أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صالح حبيب - رحلة في ذاكرة بغدادية - سبعينات القرن العشرين 1970 - 1979















المزيد.....



رحلة في ذاكرة بغدادية - سبعينات القرن العشرين 1970 - 1979


صالح حبيب

الحوار المتمدن-العدد: 3337 - 2011 / 4 / 15 - 09:11
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


" قد لا تكون هذه هي وجهة نظر الآخرين ولكنها وجهة نظري الخاصة "

كثيرا ما كان يدور الحديث بيني و بين أصدقاء من أقراني و أصدقاء اصغر سنا أو اكبر عن عقد السبعينات من حياة العراق في القرن العشرين فقد كنت اسمّي هذا العقد من الزمن بالعقد الذهبي من حياة العراق في التاريخ المعاصر ولكثرة تطابق آراء كل من يشترك معي بالنقاش أو من كان يصغي إليه بحيث أن أحد الصدقاء و رغم انه من مواليد السبعينات إلا أن ذاكرته لم يمسها ذلك العقد و إنما تفتحت في عقد الثمانينات حين كان العراق يخطو أولى خطواته في طريق التدهور و الدمار رغم أن إعلام النظام ذلك الوقت كان يحاول أن يقنع الجميع بأنه زمن النهوض و الارتقاء الحضاري، وكان صديقي دائما يقول لي بالحرف الواحد " أعطي نصف عمري على أن أعيش بضعة أيام من السبعينات".
في عقد السبعينيات وعندما كانت كلمة حرب لا تمثل للعراق و العراقيين إلا مجرد موضوع من الماضي أو شيء يسمعون ويقرأون عنه فقط في الصحف و نشرات الأخبار و كتب التأريخ ، كانت اهتماماتهم و احاديثهم مختلفة تماما عما نراه و نسمعه في عصرنا الحالي، فقد كانت آخر حرب اشترك فيها العراقيون هي حرب تشرين 1973 و لم يكن لهم فيها حصة كبيرة سواء من حصص النصر أو الربح أو الخسارة مجرد مساهمة تعزيزية للجبهة السورية.
كان جل اهتمام العراقيين و احاديثهم مركزة على الحب و الموضة و آخر التقليعات الحديثة في اوربا و أمريكا و على السفر إلى اليونان و لندن و بلغاريا وهل الذهاب إلى هناك بالطائرة احلى وافضل ام بالسيارة ؟ و عن أحدث الأفلام الأجنبية الرومانسية و الاجتماعية ( وليس أفلام الآكشن أو الرعب ) و الأفلام العربية و آخر الأغاني الجديدة لأم كلثوم و عبد الحليم وفريد الأطرش وتوم جونز و إنكلبرت هنبوردنك و تينا تشارلز و ديمس روسوس وفرقة آبا و بوني- إم وعائلة باندلي و عن آخر أخبار و فضائح الفنانين في مجلة الموعد اللبنانية الخاصة بأخبار السينما و الفنانين وأخبار شارع الحمرا في بيروت و آخر تقليعاته قبل أن يحترق لبنان بالحرب الطائفية.
بغداد كانت مدينة جميلة و نظيفة ومبانيها الكبيرة والتي نراها متداعية اليوم كانت جميلة و جديدة وشامخة، و كانت هذه المدينة الرائعة قد بدأت توا تتجمل و تنهض و تحاول أن تلحق بركب العواصم الأوربية الأنيقة في الوقت التي كانت فيه أكثر العواصم العربية والخليجية مجرد مدن بسيطة أو قاحلة ، فمثلا انتشرت في بغداد كابينات انيقة للهاتف العمومي مصنوعة من الالمنيوم والزجاج في كل الشوارع و كذلك نشرت سلات بلاستيكية برتقالية انيقة للمهملات الشخصية في الشوارع و صارت من الأمور المعتادة في كل مكان في بغداد و المحافظات.
و في بغداد السبيعينات ابتدئ بتطبيق قوانين حضارية رائعة مثل قانون العبور من الاماكن المخصصة للعبور في الشوارع وقانون ربط حزام الامان للسائق و الراكب و انتشرت تجربة المولات الكبيرة و عرفت باسم بالاسواق المركزية و لم تظهر في الدول العربية بعد ، ولكنها كانت موجودة في بغداد منذ الخمسينيات ( حسو اخوان) و (اورزدي باك) في شارع الرشيد وحتى شركات بيع السيارات الامريكية و الالمانية.
ولكن للأسف سرقت الهواتف العمومية و استعملت كابيناتها كأماكن للتغوط و التبول من قبل الرعاع و احرقت سلات المهملات البلاستيكية لأن بعض المتخلفين كان يرمي اعقاب السكائر وهي مشتعلة فيها معتقدا انها نفاضة و تم غزو الاسواق المركزية من قبل فصائل الدلالات و عصابات السوق السوداء. ولكن لم تتم ادامة المظاهر الحضارية التي بنيت و نظمت ولم تكافح الظواهر السيئة ولم يتم تثقيف المواطن ليتعرف ويتعود على كيفية التعامل مع مفردات الحضارة الحديثة وأصولها حتى فشلت الكثير من تلك المظاهر الحضارية الجميلة في البقاء و الاستمرار مثل نظام المرور و الأتصالات و المولات و انظمتها التي ظلت خاوية على عروشها اثناء فترة الحصار وما بعدها.
ظهرت منذ بداية عقد السبعينات ظواهر كثيرة في حياة العراقيين معظمها كان عبارة عن سيناريوهات موضوعة من قبل السلطة الحاكمة آنذاك منها ما اثرت سلبيا و منها ما أثرت ايجابيا و منها ما بقيت آثارها لفترة طويلة و منها ما نسيت و ولت بنفس السرعة التي ظهرت بها منها الأليمة كظاهرة السفاح ابو طبر التي لا تستحق الحديث عنها كثيرا و منها ما شكل للعراقين ذكرى طريفة بحيث انها سجلت في تراثهم و احاديثهم و امثالهم الشعبية مثل ظاهرة عدنان القيسي.
ظاهرة عدنان القيسي- مفارقة ممتعة في حياة العراقيين
عدنان القيسي ذلك المصارع البطل الذي اذهل العراقيين بقوته وبضربته الفنية المشهورة بـ"العِكسية" الكبار منهم قبل الصغار و المسؤولين قبل المرؤوسين بتمثيلياته في مباريات المصارعة الحرة غير المقيدة كما كانت تدعى آنذاك و المبنية على أداء الحركات المفتعلة و المتفق عليها مسبقا و نتائجها المحسومة مقدما، فقد نجح عدنان القيسي وعلى مدى حوالي عاما كاملا أو أكثر في تمرير هذا النوع من الرياضة التجارية غير الأولمبية والتي هدفها كان معروفا في أمريكا والعالم وهو جني الأرباح من الناس الذين يريدون تمضية بعض الوقت للتسلية مع علمهم المسبق بطبيعتها ولكن العراقيين صدقوها واتخذوها مجالا للفخر ببطولات ابنهم الضال الذي عاد ليرفع رؤوسهم أمام العرب و العالم . وطبعا لم يصدقهم أو يتفاعل معهم احد من العرب أو العالم لان العالم كله كان يعرف طبيعة هذه المباريات ما عدا العراقيين ، ولكن من العراقيين الذين كانوا يدركون حقيقة الأمر ويعرفون بهذه الخدعة هو مؤيد البدري عميد الرياضة العراقية الذي حاول أن يشرح للجمهور الحقيقة ولكن للأسف لم يصغ إليه احد بسبب انجرافهم القوي نحو القيسي و حركاته البهلوانية وتعليقاته التي كان يعرف كيف يستغل بها العواطف العراقية و بسبب أيمانهم بهذه البطولات المزيفة وكاد هذا الرجل أن يُنبذ من قبل جمهور برنامجه "الرياضة في أسبوع" ويقاطع رغم مكانته الاجتماعية و الإعلامية والرياضية ورغم الحب الذي يكنه له العراقيون و لبرنامجه الرياضي . وهكذا استطاع عدنان القيسي أن يسلب لب الجمهور العراقي و يصبح هو الشغل الشاغل الوحيد لأي عراقي من الشمال إلى الجنوب حتى كان من الصعوبة أن تعثر على شخصين أو اكثر يتحدثون سوية في موضوع إلا وكان ذلك الموضوع هو موضوع مباراة عدنان القيس التي حدثت قبل يوم أو خلال الأسبوع الماضي و تراهم يمجدون بهذا البطل العراقي الذي هاجر من منطقة السفينة بالأعظمية و اغترب في أمريكا ثم جاء إلى العراق ليعيد أمجاد الأجداد كبطل مغوار و ليتغلب على اعتى أبطال أوربا و أمريكا في المصارعة الحرة التي تعرضها حاليا القنوات الفضائية وتشتهر عروضها اليوم باسم WW أو World wrestling وفيها تجد نفس الأسلوب الذي كان القيسي يبهر به العراقيين و كانوا بالطبع يصدقون ظاهرة بطولاته الفذة و يصلّون له و يتضرعون قبل كل مباراة في المراقد و الجوامع و الصلوات، من اجل أن ينصره الله على خصمه القادم ليرفع رأس العراق عاليا ثم ينحرون الذبائح و يوزعون الشربت و الجكليت بعد نصره المؤكد على الخصم، كان العراقيون من البساطة بحيث أنهم لم يكونوا يعلمون بان نتائج هذا النوع من المباريات محسومة مقدما و نسب أرباحها محسوبة و الحصص قد تم توزيعها.
فجأة وبعد كل هذا الانبهار و وعوده بتطوير رياضة المصارعة في البلد وفق صيغ عالمية و امريكية، صحى العراقيين في يوم من الأيام ولم يجدوا عدنان القيسي بينهم و لا من يتحدث عن بطولاته . لقد هرب البطل بالغنيمة وتركهم يديرون برؤسهم يمنة ويسرة فلا يجدون له اسما أو لقبا يذكر وكأن شيئا لم يحصل.
شعب طيب و ساذج و يعيش في عزلة بعيدا عما يحصل في العالم منذ زمن بعيد.
الثقافة و الآداب
المثقفون في السبعينات كانوا يتحاورن بالمواضيع الثقافية و الأدبية والعلمية التي تنشر في المجلات والصحف ويترقبون آخر الإصدارات من الكتب و المجلات الأدبية و الثقافية لدور النشر العراقية مثل مجلة آفاق عربية ، الأقلام ، الفكر الجديد ، الآداب الأجنبية ، الثقافة الأجنبية ، الطليعة الأدبية ، مجلة ألف باء و مجلة الشباب و مجلات الأطفال مجلتي و المزمار و المسيرة ، و مجلة العلم و الحياة و الدوريات العربية الأخرى و كان الشباب العراقي لا يتحاورون فقط بمواضيع تلك الصحف والمجلات بل و بسيرة كتّابها ومتابعة إصداراتهم فقد كانت حركة النشر و الطباعة و المطالعة وسوق الكتاب في ذلك الوقت نشطة بشكل كبير فظهرت المقولة التي اشتهرت على المستوى العربي في تلك السنوات الذهبية للفرد العراقي " مصر تكتب و بيروت تطبع و بغداد تقرأ " أما الصحف المحلية فلم يكن عددها كبيرا لأن الدولة لم تكن تسمح بمنح حقوق امتياز لكل من يطلب أصدار صحيفة يومية بتلك السهولة إلا ضمن شروط متشددة و رقابة حكومية فقد كانت هناك عدة صحف ناطقة بأسم الحزب الحاكم و الدولة أبرزها جريدة الثورة و كانت هي جريدة حزب البعث الحاكم وجريدة الجمهورية و هي الجريدة الرسمية للدولة وجريدة الحزب الشيوعي العراقي طريق الشعب التي أوقفت عن الصدور بعد حل الجبهة الوطنية التي عملها الحزب الحاكم مع الحزب الشيوعي العراقي لمقتضيات و ضرورات تكتيكية لفترة معينة و مجلتهم الثقافية الفكر الجديد و جريدة التآخي الكردية التي كانت تصدر تحت رقابة الدولة و من الدولة نفسها وكانت تصدر باللغة العربية و فيها ملحق باللغة الكردية ( وكان يفترض العكس أي أن تصدر بالكردية ولها ملحق عربي ) ومن الصحف المستقلة التي لم تكن تنتمي لحزب معين أو جهة معينة كانت جريدة الراصد التي تعتبر من أكثر الصحف قراءة لدى الشباب العراقي بكافة مستوياته و شرائحه لأنها كانت مسلية و تنشر قضايا عالمية و مترجمة و طريفة و منوعة وكانت تعتبر متنفس لهم وسط الجو المشحون بالشعارات الحزبية و السلطوية.
لقد اهتم العراقيون في تلك المرحلة و مرحلة الستينات والخمسينات بأسماء عديدة لم تكن قد ظهرت توا في الحقيقة بل بدأت أسماؤهم تلمع في تلك الفترة كتابا و شعراء لمعت أسماؤهم في سماء الثقافة والأدب العربي و العالمي مثل عبد الوهاب البياتي و مظفر النواب و حسين مردان و عبد الخالق الركابي و سعدي يوسف و عبد الرزاق عبد الواحد و غيرهم ناهيك عن الأعلام التي كانت أسماؤهم تعتبر لازمة يجب ذكرها كلما ذكر الشعر والأدب و الثقافة و العلوم في كل الأوقات منذ مطلع القرن الماضي حتى القرن الحادي و العشرين وعلى رأسهم شاعر العرب محمد مهدي الجواهري وعالم اللغة العربية العلامة مصطفى جواد و عالم النحو الأب إنستاس ماري الكرملي والشاعر و اللغوي الكبير محمد بهجت الأثري و احمد الصافي النجفي و عالم الاجتماع الفذ علي الوردي والعالم الديني المجتهد السيد محمد محمد صادق الصدر والمؤرخون طه باقر و حسين أمين و سالم الآلوسي.
فنون تشكيلية
وفي مجال الفنون فقد كان الفن التشكيلي و الفنانون التشكيليون العراقيون يشكلون ظاهرة فريدة في العراق والعالم فلم اجد من كان يضاهي العراقيين من العرب في هذا المضمار فقد كانت المعارض الفنية المنتشرة في بغداد محجوزة لعرض أعمال الفنانين لشهور قادمة مثل قاعة الرواق في السعدون وقاعة وداد الأورفلي في المنصور. فرغم كثرة عدد صالات العرض كانت هناك تظاهرة فنية جميلة أخرى تُحيا سنويا مثل معرض الحزب السنوي وفيه يعرض الفنانون العراقيون أعمالهم سنويا ويحصدوا من خلالها الجوائز و الشهرة وكانت تقام في متحف الفن الحديث في ساحة الطيران الذي كان يعرف قبل ذلك باسم قاعة كولبنكيان وكانت التظاهرات الفنية الكبيرة تقام على قاعاته قبل افتتاح مركز صدام للفنون.
وانا شخصيا كنت من المعجبين باعمال الفنانين حافظ الدروبي و راكان دبدوب و نوري الراوي و شاكر حسن آل سعيد والرسام العراقي العالمي الكبير فائق حسن
بتهوفن
ولابد من وقفة للتحدث عن الفرقة السيمفونية الوطنية التي كانت تعد واحدة من اشهر و ارقى فرق الموسيقى الكلاسيكية في الوطن العربي فقد كانت تحيي حفلات شهرية على قاعات بغداد الشهيرة مثل قاعة الشعب و قاعة الخلد المقابلة للقصر الجمهوري وفي نفس الشارع عندما كان باص مصلحة نقل الركاب العامة رقم 15 كرادة مريم يمر من هناك دون أن يمنعه أحد و يحول خط سيره لدواعي أمنية خوفا على حياة الرئيس. وقد كنت احضر حفلات الفرقة في ذلك الوقت و حضرت مرة حفلا قامت بإحيائه الفرقة و عزفت فيه سوناتات لموزارت و هايدن ثم ختمت ( وهو ما جعلني أتعنى لحضور تلك الحفلة بالذات وانتظرتها طويلا ) بالسيمفونية الخامسة لبيتهوفن و الشهيرة باسم القدر يقرع الباب.
صحافة الأطفال و الشباب
وكذلك من المؤسسات التي تعتبر منارات مضيئة في زمن العراق الذهبي القديم كانت مدرسة الموسيقى والباليه و مكتبة الطفل ( التي اشرف أحد المعمين المتخلفين بعد السقوط على حرق كل كتبها لأن كتبها كانت باعتقاده تمثل فكر العهد البائد ) وكان هناك أيضا دار ثقافة الأطفال التي كنت اعمل بها كاتبا وقاصا ، الحمد لله أنها عاودت الظهور بعد السقوط ولكن بإمكانيات متواضعة ، فقد كانت بوابة جميلة ملونة متنوعة للأطفال تمدهم بالعلوم و القصص و المغامرات و العوالم الطفولية الشفافة و الشخصيات الجميلة عبر مجلة مجلتي و المزمار و الكتب الملونة و المعارض الفنية و مهرجانات الطفولة وكانت صديقة لكل اطفال العراق و انا متأكد من أن قصصها و أبطالها مازال يتذكرها كل من يقرأ هذه السطور الآن، وكان يقودها نخبة من الكتّاب و الفنانين الرائعين الذين يضاهون اشهر فنانين وكتّاب العالم، وكان نتاج هذه الدار نتاج فريد من نوعه في الوطن العربي بطابعه العربي و العراقي الخاص و الطفولي الحالم.
مجلة الشباب و جريدة المسيرة كانت تساهم في البناء الفكري للفتى و الشاب اليافع في تلك المرحلة بإمداده بالعلوم و الآداب و المعلومات و لكن بالطبع كان هذين المنشورين موجهين من النظام لبناء الروح المعنوية للفتى والشاب في سبيل دفعه و توجيهه لخدمة النهج الذي كان ينهجه النظام آنذك وهو بناء إنسان ذو مهارات وأفكار عسكرية و تكتيكية في اطار فكر الحزب الحاكم كأفكار القومية و الاشتراكية والوحدة العربية وغيرها من الأحلام المستحيلة و في مرحلة لاحقة تقولبت لخدمة فكر الديكتاتور و مخططاته العسكرية و التوسعية فقط. فبدلا من أن يحلم الطفل بالزهور و الألوان و الطبيعة و المثل التربوية صار الطفل يتغذى على الروح العسكرية و الحربية و كيفية حمل البندقية والقتال و التفجير.
العراقيون و الشهادات و السفر
كل شاب عراقي كان إثناء دراسته في الإعدادية يجّد في الحصول على مقعد مهم في الجامعة التكنولوجية أو جامعة بغداد أو في الجامعة المستنصرية فقد كانت لكل شباب تطلعات بعيدة المدى في الحصول على الشهادات العليا في أي اختصاص يرغب به سواء كان في الآداب أو العلوم الإنسانية أو العلوم الصرفة ، إذ لم يكن ممنوعا في العالم على العراقيين آنذاك أن يدرسوا العلوم الذرية أو هندسة الصواريخ أو لغة اوراكل6 فلم يكن عليهم حصارا اقتصاديا أو علميا أو حظرا جويا للطيران ولا حظرا على السفر أو على البيبسي كولا أو البقلاوة ، فلم يكن هناك أي حظر عليهم لا اقتصادي ولا جوي و لا داخلي ولا خارجي في السبعينات.
كان العراقيون كبقية مجتمعات العالم يطورون مهاراتهم و يسعون لتحصيل أعلى الشهادات و الدراسات في الجامعات العراقية أو الجامعات العالمية أو البعثات الدراسية.
كنا نسافر إلى دول أوربا و الدول العربية وكان مرحبا بنا أنّى ذهبنا وحللنا فلم يكن العالم يأبه من أين أنت أو من أنت ولماذا جئت.
وكان العراقيون محبوبين و مرغوبين حتى من الجنس اللطيف في أوربا و أكثر من ذلك لم يكونوا معروفين تماما لأن العراق لم يسمع به الكثير من الأوربيين عدا السياسيين و المخططين المستقبليين لسياسات الدول و العالم.
سنباد
من طريف ما حصل معي إنني كنت في بلغراد عاصمة يوغسلافيا السابقة عام 1978 وكنت أساعد سيدة مسنة لعبور جادة هناك، فسألتني السيدة باللغة الصربية سؤالا لم أفهمه ولكنني أفهمتها باللغة الإنكليزية بانني لا أتكلم الصربية فعرفت المرأة العجوز بانني لست يوغسلافيا و أعادت السيدة السؤال بإنكليزية ضعيفة وكان عن أصلي و من أين جئت فأجبتها بأنني عراقي.
ولكنها عادت تستعلم
- من إين ؟ إيران ؟
قلت لها :
- لا من العراق
فبدا عليها الضياع لأنها لم تسمع بالعراق من قبل ولكنها سمعت بإيران ولكنني عندما قلت لها بغداد خرجت من دوامتها و صاحت :
- اوووووه نعم بغداد ، سنباد وعلي بابا
فقلت لها فرحا:
- نعم سنباد وعلي بابا والف ليلة وليلة
(سنباد بالإنكليزية = سندباد بالعربية)
ولم أتخيل حينها بان علي بابا نفسه هو الذي سيكون ذلك الإرهابي و اللص الذي سيقف لكل العراقيين فيما بعد في أبواب كل مطارات الدنيا ليشير إلى أصحابها بأن هؤلاء العراقيون هم جماعتي فاحذروهم وامنعوا دخولهم ولا تمنحوهم سمة دخول إلى بلدانكم .
ولم أعرف ساعتها باننا و يا للأسف سنوصم بعلامته ذات الجمجمة و العظمتين.

العلم للجميع
الإقبال على العلوم و الهوايات العلمية كان في أوجه وقد تزعمه شخص اعتبره العراقيين جميعا أبو العلوم و الحركة العلمية في البلد والقائد لها فبالرغم من انه لم يكن لديه إنجازا علميا واحدا كاختراع أو ابتكار أو نظرية إلا أن ( كامل الدباغ ) كان رمز العلم و العلماء في العراق بسبب شهرته العلمية لبرنامجه الشيق في تلفزيون بغداد " العلم للجميع " وكان يعرض كل يوم أحد ليجلب للمشاهدين في بغداد و المحافظات التي يصل لها البث التلفزيوني الأرضي ( بالأبيض و الأسود آنذاك حتى وصل إلى الملون عام 1976 ) احدث أخبار العلم و الاختراعات و الاكتشافات و الأحداث العلمية. ليس هذا و حسب بل انه أسس في العام 1970 مركزا للرعاية العلمية في بغداد وجمع به كل الشباب المبدعين و المبتكرين و هواة العلوم في كل مجالات العلوم كالفلك والفيزياء و الكيمياء و علوم الحياة والجيولوجي والكهرباء و الإلكترونك و التصوير الفوتوغرافي و صناعة نماذج الطائرات والسفن المصغرة و هواية الميكانيك وكنت محظوظا بأنني انتميت منذ عام 1973 إلى هذا المركز العلمي والى قسم الفلك بالذات لأنها كانت هوايتي المحببة التي اكتشفت حبي وتعلقي بها قبل ذلك بسنوات و كان هذا المركز يمثل اكتشافا عظيما بالنسبة لي ولطموحاتي في هذه الهواية وكأنها هوليوود بالنسبة لممثل مبتدئ طموح.
الحقيقة أن هذا المركز كان له الفضل الأكبر علي في تكوين شخصيتي و اتجاهاتي الفكرية العلمية و العملية سواء في العثور على أصدقاء جدد يشاركونني بنفس الأفكار و المعلومات و تبادل الخبرات و الأخبار أو بتحديد اتجاهي في الحياة ورسم خطتي المستقبلية و ما تبعها من أحداث فيما بعد.
بدأ هذا المركز الذي انتشرت فروعه فيما بعد في بغداد و المحافظات بالتدهور للأسف بعد انسحاب عراب الهواة و أستاذهم كامل الدباغ و استقالته عام 1978 بعد أن تم ( تحزيب ) المركز و عسكرته وذلك بإلحاقه بمنظمة الطلائع و الفتوة و الاتحاد العام لشباب العراق الذي كان واجهة شبابية لحزب البعث ولكن هذا الاتحاد كان في حقيقته منظمة لعسكرة أفكار الأطفال و الفتيان والشباب و تجنيدهم لخدمة حروب الوطن و حروب القائد.
وللرياضة شجون
كما كان الأحد هو يوم كامل الدباغ فأن يوم الثلاثاء كان يوم أبي زيدون و اعتقد إنكم حزرتم من اعني فان كل العراقيين يعرفون من هو أبو زيدون؟ نعم أنه مؤيد البدري شيخ المعلقين و أبو الرياضة في العراق الذي كان صوته يصدح في كل تلفزيون وراديو في العراق وهو يعلق على مباريات كرة القدم التي يعشقها العراقيون و خصوصا عندما يلعب منتخبنا لعبة دولية أو نهائية ، فتجد أن الجميع من شباب و أطفال و أمهات و بيبيات تتأجج مشاعرهم و يتعصبون ثم يهدئون ثم يقفزون ثم يفرحون ثم ينفعلون متفاعلين مع نبرة صوته و بناءا عليها وعلى وصفه للمباراة.
وكان برنامجه " الرياضة في أسبوع " و الذي لا يقل شعبية عن برنامج العلم للجميع بل يفوقه -لأن العراقيين شعب رياضي اكثر من كونهم شعب علمي - يوحد كل أفراد العائلة أمام الشاشة الصغيرة " محطة تلفزيون بغداد و سميت بعد ذلك بالقناة الأولى " التي كانت المنفذ الوحيد للعراقيين لتلقي الأخبار الطازجة و رؤية أعاجيب العلم والرياضة و المباريات و الأفلام. كان الجميع ينتظر أن يشاهد تايتل البرنامج و ما أن يسمعوا موسيقى البرنامج الأفتتاحية (موسيقى افتتاحية أوبرا حلاق اشبيلية لروسيني) أطمأنوا بأن الساعة قد دقت التاسعة و قد حان وقت البرنامج. وفيه يطلع العراقيون على كل أخبار الرياضة و أخبار المنتخبات العراقية والدولية و جداول المباريات و مقاطع من المباريات العالمية ككرة القدم والساحة و الميدان و كرة الطاولة والسلة و التنس وغيرها وكذلك اللقاءات مع اللاعبين والمدربين و الوفود الرياضية الأجنبية والعربية و تحليلات لألعاب و أهداف كروية و اجمل ما كان يقدم في نهاية البرنامج هو مقطع من احدى عروض الرقص على الجليد.
لقد اصبح هذا البرنامج وبرنامج العلم للجميع من تراث البغداديين المعاصرين الذين ما أن تذكرهم بالسبعينات حتى يذكرون لك هذا الدويتو الرائع المتمثل بـ ( مؤيد البدري و كامل الدباغ ).


رئة البغداديين
اعتقد عرفتم قصدي فعندما أقول رئة بغداد فأعني المتنفس و أعني الهواء والماء و الخضراء و الوجه الحسن وطبيعي أن أبناء الجيل الحالي و اللذين لا يتذكرون السبعينات و كانت فترة شبابهم قد عاصروا فيها سنوات الثمانينات فستتجه أفكارهم مباشرة إلى متنزه الزوراء وهو متنزه رائع ايضا أتحفتنا به أمانة بغداد في منتصف السبعينات بعد أن بدأت أمور مدينة الألعاب القديمة التي افتتحت في منتصف الستينيات في منطقة زيونة تؤول إلى الإهمال و التدهور رغم انها كانت من أضخم مدن الألعاب في العالم.
ولكنني عندما أقول رئة البغداديين فإنما اعني شارع أبي نؤاس وهذا بالتأكيد ما اتجهت إليه ذاكرة من عاشوا فترة الشباب معي في السبعينات.
اعتقد أن لكل عراقي ذكريات حلوة في هذا الشارع الذي يمتد على شواطئ دجلة بدءا من جسر الجمهورية و حتى الجسر المعلق في زوية الكرادة و تجد على رصيفه الأيمن من جانب الشط تشمخ بجمال أخاذ أنواع الأشجار و الورود و عطرها الذكي المختلط بنسيم دجلة ورائحته المنعشة وفي هذا الجانب و ما بين الرصيف و النهر ستجد الكازينوهات التي تقدم الشاي و الشاي بالحليب و القهوة والمرطبات و وسائل اللهو البريء كالألعاب الشائعة مثل الشطرنج و البليارد و الدومينو والطاولي ومن هذه الكازينوهات اذكر كازينو السلام و البيضاء والخضراء و الحمراء و الكازينو البغدادية وستجد بجانب هذه الكازينوهات هناك مطاعم السمك المسكوف الذي اشتهر به العراقيون فقط والمشويات (التكه و الكباب والمعلاك و الضلوع و الباچه) ولم تكن النركيلة منتشرة في حينها بين الشباب و الشابات بل فقط بين الرجال المسنين ممن تعودوا عليها وكانت موجودة في الكازينوهات و المقاهي من أجلهم فقط ولا يمكن لأي شاب مدخن أن يتجرعها فلم يكن تبغها معسل أو بنكهات التفاحة والتفاحتين أو الكرز أو النعناع كما هو الحال اليوم ،هذا إضافة إلى انك ستجد بعد هذه الكازينوهات و باتجاه نهر دجله حزام أخضر آخر يسير موازيا مع النهر و هو حزام من الحدائق و المتنزهات الخضراء المشجرة و الورود الجميلة الملونة و أماكن لجلوس العائلات و الأشخاص وملاعب الأطفال وهي عامة للجميع و تلامس أطرافها نهر دجلة وطبعا كل هذه الحدائق و المتنزهات مزدانة ليلا بأضواء جميلة ساحرة إضافة إلى أضواء الكازينوهات و أصوات أغاني أم كلثوم و عبد الحليم وياس خضر و يوسف عمر وغيرهم تصدح منها و صخب الناس فيها و هرج الأطفال و مرحهم و ضجيج السيارات وهكذا تستمر الحياة و الونسة البريئة إلى ساعات متأخرة من الليل بدون أي مقاطعة.
ستجد أيضا وفي الجانب الآخر من الشارع أمورا مختلفة تماما عن جانب الشط و هو جانب السعدون ( أي الرصيف المقابل ) إذ تنتشر فيه على طول الشارع ، الحانات و البارات التي تقدم العرق العراقي و البيرة العراقية و الأنواع الجيدة من الويسكي السكوتش وكذلك ستجد الفنادق السياحية المحترمة و مطاعم الباچه و المشويات و الگص والكبة ولم تكن مطاعم الفلافل منتشرة كثيرا وإنما انتشرت في التسعينات أيام الحصار الاقتصادي نظرا للكلفة المتواضعة لهذه الأكلة الشعبية إضافة لنكهتها وطعمها اللذيذ وحب العراقيين لها وينطبق عليها بالضبط المثل العراقي الشهير " خبز باب الآغا حار ومكسب ورخيص " . وكذلك ستجد على هذا الجانب بعض الدوائر الحكومية مثل الدوائر التابعة لشرطة المرور أو الجيش و بعض قاعات عرض اللوحات الفنية كمعارض لأعمال الفنانين و كذلك ستجد فروعا ضيقة و مظلمة تؤدي إلى شارع السعدون التي لم أكن أغامر بالولوج إلى بعضها ليلا عندما أكون بمفردي رغم كون الوضع كان آمنا ولكن خوفا من هجوم بعض المنحرفين أو المجرمين الثملين والمسلحين ( المسلحين بسكاكين صغيرة طبعا وليس برشاشات أوتوماتيكية كما هو الحال اليوم ).
ستجد أيضا أن بعض الدول و المنظمات كانت تتسابق للفوز بمبنى تستأجره لتتخذه مركزا لها في ذلك الجانب من شارع أبي نؤاس نظرا لجمالية المكان و موقعه التجاري و قربه من مركز العاصمة والفنادق و المطاعم و الحانات. فتجد مثلا بأن هناك تقع بناية برنامج التنمية التابع لمنظمة الأمم المتحدة ، و كذلك المركز الثقافي السوفيتي و المركز الثقافي الفرنسي و وكالة الأنباء العراقية واع البناية ذات الخمسة عشر طابقا و نادي الإعلام والذي كنت ارتاده كثيرا ويقع في نفس البناية و قبله في أوائل السبعينات كنت ارتاد كثيرا المركز الثقافي السوفيتي حيث كنت ارتاد مكتبتهم و لكي العب الشطرنج أو احضر عرضا سينمائيا ثقافيا و أحيانا ارتاد المعهد الفرنسي ولكن اكثر من هذين المركزين كان اهتمامي هو تمضية الكثير من الوقت في مكتبة المركز الثقافي البريطاني ( الذي كان موقعه في الوزيرية خلف السفارة التركية ) لأنه المكان الوحيد الذي كنت استطيع أن اجد فيه احدث الإصدارات من الكتب والمجلات.
على نفس الجانب من أبو نؤاس ( جانب السعدون ) يمكن أن نجد واجهات لمنازل عوائل بغدادية عريقة و معروفة و معظمهم من العوائل المسيحية و هي بيوت (فلل) ذات طرز قديمة إنكليزية و يهودية و تركية رائعة الجمال ولكنها مهملة للأسف و معظم سكانها هجروها منذ أواخر السبعينات باعتقادي
الشيء الجميل بخصوص هذا الشارع انه كان يبدو هادئا في النهار إلا من بعض السيارات التي تمر به و بعض المارة و بعض العشاق الذين كانوا ينزوون بين الأشجار بعيدا عن أعين الفضوليين أو قد تجدهم وقد احتلوا مقاعدا (في الركن البعيد الهادي ) ، و تجد هناك أيضا بعض عمال النظافة و المزارعين ( الحدقجيه) لا اكثر، ولكن وما أن يبدأ وقت العصر و خصوصا في فصلي الصيف و الربيع حتى تجد أن هذا الشارع قد دبت فيه الحياة و الحركة و الزحام , الكازينوهات و المطعام و الحدائق على جهة النهر تمتلئ بالشباب و العوائل و الأطفال. البعض من العوائل و المجاميع كانوا يأتون مباشرة لقضاء العصرية و المغربية و الليل في أبي نؤاس و البعض يخرج من دور السينما في شارع السعدون بعد فترة العرض التي تنتهي في السادسة مساءا أو بعد فترة العرض التي تنتهي في التاسعة و يتجهون ليكملوا سهرتهم في أبي نؤاس فمنهم من يجلس في الحدائق و منهم من يتعشى في المطاعم المنتشرة هناك ومنهم من يجلس في الكازينوهات والمقاهي أفرادا و عوائل و تجد في الجانب الآخر شبابا بكامل أناقتهم ونضارتهم و وسامتهم و هم يدخلون إلى الحانات ليخرجوا بعدها أجدع ناس وقد غادرت بعضهم النضارة و الوسامة و الأناقة و هم منطلقون منتشون بما احتسوا من نبيذ و عرق و بيرة و لكن نشوتهم هذه و فرَّة الدماغ التي يشعرون بها لم تكن لتجعلهم يتجاوزون حدود الأدب ليتعرضوا أو ليزعجوا العوائل المتواجدة في نفس الشارع حتى ولو في ساعات الليل المتأخرة , فالكل يعرف حدوده و شرطة النجدة متواجدة أيضا وسياراتهم السوداء البونتياك كانت جديدة و جاهزة لإيصال الضيوف المشاكسين دائما إلى مركز الشرطة.
عندما نقضي الليل في ابي نؤاس أنا و أصدقائي كنا عادة نعود إلى بيوتنا (كنا في منطقة الفضل وشارع الكفاح ) مشيا على الأقدام قاطعين المسافة التي تبلغ حوالي ستة كيلو مترات من هناك في ساعات الصباح الأولى بعد منتصف الليل رغم توفر كل وسائط النقل و الحكومية منها أيضا (مصلحة نقل الركاب العامة) حتى ساعات الصباح الأولى ، فكنا نتمشى حبا بالدردشة و النقاش على الماشي و حبا بالمشي كرياضة و للاستمتاع بالوقت في شوارع تكون في تلك الساعات قد بدأت تخلو من الازدحام و المارة و السيارات ودخان عوادمها.
كومبيوتر بغداد الشخصي
قد يتعجب من يقرا العنوان كيف كان يوجد كومبيوتر شخصي في ذلك الوقت ؟
لم تكن بغداد تخلو من الكومبيوتر في السبعينات بل أن أول من جلبه إلى بغداد و استخدمه هي دائرة الكهرباء وكانت موجودة في ساحة الميدان ثم أضيفت حاسبات أخرى في دوائر الكهرباء الأخرى وكان هذا في وقت لم يكن فيه الحاسب الشخصي قد اخترع بعد ولكن ما أعنيه هنا بكومبيوتر بغداد الشخصي هو شيء آخر ليس ميتا و باردا كالكومبيوتر الذي نعرفه بل ينبض بالحياة و الحركة و يفوح منه عبق التأريخ والذكريات. إنه شارع المتنبي و سوق السراي
كان هذا الشارع العريق هو منبع المعلومات بالنسبة للبغداديين ففيه اقدم واهم محلات بيع الكتب و المجلات الحديثة والقديمة و كان ايضا مركزا للنشر و الطباعة و بذلك يكون اهم موقع لأستقاء المعلومات لكثرة محلات و مكتبات بيع الكتب و المجلات و هو أيضا شارع اثري عريق وفيه السراي العثماني و محكمة جنح بغداد إثناء الثمانينات و بعدها صارت مخزنا لوثائق وزارة العدل وهي في الأصل المدرسة العسكرية الرشدية منذ زمن العثمانيين وهي كذلك الآن كأثر تأريخي.
في أواخر الستينات كنت طالبا في الخامس الابتدائي وكنت آخذ مصروفي اليومي واذهب به متمشيا من منطقة الفضل قاطعا شارع الكفاح باتجاه ساحة زبيدة ثم شارع الأمين وعبر شارع الجمهورية وساحة الرصافي ( لم يكن قد اطلق عليها تلك التسمية بعد حيث لم ينتصب تمثال الرصافي فيها بعد ) ثم شارع الرشيد و ألج الى شارع المتنبي. كل يوم في العطلة الصيفية المدرسية كان هذا ديدني حيث اتجه إلى سوق السراي لأنتقي بيوميتي التي كانت تبلغ عشرون فلسا و أحيانا خمسون ، الأعداد القديمة التي لم اقرأها سابقا من مجلة سوبرمان أو الوطواط (باتمان) أو فرقة الأبطال الجبابرة و أحيانا المغامر أو طرزان و بعد ذلك اعود إلى البيت لأستمتع بقراءتها وأنا مسترخي على القنفة المحاذية لشبابيك شناشيل بيتنا البغدادي القديم في محلة خان لاوند في منطقة الفضل.
وفي كل مرة كنت اذهب بها إلى سوق السراي عبر المتنبي كانت تمر في انفي روائح ذكية هي خليط من الروائح التي كانت تفوح من مطعم كص وكباب مطعم الإخلاص الذي كان في الشارع و المعروف أيضا باسم مطعم الزاير مع رائحة كاهي المتنبي الشهير هذه الروائح تختلط بروائح حبر المطابع و رائحة الورق والأقلام و القرطاسية والحقائب المدرسية و تيزاب الصاغة من سوق الذهب و شريس مجلدي الكتب، هذا المزيج من الروائح الذي كنت اتنشقه كل صباح في رحلتي اليومية إلى سوق السراي صار احدى العلامات المسجلة و المميزة لهذا الشارع في ذاكرتي و نظرا لحبي لما اقرأ و حبي لهؤلاء الأبطال الذين اقرأ بطولاتهم الخيالية في المجلات مثل سوبرمان و الوطواط (باتمان) و غيرهم من الأبطال عشقت و تعلقت بالمطالعة و حب المعرفة و العلم و الفن و الأدب و حب الخير لقد أعطاني هؤلاء الأبطال الكثير من المثل و القيم العليا رغم انهم أبطال خياليون و مصنوعون بأفكار أمريكية ولكنني ممتن لهم لأنني بسببهم أحببت الرسم و الكتابة والتأليف و المطالعة و حب الخير و مبادئ عليا كثيرة. وحتى بعد بلوغي مرحلة الشباب و الدراسة آنذاك وتطور مستوى مواضيع مطالعاتي و اختيار الكتب و المجلات بما يتلاءم و سني و مستواي الدراسي إلا انني لم اترك أبطالي و المجلات التي تصور بطولاتهم حتى بعد أن بدأت بقراءة المجلات و الكتب العلمية مثل مجلة دنيا العلم و طبيب العائلة و طبيبك و مجلة المعرفة و مجلة العلم و الحياة و كذلك القصص العالمية و العربية مثل مؤلفات فيكتور هوكو و الاسكندر دوماس و ارنست همنغواي و ليو تولستوي و نجيب محفوظ و إحسان عبد القدوس و غيرهم.
لم يكن في ذلك الزمن كومبيوتر ولكن كنا نستخرج المعلومة التي نحتاجها بالبحث المضنى للمراجع و لمصادر الكتب و المجلات و مراجعة المكتبات العامة المنتشرة في بغداد و المكتبة الوطنية و المكتبة المركزية لجامعة بغداد أو المستنصرية و المكتبات العامة المنتشرة في بغداد و كذلك أتذكر المكتبة الرائعة الضخمة التي كانت في داخل جامع الخلاني والتي كنت أرتادها كثيرا و التي أغلقت بأمر من النظام البائد بعد عام 1979.
ولم يكن هناك مستقبلات الأقمار الصناعية التلفزيونية أو قنوات فضائية أو سي دي أو دي في دي فكنا نتابع الجديد من الأفلام بالطواف على دور السينما ومشاهدة ملصقات الأفلام التي هي قيد العرض أو التي ستعرض في الأسبوع القادم أو الفلم الذي يوضع في فاترينة "قريبا جدا" . وكذلك كنا نتابع ما تجودا به علينا قناتا تلفزيون بغداد وقناة 7 (وكانتا القناتين التلفزيونيتين الوحيدتين في العراق) من أفلام ومسلسلات اجنبيه و عربية وبرامج تلفزيونية فنية وثقافية وبالطبع كان الفلم الذي يعرض من خلالهما من الأفلام التي اكل عليها الدهر وشرب و رغم ذلك لن يعرض إلا وقد عمل به مقص الرقيب العجب العجاب.
ولم يكن هناك ألعاب كومبيوتر أو بلاي ستيشن وهذا مما لا أتأسف عليه ابدأ لأننا عشنا في زمن كان يزدهر به الشطرنج و الكتاب و المجلة و قلم الرصاص الرائع ورائحته ورائحة المقطة و الممحاة و علبة الألوان المائية و أصابع الباستيل الزيتي و ورق الكانسون الفرنسي و أنابيب الألوان الزيتية الروني الإنكليزية الإيطالية و الفرنسية و مسجلات الستيريو الناشونال والسانيو والأكاي والرايزنك اليابانية و الستيريو الفيليبس الهولندي. و التلسكوبات الفلكية و ولم يكن هناك شيء مسجل عليه تلك الماركة التجارية البغيضة صنع في الصين إلا ما ندر.
كنا نحيا في الزمن الجميل ( كما يقال في روتانا زمان ) وانا أقول كنا نحيا في الزمن الحالم البطيء المتأني الذي كان لي فيه متسع من الوقت للرسم طوال الليل على صوت أم كلثوم و فيروز وحتى يحين وقت زقزقة العصافير في الصباح وعندها ورغم السهر الصبّاحي ارتدي وبكل نشاط ابهى ملابسي و أتعطر بأذكى عطوري الفرنسية لأسرع بلهفة واشتياق للقاء حبيبتي وانا نشط جدا وممتليء بالطموحات و الأحلام وكأنني لم اسهر حتى الصباح بدون أن يغمض لي جفن.
كان لدينا المزاج و الوقت لقراءة كتب ضخمة مثل البؤساء و الشيخ و البحر و احدب نوتردام و الفرسان الثلاثة و شكسبير و ديستوفيسكي و تولستوي و الحب في زمن الكوليرا بشوق و نهم و رغبة.
كان لدينا حب اقتناء القرطاسية المختلفة كأقلام الحبر الانيقة المصنوعة من المرمر و الستيل و من الماركات العالمية الشهيرة و الثمينة مثل ماركات باركر و شيفرز الأمريكيتين و وترمان الفرنسي و بلاتنيوم الانكليزي
كانت هناك الدفاتر و القرطاسية اليابانية الأنيقة الزاخرة بألوان حالمة و أغلفة رائعة تفوق الوصف للأسف لم يلحق أن يراها حتى أبناء الثمانينات.
أما ورق تغليف الدفاتر والهدايا و الكتب المدرسية الياباني الملون الحالم فهذا قصه بحد ذاته، لقد كان من الجمال و الروعة بما يجعلك هاويا لجمع كل أنواعه من اجل الرسومات و التصاميم الجميلة التي عليه و الطباعة المتقنة بألوانه الحالمة بحيث انك تتمنى أنك تستطيع أن ترسم مثلها فكنا نجمع الكثير منها و نحتفظ بها لأنها كانت عبارة عن قطع فنية رائعة.
كان كل شيء في سوق السراي و شارع المتنبي جميلا و متوفرا و سعره مناسب و من مناشيء وماركات عالمية جيدة وكان هذا يمكن أن تجده ايضا في محلات ومكتبات عديدة أخرى منتشرة في بغداد كشارع السعدون و الباب الشرقي و الكرادة و المسبح و المنصور والعرصات وهذا طبعا كان ينطبق على اغلب السلع الاستهلاكية كالملابس و العطور و الغذاء و الدواء والمشروبات و السكاير والأدوات الاحتياطية والكهربائية و المنزلية ولكنه لم يكن ينطبق على السيارات والأسلحة الشخصية و الجرارات والمكائن الزراعية فكانت هذه و الكثير من السلع المشابهة تخضع لقيود كثيرة .
للأسف فقدنا كل ذلك فجأة حال دخولنا سنة 80 و كانه أمرٌ دبر بليل.



#صالح_حبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أخلاق إسلامية بلا إسلام


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صالح حبيب - رحلة في ذاكرة بغدادية - سبعينات القرن العشرين 1970 - 1979