!في استشهاد القائد الأنصاري الوطني وضاح حسن -سعدون- ورفيقيه

مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 1020 - 2004 / 11 / 17 - 11:42
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    

1 من 2
من دفتر البدايات . . خضر كاكيل، في ربيع 1982 : " لولا اصرار النصير سعدون وملا عثمان لما تحقق الأقتحام المعجزة . . "

كان شاباً اسود الشعر والعينين، ذا ملامح ورجولة فراتيتين، كان يناهزالعشرين حينما التقينا للمرة الأولى في كتف جبل "حصاروست" اسفل " الحصار "(1) بتعبير فلاحي واهالي المنطقة، حيث كان موقع مقر سرية روستي . . بُعيد استلام " خضر كاكيل " (2) المسؤولية العسكرية في مكتب السرية .
اواخر آذار 1982 وصلت برقية من سرية روستي الى مقر فوجنا، الفوج الخامس / اربيل الذي كان يستقر في منطقة قورناقو ـ بشت ئاشان في سفوح جبل قنديل . وقد افادت بان السرية بأمس الحاجة الى طبيب لأنقاذ حياة جرحى العملية العسكرية الرائدة، عملية اقتحام ربيئة " سه ري سه رين " التي كانت تنتشر اخباراقتحامها وغنائمها واسراها في المنطقة بسرعة البرق .
بعد مسيرة ليلة كاملة حالكة السواد في طرق خضنا فيها بالثلج، حتى المحازم في مناطق منها، بعد ان تأخّر ذوبان الثلج ذلك العام، وعلى طريق ؛ بولي ـ دولي شهيدان ـ خانه قا ـ مامه رووت ـ عبور نهر كلاله البارد عند الجسر الأصفر ـ اطراف دار السلام، وحتى قرية ماوليان حيث اخذنا قسطا من الراحة والنوم كي نستطيع مواصلة السير الى حصاروست .
استيقظنا على اصوات انفجارات قصف الهيليكوبترات، الذي استمر في قصف قرى المنطقة وقصف الأهالي وقطعان الأغنام، الذي كان رداًّ على تلك العملية الجريئة، وقد تسبب في تهديم بقايا القرى الصامدة هناك وقتل وجرح العديدين . كنا نواصل المسير كلما ابتعدت الهيليكوبترات ونختفي بين الصخور كلما عادت نحونا، الى ان ابتعدت نهائيا بعد ان استمر تحليقها وقصفها اكثر من ساعتين . .
وصلنا مقر السرية، وباشرت فوراً في فحص وتقدير الأصابات، فيما استعد المساعدون الطبيون ـ اضافة لكل انصار الموقع ـ وعلى رأسهم ابوبافل في اعداد مكان معقم للعمليات السريعة في احدى قاعات موقع السرية، اضافة الى تعقيم الأدوات الجراحية التي كنت قد حملتها معي بحقيبة الظهر، بالغلي وباليود والكحول .
بعد معالجة الجرحى وانقاذ ارواح من كانت اصاباتهم خطيرة وكانوا ؛ ابو داود عضو مكتب السرية الذي فقد عينه وكان محجرها ينزف بشدة، ابو آذار آمر مجموعة، اصيب في كليته وساقه عند الركبة . . ثم آمر فوج في وحدات بيشمه ركة الحزب الدمقراطي الكردستاني
" يوسف هركي " الذي اصيب بشظية صاروخ مقاتلة توبوليف في رأسه، وكان قد جاء به نصيران من وحدته فاقداً الوعي تماما، محمولا على حيوان الى مقر السرية قرب الغروب وتمكّنا من انقاذ حياته بعد اخراج الشظية بعملية جراحية ناجحة استمرت الى ساعة متأخرة من الليل . . نمت عند الفجر بعد التأكد من تأثير المغذيات وتواصلها وتسليم مراقبتها الى المعاون الطبي النصيرعلي .
صباح اليوم التالي لاقيت انصاراً جدداً في ساحة مقر السرية . . وقد عرفت من خضر كاكيل انهم ملتحقون جدد قدموا متطوعين من الخارج. كان احدهم جريحاً وآثار الدماء على ملابسه، هرعت اليه ولم يشأ اشغالي قائلاً :
ـ دكتور، انها خدوش خارجيه بسيطة ستندمل من ذاتها، الرجاء لاتنشغل بها، لتتفرغ لجرحانا الخطرين ! . . لقد كان سعدون . .
وفي حوار مع الشهيد خضر كاكيل حول كيفية اشراك انصارٍ جدد في عملية بمثل تلك الخطورة، اجابني قائلاً :
ـ تعلمت من حياتي الطويلة في البيشمه ركة الأنصار ان ازن (3) الرجال، واني لعلى ثقة من ان النصير سعدون من اكفأ المقاتلين بعد ان تعايشت معه في السرية رغم قصر الفترة، لقد اخترته للمشاركة في العملية لأنه تطوّع واصرّ على الأشتراك بها وكنت احتاج اصراره لألهاب حماس المشاركين الآخرين الذين لم يجرّبوا قدراتهم بعد . . بعد ان تأكدت من كفائته العسكرية وقدرته على استخدام السلاح بعد ان لاحظت كيفية مسكه للبندقية وتوقيته للأطلاق . . . لقد تدرّب جيداً في لبنان، الأمر الذي يعكس جديّته في النضال .
بعد ايام تحرّكنا للعودة وكنّا بمفرزة كبيرة قادها آمر الفوج آنذاك علي كلاشنكوف(4)
وكان قد تقرر ان تقوم المفرزة بنقل دوشكا وبي كي سي اللذين كانا من غنائم العملية، الى مقر الفوج في قورناقو ـ بشت ئاشان لتعزيز وضع المقر بعد عطلت الدوشكا العائدة له. لقد سببت الدوشكا اشكالية كبيرة في مسألة حملها رغم تفكيكها، لثقلها ولكثافة ثلوج ذلك العام العصية على الذوبان والمستمرة في الأنهمار، في منطقة وظرف لم يسمحا باستخدام اية وسيلة للنقل، خاصة في منطقة عبور الجسر الأصفر ـ مامه رووت، من الطريق . لقد قطع نقاشنا الحاد في تلك المشكلة النصير القوي الجسم سعدون حين اعلن عن تطوّعه لحمل الدوشكا بهدوءه وحزمه .
لاازال اذكر كيف افلتنا من الكمين الخطير الذي كدنا ندخله غير عارفين، في سيرنا الثلجي الشاق ذلك، لولا عطسة بعيدة شقّت الصمت الثلجي في تلك الليلة الحالكة السواد وحسمت شكّنا واحساسنا بوجود اشخاص يتحرّكون على بعد ويقتربون من جوانبنا الأمامية، الأمر الذي فرّقنا بسرعة البرق الى الأتجاهات التي اتفقنا عليها مسبقاً اثر اشارة الفحيح المتفق عليها التي اطلقها علي كلاشنكوف وتناقلها امراء المجاميع على طول مجاميع المفرزة . . فكانت الساحة التي كنا نجتازها باشجارها التي عراّها الشتاء خالية حين اضاءتها بروجكترات قوية الأضاءة احالت الليل الى نهار هناك ليستعر رمي الرشاشات والمدفعية كثيفاً ممشطاً الساحة برمّتها مسبباً تطاير شظايا الثلج والحجارة، فيما كانت تسمع اصوات طقطقة الأشجار المتكسّرة بسببها فيما كنا منتشرين مرتمين على الثلج القارس !
بعد حدود ساعتين من ذلك الأنتشار القاسي على الثلج تحت الرمي الكثيف المتقطّع الذي كان عشوائياً كما بدا، سمعنا اصوات عالية كأنها نقاشات وتوبيخات وبدأ الصمت يلف المكان . . شاهد علي كلاشنكوف اشارة الأستطلاعيين اللذين ارسلهما ليتسللا الى المقدمة لتشمم الوضع، وقد عنت الأشارة ؛ امان !
بعد ان تأكدنا من عدم وجود اصابات، بدأنا نتجمع بالأشارة الخاطفة للايت القلم الرفيع واخذنا نتحرّك ببطء نحو اسفل القمة السوداء التي اتفق عليها كمكان للتجمع، والتي لم نضيّعها لحسن الحظ بعد ان اصبحت بيضاء بفعل الثلج الذي كان مستمراً بالتساقط بكثافة .
فرحنا لرؤية النصير سعدون يحمل هيكل الدوشكا الذي كان يعنى الكثير لمستقبل عمل الفوج ان استطاع المحافظة على وجود مقره في قورناقو ـ بشت ئاشان آنذاك، بعد ان عطلت الدوشكا هناك، لقد حافظ عليها محافظته على الأحداق (5) في ذلك الظرف العصيب وهو بمظهره الجاد كعادته .
بعد عبورنا النهر البارد عند الجسر الأصفر ومواصلة المسير اللاحق، بدأنا صعود مامه رووت من جهة مقطعه الحاد، بعد ان اضطررنا لذلك بسبب تلغيم الطريق الأصلي كما افاد عيننا هناك. لقد كان الصعود خطراً بالفعل لتراكم الثلوج من جهة، ولتجمّد اجزاء من الطريق وتحولها الى مادة صابونية عند وطئها. كان التزحلق هناك يعني السقوط الى هوة سحيقة كانت تتلألأ منها اضوية الموقع العسكري المتقدم للجيش هناك (6).
كُناّ نصعد ببطء وكان البعض يلعن بتمتمات خافته غير مسموعة ولامفهومة جيداً وكان الأغلب صامتين يكزوّن على اسنانهم من البرد والتعب والأرهاق والحذر من التزحلق . . وبينما كنت اكزّ على اسناني، لمحت من فوق حقيبتي الطبية النصير سعدون يصعد والعرق يكسو وجهه الجاد حاملاً هيكل الدوشكا الثقيل .
تلاقت نظراتنا . . ابتسمْ !
لقد افرحتني ابتسامتة الدافئة تلك وشجعتني في ذلك الظرف على تحمّل ثقل حقيبتي الذي كان لايقاس بثقل ما كان يحمل في ذلك الليل، ثم ماحمل وسط مخاطر متنوعة ، شكّلت جزءاً يسيراً من مقدمات سفر حياته الأنصارية اللاحق الحافل بالعطاء، كما سيأتي وكما شهدتُ . (يتبع)

16 / 11 / 2004 ، مهند البراك
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحائط القطعي، وفق التعبير المحليّ .
(2) من الوجوه المعروفة للأنصار في منطقة اربيل منذ الستينات، من اهالي رواندوز، استشهد في بشت ئاشان عام 1983 .
(3) من وَزَنَ ، يَزِن .
(4) من وجوه الأنصار الشهيرة في منطقة السليمانية منذ الستينات، من اهالي السليمانية، وبعد خوضه وقيادته للعديد من المعارك في منطقة سوران، استشهد في حادث انهيار جبلي عام 1986 .
(5) لقد فقد البيشمه ركة / الأنصار على اختلاف فصائلهم في ظروف مماثلة بل واقلّ خطورة العديد من المعدات حفاظاً على الأرواح . ورغم انها كانت تحسب من الخسائر المقبولة، الاّ ان المقاتلين الجسورين لم يكونوا يتقبّلوها .
(6) كان اسم الموقع ان لم تخنيّ الذاكرة " قه لاة " .

#مهند_البراك (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات