أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الثاني)















المزيد.....


المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الثاني)


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 3344 - 2011 / 4 / 22 - 12:57
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


الجزء الثاني: الاحتلال والبحث عن مرجعيات ثقافية جديدة
بـ "دخول قوات التحالف"، أي بالاحتلال، تغيرت المعادلات النظرية. إن وجود قوات الاحتلال الأميركية المباشر على الأرض، ونقل السلطة الى القيادات الأميركية: غاي غارنر، أبو زيد وتومي فرانكس ثم بريمر، جعل أميركا تجد نفسها من دون غطاء ثقافي وإعلامي محلي ملائم، في محيط اجتماعي سادته قوانين الرقابة الصارمة عقودا عديدة، وفي بقعة عرفت بعدائها التقليدي للوجود والسياسة الأميركية. لذلك اضطرت القوة الغازية الى تصدير مبدئها السياسي الاجتماعي المسمى "فوضى الحرية" الى المجال الثقافي أيضا، فلجأت الى مفهوم "فوضى الثقافة"، باعتباره الصيغة الأنجع، التي يمكن لها من خلاله أن تتواصل مع الأطراف المتنافرة فكريا وسياسيا وايديولوجيا، وأن تستجيب من جانبها، بمرونة عالية، لمتطلبات مرحلة فوضى الحرية، أو حرية الاستباحة الوطنية.
ماذا حدث في تلك الأيام؟
كما أن الهدم والإعمار المادي والسياسي قد جرى التفاوض حوله مع أفرقاء أميركيين وأوروبيين بشراكة محلية، فإن الإعمار الثقافي كان، بحكم طبيعة النظرية، السباّقة على البناء المادي، قد تم ترتيبه وزرعه كخلايا فكرية وسياسية منذ وقت مبكر، كممهد للغزو والاحتلال والهدم. قاد هذه الخلايا بعض الوجوه المؤيدة للاحتلال، من خلال مؤسسات ثقافية أسبغ عليها صفة "المؤسسات البحثية"، كمؤسسة الخوئي وصحيفة "المؤتمر" وصحيفة "الزمان" ومؤسسة مكية، التي استطاعت ان تجمع حولها عدداً من المؤيدين المساندين للحرب والاحتلال، تحت واجهة جديدة اسمها "إعادة الإعمار"، التي تلت في الترتيب مرحلة انجاز التدمير العسكري والسياسي. وقد باشرت هذه الخلايا في التحول الى مؤسسات علنية، كمؤسسة "الزمان" و"المؤتمر"، في سباق سريع وشره من أجل كسب الارض الثقافية في الداخل، بعدما كان عملها محصوراً في الخارج. أما في الجزء الكردي من العراق فإن الأمر هناك لم يكن ليحتاج الى جهد خاص. لأن المؤسسات الإعلامية للحزبين الحاكمين، حزبي المدن - الدول الكردية، قد أعلنت صراحة تطابق مشروعها القومي مع أهداف القوات الغازية في المجالات كافة، بما في ذلك الجانب الثقافي، على أن تكفل أميركا للقيادات الكردية بسط نفوذها على شمال العراق بسطا مباشراً أو من طريق إلحاقه بالإدارة العرقية. وقد تلقت تلك المؤسسات ضربات سريعة ماحقة، تمت بطرق مختلفة وبوسائل معروفة وخفية، قادت الى تبخر أو هروب جل تلك المؤسسات: الخوئي، مكية، الزمان في حلتها المحلية، المؤتمر.
ما ملامح خطة إعادة إعمار الثقافة؟
لم تبرز بوضوح تام حتى تلك اللحظة خطة واضحة في المجال الثقافي، عدا بعض الظواهر المتفرقة، أبرزها عودة بعض صحف الخارج الى الداخل في ظل الفوضى السياسية في مؤسسات الدولة وفي أجهزة الأمن. وكانت تلك العودة، كما خيّل للقائمين بها، خطوة ضرورية في مجال تثبيت حرية التعبير وتوسيعها. رافق تلك العودة السريعة بعض الظواهر الثقافية الجديدة، أهمها بروز دعوات متعجلة الى خلق اتحادات مهنية وثقافية وتجمعات للمثقفين. بعض تلك الظواهر نبع من داخل العراق بتأييد من بعض الأطراف الخارجية كاتحاد المسرحيين، وبعضها جلب بالكامل من الخارج بالتنسيق مع خلايا الداخل، كدعوة سعد البزاز الى اقامة "ميثاق وطني عراقي". وهي تسمية تذكّر بجماعة "الميثاق الوطني العراقي" البعثية، التي حضرت اجتماع الناصرية، بإسناد مباشر من المخابرات المركزية الأميركية. وقد بدأ مشروع البزاز الثقافي ببيان "31 مثقفاً" المنشور في 14/4/2003 في صحيفة "الزمان"، وتواصلت تلك النشاطات الثقافية باجتماعات فندق الشيراتون مع المثقفين والأكاديميين والإعلاميين، مصحوبة بآمال عريضة وبإغراءات مالية مؤثرة. وقد استندت دعوات البزاز الى مبدأين أساسيين، الأول: التسامح أو المصالحة، والثاني: اقتسام الأرض وفق نظرية لا غالب ولا مغلوب. وقد زينت تلك الدعوة بعبارة تضليلية مبتورة اسمها "رحيل القوات"، من دون تحديد طبيعة "القوات" الراحلة. وفي اجتماع الشيراتون أكد البزاز مجدداً مبدأ "المصالحة" وفق صيغة "لا يوجد رابحون ولا خاسرون"، و"إعادة دور قوى الداخل"، بعدما كان التعويل على الخارج قبل الحرب. (الزمان 28/4/2003).
كانت التنافس العلني ظاهرا بشدة وسفور بين فريقين من أصول بعثية للاستحواذ على الساحة الثقافية: تيار يقوده سعد البزار من خلال صحيفة ( الزمان)، وتيار حسن العلوي من خلال صحيفة (المؤتمر)، لسان حال المعارضة العراقية. وقد خيّل للجميع أن النتيجة ستكون لصالح العلوي، وفي أضعف الأحول ستكون تقاسما مقبولا بين الفريقين. بيد أن الوقائع أثبتت عكس ذلك تماما. فسرعان ما وجد الطرفان أنهما يُدفعان الى الخارج: خارج التقاسم السياسي الثقافي، وخارج الوطن أيضا.
وفي الإطار نفسه جاء "البيان الثقافي" الصادر عن "الأمانة العامة لرابطة الكتاب والمثقفين العراقيين" في آذار 2003 الداعي الى "خلق واقع جديد" وفق الثوابت الآتية: "الإسلامية والوطنية العراقية ووحدة الانتماء والمصير التي تؤطر المثقفين العراقيين مهما اختلفت مرجعياتهم الايديولوجية"، يضاف الى ذلك مبدأ "الشراكة القوية" في "صناعة الإنسان والمستقبل"، من دون أن يتم تحديد طبيعة الشراكة والشركاء. وإذا كان بيان البزاز قد جاء على ذكر "القوات" على استحياء، فإن هذا البيان أغفل تماماً ذكر هذه القوات، واكتفي بعبارة "حفظ السيادة" و"استقلال البلد". واذا كان بيان البزاز يلبس ثوب العلمانية فإن بيان الرابطة يعلن من غير لبس هويته الإسلامية ويؤكدها. هذه الدعوات وغيرها كانت التعبير العملي عن شدة الطموحات التنافسية السياسية الرامية الى إعادة تكتيل القوى الثقافية وتجميعها والاستيلاء عليها، ضمن خطط لم تتبلور ملامحها وغاياتها آنذاك بعد، لكنها خطط تحمل منذ ولادتها بذور التعارض والتناقض الظاهر والمستتر، العارض والمستعصي، والأهم من كل هذا التعارض مع المشروع الثقافي الوطني الحقيقي.
بعث الفوضى والقبليّة
ربما تكون أشهر الصور الثقافية الحسية، التي تمتع البعض برؤيتها حية من على شاشات التلفزيون، ومنهم جورج بوش شخصياً، صور تدمير مراكز الثقافة والإعلام ومصادر المعلومات والوثائق والبحث العلمي العراقية، التي فُسرت وفق المفهوم الأميركي، على لسان وزير الدفاع بأنها "تعبير عن الحرية" و"حرية ممارسة الأخطاء". وكان ذلك أول تفسير ايديولوجي أميركي لمعنى الحرية والتحرير. فالحرية الأميركية، طبقاً لأقوال رامسفيلد، تساوي بين فك الأغلال وإطلاق طاقة التدمير الثقافي، التي هي في حقيقة الأمر تعبير عن إتحاد مصالح الفئات الشريرة الثلاث: السلطة الديكتاتورية السابقة، قوات الاحتلال وحلفاؤها، والجماعات والتيارات الإجرامية المنحرفة اجتماعياً في المجتمع العراقي. بيد أن الرسالة الداخلية، التي حرص الأميركان بعناية بالغة على إرسالها الى العالم، من خلال تجربة الحرية البشعة تلك، تقول: إن العراق ليس ألمانيا أو اليابان، إلا في نظر العمي والمغفلين.
أما الظاهرة المميزة التي رافقت خطوات تغلغل الاحتلال فهي انبعاث الروح القبلية مجدداً، بواسطة القوات الغازية. فقد جرى وصف الجنرالات وتجار الحرب ووكلاء السلطة القبليين بالشيوخ، وهو أمر حرص الإعلام العسكري على ترويجه. فالجنرال البعثي مزاحم كنعان التميمي نعتته القيادة العسكرية البريطانية بـ"شيخ البصرة"، في محاولة منها الى إعادة تصنيف وتركيب المجتمع البصري وفق منظور عشائري، حيث تبدو بصرة السياب أشبه بعشيرة لصوص. ولا غرابة أيضا أن نرى أول رئيس للعراق ينصب بملابس المهرج، الشعبية التقليلدية. إن هذه العودة جزء من تقاليد قديمة في السياسة البريطانية، مورست مع مجيء الاحتلال البريطاني المباشر، يُعاد بعثها، باعتبارها اللبنة الأساسية الجنينية أو الفطرية، التي تتماهى مع مرحلة تهديم الدولة ومؤسساتها المدنية ومع مشروع إعادة الخلق مجددا. وفي خيمة الناصرية، التي عقدها غاي غارنر، كان للوجود العشائري ثقله الملموس. ويفسر البعض هذا الأمر بالقول إن القوات الغازية، التي لم تجد لها سنداً قوياً في المجتمع العراقي، الذي اندفعت الغالبية العظمى منه في اتجاه المرجعيات والقوى الدينية المسايرة للاحتلال ولكن بحذر شديد، أرادت الإستناد الى مؤسسة اجتماعية ما، حتى لو كانت مؤسسة تتعارض في جوهر تكوينها مع المفاهيم الأميركية حول التقدم والتحضر. فالمؤسسة العشائرية جزء من بقايا بناء إجتماعي بائد، ناضل الشعب العراقي طويلاً من أجل الحد من نفوذه. وقد تم إحياء هذه المؤسسة على يد صدام على نحو خفي كقوة تحشيدية مساندة للامداد العسكري في مرحلة الحرب العراقية الإيرانية، ثم علنا في مرحلة ضعفه إبان الحصار، ولم تلبث أن أصبحت عنصراً مفضلاً في التحشيد السياسي الأميركي لبناء العراق الجديد: "منارة الشرق الأوسط"!
قوات الرقابة الحرة
بيد أن أبرز النشاطات الثقافية والإعلامية المرافقة لسياسة الإحتلال، هي الحملة الدعائية اليومية، التي سايرت خطة الغزو الأميركي، وكوّنت غطاء الاحتلال التبريري والنظري. ورغم هشاشة هذا الغطاء والقائمين عليه، إلا أنه أبدى حماسة عالية، ونشاطاً لا ينكر على صفحات الجرائد العراقية والعربية ومواقع الانترنت، في الخارج على وجه خاص، حيث لعب هذا النشاط دور الرقيب الحزبي، أو تقمص دوره بإخلاص عال وحماس.
فمن المعلوم أن الرقابة الثقافية العراقية لم تكن محصورة في مؤسسة رقابة المطبوعات، أي الجهاز الرسمي للرقابة، الذي طالب بعض المثقفين العراقيين بإلغائه، كما جاء في دعوة محمد حسين الأعرجي المنشورة في "المؤتمر" بتاريخ 8 أيار 2003 ، وهي دعوة تعبّر عن وجهة نظر المثقفين الديموقراطيين العراقيين كافة. فالى جانب هذه المؤسسة لعبت الرقابة الحزبية دوراً أساسياً خطيراً في تاريخ الثقافة العراقية على مدى ثلاثة عقود ونصف العقد. وقد مارس هذا الجهاز الفظ والقمعي دوراً تخريبياً وإرهابياً عظيماً ضد الثقافة الوطنية وضد المثقفين أفراداً وجماعات، فاقت بما لا يقاس دور المؤسسة الرقابية الرسمية، التي بدت كأنها محض جهاز بيروقراطي ضعيف قياساً بمؤسسة الرقابة الحزبية. فقد قام جهاز الرقابة الحزبي بأعمال المحاصرة والتطويق، ثم الهجوم، وصولاً الى ما عُرف بـ"التسقيط الثقافي والسياسي" للنصوص والكتّاب والفنانين الذين أبدوا ميلاً، ولو ضئيلاً، لمغايرة الخطاب الرسمي السائد، العسكري والحزبي والتحالفي. وبسبب غياب الظروف المؤاتية لقيام جهاز جديد للرقابة الرسمية، في ظل الفوضى العامة المستشرية التي رافقت الاحتلال، برز بقوة ملحوظة "جهاز الرقابة الحرة"، وهو الأخ التوأم لـ"قوات العراق الحر"، الذي أطلق عليه في زمن صدام تسمية جهاز الرقابة "الذاتية"، والذي عاد لينشط بقوة، ولكن بزيّ جديد. فعلى أنقاض جهاز الرقابة الحزبي البعثي ظهر جهاز رقابة ناطق باسم قوات الاحتلال، يستند الى الأسس الجوهرية النفسية والعقلية التي استند اليها الجهاز القديم، مستخدماً الأساليب ذاتها: الرصد، التطويق، الهجوم، والاسقاط أو التصفية، موجهاً حرابه الى "نحور" كل من يبدي ميلاً ولوضئيلا لمواجهة سياسة الاحتلال، مستخدماً كل السبل والوسائل الممكنة، من دون وازع من ضمير. وقد كان نصيب الشاعر سعدي يوسف كبيرا من تلك الحراب، لأسباب عديدة فنية وشخصية وسياسية وحزبية وثقافية، ولكن في مقدمتها الأسباب الوطنية والموقف من الاحتلال. وقد حاول هذا الفريق التعريض بسعدي يوسف، وتذكيره بنصه عن بلير، الذي يلمح فيه الى إمكانية ضرب العراق عسكريا، جاعلين منه حجة على فساد موقف سعدي الوطني. بيد أن هذا الموضع بعينه يمنحنا الحق كاملا في تأكيد قولنا إن جهاز الإعلام المرافق للاحتلال خال من القيم الأخلاقية تماما. لأن سعدي كان حينذاك موضع تبجيل. وهذا يعني أن الموقف من الاحتلال هو الفيصل في تقرير الصالح والطالح، المبجل والمدنس، وهذا هو العنوان الرئيسي لثقافة وإعلام مرحلة الاحتلال .
حرّاس الجحيم
جهاز الرقابة الذاتية "المجندة" هذا، تم إعداد بعض وجوهه على عجل من قبل جهاز الدعاية التابع للمخابرات الاميركية، بالتزامن مع إعداد "قوات العراق الحر" وظهور حملات وبيانات ومؤتمرات التأييد. وقد التحق بهذا الجهاز كثيرون طوعاً وطمعاً، مدفوعين بغريزة متأصلة اسمها الإدمان الرقابي، التي صنعتها ثقافة العنف وعسكرة الحياة السابقة. وقد أوكلت الى هذا الجهاز مهام الدفاع اليومي السريع عن الاحتلال وفق صيغ متفق عليها، والتصدي "الفوري" لكل من يظهر بارقة ميل معاد للوجود الأجنبي. وهي مهمة خاصة، تتطلب مهارة فريدة في متابعة كل ما يُكتب ويُنشر، ورصده. أي ممارسة دور الرقيب الخاص نيابة عن الرقيب العسكري الأجنبي. وبذلك حوّل جهاز الرقابة الخاصة مهامه من خدمة الرقيب البعثي المحلي الى خدمة الرقيب العسكري الأجنبي، بالتزامن مع تحويل المجتمع العراقي من عسكرة الحياة المحلية الى العسكرة الدولية. ونظراً لخصوصية هذه المهمة فقد أوكلت الى مجموعة منتقاة من القمّامين الثقافيين، الذين هم في الغالب من بقايا الشيوعيين والبعثيين وكتّاب الحرب ممن تدربوا بمهارة في مدرسة تمجيد حروب صدام سابقاً، ومن وجوه متخصصة في الانتهازية والتلون، يضاف اليهم مقتنصي الفرص من جماعات الفرهود الثقافي.
لقد ساهمت مراكز البحث وأجهزة الإعلام العراقية الموالية للاحتلال في تزويد المحتل بصورة مضللة عن طبيعة الشعب العراقي وواقعه، كاستعداد الشعب والمثقف العراقي خاصة لاستقبال الغزاة بالزهور، وتمزق كيان المجتمع العراقي الى حد فقدان الإرادة والكرامة التام، يضاف الى ذلك استخدام الأذى الصدّامي وسيلة لجلب أذى جديد، من طريق إشاعة حجج نفسية تؤكد شدة إملاق الناس وانكسارهم الى الحد الذي أضحوا فيه على استعداد تام لبيع أنفسهم وكرامتهم الى الشيطان في سبيل البقاء على قيد الحياة! وقد عكس ذلك كله حجم "الغربة" العقلية والبؤس الثقافي الذي تمتع به هذا الفريق. وعكس من ناحية أخرى حجم الهشاشة والضعة الفكرية والعاطفية التي تقف خلف تصورات كهذه. فرغم شدة سنوات القمع، التي مارستها السلطة الاستبدادبة، ورغم شدة وجور الحصار المزدوج الصدامي - الأميركي على نفوس الناس وأحوالهم، الذي تم تسميته لاحقا بعد الفشل الأميركي بـ "تمزيق كيان المجتمع"، ورغم الخراب الروحي جراء كثرة حروب هذا النظام، إلا أن الشعب العراقي لم يفقد رشده وكرامته تماما، كما يدّعي هذا الفريق، ولم "يُكسر" كسرا لا صلاح له قبل الاحتلال، بنفس الدرجة من الكسر التي أحس بها بوش لاحقا، حينما رأى فوضاه تتحول الى كارثة إنسانية لا مثيل لها في التاريخ. فهذا التصور لم يكن سوى أمنية من أماني المتهافتين على مائدة الاحتلال، وانعكاس لما يعتمل في دواخلهم. وحتى لو صح هذا الافتراض - التمزق النفسي التام للمواطن- فإن تحويل سحق كرامة المواطن الى خيار سياسي يلعب به طرفان عدوانيان أمر مشين أخلاقيا وعظيم الخطورة وطنيا. وهنا يكمن سر الفشل الكبير سياسيا وعسكريا واجتماعيا وثقافيا لما عرف بالعراق الحر، الذي بناه الأميركيون وحلفاؤهم على القاعدة المدمرة التي رأت أن المواطن العراقي هو آخر المعنيين بالتغيير، لأنه ليس سوى كائن "ممسوخ"، بلا قيمة، يقع خارج الحسابات السياسية، وهو ما قاد الى بناء دولة مصطنعة، بلا هوية، مجردة من الأفق الوطني والإجتماعي والأخلاقي. إن هذا الفريق الذي عمل "مرشدا" ثقافيا وسياسيا، ودليلا أمنيا صاحب فرق المداهمة والاعتقال، هو المسؤول عن صياغة محتوى الثقافة الوطنية للمرحلة الموقتة، التي أعقبت الغزو بالتعاون مع المحتل. وهو المسؤول عن صياغة برامج الدفاع عن وجود المحتلين وبقائهم لأطول فترة ممكنة. وهو المسؤول أيضا، أمام المحتل نفسه - بحكم عقود العمل - عن مهمة إيجاد غطاء شرعي وقانوني للاحتلال. والأكثر أهمية أن هذا الجهاز مسؤول عن مراقبة ردود فعل المثقف العراقي غير المرتبط بالاحتلال على ما يقوم به المحتل، وعن صناعة غطاء إعلامي يبرر جرائم الاحتلال. لقد تركت مهمة التبرير وتبرئة القتلة لكتّاب الحراسة المحليين، حراس الجحيم. ففي أحداث القتل التي تعرض لها مواطنون في مدينة الفلوجة – التي غدت شرارة الحريق الكبير، رغم اختلاف تفسيراتها - سارع هذا الفريق، قبل الأميركان، الى تبرئة أعمال القتل وإلقاء اللوم على عاتق القتلى ومنح الجناة صكوكاً قانونية تنص على "حق القتل"، في وقت سعت منظمات حقوقية أجنبية، بعضها أميركية، للتحقيق في الحوادث المذكورة. وحينما عمّت المشاهد الشنيعة للنهب الثقافي والنهب العام وأعمال الفرهود، سارع حراس الثقافة الى إيجاد حجج تنزه المحتلين، كما جاء على لسان أحد الشعراء وهو يبرر أسباب نهب المتحف الوطني وسفك الدماء: " قال عنه –نهب المتحف الوطني- بعض القادة الأميركيين يتعلق بطبيعة المهمات الحربية وعدم قابلية الدبابات الأميركية على المناورة في الشوارع المحلية"
و" لا أحد يريد الحرب بمن في ذلك الرئيس جورج بوش نفسه، لكنها عملية جراحية جريئة وخطيرة لاستئصال السرطان الصدامي التي لا بد فيها من نزف بعض الدماء، وهو شكل من أشكال دفع ثمن الحرية؟" (كتابات 23-5- 2003)
وفي الوقت الذي جنح كتاب التعبئة الى المبالغة في تنزيه المحتلين من أخطائهم استقال ثلاثة من مساعدي الرئيس الاميركي لشؤون الثقافة، احتجاجاً على هذه الأعمال. ولم يكتف هذا الفريق بذلك بل راح يهاجم بشراسة، وفق خطة محددة، كل المثقفين الذين دانوا أو انتقدوا ظاهرة السلب. وقد لعب هذا الفريق دوراً تحريضياً ناجحا وكبيراً في مجال توجيه الكره نحو كل ما هو عربي، في موجة سعار مخيفة. وهم يتحملون قانونياً - من خلال خطابهم المليء بالتحريض والعنف - مسؤولية جنائية مباشرة عن أعمال الثأر الظالمة والشنيعة التي تعرض لها فلسطينيون أبرياء من سكنة بغداد منذ نكبتهم. ولم يكتف هذا الفريق بالجانب الدعائي الآني، وإنما سعى بكل السبل الى إمرار مشروع الاحتلال، بالطريقة ذاتها التي مرر فيها كتّاب الحرب حروب صدام، والطريقة التي مُررت فيها صيغة الانتداب البريطاني قبله. حيث جري الحديث بدون انقطاع عن الاحتلال باعتباره "ضرورة" تاريخية لا غنى عنها.
وقد حاول هذا الفريق خلق تاريخ ثقافي زائف، لتضليل العامة من الناس، من طريق تدعيم حجج قبول الاحتلال بالشواهد التاريخية، بالعودة الى الماضي والتفتيش في شذوذ التاريخ عن أمثلة نموذجية لعرب أو أجانب قبلوا المحتلين أو طلبوا مساعدتهم، في محاولة لصناعة أسطورة ثقافية وسياسية جديدة على انقاض أسطورة الديكتاتور!
من هذا الشتات يتضح لنا أن القيادة الأميركية لا تملك سياسة ثقافية خاصة في هيئة برامج لبناء مؤسسات ثقافية أو مراكز علمية، حتى لو كانت لخدمة مشروع الاحتلال. إن مشروعها الثقافي يتمثل في أمر واحد، هو: كل شيء مفيد، طالما أنه يصب في طاحونة الاحتلال. فالسياسة الثقافية الأميركية تقوم على مبدأ التأقلم مع الوسط المحيط. فهي تمتص من هذا الوسط أسوأ ما فيه ثقافياً وروحيا، مستفيدة منه لتدعيم وجودها واستمرار مصالحها. إن أميركا على استعداد لمد يدها لأكبر الشياطين، لو أن هذا الشيطان يبدي قدراً من التوافق مع مشاريعها. ولا يهم إذا كان هذا الشيطان دينياً أو طائفياً أو قومياً أو قبلياً، بل حتى لو كان بعثياً صدامياً خالصاً. فسلطة الاحتلال التي تسيّرها شركات النفط والسلاح، باعتبارها قوة غير شرعية، لن تجد أفضل من جهاز صدام التنفيذي لكي يتقبل هذه اللاشرعية، وينفذ مصالحها بإخلاص. من هذا المنطلق تجري عملية إعادة الاعتبار الى القيادات الأمنية البعثية، كبعثيين بلا صفة بعثية، وفق شعار "لا خاسرون ولا رابحون". ومن المنطلق نفسه جرى تسليم هؤلاء بالتقاسم مع جماعات الخارج مفاتيح عملية إعادة هيكلة البناء الأمني والثقافي، على قاعدة تحاصصية ثلاثية الأبعاد: تحاصص السلطة والعنف، وتحاصص الثروة، وتحاصص الجسد البعثي.
وفي الجانب الثقافي جرت محاولات مماثلة، تهدف الى تكوين هياكل ثقافية، تقوم بمهام إدارة الثقافة، بالتقاسم بين رجال السلطة السابقين وبعثيي الخارج، يضاف اليهم جماعات العراق الحر، الذين اختفوا بالسرعة ذاتها التي ظهروا فيها، بعد أن أدوا مهمات مرسومة بدقة بالغة، تتركز في الاستيلاء على مصادر المعلومات والوثائق الأكثر خطورة ونقلها الى القوات الأميركية والبريطانية، أو بيعها في مزادات سرية.
بيد أن كل تلك الجهود لم تثمر شيئا جديا ملموسا في مجال نشر القيم الثقافية. فقد كان معظم تلك النشاطات مجرد فقاعات تظهر على السطح ثم تنفجر مخلفة وراءها فراغا يشبه العدم. كان قرار الحاكم الأميركي واضحا: التدرج في تسليم الثقافة، من المتعاقدين السريين الذين عملوا بصفة مستشارين تحت إمرة ضباط الاستخبارات، الى هيئات رسمية أضحت موثوقة الجانب عمليا، لا يُخشى من قوتها الاجتماعية والسياسية بسبب ضعفها وهشاشتها وتمزقها. لذلك وضعت الثقافة بيد الشيوعيين، ووضعت بعض أجهزة الإعلام المركزية بيد قوى تابعة لمراكز سياسية متنفذة بإدارة خاصة تنفيذية من جيش الوشاة، الذي خدم البعث سابقا. أما ما تبقى فقد مُنح حرية التصرف على هواه. بهذه الطريقة تم اختتام مرحلة أولى من مراحل إدارة الحياة الثقافية في ظل الاحتلال. كانت تلك الخطوة مرحلة مؤقتة، عابرة، هدفها تهدئة الحياة الثقافية وتخديرها حتى يتم تقاسم الثقافة تحاصصيا على يد القوى الجديدة الصاعدة. وقد لعب الشيوعيون فيها دور المنفذ المطيع والشريك الصغير المستضعف.
يليه الجزء الثالث



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (التجربة العراقية)
- الأسرار النفسية لهزائم صدام العسكرية
- ظاهرة العراقيّ الصغير: حقيقة أم خيال!
- المستبد عاريا
- إسقاط نظام المحاصصة الطائفيّة العرقيّة الحزبيّة هو الهدف الأ ...
- حطّموا متاريس دولة اللاقانون!
- نعم يا طغاة الفساد العراقي: نحن متضرّرون!
- ثورة المواطنة وديكتاتورية الرئيس المنتخب!
- ثورة عراقية كبرى، ولكن...!
- انطباعات أميركية عن أميركا عراقية
- ممرات العبور من الحرية الفردية الى الحريات العامة وبالعكس
- أخيرا، حصل الإعلام السويدي على إنتحاريّه الخاص
- تدنيس المقدس (قراءة سلفية تهين الرسول محمد: حديث أم حرام)
- حكومة من تنك، وقَتَلة من ذهب، وإعلام خردة!
- أسرار وثائق ويكيلكس!
- تفكيك المقدس واستنطاق المسكوت عنه
- دكتاتورية الكراهية: الفرد العراقي من مجتمع التعبئة الى حالة ...
- نقد الخطاب الديني، التفكير والتكفير واللعب على المكشوف
- النظافة من الإيمان: ثلاث كلمات قتلت سردشت
- كاكه سرو وعبلة: قصّة حبّ كرديّة


المزيد.....




- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...
- جهاز كشف الكذب وإجابة -ولي عهد السعودية-.. رد أحد أشهر لاعبي ...
- السعودية.. فيديو ادعاء فتاة تعرضها لتهديد وضرب في الرياض يثي ...
- قيادي في حماس يوضح لـCNN موقف الحركة بشأن -نزع السلاح مقابل ...
- -يسرقون بيوت الله-.. غضب في السعودية بعد اكتشاف اختلاسات في ...
- -تايمز أوف إسرائيل-: تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن ...
- الحرب الإسرائيلية على غزة في يومها الـ203.. تحذيرات عربية ود ...
- -بلومبيرغ-: السعودية تستعد لاستضافة اجتماع لمناقشة مستقبل غز ...
- هل تشيخ المجتمعات وتصبح عرضة للانهيار بمرور الوقت؟


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الثاني)