أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جمال البنا - من هو جمال البنا ؟وما هي دعوة الإحياءالإسلامي ؟















المزيد.....



من هو جمال البنا ؟وما هي دعوة الإحياءالإسلامي ؟


جمال البنا

الحوار المتمدن-العدد: 3282 - 2011 / 2 / 19 - 09:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أضواء على فكر جمال البنا
ــــــــــــــــ
ألف الناس أن يكون من يتصدى للحديث عن الإسلام شيخًا وقورًا يضع على رأسه (عمامة) إذا كان مصريًا أو (غطرة) إذا كان سعوديًا ، ويتشح بجبة أو عباءة ، ويحمل جبينه (زبيبة الصلاة) ، ويمسك في يده سبحة ، ويبدأ حديثه بالبسملة والصلاة على الرسول e وجمل أخرى طويلة ، لهذا كان ظهور جمال البنا في هذا المجال صدمة للبعض ، وأمرًا غير مفهوم للآخرين ، فهو حليق ، عاري الرأس ، لا يحمل جبينه زبيبة الصلاة ، ولا يمسك في يده سبحة ، ولا يبدأ حديثه بتلك الجمل الطويلة الممطوطة المألوفة ، وهو لا يلبس جبة كالشيوخ ، ولا بدلة كسائر الناس ، ولكنه يلبس زيًا موحدًا فريدًا ، ولم تطأ قدمه الأزهر .
لم يُعن جمال البنا بالشهرة ، وكان يعمل وحيدًا بعيدًا عن الأضواء ، كما أنه لم يشغل منصبًا هامًا ووظيفة بارزة ، ولم يذكر اسمه بالصحف أو الإذاعة .. الخ ، وبدا لهم كما لو أنه سقط عليهم من السماء أو انشقت عنه الأرض ، فلم يكن غربيًا أن ينعكس ذلك على شـعور الناس نحوه ، وتجلى هذا في التخبطات التي أحاطت به رجمًا بالغيب ما بين أنه شـاب غرير ، وشيخ مخرف ، وأنه علماني ، وأنه هاو شهرة ، ويثير بلبلة .. الخ ، وكتب إليه أحدهم في البريد الإليكتروني ، قبل أن تتحدث في الدين : (ربي ذقنك) .
لقد قرر جمال البنا عندما لمس هذه الآثار السيئة على الدعوة التي ينادي بها أن يُعرف الجمهور عليه ، وإن كان قد آثر أن يتحدث بضمير الغائب لا بضمير المتكلم لأنه كما قال : (إن طبعي ينفر من الحديث عن نفسي ، بل إنه يستعصى علىَّ ، ولأن القضية أصلاً قضية موضوعية والحديث عن النفس لابد وأن يلقي ظلالاً ذاتية عليه ، ولأن الكتابة بضمير الغائب تطلق المجال لدي القارئ في حين أن الحديث بضمير المتكلم يغلق الباب ) .
* * *
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
[1]
جذر إسلامي متميز
ولد جمال البنا في أسرة مسلمة ، كان الإسلام هو القضية المحورية في الفردين النابغين فيها ألا وهما رأس هذه الأسرة الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا وابنه البكر الإمام الشهيد حسن البنا .
وهذا العمل الإسلامي كان له طابع خاص اكتسبه من طبيعة وشخصية هذين اللذين توافر لهما عاملان استثنائيان ، الأول : علو الهمـة ، والثاني : قوة الإرادة ، فعندما بدأ الشيخ أحمد عبد الرحمن مشروعه الفكري العظيم عن تصنيف وشرح مسند الإمام أحمد بن حنبل ما كان أحد من الأئمة الأعلام قد فكر في ذلك منذ أن وضع الإمام أحمد ابن حنبل مسنده حتى ألف عام ، أي من القرن الثالث الهجري حتى القرن الثالث عشر الذي بدأ فيه الشيخ البنا مشروعه ، ولكي نفهم ما هو هذا العمل نقول إن الإمام أحمد بن حنبل هو إمام الأئمة في الحديث النبوي ، وقد ضم في مسنده قرابة ثلاثين ألف حديث مما لم يكن واردًا وقتئذ في أي مرجع آخر ، ولكن هذه الأحاديث لم تكن مرتبة على أساس الموضوعات الفقهية ولكن على أساس المسانيد ، فكل الأحاديث التي روتها السيدة عائشة مثلاً في باب ، وكل الأحاديث التي رواها عبد الله بن عمر بن الخطاب في باب آخر وهلم جرا ،ولا يلحظ موضوع الحديث فيذكر حديثـًا عن الصلاة يتلوه حديث عن غزوة بدر ثم حديث عن مناسك الحج .. الخ ، وعطلت هذه الواقعة الاستفادة من المسند كمرجع فقهي ، ولم يفكر أحد خلال الألف عام القيام بذلك ، وحاول ابن كثير وقال "مازلت أنظر فيه والسراج ينونص حتى كـُـف بصري" ، وليس لدينا شيء عما عمله ابن كثير ، وقد قام الشيخ أحمد البنا بذلك فصنفه أبدع تصنيف على أساس كتب ثم أبواب ثم فصول تبعًا لأبواب الفقه ، ثم لم يقنع بهذا ، بل وضع شرحًا له يعادل المتن بأسلوب سائغ تناول فيه السند وغريب الألفـاظ ، والتخريج ، وهو أهم شيء في الحديث لأنه يعني درجة الحديث ، وهل هو صحيح ؟ فيعـد مرجعًا يؤخذ منه الحكم ، أو ضعيف ويذكر أحكام الباب في المذاهب الأربعة وغيرها .. الخ ، واستغرق هذا منه خمسة وثلاثين عامًا هي سحابة النصف الأول من القرن العشرين .
يماثل هذا العمل العظيم الفريد العمل الذي قام به الابن البكر الإمام حسن البنا ، إن تكوين الإخوان المسلمين في عشرين عامًا كان معجزة ، وكان دليل عبقرية منشئها لأن هذه الهيئة صمدت أمام عداوة حكام مصر من الملك فاروق حتى جمال عبد الناصر حتى السادات حتى مبارك ، وبقيت وذهب هؤلاء .
وهذا هو ما نعنيه بعلو الهمة فلم يتصديا لأمر صغير ، ولا لقضية سبقت معالجتها ، ولا لأمر يحقق كسبًا شخصيًا ، سواء كان مالاً أو منصبًا أو شهرة ، كان العمل عظيمًا وجديدًا أصيلاً ، وكان له دوره الضخم ولم يقترن هذا بأي كسب مادي .
أما عن قوة الإرادة ، فذلك لأن كل واحد منهما كان يبدو آخر من يمكن أن يقوم بذلك ، فلم يكن لدي أي منهما عندما بدأ عمله الشهرة أو المكانة أو الجاه أو المال ، ولم يطأ أحد منهما الأزهر ، فضلاً عن أن يتخرج منه ويرزق معونته ، إن الأزهر يخرج سنويًا عشرات الألوف من العلماء دون أن يفكر واحد منهم في مثل ما قام به الشيخ البنا ، بل إن الأزهر نفسه بقضه وقضيضه كان يعجز عن هذا الإنجاز العظيم ، وبالمثل فما أكثر معلمي اللغة العربية في المدارس الابتدائية ، فهل كان يتصور أن أحد هؤلاء المعلمين ــ وفي غير القاهرة ــ يمكن أن يؤسس الإخوان المسلمين .
كان الشيخ البنا عندما بدأ مشروعه ريفيًا ترك القرية بعد أن حفظ القرآن في الكـًُتـَّاب ثم ذهب إلى الإسكندرية ليشترك في دراسات إسلامية حرة كانت تلقى في جامع القائد إبراهيم حتى ألم بمفاتيح المعرفة الإسلامية ، ولم يتمكن أو يتعمق أو يواصل الدراسة ، وكان يمكن أن يستصغر ما حصل عليه أمام ما أراد الوصول إليه ، وبعد هذا كله ، فإنه لكي يضمن عيشه احترف إصلاح الساعات التي كان يمارسها كنوع من الترويح بعد مواصلة القراءة والكتابة .
وتصوروا معي الموقف عندما عقد العزم على هذا العمل العظيم ، فقد كان واضحًا أنه سيأخذ عشرين أو ثلاثين سنة (وعمليًا شغله 35 سنة) ، فكيف يبدأ مشروعًا يرتهن ثلاثين عامًا من عمره ؟ ثم لو فرضنا أنه أتمه ، فماذا يفعل به وهو رجل مجهول يعيش في أحد أزقة القاهرة ، ولا علاقة له بالأزهر ولم يدخله يومًا ، ولم يعن بأن تكون له صداقات أو علاقات بهذه المؤسسة التي تمثل الإسلام أو غيرها ، هذا أمر لم يكن متصورًا ، ولكن الشيخ البنا فعله ، بل قام بطبعه أيضًا فطبع 22 جزءًا ، وهو الرجل الفقير الذي يعول أسرة كبيرة ، ولا علاقة له بعالم الطبع والنشر ، هنا تظهر قوة الإرادة ، وقهر كل عقبة ، لقد اشترى عددًا من الحروف يكفي ملزمة أو اثنتين وشغـَّـل عاملاً ماهرًا في جمع الملزمة ثم يرسلها إلى مطبعة قريبة فتطبعها ، ويستمر هذا حتى يتم الجزء الأول ويبدأ في الجزء الثاني حتى وصل إلى منتصف الجزء الثاني والعشرين ، ولأنه لا يعرف الناشرين ويرى أنهم "لصوص" فإنه كان يحتفظ بما يطبع في مخزن مكتبه ، وكان دورًا أرضيًا فسيحًا في بيت قديم في حارة الرسام التي تتفرع من شارع المعـز لدين الله وعلى رأسها جامـع الفكهاني ، ولا يبيع إلا من يأتي لطلبه بعد أن تعرف عليه البعض ، وعندما توفي فإنه ترك لورثته مخزنـًا مملوءًا بـ "الفتح الرباني" من الجزء الأول حتى الجزء الثاني والعشرين .
عمل مستحيل بكل المعايير ، لا يمكن أن ينهض به فرد مهما كانت إمكاناته ، ولكن الشيخ البنا أتمه بالفعل ، وهذا هو ما نسميه "علو الهمة وقوة الإرادة" ، فما كان له أن يسمو إلى مثل هذا العمل ، ولا أن يتغلب على عقبات إظهاره إلا إذا كان الله تعالى قد أنعم عليه بنصيب وافر من هذين "علو الهمة وقوة الإرادة" .
ونتيجة لهذا اتسم عمله بطابع من الأصالة والإبداع والعصامية والتميز .
وهذه الصفات أيضًا هي ما اتسم به عمل حسن البنا ، فقبل حسن البنا كانت الدعوة الإسلامية تأخذ شكل جمعيات خيرية محلية تقوم على الوعظ والإرشاد ، كل واحدة في حالها ، منقطعة عن الأخريات حتى ظهر حسن البنا ، كانت "الإخوان المسلمين" التي أسسها حسن البنا سنة 1928 في الإسماعيلية من ستة من عمال القناة اختارهم من المقهى وليس من المسجد ، ولكن الغريب والذي ما كان متصورًا أن هذه النبتة الوهنانة ظهرت في القاهرة بعد عشرين عامًا كهيئة دولية لها في مصر 500 شعبة ، ولها فروع في العالم الإسلامي وينتمي لها خمسمائة ألف ، وضم التجديد الذي جاء به حسن البنا أمرين :
الأول : تنظيمي وهو نقلها من المحلية إلى العالمية ، وتكوين الهيئة "القياسية" للدعوة الإسلامية ، وكان عمله هذا يشبه عمل روكفلر في أمريكا عندما كون شركة "استاندرد أويل" ، أي الشركة القياسية التي صارت موازينها وتكريرها .. الخ ، هي السائدة في صناعة الزيت ، أو لينين الذي وضع أساس الحزب البلشفي الذي يكون "طليعـة" للطبقة العاملة وأصبح هو الأساس الذي تحتـذيه بقية الأحزاب ، إن هيئة الإخوان المسلمين التي كونها حسن البنا سنة 1928 والتي بلغت أوجها ما بين 1946 ــ 1948 ، كانت هي الهيئة القياسية التي نسجت على منوالها كل هيئات الدعوة في العالم الإسلامي ، وترك حسن البنا بصمته على الدعوة الإسلامية في العصر الحديث .
والثاني : الذي يماثل الإعجاز التنظيمي هو فكرة "الإسلام كمنهج حياة" ، فالإسلام في مصر الليبرالية كان منزويًا في ركن قصي من أركانها ، وكانت المادة التي تنص على أن الإسلام دين الدولة والعربية لغتها هي إحدى المواد الأخيرة في الدستور ، ولم يكن يُعنى بالشأن الديني إلا أئمة المساجد ووعاظ وزارة الأوقاف ، وقد عاش جمال البنا في طفولته الفترة التي كان إمام المسجد يصعد وفي يده سيف من خشب ويتلو خطبته من إحدى الأوراق الصفراء ، كما عاش ورأى الخمور تباع عند البقالين ، ودعارة منظمة تشرف عليها الدولة ، واقتصاد يحكمه الأجانب .
جاء حسن البنا فغرس الإسلام في صدارة المجتمع وأوجد من شباب الجامعة من يخطب ارتجالاً فلا يتلعثم ولا يخطئ في شعر أو آية ، بل ينطلق .
هؤلاء هم أبناء حسن البنا صنعهم على يديه ، وزودهم بعلمه وإيمانه وإخلاصه ، وصلى بهم صلوات طويلة مغرب الخميس وعشاءه وفجر الجمعة في الخلاء ، يتلو فيها القرآن مسترسلاً ، حيًا ، كأنما أنزل لتوه .
كان الإسلام لدي الشيخ أحمد البنا ولدي الأستاذ حسن البنا شيئاً غير الإسلام الشائع ، والمنتشر ، والذي يدعو له الأزهـر ، ألا وهو إسلام المذاهب ، وكانت الخلافات المذهبية تفرق وحـدة المسلمين في البلد الواحد والمسجد الواحد ، فكانت تقام أكثر من صلاة جمعة تبعًا للمذاهب المختلفة ، ولم يكن للإسلام دور في الحياة العامة ، وفي عالم الدنيا وما يموج به من أحداث سياسية ، أو اقتصادية ، أو اجتماعية ، فأضفى كل منهما من فهمه للإسلام صفة الموضوعية ، والأصالة ، وإغفال الاختلافات المذهبية الصغيرة ، وإعمال العقل والفكر ، وكان عمل الشيخ أحمد وعمل الأستاذ حسن واحدًا على الأقل من ناحية إغفال المذهبيات والأخذ بالسُـنة ، وكان فقه السُـنة الذي دفع الشيخ حسن البنا الشيخ سيد سابق بتأليفه هو ملخص لعمل الشيخ الوالد "الفتح الرباني" كانا معًا يريدان للأمة أن تسير مع الرسول e ، وليس مع الفقهاء .
* * *
 
[2]
العلاقة الحميمة بين جمال البنا ووالده وشقيقه
قد يقول قائل : ما العلاقة ما بين عمل الشيخ أحمد البنا والإمام الشهيد من ناحية ، وجمال البنا من ناحية أخرى ؟
ما يجهله الكثيرون أن العلاقة ما بين جمال البنا ووالده وشقيقه الأكبر كانت وثيقة ، حميمة ، وكانت أكبر من علاقة بقية الإخوة بهما ، وهذا يعود إلى أنه ــ لأسباب سنذكرها فيما بعد ــ كان قد رفض الحياة "البورجوازية" المألوفة التي كانت تبدأ بدخول الجامعة ، فالانخراط في وظيفة يتلوها الزواج وتكوين أسرة مستقلة ، وهذا هو ما فعله أشقاء جمال البنا وحال دون اتصالهم بالأب والشقيق ، أما جمال البنا فقد كان متفرغًا ، وكان لديه وقت طويل يقضيه معهما ، وكانا هما في حاجة إليه لإنهاء بعض أعمالهما ، ولعلهما آنسا في طبعه الهادئ والمتمرد معًا شيئـًا يقربه إليهما ، ومن ثم نشأت العلاقة المتميزة الطويلة ، وكانت نقطة إعجاب جمال البنا بوالده وشقيقه هي "رسالية" هذين الرجلين ، وإخضاعهما كل ما في حياتهما لها ، وكان هو نفسه لديه هذه الطبيعة المضمرة رغم الاختلاف الذي كان يعود إلى وجود مؤثرات عديدة عليه لم يتعرضا لها وغلب عليهم جميعًا العامل المشترك ــ الرسالية ــ على الاختلاف في مادة ومضمون هذه الرسالية ، ومن ثم كان البعد والقرب ، الائتلاف والاختلاف حتى نهاية حياتهما .
حفظ جمال البنا عهد والده وشقيقه وعمل لتخليد ذكراهما عندما أصدر كتابه "خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه" ، فقد رأي قرابة عشرة خطابات أرسلها حسن البنا إلى والده يبدأ أولاها سنة 1926 ــ أي قبل التخرج ــ وآخرها سنة 1945 ، وهي خطابات شخصية جدًا تضم فيما تضمه زيارات لأقارب كلفه بها الوالد ، أو تقاضي إيجار الدكان والبيت .. الخ ، ولكن جمال البنا وجد فيها شيئـًا يستحق أن ينشر ويعلن ، وقدم لهذه الحكايات بمقدمة طويلة ، وببعض ملاحظات على كل منها ، خاصة وقد كان فيها إشارات إليه ، على أن الخطابات والتعليقات عليها ليست إلا النصف الثاني من الكتاب ، أما النصف الأول فخصصه لترجمة حياة والده وقصة إصداره المسند ، وما تعرض له خلالها من معوقات وصعوبات ، وهذا القسم هو الوحيد الذي كتب عن الشيخ ، كما أن القسم الخاص بخطابات حسن البنا هو الوحيد من نوعه .
وأصدر جمال البنا كتابًا بعنوان "ما بعد الإخوان المسلمين" عرض فيه لعمل حسن البنا ، ودوره التاريخي ومواقفه وسياساته التي لا يمكن أن تفهم على حقيقتها إلا في ضوء ما بينه من ملابسات ، ودافع عنه وبرأه مما يرميه به البعض ممن لا يلم بما ألم به جمال البنا .
علاقة جمال بوالده :
كان جمال البنا آخر العنقود من الذكور ، ولم يولد من أشقائه بعده إلا فوزية ، وفي هذا الوقت كانت الأسرة قد انتقلت من المحمودية الجميلة ، المريحة ، الواسعة ، ذات النجيل الممتد والنهر الفسيح كالبحر (لأنه بمقربة من المصب) والشمس الساطعة والسماء الصافية إلى أزقة القاهرة التي لا تدخل بيوتها الشمس او النور ، وإنما الرطوبة والبرد ، وكان جمال هو نهاية مسيرة الأم في الولادة المجهدة ، ورعاية أسرة كبيرة ترك لها ربها كل شيء وتفرغ للكتابة ، وعندما ولد كان ضعيفـًا ضاويًا نحيفـًا يسير بخطى متثاقلة ، ولم يكن يستطيع أن يلعب ويرتع ، فلا المكان/الحارة تسمح ، ولا الصحة تمكنه ، وكان في الزقاق أطفال أقوى بنيه وأشد باسًا ، فانطوى على نفسه ، وحتى الآن فإنه لا يستطيع أن يركب عجلة ، وكان المتنفس الوحيد له هو القراءة ، فلم يكد "يفك" الخط حتى بدأ يقرأ وكان والده يأخذه معه وهو طفل صغير إلى مكتبه ، ويعكف هو على كتاباته ويدع ابنه الطفل في الصالة الخلفية للمكتب ، وكانت حافلة بالمجلات والصحف فكان يقلب فيها ويقرأها ، وكانت هناك "اللطائف المصورة" الجريدة الأولى التي طبعت بالروتغرافور ، وكانت وفدية ومصورة ، وقرأ بها قصصًا طويلة عن "زغاليل مصر" ، وعن "الشبح الأسود" ، كما كان هناك أعداد من مجلة "الأمل" التي أصدرتها منيرة ثابت وهي شابة ناهضة كانت أول من دعا إلى منح المرأة حق الترشيح لمجلس النواب ، ولازال حتى الآن يذكر البيتين اللتين كتبا تحت اسمها العريض "الأمل" وهما :
أمل ألقيه في الوادي الخصيب      وبــــذور في ثـــراه لا تخيب
ها أنا اليوم أنمى غرســـــــــه      وليبارك فيه علام الغيـــــوب
وقرأ فيها رواية عن "قمر بني إسرائيل" تصور مصر في عهــد ظهور موسى ، وهناك كتابات سياسية "حنانيك يا نشأت" ، ولعلها المرة الأولى التي استخدم فيها هذا التعبير
وكانت جريدة الأهرام تطبع في كل عدد في آخر إحدى صفحاتها رواية مسلسلة مترجمة من كتاب أو مؤلفين لعل اسم أحدهم شارلس جارفس أو شيء كهذا ، وكان الشيخ الوالد يقص مكان الرواية المنشورة من الصحف ثم يرتبها ويجلدها .
وللسائل أن يسأل ما هي علاقة الشيخ البنا ذلك الريفي القادم من القرية ، والذي نصب نفسه وحياته لتصنيف مسند أحمد بن حنبل وهذه الصحف ؟ وكيف يحتفي بهذه الروايات ويجلدها ؟ هذا هو أحد أسرار هذه الشخصية الفريدة ، وهي سر تأسيس ثقافي مدني وأسلوب حر سبق مرحلة المسند ، وأن هذا التأسيس هو الذي أعطاه السلاسة في شرح الأحكام النبوية والفقهية والبعد عن "شنشنة" الفقهاء ، فضلاً عن سعة الأفق وانفتاح الرؤية .
ومن هذه الأيام الأولى ، أيام طفولة جمال البنا في مكتبة والده حتى وفاته ، وكانت العلاقة متصلة ، وكان الشيخ يحب آخر أبنائه من الذكور والإناث جمال وفوزية ، وقد أطلق على جمال هذا الاسم تيمنـًا بجمال الأفغاني ، بل لقد أوحى إليه أنه هو الأفغاني ، وكان جمال الطفل عندما يُسأل عن اسمه يقول : "جمال الأفغاني" ، وكان جمال البنا يزور الشيخ ويجلس معا ليؤنس وحدته ، وفي الأيام الأخيرة عندما وهنت صحته كان يصاحبه ، فقد كان هو دون إخوته متفرغًا لم يرتبط بوظيفة ، ولم يكن متزوجًا وله أولاد ، وكان يعيش في بيت الأسرة ، وهذه كلها ما كانت لتتوافر في بقية إخوته ، وعندما مرض مرضه الأخير فإنه انتقل إلى شقة ابنه الأستاذ عبد الرحمن بالحلمية الجديدة ليتمكن الأطباء من زيارته بسهولة ، واصطحب معه كتبه وبعض مراجعه ، وأدلى إلى جمال البنا بطريقة إتمام المسند ونصحه بالعودة لكتاب "البداية والنهاية" لابن كثير لأن الجزء 22 عن التاريخ ، وهذا الكتاب يعرض الوقائع التاريخية مع ذكر سندها .
لما مات الشيخ آلت مفاتيح مكتبته إلى جمال البنا وظل جمال البنا محتفظاً بالمكتب ، يدفع إيجاره ، وفي الوقت نفسه يبيع الأجزاء المطلوبة ولكن عدم تعهده أدى لأن تزحف الرطوبة على كثير من مقتنياته من الجرائد والمجلات ، وكان لدي الشيخ البنا مجموعة من أعداد جريدة "الإخوان المسلمين" اليومية ، ذهبت بها الرطوبة ، كما ظلت مكتبة الشيخ مصونة كما تركها ، ولكن بعض الأيدي عبثت ببعض كتبها ، وظل الأمر كذلك حتى صدر قرار بهدم البيت ومن حسن الحظ أن جمال البنا كان قد توصل إلى شقة واسعة ، فنقل فيها كل ما أمكن استنقاذه سواء من مكتبة الشيخ أو من أوراقه الخاصة أو من بقايا الجرائد والكتب ولا تزال حتى الآن ، واستطاعت الأسرة أن تواصل الطبع حتى أصبح في أربعة وعشرين جزءًا ، وكانت نفقة هذا الطبع تقدم من بيع نسخ الكتاب ، وكما قلنا فإن الشيخ ــ رحمه الله ــ كان يخزنها ولما ضاق مخزنه ، وقد كان فسيحًا أقام "صندرة" ، وكان الشخص الوحيد المتفرغ من الأسرة للإشراف على الطبع واستكمال الشرح الذي كان الشيخ يقدمه للمطبعة أولاً بأول ، هو جمال البنا ، ولا تزال تزين مكتبه بمجلداتها الشاهقة ، بالإضافة إلى مسودات الفتح الرباني وبقية الكتب التي ألفها وبعض فصول من كتب لم يتمها .
ويمكن إجمال تأثير الشيخ الوالد على ابنه جمال في :
أولاً  : قد يظن أن الشيخ البنا كان سلفيًا بالمعنى العام ، ولكنه لم يكن كذلك ، ولم يؤمن بالتقليد وضرورة اتباع أحد المذاهب الأربعة ، كان "سُـنيًا" يعمل فوق مستوى المذهبية ويريد العودة إلى فقه السُـنة ، وليس فقه المذاهب ، من هنا كان فيما عمله قدر من التجديد .
ثانيًا : كانت عصامية الشيخ مصدر إلهام داخلي تلاقي مع هذا العنصر في حياة جمال البنا وشجعه على اطراح التعليم الجامعي ورفض السير في التيار البورجوازي المقرر ، فها هو ذا رجل لم يدخل الأزهر ، ومع هذا أدى للإسلام ما عجز عنه الأئمة الأعلام لمدة ألف عام ، وكان من أكبر عوامل الاتفاق أن الشيخ ــ رحمه الله ــ كان "كاتبًا" ، أي أن مجال بطولته وكفاحه ورساليته كانت الكلمة المطبوعة ، وليس التنظيم ولا التنظير ، وكان جمال البنا يتوق إلى أن يكون كاتبًا ، وأن يجعل من الكلمة المكتوبة أداة كفاحه ودعوته وشجعته حياة الوالد على انتهاج هذا السبيل ، ومن ثم فإن أثره في هذه الناحية يفوق أثر شقيقه الأكبر عليه ، ولكن تخصص جمال البنا في الكتابة وتضلعه منها كان على حساب مقدرته كخطيب أو محاور تليفزيوني ، لأنه لم يؤت الحفظ ، والبداهة ، والقبول ، والدراية ، ولذلك كانت مقابلاته التليفزيونية أدنى بكثير من كتابته ومن يحب أن يرى جمال البنا على أحسنه فإنه يشاهده عبر سطور كتاباته مثل "ظهور وسقوط جمهورية فايمار" ، و"روح الإسلام" و"هل يمكن تطبيق الشريعة" و"تعميق حاسة العمل في المجتمع الإسلامي" ، أو "الحركة العمالية الدولية" أو المعارضة العمالية العمالية في عهد لينين" ، أو حتى مقالاته في جريدى "المصري اليوم" كل يوم أربعاء .. الخ ، ففيها وغيرها تتجلى أصالة وإبداع جمال البنا ومقدرته الخاصة في أناقة الأسلوب وغزارة المادة ، ولما كان شعبنا متفرجًا وليس قارئـًا ، فلعل جمال البنا خسر في هذه المعادلة ، وكان يقول إن أزمته هي أنه كاتب في شعب لا يقرأ ولكن هذا إنما كان في العاجلة ، أما الكتاب فإنه يخلد للأجيال ويعنى به قراء بعد أن يموت الذين يعلقون عيونهم بالتليفزيون ، فيغلب أنه لم يخسر ، وقد تقبل هذه الحقيقة .
ثالثاً : كان من عناصر عصامية الشيخ عدم حرصه على عقد الصلات مع مجتمعه ، أو الانخراط في سلك الوظائف ، وانصرافه التام عن الدنيا ، حتى ما كان يتعلق بالإخوان المسلمين عندما أصبحت أقوى وأكبر الهيئات في المجتمع المصري ، وأصبح ابنــه هو المرشد العـام لها ، فإنه لم يحفل عمليًا ، ولم يدخل مركز الإخوان المسلمين إلا مرات معدودة ، كان عمله يقوم على الإيمان بنفسه الذي يغنيه عن التقيد بالمجتمع ، وهذا العنصر كان له عرق في نفسية جمال البنا .
رابعًا : أن علو همة الشيخ التي تجلت في توليه طبع 22 جزءًا من المسند (بالإضافة إلى عملين آخرين هما مسند الشافعي ومسند أبي داود الطيالسي) رغم فاقته وأنه كان يعيش من اليد للفم ، وكان توفير ورق كل جزء هو الهم المقعد له ، وكان يقول إن الله لن يخذله ، إنه لم يدع هذه العقبات توقفه ، وتغلب عليها ، وقد احتذى جمال البنا حذوه في طبع كتبه بنفسه ، بل وتكوين شركة توزيع خاصة به حتى يتحرر من التبعية للناشرين .
خامسًا : كان الشيخ يواصل العمل دون تعب أو ملل من الصباح الباكر في مكتبه ، وهو الدور الأرضي من منزل قديم ولم يكن يترك المكتب إلا لأداء الصلاة في جامع الفكهاني على رأس الحارة ، وكان يرسل إليه غذاءه فيتناوله وقد يستريح قليلاً على كنبة في المكتب ويواصل العمل حتى الساعة الحادية عشر مساء ، كل هذه المدة جالسًا على مكتبه ، وراءه وأمامه المراجع يستخدم "التزكة" الصغيرة التي كان يصلح عليها الساعات في شبابه مكتبًا ، لم تكن الشمس تدخل المكتب إلا لمامًا ، ولم يكن لديه أي أداة تسلية ، وكنا نقدم إليه الصحف لنجدها بعد أسبوع كما هي ، هذا الجلد والدأب يستحق الإعجاب ، وما أكثر ما كان جمال البنا يقول لنفسه : كان الوالد أفضل مني فقد كان يعمل حتى الساعة 30ر11 ليلاً في حين أنهي عملي المسائي في العاشرة .
سادسًا : زهــده في الظواهر ، وتقشـفه واقتصاره على الضرورات ، فلم يكن عنده "ثلاجة" ولا تكييف ، وفي الأيام الأخيرة اقتنى مروحة مزعجة ، وبالطبع لم يكن له رصيد في البنك ، ولعله عندما جاء إلى القاهرة أول مرة زار الأهرام ــ وهو أمر لا يمكن القطع به ــ أما ما يمكن القطع به فهو أنه لم يدخل في حياته سينما ، ولم يكن يزور أحد إلا لمامًا ، ولكن كان يزار خاصة في الفترة الأخيرة من بعض عارفي فضله وكان يسر بهم لأنهم يغيرون النظام الرتيب الذي لا يرى فيه إلا الصفحات ، ولأنهم أيضًا كانوا يشعرونه التقدير الذي حرمه ، لأنه هو نفسه لم يسع إليه .
ومما يثير الفكر إنه وقد انتقل إلى القاهرة سنة 1924 لم يفكر في شراء بيت مع أن البيوت الصغيرة كانت متاحة "بتراب الفلوس" ، وكان كل ما توصلت إليه الأسرة هو شراء "مقبرة" عندما مات طفل صغير للإمام حسن البنا ، وهذه المقبرة ما بين الإمام الشافعي والبساتين ، هي التي فيها دفن الشيخ الوالد والوالدة والإمام حسن البنا .
* * *
 
 
[3]
علاقة جمال البنا بشقيقه الأكبر
كانت علاقة جمال البنا بشقيقه الأكبر علاقة متميزة كانت حميمة فيها شجو وشجا و"جدلية" نشأت من اختلاف الطبائع اختلافـًا كان اجتماعه يمثل تكاملاً ، كان حسن البنا هو البكر الذي استمتع بحب والدته وصدرها وعنايتها قبل أن يأتي مزاحم آخر ، وكان جمال البنا هو الأخير وجاء حمله بعد أن أنجبت والدته خمسة فلم يعد فيها مكان له إلا ما سمحت به الضرورات ، وأمضى حسن البنا طفولة سعيدة في المحمودية يجري ويرتع فوق الشجر الأخضر الممتد وتحت سمائها الصافية وشمسها الدافئة وبجوار النيل الممتد واسعًا كالبحر ، بينما جاءت طفولة جمال البنا في حواري القاهرة وأزقتها حيث لا هواء ولا شمس ولا فضاء ، وكان حسن البنا يتمتع بصحة جيدة نتيجة نشأته وحياته ، بينما كان جمال البنا ضاوي الجسم نحيف البنية ، وبدأ يضع نظارات عندما كان في المدرسة الابتدائية ، بينما لم يضع حسن البنا نظارات رغم أنه كان قارئـًا نهمًا ، كانت الصفة البارزة في حسن البنا "التنظيم" ، وكانت في جمال البنا "التنظير" من أجل هذا كان حسن البنا منظمًا عبقريًا أقام صرحًا ممردًا هو "الإخوان المسلمين" ، بينما كان جمال البنا منظمًا فاشلاً أقام حزبًا صغيرًا من بضعة من العمال والطلبة لم يستمر سوى عامين ، كان خط دعوة حسن البنا واضحًا محددًا ، ومستقيمًا يسير من ميلاده حتى استشهاده دون  أمت أو انحراف ، بينما كان طريق جمال البنا طويلاً وشاقـًا ، وانطبق عليه المثل "بالسير الطويل عرفنا الطريق القصير" ، وبينما كان حسن البنا قد وصل إلى القمة كان جمال البنا يبدأ الخطو .
كان حسن البنا يدرك بحاسته أن في أخيه تميز "الرسالية" الذي توافر فيه كما توافر للوالد ، وكان هذا سر تقريبه رغم الاختلاف ، أو كأنما كان يقرب جمال البنا مثلما يحب شاب أشقر فتاة سمراء ، فالاختلاف أدى إلى الترابط لا إلى التنافر ، وكان حسن البنا بفضل ما أشرنا إليه من ملابسات هو صاحب الاتجاه الإيجابي ، بينما انحصر دور جمال البنا ما بين الرفض والقبــول ، التقارب والتباعــد ، وقد لمح حســن البنا لشقيقه الصغير برغبته في أن يعمل جنبه في مناسبتين : كانت الأولى عندما دار حديث عن علاقة السيد رشيد رضا بالشيخ محمد عبده ، ثم علاقته بابن عمه الذي كان يحمل اسم "عاصم" ويتولى إدارة أعماله ، ولكن جمال البنا صمت ، فكان عزيزًا عليه أن يرفض هذه الثقــة ، وفي الوقت نفسه فإنه لا يستطيع القبول ، وأدرك حسن البنا الموقف بألمعيته وبذكائه فغير الحديث ، وفي مناسبة أخرى عندما قبض البوليس على جمال البنا وبعض أعضاء حزب العمل الوطني الاجتماعي عندما قاموا بتوزيع منشور عن ذكرى ضرب الأسطول البريطاني للإسكندرية بالمدافع تمهيدًا للاحتلال ، وأرسل الأستاذ حسن البنا بأحد أعوانه فقابل سليم زكي حكمدار القاهرة الذي أصدر أمره فورًا بالإفراج عنه ، ولما عاد قال له : "أنت تكدح في أرض صخرية صلدة ، ونحن لدينا حدائق تثمر أشجارها فواكه  تتساقط وتحتاج لمن يلتقطها" ، ورد جمال البنا بأن فواكه الإخوان ليست هي الثمار التي يريدها ، ولم يتأثر حسن البنا بهذا الرد ، ولكنه نصح شقيقه بتغيير اسم "حزب" إلى "جماعة" حتى لا يصطدم الحزب الناشئ بالحكومة وهو في نشأته الوهنانة ، وهذا ما أخذ به جمال البنا .
ويصور هذا سعة أفق حسن البنا وحُسن إدراكه وفهمه لشقيقه الصغير ، وكان جمال البنـا يدلي بتحفظاته على فكر الإخــوان للإمام البنا ، وكانت عن المرأة والفنون والسياسة .. الخ ، وكان هو يسمع ، ويبتسم ولكنه لا يعقب ، فما ذكره جمال البنا ليس جديدًا عليه ، فقد كان حسن البنا مطلعًا على الكتابات الحديثة ، ولكنه كان قائدًا للجماهير ، وقائد الجماهير بقدر ما أنه يقودها ويدفعها ، فإن الجماهير تمسكه وتقيد خطوه بمستوى فهمها بحيث لا يجاوز هذا الفهم إلا قليلاً ، كما أن حسن البنا كان يعمل بسياسة المراحلي ويؤمن بأن الزمن جزء من العلاج ، وأن لكل مشكلة وقتها ، فقد كان مؤمنـًا بإعطاء المرأة حقـًا أكبر من الحرية ، ولكن في وقت معين ، ولو ترك لأصلح الكثير مما لم يفسح له المجال لإصلاحه .
وفي بعض الفترات كانت العلاقة ما بين جمال البنا وشقيقه الأكبر يومية ، ففي كل يوم من أيام رمضان كان حسن البنا يتلو من حفظه جزءًا من القرآن ما بين العصر والمغرب ، بينما يمسك جمال البنا بالمصحف ، وكان حسن البنا يوجهه لملاحظة التفرقة الدقيقة ما بين "نزلنا" و"أنزلنا" و"أنجينا" و"نجينا" ، وفي إحدى المرات اقترح جمال البنا على شقيقه الأكبر أن يتعلم الإنجليزية ، ففكر مليًا ثم قال : "نحفظ سورة أفضل" ، وكان هذا يمكن أن يقبل منه لما كان يتمتع به من سعة أفق ومن متابعته لكل المحدثات .
وكان حسن البنا مهمومًا بأمر شقيقه ليس للتميز الخاص في الفكر والمعرفة ، ولكن لأن جمال البنا شقيقه الصغير وعليه مسئولية عائلية نحوه ، فكان عندما يلمس أن الحياة ضاقت به لبطالته الإرادية يكل إليه أعمالاً يعرف أنه يقبلها مثل إدارة مطبعة الإخوان ، وكان جمال البنا يريد أن يكسب خبرة في هذا المجال لأنه كان يتفق مع ما أراده لنفسه من أن يكون كاتبًا ، وعندما شغل هذا المنصب لم يلتزم بما كان يلتزم به العاملون في "الدار" من آداب وتعاليم إسلامية سواء كان في أداء الصلاة أو الحرص على قربات .. الخ ، فكثيرًا ما كان معاون الدار الشيخ عبد البديع صقر يأتي إليه مؤذناً لصلاة الظهر ليصلي جماعة ، وكان جمال البنا يصرفه لانشغاله الشديد بتصحيح بروفة حتى لا تتوقف عجلات ماكينة الطباعة ، وعندئذ يهرع إلى الأستاذ البنا ويقول : إن غرفة جمال البنا وكر تاركي الصلاة ، فيقول له : "دعه وحاله" ، كان جمال البنا قبل هذا تحول إلى نباتي ، ورفض أن يمس اللحم ، فكان الأستاذ البنا يجنبه ذلك عندما يقوم بتوزيع الطعام ، فهذه التصرفات المخالفة للتقاليد كانت أمرًا يتقبله حسن البنا من أخيه الصغير ، وكان آخر منصب عهد به إليه هو سكرتارية تحرير مجلة الشهاب ، وهي المجلة التي كانت تمثل قمة الكتابة الإسلامية ، وقد أصدرها على غرار "المنار" ، وإن أعطاها اسم مجلة بن باديس الجزائري ، وكانت تضم الإمام البنا رئيس التحرير والدكتور سعيد رمضان مدير الإدارة وجمال البنا سكرتير التحرير والسيد وهبي الفيشاوي معاونـًا ، وكان جمال البنا يراجع الأصول والبروفات ويكتب فيها بابًا عن الأحداث السياسية باسم أحمد جمال الدين أحمد عبد الرحمن .
وكان حسن البنا يتابع تقدم شقيقه ، وروى الشيخ عبد العزيز الخياط وزير الأوقاف الأسبق بالأردن أنه عام 1946 كان يطلب العلم في الأزهر ، ودخل مع مجموعة من إخوانه على المرشد فوجدوه يقرأ في رسالة "على هامش المفاوضات" ، فقال لهم : "تعلموا السياسة من هذا الشاب ، لقد أصدر جمال رسالة حسنة عن المفاوضات" ، ولم يصده عن ذلك أنها كانت تصدر باسم "حزب العمل الوطني الاجتماعي" .
ما استفاده جمال البنا من شقيقه الأكبر :
أعجب جمال البنا بخصائص متميزة في أخيه الأكبر ، كانت لها آثار عليه ، حتى عندما تأخذ شكلاً مخالفاً :
(1)    أعجب جمال البنا برسالية حسن البنا ، وأنه كان القائد النموذجي الذي يتحمل أعباءها ومسئولياتها ومقتضاياتها وإخضاعه نفسـه لها ، وكانت هذه المسئوليات تفرض عليه العمل بالإخوان طيلة النهار وسحابة الليل ، وكان عليه أن يتناول الطعام معهم ، وأن يؤمهم لتأدية الصلاة ، وأن يقدم دروسًا طويلة .. الخ ، وأن يقضي إجازته الصيفية كمدرس ــ وهي شهور الصيف الأربعة ــ في الصعيد ، ويذهب إليها في القطارات في الدرجة الثالثة .
(2)        كان الإمام البنا كوالده متقشفاً لا يعني بأكل أو شرب أو لبس فكان في هذا كله يتبع ما يتبعه أقل الناس .
(3)    كان في الإمام حسن البنا كياسة ولطف وأدب وذوق ونوع من مصانعة الناس ومخاطبتهم على قدر عقولهم وملاحظة الاعتبارات والملابسات ، وبهذا ظفر بحب واحترام الأتباع والأعداء واكتسب تأييد جماهير غفيرة ، وهي عناصر أعجب بها شقيقه لكنه لم يتبعها ، إما لاختلاف المزاج والشخصية ، وإما للخط الذي ينتهجه في الدعوة الذي كان يختلف عن منهج الأستاذ البنا .
(4)    كان الدرس الذي استفاده جمال البنا في الأيام الأخيرة له في صحبة الإمام البنا أن الداعية إما أن يكون منظمًا ، وإما أن يكون منظرًا ، وأن الجمع بينهما ينتهي بالفشل ، ويغلب أن يكون الاهتمام الأعظم بواحد منهما دون إغفاله الآخر ، ولكن دون إعطائه ما يستحقه ، وكان الإمام البنا منظمًا موهوبًا فريدًا ، بحيث أنه أسس خلال عشرين سنة "الإخوان المسلمين" الهيئة الإسلامية القياسية التي اتبعتها كل الهيئات واتسمت بسعة القاعدة وإحكام العلاقة ما بين القاعدة والقيادة والربط بينهما بخيوط حريرية من الحب في الله ، ولكن هذا الهيكل المنيع لا يتسم بعمق فكري يؤلف "نظرية" محكمة شاملة لها أصالة ، وفي الوقت نفسه صلاحية للتطبيق والتعايش مع العصر ، هذا ما لم يستطع حسن البنا أن يحققه تمامًا لعدم وجود الوقت ، فإن إحكام نظرية ليست سهلة فهي تتطلب تركيزًا تامًا قدر ما تتطلب "عمرًا" تنضج فيه "النظرية" ، وكانت الضرورات العملية والميدانية تشغل سحابة وقت حسـن البنا ، فكان يأتي "الشهاب" في موهن من الليل ، وبعد أن يكون قد خلص من الاجتماعات العامة ليكتب أبوابه في المجلة .
وانعكس هذا النقص على فعالية التنظيم الإخواني باستثناء بعض الجوانب التربوية ، مع إن فكرة حسن البنا عن الإسلام كمنهج حياة كان يمكن أن تكون قاعدة لنظرية شاملة تتناول مواقف الإسلام من كل ما يعتور المجتمع أو يؤثر فيه أو عليه .
وكان جمال البنا بطبيعته نقيض الإمام البنا وانتهى إلى ضرورة الاكتفاء بالتنظير ، دون أن يعني بالتنظيم رغم كل جاذبية التنظيم ، وتعمقت هذه الفكرة في ذهنــه إلى درجة جعلته يرفض تكوين مؤسسة من أي نوع تضم شمل المؤمنين بدعوة الإحياء ، إذ رأى أن كل عناية بالتنظيم لابد وأن تكون على حساب التنظير ، وأن التنظيم ــ مهما كان محكمًا ــ فإنه يثير إشكالات عديدية إدارية أو مالية ، وأن كل تنظيم يأتي بعد داعيته يكون أقل مستوى وإحكامًا مما كان يريد الداعية بحيث يكون الكسب محدودًا ومحكومًا بمستوى فهم الأتباع ولابد أن يتعرض لغمرات الدنيا .. الخ ، لهذا كله رأى أن من الخير أن يترك نظريته حرة من كل قيد بحيث تكون رؤية إسلامية كل من يؤمن بها يصبح مالكاً لها ، حتى لا ينشأ تنظيم يفرض ضروراته عليها ، وأن هذا يمكن مع التطور والزمن أن يجعل فكرته "رأيًا عامًا" أو شيئاً كهذا ، خاصة وأن التطور سيكون في صفه .
كما أنه في عرض دعوته وفكرتها كان أبعد ما يكون عن المصانعة والمهادنة أو توقي الحساسيات ، ولم يتردد في مجابهة كل المعسكرات التي يرى أنها تخالف دعوته دون أن يخشى عاقبة ذلك وانعكاساتها على دعوته أو عليه ، وفضل أن تحدث هذه الخسارة من أن يتخلى قيــد أنملة عما آمن به ، وكتابه "كلا ثم كلا" شـاهد على ذلك ، فقـد انتقد فقهاء التقليد ، كما انتقد أدعياء التنوير ، فخسر الفريقين ، وكان هذا الموقف سببًا لأن تتجاهله كل المعسكرات سواء في كتاباتها أو في نشاطاتها لأنه سبق وهاجمها ، تيار اليسار والأكاديميين ، والمؤسسة الدينية ، والحكومة والنظام القائم ، فلا يشيرون إليه في كتاباتهم ، ولا يدعونه في اجتماعاتهم ، ولم يأس جمال البنا لهذا التجاهل ، بل إنه أراحه من كثير من الالتزامات الاجتماعية ، وفي الحقيقة فإنه لم يكن يعمل لهذا الجيل الذي رأى أنه لا يمكن أن يحمل رسالته ، وإنما لجيل آخر ، وقد لا يحدث هذا قبل خمسين سنة أو أكثر عندما "يستكشف" جمال البنا ، ويتهيأ المناخ لتقبل آراءه التي رفضتها الأجيال السابقة ، وعزاؤه أنه وفر عليها البحث عن نظرية ما كان يمكن لغيره أن يصل إليها بحكم الصفات الخاصة التي توفرت له ، من أجل هذا كان ثمـرة عمل جمال البنــا مؤجلة ، أما ثمـرة عمل حسن البنا فكانت ماثلة .
* * *
[4]
توابع العلاقة الإخوانية
انتهت علاقة جمال البنا بشقيقه الأكبر عندما اعتقل يوم 8 ديسمبر سنة 1948 ، وظل بالمعتقل حتى سنة 1950 ، فلم يحضر الأيام المأساوية الأخيرة لشقيقه ، ولا كيف استشهد ، ولا كيف خرجت جنازته لا يسير معها إلا الوالد وسيدات الأسرة ، فقد كان بعيدًا جدًا عن القاهرة في الطور ، عندما وقعت تلك الأحداث الدراماتيكية ، وفيما حدثه أشقائه الذين ظلوا معه ولم يعتقلوا إلا قبل استشهاده بأيام عن العذاب النفسي الذي كان يفترس الرجل ما بين المطالب الملحة لأسر المعتقلين الذين حرموا مورد رزقهم ، وكان عليه أن يدبر الإعانات اللازمة ، وما بين تلاعب فئة خسيسة من رجال السياسة ورفضهم لأي صورة من صور التسوية عرضها عليهم ، بحيث أن الاستشهاد أراحه من هذا العذاب الذي تعرض له وحيدًا وهو الذي كان ملء العين .
أما والده فقد ظلت علاقة جمال به حتى وفاته سنة 1959 وسار وراء جثمانه حتى واراه في التراب جنبًا إلى جنب ابنه .
وآل إلى جمال البنا كل تراث الوالد ، والوالدة ، والشقيقة فوزية ، كما أوصى الأستاذ عبد الرحمن البنا الشقيق الثاني بعد الإمام الشهيد بأوراقه وكتبه لجمال البنا ، ووجد جمال البنا ركامًا من المتاع ، فقد كانت والدة جمال البنا قد استحضرت معها من المحمودية إلى القاهرة كل المتاع اليدوي مثل "الرحاية" وهي المطحنة اليدوية التي تتكون من اسطوانتين من الحجر تثبت السفلى وتدور فوقها العليا لتطحن الحبوب ، ومثل "كيلة" كانت هي معيار في التعامل مع الحبوب ، ومثل "طبلية" كبيرة قبل استخدام المائدة ، وطشوت نحاسية كبيرة للحمام ، وموازين ذات سنجات عندما كانت الأقة والرطل وأعداد كبيرة من البطاطين والمراتب .. الخ ، وقد تخلص جمال البنا منها على مدار الأيام ، ولكنه احتفظ بطبق صيني كبير أزرق اللون كان يقدم فيه الثريد "الفتة" وكان من الجهاز الذي دخلت به والدة جمال البنا .
توابع العلاقة الإخوانية :
لم تقتصر أثار الجذر الإسلامي على علاقة جمال البنا بوالده وشقيقه ، إن وضعه عرفه على الإخوان المسلمين في الأربعينات ، وكان قد تعود أن يذهب إلى المركز العام بالحلمية في النهار (كان منزل الأسرة قريبًا جدًا من المركز العام) قبل أن يتخذ له مكتبًا خاصًا ، ويجلس في غرفة مركز الاتصال بالعالم الإسلامي ، وكانت هذه الغرفة فوق سلاملك مستقل على يمين الداخل ، ولم يكن يدخلها أحد بالنهار ، فيكتب فيه ، وكان ذلك لأن صداقة وثيقة نشأت ما بين جمال البنا ورئيس هذا القسم الأستاذ عبد الحفيظ الصيفي ، كما كان جمال البنا على صداقة بالشيخ عشماوي سليمان ــ رئيس إخوان قويسنا ــ الذي دعاه لزيارته هناك ، والشيخ سيد سابق الذي قبل أن يعطي دروسًا وتوجيهات إسلامية بصورة منتظمة لمجموعة من الشبان والشابات جمعتهم السيدة عنايات الحكيم ، وهي حرم الأستاذ عبد المغني سعيد ــ مدير المؤسسة الثقافية ــ وكان له اتجاهات إسلامية ، وكان عبد المغني سعيد وحرمه على علاقة وثيقة بجمال البنا ، ومثل الأستاذ أنس الحجاجي الذي ألف "روح وريحان" عن الإمام حسن البنا ، وكان حسيبًا على آل البنا ، كما كان أحد كتاب مجلة "النذير" .
وقد دعا الإخوان جمال البنا مرة أو مرتين لحضور "الكتيبة" بالذهاب للمركز العام في عصر يوم الخميس للانطلاق إلى ضاحية أو إلى صحراء تقام فيها صلاة المغرب وصلاة العشـاء يؤمهم الشقيق الأكبر ، ثم ينامون ليقوموا ليصلوا الفجر وليستمعوا إلى قراءة الأستاذ البنا ، وكانت الصلاة في الأماكن الخلوية فترات الغروب الساحرة أو الشروق الأخَّاذة وطريقة تلاوة حسن البنا للقرآن من أكبر العوامل التربوية تأثيرًا في الإخوان .
وكان القائم بأعمال سكرتارية وإدارة دار الإخوان شخص يدعى الشيخ توفيق أحمد ، كان أصلاً عضوًا في الجمعية الشرعية ، وكان يأتي الدار لابسًا العمامة مرخيًا العذبة على ظهره ، كما كانت عادة أعضاء الجمعية الشرعية ، ونشأت صداقة وثيقة ما بينه وبين جمال البنا ، وعن طريقه تعرف إلى الشيخ خالد محمد خالد الذي كان أيضًا من الجمعية الشرعية ، كما تعرف على الأستاذ سيد عويس الباحث الاجتماعي بمكتب أحداث بولاق ، وقد تطورت أحوال توفيق أحمد شيئاً فشيئاً  ، وكانا يذهبان إلى السينما فيما يشبه السرية ، فيقوم جمال البنا بقطع التذاكر ثم يندس وسط الداخلين حتى يواريه ظلام قاعة السينما ، ويذكر مرة أنهما سألا أحد عمال السينما عما إذا كان هناك "مصلى" فضحك الرجل ، وترك الشيخ خالد خدمة الإخوان عندما سنحت له فرصة وظيفة في الجمعية الزراعية الملكية ، وتخلص من عمامته وعذبته ولحيته أيضًا ، ثم دخل المعهد البريطاني الذي كان يعلم اللغة الإنجليزية بإتقان وكنوع من نشر الثقافة البريطانية ، وكان في حقيقته نادي كما هو معهد ، وتهذب الشيخ توفيق في هذا المعهد وأخذ بأسباب الحضارة الحديثة ، وبالطبع فإنه أصبح يرتدي البدلة والبطلون .
كان الأستاذ توفيق أحمد صديقـًا حميمًا وعائليًا لجمال البنا ، وظلت هذه الصداقة حتى توفى في الثمانينات وحضر جمال البنا جنازته وشيعه إلى القبر مع خاصة أسرته .
كما أن العلاقة مع الشيخ خالد محمد خالد ، الذي ترك بدوره العمامة والعذبة ولبس البدلة والبنطلون وثيقة ، وعندما أراد إصدار كتابه "من هنا نبدأ" كان مفلسًا فطبع دفاتر اشتراكات بعضها بخمسة قروش والبعض الآخر للشخصيات الممتازة بعشرة قروش حتى يتهيأ له مبلغ ضئيل ، وقام جمال البنا بدور في توزيع هذه الاشتراكات ، ولكن الله رزقه بصاحب مطبعة مثقف ومتعاطف فتحمل مسئولية الطبع ، وعندما صدر الكتاب وصادره الأزهر ، وكتبت أخبار اليوم بالخط العريض : "هذا كتاب مطلوب إحراقه .. وإحراق مؤلفه" ، رزق شهرة مدوية دفعت بالأستاذ خالد إلى صدارة الشهرة ، وكانت صداقة جمال البنا بالأستاذ خالد وثيقة وظلت حتى وفاته ، وعبر الأستاذ خالد في كتابه عن "حياتي" عن أن أول ما أثار دهشته عندما دخل الإخوان أن شقيق حسن البنا ليس عضوًا ، بل إنه أسس حزبًا مستقلاً .
* * *
في 8 ديسمبر سنة 1948 أصدر النقراشي باشا رئيس الوزارة وقتئذ أمره العسكري بحل الإخوان المسلمين وكل هيئاتها ، واعتقل في هذا اليوم أعضاء مكتب الإرشاد وجمال البنا ، وكان اعتقاله مع أعضاء المكتب علمًا بأنه ليس عضوًا أصلاً بالإخوان نقطة دلت على أن "البوليس السياسي" كان له رأي فيه ، ولم تكن نشاطاته السياسية خافية عليه ، المهم أن مكتب الإرشاد وجد في وسطه جمال البنا ، وجمال البنا وجد نفسه في مكتب الإرشاد ، وكان مما خفف وقع هذه المفارقة وجود شقيقه عبد الرحمن البنا عضو مكتب الإرشاد ، ومع تطور الأيام زاد عدد المعتقلين وانتقلوا من هاكستب إلى الطور حيث بلغ العدد بضعة ألوف كانت فرصة ليتعرف جمال البنا على جمهور الإخوان ، وأضيف إلى جمال البنا شقيقاه محمد وعبد الباسط في مرحلة سابقة وخصص الإخوان لهم غرفة خاصة في مدخل "الحذاء"  ، وكانت مخصصة للإدارة فأصبحت غرفة عائلية وأعفيت من الترتيبات التي كانت سارية على القاعات الكبيرة في الحذاء التي تضم كل واحدة عشرين أو ثلاثين مثل المشاركة في صلاة الفجر أو بقية الدروس والمحاضرات أو حتى أعمال الطبخ وإعداد الوجبات ، كان هذا نوعًا من الامتياز لإخوة الإمام ، وقد تعرف جمال البنا على كثير من الإخوان دون أن يزول الحاجز الفكري ، وكان من المعتقلين عبد الملك عودة شقيق الأستاذ عبد القادر عودة المحامي العضو البارز في الإخوان (وفيما بعد وكيل الإخوان وشهيد عبد الناصر) ، وكان عبد الملك حديث التخرج من الجامعة الأمريكية وثقافته إنجليزية وكان يقدم بعض خدمات الترجمة للمرشد ، وكانا ــ جمال البنا وعبد الملك عودة ــ يخرجان سويًا ساعات الغروب ويجلسان خارج الحذاء ، وأبدى عبد الملك عودة فكرة أن يبدءا معًا كتابًا عن الإخوان يحمل اسم "أزمة ديسمبر" ورحب جمال البنا بالفكرة وبدءا الخطوط ، ولكنه تراجع بعد أن وجد أن مثل هذا المشروع سيوجد بينه وبين الإخوان أزمة .
وفي المعتقل حصل جمال البنا على نسخة من ديوان المتنبي ، وأخذ يقرأها ويعيد قراءتها حتى كاد أن يحفظ الديوان ، كما كان هناك أستاذ لغة إنجليزية قرأ معه رواية Tess of the D urbervilles  للكاتب الإنجليزي "هاردي" ، وكان قد قرأها مترجمـة إلى اللغــة العربية ، كما حصل على نسخة من كتاب كرافشنكو "آثرت الحرية" ، وكرافشنكو مهندس سوفيتي أوفده الاتحاد السوفيتي إلى أمريكا للاشتراك في تحديد المواد المراد تقديمها للاتحاد السوفيتي بمقتضى قانون "الإعارة والتأجير" لسد حاجة الاتحاد من المعدات الحديثة ، ولكنه آثر البقاء في أمريكا والاختباء فيها حتى يمكن أن يفضح الفظائع والجرائم الستالينية في كتاب حمل اسم "آثرت الحرية" في أكثر من سبعمائة صفحة كبيرة ، وأمضى جمال البنا في قراءته أيامًا جعلته يعيش في أجواء الاتحاد السوفيتي قبيل ثورة 17 أكتوبر وفي صميم الحقبة الستالينية .
وأراد الإخوان أن يكونوا في المعتقل ما يشبه جامعة ورشح جمال البنا لهم عبد الملك عودة ليكون أحد محاضريها ، ولكنهم رفضوا ، ولما أخبره بذلك قال : Excommunication from the kingdom of Allah "حرمان من مملكة الله" ، وكان هذا فعلاً نوعًا من الحرمان الذي كانت الكنيسة الكاثوليكية تمارسه ضد معارضيها .
ومع أن معتقل الطور كان يضم بجانب الإخوان الشيوعيين واليهود ، فإن جمال البنا لم يقم بإيجاد صلة أو الحديث مع أي منهم ، ولكن عندما انتقلوا إلى "عيون موسى" جاءهم هنري كورييل واحتفى به جمال البنا ، فقد كان مثله قصيرًا نحيفـًا يرتدي "شورت" ويضع رجليه في "صندل" وتحدث معه مليًا ، وإن لم يعد جمال البنا يذكر ما دار سوى لازمة كان يكررها "النظرية تقول" .
طوال أيام المعتقل كان جمال البنا يلبس البيجاما أو بدلة خفيفة في حين كان الإخوان جميعًا بلبسون عباءات كيفوها من البطانية كما حافظ على حلاقة ذقنه يوميًا ، وكان يبدو غريبًا بين المعتقلين الذين كانوا جميعًا يحتفظون بذقونهم ويضعون عباءات سابغة على أكتافهم بحيث أن أحد الزوار ظنه من رجال إدارة المعتقل ، وفكر جمال البنا في كتابة كتاب بعنوان "قادم من الطور" وكتبه بالفعل ، ولا تزال مسوداته بين أوراق جمال البنا .
فجمال البنـا وجـد نفسـه في صميم الجماعـة الإسـلامية حتى وإن لم يؤمن بخطها الإســلامي ، وقد تقبلته للصفة الخاصة والفريــدة له ، كما تقبلها هو أيضًا بحكم الملابسات والظروف ، ولم يحدث أن كان جمال البنا عضوًا ملتزمًا بالإخوان ، ولكن وشـيجة قويـة ربطت ما بينه وبينها .
* * *
عندما أفرج عن جمال البنا من المعتقل في أوائل 1951 اشترك في تحرير مجلة "الدعوة" التي كان يرأس تحريرها صالح عشماوي بصفة رسمية ، أي كمحرر يتقاضى أجرًا شهريًا ثابتـًا ، وكان يكتب بها الأستاذ سيد قطب والأستاذ أنس الحجاجي وغيرهم ، وكان جمال البنا يحرر صفحتين منها واحدة للعمال وأخرى للأحداث العامة ، وكتب فيها أول كلماته عن إصلاح السجون تحت عنوان "من وراء القضبان" بتوقيع "اللجنة الشعبية لإصلاح السجون" التي تمخضت فيما بعد عن "الجماعة المصرية لرعاية المسجونين وأسرهم" ، وسلسلة من المقالات عن أثر الفكر الإسلامي في الحركة الدستورية (جمعت وطبعت بعد ذلك في كتاب مستقل) .
* * *
في أحد أيام 1951 عقب الإفراج عن جمال البنا زاره الأستاذ أحمد حسين رئيس مصر الفتاة التي كانت قد تحولت إلى "الحزب الاشتراكي" ، ولم يكن جمال البنا يعرفه ، وكانت تلك لفتة كريمة منه ، رأى جمال البنا أن من الضروري أن يشكره فزاره وعرض عليه الأستاذ أحمد حسين العمل معه في الحزب ، فأوضح له أن مبدأه المقدس هو عدم الانخراط في أحزاب ، وأنه يقدر الحزب ويتمنى أن يخدمه دون الانخراط في العضوية ، فاقتنص الأستاذ أحمد حسين الفرصة ــ وكان قناصًا للفرص ــ وقبل جمال البنا أن يكوِّن قسمًا بالحزب باسم "خدمة الشباب" وكان يكلف هؤلاء الشباب بمطالعات ، وبزيارات ونشاط اجتماعي ، وكان من وسائل القسم أن يطلب بعض المسئولين لعرض قضيته ومناقشتها ، وعن هذا الطريق جاء الأستاذ إحسان عبد القدوس رئيس تحرير "روز اليوسف" وهيئة تحريرها وتحدث إليهم ، كما دعى الدكتور يوسف الذي كان يرأس هيئة السلام ، وكتب جمال البنا في "الاشتراكية" نبذات صغيرة تحت عنوان "توجيهات قرآنية" ، وكانت "الاشتراكية" وقتئذ أشهر الجرائد الأسبوعية ، وكان جمال البنا مع الأستاذ أحمد حسين عندما جاء المصورون بصور متعددة للشحاذين والبؤساء الذين يملأون القاهرة فاختير منها أكثرها دلالات ، وطبعت بحيث تملأ صفحتين متقابلتين من الاشتراكية تحت عنوان عريض "رعاياك يا مولاي" ، وفي الأيام التي سبقت الحركة الناصرية كان المانشيت العريض للاشتراكية "الثورة .. الثورة .. الثورة" .
وكسب جمال البنا من علاقته بالأستاذ أحمد حسين كسبًا غير متوقع ، فقد دعوه يومًا ما لزيارة السيدة بهيجة البكري وإلقاء كلمة عن الاشتراكية التي يدعو إليها الحزب ، وقيل له إنها رئيسة السيدات الاشتراكيات وأنها جمعت لهذه المناسبة لفيفـًا من الرجال والنساء ، وذهب جمال البنا في إحدى ليالي ديسمبر الباردة إلى "الفيلا" الخاصة بها بشارع رمسيس في مصر الجديدة ، وكانت السيدة بهيجة هي الأخت الكبرى للسيدة سنية عنان حرم حسين عنان (باشا) وزير الزراعة ومؤسس نادي الصيد ، كما كانت من كبيرات سيدات الخدمة الاجتماعية لأنها أسست مبرة فريال في مصر الجديدة ، وكانت الفيلا لا تخلو من كبار الزوار والزائرات ، وكان للسيدة بهيجة ماضٍ طويل انتهى بأن آوت إلى بيت أختها  .
وعندما دق الجرس وفتح الباب تعالى نباح عدد من كلاب "اللولو" البيضاء الصغيرة ، وتقدمت السيدة بهيجة وساعدت جمال البنا على خلع معطفه ، ووجد أنها جمعت قرابة عشرين سيدًا وسيدة ، أحدهم كان عميدًا لكلية الطب ، والآخر أستاذاً بكلية الهندسة ، وبعضهم من رجال الأعمال إلى جانب سـيداتهم وبعض سيدات الخدمة الاجتماعية ، وانتقلوا إلى مائدة الشاي المثقلة بالحلوى ، وتحدث إليهم جمال البنا عن الاشتراكية حديثـًا أرضاهم ، إذ كان الانطباع عن أحمد حسين أنه ثوري مثل لينين ، ولكنهم عرفوا من المحاضرة أنه إصلاحي ، ولكن بصورة صارمة ، وتنهدت إحدى السيدات وقالت : Borgeois ، وفي آثار هذا الاجتماع انعقدت صداقة خاصة ما بين جمال البنا والسيدة بهيجة البكري التي كانت شديدة التعلق بالتعرف على الشخصيات العامة ، وقالت له : إنها كانت تود التعرف إلى حسن البنا ، وفي بعض الحالات كانوا يدعون جمال البنا للمشاركة في رؤية فيلم في سينما "كايرو بلاس" ، وكان وكيلها العـام يمت إليهم بصلة ، فكان يستقبلها مرحبًا ويدخلهم في "اللوج" وكان على جمال البنا أن يدفع ثمن "الشيكولاتة" عندما يمر عليهم بائعها .
وفي إحدى المناسبات عندما كانت المجموعة كلها من السيدات ــ باستثناء جمال البنا ـــ اقترحت السيدة بهيجة البكري أن تدعو الضابط الشهير عزيز المصري واتصلت به تليفونيًا ، وبعد نصف ساعة كان يدخل الحجرة متئدًا بخطوات بطيئة ثابتة كالأسد الهصور ، وقال له جمال البنا ضاحكـًا : "إلحقتي يا باشا" ، وفي مرة أخرى وجد الشيخ الباقوري ، وكانت تداعبه كأم ، وكانت هي التي اختارت له شقته في مصر الجديدة ، وكان الشيخ الباقوري وسيمًا طويلاً ، وفي مناسبة أخرى فوجئ جمال البنا بدخول الضابطين الطحاوي وأحمد طعيمة كبيرا هيئة التحرير ، وكان اللقاء غير منتظر ومحرجًا للجميع ، وكان الجميع بصفة عامة يحبون السيدة بهيجة البكري ويقبلون يدها وينادونها "تانت بيللي" .
الأهم من هذا ، أن جمال البنا عندما بدأ مشروعه في جمعية رعاية المسجونين استخلص خمس سيدات كن من أكبر المساهمات معه في عمل الجمعية ، وكانت اثنتان منهن ذواتا جمال رائع ، بينما الأخريات من العاملات بكدٍ ، وكان وجود السيدة "زينب عزت" أو شقيقتها الصغرى "فاطمة عزت" في عربيتها الكاديلاك مع جمال البنا إيذانـًا بالدخول على مدير عام السجون فورًا ، ودون انتظار وقدمن جميعًا مساعدات جمة للجمعية الناشئة .
وكان جمال البنا ابتداء سنة 1978 يذهب إلى جنيف كل شهر يونيو ليشهد انعقاد مؤتمر العمل الدولي ، وكان خلال إقامته (أربعين يومًا كل مرة) ضيفاً على زوج الابنة الكبرى للإمام الشهيد السيدة وفاء ، الدكتور سعيد رمضان في جنيف ، وكان منزل الدكتور سعيد ملاذاً لكل الشخصيات الإسلامية الكبرى التي تمر بجنيف ، وقد تعرف جمال البنا عنده في إحدى المرات بالشيخ عمر عبد الرحمن وتحدثا مليًا ، ويذكر جمال البنا أنه قال إن تعدد الزوجات كان في نظره (أي الشيخ عمر) هو الأمر المقرر في الإسلام وضرب المثل بأنه لا يعرف صحابيًا كان له زوجة واحدة ،  ومرة أخرى تعرف  فيها على الأستاذ إبراهيم الوزير قائد أحرار اليمن ، وابن زعيم ثورة الدستور وشهيدها سنة 1946 الذي كان قد قرأ كتاب "الدعوات الإسلامية المعاصرة ما لها وما عليها" وأبدى دهشته واستنكاره لعدم مساندة الإخوان لجمال البنا ، وقد استمرت علاقة جمال البنا القائمة على التقدير المتبادل معه حتى الآن ، وفي بعض فترات الحرج كان نعم المعين ، كما اشترك في تأسيس دار الفكر الإسلامي بدفع 12 ألف دولار لم يسأل عنها ، وقابل جمال البنا شخصيات أخرى عديدة ، فضلاً عن أن سعيد رمضان نفسه كان موسوعة إسلامية وكان يصدر وقتئذ مجلة "المسلمون" التي أصدرها على غرار "الشهاب" التي أصدرها الإمام الشهيد .
[6]
جمال البنا يحدد مصيره
جاوز الحديث عن الجذر الإسلامي وتوابعه ، الترتيب الذاتي لتطور فكر جمال ، فكائنـًا ما كانت آثار هذا الجــذر وامتداداته ، فإنها لم تجاوز أبـدًا ما أراده جمال البنا لنفسه وما جعله لا يتورط في الانتماء أو الالتزام بأي صورة لأي من الهيئات التي تعرف عليها ، ولم يكن هذا ليحدث لولا أن جمال البنا كان قد قرر لنفسه مصيرًا معينـًا ، لم يتصور جمال البنا نفسه موظفـًا يخضع لروتين الوظيفة ، ولا محاميًا يعمل بالنهار في المحاكم وبالليل في مكتبه ، ولا طبيبًا يعمل في المستشفى بالنهار وفي العيادة بالليل ، هذه كلها كانت وسائل "لأكل عيش" ولضمان المورد المالي بالدرجة الأولى ، وهذا آخر ما كان يفكر فيه جمال البنا الذي كان يحرص على استقلاله من ناحية وعلى استغلال وقته للقراءة والكتابة والتفكير ، وعلى حريته الفكرية أن تشلها القيود ، وكان الشيء الثمين بالنسبة له هو الوقت الذي يجب أن لا تهدره الوظيفة وغيرها ، ولكن أن يظل تحت إرادته هو ، كان جمال البنا قد قرأ أن جوركي قال : "كنت أقبل أن اضرب بالسياط وأدخل الجامعة" ، ولكنه كان يرى أن جوركي لو دخل الجامعة لما ظفرنا "بالأم" و "ست وعشرون وواحدة" وغيرها من روائع جوركي ، وكانت الكتابة هي المهنة التي اختارها جمال البنا لنفسه ، وعندما طبق نظام البطاقات الشخصية في الخمسينات كتب في المهنة "كاتب ومؤلف" وظلت تلك يحملها كل جوازات سفره حتى الآن ، والعجيب أن هذا القرار يعود إلى سنوات عمره الأولى ، أي التي جاوزت الطفولة إلى الصبا ، ولم يكن في أسرة جمال من يجبره أو يفرض ــ حتى وإن كان صبيًا ــ عليه شيئاً لا يريده ، لأن هذا كان بعيدًا عن روح الأسرة ، كما أن قطباها ــ أي والده وشـقيقه الأكبر ــ كانا قد ســبقاه في الاختيار ، وكانا بحكم انهماكهما فيما اختـارا لنفسيهما ، يعزفان عن حمـله على ما لا يريد ، وهكذا فإنه بعد أن أتم الدراسة الابتدائية في مدرسة العقادين الابتدائية ، وهي على ناصية حارة الروم عند التقائها بشارع المعز لدين الله وكانت تتوسط المسافة ما بين بيت الأسرة ومكتب الوالد ، دخل المدرسة الخديوية الثانوية بالحلمية الجديدة ، وهي وقتئذ أعرق مدرسة ثانوية ، ولم يكن جمال البنا طالبًا نابهًا متقدمًا في دروسه حائزًا لأولوية في مراتب الناجحين ، كما كان بعض أشقائه ، ولكنه كان طالبًا وسطـًا فلم يكن من المتقدمين أو المتخلفين ، وكان يجد بعض الصعوبة في اللغة الإنجليزية التي كان يتولى تدريسها "مستر إنجليزي الجنسية" كان يدخل الفصل واضعًا على رأسه طربوشًا متهرءًا ويبدو أن جمال البنا أخطأ في شيء ما جعل أستاذه يقول له : You have to say I beg your pardon sir ، وفكر جمال البنا في معاني هذه الكلمات فهناك beg التي يشتق منها الــ beggars أي الشحاذون ، وهناك "باردون" وهي تعني المعذرة ، وأخيرًا Sir أي سيدي ، ومع أن هذه الجملة هي الجملة التقليدية التي تقال عندما يخطئ أحد الناس ، ولم يكن فيها ما يمس الكرامة مطلقـًا ، ولكن جمال البنا لم يتبين ذلك إما لعدم عمقه في فهم الإنجليزية أو لحساسيته الخاصة فرفض ، وكانت النتيجة أن رسب في الإنجليزية كما رسب في الملحق ، لأن أستاذه لم يغتفر له ذلك ، فاتخذ جمال البنا قراره بعدم مواصلة الدراسة الثانوية ، وبالتالي عدم دخول الجامعة واتخاذ قطيعة بينه وبين المجتمع "البورجوازي" الذي تعد الشهادة الجامعية هي جواز المرور إليه والدخول فيه .
هل كان جمال البنا يقدر خطورة هذا القرار ؟ أو أنه كان مسيرًا لمصيره الذي أراده الله له قبل أن يصطنعه هو لنفسه ؟
إنه لا يعلم ، ولكنه يعلم أنه لم يتردد أبدًا في اتخاذ هذا القرار ، بل ولم يندم عليه وظل حتى اليوم يعتقد أنه اتخذ القرار السليم .
مع أنه رفض طريق البورجوازية (أي الثانوي فالجامعة) فإنه قبل تحت إلحاح الأسرة أن يدخل مدرسة التجارة المتوسطة بالجيزة لمدة ثلاث سنوات ، وقبل جمال البنا حتى لا يخيب آمالهم ، وكانت وقتئذ في ميدان الجيزة بجوار شركة إيسترن للسجاير ، وبجانبها ترعة صغيرة ، ولها ملاعبها خاصة بكرة القدم ، وكان جمال البنا أصغر طلبتها سنـًا وحجمًا ، إذ كان من طلبتها من يحتفظ بشارب أنيق ، وكان حارس المرمى في فريق الكرة طالبًا طويلاً عريضـًا معروفـًا لدي الكرويين ، أما الأساتذة فمعظمهم أصبح بعد ذلك من الأساتذة النابهين في كلية التجارة وكان ناظرها الدكتور لهيطة رجلاً لطيفـًا نشأت بينه وبين جمال البنا علاقة ، وزاره بعد التخرج بسنوات في بيته في مصر الجديدة ، وكان في أيامه الأخيرة يريد أن يرصع بعض كتبه بآيات قرآنية ، كما كان من الأساتذة الأستاذ عيسى عبده إبراهيم الذي أصبح من أبرز رجال الاقتصاد الإسلامي ، وكان قد اتصل وقتئذ بالإخوان ، وأخذ يتعرف على طلبة الفصل واحدًا واحدًا ، وكان من بينهم شاب وسيم له شارب فأطلق عليه "كلارك جيبيل" وشاء الله أن ينشأ نوع من الصداقة ما بين جمال البنا وبين أستاذه فزاره في بيته ، وفي إحدى المناسبات طلب منه أن يختار مساعدًا له فاختار جمال البنا مساعدًا كان ملاكمًا ، وبعد أسبوع جاء الرجل صارخـًا أنه لا يطيق متابعة عيسى إبراهيم الذي كان يعمل حتى ما بعد منتصف الليل ، ثم يأتي في السادسة صباحًا ليستأنف قبل أن يذهب إلى الكلية (وكان قد أصبح أستاذاً بكلية التجارة) ، بل أكثر من ذلك دخل جمال البنا مع أستاذه السابق في مناظرة حول الربا ، وكان الدكتور عيسى عبده يحرمه قطعيًا ، بينما كان جمال البنا يرى أنه مقصور على "النسيئة" وأنه يمكن أن يقبل في حدود محتملة ومعقولة .
بعد ثلاث سنوات 1934 ــ 1937 تخرج جمال البنا من مدرسة التجارة وأخذ دبلومها وزج به في أحد المكاتب ونساه تمامًا ، وتفرغ لمواصلة تأسيسه الثقافي بطريقته المحببة "المطالعة" .
التأسيس الثقافي :
أشرنا إلى التأسيس الأولي الذي بدأ من الطفولة عندما كان جمال البنا يتصفح "اللطائف المصرية" و "الأمل" وغيرها في مكتب والده ، وقد انتقل من هذه إلى روايات الجيب التي كانت تترجم عيون الأدب الأوروبي في الرواية ، فقرأ لـ تولستوي وديستوفسكي وأندريه جيد وغيرهم ، وكانت هذه الترجمات ترجمات سليمة إلى حد كبير ، وكان العدد يصدر في ثلثمائة صفحة ويباع بقرش واحد (ولأبناء هذا الجيل الذين لم يروا القرش نقول : إنه واحد من مائة كانت تكون الجنيه المصري ، وكان الجنية المصري يعادل الجنيه الإسترليني) وبعدها انتقل إلى الأدب الشعبي مثل ألف ليلة وليلة وذات الهمة (في 10 مجلدات) ، وسيف بن ذي يزن التي أعجب بها ، ورأى أنها صورة من الميثلوجيا العربية/الإسلامية ، فهي تحفل بحروب وسحرة وكهان ومعجزات وحكماء ينزلون من السماء وفروسية وحروب ، ولا يزال حتى اليوم يرى أنها يمكن أن تأخذ شكل "الميثلوجيا" ويمكن أن تكون أصلاً لقرابة عشرين أو ثلاثين رواية ، وبعد هذا النوع من الأدب انتقل إلى الأدب العربي الرفيع ، فقرأ العقد الفريد لابن عبد ربه ، وقرأ الأغاني للأصفهاني ، وكان بمنزل الأسرة نسختان نسخة في مكتبة الشقيق الأكبر ونسخة في مكتبة الشقيق عبد الرحمن ، وقرأ تاريخ بغداد لابن الخطيب وغاص في بحاره ، وقرأ البيان والتبيين والبخلاء للجاحظ .
بالنسبة للشعر فإنه قرأ المعلقات وقرأ "المنتخب في أدب العرب" في جزئيه وكانت وزارة المعارف تقدمه لطلبة الثانوية ، كما كانت تقدم أدب الدنيا والدين للماوردي ، ولكنه لم يكن يعدل أحدًا من القدامى بالمتنبي ولا في المحدثين بشوقي ، وقد حفظ شعرهما تقريبًا ، أي ديوان المتنبي والشوقيات بأجزائه الثلاثة ، ومصرع كليوباترا ، ومجنون ليلى ، وكان يرى في شوقي مثالاً للعبقرية التي تصنعها مصر فيمن دخلها من أجناس ، فشوقي يعود بآبائه إلى أصول تركية ، وإلى أمهاته بأصول يونانية ، وقد صهرت مصر هذا الخليط وجعلته مصريًا .
وقرأ في الأدب العربي لطه حسين والعقاد وهيكل وتوفيق الحكيم ولكنه لم يعجب بأسلوب طه حسين لما فيه من تكرار ، ولا بأسلوب العقاد لما فيه من جفاف ، وكان في طبع جمال البنا ككاتب عرق فني جمالي ، أما هيكل فكان أسلوبه ممتازًا ، كما كان توفيق الحكيم موفقـًا في الحوار ، وقد أعجب بتوفيق الحكيم لأنه عني بالقضية الدينية وراجع مختصرًا لتفسير القرطبي وكتب عن "التعادلية" وكان فنانـًا بحق ، كما كان أمينـًا عندما تحدث عن غيبة الوعي في الحقبة الناصرية ، أما الذي حقق لجمال البنا الأسلوب الذي يعجبه فكان أحمد الصاوي محمد وكان يصدر "مجلتي" التي كانت تكتب بالعربية ولكن بروح أوروبية حديثة ، وكان الصاوي يوشح عباراته بنوع من "العاطفية" أشبه بــ "الدانتيلا الخفيفة" وكانت مجلتي لا تقل في أثرها الأدبي لدي النخبة عن الرسالة بالنسبة للعامة ، وكان للصاوي ذوق فني في تجميل الطبع ، ووضع الكلمات في الصفحات وطبع الصور على ورق "الكوشيه" وتبويب مادة العدد ، كان في الصحافة الأدبية مثل التابعي في الصحافة الإخبارية .. الخ ، وكانت بتحريرها مقابلاً للرسالة الأكثر شعبية وأكثر تمسكاً بالروح العربية ، وكان الأسلوب الذي نهجه الكاتب العربي القدير مصطفى صادق الرافعي في كتاباته الأخيرة والقصصية في الرسالة مماثلاً لأسلوب الصاوي ولكن في نسق عربي بليغ ــ العربي التقليدي ــ في مقالاته الأخيرة بمجلة الرسالة ، بينما كانت كتابات الصاوي موشاة بمسحة أوروبية .
وكانت لجنة النشر للجامعات تصدر عددًا من الكتب المترجمة ترجمة رفيعه بأقلام كتاب مثل محمود محمود وفخري أبو السعود (الذي انتحر عندما غرقت زوجته وابنته في البحر في طريق العودة من إنجلترا إلى مصر) وكان فخري أبو السعود هو الذي ترجم رواية هاردي الطويلة "تس من آل دربرفيلد" .
ومن أجمل ما ترجمه محمود محمود كتاب "العالم الطريف" الذي يحمل بالإنجليزية اسم The New Brave World وهي مقطع من شكسبير والكتاب تأليف توماس هكسلي وصدر في الثلاثينات وصور عالم الغد الذي يقوم على أساس طبقي ، فتربى كل طبقة على أن تكون راضية بوضعها من أيامها الأولى ، ولا توجد في هذا المجتمع ولادة ، بل ينظر نساؤه إلى هذه الكلمة كنوع من "الهُجر" ولكن يربون في أنابيب ثم يشبون منها في حضانات تخضع لمؤثرات سيكلوجية ، بالإضافة إلى التحكم الكيميائي في الأنابيب بحيث تكون كل طبقــة راضية ، إن هذا المجتمع يعيش على الأرض إلا أن صلاته بالكواكب يومية ، وعندما تنتاب بعض أفراده كآبة فإنه يتناول بعض أقراص "الكولا" التي تذهب به إلى عالم سحري ، أما إله هذا المجتمع فهو فورد (لاحظ أن فورد في الثلاثينات كان أكبر شخصية أثرت في وضع المجتمع عندما توصل إلى السيارة) ، كما كان من الكتب التي أعجب بها كتاب أندريه موروا "دزرائيلي" الذي صور تصويرًا روائيًا رائعًا نشأة "ديزي" وآماله وتطلعاته ومحاولاته الأولى في الكتابة ، ثم رواياته وعلاقاته بالنساء حتى انتهى بأن يكون رئيس الوزارة ومجدد حزب المحافظين والصديق الأثير للملكة فيكتوريا ، ويذكر أنه اشترى عددًا من نسخها كان يعطيها لأصدقائه ليطلعهم على الأسلوب الأخاذ ، وكان جمال البنا معنيًا بالرواية أو المسرحية السياسية فقرأ "الأفواه اللامجدبة" ، وقرأ "العدول" للبير كامو ، وكان قد قرأ له كتابه في الأدب السياسي "المتمرد" ، كما كان بالنسبة للأدب الأمريكي الحديث معجبًا بالكاتب إيتون سنكلير ورواياته ضد الرأسمالية "الغابة" و"البترول" و"الصلب الصغير" ، فضلاً عن سلسلة رواياته التي أصدرها عن الحرب العالمية الثانية .
وأعجب جمال البنا بالكاتب أرثر كوستلر عندما قرأ روايته "ظلام في الظهيرة" التي صورت الحقبة الستالينية وتوصل إلى سر اعترافات كبار رفاق لينين ومؤسسي ثورة أكتوبر على أنفسهم بالخيانة وغيرها ، وتعقبه في روايات عديدة بما في ذلك زيارته لإسرائيل .
كما كان حريصًا على القراءة لستيفان زفايج وهو أيضًا كاتب تراجم وروايات وقد انتحر هو وزوجته لأنهما لم يستطيعا تحمل مأساة الحرب العالمية الثانية وما فيها من مجازر وبوجه خاص ما ترامى عن إبادة اليهود .
وبعد هؤلاء ظهر "أورويل" عندما وضع "مزرعة الحيوان" الذي نفذ فيه التجربة السوفيتية وتحدث عن" قائمة المبادئ التي انتهت من أن الحيوانات متساوون" ، فأصبحت الحيوانات متساوون ، ولكن بعضهم أكثر مساواة من بعض" ، وكان قد تحدث ــ قبلاً ــ عن نشأته في مناجم الفحم ، وفي مرحلة لاحقة كتب سنة 1984 وتنبأ بعالم رهيب يحكم فيه "الأخ الكبير" بطرق التجسس المثبتة في كل بيت وكأنها التليفزيون والتي تكون فيها وزارة السلم هي وزارة الحرب ، ووزارة الثقافة هي وزارة تزييف المعرفة .. الخ .
واكتشف خلال قراءاته الاقتصادية الكاتب المبدع بيتر دركر Peter Drucker وكتابه "نهاية الرجل الاقتصادي" وكان يروق له أن يقارن بينه وبين كتاب "نهايـة التاريخ" للكاتب الياباني الأمريكي فوكوياما ، وتابعه عندما بدأ يكتب عن الإدارة ، وكان دركر من رواد نمط جديد فيها ، كما استمتع بقراءة كتاب "خواطر عابر سبيل" الذي تحدث فيه عن بعض الأحداث في حياته ، والشخصيات التي تعامل معها مثل كيسنجر الذي جاء هاربًا يريد العمل في أي كلية ، ولكن بيتر جعله يعمل في هارفارد ، وقد فقد جمال البنا كتابه الأخير وطلبه من ناشره الذي أفاد أن النسخ نفدت وأنه بصدد إعادة الطبع .
وكان لابد أن يلم بالأدب والتاريخ الإغريقي ، وقد تجاوب مع سقراط وأفلاطون ولكنه شعر بالعزوف عن أرسطو ووجد فيه الفيلسوف الأكبر للعنصرية الأوروبية الذي يرى أن أقصى شرف للشعوب الأخرى هو أن تخدم اليونان ، فضلاً عن كراهيته لمنطقه الصوري الذي أساء إلى الفكر الأوروبي والإسلامي ، بل والفقه الإسلامي .
وقرأ قرابة عشرة كتب عن الميثلوجيا اليونانية ، كما قرأ كتاب "الأبطال" لبلوتارك الذي تأثر به نابليون والعديد من أبطال أوروبا .
أما تاريخ الإمبراطورية الرومانية فكان بالطبع لابد أن يقرأ موسوعة جيبون "ظهور وسقوط الإمبراطورية الرومانية" على أنه وجد بغيته في كاتب بريطاني غير مشهور هو روبرت جريفز وكان أستاذاً للغة الإنجليزية بالجامعة المصرية حينـًا ، وكتب ثلاثة كتب كبيرة بشكل روائي عن الفترة الذهبية في تاريخ روما أولها باسم "أنا كلوديوس" ، والثاني "كلوديوس الإله" في جزأين ، والكتب الثلاثة في قرابة سبعمائة صفحة ، وتضمنت كل ما عرض للإمبراطورية من شذوذ وغرائب ومفارقات ما بين المجد والسقوط .
هذه أمثلة عارضة لأبرز ما قرأه وما تزال عالقة بذهنه بعد مصي ستين عامًا ، أما الحقيقة فهي أنه في الخمسينات والستينات يقرأ كتابًا عربيًا كل يوم وكتابًا إنجليزيًا كل يومين أو ثلاثة .
وخلال هذا التطواف الثقافي وقف جمال البنا أمام فئتين هما النساء والعمال وكانتا أكبر فئات المستضعفين والمستذلين ، فدرس حركة الفيمنزم Feminism في بريطانيا منذ أن كتبت ماري ولستونكرافت Mary Wollstonecraft كتابها إثبات حق المرأة حتى كتاب جون ستيوارت "إخضاع النساء" The Subjection of  Women وبدأ في ترجمته حتى ظهور حركة المصوتات ــ أي اللائي طالبن بأن يكون للمرأة صوت انتخابي suffragette من بداية نشاطاتها وظهور العائلة الثورية "بانكهرست" وابنتيها كريستابل وسيلفيا حتى ألقت الآنسة إميلي دافيسون نفسها تحت أقدام جواد الملك في الدربي وقتلت .
وتتبع جمال البنا قضية المرأة ، ورأى أنها كانت طوال العصر الأبوي الذكوري ضحية لاستغلال الرجل ، وأن اليهودية حملتها مسئولية الخروج من الجنة ، والمسيحية حملتها مسئولية الخطيئة ، وأن الإسلام أراد إنصافها ولكنه لم ينجح تمامًا لقصر مدة حكم الرسول للمدينة ولأسباب أخرى عديدة ، دع عنك الآثار التي خلفها فيلسوف مثل أرسطو الذي قنن دونية المرأة حتى شوبنهور الذي كان كارهًا للمرأة ، وأن المرأة لم تنل كل حقوقها حتى مشارف العصر الحديث ، وكتب جمال البنا أربعة كتب عن المرأة ، وظفر كتاب "الحجاب" بشهرة وطبع ثلاث أو أربع مرات .
أما العمال فقد جذبت قضيتهم جمال البنا إلى الحركة النقابية التي أعجب بها ــ بل آمن بها ــ ورأى أنها كما قال في أحد كتبه "بعد الأديان مباشرة وقبل الديمقراطية والاشتراكية تأتي الحركة النقابية "ورأى أنها أكثر من أي هيئة أو نظرية أو كفاح ، هي التي نهضت بمستوى الشعوب والجماهير ، وتوصلت لذلك لأنها أبدعت تكتيكاً ناجحًا ينقذ العمال من جحيم الرأسمالية التي أرادت للعمال وجودًا ــ دون حياة .. ودون موت ــ ولرفع مستوى المعيشة وزيادة الأجور ومساهمة العمـال في وضع شروط العمل ، بطريقة فنية ، عمالية ، بعيدة عن صخب العمل السياسي وتحولاته وانزلاقاته ، وكان لدي جمال البنا تعاطف مع العمـال ، وفي صباه الأول كان منظر العامل المنبطح أرضًا تحت سيارة يصلحها يبدو له أجمل من راقصة ، ولهذا فإنه أقبل على دراسة الحركة النقابية في بريطانيا التي بها ظهرت أول مرة كرد فعل لظهور الثورة الصناعية وتطرق إلى دراسة اقتصاديات بريطانيا وإلى فلسـفة "القانون العام" الذي كانت المحاكم تحكم به وتصدر قوانين تعتبر النقابات تأمرًا يقيد حرية التعامل ، فغاص في بحر من المراجع بدءًا من ظهور الثورة الصناعية التي أدت إلى ظهور العمال حتى الفترة الذهبية في تاريخ عمال بريطانيا عندما ظفر حزب العمال بأغلبية  أصوات مجلس العموم وكون أول وزارة عمالية سنة 1945 ، وكيف بدأت هذه الحكومة سياسـة "الرعاية" ، وأرادت أن توضع الميزانيات "على أساس إنساني ، وليس على أساس اقتصادي" ، قرأ جمال البنا مئات الكتب بالإنجليزية قبل أن يضع كتابه عن الحركة العماليـة في بريطانيا ، وهو الكتاب الذي لم يظهر ، ويبـدو أنه لن يظهر ، لأنه مسودات لم توضع في صفتها الأخيـرة ، وترجم في الستينات تقارير لجنة الحرية النقابية بمكتب العمل الدولي في جنيف عن الحركة النقابية في بريطانيا ، وفي الولايات المتحدة ، وفي الاتحاد السوفيتي ، وفي بريطانيا ، وفي السويد ، وفي بورما ، وفي الملايو كل تقرير منها في كتاب متوسط الحجم يدرس الحركة النقابية كجزء من مجتمعها ونشرت هذه الكتب الدار القومية في الفترة التي قيل فيها إنها تصدر كتابًا كل تسع ساعات ، وفي قول في ست ساعات .
"ولو جيز الحفاظ بغير عقل" كما قال المتنبي ، لكان جمال البنا أبعد الناس عن الحركة النقابية بحكم تكوينه الجسدي والنفسي أيضًا ، إذ كان وقتئذ "جلد على عظم" يزن 40 كيلو ويضع نظارة ، وكان بالنفسية "أرستقراطيًا ، فنيًا ، لا يمكن أبدًا أن يعد أحد القطيع ، يؤمن بالجمهور ولكنه هو نفسه لا يمكن أن يكون أحد هذا الجمهور ، ولكن لله في خلقه شئون فقد وقع جمال البنا في حب العمال وجعله يقوم بمحاولة أن يكون عاملاً بالفعل ، فاتصل بأحد الإخوان الذين يملكون مصنعًا للنسيج في بقعة لعلها أكثر بقاع القاهرة شعبية هي "العطوف" واتفق معه أن يعمل بمصنعه كعامل فترة ما ، وحدث هذا بالفعل لمدة قرابة شهر ألم فيها بأساسيات إدارة آلات النسيج ، وترك المصنع بعد أن أعطاه الرجل شهادة بأنه عامل بمصنعه ، وبهذه الشهادة تقدم إلى "النقابة العامة للغزل والنسيج بالقاهرة وضواحيها" ، وكان سكرتيرها نقابيًا عريقـًا يمت للإخوان بصلة ، فدخل الجمعية العمومية للنقابة كعضو مرشح لمجلس الإدارة وفاز بعضويتها .
كانت فكرة جمال البنا أن من يعمل للحركة النقابية يجب أن يلم إلمامًا عمليًا بعالم العمال ، وكان قد قرأ عن تجربة لمدام بياتريس وب عندما كتبت كتابها الذائع عن الحركة النقابية وأنها انخرطت لفترة وسط عاملات الخياطة اللائى كن يخضعن لأسوأ صور الاستغلال ، على كل حال ، لقد كان أمينـًا في محاولته ، ولكنها كانت غير طبيعيــة لأنه لم يكن بالطبيعـة عاملاً ، وقد ســمع بإذنـه عاملاً يهمس لآخـر : "الشــاب ده مش عامل .. ده عامل عامل !" ، واختير مراجع للحسابات في مجلس الإدارة ، وكان رئيس النقابة شخصًا ديماجوجيًا بمعني الكلمة له اتجاه شيوعي/وفدي يدعى محمد علي عامر ويطلقون عليه "شيخ العرب" ، وبعد فترة نشأ شقاق ما بينه وبين جمال البنا .
وتحير مجلس الإدارة ثم انتهى باستبعاد الاثنين ، وكان الفريق الموالي لجمال البنا قد وضع هذه الخطة ليتم التخلص من محمد عامر ثم يمكن أن يستعيدوا جمال البنا ، وقد حدث بالفعل وكتبوا إليه خطابًا رسميًا باستعادة عضويته في مجلس الإدارة ، ولكنه كان قد عزف عن العمل النقابي ، وتبين أنه ليس مكانه ، وأن مكانه هو "ترشيد" الحركة النقابية المصرية التي لم يكن لديها أدنى فكرة عن عمل نقابي رشيد ، وهكذا اعتزل العمل الميداني ليرجع إلى ميدانه المحبوب ــ القراءة والكتابة ــ وكان ثمرة ذلك قرابة ثلاثين كتابًا عن الحركة النقابية في مختلف دول العالم أو في جوانبها المختلفة كالحرية النقابية والديمقراطية النقابية والتنظيم والبنيان النقابي .. الخ .
وتأسست في أواخر الخمسينات "المؤسسة الثقافية العمالية" وتزعمها شخصان بارزان من موظفي مصلحة العمل هما عبد المغني سعيد وأمين عز الدين ، وكان لجمال البنا معرفة عابرة بهما ، وعين عبد المغني مديرًا لها ، ورأى جمال البنا فيها لقطة من السماء كما رأت المؤسسة فيه ذلك أيضًا ، فلم يكن هناك شخص آخر لديه الإلمام العلمي بالحركة النقابية ، فأوكل إليه إلقاء المحاضرات الثقافية في المراكز النقابية التي أقامتها في القاهرة ولعدة سنوات أخذ جمال البنا يذرع القاهرة من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها ليقدم محاضرات لعشر مراكز في القاهرة ، وكان معظمها مشيًا على قدميه ، وإلى هذه الفترة من السير الطويل يعيد جمال البنا احتفاظه بدرجة كبيرة من اللياقة الصحية عندما تقدم به العمر ، وفي أكتوبر سنة 1963 تأسس معهد الدراسات النقابية بالدقي ، وعهد إلى أمين عز الدين بوضع نظامه وهو أفضل شخص في مصر يقوم بهذه المهمة ، وأخذ المعهد فيلا وراء نادي الصيد وكانت الدراسة فيه إقامية إقامة كاملة لمدة شهر ، وخصص لكل دارس كتابًا عن موضوع الدراسة ، كما وضع نظامًا للتغذية وللحصول على الصحف .. الخ ، وفي هذا المعهد درس معظم قادة الاتحادات العمالية العربية فقد كانت تلك هي فترة القومية العربية ، بما في ذلك بالطبع كل وزراء العمل المصرية حتى السيدة عائشة عبد الهادي وزيرة العمـل الآن ، أما المحاضرون فكانوا من أعلا أساتذة الجامعات المصرية مثل الدكتورة عائشة راتب والدكتور الطماوي والدكتور عز الدين فودة وآخرين ، وبعضهم مديري الجامعات ، على أنهم رغم أستاذيتهم ما كانوا يحكمون الحركة النقابية ، وكان جمال البنا هو الوحيد الذي يمكن أن يكون على مستواهم ، وفي مناسبة ما عقد المعهد اجتماعًا للمحاضرين ووجد جمال البنا شخصًا لا يعرفه بجواره عرفه بنفسه أنه مدير معهد تدريب الضباط وأن تلامذته من مقدم فصاعدًا ، وهكذا بدأ جمال البنا محاضراته من الدورة الأولى للمعهد 1963 وظل يحاضر بالمعهد ثلاثين سنة متصلة من 1963 حتى 1993 بعد أن توفى عبد المغني سعيد وأمين عـز الدين وجاءت أجيال أخرى من العمـال .
وفي الثمانينات تعرف جمال البنا على الدكتور أحمد عبد العزيز النجار رائد تجربة البنوك الإسلامية ، ولا يعرف جمال البنا على وجه التحديد أسباب هذه المعرفة ، ولكنه يذكر أن أحد العاملين في الثقافة العمالية ــ وكان وقتئذ أمين مكتبة الاتحاد العالمي للبنوك الإسلامية ــ جاءه يرجوه مقابلة الدكتور النجار ، وقال له : إن الدكتور طلب من معاونيه أن يحضروا جمال البنا من تحت الأرض ، ولم يكن هناك من يعرفه ، ولما علم أمين المكتبة ذهب إليه وقال له : إنه يعرفه ، فطلب منه أن يذهب ويأتي بي ، وكانت تلك هي طريقة هذا الرجل "عملي" و "حامي" ولا يعرف بيروقراطية ، ولما قابلته أهديته نسخة من كتاب "روح الإسلام" وبعد ثلاثة ايام أيقظني رنين جرس التليفون في موهن من الليل ورد علىّ الدكتور النجار ، وقال : أنه طلبني لأنه لم يطق الانتظار ، لأنه قرأ في "روح الإسلام" كل ما كان يريده وطلب السماح له بطبع الكتاب ، وبعد هذا عين جمال البنا مستشارًا من مستشاري الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية الذي كان هو أمينه العام وروحه المحرك بمكافأة مائتي جنيه شهريًا ، وكان بين آونة وأخرى يحول عليه ورقة أو مشروعًا لإبداء الرأي ، وعندما أراد تكوين معهد للبنوك الإسلامية في قبرص التركية جمع نخبة ممتازة من الفنيين الذين تتوفر فيهم الفنية والإيمان ، وكان جمال البنا أحدهم ، وعكفوا في جلسات متصلة لمدة أسبوعين ، كما ذهبت اللجنة إلى قبرص التركية لمعاينة المكان .
وظلت صداقة جمال البنا بالدكتور النجار متصلة ، وكتب هو مقدمة كتابه الهام عن البنوك الإسلامية ، ولكن الرجل مات متأثرًا برحلاته المتوالية وما تعرض له في سنواته الأخيرة من معارضة جعلته يرفع قضية على بنك فيصل مع أنه كان هو أكبر مؤسسيه ووعد جمال البنا بأنه إذا كسب القضية فسيتبرع بجزء كبير منها لمشروعاتنا وتوفى قبل إنهاء القضية التي سقطت بوفاته .
* * *
هل لم يكن للإسلام نصيب في هذه الرحلة الثقافية الطويلة من الثلاثينيات حتى السبعينات ؟ بالطبع وجد ، فالإسلام كان أحد الجذور التي كونت شخصية ونفسية جمال البنا ، وكل الاهتمام به في هذه المرحلة أيضًا ــ بالدرجة الأولى ــ على التاريخ الإسلامي وكان في مكتب والد جمال البنا عدد من النسخ من كتاب "البداية والنهاية" يبدو أن إحدى المكتبات قدمتها للشيخ مقابل بعض نسخ "المسند" ، وكتاب "الكامل" لابن الأثير ، وتاريخ الطبري ، و"الإمامة والسياسة" لابن قتيبة ، فقرأه ، وكان من الكتب المتوسطة الحجم عن التاريخ الإسلامي كتاب باسم "حماة الإسلام" تأليف الكاتب السوري رفيق العظم كان من الكتب المقررة في دراسات الإخوان ، وقرأ جمال البنا كتب الشيخ أبو زهرة كلها ، وقبلها كان قرأ أول من كتب من الشيوخ عن التاريخ الإسلامي وهو الشيخ عبد الوهاب النجار الذي أصدر كتابه عن تاريخ الخلفاء الراشدين ولا يمكن حصر الكتب التي قرأها عن التاريخ الإسلامي .
ولكن أهم من هذا أن جمال البنا ظل وثيق الصلة بالقرآن ، وكان يقرأه المرة تلو المرة ويحفظ بعض سـوره ، ولكنه لم يكن موهوبًا في الحفظ ، وكانت تلك هي إحدى نقط الضعف في جمال البنا كمحاضر إسلامي ، فما لم يرصع المحاضر كلمته بآيات من القرآن يجيد حفظها وتلاوتها فإن المحاضرة تفقد طابعها الإسلامي .
ويدل كتاب "مسئولية الانحلال بين الشعوب والقادة كما يوضحها القرآن الكريم" الذي صدر سنة 1952 على العلاقة الوثيقة ما بين جمال البنا والقرآن الكريم .
وعُني جمال البنا بدراسة أصول الفقه ، ولكنه لم يحاول أن يدرس "الفقه" ، أي القضايا الفرعية والجزئية لأنها تمثل أحكام الفقهاء ، وكان جمال البنا يرى أن الفقهاء أبناء عصرهم من ناحية ، ومقنني الدولة التي كانت قد وصلت إلى مستوى الإمبراطورية ، وكان هذا يبعدهم عن عالم القرآن والرسول .
* * *
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
[7]
روافد أوروبية وعصرية
كان جمال البنا قد تبين أن من الضروري له أن يحكم الإنجليزية حتى يستطيع الإلمام بالمراجع بلغتها ، وكان قد قابل الأستاذ محمود حسني العرابي ــ الزعيم العمالي والسكرتير العام لاتحاد النقابات في العشرينات من القرن الماضي الذي اتجه اتجاهًا شيوعيًا وأوفد إلى موسكو ليطلب انضمام الاتحاد المصري للكومنترن ــ الأممية العمالية التي أسسها لينين لينافس بها بقايا الدولية الثانية التي مزقتها الحرب العالمية الأولى ــ وكان محمود حسني العرابي هو الزعيم العمالي المصري الوحيد الذي قابل لينين ، وأصر لينين على تطبيق النقاط الـ 21 التي وضعها لقبول عضوية الكومنترن ، وكانت تقضي بأن يقوم التنظيم العمالي باضرابات ومظاهرات مناصرة للاتحاد السوفيتي الوليد ، وأوضح حسني العرابي للينين الظرف الخاص ، وأن مصر الآن تقوم بثورة شعبية يرأسها حزب الوفد ، وإن أي مظاهرة ضده ستقضي على اتحاد العمال ، ولكن لينين أصر ، وعاد حسني العرابي بأوامر لينين وبدأ في تطبيقها الاتحاد ، وكان في هذا نهايته ، ليس هذا هو المهم ، فالحديث ذو شجون ، المهم أن جمال البنا في إحدى منعطفاته العمالية قابل الأستاذ حسني العرابي وكان جمال البنا قد قرأ ترجمته لكتاب ماكدونالد عن الاشتراكية ، وسأله كيف أحكم الإنجليزية ، فضحك وقال "بالقوة" ، ووضح ذلك أنه تعلمها بجهده الخاص وبعد كفاح عدة سنين ، ورأى جمال البنا أن عليه أن يسلك الطريق نفسه وكافح عددًا من السنين حتى لانت له اللغة وبدأ يتفهم سطور الكتب ، في هذه الفترة كانت المعسكرات البريطانية في الإسماعيلية وفايد وغيرها تستغني عن كتبها التي كانت توفرها لجنودها ، وامتلأت أسوار حديقة الأزبكية ــ السوق الشعبي للكتب ــ مئات النسخ من الكتب الإنجليزية التي كان يصدرها نادي الكتاب اليساري Left Book Club ، وكانت تصدر بطبعات شعبية بغلاف أحمر مكتوب عليه "لا يباع للجمهور" ، وكانت الأربعينات هي إحدى فترات ازدهار الفكر الاشتراكي والعمالي في بريطانيا ، وتمكن حزب العمال من نيل الأغلبية في مجلس العموم وتكوين الوزارة سنة 1945 ، وكانت كلها سياسية اشتراكية الاتجاه ، بالإضافة إلى آلاف الطبعات من طبعة "بنجوين" و"بليكان" الشعبية ، وكان جمال البنا زبونـًا دائمًا ويوميًا لسور الأزبكية يعرفه كل بائعيها ، وكان يشتري كل يوم عددًا منها بما لا يزيد عن خمسة قروش وربما أقل للكتاب ، وكانت هذه الكتب هي أساس المكتبة الإنجليزية لجمال البنا التي بلغت ثلاثة آلاف كتاب .
على أن سور الأزبكية كان يعرض أحياناً أعظم المراجع الكلاسيكية أهمية لأنه كان يشتري مكتبات العلماء بعد وفاتهم ، وفي إحدى المرات ذكروا لجمال البنا أنهم سيشترون مكتبة الدكتور لهيطة وكان يعرفها عندما زاره بمنزله ، وكان الدكتور لهيطة قد نال الدكتوراه من جامعة ليدز في العشرينات عن موضوع عمالي ، فأكد عليهم جمال البنا إخطاره بمجرد شرائهم لها ، وقد كان فأسرع جمال البنا واشترى مجموعة ثمينة ولا تعوض عن الاقتصاد البريطاني والاشتراكي منها كتاب "رأس المال" لماركس وعددًا أخرى من الكتب اليسارية والعمالية وكثيرًا ما أحس الندم لأنه لم يشتر بعض الكتب للاختلاف في ثمنها ببضعة قروش .
ويذكر جمال البنا أنه قد مر على السور فرأى كتابًا عن الحركة العمالية الأمريكية خلال الفترة من 1940 إلى 1945 وكان كتابًا ضخمًا في 700 صفحة فلما اشتطوا في ثمنه قال لهم إن هذا الكتاب لا يمكن أن يشتريه إلا شخص واحد يدعى أمين عز الدين إذا وقع بصره عليه وهيهات ، ولكن حدث بالفعل أن كان أمين عز الدين يمر على السور ــ وكان هذا من عادته ــ ورأى الكتاب فوقف عنده ولما اشتطوا في الثمن قال لهم إن كتابكم هذا لا يمكن أن يشتريه إلا شخص واحد هو جمال البنا وتركه لأنه رغم أنه كان أكثر المفكرين المعنيين بقضية العمل والنقابات فإن وقته كان مزدحمًا ولم يكن مستعدًا لقراءة 700 صفحة عن الحركة العمالية في أمريكا خلال خمس سنوات ، ولكن جمال البنا كان يضع كتابه المشهور عن الحركة العمالية في أمريكا ، ولهذا عاد إلى السور ليجد الكتاب وليشتريه في النهاية .
كان إقبال جمال البنا على تعلم الإنجليزية نفعيًا خالصًا ، بمعنى أنه لم يتعلمها للاستمتاع بالبلاغة الإنجليزية أي شكسبير وبقية الشعراء والأدباء ولكن ليفك طلاسم اللغة وليتعرف على مراجعه في الاقتصاد والحضارة والتاريخ والحركات الشعبية .. الخ ، وظل حتى الآن لا يتذوق الأدب الإنجليزي ، بل ولا يتكلم بطلاقة اللغة الإنجليزية ، كانت إنجليزيته إنجليزية قارئ لا إنجليزية متحدث .
ولا يمكن حصر الكتب الإنجليزية التي قرأها جمال البنا في الخمسينات والستينات ، ويمكن القول أنه في الأربعينات والخمسينات كان يقــرأ كتابًا إنجليزيًا كل يومين أو ثلاثة ، ومكتبته الإنجليزية تضم ثلاثة آلاف كتاب ، الكثير يحمل توقيعه وتاريخ شـرائه وبعض التأشيرات ، إن إصداره لعدد من الكتب عن الحركة النقابية في بريطانيا والحركة النقابية في الولايات المتحدة ، وكذلك كتابة عن "ظهور وسقوط جمهورية فايمار" وإحساسه العميق عن ضرورة الإتقان والإحاطةبكل صغيرة وكبيرة ، وأنه قد لا يستفيد من كتاب ما إلا من بضعة صفحات أو سطور ، وفكرته عن أن الحركة النقابية هي جزء لا يتجزأ من مجتمعها ولا يمكن فهمها إلا بعد فهم هذا المجتمع بسياساته واقتصادياته وخلفياته الحضارية ، فهذا كله جعله يغوض في أعماق المراجع والكتب عن بريطانيا وأمريكا وألمانيا والا تحاد السوفيتي بوجه خاص ، وكان جمال البنا يفكر في تأليف كتاب عن الاتحاد السوفيتي بعنوان "المخاض الدموي وظهور الاتحاد السوفيتي" يماثل كتاب "فايمار" ، وكذلك كتاب عن تركيا بعد الحرب العالمية الأولى ، وكانت هذه الدول روسيا وألمانيا وتركيا هي الدول التي حكمت عليها الحرب العالمية الأولى بالهزيمة ، وكان عليها أن تعمل لاستعادة كيانها وجاءت الفكرة بعد هزيمة مصر سنة 1967 لضرب المثل لعدم الاستسلام لليأس بعد الهزيمة ، وأخذ جمال البنا يستعيد تاريخ روسيا من القرون الوسطى حتى مشارف العصر ، واشترى قرابة ثلثمائة كتاب وضعها في "مكتبة خاصة" وتصفح الكثير منها ووضع الهيكل العام .. الخ ، ولكن "جمح الزمان" وظهرت اهتمامات أولى وبهذا استبعد جمال البنا فكرة إصداره ولم يضع ما قرأه هدرًا ، فإنه زود جمال البنا بثقافة شاملة عن "روسيا" ثم عن "لينين" بطل ثورة 17 أكتوبر ، وكان من أفضل ما استفاده تعرفه على الكاتب إسحق دوتشر وثلاثيته عن تروتسكي وكتاباته عن لينين وثورة أكتوبر ، وكان جمال البنا يرى أن من الضروري لكل مثقف في العصر الحديث ، بما في ذلك المثقف الإسلامي أن يدرس الحركة الاشتراكية منذ أن فكر فيها روبرت أوين حتى أحكمها ماركس في نظريته ، وحتى حققها لينين بطريقته الخاصة ، وبقدر ما أعجب بمرحلتها "العذرية" الإنسانية الأولى بقدر ما ضاق بالطوق الحديدي الذي طوقها به ماركس وبالأسلوب الديكتاتوري الرافض لكل حرية الذي طبعها به لينين ، ولكنه مع ذلك يفهم تجاوب كل المفكرين الإنسانيين الأوروبيين معها باعتبارها نظرية للعدالة وللجماهير ، لعدم قيام الكنيسة كحامية للعدالة والإنسان ، ولأن المجتمع الأوروبي لم يكن لديه فكرة عما جاء به الإسلام ، كما استبعد جمال البنا إصدار كتاب تركيا ، ولو قدر لهذين الكتابين أن يصدرا ، وأن يكونا على غرار "فايمار" لقدما إضافة متميزة في الأدب السياسي .
غرست هذه الروافد بعض المبادئ المحورية والرئيسية في فكر جمال البنا ، مثل فكرة الحرية في مجال الفكر والمعارضة السياسية ، ومثل العـدل في مجال العلاقات ما بين الحاكم والمحكوم ، الرجل والمرأة ، ، الغني والفقير ، ومثل تقدير العمل الشعبي وكل الصور التي تأخذه وأبرزها الحركة النقابية وتحرير المرأة ، كما كان يرى في القيم والمعرفة نورًا وقوة ، وأعطته آفاقـًا فسيحة وعديدة للعمل السياسي ونهضة الشعوب والجماعات ، ولكن أهم هذه الأفكار هو "الإنسان" ، إن الإنسان هو الغاية ، وكل ما عداه وسائل .
* * *
كانت السينما ــ أعني السينما الأمريكية ــ من الروافد الأوروبية التي أسهمت في تكوين ثقافة جمال البنا ، لقد كانت النافذة التي مكنت جمال البنا أن يرى المجتمع الأمريكي مصورًا بعد أن قرأه مكتوبًا ، وفي هذه الفترة ــ الأربعينيات ــ كانت هوليود نشطة وكانت وكانت تعج بالنجوم والأبطال مثل جوان كروفورد وجريتا جاربو ولانا تيرنر وجين هاريو وكولديت كوليير وكاترين هيبورن (التي كانوا يطلقون عليها أقبح الجميلات) ، وكانت ممثلة قديرة وآخرهن ريتا هيوارث ، ومن الرجال  سبنسر تراسي وكاري جرانت وكلارك جيبل ، وكانت معظم الروايات رومانتيكية بعيدة عن العنف ــ باستثناء الروايات التي صورت الحرب اليابانية/الأمريكية وقيادة ماك آرثر ــ ولكن لم تكن أفلام العنف هي السائدة ، ومن الأفلام التي استمتع بها جمال البنا فيلم "أعظم استعراض في العالم" الذي أدت دور البطولة فيه بيتي هاتون ، و"جسر واترلو" ورواية تولستوى "آنا كارنينا" .
ولا ينس جمال البنا أمسية أمضاها في سينما حديقة الأزبكية التي كانت تعرض حفلاتها الصيفية عند الغروب ، فما كان أجمل منظر الغروب الساحر ، وما كان أرق النسيم ، وكان ثمن التذكرة 5ر6 قرش دفعها جمال البنا ليجلس على مائدة مستقلة ويطلب "فواكه بالكريمة" وكان الفيلم هو "نينوتشكا" أحد الأفلام الأخيرة للمبدعة جريتا جاربو ، ونينوتشكا رفيقة أوفدها الاتحاد السوفيتي لأمريكا لتبحث عن مجوهرات الأسرة القيصرية التي هُربت إلى هناك بعد مقتل أفرادها ، فشاهد الرفيقة وهي تنزل من القطار وتحمل حقيبتها الكبيرة رافضة معونة الحمال وبعض تصرفاتها في الفندق ، وأبرز الفيلم المفارقات ما بين السلوك السوفيتي والسلوك الرأسمالي ، وفي الفندق تقع في حب بطل القصة الذي يحبها أيضًا ويتعاون معها حتى يعثر على الجواهر المهربة وعندما يقدم إليها بعضها تقول "لا أنها ملك الشعب" .
علمت السينما جمال البنا آداب المجتمع وقد سمع فيها لأول مرة كلمة "ضمير اجتماعي"  وطريقة الأكل والشرب واللبس والحديث وقربته إلى الأسلوب الأوروبي في الحياة .. الخ ، كما أتاحت له الاستمتاع بجمال البطلات وإحكام الإخراج واستخدام الألوان الطبيعية التي كانت حدثاً جديدًا ، باختصار نقلتـه عبر الشاشة إلى لنــدن ونيويورك وباريس وبقية العوالم قبل أن يطأ بقدمه أرضًا أوروبية سنة 1978 بكثير .
وكان جمال البنا يذهب إلى السينما مرتين في الأسبوع ، عادة في الحفلة السواريه (9 ــ 12) ، وكان يعود بعد منتصف الليل فيفتح باب الشقة بمفتاحه ويجد والدته وقد تركت له عشاءه على المائدة .
أما السينما المصرية فلم يكن لها هذا الإبهار ، وأما المسرح فلم يدخله للتعقيدات التي كانت تحوطه ولأنه لم يتقبل ابدًا الحركات المصطنعة والمواقف التي كان يرى فيها إسقاطاً وابتذالاً كأن يؤدي الرجل دور المرأة والعكس أو الحركات السخيفة لهز الوسط والردفين كما تفعل الراقصات ،  وفي نظره أن ممثلاً مثل الريحاني لم يحسن التمثيل إلا في المرحلة الأخيرة من حياته عندما لم يعد يمثل ، ولكن يؤدي الدور كما يؤدي الحياة ، فأرقى التمثيل هو ما لا يكون فيه تمثيل ، هذا شيء لم يفهمه معظم الممثلين الذين نقلوا هذه الصور المتكلفة من الأداء المسرحي إلى السينما عندما تحولت مسرحيات عديدة إلى روايات سينمائية .
وقد استمر جمال البنا زائرًا للسينما حتى الخمسينات والستينات عندما انتقل بزوجته إلى مسكن مستقل في منطقة الظاهر ، وكانت قبلاً حيًا يسكنه اليهــود الذين أقاموا به قرابة خمسة من دور السينما المتجاورة ، ولكنه مع تكاثف المشاغل لم يعد يتردد عليها خاصة بعد ظهور التليفزيون الذي نقل السينما إلى البيت ولا يكاد يذكر أنه دخل سينما في العشرين عامًا الأخيرة من عمره ، لأن صورة كل شيء تغيرت ، صورة جمال البنا وصورة السينما وصورة المجتمع السهل الذي كان يمكن أن تجد السينما قريبة وأن تدفع فيها مبلغاً زهيدًا لا يذكر دون زحام القاهرة وصعوبة المواصلات ــ بما في ذلك التاكسي ــ وبُعد دور السينما ثم إن أجور تذاكرها أصبحت بالجنيهات وكانت قبلاً ذلك بالقروش .
كان تأثير هذا الرافد من روافد الثقافة الأوروبية أنها قربت جمال البنا من المجتمع الأوروبي ، فبعد أن أساغه فكريًا وعقليًا نتيجـة للمطالعة ، فإنها نقلته نفسيًا وعاطفيًا ليعايشه مع السينما فترة ما .
وهناك إسهام إضافي هو أنها حقتت له قدرًا من الإشباع العاطفي وحصنته إلى حد ما من مضايقات فترة المراهفة والشباب وأنقذته من الكبت الحاد الذي كان المجتمع المصري التقليدي يفرضه بحيث لم يحس بوطأته .
* * *
 
 
 
 
 
 
 
 
[8]
أول الحصـــاد
في سنة 1945 أصدر جمال البنا أول كتبه "ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد" وهو دراسة اجتماعية ، وكانت حركة الخدمة الاجتماعية قد ظهرت في مصر وتكونت الجمعية المصرية للخدمة الاجتماعية ، وكانت هناك بعض العلاقات لجمال البنا برئيسها "العشماوي باشا" والسيدة إلزا ثابت مديرة مكتب أحداث بولاق الذي عمل به الأستاذ سيد عويس .
ولكن عام 1946 شاهد ما يشبه انفجارًا ، فكتب جمال البنا كتيبه عن "نقد الماركسية" وكتيبه الآخر عن "على هامش المفاوضات" ، فضلاً عن كتابه الهام "ديمقراطية جديدة" وكان فصل "فهم جديد للدين" يتضمن بذور فكرة دعوة الإحياء ومبدئها الرئيسي وهو الإنسان ووجه فيه جمال البنا نداءه للإخوان المسلمين الذين كانوا قد وصلوا للأوج "لا تؤمنوا بالإيمان .. ولكن آمنوا  بالإنسان" .
وفي هذه السنة نفسها أسس جمال البنا حزب العمل الوطني الاجتماعي .
تجلت أصالة حزب العمل الوطني الاجتماعي في اسمه أولاً ، وفي أهدافه ثانيًا ، فلم يكن في مصر حزب يطلق عليه حزب العمل ، ثم يضيف إلى ذلك الوطني وأخيرًا الاجتماعي ، وهي البديل الذي اختاره جمال البنا بدل "الاشتراكي" ، وكان الأصل الإنجليزي للكلمة يشترك في معنى "الاجتماعي" و "الاشتراكي" وأثر جمال البنا الاجتماعي للدلالة على الهوية "الحضارية" للحزب أكثر من الهوية "السياسية" له .
أما في الهدف فقد كان هدفه "انهاء فترة الانتقال الحضاري التي تمر بها مصر منذ أن دخل نابليون بمدافعه منهيًا العهد القـديم ــ عهد الفرسان والمماليك ــ ومؤذنـًا بعصر حديث لم يستطع المجتمع المصري أن يتوصل إلى التلاءوم معه مع المحافظة على مقومات و"هويــة" مصر .
من الواضح من التسمية ، ومن الأهداف أنه حزب فريد بين أحزاب مصر وقتئذ التي كانت تحمل أسماء "الوفد" أو "الوطني" أو "الأحرار الدستوريين" أو السعدي" ، أما بالنسبة للأهداف فهذا ما كانت تعجز عنه هامة وطاقة هذه الأحزاب .
المفارقة أن "جسم الحزب" كان أبعد ما يكون عن أن يحقق شيئـًا من أهدافه ، لأنه كان مجموعة من العمال والطلبة وصغار الموظفين ــ حوالي عشرين أو ثلاثين ــ وما كانوا يفقهون بالطبع هذه المضامين التي يوحي إليها اسمه وهدفه ، ولهذا اقتصر أمره على نوع من النشاط الاجتماعي كإلقاء محاضرات أو تنظيم حفلات شاي ، وأذكر أننا دعونا الشاعر ناجي ليحدثنا عن سيكلوجية الفكاهة ، كما اقترح أحد الأعضاء ويدعى محمد مرسي وكان موظفـًا صغيرًا بالسكة الحديد أن يدعــو قريبه الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير "آخر ساعة" ، وجاء هيكل وحدثنا كيف دُعي للأخوان ؟ وكيف اتصل بالأستاذ التابعي وكان كارهًا ؟ وكيف ذهبا ؟ وكيف قدم لهما قهوة كريهة ، وسأله جمال البنا كيف توصل لإجادة الإنجليزية ؟ فقال إنه كان يقابل المراسلين العسكريين للحلفاء في أحد البارات المشهورة ويتبادل معهم الحديث ، وفي مناسبة أخرى نظم الحزب حفلة شاي تكريمًا للسباح حسن عبد الرحيم عندما اجتاز "المانش" وكان حسن عبد الرحيم يمت إلى الإخوان بصلة ، وفي هذه المناسبة علق الحزب على المدخل الخارجي لبابه يافطـة طويلة كتب عليها كلمة ترحيب "بحسن عبد الرحيم قاهر المانش" ولم تكن هذه اللافتات مألوفة وقتئذ ، وإنما ألم بها جمال البنا من مطالعاته ومن مشاهدته للسينما الأمريكية ، كما قدم الحزب لحسن عبد الرحيم تحية قصيدة شعرية كتبها الأستاذ عبد الباسط ــ شقيق جمال البنا ــ على ورق فاخر وبخط خطاط شهير ، وكانت المائدة بسيطة فنجان شاي وبعض قطع الحلوى ، ولكن حسن عبد الرحيم ألقى كلمة حارة أكد فيها أن هذا الحفل آثر فيه أكثر من الحفلات الكبرى التي أقيمت له .
وكان الحزب ينظم حلقات للمطالعة ، كما كان يعير كتبًا للأعضاء وللآخرين أيضًا جذبًا لهم .
كان الحــزب تجســيمًا لجمـال البنا : مقـدرة في التنظير وقصـور في التنظيم ، وقد تحلل عندما اعتقل جمال البنا ، فلاذ كل الأعضـاء بالفرار بينما وضع صاحب البيت يده على متاع الحزب وكان طقم شاي وجهاز راديو وموائد يمكن طيها وعددًا من الكراسي في مقابل الإيجار المتأخر ، وعندما عاد جمال البنا من المعتقل كان الحزب قد تلاشى .
مع هذا ، فإن جمال البنا أعاد تجربة تنظيم هيئة مرة أخرى في أوائل الخمسينات أي عقب الإفراج عنه من الاعتقال ولكن بشكل مختلف تلك كانت "اللجنة الشعبية لإصلاح السجون" ، وكان جمال البنا مهتمًا بقضية السجون خلال مطالعاته ، كما قرأ شيئـًا عما بُـذل من جهود لإصلاحها في أوروبا ، ولما اعتقل حمله بعض المعتقلين والمسجونين أمانة العمل لإصلاحها ، وسنحت له الفرصة ، فقدَّم لها بكتابة "عمود" في جريدة "الدعوة" وكانت وقتئذ من المجلات الذائعة الصيت تحت عنوان "من وراء القضبان" ، واستطاع أن يجذب عددًا محدودًا من المعنيين بالقضية الاجتماعية بفضل اتصالاته بالسيدة سنية عنان صاحبة "مبرة فريال" وأختها السيدة بهيجة البكري التي سبق الإشارة إليها كان ممن عمل معه فيها خمسة من السيدات ، واستغل جمال البنا صفته الصحفية في زبارات للسجون ، وكان من العوامل المهمة أن تلك كانت فترة الربيع القصير ما بين الإخوان وضباط يوليو وكان قد زار هو وبهيجة البكري عبد الحكيم عامر الذي تتبعه مصلحة السجون في مكتبه ورحب بهما ، كما أرسل خطابًا يؤيد عمل اللجنة وقد طبعته في بعض كتيباتها وتصور قادة السجون أن هناك علاقة خفية تربط جمال البنا بسلطة الجيش ، ولهذا كان يقابل بالترحيب ويسير معه المدير العام في أبهاء "طرة" ويتبعه عدد من الباكباشية يتلوهم عدد من الصاغات وبقية الرتب العسكرية ، وكان يريه الخبز والطعام .. الخ .
وكان للجنة نصير في صميم السجون هو الصاغ عبد الباسط شقيق جمال البنا ، وكان قد دخل في صراع مع سلطات البوليس بعد اغتيال الإمام حسن البنا ، وأوقف عن الخدمة ، ولكن الأمور انقلبت بعد حركة الجيش فأعيد واحتفظ له بأقدميته ، وانتهى به الحال إلى سجن طرة ، وكان عبد الباسط شخصًا جريئـًا مقدامًا لا يلتزم بتقاليد ضباط البوليس فكان يختلط بالمسجونين كما لو كان واحدًا منهم فوثقوا به ، وعندما كان يحين موعد زيارة "اللجنة" كان يخطر المسجونين ، وفي إحدى المناسبات اجتمعوا في ساحة الليمان وخطب فيهم جمال البنا وحملوه على الأكتاف وكان المشهد أشبه بطلبة وحرم جامعي مما هو بسجن ومسجونين ، ومن سوء الحظ أن الفيلم الذي أخذه مصور مجلة "الدعوة" وكان يدعي "بزري" احترق في التحميض ولكن كان هناك صور أخرى لجمال البنا في وسطهم .
نجحت اللجنة الشعبية لإصلاح السجون ، ولكن وزارة الشئون الاجتماعية اقترحت تغيير الاسم إلى "الجمعية المصرية لرعاية المسجونين وأسرهم" وجذبت عددًا من الشخصيات البارزة مثل المستشار محمد فتحي ، وعقدت اجتماعات ما بين خبراء الجمعية وكبار موظفي السجون للنظر فيما طالبت به الجمعية من إصلاحات مثل عدم احتساب السـابقة الأولى ، وتحطيم الأغــلال الحديدية والنوم على "برش" .. الخ .
وكان لفيف من ضباط السجون ينقمون على الجمعية نجاحها وتدخلها في عملهم ، وجاءت ساعتهم للانتقام سنة 1954 عندما احتدمت العداوة ما بين الإخوان والضباط ، وبدأت الاعتقالات ، فحبكوا مكيدة للجمعية تمكنوا بها من وضع يدهم عليها ، وكان مما أيدهم في هذا سياسة الهيمنة على كل الجمعيات الأهلية التي اتبعتها الحكومة .
كان جمال البنا يستطيع لو استقتل في المعركة أن يستعيد الجمعية ولكنه كان قد زهد فيها ، فليس هو "رجل الخدمة الاجتماعية" ، ثم إن ظفره بها كان سيكسبه عداوة العهد ، فنفض منها اليدين ، وبعد أن كان مجلس إدارتها يضم سيدات ومفكرين أصبح يضم ضباط السجون وأشباههم ، وتجمد نشاطها ، بيد أن عملها الأول لم يذهب هباء ، فقد تحقق ــ مع الزمن ــ الكثير مما طالبت به .
* * *
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
[9]
نقطة الالتقاء : الإنسان
عندما قام جمال عبد الناصر بانقلابه العسكري الناجح ، بدأ جمال البنا في كتابة كتاب باسم "ترشيد النهضة .. دراسة عبر المستقبل المصري" ، وأهداه إلى "الأبطال محمد نجيب وإخوانه لكي يظلوا أبطالاً وحتى لا يكون الفجر الكاذب" ، وكان الفصل الأول بعنوان "تقييم حركة 23 يوليو" قدم فيه تعريفـًا للثورة بأنها حركة تقوم على نظرية محكمة تستهدف تغييرًا شاملاً وتشترك فيها الجماهير ، وأن حركة عبد الناصر طبقـًا لهذا المعيار لا تعد ثورة ، فليس لها نظرية محكمة ، ولا تستهدف التغيير الشامل ، ولم تشترك فيها جماهير ، لأنها جمعية سرية من الضباط ، هي إذن انقلاب عسكري ، في الفصل الثاني "تساءل هلى يمكن تحويل الانقلاب إلى ثورة" بالنظر للظروف الخاصة بمصر ، ومع أن هذا يستحيل نظريًا ؟ ولكنه ممكن إذا صدق العزم ، وأول ذلك "البحث عن نظرية" وهو موضوع الفصل الثالث ، ثم "حزب من نوع جديد" لأنه ابن الحركة ، ولأنه سينادي بتغيير شامل وبهذا ينتهي القسم الأول من الكتاب وهو في قرابة 80 صفحة .
لم يكن جمال البنا يعلم وهو يكتب بسرعة وحمية ويرسل إلى المطبعة فورًا ما يكتبه لتجمعه وتطبعه أن المطبعة كانت ترسل نسخة مما تطبعه إلى الرقابة ، وأن الرقابة ما أن فرغت من قراءة الفصل الأول حتى جن جنونها وقررت فورًا مصادرته ، وجاء هذا بعد أن طبعت المطبعة الفصول الخمسة الأولى وهكذا ، فلما مر جمال البنا على المطبعة كعادته ليسلمها ما كتبه ويأخذ منها نسخة مما طبعته ليراجعها ويثبت ما فيها من أخطاء حتى وجد أمامه لفيفـًا من الضباط وبعض الجنود وإحدى عربات البوليس ، ولما علم الضابط بأنه هو المؤلف أخبره بمصادرة الكتاب وأخذ عليه تعهدًا بعدم مواصلة الطبع ، ولما سأله عن الرقابة ، قال من الممكن أن تذهب إلى البكباشي أنور السادات فهو كبير الرقباء قال هذا واشار إلى جنده الذين حملوا كل ما طبعته المطبعة وهو ورق "أفرخ" لم تطبق بعد لتكون "ملازم" .
وذهب جمال البنا إلى البكباشي أنور السادات الذي أخبره أن أربعة من الضباط قراءوا كتابه ، كل على حدة ، وقرروا مصادرته .
فكر جمال البنا في رفع قضية ، ولكن لم يكن في جيبه قيمة الرسوم المطلوبة لأنه دفع كل ما كان لديه للمطبعة ، وحدث هذا كله في العشرة أيام الأولى من قيام الحركة ، وكان جمال البنا يكتب بسـرعة وثقة .
وكانت الحركة قد أصدرت في اليوم الثاني لها أمرًا بالقبض على قتلة حسن البنا وكانوا معروفين يتمتعون بمناصبهم البوليسية ، ورأى والد جمال البنا أن هذه لفتة تستحق الشكر ، فجمع أبناءه وذهب لمجلس قيادة الثورة ، فقابل أولاً محمد نجيب وثانيًا جمال عبد الناصر .
كان محمد نجيب صريحًا بسيطـًا ، مهذبًا ليس فيه شــائبة كبر أو تكلف ، وقد كان هو الذي أحبه شــعب مصــر للنظــرة الأولى ، أما جمال عبد الناصر فقد كان شيئـًا آخر ، يسكت ولا يتكلم يتفحص زائره بعينيه كعيني أفعى ، يأخذ ولا يعطي ، يسمع ولا يتكلم ، ولكنه عندما قدم الوالد جمال البنا قائلاً : "هذا أصغر أبنائي" ، بادره هل أنت شيوعي ؟ فذكر جمال البنا أنه كان قد استشهد بإحدى كلمــات "ماركس" عن الثـورة ، وقال : "كلا .. بل إن لي رسالة نقد للماركسية" ، فرد فما هو ذا الكلام الذي قلته في كتابك ؟ كان عبد الناصر عدوًا مطبوعًا للشيوعية ، وظن أن جمال البنا شــيوعي ، أو أن لديه ميــول شيوعية مضادة للحركة .
مع أن الحركة لم تتسم وقتئذ ببادرة عداوة ، فإن جمال البنا فهم من المصادرة أنهم لا يسمحون بنقد ، فآثر أن لا يدخل معهم في معركة ، وقرر أن يقصر نشاطه على العمل النقابي دون السياسي أو الديني .
كان جمال البنا قد حصل على رخصة مجلة أسبوعية تصدر شهرية باسم مجلة "الفكر" في فترة ربيع العلاقات مع ضباط الحركة "بضمانة" من أحد أصدقائه من أعيان الريف ، وكان هو صاحب الامتياز ورئيس التحرير ، ولم يكد يبدأ في إجراءات الإصدار حتى فوجئ بحدث 1954 (محاولة اغتيال عبد الناصر بميدان المنشية بالإسكندرية والهجوم الوحشي على الإخوان) فتوقف ، وبعد فترة كان يطبع أعدادًا رمزية ثم استقر رأيه على أن يصدرها في شكل كتيب ، كان أولها "موقف المفكر العربي تجاه المذاهب السياسية المعاصرة" ، ثم الثاني "الأزمة والبطالة في الرأسمالية" ، وكان كل منهما في قرابة 160 صفحة من القطع الصغير ، ثم فتر اهتمامه بها لأنه وجد أن تحريرها سيشغله عن المهمة التي نصب نفسه لها وقتئذ في الحركة النقابية ، فتراخى في الإصدار حتى جاءه إنذار بأنه إن لم يواصل الإصدار فإنه سيفقد ترخيصه ، فلم يرد .
طوال الحقبة الناصرية استبعد جمال البنا أي نشاط ميداني ، وعكف على محاضرات المؤسسة العمالية ومعاهدها ، كما أصدر قرابة ثلاثين كتابًا عن الحركة العمالية المصرية ، أحدها عن تاريخها من البداية حتى الفترة المعاصرة في 750 صفحة ، والآخر عن الحرية النقابية في ثلاثة أجزاء تضم صفحاتها 700 صفحة ، ولم يكن لدي الحركة العمالية شيء من هذا .
مع موت عبد الناصر وتولية السادات حدث انفراج فسمح بأن يعود جمال البنا لنشاطه الإسلامي ، وبدأت البذرة التي وضعت سنة 1946 تتطور وأخذت مجموعة الكتب الإسلامية في الظهور فصدر في سنة 1972 "روح الإسلام" الذي طبع ثلاث مرات ، ثم "الأصلان العظيمان" سنة 1982 الذي حمل الفكر المتطور لجمال البنا إزاء القرآن والسُـنة .
نقطة اللقاء (الإنسان) :
كانت مطالعات جمال البنا في السبعينيات والثمانينيات كلها تقربه من فكرة الإنسان ، فكانت مطالعاته الأوروبية كلها تهدف إلى ذلك وأصبح إيمانه بالحرية ــ وهي قاعدة القيم الأوروبية ــ بدون حدود ، في الوقت نفسه كانت دراساته للقرآن وللرسول r تصب في هذا المرمى ، وهذا لأنه لم يلوث ذهنه بدراسات الفقهاء ، ولا بحوثهم في الفقه أو التوحيد ــ وهي التي استكشف عوارها وكذلك السُـنة والتفسير ــ وهما قاعدة الفقه كله وقصر مرجعيته على القرآن وحده ، وأنه في دراسته للإسلام كان يدرسه من خارج الإسلام وليس من داخله ، ومن شأن هذا أنها أبعدته عن المؤثرات الجزئية وجعلته يرى الإسلام ككل ، الإسلام كغابة دون أن تشغله أشجارها وجزئياتها وتعوقه عن أن يصدر أحكامًا كلية .
اكتشف جمال البنا أن القرآن يبدأ بمشية الله تعالى أن يجعل الإنسان خليفة له على الأرض وأن يسخر له كل ما فيها من مواد وقوى ، وأنه علمـه الأسماء ، أي مفاتيح ورمـوز المعرفة ، وأنه أسجد له الملائكة ، وأنه زوده بضمير وإرادة بحيث يكون الخيار له وتكون الحياة إرادة ، كما تصور شوبنهور ، كما أن القرآن تحدث عن حرية الفكر والاعتقاد بما لا يرقى إليه أي نص من نصوص حقوق الإنسان ، بل وجعل الهدى والضلال خيارًا شخصيًا لا علاقة له بالنظام العام ، لأن إيمان فرد أو كفره لن يؤثر في ملك الله ، وإنما سيؤثر على نفسه .
وفي النهاية وجد في الإسلام ما أراده ، وجد فيه أفضل ما انتهت إليه حضارة الغـرب : الحرية والعـلم والإرادة ، وفيه أيضًا ما لا يوجد في حضارة الغرب ألا وهو العدل الذي يصون هذه القيم العظيمة ويحميها من الشطط  .
وهكذا انتهت الرحلة الفكرية الطويلة لجمال البنا باستكشاف الإسلام وكانت نقطة التلاقي هي (الإنسان) .
طوال ستين عامًا من سنة 1946 عندما بدأت الإشارة الأولى في فصل "فهم جديد للدين" في كتاب "ديمقراطية جديدة" حتى سنة 2000 ، كانت هذه الصورة الجديدة للإسلام محل دراسة وطرق ومعالجة ، ولم يضق جمال البنا بأن تظل الدعوة حبيسة في أطوائه طوال هذه المدة لأنه رجل فكر ، فكانت تعيش معه قدر ما كان يعيش معها ، وكان لابد أن يدرس كل متداعياتها وأبعادها وأن يفرِّق من الإنسان الإسلامي والإنسان الأوروبي ، ولم يحس حاجة لأن تظهر إلا عندما جاء الوقت الذي استكمل فيه هذا الجنين "العجوز" أعضاءه ، فانزلق في مخاض طبيعي تطلبته الأجواء والظروف وكان ذلك سنة 2000 .
وكان من حسنات ذلك أنها مكنت الداعية من أن ينظر طويلاً ــ ويعيد النظر ــ وسمحت للتطور الفكري أن يصاحب الفكرة ــ بحيث يضيف ويشطب ويعدل ــ حتى اللحظة الأخيرة وأبعد ذلك دعوته من أن تكون الدعوة الفطيرة أو البراقة ، ولم يبـق إلا على ما أكد التطـور صحته .
والحقيقة أن الأفكار وإن كانت واحدة إلا أن بعضها أخذ صور وتأويلات عديدة كما في فكرة الحكم التي لم تكن في البداية مستبعدة من إطار الدعوة الإسلامية على أن تكون محكومة بضمانات إسلامية وضعها القرآن ، وظهر هذا في كتاب "مسئولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث" الذي صدر سنة 1994 وكتاب "خمسة معايير للحكم الإسلامي" ، ولكن هذه الفكرة تطورت بعد عشر سنوات في كتاب "الإسلام دين وأمة وليس دينـًا ودولة" الذي صدر سنة 2004 ، والذي استبعد أن تكون الدولة جزءًا لا يتجزأ من الإسلام .
تحدث "توينبي" عن فترة اعتكاف صانع الحضارات التي يغيب فيها .. يحاور نفسه .. ويطهر أعماقه بما ينتهي إليه فكره قبل أن يظهر ، إن ظاهرة الاعتكاف ثم العودة قد ظهرت في اعتكاف الرسول r والسيد المسيح وتصورها نيتشه في "هكذا تكلم زرادشت" ، وقد حدث شيء مثل هذا لجمال البنا .
وإلى هذه المعايشة الطويلة يعود ثباتها ، وأنها لم تتأثر بسن صاحبها كما تأثر دعاة "التنوير" في مصر طه حسين وهيكل ومنصور فهمي والعقاد وعلي عبد الرازق .. الخ ، عندما بلغوا سن الشيخوخة ، فإنهم تخلوا ــ بدرجات متفاوتة ــ عن بداياتهم الباهرة ، وآووا إلى نوع من الحفاظ ، إن جمال البنا لم تزده السنوات إلا شبابًا في الفكر ، وفي العزيمة ، وفي الإرادة ، وفي الإنتاج أيضًا .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
ما هي دعوة الإحياء الإسلامي ؟
ــــــــــــــــــ
تتمحور دعوة الإحياء الإسلامي حول فكرة رئيسية هي "الإنسان المستخلف" ، فقد شاءت إرادة الله أن يجعل الإنسان خليفة له على الأرض ، وفي دين كالإسلام صارم في التوحيد فإن هذا يكون أعظم تكريم يمكن الوصول إليه ، كما يلحظ أن الله أمر الملائكة أن تسجد لآدم في حين أن لا سجود في الإسلام إلا لله .
لهذا خلق الله الإنسان ، كما خلق الأرض ، بصورة مميزة ليكونا مجلى الله ومشيئته في الكون ، فخلق آدم من طين إشارة لارتباطه بالأرض ، ثم نفخ فيه من روحه فوهبه الضمير والوعي والإرادة ، ثم علمه الأسماء كلها ، وهو تعبير عن تملك الإنسان لمفاتيح المعرفة ، كما خلق الأرض كوكبًا مميزًا بين ملايين الكواكب فجعل مناخها محتملاً ، وشق فيها البحار والأنهار ، وبسط السهول والجبال ، واختزن في جوفها المعادن ، وأوجد على سطحها الحيوان والغابات والنبات ، ليكفل للإنسان حاجته من المأكل والمسكن والملبس .
واختار من بقاعها بقعـة هي كانت أصلح البقاع لتلقي دعوة الإسلام ، هي شبه الجزيرة العربية ، حيث تنبسط الصحراء كالبحر ، وتنطلق الرياح كالعواصف ، وبين أقوام لم يكدحوا بأيديهم في الأرض ، ولم يحملوا على ظهورهم الحجر ، مما شغل حياة الناس في العهود القديمة ، ولم تذل رقابهم لملك أو إمبراطور ، ولم يخضعوا لمران النظــم وضبطها وربطها ، كانوا أحرارًا يعيشون عيشة البـداوة وتحكمهم الفطرة أو العرف ، ويعيشون في خيام يذهبون بها حيث الرعي أو في بيوت ساذجة ويتحملون الحر اللافح نهارًا والبرد القارص ليلاً ، ويعبدون آلهة من صنعهم ، فما كانت تملك تحريمًا أو تحليلاً أو تفرض قداسة أو "تابو" من أي نوع ، ولم يكن لديهم ميثولوجيا كالميثولوجيا اليونانية ، أو الميثولوجيا العبرية (وهى التوراة وما أضيف إليها من أساطير وروايات) ، تثقل كاهلهم وتعقد أفهامهم ، كانوا مثل "الفايكنج" لديهم الجرأة ، والشجاعة ، والثقة في النفس ، والإقـدام .
وكان البساط الأصفر المترامي للصحراء ، والرياح المنطلقة دون ما يصدها من جبال شاهقة تمثل أبرز خصيصتين لهذا المجتمع : المساواة والحرية ، فلم يعرف المجتمع العربي القديم النظم الطبقية ، ولا الألقاب الوراثية ، ولا الحواجز ما بين الطبقة العليا والطبقة الدنيا ، التي كانت مألوفـة في الإمبراطورية الرومانية ، والفارسية ، وواصلت البقاء حتى الثورة الفرنسية ، وظلت بقاياها حتى الآن في بعض المجتمعات التي تحمل أرستقراطيتها الألقاب الموروثة ، إن العرب لم يعرفوا الأرستقراطية المقننة حتى عندما وصلوا إلى المرحلة الإمبراطورية ، فالحضارات القديمة لم تستطع أن تخترق أساس المساواة الذي غرسته البادية وعززه الإسلام .
وأنزل الله الإسلام ليهدي هذا الإنسان المستخلف ، فالإنسان هو الغاية ، والإسلام هو الوسيلة .
لم تقدر الكتابات القديمة المعنى الكامل لاستخلاف الإنسان ، فما كان ليسمح لهم بذلك عهدهم القديم ونظمهم المستبدة ، وبحكم عهدهم وثقافتهم تصوروا أن الاستخلاف هو صورة من صور "العبودية لله" ، وشاع هذا التعبير في كتابات ابن تيمية ، وانتقل إلى بعض المفكرين المحدثين مثل المودودي الذي تصور أن مضمون هذه الخلافة هو كما لو أن أحدنا أرسل خادمًا له ليلبي أمرًا من أموره ، فإن عليه أن يحقق ما أراده سيده دون إضافة أو نقص أو تساؤل .. الخ ، إن هذا الإسقاط البشري على الله تعالى يدخل فيما قاله الله : )فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ( (النحل : 74) ، لأنه تعالى يعلم أنها أمثال "إنسانية" لا يمكن أن ترقى إلى حقيقة الله .
ويكفي للدلالة على خطأ فكرة المودودي أن الله تعالى لو أراد من هذه الخلافة العبد الطائع الذليل لما زوده بعقل ، ولا أتاح له إرادة ، أو حرية .
إن الله تعالى خلق نوعًا فريدًا من الكائنات هو الإنسان ، نفث فيه من روحه ، وعلمه الأسماء ، وسخر له كل ما في الأرض ، فكيف يقال إن صلاحية هذا الخليفة لا تعدو صلاحية عبد يرسله سيده في مهمة عليه أن يؤديها حرفيًا دون زيادة أو نقصان ، دون فكر أو فهم ؟!!
إن كلمة عبد في القرآن إنما يريد بها الله تعالى "مخلوق" ، بل وليس لها معنى إلا هذا ، أما فكرة "العبد" التي توجد في مجتمع الرقيق ، فهذه من ثمرات فكر بشري طبقي ساد في إحدى مراحل البشرية ، ومحال أن تتطرق مثل هذه الفكرة إلى مقام الله تعالى وهو خالق الحرية والحكمة ، وقد أراد القرآن من إبراز حقيقة أن الإنسان مخلوق استبعاد فكرة أنه "خالق" أو "إلــه" ، وهو أمر محتمل لأن الإنسان معرض للزلل ، وعندما يظن الإنسان أنه خالق ، وأنه سيد الوجود ، فعندئذ يكون قد ناقض ما أراده الله عندما استخلفه وأتمنه على الأرض ، ووصل إلى "الشرك بالله" ، وهو ما ينتفي عندما يمارس الإنسان صلاحياته كخليفة لله زوده بالعقل والضمير والحرية والإرادة ، وأن الله تعالى لا يتدخل في عمله بحيث يشل إرادته واختياراته الدنيوية ولا يعاقبه في الحياة الدنيا ، لأن محاسبته إنما تتم في الآخرة ، وهذا المعنى متكرر ومترادف في القرآن الكريم ، بل إن عطاء الله تعالى مبسوط للجميع غير محظور على الذين يريدون الحياة الدنيا ، وإنما يحاسب في الآخرة بمعيار لا يظلم فيه أحد قيد ذرة ، ويحكم فيه برحمة من الله تعدل مائة مرة رحمة البشر .
إن الله تعالى وإن كان يعلم بكل صغيرة وكبيرة خافية وظاهرة ، فإنه وضع للكون نظمًا يسير عليها ، ووضع للمجتمع البشري "سننـًا" يلتزم بها و"كتب" على نفسه اتباع ذلك كله ، فقال : )إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ( ، وقال : )ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ، وقال : )وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( ، وفي إطار هذه السُـنن والنظم يجب أن تفهم الإرادة الإلهية لا أن نطرح مفاهيم المجتمع البشري على الإرادة الإلهية .
إن هذه البداية تغير فهم الإسلام تغييرًا جذريًا ، فالإسلام نظام يقيم مجتمع الإنسان المستخلف على الأرض ، ويجعله الغاية ، ويجعل الدين الوسيلة ، فهل هناك شرع يصل إلى هذه الدرجة من الإنسانية ، دع عنك أنه يفوقها ؟
ومن الواضح أن قيام الإنسان الخليفة بوظيفته يتطلب مجتمعًا حرًا قيمته الأولى الرئيسية "المساواة" ، بحيث لا يوجد تميز ، ويخضع الجميع لسلطة القانون ، كما لا يمكن أن يوجد هذا المجتمع إلا عندما يقوم على الحرية في الفكر والعدل في العمل .
فهم الرسول جيدًا هذا فأقام على الأرض ، في المدينة ، مجتمعًا يحقق للإنسان العزة والكرامة ، وأرسى القيم التي تؤدي إلى هذا ، وكان أبرزها المساواة ، فكل المسلمين عدول يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم كأسنان المشط ، ولا يعلو أي واحد على القانون ، فالرسول e نفسه قبل أن يُقتص منه ، والرجال والنساء ، والفقراء والأغنياء سواء في الحقوق والواجبات ، كما وضع نظامًا يكفل الأمــن والأمان للجميع ، ويبعـد الخوف من الحاجة ، فلم يكن في المدينة بوليس ولا سجون ، كما كفل الأمن الغذائي وما تتطلبه المعيشة بسن الزكاة والتكافل الاقتصادي ، فحقق إسلام الإنسان .
نعم إننا لا نجد في هذا المجتمع إشارات إلى حقوق الإنسان لسبب بسيط هو أن النظام بأسره قام أصلاً للإنسان ، فذكر حقوق الإنسان فضول ، وعلى كل حال فإن لكل عصر لغته واصطلاحاته وما يركز عليه من قيم أو شعارات . المهم أن مضمون الإسلام عند الإنسان كخليفة وتنظيم المجتمع الذي يحقق ذلك بتقرير المساواة والأمن والكفاية كان محققاً بالفعل لكل ما ينشده دعاة حقوق الإنسان في العصر الحديث ، ولو أجرينا مقارنة ما بين ديمقراطية السوق في أثينا وديمقراطية الجامع في المدينة لرجحت كفة الأخيرة ، لأن ديمقراطية السوق الأثينية كانت تستبعد الرقيق والنساء من المشاركة ، وهم أغلبية سكان أثينا ، في حين أن ديمقراطية الجامع كانت تدخل الرقيق والنساء ، وتسمح بأن تقف امرأة لترفض رأي الخليفة ، ويستمع الخليفة ثم يأخذ برأيها ويقول قولته التاريخية : "أصابت امرأة وأخطأ عمر" ، دلالات هذا لا تخفى ، فما كانت المرأة لتجرؤ على هذا ما لم يكن في أصله إيمان عميق بحرية الرأي وكرامة الإنسان وتقرير راسخ لمبدأ المساواة .
لم يستمر مجتمع المدينة وإسلام الإنسان سوى ربع قرن تقريبًا ، عشرة أعوام حكم الرسول e ، وسنتين ونصف حكم أبي بكر ، وعشرة أعوام حكم عمر ، وعندما طعن عمر بن الخطاب طعن هذا المجتمع ، وبدأت الفتن والقلاقل مع انحراف عثمان عن سُنة الشيخين ، واحتدام الخلاف ، فقتل عثمان وهو يقرأ القرآن ، وتدفع عنه زوجته حتى بترت السيوف أناملها ، وقامت حرب عنيفة حول هودج السيدة عائشة ما بين الذين يوجهون سهامهم إليه والذين يدافعون عنه ، ثم أخذ نصف المسلمين يحارب النصف الآخر في صفين ، وقتل علي بن أبي طالب الذي أراد إعادة مجتمع المدينة ، وختمت الحقبة سنة 40 هـ بتحويل معاوية بن أبي سفيان الخلافة إلى ملك عضوض لا يختلف عن أي ملك كسروي أو قيصري ، فهو وراثي سلطوي مستبد ، ومن هذا التاريخ استمر هذا الحكم السلطوي الفاسد حتى أنهى مصطفى كمال الخلافة سنة 1924 .
* * *
يعود هذا الانتكاس إلى أسباب عديدة ، من أبرزها أن منظومة المعرفة الإسلامية في الحديث والتفسير والفقه التي وضعها الأئمة الأعلام إنما نمت في الفترة التي بلغت فيها الدولة الإسلامية مستوى الإمبراطورية (الإمام أحمد بن حنبل) عاصر الخليفة المأمون ، ومع أن هؤلاء الأئمة كانوا نابغين فعلاً ، وأرادوا القربى إلى الله وخدمة الإسلام وتنهيج المعرفة الإسلامية ، إلا أنهم لم يكونوا ملائكة معصومين ، وكانت وسيلة التعليم الكتاب المنسوخ باليد ، وأهم من هذا أن مقتضيات الدولة الإمبراطورية فرضت نفسها عليهم ، ولم يكن لديهم بديل ، وقد تعرض الأئمة الأربعة للاضطهاد ، بمعني كان المناخ مناخ يسمح بغير هذا وكان لابد لأتباعهم من مسايرة الدولة فجاءت أحكامهم مجافية للقرآن مداجية للسلطان ، كما أن الانتصار السريع للإسلام على ممالك طبقية شائخة أدخل في المجتمع الإسلامي الملايين من أفراد هذه الممالك ، ودخلوا في الإسلام لبساطته وسماحته ، ولأن هذا الدخول يفتح الطريق أمامهم إلى المراكز ، واستطاعوا بحكم ذكائهم أن يتولوا التفسير والحديث والفقه واللغة .. الخ ، ولكنهم وقد كانوا حديثي العهد بالإسلام ، طرحوا مفاهيم وراثاتهم الحضارية التي لم يتخلصوا منها تمامًا على الإسلام ، فبعدوا به عن روحه الأصيل ، الحر ، البسيط ، وكان المجتمع الإسلامي يموج بملل ونحل ومذاهب عديدة ، وأضيف إليها ترجمة الفلسفة اليونانية التي تأثر بها الفقه الإسلامي في مراحله الوسطى (الحكم العباسي) .
ولم يخل الأمر من كيد دفين للإسلام .
مع توالي القرون تبلور "إسلام السلطان" في الفكر السلفي الذي سيطر على منظومة المعرفة الإسلامية ، وأصبح هو المقرر ، أو كما يقولون "إسلام السُـنة والجماعة" واكتسب أئمته وقادته قداسة ، وظل الأمر كذلك حتى مشارف العصر عندما بدأت اليقظة الإسلامية .
* * *
لم تستطع اليقظة الإسلامية التي بدأت مع جمال الأفغاني ومن عاصره وزامله أن تقضي على الفكر السلفي ، لأن قوة جديدة كانت قد فرضت نفسها على العالم الإسلامي هي الاستعمار الأوروبي ومحاولته طمس الإسلام والعربية في عديد من الأقطار ، فتركزت جهود المصلحين عليه ، وأصبح ذلك هو الشغل الشاغل ، وشغلوا به عن قضية تجديد التنظير الإسلامي فانفسح المجال للمؤسسات الدينية التي أخذت في الظهور واحتكرت تمثيل الإسلام ، كما أن الانتلجنسيا في الدول الإسلامية لم تسهم بدور في هذا المجال ، لأن بعضهم آمن بنظريات مجافية للإسلام كالاشتراكية والقومية ، ولم يكن لدي معظمهم الإحكام الفني للموضوع ، ولأن الحكومات وكلت إليهم المناصب خاصة في الإعلام فأصبحوا يسبحون بحمدها .
وظهرت تطورات في المجتمعات الإسلامية ، فأصبحت السعودية ــ بعد حرب رمضان وصعود أسعار برميل النفط من أربعة دولارات إلى أربعين ــ قوة ، وكونت رابطة العالم الإسلامي التي تولت تزويد الأقليات الإسلامية في أوروبا والدول الإسلامية الفقيرة بالأئمة والكتب وقامت ببناء المساجد ، كما أن الأعداد الغفيرة من العمال والمهنيين الذين هاجروا بمئات الألوف إلى السعودية والخليج ثم عادوا بعد أن تأثروا بالفهم والعادات هناك ونقلوا هذا لبلادهم .
وهكذا كان على دعوة الإحياء أن تقوم بمهمة التجديد الإسلامي الجذري ، وإعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية ، وكانت دعوة الإحيــاء مهيأة لذلك ، ففي سنة 1946 أصدر داعيتها جمال البنا كتاب "ديمقراطية جديدة" وخصص فيه فصلاً عن "فهم جديد للدين" وجه فيه الحديث للإخوان المسلمين الذين كانوا قد وصلوا إلى الأوج "لا تؤمنوا بالإيمان ، ولكن آمنوا بالإنسان" ، وظلت فكرة "إسلام الإنسان" طوال خمسين عامًا تختمر وتتطور ولم يعلن عنها إلا سنة 2000 ، لمناسبة صدور الجزء الثالث من كتاب "نحو فقه جديد" .
وكانت الخطوة الأولى هي إبراز المبدأ المحوري مبدأ "الإنسان المستخلف" ، والبرهنة عليها بدلائل من القرآن الكريم ، وأن الرسول e طبق هذا المبدأ بالفعل في الفترة القصيرة التي حكم فيها وخلفه أبو بكر وعمر ، بحيث كان مجتمع المدينة مجتمعًا إنسانيًا بمعنى الكلمة تسوده المساواة ، ويكفل للفرد الأمن والأمان .
ووضحت دعوة الإحياء كيف أن هذا المجتمع انتهى تمامًا سنة 40 هجرية عندما حول معاوية بن أبي سفيان الخلافة إلى ملك عضوض ، وأن ما أطلق عليها الخلافة التي استمرت حتى ألغاها مصطفى كمال في تركيـــا ، لم تكن خلافة ، ولكن حكمًا سلطويًا وراثيًا مستبدًا للأسباب التي أشرنا إليها آنفاً .
تريد دعوة الإحياء العودة مرة أخرى إلى إسلام الإنسان ، وترى أن روح العصر الحديث تساعد على ذلك ، وهي ترى ضرورة إعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية على أسس (إسلام الإنسان وليس إسلام السلطان) ، ووضعت مجموعة من الكتب تفتح الطريق لذلك ، وتشرح أسس التأسيس الجديد والمبادئ التي يقوم عليها .
وتضمنت المراجع التي وضعتها الدعــوة أكثر من ثلاثين كتابًا كبيرًا تعالج كل جوانب القضية الإسلامية (السياسة ، المـرأة ، حـرية الفكر والعقيـدة ، الدعوات الإسلامية المعاصرة ، الفقــه ، التفسـير ، السُـنة ، التنميـة ، الخطوط العريضة للحكم الرشــيد التي تضمنها القـرآن) .. الخ .
المبـادئ العملية التي تتمخض عنها دعوة الإحياء الإسلامي ، وكلها من صميم ما جاء في القرآن وهي :
(1)        الإنسان المستخلف هو الغاية التي جاء لها الإسلام ، فالإنسان هو الغاية ، والإسلام هو الوسيلة .
(2)        المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس جميعًا ، وبلا استثناء هي أساس مجتمع الإنسان المستخلف .
(3)        العقل ، وما ينشأ عنه من علم ومعرفة هو ما يميز الإنسان وما جعل الله تعالى الملائكة تسجد له ، ولهذا فإن العقل أساس النظر الديني ، ولا شيء يستعصي عليه سوى ذات الله وطبيعته والعالم الآخر ، ويستتبع هذا إشاعة العلم والمعرفة في المجتمع .
(4)        العودة إلى القرآن الكريم واعتباره كتاب هداية ، واستبعاد كل التفاسير وكل ما جاء به المفسرون من نسخ أو أسباب نزول ، إن الصياغة القرآنية فيها قوة الهداية ، والقرآن يؤتي أثره بالانطباع . لقد كانت التفاسير افتياتـًا على القرآن وتقولاً عليه بما لم يقل ، ولهذا لم يستفد المسلمون من القرآن ، وهو روح الإسلام وأداة التحرير والثورية فيه ، وكانت في الحقيقة من أسباب تأخر المسلمين .
(5)        السـنـّة يجب أن تضبط بضوابط القرآن ، وليس لها تأبيد القرآن . وهذه القضية من أكبر قضايا الفكر الإسلامي ، لأن السـنـّة كانت الباب الذي دخل منه أعداء الإسلام وتمكنوا بوضع الألوف من الأحاديث التي تطعن في القرآن وتشوه العقيدة ، بل وتشوه صورة الرسول e ، وانطلى هذا كله على المحدثين الذين حرصوا على تجميع الأحاديث والروايات ، واعتبروا أن الإسناد دليل صحة ، في حين أنه كان وسيلة الدس التي مرر بها الوضاعون أحاديثهم ، وليس من المبالغة أن بعض المحدثين توصلوا إلى "إرهاب" الناس ، وفرضوا السـنـّة على القرآن وفضلوها عليه .
(6)        اعتبار "الحكمة" أصلاً من أصول الإسلام ، والحكمة التي قرنها القرآن بالكتاب ، وقال : )وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ( ، هي كل ما انتهت إليه البشرية من أحكام ومبادئ وأصول ثبتت صلاحيتها على مر الأجيال ، وليست هي بالطبع السـنـّة ، كما ذهب إلى ذلك الشافعي .
(7)        اعتبار الزكاة فريضة مقدسة كالصلاة وتنظيمها بحيث تؤدي دور "الضمان الاجتماعي والتأمين" ، إن الفقهاء لا يزالون يعالجون الزكاة بالدرهم من الذهب والفضة ، ولا يزالون يتساءلون عما إذا كانت تفرض على غير الإبل والشياه والنخيل ، وكيف توزع .. الخ ، إن المفروض أن نتعامل معها بطريقة العصر ، فهي على كل الثروات والأموال التي تزيد عن حد معين ، ويمكن أن توضع لها قوام شعبي تطوعي منظم ومنهج ، كما يمكن أن تقوم الدولة به عن طريق جهاز مستقل عنها تمامًا (مثل القضاء) ، وتكون ميزانيتها مستقلة تمامًا عن ميزانية الدولة ، لدرجة أن القائمين عليه لا يتقاضون أجورهم من الدولة ، ولكن يأخذونها من الزكاة نفسها ، وتصرف منها على محدودي الدخل أو من يتعرض للبطالة والمرض .. الخ ، طبقـًا لما هو متبع في نظم الضمان الاجتماعي ، وهي الترجمة الحديثة لما يقولون عن "مصارف الزكاة" .
(8)        كل ما جاءت به الشريعة من أحكام عن الدنيويات ، وسواء كانت في القرآن أو السنة إنما أنزلت لعلة هي بصفة عامة العدل والمصلحة ، فإذا حدث أن جعل التطور الحكم لا يحقق العلة (أي العدل والمصلحة) عدلنا في الحكم بما يحقق الغاية ، وهو ما اهتدى إليه عمر بن الخطاب في اجتهاداته المعروفة ، كما يحدث أن يقضي التطور على العلة نفسها لينتفي الحكم كما في أحكام الرق أو الغنيمة أو الجزية .. الخ ، فالإسلام لم يوجد هذه النظم وإنما وجدها وحاول إصلاحها حتى وصل التطور إلى درجة تمكن من القضاء عليها ، وهو ما أراده الإسلام .
(9)        مجاوزة السلفية وعدم الاعتداد بها ، فالسلفية هي الماضوية ولا نستطيع أن نعيش حاضرنا في ماضينا .
(10)   استبعاد فكرة أن الإسلام يسيطر على كل شيء ، إن الإسلام ــ على أهميته القصوى ــ ليس إلا بُعدًا واحدًا من أبعاد متعددة للحقيقة كالعلوم والفنون والآداب والفلسفة التي تنطلق كل من منطلقها الخاص ، وتقدم عطاءها الذي وإن اختلف عن عطاء الدين ، فإنه لا يزاحمه ، كما لا يستبعده الدين .
(11)   حرية الفكر والاعتقاد مطلقة ، والعلاقة ما بين الأديان هي علاقة تعايش .
(12)   تحرير المرأة من الدونية التي جاءت بها بضعة أحاديث ضعيفة أو موضوعة ، وتقرير مساواتها بالرجل .
 
ملحق [1]
مانيفستو المسلم المعاصر
ــــــــــــــــــ
ــ 1 ــ
نؤمن بالله ، إنه محور الوجود ورمز الكمال والعقل والغائية ، وما ينبثق عنها من قيم ، وبدونه يصبح الوجود عبثاً ، والكون تحت رحمة الصدفة الشرود ، والإنسان حيواناً متطورًا أو "سوبر حيوان" .
والإيمان بالله الذي يكون قوة ملهمة هو ما يغرسه في النفس تصوير القرآن الكريم لله تعالى ، أما ما يرد في كتب التوحيد فلا يغني شيئـًا ، بل قد يضر .
ــ 2 ــ
الأنبياء هم القادة الحقيقيون للبشرية ، ويجب جعلهم المـُثل في القيادة ، واطراح أحكام الطاغوت من قادة جيوش أو أباطرة أو ملوك .. الخ ، وما وضعوه من سياسات القهر التي لوثت فكرة الحكم والقيادة وأساءت إلى البشرية .
ونحن نؤمن أن الإسلام قد قدم الصورة المثلى لله والرسول e على أننا نتفهم الصور التي قدمتها الأديان الأخرى ، لأن الدين أصلاً واحد ، ولكن الشرائع متعددة ، ونحن نؤمن بالرسل جميعًا ، وأن الله تعالى أراد التعدد والتنوع "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً" ، وأن الفصل في هذا التعدد هو إلى الله تعالى يوم القيامة .
ونؤمن أن الدين هو المقوم الأعظم للمجتمع العربي ، وأنه يمثل التاريخ والحضارة والضمير ، وأن تجاهله يقطع التواصل مع الشعب ، ولا ينفي هذه الحقيقة أن تكون الفلسفة والآداب والفنون قد حلت محل الدين في المجتمع الأوروبي فلكل مجتمع طبيعته الخاصة وقدًره الذي لا يمكن التمرد عليه أو التنكر له ــ وفي الوقت نفسه ــ فإنه لا يحول دون تلاقح الأفكار وتحاور الحضارات ، وتقارب الديانات لأن الحكمة ضالة المؤمن .
ــ 3 ــ
نؤمن بكرامة الإنسان ، وأن الله تعالى هو الذي أضفاها على بني آدم جميعًا ، فلا تملك قـوة أن تحرمهم منها ، وهي تعم الجنس البشري من رجال ونساء ، بيض وسود ، أغنياء ، وفقراء .. الخ ، وقد رمز القرآن لهذه الكرامة بسجود الملائكة لآدم ، وتسخير قوى الطبيعة له .
إن كرامة الإنسان يجب أن تكون في أصل كل النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ويجب أن تحرم تحريما باتا كل ما يهدر كرامة الإنسان جسدًا ونفسًا .
إن الإنسان هو الغاية ، والأديان هي الوسلة .
ولما كان الإسلام قد جاوز ــ كمًا نوعًا ــ الاتفاقيات الدولية عن حقوق الإنسان ، فإن أقل ما يجب أن يتم هو التطبيق الفوري لهذه الاتفاقيات .
ــ 4 ــ
لما كان القرآن قد جعل مبرر سجود الملائكة لآدم هو تملكه لمفاتيح المعرفة التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات ، والتي تنقذه من الخرافة ، فيفترض أن تكون المعرفة هدفا رئيسيًا للمسلمين وما يتبع هذا من استخدام العقل ، وما يثمره من علم وحكمة ويجب على كل نظام إسلامي أن يشيع الثقافة والمعرفة ، ويفتح النوافذ عليها ، ويهيئ كل السبل التي تيسر للجماهير معارف ومهارات العصر .
ولا يقل أهمية عن ذلك أن الإسلام قرر حرية الإرادة ، رغم تساؤل الملائكة )أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ( ، بل إنه سلط الشيطان لإغواء الإنسان ، لأن الإنسان يحكم عقله وضميره ، وهداية الكتب السماوية تمكنه من التغلب على غواية الشيطان ، ولكن الأمر في النهاية للإنسان .
قضية الحرية هي ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات ، وهي التي رفضتها السماء والأرض وأشفقن منها ، فالحياة في الإسلام إرادة .
ــ 5 ــ
نؤمن بحرية الفكر ، وأنها أساس كل تقدم ، وأنه لا يجوز أن يقف في سبيلها شيء ، ويكون الرد على ما يخالف ثوابت العقيدة بالكلمة لا بالمصادرة أو الإرهاب أو التكفير وليس هناك تعارض بين حرية الفكر المطلقة والدين لأن الدين يقوم على إيمان ، ولا إيمان بدون اقتناع وإرادة ولا إرادة أو اقتناع إلا في بيئة تسمح بالدراسة الحرة ، والإرادة الطوعية والنظر الدقيق ، وفي القرآن الكريم قرابة مائة آية تقرر حرية العقيدة بصفة مطلقة وأن مردها إلى الفرد نفسه ولا دخل للنظام العام فيها مثل )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( ، )فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ( ، )وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ( ، و)وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ( ، و)أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ( .
ولا توجد الحرية إلا بتقرير حرية إصدار الصحف والمطبوعات وتكوين الأحزاب والهيئات والنقابات وبقية مؤسسات المجتمع ، وحرية هذه الهيئات في العمل لتطبيق أهدافها ما دام ذلك يتم بطرق سليمة.
ونحن نرفض تماما دعاوى التكفير والردة ، ونكلها إلى الله تعالى يفصل فيها يوم القيامة ، كما قرر القرآن ذلك وطبقته ممارسات الرسول e .
أما ما قد ينشأ من أخطار ، فإن الحرية نفسها تفسح المجال لإصلاحه .
ــ 6 ــ
يجب أن يكون العدل أساس التعامل بين الحكام والمحكومين ، الرؤساء والمرؤوسين ، الرأسماليين والعمـال ، الرجال والنساء ..الخ ، لأن كل ما يمت إلى عالم العمل والعلاقات لا يمكن أن يستقر إلى على أساس العدل ولا يجوز إعطاء فئات سلطات تمكنها من أن تحيف على حقوق فئات أخرى ، إن هذا نوع من الظلم الذي يماثل الكفـر ، ويجب أن لا يسمح به .
إن كل ما جاءت به الشريعة من أحكام كانت تحقق المصلحة والعدالة ، فإذا جاوز التطور النص أو جعله لا يحقق المصلحة والعدل ، فيجب تغييره بما يحقق المقصد الذي أنزل من أجله ، واجتهادات عمــر بن الخطاب معروفة ، وقامت على هذا الأساس .
ــ 7 ــ
إن التحدي العملي الذي يجابه الدول الإسلامية اليوم هو التخلف اقتصاديا وعسكريًا وسياسيًا واجتماعيًا ، ولا يمكن وقف هذا التخلف إلا بجعل "التنمية" معركة حضارية تتم تحت لواء الإسلام باعتبارها النمط المطلوب من "الجهاد" ، واستنفار كل أفراد الشعب للمشاركة فيها من وضع الخطة حتى متابعتها وتقييمها ويجب أن تكون هذه التنمية إنسانية ، تبدأ من محطة العدالة الممكن تحقيقها لتصل إلى محطة الكفاية المطلوب تحقيقها ، إن الإيمان وحده هو الذي يولد الطاقة المجانية اللازمة ويوظفها لدفع التنمية وتجاوز المعوقات دون حاجة للاستثمارات التي تفسح المجال للتبعية والسير في مسار وإســار الدول الكبرى .
وأي محاولة لتنمية تستسلم لادعاءات البنك الدولي أو تقلد النماذج الأوربية والأمريكية لن تسفر إلا عن مزيد من التخلف والفاقة والتخبط .
وبالمثل فإن أي محاولة لتنمية يضعها خبراء أو حكومات دون أن يكون لها الأساس الإيماني والمشاركة الجماهيرية أو تستهدف مصلحة الأقلية على حساب الجماهير العريضة هي تنمية محكوم عليها بالفشل .
ــ 8 ــ
إن الصورة النمطية لشخصية المسلم التي تتسم عادة بالسلبية والماضوية والتركيز على الطقوس والشعائر ليست هي صورة المسلم أيام الرسول e ، ويعود هذا الاختلاف إلى أن قصر مدة الرسالة النبوية والخلافة الراشدة (30 سنة) ، تكن كافية لتعميق جذور الشخصية الإسلامية ، ثم جاء الملك العضوض ، وتدهور الخلافة وسد باب الاجتهاد لأكثر من ألف عام ، وغلبة الجهالة والاستبداد .. الخ ، وتمخض هذا كله عن الصورة المعروفة اليوم والتي تتقبلها وتبقى عليها المؤسسات الدينية والنظم الحاكمة لأسباب تتعلق بالقصور ، أو الإبقاء على المصالح المكتسبة .
ونحن نرفض هذه الصورة ، ونعمل لإحياء إسلامي .
ــ 9 ــ
لا يمكن تحقيق أي إحياء إسلامي إلا بالعودة رأسا إلى القرآن الكريم ـ وضبط السنة بضوابطه وعدم التقيد بما وضعه الأسلاف من فنون واجتهادات تأثروا فيها بروح عصرهم وسيادة الجهالة واستبداد الحكام وصعوبات البحث والدرس ، وانعكس هذا على تفاسير القرآن وأحكام الفقه وفنون الحديث وأقحم فيها مفاهيم دخيلة ومناقضة لروح الإسلام .
لقد كان الإسلام أصلا دعوة لإنقاذ الناس من الظلمات إلى النور ، وإحلال "الكتاب والميزان" أي المعرفة والعدل محل الجهالة والظلم وإشاعة قيم الخير ، والعــدل ، والحرية ، والعلم .. الخ ، هي روح الإسلام بينما تكون الطقوس والشعائر هي جسم الإسلام ، والاقتصار عليها ـ دون القيم ـ هو احتفال بجسم لا روح فيه .
هناك حقيقة تصل إلى مستوى البدائه ، وإن أخفتها الغشاوات الكثيفة ، تلك هي أن على كل جيل أن يعيش عصره دون الإخــلال بالقيم العظمى للإسلام ، لأن هذا علامة صحة وتطبيق لعالمية الإسلام وموضوعيته وصلاحيته لكل زمان ومكان ، كما أنه يخالف ما أراده الله تعالى عندما قال : )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( .
ــ 10 ــ
إن الإسلام لا يحتكر ـ وحده ـ الحكمة ، ولكنه ينشدها أنا وجدها ، وهو يتقبل كل الخبرات ، كما أنه يقدم خبراته )فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ( ، من هنا فإن النزعة الماضوية الانعزالية واتخاذ نمط المجتمع الذي كان موجودًا من قبل باعتباره النمط الأمثل ، والضيق بكل مستجدات العصر من فنون وآداب ، والنظرة المتخلفة للمرأة وحبسها وراء الأسوار ، كل هذا يخالف جوهر الإسلام ، وعالميته وصلاحيته لكل زمان .
وليس هناك خوف من أن يذوب الإنسان المسلم في الحضارة العصرية ، لأن خيطاً وثيقا يربطه بالله والرسول يبقى له قدرًا من القيم يكبح جماحه ويحول دون انفلاته وذوبانه . 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
ملحق [2]
عن جمال البنا
ــــــــــــــــــ
§               ولد فى المحمودية من أعمال محافظة البحيرة (تبتعد عن الإسكندرية 50 كيلو) فى 15/12/1920 من أسرة نابهة عرفت بعلو الهمة ، فوالده هو مصنف أعظم موسوعة فى الحديث (مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى فى 24 جزءًا ، وشقيقه الأكبر هو الإمام الشهيد حسن البنا المرشد المؤسس للإخوان المسلمين .
§               عكف منذ طفولته على الاطلاع بحيث تزود بحصيلة ثقافيـة غزيرة ، وبعد أن أتم دراسة الابتدائية ودخل المدرسة الخديوية الثانوية . حدث شجار بينه وبين أستاذه فى اللغة الإنجليزية وهو إنجليزى ، فترك الدراسة غير آسف ، واستكمل دراسته بوسائله الخاصة .
§               واصل جمال البنا مطالعاته ، وأصدر كتابه الأول سنة 1945 وهو عن الإصلاح الاجتماعى، وفى العام التالى (1946) أصدر كتابه "ديمقراطية جديدة" الذى تضمن فصلاً بعنوان "فهم جديد للقرآن" استعرض فيه فكرة المصلحة كما قدمها الإمام الطوفى ، وانتقد الموجة الحماسية لدى بعض الدوائر بفعل نجاح دعوة الإخوان المسلمين  وقال : "لا تؤمنوا بالإيمان .. ولكن بالإنسان" وهذه الملاحظة لا تزال أحد معالم دعوة الأستاذ جمال البنا فى الإحياء الإسلامى .
§               فى عام 1952 أصدر "مسئولية الانحلال بين الشعوب والقادة كما يوضحها القرآن الكريم" كما أسس (1953 ــ 1955) الجمعية المصرية لرعاية المسجونين ، وحققت الجمعية ثورة فى إصلاح السجون ، وأدت إلى مجابهة بينه وبين السلطات .
§               عندما قامت حركة الجيش فى مصر بقيادة عبد الناصر فى 23 يوليو سنة 1952 بدأ الأستاذ جمال البنا فى كتابة كتاب باسم "ترشيد النهضة" ارتأى فى الفصل الأول أن هذه الحركة هى انقلاب عسكرى وليس ثورة ، وما أن اطلع الرقيب على ذلك حتى أصدر أمرًا بمصادرة الكتاب ، وأخذ كل الملازم المطبوعة ، وبهذا التصرف تأكد جمال البنا من أن الحركة ذات طابع ديكتاتورى ، وأن لا فائدة من محاولة تقدم الرأى والمشورة .
§               عنى الأستاذ جمال البنا خلال الحقبة الناصرية المعادية للاتجاهات الإسلامية بالحركة النقابية ، فأصدر وترجم الكثير من الكتب والمراجع التى نشرتها منظمة العمل الدولية بجنيف والجامعة العمالية بمدينة نصر والدار القومية.. كما حاضر بصفة منتظمة فى معهد الدراسات النقابية منذ أن تأسس سنة 1963 حتى سنة 1993 عندما انتقد التنظيم النقابى القائم .
وقد كان آخر كتبه النقابية عن (المعارضة العمالية فى عهد لينين) الذى كتبته مدام كولونتاى ، فقام بترجمته والتعليق عليه .
§               فى سنة 1981 أسس جمال البنا الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل ، وكانت منظمة العمـل الدولية قد استعانت به فى عـدد من الترجمات ، كما استعانت منظمة العمل العربية كخبير استشارى . وبحكم هذه الصفات نظم شبكة من العلاقات بقيادات اتحادات ونقابات فى كثير من الدول الإسلامية . وفى 1981 دعا معظمها للاجتماع فى جنيف خلال انعقاد مؤتمر العمل الدولى بها ، وفى هذا الاجتماع تأسس الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل  من مندوبى اتحادات عمالية فى الأردن والمغرب وباكستان والسودان وبنجلاديش .
وللاتحاد مكتب فى كوالامبور وآخر فى الرباط  .
§               مع السبعينات وملاءمة المناخ للعمـل الإسـلامى بدأ الأستاذ جمال البنا كتاباته التى كان أولها "روح الإســـلام" و "الأصــلان العظيمان : الكتاب والسُنة" ، وعددًا آخر من الكتب لا يتسع المجال لها .
§               ابتداء من 1990 شغل بإصدار كتابه الجامع "نحو فقه جديد" فى ثلاثة أجزاء الذى دعا فيه إلى إبداع فقه جديد يختلف عن الفقه القديم ، ولا يلتزم ضرورة بالتفسيرات ، أو علوم الحديث .. الخ ، أو أصول الفقه ، وصدر الجزء الثالث عام 1999 .
§               أثار الكتاب ضجة كبيرة ودعا بعضهم لمصادرته ، ولكن المسئولين تنبهوا إلى هذا سـيذيع دعوته فمارسوا مؤامرة صمت إزاءه ، رد عليها جمال البنا عام 2000 بإعلان تأسيس "دعـوة الإحياء الإسلامى" التى ضمنها خلاصة فكره الإسلامى والسياسى والثقافى .
§               فى سنة 1997 أسس بالمشاركة مع شقيقته السيدة فوزية "مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامى" ، وتبرعت السيدة فوزية بقرابة نصف مليون جنيه للمؤسسة مكنها أن تؤدى دورها فى غنى عن السؤال .
ولما كانت زوجة الأستاذ جمال البنا قد توفيت سنة 1987 ولم يتزوج بعدها ، فإنه حول شقته إلى مكتبة تحمل اسم المؤسسة . وتضم المكتبة قرابة خمس عشر ألف كتاب عربى ، وثلاثة آلاف باللغة الإنجليزية ، كما تضم مكتبة والد الأستاذ جمال وشقيقه الأستاذ عبد الرحمن ، والكثير من تراث آل البنا ، والأصول الخطية لكتب الشيخ البنا ، وقد زودت المكتبة بقاعة إطلاع وآلة تصوير ووحدة كمبيوتر  .
§               بالمكتبة 15 ألف كتاب عربي وثلاثة آلاف كتاب إنجليزي وبها قسم للدوريات يضم 150 مجلة ، وبعض الموسوعات والمجموعات القديمة لصحف الإخوان المسلمين من سنة 1936 ، وأوراق خطية للإمام الشهيد حسن البنا ، والكثير من وثائق الإخوان المسلمين ، فضلاً عن جذاذات من الصحف ، ومسودات وأصول كتب للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا ولجمال البنا .
§               استطاع الأستاذ جمال البنا بفضل تفرغه للكتابة أن يصدر أكثر من مائة كتاب (منها قرابة عشرة مترجمة) وهو يكتب بتمكن وأسلوب سهل ، وإن كان له طبيعة فنية ، وقد أصدر كتابًا من ثلاثمائة صفحة عن "ظهور وسقوط جمهورية فايمار" كما تعد كتبه عن "الدعوات الإسلامية" من المراجع الرئيسية لما توفر له من صلات ومراجع .
§               أن دعوة الإحياء الإسلامى رغم أنها قوبلت بتعتيم إخبارى أريد به عدم التعريف بها ، فإنها شقت طريقها ليس فحسب فى مصر والدول العربية ، ولكن أيضًا فى الخارج حيث أصبحت محل اهتمام الهيئات الدولية والجامعات ، وهي لا تهدف لتكوين حزب أو جماعة ، ولكنها تريد أن تقدم رؤية حرة للإسلام يُعد كل من يؤمن بها مالكا لها أو شريكاً فيها .
§        لدعوة الإحياء الإسلامى موقع على الانترنت ، وعنوان إليكترونى كالآتى :
[email protected]
E-mail :
[email protected]
www.islamiccall.org
 
وعنوانها : 195  شارع الجيش ــ 11271 القاهرة
                         هاتف وفاكس 25936494
 



#جمال_البنا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد النظرية الماركسية
- ترشيد النهضة
- الحركة الميثاقية
- الثورة تجابه منعطفاً خطيرًا
- نزولاً على إرادة الشعب
- اقتراح
- جمال البنا في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: التنوير وا ...
- المسألة الشعبية بين جورج صاند وجوستاف فولبير
- عندما ثار الأسطول البريطاني
- الأديان لا ينسخ بعضها بعضًا ولكن يكمل بعضها بعضًا ( 3 3 )
- كلكم سيدخل الجنة «إن شاء الله» إلا المارد المتمرد
- مانيفستو المسلم المعاصر
- الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل ( 1 3 )
- الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل ( 2 3 )
- الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل ( 3 3 )
- الطقوسية العدو اللدود للإسلام
- الأديان لا ينسخ بعضها بعضًا ولكن يكمل بعضها بعضًا ( 1 3 )
- الأديان لا ينسخ بعضها بعضًا ولكن يكمل بعضها بعضًا ( 2 3 )
- الحكمة باب يفتحه الإسلام على الزمان والمكان
- امريكا افضل من صدام


المزيد.....




- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جمال البنا - من هو جمال البنا ؟وما هي دعوة الإحياءالإسلامي ؟