لتبرر للبطلة العاشقة الاتصال، ولو عن طريق الرسائل، بالحبيب المتألق مع كل عشق جديد. هكذا تعاد الحكاية كل مرة، وهكذا يترك الحب والجنين في المنتصف. بيد أن الحس الإنساني المرهف عند الشخوص العاشقة يضطرها في النهاية إلى صياغة نظرية متكاملة تنسف الزواج من أساسه، وتحمقه، وتحتقر التزاماته المشيدة فوق ركام من الأوهام، والفضائل المزيفة، تبريرا لكل (التجاوزات) التي سيقترفها العاشقان الأبديان.
يقول في مقدمة رسالة طويلة لا تكاد تبدأ حتى تنزلق سريعا إلى موعظة (أخلاقية) عارية من أي أداء روائي باستثناء الزيادة في حجم النص وفي مساحة السطحية التي تزداد رقعتها زيادة طردية تتناسب مع الحجم المتضخم باستمرار:" ما الذي يقتل العلاقة غير الألفة والتكرار والدخول إلى الوظائفية والواجب؟ الحب كلما دخل في الوظائفية تحول إلى زواج مقنع. أشتهي لو كنت أسن القوانين، أن أغير نظام هذه الكذبة التي نعوم فيها جميعا، أن أقبل بالحل الوسط ما دام الزواج مجرد عقد. ليتفق الاثنان، المرأة والرجل معا، على احترام الرباط الذي سيصبح مقدسا، ولكن شرط احترام كل البنود، وربما كان أهمها حرية تحديد مدة الزواج، خمس سنوات مثلا؟ عشر؟ أو حتى خمس عشرة سنة؟ وليوضع في خاتمة العقد جملة مكتوبة بشكل نافر ومميز: عقد قابل للتجديد في حالة واحدة، تراضي الطرفين. بهذه الطريقة يستعيد الحب ألقه، إذ لا يمكنه أن ينشأ خارج الإحساس العميق بالحرية والصدق. غياب الحرية في أية علاقة هو قتل لها. "44.
في موضع آخر تؤكد البطلة بأن الخيانة ليست ما يفهمه البشر جميعا وغنما هي أن تنام امرأة مع زوج لا تحبه:" ما زلت أومن أن أكبر خيانة تمارسها امرأة، هي أن تنام في حضن رجل لا تحبه، وأصعب فاحشة أن يفتح رجل قلبه لامرأة هو أول العارفين بكذبته. ولا شيء بينهما إلا ورقة ذابلة مثل قلبيهما وقبلهما. زنا تمارس كل ليلة على مرأى القانون والله والبشر باسم وثيقة عاجزة عن توفير قبلة صادقة.
لقد تخطيت تلك العتبات الكاذبة، وأصبحت في مكان آخر، في منطقة أكثر حساسية وأكثر خطرا. قد لا يفرحني ذلك كثيرا. حتى عندما أمنح جسدي لرياض (الزواج)، فهو ليس له. الرجل الذي في رأسي (الحبيب/الفاعل الذاتي) هو عذري الوحيد داخل الفراش. "45. وفي موضع آخر، وبصراحة كبيرة: "أعرف أن الزواج في صورته المهيمنة، مؤسسة قاتلة، واختيار خاسر، واختبار فاسد للحواس، وخاتمة لرعشة قوية نريدها عبثا أن تظل في ألقها وعنفوانها.
أتذكر أني سألته يومها سؤالا طفوليا، ربما لم يكن بريئا:
- واسيني، هل تحبني؟
- وهل في الله شك؟
قالها بسخريته المعهودة.
- لا أريد هذه الإجابة الفضفاضة. هل تحبني؟
- نعم... أنا أحبك حبا جما، وإذن أنا موجود يا سيدتي ويا أميرتي...
- لسنا في مدرسة، وكن جادا لمرة واحدة في حياتك.
- نعم يا ليلي، أحبك. أحبك. أحبك...
- وتريد أن ننجب مايا؟
- طبعا. يبدو أن المسالة أكثر جدية مما تصورت؟
- طيب، قل لي فقط، كيف سنفعل؟ نورني، فأنا لم أعد أفهم شيئا. نعيش في بلاد متخلفة، شرط إنجاب الأطفال فيها مربوط بوثيقة؟
- مثلما فعل الله مع مريم. نفخ فيها شيئا من روحه. وأنا أفعل ذلك يوميا. هل المسالة صعبة إلى هذا الحد؟."46.
وفي موضع آخر، حيث تصرح ليلى بإنجابها (مايا) خارج إطار الزواج الخانق:" كل الأمكنة التي ذكرها واسيني عشنا فيها قسطا من حياتنا الهاربة وكنت سعيدة أننا زرناها ونحن خارج نظام الزواج القاتل والخانق. كنا عاشقين فقط. وإلا لزرناها هاربين من أنفسنا وذواتنا المنكسرة. لم نكن نسأل عن أي شيء. كنا فقط ننهب من الحياة أجمل ما فيها. لم يكن الزمن قادرا على احتضان أشواقنا وأسرارنا الجميلة. ولهذا، بقدر غضبي منه أننا لم نتزوج، وتخليه عني لمصلحة حريته، وإنجابي مايا منه بشكل مسروق، يظل شيء مجنون لا أعرف سره، يقوني نحوه. "47. كما يصرح بالقول في رسالة من رسائله العديدة إلى ليلى:" تغيرت طبعا، إذ زاد يقيني بأن أكبر حماقة نمارسها هي الزواج، لأننا عندما ندرك خلل العلاقة، نكون قد خسرنا أشياء كثيرة، ربما كانت الحرية أولى وأهم هذه الخسارات، حتى ولو كانت مجرد وهم. "48. وليلى بدورها ليست أكثر إيمانا منه بمؤسسة الزواج، ولكنها وسيلتها الوحيدة للاحتفاظ به لأطول مدة كممكنة، قالت:" وهل أنا أحب الزواج، هذه الكذبة المتفق عليها من طرف الجميع؟ روحي لك، ولكن قل لي إذن ما هو الحل لكي أستمر معك بجسدي؟ هل لديك مؤسسة أخرى أجمل وأحلى؟."49.
أما في رواية (طوق الياسمين) فلا تلبث مريم التي ستصبح ليلى إلا يسيرا حتى تشتاق إلى الحبيب، وتكتشف (أكذوبة) الزواج الكبرى، تقول:" لو تدري كم أشعر باليتم في غيابك؟
كنت أظن أن الزواج سيفتح كل أبوابي المغلقة ولكن يبدو أنه مؤسسة لا تختلف عن بقية المؤسسات الأخرى التي لا تعمل إلا على تغريب عواطفنا وتعليبها والتصديق بالكذبة الجميلة التير نبتدعها باستمرار حتى لا نومت قهرا.أعذرني. منذ زمن لم أرك، ربما لأني أحاول عبثا أن أدرب نفسي على نسيانك وأقول لنفسي الآن صرت في بيت رجل آخر وعلي أن أظل وفية له وأخادع عواطفي باستمرار. "50. ولكن سرعان ما تنزلق صوب علاقة جنسية موازية ستثمر هنا، كما في أنثى السراب، جنينا بنتا سيكون اسمها سارة وليس مايا، تقول:"...لم أعد أسأل كثيرا عما يحدث لي لو كشف أمري معك وأنا أسرق اللحظات. الحياة نهب مستمر....
في البداية لم أرد هذا الحمل. أسميته الكبول. كل ما يأتي من زوجي لا يمكن إلا أن يكون كبولا لا ذنب له. لأني كنت أظنه ثمرة صالح(الزوج)، هذا الرجل المتهالك الذي كلما عدت إلى البيت سعيدة، ينظر إللى عيني بعمق ثم يذهب نحو شأنه. لكني بحسابات صغيرة تأكدت من أنه منك كما أردته. التحاليل التي أجريناها أكدت سعادتي. كنت أريده منك لا منه. عندما عرفت أنها صبية، زادت فرحي. لأول مرة أشعر أن الله كان يدللني. سارة، هكذا سأسميها...
سارة هي صدقي الوحيد مع نفسي وسط هذا النفاق المعمم. "51.
ستنقلب الأدوار في (ذاكرة الماء)، وتطرح الثيمة نفسها ولكن مع تحوير طفيف في زاوية النظر، سيظطر الفاعل الذاتي إلى الزواج بمريم بعدما تخلى عنها حبيبها المناضل اليساري، وتخلى عن جميع مبادئه الثورية وهو يرفض الزواج بها بعدما علم بانها حامل حملا لم يتأكد جيدا بأنه هو الأب. في هذه الللحظة الفارقة سيقدم الفاعل الذاتي/الكاتب، بروح الفروسية القديمة التي تسكنه، وبقلبه الواسع سعة الدنيا، على الزواج منها مثبتا عميليا عمق مبادئه التحررية المتعالية عن الرجعية في مختلف صورها:" سألني مرة أخرى( المناضل المسجون) عن الكائن الذي كان يربطني بك( البطل/الفاعل الذاتي) ويكبر في بطني كالقمحة.
ـ هل هو باختياركما.
ـ لا.من رجل طروبادور، ما دمت مصرا على أن تعرف. التقينا في ندوة عربية لا معنى لها كالعادة سوى أنا التقينا. كان حارا مثل عود النوار، وكنت أكتشفه كمن يدخل كوجة، ثم بحرا، ثم...ثم نمنا في نزل يشبه القلعة.
تحسس شعراته البيضاء وقسمات وجهه المتعبة.
ـ معه تحملين، ومعي ترفضين.
ـ لا أدري. بيني وبينك المهم تكسر قبل أن يأتي هذا الرجل الغاوي المولع بالموسيقى والكتب، والحروف والأبجديات الضائعة.
(...) وعندما أخبقرته بالأمر(الفاعل الذاتي)، جاء من بعيد راكضا وهو حزين. عندما سألته لماذا جئت؟ وأنا على حافة الصراخ في وجهه. قال.
ـ أنا أحبك وأخاف عليك. قلبك رهيف جدا على وضع مثل هذا. فرحت لأنه لم يعطنا إجابة أخرى كالتي أسمعها دائما. المجتمع صعب؟ الوالدان لا يقبلان؟ لكن....
(...) حاولت أن أقنعها أن تسقط الطفل، قلت لها، أن عنادها مجنون.
صممنا بعدها نهائيا أن نتزوج. "52.
أما (شرفات بحر الشمال) فتعيد صياغة التيمة نفسها بالتواء لا يغير الشيئ الكثير من رسوخها في قلب المتن الروائي الذي نحن بصدد قراءته. ستربط الفاعل الذاتي ب(فتنة) الفتاة المجنونة التي تكبره بأكثر من عشر سنين علاقة حب مستحيلة تثمر في النهاية جنينا تحمله فتنة إلى منفاها/مهجرها البعيد أمستردام التي سيقصدها البطل/الفاعل الذاتي، الكاتب الفنان، منفيا بدوره تحت طائلة التهديد المستمر الذي يشكله المد الإرهاب في جزائر التسعينيات على حياته. سيركب الطائرة مهاجرا إلى الشمال البارد البعيد، بينما تتولى ذاكرته استرجاع التفاصيل القريبة من الحقل الدلالي الأسطوري لحب تكتنفه المستحيلات من كل جانب.
تبدأ المغامرة السردية بجملة استهلالية تفتح الإمكانات الهائلة لحكاية الذاكرة المفعمة بالأشواق القديمة، بالدرجة نفسها التي تهيئ المتلقي لاستقبال ممكنات السرد الملتبس بالسيرة والرواية والحكاية الواقعة على حواف التخييل والتأريخ: " كان اسمها فتنة.
نهايات ديسمبر، منذ عشرين سنة بالضبط كانت هنا، على حافة هذا البحر المنسي، قبل أن تنطفئ بين موجات بحر الشمال. ما الذي أيقضها في الآن وأنا على عتبة التلاشي؟ شيء ما يدعوني إلى التفكير فيها بعمق وحزن. "53. كانت رحلته إلى المنفى شبيهة بموعد غرامي: " موعد مع امرأة كانت تكبرني بأكثر من عشر سنوات، عرفت كيف تصنع من جنونها قدرا هي وحدها تعرف تبعاته بحثا عن قسط من الراحة كم اشتاقت إليه، امرأة سرقت بعض راحتي وأوصلني غيابها إلى بوابات الجنون. "54. و "فتنة المهبولة هي التي علمتني الأسماء كلها. أسماء كل ما حرم على الإنسان والنبتات الشهية. "55. وقد أخبرته وهي على وشك السفر البعيد:" أنا ما نحبكش، أنا ممحونة بيك يا يماك. عندما نمت معك جسدي كله كان يسمعك. لكن بعد قليل لن أكون هنا وسأكون لغيرك. أنت شاب أمامك الحياة كلها أما أنا مثلما قلت لك ستمر عي مرسيدس سوداء لتأخذني من باب الولي.(...) جئتك في حالة إخصاب وأشعر أني حبلى بطفولتك."56.
وهكذا تقدم لنا المقبوسات السالفة، على الرغم من اقتطاعها المجحف من سياقاتها الطويلة، صورة مصغرة عن الفضاء الفلسفي المحتضن لمؤسسة الزواج التقليدية، وللعلاقات الغرامية العابرة للأزواج.
وفي هذا المقام من الدراسة نريد أن نسارع إلى الإعلان عن حقيقة أن حفرياتنا في ثيمة المؤسسة العائلية لا يصدر عن الرغبة في أية قراءة موجهة سلفا وفق منظور أحلاقي، أو أيديولوجي، أو حتى ديني جاهز بطريقة أو بأخرى، لأن العالم السردي الذي تقدمه لنا الرواية يننبني على قيم لا يستوعبها السجل الأخلاقي التقليدي كالعفة والطهارة والوفاء وغيرها من القيم العليا التي لا يأتي الزواج إلا متبوعا بمعانيها السامية في كل الثقافات الإنسانية بغض النظر عن ديانتها. أما إذا أخذنا في الحسبان مكونات الشخصيات المحورية التي كيفت السرد ووعيه المركزي، ووجهته وجهة انفعالية ذاتية تنزع نزوعا وجوديا نحو تفسير (حدث) واحد قابع في الخلفية المظلمة من لاشعور النص ومن لاشعور الشخصيات، تمثل في كل النصوص التي فحصناها، بحثا عن التمظهرات الموضوعاتية لمؤسسة الزواج، في القطيعة التي وقعت بين العاشقين في مرحلة حرجة من عمرهما الزمني والغرامي على السواء.
من أجل ذلك سوف تصبح تلك القطيعة محور مختلف المتون الأدبية التي سوف ينجزها الكاتب بعد ذلك، في محاولة لاستغلال إمكانات الكتابة العبقرية في إعادة تنظيم الاختلال الذي أحدثته تلك القطيعة في الوعيين المركزين معا، بالإضافة إلى ممارسة لون من التحليل النفسي الاستبطاني الذي تتيحه الكتابة دون غيرها من أدوات التشخيص، بغية فهم ما حصل بالضبط، كما لو كان الكاتب لم يستطع تجاوز الصدمة، كما لم يستطع نسيان الجرح الذي ما زال يسكنه وهو على عتبات الشيخوخة إلا قليلا.
ثم من قال بان الجراح العاطفية تنسى بالتقادم؟ ومن قال بان الشيخوخة التي كللت عمرا قد انبنى على أنقاض تجربة مروعة، لا يزداد انكماشا على ذاته وبحثا في قوقعة الروح، ونبشا في الذاكرة عن تفصيل صغير منسي ربما بإمكانه وحده أن يفسر ما حدث؟.
إن الصورة التي يستعيد بها الكاتب موضوعة الحب والزواج والقطيعة الصادمة في منتصف الطريق، أصبحت تشكل صورة نمطية لا تزيدها التراكمات المتعاقبة سوى تكثيفا لسطورها، وتسطيرا لوقائعها تسطيرا يقربها من الرسائل الغرامية التي يريد من خلالها الناص الإجابة عن أسئلته الحارقة صدقا وحقا، لا تخييلا فحسب. كما لو كان ثمة، بين القارئين والقارئات، امرأة واحدة وواحدة فقط هي المعنية بكل التفاسير المستعصية التي يسوقها مرة بعد مرة لتلك القطيعة التي غيرت مصيرهما، ومصير (الأدب) الذي أنجزه الكاتب بعد ذلك، كما لو أن تلك الـ(مريم) القابعة في الخلفية المظلمة لكل التفاصيل الروائية، لم يكن هناك من سبيل للتواصل معها سوى عبر ابتداع لعبة جاسوسية لا يفهم مغزاها سوى من يمتلك الشفرة، شفرة الحقيقة الماثلة في التخييل الروائي أكثر من التخييل ذاته.

3. 3. الضحية/الجحيم هم الآخرون.

ثيمة أخرى، تلفت الانتباه بقوة، في جميع النصوص التي أخضعناها للفحص بحثا عن ذرائع مؤكدة لمجمل الآراء التي استخلصناها من طول صحبتنا للمتن الروائي الذي أنجزه واسيني الأعرج طوال مسيرته الإبداعية التي نيفت على ربع القرن من الزمان، هي الالتباس العميق بجلد الضحية، والإحساس المروع بالاضطهاد، والمطاردة، والحسد، والغيرة، والتواطؤ ضده، وغيرها من المعاني التي تنبتها النرجسية، والبرانويا، والالتباس الكلي بطبيعة الضحية، والاستسلام للشعور العميق بأن الآخر، كهوية ووجود محدد في الزمان والمكان الشخصيين لأي فرد من الأفراد، ليس حاضرا في الحيز الذي نشغله من العالم ليؤثث الكون، ويؤنسن الطبيعة، ويملأ الفراغ الذي لا يمكن أن نسده في كل مكان مهما أوتينا من عبقرية وقدرة خارقة، بل يستحيل، منظورا إليه من زاوية طفولية مشغولة بأنانياتها الصغيرة، إلى خصم، ومزاحم، وعدو، بل إلى جحيم لا يطاق.
وعلى هذا الأساس، يصعب التفريق في هذا السياق، بين الممارسة السردية التي تركب التخييل لتموقع الأنا في قلب العالم، وبين السقوط الحر في أحضان الطفولة الدافئة بكل محمولاتها الساذجة من التصورات التي تمليها النظرة الضيقة، والنرجسية الخالصة، والأنانية المفرطة إلى العالم.
وقد لا تبرر الألمعية الفنية، والأريحية الشعرية، التي هي ميزة مكينة في طبائع الكتاب والشعراء، أن تفسر لوحدها شهوة الكتابة التي تمتطي صهورة السرد الوثيرة لتقول في (الأنا) الشاعرة قولا يبعد بـ(فراسخ) عن قمم العقل الباردة في وعيها الجليل بحدودها، وإمكاناتها، ودون أن تنسى في خضم ذلك كله أن تستند إلى ركن النسبية المكين، لأننا لا نعدم قارئا متسرعا أن يتنكب النصوص التي قصاراها استقصاء وساوس النفس وهواجسها، وتفاصيل الحياة الخاصة، فمن القارئين من لا تغويه البلاغة، ومنهم من لا يجد في اللغة جمالا استثنائيا سوى أن تنقل إليه وقائع القصة، حارّة، صادقة، ومشوقة، تنسيه نفسه ومحيطه بعض الحين، وتمسك بتلابيبه وخناقه حتى يستكمل النص إلى الآخر، أما ما دون ذلك مما يعني المختصين من القارئين والناقدين، فلا شأن قليل أو كثير له به.
مهما يكن، فإن تيمة الالتباس الشديد بجلد الضحية، التي لا ينفك الكاتب ينحدر إليها الحين بعد الحين، نصا بعد نص، قد بدأت فصولها المبكرة مع المد الإسلاماوي الذي اجتاح الجزائر أواخر الثمانينيات، وبلغ أشده بداية التسعينيات بالفوز المدوي الذي حققته جبهة الإنقاذ في الانتخابات التشريعية، وما أعقبها من توقيف للمسار الانتخابي، ودخول البلاد في دوامة العنف الدموي، وغيرها من تفاصيل القصة المعروفة. في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الجزائر شكلت النخبة المثقفة هدفا سهلا للعمليات الإرهابية الباحثة عن صدى إعلامي لعملياتها ضد السلطة القائمة، فسقطت أرواح أسماء لامعة من صفوة أولئك المثقفين، وتعرض العديد منهم للتهديد، تمكن المحظوظون منهم من الهجرة إلى بلاد العالم الآمنة، بينما اضطر غير المحظوظين إلى الاختباء والتنكر وتغيير الإقامات حتى انقشعت غيمة الإرهاب أواخر التسعينيات مع المصالحة الوطنية.
كانت تلك المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد بداية مشوار تخييلي وحياتي مميز بالنسبة للكاتب الذي تقمص نهائيا دور الضحية المضطهدة، كما لو أن الشعور الراسخ بالاضطهاد الذي عبرت عنه نصوصه السابقة لهذه المرحلة، في تمظهرات أخرى غير هذه التي نحن بصددها، كانت تتحين فرصة الاضطهاد (الحقيقي) لتعبر، دون تردد عن نوازع الضحية التي لم تكن مقتنعة تماما بمشاعرها الاضطهادية القديمة، التي تمحورت في أغلبها حول الإحساس الفاجر بفقر الصبا ويتمه. أما اليتم فقد كان باستشهاد الأب من أجل وطن لم يوفه حقه، ولم يرق إلى طموحات الشهيد، وطموحات الآلاف بل الملايين من الشهداء الذين قدموا أرواحهم فدى للجزائر، واستقلالها الذي تصوروه مشرقا بغد قد لا يعرفونه هم، ولكنهم سيسعدون لو سعدت به أجيال الاستقلال.
لكن الخيبة من غد الاستقلال لم يكن يفوقها إلا التضحيات الجسيمة، ولم يفق الإحساس باليتم، والفقدان الذي أحسه الطفل الذي كانه الكاتب، سوى مرارة الفقر، والجوع، والغبن، في وطن لم يكن فيه ما يبرر ذلك سوى المزيد من الخيانات التي ارتكبها الناجون من ثورة التحرير، والمجاهدون النازلون من الجبال الذين تحولوا فجأة إلى مجرد رجال جشعين لا يشبع نهمهم شيء من خيرات البلاد التي لا تحصى.
ذلك هو محور الشعور الأول بالانتماء إلى سلالة الضحايا الذي بلوره الكاتب في نصوصه السابقة للعشرية السوداء، وقد ظل كذلك حتى ولوج عالم آخر من عوالم الاضطهاد الذي سيشكل، بدوره، محورا لمجمل النصوص المنجزة أثناء العشرية السوداء وبعدها، وخصوصا في (شرفات بحر الشمال) و (ذاكرة الماء) اللذين فصل فيهما الحديث عن تجربته الشخصية مع الإرهاب والتهديد والتخفي والاضطرار إلى المنفى الفرنسي، بأسلوب التخييل الذاتي الذي أشرنا إلى لمح منه في العناوين الفرعية السابقة من هذه القراءة.
الواقع إن مشاعر الاضطهاد التي تلفت الانتباه بقوة تخرج كليا عن سياق الإرهاب وفقر الصبا ويتمه، فقد كان التهديد بالتصفية الجسدية الذي تلقاه الكاتب في بداية الإرهاب الدموي، بغض النظر عن موقعه من الصدق أو الادعاء، ذريعة مقنعة، فنيا على الأقل، في مسار المنجز السردي القائم على التخييل الذاتي بالأساس، للاشتغال في العمق على سوسيولوجيا الواقع الجزائري المأزوم الذي تراكمت أخطاء السلطة فيه منذ خيبة فجر الاستقلال، وللاشتغال على الإيديولوجيا العابرة للأجيال والفضاءات السياسية التي ارتكست بصفة حتمية في خضم التيار الإسلاماوي الذي أكل الأخضر واليابس. أما آلام الفقد واليتم وفقر الصبا، فقد أمكنت الناص من الغوص عميقا في خيبات ما بعد الاستقلال ومصادرة الأحلام الكبيرة التي ستؤدي في النهاية، بالتضافر مع العوامل السوسيولوجية والإيديولوجية الآنفة، إلى الانفجار الحتمي مطلع التسعينيات.
هذا اللون من مشاعر الاضطهاد، على الرغم من غزارته وإنتاجيته القرائية، لا يستفز القراءة استفزازا استثنائيا عندما نأخذ في الاعتبار ذرائعيتها السياقية ووجاهتها الموضوعاتية التي أسلفنا الإشارة إليها. ما يعنينا حقا هو المشاعر الفردانية الضيقة التي يمليها الامتلاء بالذات، والإنصات المنعش لهواجس وعي الهوية بحجمها في سيرورة الزمان والمكان. على رأس تلك الهواجس المضنية يأتي الشعور بجحيمية الآخر مهيمنا ومطردا، تشترك في تشخيص تمظراته المشهدية ذوات الشخوص الرئيسة المتمثلة في كل من الفاعل الذاتي المتصرف في توجهات السرد وإنتاجيته القليلة على كل حال، وفي مريم/ليلى التي لا تزيدن بدورها، عن تدعيم الإحساس الفاجر بالاضطهاد كلما أنطقها الفاعل الذاتي باللهج بمآثره العديدة، وبإنسانيته الـ(اليسوعية) الرقيقة التي لا تتردد لحظة في أن تسلم خدها الثاني لمن صفع خدها الأول، بطيبة نادرة وهشاشة شاعرية لا حد لمعانيها المرهفة، بيد أنها تضيق أشد الضيق بالنقد، وتنفر أشد النفور ممن يخرج من ربقة الحب الفاشي بين يديه ووراء ظهره وفي كل تفاصيل وجوده المنذور للحب الخالص. شيئ من السذاجة الطفولية التي لا تخطئها العين، وشيئ من الجوع الصبياني إلى الحب والخوف العصابي المهووس من العواطف الحيادية.
يقول بشان من سوف يجرؤ على انتقاد نظريته العجيبة حول مؤسسة الزواج:" أعلم جيدا أن سدنة الشَّرع، وحراس ميزان الأخلاق، وجمعيات الحفاظ على العائلة، ومؤسسات استمرار صفاء النسل النازية، وكَذَبةُ الأمة الميامين، وجمعيات الرفق بالحيوان... سيطالبون كلهم بحرقي، أو بوضع رقبتي داخل أنشوطة مشنقة مصنوعة بإتقان. وقد أُلعن حتى من واسيني الأقرب من قلبي إليَّ، لأني وضعت سرا كامنا على الورق الشفاف، بين أيدي قرائه الذين يحبونه، أو الذين يتصدون هفواته، وهم كثر، عندنا في هذا السياق، مثل يقول: الغيرة تشطح ميرا، وترد الشارفة صغيرة. أو كما كان يقول واسيني دائما، كلما قرأ شتائم الذين تخصصوا فيه، أو سمع شيئا منهم يخصه:
Il est difficile d etre aimé par des cons.""57.
وهكذا ليس من الحكمة مطلقا أن نقحم أنفسنا في دراسة أعمال الكاتب، وإلا انطلت علينا صفة الحمق العتيدة التي ألصقها بكل من تسول له نفسه شيئا من ذلك. كما لو كانت دعوة صريحة صارفة، أو كما لو كان ما يكتب فوق النقد، والكاتب نفسه منزها عن نقائص البشر.
أما عن النقاد الذين أشاروا إلى هروبه من الجزائر إلى منفاه الباريسي الباذخ، في الوقت الذي واجه فيه الكثير من مثقفي الجزائر رصاص الإرهاب الأعمى وخناجره بشجاعة وإصرار على الوطن، فلم يجد في أرائهم سوى دليل إضافي على الغيرة التي تأكلهم والحسد الي صار فجأة عرضة له:" - عمري... لا تهتمي. اتركيهم يحكون أننا هربنا. لهم البلاد التي صنعوها، ولنا الوطن الجميل الذي لا أحد يملكه لأنه داخل لغتنا. لا تسألي عني، ليكتبوا مرضهم، فهم لا يعبرون عن أي شيء سوى عن حاسة فاسدة قتلتها الضغينة والحسد. أريد أن أبقى خارج نظامهم. ليست لي أية يد فيها، وسأدافع عن وطن آخر، فيَّ، ولن يتمكن منه أحد مهما كان مجرما ومرعبا. "58.
أما في (طوق الياسمين)، فإن الإحساس النرجسي العميق بمركزية الذات واضطهاد الآخرين إياها فيبلغ مدى لا مزيد عليه. يقول الناص على لسان مريم:" أحينا أشفق عليه (صالح/الزوج الطيب المخدوع) ولكني لست سيدة قلبي.أعتقد بمجرد ولادتي سأتركه وربما هو نفسه سيفعل نفس الشيء إذا تخلص قليلا من أنانيته ومن غيرته منك. سأخبره بالحقيقة حتى ولو آذيته. ولا شيء يجمعنا سوى حماسه ولا حديث لنا سوى أنت ومرضه بك الذي صار مزمنا وعصابة أصدقائه الذين يأكلون وقته ولا يجدون متعة إلا ذمك وشتم كل من يحبك. يحسدونك لأنك أنت. "59. هذا الـ(أنت) المتحقق سرديا عبر مجموع المتن الروائي الذي أنجزه الكاتب، لا ينفك يتضخم، ويمتلئ، ويتمدد، ويغور غورا، ويبعد بعدا، حتى التبس، أخير، بالجوهر المستعصي على التعريف والتوثيق والاستئناس، لأنه بكل بساطة (أنت) ذاتي لم يترك للسرد فرصة التحقق الموضوعي عبر هوية أخرى، أو عبر صوت سردي متمرد على الأنا المركزية الناظرة إلى نفسها، وإلى العالم من حولها، من خلال منظارها الشخصي الذي لا يعطينا الكثير من الحق في مناقشة الصورة التي تنجزها عن نفسها، وحتى وإن أتيح لنا ذلك، فإن الأمر لن يكون له غناء كثير، طالما ظلت الدعاوى المسرودة لا تعني، ربما، أحدا سواها.
ملمح آخر، لا تكتمل صورة الضحية التي يتقمصها الكاتب إلا به، هي التماهي الرمزي اللاواعي بالهويات المضطهدة في التاريخ الوطني القريب، وفي الموقف الغربي من كتاب العالم العربي المشرئبين أبدا إلى التكريس العالمي، الذي يمر بالضرورة، عبر نوبل دون غيرها من وجوه التكريس الأخرى كالانتشار، والمقروئية، والترجمة وسواها من مظاهر النجاح الأدبي.
وإذا كانت الهويات المضطهدة التي يلتبس بها الناص مرارا، في مواطن كثيرة من متنه الروائي، الذي لا يسعنا ـ وقد استطالت مسافة هذه الدراسة ـ أن نقف على مقبوساته العديدة، لا تعنينا إلا من حيث بعدها الوطني الأقرب إلينا من حبل الوريد، فإن الاستبعاد عن نوبل، ومبرراته المزعومة، وتوابعه من التنازلات والمغازلات التي لا ينفك يرسلها الكتاب العرب الحين بعد الحين، فتعنيننا من حيث انتماؤنا الجغرافي والثقافي على السواء، ووعينا (الأدبي) و(النقدي) في أسوأ حالات انعدام الوعي التي قد نرمى بها بغير وجه حق.
يكاد لا يخلو سفر روائي واحد لواسيني الأعرج من التعريج على (مأساة) يهود الجزائر الذين أهمل تراثهم الموسيقي الضخم، وأهملت ذكراهم، من كتب التاريخ، ومن الإذاعة، والسينما، وحتى من الذاكرة الوطنية، إلى حد لم يعد أحد من أبناء الاستقلال يعرف شيئا عن موسيقي عظيم كالشيخ (رايمون) و الشيخة (طيطما) وغيرهما من الأصوات اليهودية التي غنت حنينها وأشواقها الكبرى عبر مقامات الموسيقى الأندلسية التي يعشقها الكاتب حد التهلكة، كما يعشق تاريخ الأندلس الذي استمد له فرعا في سلالته عبر جده الأندلسي العظيم. مهما يكن، فقد ظل الكاتب وفيا للخط العاطفي الذي ظل يربطه بهذه الطائفة من المواطنين الذين اضطهدتهم السلطة الوطنية منذ وقت مبكر من الثورة التحريرية، وقد ظل ذلك الخط وتلك العاطفة على مسافتهما الانفعالية حتى رواية (شرفات بحر الشمال) التي استحوذت ذكرى (آن فرانك)، الكاتبة اليهودية التي اشتهرت بمذكراتها عن فترة اختبائها، وعائلتها من مطارات القيستابو(البوليس النازي).
من الصعوبة بمكان ألا تفهم السياقات الروائية المحتفية بالذكرى اليهودية ضمن المسار التطبيعي الذي تورط فيه الكثير من المثقفين العرب، بوعي كامل أو بلاوعي جزئي، خصوصا الأدباء الذين أمكنهم إنجاز تراكم أدبي محترم يدفعهم إلى التطلع إلى التكريس الكوني عبر جائزة نوبل ذات التوجه الصهيوني المعروف. لقد وجدنا الكثير منهم، إذا ما حالفه النجاح والانتشار وقتا ما، سرعان ما ينزلق صوب اجتهادات (أدبية) ملوية الأعناق ليا ليلج منها إلى شكل من أشكال (التزلف) الثقافي إن صح القول، متكئين في الأحايين الكثيرة على دعوى الإنسانية المتجاوزة للأعراق والأديان والخصومات الإيديولوجية المحدودة في الزمان والمكان، كما لا يعجزون عن العثور على كاتب صهيوني أدان الكيان الإسرائيلي بنص كامل أو مبتور، بقصد ونية مبيتة، أو إظهارا لغير ما تخفي استراتيجية الاستدراج إلى التطبيع الثقافي المستعصي.
في الختام، لا نريد أن نغلق باب القول قبل أن نؤكد بأننا لم نفعل شيئا طوال هذه المقالة سوى محاولة التسلل إلى لاوعي النص من خلال استغلال منتجات اللغة الواصفة والساردة، عبر مضامينها المستنتجة من التصريح والتلميح والإشارة وغيرها من أدوات اللغة المحققة لفعل التداول، كما اتكأنا في كل ما قلنا على المتحقق السردي المنجز عبر (الأنا) المسترسلة في بوح سريري لم يدخر شيئا كثيرا في سبيل نقل التجربة الحياتية التي تسربت من خلالها الأحكام والمسبقات بالدرجة نفسها التي سربت من خلالها الثقافة أحكامها وتصنيفاتها ومواقفها.

هوامش
1. كتاب الأمير (مسالك أبواب الحديد)، واسيني الأعرج، منشورات الفضاء الحر، الجزائر،
ط/1، سنة/2004.
2. كريماتوريوم.....
3. منشورات دار الجمل، ألمانيا/الجزائر، 1995.
4. صدرت بالعربية سنة 1999.
5. منشورات الفضاء الحر بالجزائر سنة/2001.
6. منشورات الفضاء الحر بالجزائر سنة/2002.
7. أنثى السراب، مصدر سابق، ص: 207.
8. المصدر نفسه،ص: 224.
9. المصدر نفسه، ص:172.
10. واسيني الأعرج، انشغالات عالمية في الكتابة الروائية، جريدة الخبر الجزائرية، عدد السبت
الموافق لـ:10/04/2010.
11.أنثى السراب، مصدر سابق، ص: 81.
12. المصدر نفسه، ص:15.
13. المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
14. المصدر نفسه،ص:23.
15. ذاكرة الماء، مصدر سابق، ص:126.
16. أنثى السراب، مصدر سابق، ص: 95/96.
17. المصدر نفسه، ص: 135.
18. المصدر نفسه، ص: 173.
19. المصدر نفسه، ص: 246.
20. المصدر نفسه، ص: 233/234/235.
21. المصدر نفسه، ص: 239.
22.المصدر نفسه، ص: 06.
23. نحيل هنا على نظرية الأنماط العليا التي بلورها كارل يونغ وهو يشرح مفهوم اللاشعور الجمعي
الذي يركز على تجارب الجماعة الإنسانية المتوارثة عبر الرموز التي يمكن التوصل إلى
تمظهراتها عبر تحليل النصوص الأدبية تحليلا يعتمد المنهج الأسطوري على وجه الخصوص.
24. المصدر نفسه، ص: 12.
25. المصدر نفسه، ص: 210.
26. المصدر نفسه، ص: 241.
27. المصدر نفسه، ص: 261.
28. المصدر نفسه، ص: 22.
29. المصدر نفسه، ص: 77.
30. المصدر نفسه، ص: 86.
31. المصدر نفسه، ص: 89.
32. المصدر نفسه، ص: 159.
33. المصدر نفسه، ص: 163.
34. المصدر نفسه، ص: 164.
35. المصدر نفسه، ص: 195.
36. ذاكرة الماء، مصدر سابق، ص: 115.
37. المصدر نفسه، ص: 350.
38. المصدر نفسه، ص: 378.
39. طوق الياسمين، رسائل في الشوق والصبابة والحنين، واسيني الأعرج، المركز الثقافي العربي،
ط/1، سنة/2004، المغرب/لبنان.
40. المصدر نفسه، ص: 65.
41. سفينة (العبدة ) هذه هي نفسها التي يِكد الكاتب بان جده الأندلسي الأول قد ركبها وهو يغادر عدوة الأندلس للمرة الأخيرة باتجاه العدوة الجنوبية، ولسنا ندري هل تصادف ركوب جده مع جد البطلة مريم في نفس السفينة أم أن السفينة ظلت تقوم بعملها في نقل الموريسكيين الفارين من جحيم محاكم التفتيش باتجاه شمال أفريقيا، وفيما إذا كان بين رحلتيهما فارق زمني طويل.....تفاصيل يبدو أن الكاتب أهمل ذكرها عمدا على الرغم من ولعه الواضح بكل ما يمت بصلة إلى التاريخ الأندلسي.
42. المصدر السابق، ص: 68.
43. الهرمسيون ترجمة نجد عند الإخوان المغاربة للمعادل الفرنسي l,herméneutique والتي كثيرا
ما يستعملها النقاد العرب بتعريب صيغتها الفرنسية مطلقين لفظة الهرمنوطيقيين.
44. أنثى السراب، مصدر سابق، ص: 16.
45. المصدر نفسه، ص: 29.
46. المصدر نفسه، ص: 175.
47. المصدر نفسه، ص: 241.
48. المصدر نفسه، ص: 16.
49. المصدر نفسه، ص: 51.
50. طوق الياسمين، مصدر سابق، ص: 103.
51. المصدر نفسه، ص: 106/107.
52. ذاكرة الماء، مصدر سابق، ص:26/27/28.
53. شرفات بحر الشمال، مصدر سابق، ص: 10.
54. المصدر نفسه، ص: 15.
55. المصدر نفسه، ص: 30.
56. المصدر نفسه، ص: 57.
57. "من الصعب أن نكون محبوبين من قبل الحمقى)، المصدر نفسه، ص: 240.
58. المصدر نفسه، ص: 68.
59. طوق الياسمين، مصدر سابق، ص: 154.



#عبد_الله_شطاح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جميع أنفاق الحياة لا تؤدي إلا إليك
- وجهان للعنة واحدة
- الخطبة المنبرية في تاريخ الجملكية
- رسالة اعتذار إلى ولدي
- عفوا لن أشغل الأرض أكثر مما مضى
- دوائر الأفيون
- طوق الحمامة


المزيد.....




- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبد الله شطاح - نرجسية بلا ضفاف. التخييل الذاتي في (أنثى السراب) لواسيني الأعرج