أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - 39 شارع لانكري















المزيد.....

39 شارع لانكري


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3551 - 2011 / 11 / 19 - 23:40
المحور: الادب والفن
    


قبل أن ننتقل إلى رقم 39 شارع لانكري، كنا نسكن في مدينة صغيرة هادئة من ضواحي باريس تدعى (( فونتنيه سو-بوا ))، وكان لنا ستوديو كبير ومريح، في الطابق الرابع من عمارة جديدة، مع بلكون يطل على حديقة. وما كان قد دفعنا، أنا وزوجتي، إلى ترك مسكننا حيث كنا نعيش هانئين، أخو زوجتي، ابن الأسرة الوحيد بين سبع بنات، والذي كان في ذلك الوقت لم يزل يدرس في الثانوية. نظريًّا، كان يسكن وحده في شقة ذات ثلاث غرف، ولكن في الواقع كان يعيش محاطًا بحشد من الأصدقاء والأقارب، دون حساب معارفه الجدد الذين لم يكن يستطيع مفارقتهم، فقلنا إذا اكتفى بسكننا وبغرفته الوحيدة أنقذناه من تلك العشرة (( الرديئة )) أو على الأقل من بعضها. أضف إلى ذلك، سنوفر على الأب نفقات لا ضرورة منها في الوقت الذي ستكسب فيه زوجتي رضاه. ونجحت خُدعتنا، بما أن أخا زوجتي، ابن الأسرة الوحيد بين سبع بنات، اكتفى بوجود ابن عمه في مسكنه الجديد. تلفن لنا حماي معبرًا عن شكره، إلا أن (( مأساة )) بدأت تصاغ، مأساة حقيقية!
قلنا سنقيم يومين عند صديقة اسمها كارول ريثما نجد، أنا وزوجتي، شقة (( مريحة )) و(( هادئة ))، وعلى الخصوص ألا يكون إيجارها غاليًا، وبكلمة واحدة، شيئًا يشبه ستوديونا القديم. في ذلك الوقت، كنت أبحث عن عمل، وكانت زوجتي تعمل بضع ساعات هنا وبضع ساعات هناك. ومع ذلك، أوقفتُ البحث عن العمل، وأخذتُ أبحث... أريد القول أخذنا نبحث، أنا وزوجتي وكارول وخطيب كارول وعدد لا يعد ولا يحصى من الأصدقاء والصديقات عن السكن المثالي الذي سنأوي إليه، أنا وزوجتي ، دون اللجوء إلى وكالة عقارية تسلخ منا ما لم يكن معنا: عمولة وضمانات وأشياء أخرى. وفي طويتي، كنت ألعن أخا زوجتي، وحيد الأسرة بين سبع بنات، فما الذي جنيناه من رضاء أبيها غير التشرد وعدم الثبات؟ والمأساة أننا نزلنا عند كارول ليومين، فمكثنا ستة شهور. كان وضعنا المادي سببًا من أسباب هذا الغزو القسري، هذا صحيح، ولكن، ستة شهور طويلة... مما أضاق مضيفتنا ضيقًا هائلاً: كانت على وشك الزواج، وبيتها تحول إلى ورشة حقيقية. كانت تريد تجديده، وليل نهار تعمل دون أن تلب. غيّرت ورق الجدران، صبغت الأبواب، أصلحت البلاط، فتحت الحمام على المرحاض، ضاعفت الأضواء، علّقت اللوحات... أقامت الدنيا وأقعدتها، ونحن، أنا وزوجتي، قاعدان دومًا عندها كالعظمة في الحلق!
في النهاية، قلنا لأنفسنا بلا قلة حياء: استدنا، وذهبنا إلى أقرب وكالة عقارية، حتى أننا قبلنا بأول اقتراح: ستوديو صغير في شارع قذر ليس بعيدًا عن (( مونبارناس ))، شارع (( سلس )). كان حماس كارول وخطيبها لا يصدق في نقل أمتعتنا، ودَّعانا بابتسامة عريضة لم أزل أذكرها إلى اليوم، لأنها كانت آخر ذكرى منهما، بعد أن ذهبا، ولم يحاولا الاتصال بنا فيما بعد على الإطلاق.
عندما نظرنا، أنا وزوجتي، من حولنا بعد أن أغلقنا علينا باب مسكننا الجديد، أدركنا أن أمتعتنا الملقاة كالجبال المهدمة كانت تملأ كل الأنحاء، ولم يبق مكان لنا، فأين سننام؟ قَنِعنا بالوضع بأفضل ما استطعنا عليه، وحاولنا النوم، ولكن عبثًا. كان جيراننا، كلهم من الفيتناميين الهاربين من بلدهم، لا يكفون عن صعود الدرج الضيق وهبوطه، لا يكفون عن الغناء، لا يكفون عن الرقص، لا يكفون عن محاصرتنا بنظراتهم وحركاتهم. أضف إلى ذلك، سمعنا صوت محرك يدوي دون انقطاع، كان مصدره مصنع. أقول مصنعًا، وحتى الوقت الحاضر لا أعرف دومًا إذا كان مصنعًا. فتشنا أنا وزوجتي الحي رأسًا على عقب عن المصنع المفترض دون أن نجده. في الليلة الثانية، لم نستطع النوم كالليلة السابقة. بسبب ذلك الضجيج الذي لا يتوقف للمحرك، وأولئك الفيتناميين الذين هربوا من بلدهم، والذين كانوا يسعون عن غير قصد منهم لدفعنا إلى الهرب من نظراتهم وحركاتهم.
عدنا إلى الوكالة العقارية نصرخ احتجاجًا قائلين إننا مثقفون وحساسون وسريعو الغضب والعطب! ولإصرارنا، وليس إشفاقًا علينا، اقترح المسؤول غرفتنا هذه التي نسكنها حاليًا في شارع لانكري. قبلناها في الحال. وإخلاصًا مني للحقيقة، ليس فقط وضعنا المأساوي هو الذي دفعني، أنا على الخصوص، إلى قبول مسكننا في شارع لانكري. كان الليل، وكانت الأضواء قليلة، والأشجار ظليلة في ساحة (( جاك-بونسيرجان )). لمحت شابًا ينتظر عند فم المترو، وعلى مقعد هناك، رجلاً عجوزًا مع كلبه، وفي الجهة الأخرى، عاشقين يتعانقان. كان الوقت شتاء، فشعرت بالدفء. نظرت إلى الشارع في تلك الساعة التي كانت تقفل فيها الدكاكين، كانت الحركة تخفت، وكان الشارع طويلاً كنهر يمضي. أضف إلى ذلك، كانت قد شدتني البوابة الحديدية التي تغلق ساحة البناية، والغرفة التي كنا سنشغلها، أنا وزوجتي، أعلى الغرف، في آخر طابق. أطللت من النافذة، ورأيت سطوحًا لا تعد ولا تحصى، ولكني لم أرَ شارع لانكري.
أمضينا رغم كل شيء لحظات سعيدة الأيام الأولى لإقامتنا في الحي، كل ما نريده موجود في شارع لانكري، وشارع لانكري موجود في قلب باريس. باريس، شتاءاتها الدافئة وأضواؤها، باريس وأرصفتها! في تلك السنة، كان الشتاء دافئًا في باريس، وأرصفة شارع لانكري مغتسلة بالمطر الكريم. اعتدنا وجوه الناس الذين نلتقيهم، وهؤلاء اعتادونا: هذا بقالنا، وذاك لحامنا، وتلك خبازتنا، وذلك مقهانا. وإذا رغبنا، كنا نتمشى في شارع ماجنتا حتى ساحة الجمهورية حيث نأخذ قهوتنا، أو نوغل في السير حتى شارع سان دني الذي ما زلت أدعوه بشارع الغرام، فننظر إلى عاهراته الجميلات والأقل جمالاً: كنا ننظر إلى دكاكين الباعة المغاربة أو ذوي القدم السوداء، ونسمع أغاني بعض الأفارقة الآتية من شبابيكهم المفتوحة دومًا. وأحيانًا كنا نصعد شارع ماجنتا حتى محطة الشرق لننظر إلى المسافرين. كانت زوجتي تتوزن على ميزان عام حاثة نفسها على عمل (( ريجيم )) لم تنفذه أبدًا، وأنا، كنت أشتري جريدة.
أمضينا رغم كل شيء لحظات سعيدة الأيام الأولى لإقامتنا في الحي، لحظات ملأى بما ليس متوقعًا، خاصة يوم اكتشفنا في الطرف الآخر من شارع لانكري قناة سان مارتن. قناة كان ماؤها يسقط في الصمت، ككل شيء يحيط بها، الحدائق والناس الذين كانوا يتنزهون فيها. كان كل شيء صامتًا في عالم القناة، ولكنه كان صمتًا يبعث على الطمأنينة. كان عالم القناة بعيدًا عن دخان المصانع الهاجم على سماء باريس الواطئة، حتى أن طفلاً صغيرًا كان بإمكانه أن يرفع أصابعه، ويلمس شفتيها.
في ليلة من الليالي، أيقظتني صرخة مائلة إلى الثأر انبثقت من شارع لانكري الممتد كنهر طويل، فلم أشأ إيقاظ زوجتي، لكني خرجت بصدري من النافذة لأقف على السبب، ولم أستطع رؤية شيء. تكررت الصرخة بحدة أقوى من المرة الأولى، وسمعت لغطًا وسبابًا ومبضعًا يمزق الهواء، تبعت ذلك أصوات مختلطة لنساء ورجال بدوا لي من لهجتهم أنهم سود أفريقيون. انطلق ضحك صاخب، ثم أصوات طبول صعدت إلى السماء، وأصوات راقصين على إيقاعها. ومن جديد، وصلتني ذات الصرخة، وقد عمقت أكثر هذه المرة، وبدل حدة الاحتجاج كانت حدة الوجع. ومن جديد، اللغط والسباب. ومن جديد، المبضع الممزق للهواء، بل المباضع، بل السيوف التي كانت تقطع وتمزق، بينما البقر الذبيح كان يجأر. ثم، فجأة، سقط كل شيء في الصمت.
عندما استيقظت زوجتي، وجدتني أحدق في السقف، لكن قصتي أدهشتها. أكدت لي أن ما كان ذلك إلا حلمًا، فهي لم تشعر بشيء من كل هذا، بل تشعر بأنها قضت ألذَّ وأهدأ ليلة في حياتها.
وبالفعل، لم تكن تبدو على شارع لانكري أية إشارة ظاهرة مما كنت قد سمعته ليلة أمس، الناس متفرغون لأشغالهم، وهم يعملون ببشاشة وابتهاج. وكعادتهم، كانوا يبتسمون. لكني رغم ذلك، أخذت أنقب عن قطرة دم واحدة على جدار أو رصيف، فلم أقع على أية قطرة. ابتسمت حائرًا من أمري، وعدت إلى النوم في الليلة التالية، وأنا أمنى النفس بقضاء ألذ وأهدأ ليلة في حياتي على غرار زوجتي، إلا أن ذات الصرخة المائلة إلى الثأر جعلتني أستيقظ مذعورًا. بعد ذلك، كان اللغط، الرقص، الطبول، السباب، ضربات السيوف، والصرخة التي تعبر عن أقصى الوجع. ثم اللغط والسباب وتقطيع البقر، والرؤوس المنفصلة التي كانت تجأر في شارع لانكري، وتبصق براكين الدم.
طبعًا لم تصدق زوجتي كلمة واحدة مما رويت، حتى أنها نزلت معي سلالم الطوابق السبعة التي عليها بعد ذلك صعودها على القدمين، لعدم وجود مصعد، كي تدقق البحث عن قطرة دم واحدة، دون فائدة. غريب حقًا كل هذا! أفقت من حيرتي على منشور يمده لي أحدهم ضد مشروع ردم قناة سان-مارتن، فتركت زوجتي، وذهبت لأرى الجرافات الجاثمة هنا وهناك. ناداني آخر، وجعلني أوقع على عريضة يحتج السكان فيها ضد هذا الفعل البربري. نظرت إلى ماء القناة الأخضر الراكد، وككل مرة، شعرت باجتياح صمت عالمها لي. سمعت أحدهم ينظر إلى الماء الأخضر الراكد مثلي ويقول:
- أمس حاول أحدهم الغرق.
ابتسم الرجل لي، وابتعد.
في الليلة التالية، بقيت واقفًا من وراء النافذة، مصارعًا النوم، منتظرًا تلك الصرخة المائلة إلى الثأر التي لن تلبث أن تتحول إلى صرخة تعبر عن أقصى الوجع، وإذا بطرقات على الباب. أيقظت زوجتي، وفتحنا بقلق. كان الطارق أخاها، وحيد الأسرة بين سبع بنات. انهار بين ذارعي أخته، وأوضح لنا:
- ابن عمي ذهب، وتركني!
طمأنته زوجتي رغم استغرابها:
- ذهب لكنه سيعود.
- لن يعود.
رأيت الطفل الذي تمسح له أخته دموعه السائلة على خده، والرجل الذي في جسده يخرج رويدًا رويدًا. أعطانا ظهره، وعاد من حيث أتى.
صاحت أخته بعد فوات الأوان:
- لماذا لا تبقى معنا؟
سمعنا خطواته تدوي على السلالم، ثم في شارع لانكري إلى أن صمتت.
في الصباح، قلت لزوجتي بسعادة:
- قضيت ألذ وأهدأ ليلة في حياتي!
فضحكت مني، أعادت ما كنت أرويه لها عن شارع لانكري، وتهكمت في الأخير:
- ألم أؤكد لك أن ما كان ذلك إلا حلمًا؟
اعتبرنا ذلك فأل خير، وعزمت على مرافقتها إلى عملها للاحتفاء بما لم يكن سوى وهم من الأوهام، ولكن، ما أن خطونا، أنا وزوجتي، خطوة واحدة خارج بوابة عمارتنا الحديدية، حتى وقفنا في مكاننا، ونحن يدقنا الذهول. كان الدم في شارع لانكري يهدر على رصيفيه، والجثث تحدق فينا، كلها ممزقة، والسيارات محطمة، والجرافات قد هدمت بعض البنايات، وهناك بقرة ذبيحة كانت تجأر، وتعجز عن النهوض.

باريس يناير 1980

من "حلمحقيقي" المجموعة الرابعة لأفنان القاسم بمناسبة نشره للأعمال الكاملة



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الابن والبحر
- الله والنقود
- الطفل الآتي من هناك
- حلمحقيقي
- حبيبتي في صنعاء
- حرير دمشق
- إرادة الورد
- الهامشيون
- ساعة الصفر
- على طريق دمشق
- الموت
- الأعشاش المهدومة
- الإرجاء
- الحجرة
- سوريا: ما هكذا يا رشاد أبو شاور تورد الإبل
- الانتحال
- قصة الدم
- الدم
- سوريا إلى أين؟ - الحل الثالث للشارع السوري
- ضد فتح وحماس على الشارع الفلسطيني أن يتحرك


المزيد.....




- ماذا قالت الممثلة الإباحية ستورمي دانيالز بشهادتها ضد ترامب؟ ...
- فيلم وندوة عن القضية الفلسطينية
- شجرة زيتون المهراس المعمر.. سفير جديد للأردن بانتظار الانضما ...
- -نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا ...
- فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
- من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت ...
- تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف ...
- قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع ...
- -روائع الموسيقى الروسية-.. حفل موسيقي روسي في مالي
- تكريم مكتب قناة RT العربية في الجزائر


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - 39 شارع لانكري