أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - ثورة المواطنة وديكتاتورية الرئيس المنتخب!















المزيد.....


ثورة المواطنة وديكتاتورية الرئيس المنتخب!


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 3274 - 2011 / 2 / 11 - 14:17
المحور: المجتمع المدني
    


ماذا يحدث في مصر الآن؟
ثورة الفيروز واللوتس أم انقلاب على الشرعيّة الدستوريّة؟
ثورة فراعنة أم انقلاب على فرعون؟
فوضى الشارع أم خروج من فوضى غياب الحقوق المدنية؟
انتفاضة ابن الوطن أم مؤامرة أجنبية؟
صحوة ضمير شعبي أم يقظة الدولة القمعية العلنية؟
كلّ هذا مجتمعا يحدث الآن في ميدان التحرير ومن حوله وفي أرضه وسمائه.
هذه الأسئلة أو التوصيفات أو الاتهامات المتبادلة التي تسود الآن ميدان التحرير شرعت تتناسل تناسلا سريعا ومثيرا في ميادين الأمة العربية وبيوتها كافة، على خلفية مشهد تونسي يوم أمس، ومصري اليوم، مشهد ثابت في إطاره العام، متحرك جزئيا في تفاصيله، قوامه: مواطن يبحث عن مخارج لأزمته اليومية في مواجهة مؤسسة حكم تفتقد الى المجسّات الأخلاقية والاجتماعية اللاقطة، وفي مواجهة مؤسسة حكم تستميت في البحث عن سبل لاستمرار بقاء هيمنتها السياسية والمالية والاجتماعية. شارع مُنتـَقَـَص روحيا ودستوريا في مواجة سلطة منتقِصة تمارس بقاءها باسم الشرعيّة الحكوميّة، المعادية لشرعيّة المواطن، وباسم شرعية الحاكم في مواجهة شرعية الحق الوطني المدني. هذه هي المعادلة القائمة الآن على أرض مصر، وهي المعادلة ذاتها السائدة في المجتمع العربي كله.
إن أبرز ما يميز الحدث الراهن هو صدور إشارتين عاليتي التردد، متناقضتين تنااقضا مستعصيّا. الإشارة الأولى تتعلق بالاختلاف حول الموقف من الحدث، الذي يشمل كل شي، من دون استثناء: المفاهيم والتفسيرات والشعارات والحلول، وحتى الإجراءات والأماني والأخطاء. أمّا الإشارة الثانية المناقضة فهي إشارة الاتفاق المطلق، التي تنص على الإقرار إقرارا تاما، من قبل الجميع، من دون استثناء أيضا، صدقا أو مصانعة أو كاذبا أو خداعا، والإجماع إجماعا شاملا على أمر واحد، محدد بصورة لا تأويل لها: صدق وصحة ونزاهة قيام حركة الاحتجاج وانتفاضة الشارع. أي الإتفاق الوطني، من دون استثناء، بما فيها المؤسسة الحاكمة، على خطأ وجور وإخفاق مؤسسة الحكم سياسيا.
بين هذين القطبين المتداخلين، المتناقضين، يبحث المجتمع عن حلّ وطني عادل ومتوازن، ربما يفتح الأفق باتجاه أمل ما، لم يزل غامضا، لكن صورته أضحت واضحة والتمارين الحسيّة على تحقيقه غدت ممكنة.
ما هو الحل؟
تنحية مؤسسة الحكم، التي مارست هذا الاخفاق الطويل الأمد بحق شعبها، ولم تع خطورته على حياة الإنسان فردا وجماعة، وعلى الهوية التاريخي والثقافية، وعلى الأمن الوطني والسلام الاجتماعي. هذا جواب الشارع.
تصحيح الخطأ، الذي دام ثلاثين عاما، بجرة قلم، ببيان تصحيحي فوري من بضعة أسطر. هذا رأي أنصار مبارك، ومن قبله انصار بن علي في تونس وملك الأردن وحاكم اليمن العسكري، وغدا غيرهم.
ولكن، إذا كان حكم ثلاثين عاما يُصحح بجرة قلم، فلماذا وقع الخطأ واستمر كل هذه السنين؟ إذا كان الخطأ خطأ حقا لماذا حدث ومن المسؤول عنه؟ لماذا هذا العناد الطويل في رفض إصلاح الخطأ؟ والأهم من كل هذا هل يجوز شرعيا ودستوريا لأحد أن يفعل ذلك بحق أكثر من ثمانين مليون مواطن من دون مساءلة قانونية أو أخلاقية؟ من أين أتت مثل هذه الشرعية القهرية المعارضة للنواميس الطبيعية؟ والأنكى من هذا هل يحق لشخص، يحسب أنه حاكم شرعي طويل الأمد، أن يكون ضعيف الإدراك أو مخدّر الأحاسيس الى هذا الحد؟ وهل مثل هذا الحاكم مؤهل للإئتمان على مصالح المجتمع والوطن؟
هذه هي الأسئلة الجوهرية، الأساسية التي يطرحها الحدث، والتي لا يريد السياسيون، معارضة وسلطة، سماعها.
ظاهر الحدث واضح وضوح الشمس: الحرمان المزمن الذي لحق بالمواطن. ولهذا السبب اعترف الجميع، بمن فيهم الرئيس بهذا الأمر فأسموه: الإخفاق، أو التقصير، أو الخطأ، والذي يمكن أن يسميه آخرون: الظلم، والجور، والطغيان. في هذه المعادلة العجيبة هناك اتفاق شامل على السبب والمسبب، بيد أن هناك خلافا جوهريا على أمر واحد هو: الحل. هنا ظهرت ثلاثة آراء متباينة: الأول رأي من وقع عليه الخطأ وخرج الى الشارع حاملا معه أكياس مظالمه، وهذا الفريق يشمل جميع الناس، بمن فيهم الصامتون، وفي مقدمتهم المواطن غير المسيّس وغير المتحزّب. والثاني السلطة بكل فنون قمعها وهي تقف ضد إرادة التغيير، والثالث هو المسيّس الحزبي المصلحي والمثقف المنسلخ اجتماعيا، الذي وقف حائرا، وفي أحوال كثيرة ظل ينظر مثل شحاذ طامع الى السلطة بعينه اليمنى والى كفـّة المواجهة مع الشارع بعينه اليسرى.
هذه البلبلة السياسية الكبرى – لا حظتها حتى بين سطور أكبر ستراتيجي الإعلام العربي (هيكل)، وفي كتابات مثقفين يساريين أجلاء- ناشئة بسبب أمر واحد هو شدة المفاجأة التي أوقعت الجميع في سوء فهم الظاهرة الجديدة: ثورة المواطن الأعزل في مواجهة جهاز القمع الحكومي، والاجتراء على تحدي جهاز القمع الاجتماعي التاريخي، الذي أنتج بالقوة ثورة اللاسياسي في مواجهة عجز النظام السياسي الحاكم عن إدارة المجتمع إدارة عادلة، وعجز المؤسسة السياسية المعارضة عن إنتاج حل سياسي اجتماعي بديل يلغي أو يصحح اعتلال مشروع السلطة. أي إنها ثورة المشاعر اليومية التلقائية والوجدان الشعبي العفوي السليم في مواجهة البناء الصنمي السياسي الفاشل كله: سلطة ومعارضة. هذا هو ما يحدث الآن.
إنه تناقض بين نظام للقوة يجمع في يديه فنون القهر والحرمان كلها، يجمع بين البعير المهاجم والطائرة المقاتلة والرصيد المصرفي والإسناد الدولي في مواجهة شارع أعزل، بين ديكتاتور رئاسي منتخب وبين ناخب بلا حقوق رئيسية. إنها ثورة مواطنة مستلبة في مواجهة قوة سياسية طفيلية، وظيفتها الشرعية الكبرى استلاب حق المواطنة.
هذه هي الحكاية كلها.

لقد أنتج النظام الاجتماعي العربي، بعد مرحلة الحكومات العسكرية السافرة، صيغة حكومية فوقية، عاطلة، من صيغ إدارة السلطة، تتمثل في نشوء تركيبة تلفيقية تمزج بين المتناقضات التاريخية في وحدة نابية. وهي وحدة تهجينية مصطنعة تجمع بين الرئيس العسكري والمدني في زي واحد، وتجمع بين القائد والبلطجي في جسد واحد، وبين السياسي المنتخب والديكتاتور الأبدي في كرسي واحد، وبين سلب حقوق الشعب المدنية وبين الشرعية الدستورية الزائفة في وثيقة دستورية واحدة.

إن النتيجة المباشرة المترتبة على ما يحدث الآن، بصرف النظر عمن سيحكم في هذه اللحظة، هي انتصار فكرة إعادة المواطنة الى المواطن، وليس إشراك ممثليه الرمزيين الأكثر شطارة في رأس السطة. أي إعادة سلطة الوطن الى المواطن، وليس تعيين ممثله في رأس السلطة، بل في انتزاع حق الناخب الدستوري في مراقبة من ينتخبه وتقويمه ومحاسبته طبقا لمبادئ الدستور باعتباره عقدا اجتماعيا للمواطنة، وليس باعتباره صيغة ملفقة مكتوبة بيد ديكتاتور منتخب مدعوم بإرادات عسكرية ومالية محلية وأجنبية، أو مسنود بسلطات طائفية وعرقية وعائلية.
بهذا الانتفاض يريد المجتمع العربي أن يضع نفسه على عتبة التأسيس الحقيقي للنظام السياسي والاجتماعي القائم على العقد الاجتماعي، بدلا من حكومات الطوائف والعسكر، المدنيين وغير المدنيين، وبدلا من الرئيس أو الملك البلطجي، والسياسي والجاهل المتصلف، وغطاءاته النظرية والثقافية الفارغة والدعائية الرخيصة.
إن ما يحدث الآن صراع تناحري متراكم بين قطبين: بين مشاعر ومصالح رجل الشارع المسالم وعدوانية مؤسسة الحكم (الرئاسة)، بين الرغبة البشرية الفطرية في التخلص من الحرمان الاقتصادي والروحي والسياسي وبين العنجهية القهرية في تدمير منطق الحياة الطبيعية. ففي هذه الحقبة المتأزمة ينتقل القمع الى أغوار عميقة حينما يتم امتهان منجزات حضارية هامة كالدستور والانتخابات والحقوق الشرعية وتحويلها الى ألعوبة حزبية رئاسية، باسم الشرعية، في مواجهة المواطن وضد رغباته الشرعية وإرادته ومصالحه الضرورية: إنها دكتاتورية الرئيس المنتخب في مواجهة حق المواطنة المقدس.
إن ما نراه أمامنا الآن، من الناحية الاجتماعية والحقوقية والسياسية، ليس سوى صيغة مجتمعية مرعبة في حجم شذوذها التكويني. لأنها تجمع شرور المراحل التاريخية الثلاث السابقة، التي مرت بها مجتمعاتنا العربية منذ سقوط الدولة العثمانية، وتعيد تركيبها كلها في حزمة استهلاكية مترابطة عظيمة الفساد والتعفن . فهذا النمط من الدولة الهجينة يجمع بين فقدان السيادة الوطنية المأخوذ من مرحلة الاستعمار، وبين عدوانية العسكر والتحالف القومي لمرحلة الاستقلال، وبين الاستخدام الشكلي العبثي للحقوق الدستورية والانتخابية وحق امتهان الإنسان وتهشيم كرامته الشخصية والادعاء المظهري بالانفتاح الحضاري لمرحلة العولمة. هذا المزيج أو الاتحاد التاريخي يحمل خصيصة نقل الصفات الوراثية السياسية القهرية المباشرة، أو يحمل خصيصة تراكم العناصر الوراثية التاريخية السلبية كميّا، لا خصيصة الولادة الطبيعية المنهاجية المنتِجة والفاعلة. لهذا السبب لم تتمكن مجتمعاتنا من الخروج من أزماتها البنائيّة. لأنّ مسالك التطور مسدودة بأحجار الماضي المتراكمة، ومحجوبة الآفاق بحكم تراكم عناصر الانغلاق، التي تظهر في كل حقبة بزي جديد، بدلا من أن تختفي أو تصحح أو تعالج بالثورة أو بالتدريج، بالعنف أو بالسلم، دستوريا أو بالخروج على دستور ملفق لا يصلح أن يكون عقدا إجتماعيا للمواطنة.

كيف ستنتهي المواجهة؟
سيعود الطاغية بوجه جديد، وربما يعود مع تغيير جزئي، وربما سيظهر وجه جديد من بقايا النظام السابق. وهناك احتمال آخر، وهو الأرجح، أن يتم تطعيم السلطة القائمة بسلطة المعارضة السياسية مؤقتا تحت قيادة الجيش، بهذه المسلسللات يراد تأطير نتائج ثورة الشارع من قبل المنظومة الساسية القائمة. بيد أن ما أحدثته الثورة من خلخلة عظيمة في هذه المنظومة ستجبر السياسيين على السير أبعد مما يتمنون ويظنون.
وهذا يعني أن الشارع الثائر (المواطن) قدّم مفاتيح حل الأزمة التي خلقها الطرفان: عجز السلطة وعجز مشاريع ووسائل المعارضة، وأن من سيقتسم الحل هما الطرفان نفساهما، لأن الشارع ليس له علاقة بالموقع السياسي الحكومي بالمعنى المباشر، أي الكرسي، بقدر عنايته بالمحتوى الاجتماعي لمنظومة إدارة المجتمع (الحكم). إن ما يحدث هو بحث مجتمعي عن التوازن العادل، وليس بحثا عن سلطة حزبية. لهذا السبب تبحث السلطة المصرية بطريقة هزلية، بمكبرات الصوت، عن "قادة" من بين المتظاهرين يصلحون للتفاوض. وحينما عجزت وجهت لهم النداء عبر القنوات الفضائية لاسماع المنتفضين أفكارها التحاصصية، وحينما عجزت أيضا أرسلت رجالها الكبار أو من ينوب عنهم الى ميدان التحرير للبحث عن شركاء قد يسهمون في اقتناص منصب ما على حساب المطلب التاريخي: تقويم الخلل السياسي والاجتماعي. ومن العجب العجاب أن تكون سلطة معادية للمنافسة السياسية هي من يقوم بالبحث عن منافسين سياسيين. أي إنها تبحث عن تسييس غير المسيّس، وتحزيب الانتفاضة، وجعلها شريكا في التقاسم الحزبي الحكومي، وليس شريكا في الإصلاح الاجتماعي. وهنا نرى جليا أن هذه السلطة لا تفهم شعوبها، ولا تفهم معنى بناء التكوين الاجتماعي وحركة التاريخ ومضمون الإنسان. لإنها جزء من منظومة سياسية فاسدة الجوهر، فارغة المضمون، تعتقد جازمة أن الحكم، لا المجتمع، هو أساس تسيير الحياة. إنها دكتاتورية عميقة وفاسدة حتى النخاع. وهذا هو أول سوء فهم كبير لما حدث، وهو أول سوء تقدير كبير دفع ابن على الى إذاعة بيان تنازلاته، ودفع مبارك الى ذلك أيضا، ودفع ملك الأردن وعسكري صنعاء الى ذلك. إنه خطأ في فهم ما حدث، وعدم مقدرة السلطة بعقلها التقليلدي الجامد والعاجز على معرفة حقيقة ما حدث ويحدث. ويشاركها في الأمر الأحزاب من خارج السلطة، التي تريد هي أيضا إيجاد معادلة اقتسام، باعتبارها الحل الأمثل لأزمة النقيضين: الشارع والرئيس. والاقتسام، هو بحق، الحل الأمثل آنيّا لتحاصص الحكم وانتهاب بعض أعراض المفاجأة الشعبية، ولكنه ليس الحل الاجتماعي الضروري لتصحيح أزمة النظام السياسي التاريخية، لأن هذا الحل التوفيقي الإجرائي مطلب فرعي وشكلي ووقتي، لا صلة لانتفاضة المجتمع به.
إن الأحداث كلها تشير الى أننا لسنا في معادلة تتعلق بتوزيع مباشر لمقاعد الحكم، وإنما أمام تحرك في الوعي الاجتماعي يهدف الى تأسيس قواعد وقيم حضارية لتسيير السلطة والإدارة الاجتماعية. إن الثورة أو الانتفاضة أو التمرد لا صلة مباشرة لها بموضوع السلطة واقتسامها (كرسي الحكم). إن الموضوع كله يتركز في التصادم بين عنصرين أساسيين متناقضين تناقضا جذريا: مواطن بلا مواطنة، بلا شخصية اعتبارية قانونية وبلا حقوق مدنية حقيقية، في مقابل ديكتاتورية ( مالية وسياسية وعسكرية) مغلفة بشعارات انتخابية. أي إننا أمام مواطن في مواجهة ديكتاتورية تاريخية تحمل شرعية الوجود الدستوري، الذي اكتسبته من طريق حيازة حق واحد من بين مئات الحقوق الأساسية المهدورة: الوصول الى السلطة بانتخابات صورية. لقد أضحى المجتمع كله والنظام السياسي كله مرهونا بإرادة سلطوية إرغامية، يحق لها تعطيل طاقات مجتمع كامل باسم لعبة بائسة اسمها: الرئيس المنتخب، وهي اللعبة عينها التي أنتجت حاكما ألعوبة اسمه كرزاي في افغانستان، وآخر اسمه ابن علي في تونس، والقذافي في ليبيا، وعلي عبدالله صالح في اليمن، والبشير في السودان وغيرهم.
إن المجتمع العربي يقف الآن أمام معادلة جديدة أسمها الحقوق المدنية والمواطنة في مواجهة ديكتاتورية الرئيس المنتخب.
إن ديكتاتورية الرئيس المنتخب هي الشكل الفظ والمتخلف للديكتاتوريات السابقة، لأنها تجمع مساوئ الدكتاتوريات النمطية كلها، وتضيف اليها فنونا جديدة من الشرور اسمها الشرعية والدستورية. فهي لا تمارس وظائف الديكتاتورية التقليدية العدوانية فحسب، بل تضيف اليها شرعية انتهاك وتزوير وامتهان أعمق وأسمى جوانب تطور الحياة المدنية: الدستور والشرعية.
إن ما يحدث الآن هو تناقض بين بناء دستور مشوه يعكس تشوهات السلطة الحاكمة وبين البحث عن دستور حقيقي يعكس مصالح المواطنين، بين شرعية قائمة على قانون القوة (المالية والعسكرية) وسحق إرادة المواطن وبين شرعية الحق المدني، بين سلطة يقودها ديكتاتور باسم الشرعية ومواطن يبحث عن شرعية إجتماعية متوازنة في ظل شروط التمتع بالحريات والحقوق المدنية المتساوية.

ماذا يفعل حسني مبارك الآن: يرسل أنصاره لحسم معركة الشارع ، يرسل القوة لتحطيم كرامة المواطن الأعزل، أي إنه يرسم لنا لوحة نموذجية ناطقة لما يفكر فيه، يرسم محتواه النفسي والايديولوجي وشعاراته بنفسه: شارع محايد حزبيا في مواجهة رئيس يقود كاسري الانتفاضات التقليديين، الذين يمكن أن يظهروا في هيئة أمن الدولة أو قوات مسلحة أو شرطة سرية أو بلطجية شوارع (لا تهم التسمية)، إنه الرئيس المنتخب يدير ويوجه عنف المؤسسة القمعية ضد المواطنة. هذا هو ما يحدث الآن: الرئيس يخرق دستوره المزيف بنفسه ويمتهن شرعيته، والحزب الحاكم يعلن برنامجه الانتخابي الحقيقي مصورا.
من سيسرق رأس الثورة؟ قد يبدو هذا السؤال العاطفي حاسما لدى كثيرين، الثورة وأعدائها. لكنه ليس مهما الآن في حساب التاريخ. لأن الثورة الراهنة ليس لها رأس محدد. للسلطة والحزب الحاكم رأس محدد بدقة بالغة، أما رأس الثورة الوحيد، غير المرئي، هو الضمير الاجتماعي المنوّم قبل لحظة الثورة، والوعي الاجتماعي المغيّب قبل لحظة الثورة، والحقوق المستلبة علنا، التي تصحو مجتمعة بطريقة تذهل البشرية أجمع. هذا هو رأس الثورة الحقيقي. أمّا كرسي الحكم فقد يؤول لمن يؤول، فهو ليس غاية الثورة في جوهرها، لأنها ثورة مواطنة وليست ثورة كرسي حكم، وما محاولة السلطة المستمية للبحث عن "رأس" قيادي للثورة سوى محاولة مخابراتية ساذجة ورخيصة لشراء أهداف الثورة وإسقاط مغازيها وإشاراتها التاريخية. لأن هذا الشراء هو الوسيلة الوحيد التي تجرد ثورة المواطنة من سبب ولادتها، ومن سبب قوتها، ومن سبب وجودها وقيامها كظاهرة أدهشت العالم. فما يحدث مصريا وقوميا صحوة مواطنة تجميع وتختزن في جوفها كل الآلام والاخفاقات السياسية والاجتماعية الوطنية والقومية، الآنية والتاريخية.
حينما تحدث حسني مبارك مع باراك أوباما، قال بشفتين يابستين إنه يقدّر دعوة الرئيس أوباما الرامية الى إيجاد حلّ للأزمة بطرق سلمية، ووعد بتقديم الحل بطريقته الخاصة، التي تطابق خصوصية الشعب المصري. ويدّعي مبارك أنه قال لأوباما: "إنه لا يفهم ثقافة المنطقة ... إذا تنحيت الآن ستسقط البلد في الفوضى" (مقابلة صحافية مع شبكة "ايه بي سي نيوز" الإخبارية الأميركية نقلا عن داغنسنيهيتر السويدية) ثم تلاه بخطاب ذي إشارات تربوية عالية موجه الى أنصاره "على هذه الأرض ولدت وعشت وسأموت". إن الطغاة جميعهم يرسمون حياتهم بمسطرة الموت دائما. وكرر نائب مبارك عبارة السقوط في " الفوضى" حينما " دعا الى إنهاء التظاهرات معتبرا ان المطالب التي يتبناها الشباب تمت تلبيتها وان الاصرار على رحيل مبارك فورا دعوة "للفوضى".
بعد ساعات من هذه المكالمة التعليمية مع أوباما أراد الرئيس المنتخب، الأب الشرعي لخمسة وثمانين مليون مواطن، أن يثبت لأوباما ماذا يعني "بفهم طبيعة الشعب المصري"، أي أراد أن يثبت للعالم طريقة فهمه الشخصي لشعبه - الطريقة الوحيدة التي يفهم بها هذا الشعب- الذي يقف الآن في مواجهته غاضبا ناقما. ولأن الكلمات لا تقنع شخصا براغماتيا مثل أوباما، قرر الرئيس أن يرسل الى العالم صورة حيّة متلفزة يفسر بها كلماته صوتا وصورة. فجأة تفتق عقله- وعقل من يحيطون به أيضا-المشحون والمدرب على العنف والضغينة الاجتماعية عن فكرة إرسال بلطجية الشوارع، بديلا للشرطة السرية، (أين الشرطة؟) لكي يُري العالم ماذا يعني بطبيعة المجتمع المصري. لكنه نسي أمرا واحدا: أنه حاكم جاهل بقوانين الشرعية الدستورية وقوانين إدارة المجتمع في زمن متحرك، له ملايين العيون. لقد غبى عليه أن يدرك أن الانتفاضة كلها قامت بسبب هذا الفهم الأخرق والفظ للمجتمع المصري، الذي لا يساس إلا بالبلطجة والقوة، كما يحسب الرئيس، وهو سبب الثورة الرئيسي: الحقوق المدنية في مواجهة بلطجية الانتخابات والرئيس المنتخب بقوة المال والسلطة.
لم يكتف الرئيس بهذا الاستعراض الطغياني الهمجي لبرنامجه الرئاسي، بل قدم للعالم منظرّيه يفلسفون للناس أسرار هجوم بلطجية البعران على ميدان التحرير قائلين: إنهم أصحاب مصالح تضررت أرزاقهم بسبب الانتفاضة المشروعة، وإنهم ليسوا ضد ثورة الشباب الشرفاء، ولكن ضد أن تعطل مصالح الناس. (المعطلة أصلا منذ ثلاثين عاما). ورد هذا في المقابلة التي أجراها أبرز منظري الحزب الحاكم عبدالمنعم سعيد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية مع قناة العربية. لكن تعبوي النظام لم يوضح لمواطني بلاده: إذا كان هجوم أصحاب البعران بسبب الأرزاق، فعن أي رزق كانت طائرات النظام المقاتلة ومروحياته تبحث وهي تروّع المواطن المصري المسالم في ميدان التحرير؟ من أية قاعدة انطلقت وأين هي جبهة الحرب في تقدير النظام ومثقفيه ومنظريه؟ إذا كان بلطجية السياسة هم من أرسل البعران والخيول وشرطة الجلابيّات الى ميدان التحرير فمن أرسل الطائرات الحربية والمروحيات الى سماء القاهرة؟ أما مدير مركز المعطيات والدراسات الاستراتيجية السوري عماد فوزي الشعيبي فقد دعا بنبرة محزنة منتفضي ساحة التحرير الى الاقرار بالهزيمة والعودة الى بيوتهم بعد ساعات من خطاب مبارك الأول في الأول من شباط. جهاز الحكم في العراق استقبل الحدث التونسي والمصري باعتراف استباقي من المالكي، بعدم الترشيح لولاية جديدة، أعقبه صدور تصريحات من أتباعه تشير الى أن ما يحدث في العراق هو محض مطالبات خدمية، لأن الديموقراطية في العراق منجزة ولا تتطلب تغييرا في النظام السياسي، وأن ثورة مصر ما هي سوى صدى متأخر لـنداء "العهد الديموقراطي" الذي حققه الاحتلال وأعوانه في العراق.
إنها وحدة متكاملة تجمع بين ديكتاتور منتخب رئاسيا وبين أجهزة القهر الحزبية والأمنية والمثقف المتماهي مع مؤسسات الديكتاتور. هذه الوحدة التاريخية الطغيانية الطفيلية المتحجرة تقف الآن عربيا، وليس مصريا حسب، في مواجهة المواطنة التي تتدرب ميدانيا على تحقيق ذاتها وانتزاع شرعية وجودها.
إن انتفاضة ميدان التحرير امتحان تاريخي أخرج فيه المجتمع أوراقه النظرية والنفسية وشعاراته وحساباته ووضعها كلها على رصيف الشارع. إن المجتمع المصري كله يؤدي اختباره التاريخي: المواطن يختبر مقدرته على إنتاج وتحقيق مواطنته بسقف محدد: إسقاط قمة الهرم الحاكم ممثلا برئاسة الحزب والدولة وإسقاط عنصرالخوف المزمن من تأدية الامتحان؛ والسلطة تعلـّم نفسها، في وقت متأخر جدا، على استخدام وتكييف عناصر القوة لمواجهة الواقع الجديد؛ والأحزاب تتدرب على سبل إعادة التقاسم السياسي في ظل المفاجأة الشعبية وفقدان الثقة بالنفس. إن النتيجة أو الشهادة الخاصة لهذه التجربة الميدانية تكمن بذاتها، بوجودها، باعتبار أن قيامها – خروج فكرة المواطنة من الفكر الى الواقع- هو اللبنة الأساسية الأولى الضرورية المنتظرة لتحقيق بناء اجتماعي حيوي، منتج داخليا، بصرف النظر عن طبيعة تداول السلطات فيه. وإذا وصلت النتيجة النهائية الى ما هو أبعد من إطاحة رأس السلطة والحزب الحاكم فستكون انتفاضة المواطن حدثا أكبر من أسطوري وأجلّ من ثورة تقليدية.
هذا ما يحدث في مصر الآن، وهذا ما يحدث عربيا أيضا.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة عراقية كبرى، ولكن...!
- انطباعات أميركية عن أميركا عراقية
- ممرات العبور من الحرية الفردية الى الحريات العامة وبالعكس
- أخيرا، حصل الإعلام السويدي على إنتحاريّه الخاص
- تدنيس المقدس (قراءة سلفية تهين الرسول محمد: حديث أم حرام)
- حكومة من تنك، وقَتَلة من ذهب، وإعلام خردة!
- أسرار وثائق ويكيلكس!
- تفكيك المقدس واستنطاق المسكوت عنه
- دكتاتورية الكراهية: الفرد العراقي من مجتمع التعبئة الى حالة ...
- نقد الخطاب الديني، التفكير والتكفير واللعب على المكشوف
- النظافة من الإيمان: ثلاث كلمات قتلت سردشت
- كاكه سرو وعبلة: قصّة حبّ كرديّة
- البحث عن السعادة الخادعة في الأدب الغريب وثقافة الآخر
- الثقافة والعنف بين التحليل النفسي وعلم الاجتماع
- يهود العراق وخرافة البحث عن وطن افتراضي
- هل نرتقي بضربة حذاء؟!
- البعثيُّ الذكيُّ والعراقيُّ الغبيُّ! ( رسالة الى المثقف البع ...
- سيئات حميد مجيد الفاضلة
- رسالة شخصية الى نائبة عراقية: صفية الوفية!
- رسالة شخصية الى السيد هوشيار زيباري: العقل زينة


المزيد.....




- مغني راب إيراني يواجه حكماً بالإعدام وسط إدانات واسعة
- -حماس- تعلن تسلمها ردا رسميا إسرائيليا حول مقترحات الحركة لص ...
- تحتاج 14 عاماً لإزالتها.. الأمم المتحدة: حجم الأنقاض في غزة ...
- اليمنيون يتظاهرون في صنعاء دعماً للفلسطينيين في غزة
- عائلات الأسرى تتظاهر أمام منزل غانتس ونتنياهو متهم بعرقلة صف ...
- منظمة العفو الدولية تدعو للإفراج عن معارض مسجون في تونس بدأ ...
- ما حدود تغير موقف الدول المانحة بعد تقرير حول الأونروا ؟
- الاحتلال يشن حملة اعتقالات بالضفة ويحمي اقتحامات المستوطنين ...
- المفوض الأممي لحقوق الإنسان يعرب عن قلقه إزاء تصاعد العنف فى ...
- الأونروا: وفاة طفلين في غزة بسبب ارتفاع درجات الحرارة مع تفا ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - ثورة المواطنة وديكتاتورية الرئيس المنتخب!