أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لطيفة الشعلان - أي حب جمع بين فدوى طوقان وأنور المعداوي؟ هل أخفقت علاقتهما لأن أنور كان مصابا بالعجز؟!















المزيد.....


أي حب جمع بين فدوى طوقان وأنور المعداوي؟ هل أخفقت علاقتهما لأن أنور كان مصابا بالعجز؟!


لطيفة الشعلان

الحوار المتمدن-العدد: 3035 - 2010 / 6 / 15 - 19:23
المحور: الادب والفن
    


1من 2

لما كانت رسائل أنور لفدوى تدخل في خانة الأدب الخالد، فقد ظل يراودني في كل مرة أعود فيها إلى الرسائل - وآخرها مع اقتناء طبعة جديدة (1) من الكتاب الصادر في السبعينيات هي طبعة "دار الشروق"- أو في كل مرة تصادفني فيها سيرة أنور أو فدوى سؤال يتمحور في طبيعة العلاقة التي جمعت بين الاثنين إن كانت بالفعل حبًا كما افترض رجاء النقاش أم أنها مجرد صداقة.
وسؤال العلاقة بين فدوى وأنور لا يقل أهمية عن سؤال العلاقة بين مي وجبران الذي أسال حبراً نقدياً كثيرًا، ولا يزال، لأنه سؤال عن جزء مهم وفريد في السيرة الأدبية والشخصية لذوات مبدعة، يتجاوز العناية الظاهرية بشأن العلاقة الشخصية إلى أفق أكثر اتساعاً يتقاطع فيه النفسي مع الإبداعي مع الثقافي الاجتماعي في حقبة أدبية وزمنية معينة.
كما تنبع أهمية السؤال من موقع كل من فدوى طوقان وأنور المعدّاوي في تاريخ الأدب العربي الحديث، وقد كان موقعاً ريادياً متقدماً سواء في الشعر بالنسبة لفدوى، أو في النقد الحديث بالنظر إلى الإنجاز المميز الذي حققه أنور خلال حياته القصيرة.
وكذلك تأتي أهميته من القيمة الفنية والتاريخية للرسائل التي تعدّ شاهداً موضوعيًا وحيدًا على طبيعة العلاقة التي ربطت أنور بفدوى، فهذه الرسائل قد استبطنت الذاتي والشخصي، بقدر ما استبطنت وقرأت الأوضاع الثقافية والسجالات الأدبية والذائقة الفنية والرؤى النقدية السائدة في زمانها.
من جهة أخرى فإن سبر غور العلاقة التي ربطت بين فدوى وأنور قد يساعد في إضاءة بعض الجوانب المعتمة في شخصية الاثنين، طالما أن ذات المبدع أحد المداخل المعّتبرة لفهم وتفسير إبداعه. كما قد يسهم في تأمل روح العصر وثقافته الأدبية والاجتماعية، وموقع المرأة المثقفة، وطبيعة علاقتها بالرجل في الوسط الثقافي في مجتمعات بلاد المركز (مصر والشام) خلال حقبة الخمسينيات.

فدوى بين الناعوري وكوليت خوري
لقد قرر رجاء النقاش في فترة مبكرة، وتحديدا عام 1976 أن العلاقة بين أنور وفدوى كانت حباً متقدًا، لكن الكاتب والناقد الأردني عيسى الناعوري خالفه في مقال صحافي( 2) راداً العلاقة بينهما إلى الصداقة والزمالة الأدبية وحسب. وفيما عدا الناعوري، لم يُجابه النقاش بحسب علمي برأي مخالف يذكر، حتى غدت قصة الحب التي يفترض أنها ربطت بين فدوى وأنور أمرًا مفروغًا منه لا يخضع لمناقشة أو مراجعة، بل ربما تم تحليل قصيدة لفدوى، أو تم تناول سيرة أنور ومأساة حياته وفي ذهن الناقد كما فعل رجاء النقاش نفسه ظلال وتأثيرات هذه القصة المفترضة. ويبدو لي أن ميل أغلب النقاد إلى تبني رأي رجاء النقاش له أسباب عدة، من بينها شهرة رجاء نفسه التي فاقت شهرة الناعوري، وكذلك انتشار رأيه انتشارًا واسعًا لظهوره في الكتاب الذي احتوى رسائل أنور لفدوى وطُبع أكثر من مرة، أمام محدودية الصدى الذي أحدثه رأي الناعوري. والأهم من ذلك كان وقوف فدوى بحزم ضد رأي الناعوري في سابقة طريفة محملة بالدلالات النفسية، ذلك أنها كتبت له رسالة(3 ) في أعقاب نشر مخالفته لرجاء تقول فيها: "نعم كان هناك حب حقيقي وعبرت عنه بأكثر من قصيدة".
ولما كان الناعوري قد احتج باقتصار العلاقة بينهما على الرسائل على رغم زياراتها لمصر، فقد أخذت فدوى في رسالتها تعدد للناعوري زياراتها لمصر زيارة زيارة ذاكرة السبب الذي حال بينها في كل مرة وبين لقيا المعداوي !
وأغلب الظن أن فدوى كانت لحظتها مدفوعة بحاجة انفعالية لتكتب رداً بهذا الشكل، كتلك الحاجة الشديدة التي تدفع كوليت خوري حتى اليوم لتذكيرنا في كل إطلالة إعلامية بأنها وحدها كانت حب نزار قباني الكبير، مع وعد يتكرر كل عام بأنها ستنشر الرسائل التي كتبها لها في خمسينيات القرن الماضي. وكتلك الحاجة التي جعلت ديزي الأمير تشكو رجاء النقاش على صفحات المطبوعات متمنية عليه أن يفرج عن رسائل الشاعر السوداني محمد المهدي المجذوب التي سلمتها له. وأزعم أن رجاءً أو حافظ أسرار الغرام ذهب إلى ربه من دون أن يفعل لأنه ببساطة لم يجد في تلك الرسائل القيمة الأدبية والجمالية والتاريخية التي وجدها في رسائل أنور وإلا لنشرها من دون تردد.
الشيء الذي يستوقف المرء فعلاً هو أن فدوى التي أنكرت في رسالتها على الناعوري إنكاره لقصة الحب بينها وبين أنور، وفدوى التي سلمت بنفسها رسائل أنور التي كانت بحوزتها إلى رجاء النقاش ليتولى أمرها حائكاً حولها قصة الحب، هي نفسها فدوى التي تجاهلت كليًا في سيرتها الذاتية بجزأيها الأول(4 ) والثاني( 5)، الإشارة إلى هذه القصة، فهل كانت تريد من غيرها إثبات شيء لا تريد هي بنفسها أن تثبته أو تتحمل مسؤوليته المباشرة في سيرتها المخطوطة بيدها، الباقية بين الأيدي؟
لنتأمل متى بدأت فدوى تنطلق قليلا في حواراتها الصحفية كأن تقول: "أحببت وكثر هم الذين أحبوني" .. عندما أعطتها الشيخوخة حصانتها وجلالها.
ربما كانت فدوى بحس براجماتي عال وعت أن المجتمع الثقافي الفلسطيني الذي دفع بها وعزّز مواقعها في الآلة الإعلامية العربية فصارت اسمًا شعريًا كبيرًا مع أنها توقفت عن الشعر قبل سنوات طويلة من وفاتها، لم يكن ليفعل لو كانت منطلقة أو متحررة في سيرتها الذاتية أو مخيالها الإبداعي أو حياتها الخاصة بشكل يصادم العقلية الفلسطينية المحافظة. هي مثلاً حين تحدثت في سيرتها عن اتصالاتها بالإسرائيليين كانت تعرف أن ذلك مهما كان حساسًا للبعض فإنه لن يصل إلى دقة أو حساسية حديثها عن الرجل أو عن حياتها العاطفية.
ما يقوله باحث فلسطيني هو المتوكل طه يعبر بدقة عن ذلك: "سيرتها متحفظة، غامضة، ناقصة، المحذوف منها أهم من المكتوب والمعلن فيها".
لكن السؤال المشروع الذي يهدف إلى فهم موقف فدوى لا لإدانته هو: لم أسقطت أنور كليا من سيرتها وهو عرّابها الأمين. لقد ضنت عليه بكلمة واحدة مع أنها لم تغفل أسماء عدة عابرة، حتى إنها تجنبت مجرد الإشارة الموضوعية البحتة للدور الكبير الذي لعبه في مسيرتها الشعرية، فهو من كان يقرأ قصائدها ويعطيها رأيه النقدي ويشجعها على مزيد من الإبداع. والأهم من ذلك أنه تولى بنفسه ديوانها الأول، متابعاً كل ما يتعلق به: من اختيار العنوان، إلى المراجعة، إلى اختيار الجهة الناشرة، إلى الصف والتدقيق، والإخراج الفني، واختيار صورة الغلاف، وفي ما بعد الإيعاز للوسط الثقافي في القاهرة بكتابة مراجعات للديوان أسهمت في قبوله وانتشاره !
هل كان حبا أم قبولاً غير مشروط ومسامرة على الورق ؟
لصادق جلال العظم في كتابه الصغير الجميل عن الحب(6 ) رأي يحسن ذكره في هذا المقام، ومختصره أن الإنسان الذي عانى من الحرمان طويلا سيتعلق مدفوعًا برغباته المكبوتة التي تراءى لها بعض الأمل للتعبير عن ضيقها وحصرها بأول شخص يبدي نحوه العطف والاهتمام، لكن هذا التعلق ليس حبًا وكان سينصرف نحو أي شخص آخر يعترض طريق المحروم على النحو المذكور. شيء مشابه للعملية التي أعطاها الفرويديون مصطلح التحويل الإيجابي Positive Transference حين يقع المريض المستلب، المهزوم نفسيًا، في هوى المحلل النفسي، أو يوليه ويركز فيه كافة مشاعر التعلق العاطفي والثقة والتقدير.
المعنى أن شعور فدوى ربما كان سينصرف لأي شخص يبدي نحوها، وهي المحرومة، تلك الرعاية التي أبداها لها أنور، فلقد اختبرت التسفيه والرفض الشديد في إطار عائلتها النابلسية المتزمتة التي تحكمت بها عقدة عدم الثقة في جنسانية الأنثى. ففي إطار ما سمّاه رايش الدراما المنزلية تشكلت شخصية فدوى، حيث لعبت أسرتها التي كانت نموذجاً على المؤسسة القمعية دوراً حيوياً في نشوء كبتها. ففدوى كانت متعطشة إلى التعاطف والقبول غير المشروط بمعناه الروجرزي (عند كارل روجرز) أو بمعناه عند رولو ماي: "أن تفضي إلى شخص بأفحش أفكارك وأدق أسرارك وأخفى أحزانك وتفاهاتك وأهوائك ثم تبقى مقبولا محترما من جانبه"، فماذا حين يأتي هذا من ناقد شاب ذكي وسيم متأنق كان ملء السمع والبصر كأنور المعدّاوي؟
إن علاقة أنور بفدوى كانت علاقة على الورق بالمعنى الفعلي، فهما لم يلتقيا مطلقًا ولا مرة واحدة. والذي يستشفه المرء من حياة فدوى الضاغطة أن ذلك النوع من العلاقة القائم على المراسلة كان يلائمها في مرحلة ما من حياتها ويريحها نفسيًا، إذ يمنحها لذة الشعور بوجود الرجل إلى جانبها من دون أن يترتب على هذا الوجود أي تبعات أو مسؤوليات تثقل كاهلها ولا يمكنها الوفاء بها كتلك المترتبة على العلاقات العاطفية العادية. وهي إن كانت اعترفت بهذا الأمر اعترافاً صريحاً إلا أنها قصرته على فترة المراهقة إذ تقول: " كانت مراهقتي العاطفية حادة مشتعلة، نفس مكبوتة تتفتح لأول كلمة حب تأتيها على صفحة رسالة. حب بالمراسلة .. كنت أقع في هذا اللون من الحب الخيالي وأغوص فيه، وبيني وبين التجربة الواقعية جدران القمقم ".
لكن المؤكد أنها حين ارتبطت أيضًا مع الشاعر المصري إبراهيم محمد نجا، كانت لا تزال داخل القمقم، فلم تتجاوز علاقتها به الورق، إذ إنهما لم يلتقيا أبداً، بشكل يجعل المرء يعتقد بأن الحب عن بعد كان اختيار فدوى الشخصي، أو بمعنى أدق اضطرارها، في فترة معينة من مشوار حياتها، وليس مصادفة ترتبها لها الأقدار.
أنور وعى جيداً تركيبة فدوى النفسية وشرطها الاجتماعي، فهو عندما كتب فصلاً مهمًا في مؤلفه عن الشاعر علي محمود طه( 7)، عنوانه: "أثر المرأة في حياته"، مازجًا فيه بين التفسير الأدبي والنفسي، كان مثل من يتحدث لاشعوريًا عن علاقته هو بالمرأة وخبرته بها، قبل أن يتحدث عن منقوده أو عن أي شخص آخر.
يقول أنور عن طه: " يعف عن المرأة حين يدرك بفطنته أو بإنسانيته أنها ليست بائعة جسد .. كان يفرق بين الصديقة وبين العشيقة، بين امرأة خُلقت للحب الروحي وبين امرأة خُلقت للحب الجسدي". ويقول في تعليقه على إحدى قصائد الشاعر: "هذا نموذج من النماذج الأنثوية التي كانت تعترض طريقه فلا تثير في نفسه نزوة من نزوات الغريزة وإنما تنحصر الإثارة في دائرة القلب الذي يتسع للعطف والرحمة .. بدت لعينيه وهي إنسانة مضيّعة .. شريدة تلتمس المأوى .. وعندئذ نام في أعماقه الرجل واستيقظ الإنسان".
ثم يتابع وكأنه يعطي دليلاً أو مرشدًا للرجال من بعده: " امرأة تقبل بكيانها اللافح فهو إقبال الجسد، وامرأة تقبل بوجهها البريء فهو إقبال الروح، وامرأة تقبل بحديثها المصفى فهو إقبال الصداقة، وامرأة تقبل بنظرتها الكسيرة فهو إقبال من ترتجي العون وتنشد المساعدة .. وكل هذه النماذج الأنثوية قد مرت به فاختلف إزاءها الحس والعاطفة".
ومع أن هذا التقسيم نظري بحت ليست له قيمة إجرائية، لأن المرأة قد تقبل على من تحب في هذه الحالات كلها بدون فجاجة أو تناقض بينها، إلا أن بيت القصيد أن أنور قد أدرك منذ البداية أن فدوى لن يتجاوز وجودها في حياته وجود صديقة تبعث إليه برسائلها الرقيقة وتستقبل منه مثلها، وهي بشخصيتها وحياتها العائلية القاسية، أنامت الرجل في أعماقه وأيقظت الإنسان، ولم تثر في قلبه كامرأة سوى مشاعر العطف من دون أن يلغي ذلك إعجابه بها كشاعرة موهوبة تشق طريقها.

أين فدوى من غادة ؟!
فدوى لم تكن لديها مشكلة مع جسدها أو مع مشاعرها، لذا لا معنى لاستدعاء كل الإرث – إن كان لفرويد أو لهيلين دويتش- الذي يفسر علاقة المرأة بالرجل من خلال عصابيتها أو حتميتها البيولوجية. ومن هنا يصبح اتجاه كارن هورني لتحليل المشروطية الاجتماعية، أو تنظير شير هايت لفهم قصة النساء مع الحب أكثر مصداقية وجاذبية، إذ تكون العلاقة العاطفية بالنسبة لأي امرأة ليست فعلا رومانتيكياً أو إيروتيكياً، بل هي فعل ثقافي بحت، بمعنى أن المرأة تبني علاقتها مع الرجل بطريقة تعكس، على نحو مثالي، النظام الاجتماعي القائم والقيم الثقافية السائدة.
بناء على ذلك فإن شرط فدوى الاجتماعي حين تغير، أو حين تحررت من منظومة القيم الثقافية التي نشأت فيها وسافرت إلى بريطانيا، عرفت الرجل عن قرب بشكل أو بآخر. وقد صرحت في السنوات الأخيرة من حياتها بأنه كان مصرفيًا إنجليزيًا متزوجاً. كما صرحت بأنها عرفت أيضًا موظفًا في إحدى السفارات الأجنبية.
نعم هي حولت الإنجليزي في سيرتها إلى شبح يطوف معها في غابة أو كاتدرائية، بلا هوية ولا روح ولا ملامح ولا حتى اسم، مكتفية بأن ترمز له بالحرف (A)، لكن ذلك يأتي متناغمًا بشكل عام مع سيرتها التي أرادتها متحفظة للسبب الذي ذكرته آنفًا، ويتعلق باستفادتها من قبول ودعم الوسط الثقافي الفلسطيني المحافظ في وقت مبكر كانت فيه بأمس الحاجة للقبول والدعم .
يمكن المقابلة بين شخصية فدوى التي تشكلت تحت طاحون الضغط والقهر الاجتماعي حسب تعبيرها الحرفي وشخصية غادة السمان مثلا، ليتبين كيف يمكن لحياة المرأة العاطفية وحياتها الإبداعية معًا أن يكونا أحد تجليات الثقافة، أو المنظومة القيمية والسيكولوجية الأصلية أو الحادثة بفعل تبدل شروط حياة المبدعة.
وعلى هذا الأساس قد لا يكون عسيرًا فهم اختباء ليلى بعلبكي التام بعد أن أحدثت خضة لجيل الخمسينيات، أو انسحاب نازك الملائكة وانقلابها على ذاتها بعد ثورتها الشعرية الراديكالية، إلى حد جعل الناقدة العراقية فاطمة المحسن تقول إن دخول نازك في الحياة الزوجية كان إيذانا بانتكاساتها الأدبية.
إن غادة المتحررة في حياتها وفنها إلى حدّ مقابلة أعمالها من ناحية قيمتها التحررية بأعمال سيمون دو بوفوار( 8) مثلت قيم الانفتاح والتسامح لعائلة الأستاذ الجامعي خريج السوربون ووزير التعليم اللاحق. كما عكست جهازًا معرفيًا ذاتيًا مرنًا في رقابته على (الأنا)، وعلى الخبرات والمعلومات المتاحة لهذه الأنا في العالم الخارجي، فجاءت تجربتها الإبداعية متوهجة بحرارة التجربة الإنسانية. فدوى على العكس من ذلك كان ضميرها الأخلاقي صارمًا بفعل التنشئة الوالدية في ظل نسق أسري مغلق تميز بجملة من سمات الأسرة المضطربة كالتصلب والدوغماتية والانغلاق والبرود وضعف التواصل والترهيب، مما أدخلها منذ صباها الابداعي في طور التسامي Sublimation أو الميكانزم الدفاعي الذي يؤدي من خلاله الإنتاج الأدبي أو الفني دوراً في التخفيف من ضغط أو وطأة التهديد الداخلي المتمثل في الإلحاحات الغريزية والوجدانية. وأزعم بأن هذه الرقابة الصارمة المتشددة قد حدّت من إمكانات فدوى الشعرية، فهي على رغم موهبتها وعلى رغم مكانتها التي يضعها فيها بعض النقاد خلف نازك الملائكة مباشرة، إلا أن شعرها في رأيي الخاص كان سيحلق في فضاء الإبداع أكثر لو لم تقع غالبًا في شرك الرومانتيكية.
هل يوجد حب في ظل غياب كلي للحضور الجسدي؟
إن الجسد هو أحد أبعاد الشخصية المهمة والحاسمة في تشكل وتطور العلاقات بين الأشخاص، وهي العلاقات التي تتدرج من علاقات العمل والصداقة إلى علاقات الحب والارتباط العاطفي. وتهميش الجانب الفيزيولوجي لوجود الإنسان في العلاقات العاطفية مقابل الجوانب الأخرى من عقلية وروحية ليس أكثر من اتجاه طوباوي مبتذل ليس له أي اعتبار علمي أو واقعي، لأن الجسد لا يتحدد بالمستوى البيولوجي فقط من طول ووزن وشكل ولون وملمس ورائحة وملامح، بل هو محصلة تفاعل هذا المستوى مع مستويين آخرين: اجتماعي ووجودي. ومن هذا التفاعل ينتج الجسد المعاش الذي يعكسنا أو يمثلنا ويموضعنا داخل التجربة العاطفية. وفي علاقات الشراكة يكون للجسد عالمه الموغل في العمق، وله لغته الصريحة والرمزية، وله خريطته المعقدة من الأفكار والمشاعر والدوافع والانفعالات، التي تفصح عن حقيقتها وتجد مايكافئها حين يكون حضوره حقيقيًا وليس متخيلاً.
فالتعبير عن أعمق مشاعر الحب يتم بالجسد ومن خلاله، فهو الذي يعطي معنى وأبعادًا للغة اللفظية، وحين تقمع الثقافة التعبير اللغوي عن المشاعر والرغبات العاطفية، يبدع الجسد في لغته التعبيرية والرمزية.
ولكن أين يأتي مكان أنور وفدوى أو أين نضعهما، حين نحاول مقاربة معنى الحب؟
حسب نظرية إلين هاتفيلد( 9) هناك نوعان أساسيان من الحب لا يبدو بأن أي منهما يفسر شأن العلاقة التي ربطت فدوى بأنور. الحب المشبوب Passionate Love والحب الفائض بالحنان والرحمة Compassionate Love . الحب المشبوب قد لا يُعمّر طويلاً، ويمتاز بحدة مشاعر الحب وكثافتها، وبالقلق والشغف والجاذبية الحسية، والفرد فيه يختبر الاستثارة الفيزيولوجية الداخلية في حضور الحبيب وقربه. وهذا الحب يحدث حين تكون الثقافة المجتمعية، أو ثقافة الفرد الخاصة، من النوع الذي يُعلي من قيمة الحب، أو على الأقل يتسامح مع الدخول في تجربته، وكذلك حين يقابل الفرد شخصًا يملأ عينه بحسب التعبير الدارج، ويملأ عقله أيضًا. النوع الثاني الذي قد يأتي في الظروف المثالية مترتبًا على النوع الأول، أو قد ينشأ مستقلا بذاته، هو حب رقيق، يميزه الشعور المتبادل بالأمان والثقة، وتكون فيه العاطفة المتبادلة هادئة، لكنها عميقة ومستقرة وأكثر ميلاً نحو الديمومة.
طبعا لا حاجة للقول إن الجاذبية الجسدية والاستثارة الفيزيولوجية ومشاعر الشغف الحقيقي ستنعدم أو تكاد في العلاقات الشبيهة بعلاقة فدوى وأنور، ناهيك عن الشعور المتبادل بالعواطف العميقة المستقرة التي يدعمها الإحساس بالأمان والثقة.
أما روبرت ستيرنبيرج ففي نظريته الأشمل للحب( 10)، حدد ثلاثة عناصر فاعلة: عنصر الحميمية بمعنى مشاعر الارتباط والقرب، وعنصر الشغف الذي تحدده الجاذبية الجسدية والرغبة الجنسية، وعنصر العهد الذي يتحدد على المدى القصير بقرار طرفي العلاقة البقاء أحدهما مع الآخر وعلى المدى الطويل بالإنجازات والخطط المشتركة بينهما.
هذه النظرية الثلاثية استخلصت سبعة أنواع من العلاقات بناء على قوة العناصر الثلاثة، وكيفية ارتباطها بعضها ببعض، إذ تكون العلاقات المبنية على اتحاد عنصرين أكثر ديمومة من المبنية على عنصر واحد فقط، أما العلاقة المبنية على العناصر الثلاثة كلها فهي الأقوى على الإطلاق، وإن كانت الأكثر ندرة وسمّاها ستيرنبيرج الحب الكامل أو الناجز Consummate Love .
يبدأ ستيرنبيرج بالصداقة التي لا ترقى إلى الحب، وذلك في العلاقات المبنية على عنصر واحد هو الحميمية. وهناك الحب المفتون Infatuated Loveالمبني على عنصر الشغف وحده، وأضرب عليه مثالاً لم يعرفه ستيرنبيرج هو زواج المسيار. وهناك الحب الأجوف Empty Love المبني على عنصر العهد فقط، وشبهه ستيرنبيرج بما يحدث في الزيجات التي يرتبها الأهل أو الأصدقاء. كذلك يوجد الحب الرفاقي Companionate Love القائم على الاتحاد بين عنصري الحميمية والعهد، ويحدث في العلاقات التي غادرها الشغف وبقي فيها الالتزام والمودة، كما هو حال أكثر الزيجات القائمة على وجه البسيطة. ويوجد أيضًا الحب البليدFatuous Love القائم على عنصري الشغف والعهد، كما في العلاقات التي يكون فيها الالتزام مدفوعا بالرغبة الجنسية بدون أثر للحميمية، مثلما يحدث في العلاقات العاصفة القصيرة. كما أن هناك الحب الرومانتيكي Romantic Love المبني على اتحاد عنصري الحميمية والشغف.
هذه الأشكال من الحب ليست ثابتة بالضرورة، بل لها صيرورة، تنمو من خلالها أو تتغير أو تتحول من شكل إلى آخر. لكن العلاقة بين فدوى وأنور بقيت في المرحلة الأولى التي تحدث عنها ستيرنبيرج وهي مرحلة الصداقة القائمة على عنصر الحميمية وحده، فلا وجود البته للعنصر الثاني وهو الشغف الذي جوهره الجاذبية الجسدية، كما أن طبيعة العلاقة بالمراسلة لا تحتمل الإمكانية الفعلية للعنصر الثالث المتمثل في العهد، ناهيك عن أن الرسائل لا تفصح عن عهود أو مواثيق بين الاثنين. وهكذا تكون الصداقة من بين العلاقات المشتملة عليها نظرية ستيرنبيرج هي الممكنة بدون أدنى تواصل أو حضور جسدي، على العكس من العلاقات العاطفية التي يستحيل أن يكون الإنسان فيها حزمة من الأفكار الباردة أو المشاعر المبثوثة عن بُعد، أو حالة من التجسد الورقي كما كان أنور وفدوى يتجسدان أحدهما للآخر، أو حتى التجسد عبر وسائط الإنترنت الصوتية والمرئية كما هو حال نمط من العلاقات في عصر الحداثة.
و تشبيه كثير من النقاد ومنهم رجاء النقاش نفسه قصة فدوى وأنور بقصص الحب العذري ليس صائبًا، لأنهم يغفلون أنه في حال تراث العذريين وقصصهم لم تنعدم قوة العاطفة ولا الشغف ولا دفء اللقاء ولا حميمية الحضور الجسدي، لكن الوصال هو الممتنع لجملة من الأسباب المركبة ليس هذا مجالها.

بين يدي الرسائل:
كتب أنور لفدوى على مدى ثلاث سنوات تقريبًا سبع عشرة رسالة، إذ كانت الرسالة الأولى بتاريخ 26/11/1951، في حين جاءت الرسالة السابعة عشرة والأخيرة بتاريخ 13/9/1954، ولم تظهر أي إشارة حب صريحة من أنور بإقرار رجاء نفسه سوى في الرسالة الثالثة عشرة التي كانت بتاريخ 12/8/1953. وهذا يعني أن عامين مرا تخللتهما اثنتا عشرة رسالة، أو ما نسبته 70 % من حجم المراسلة، قبل أن يذكر أنور شيئاً عن الحب، وهذا أمر لابد أن يستوقف الباحث. وحتى الرسائل الأربع الأخيرة التي كتبها أنور إلى تاريخ انقطاعه النهائي لم يحدث فيها تجديد حاسم أو تصعيد للإشارة الواردة في الرسالة الثالثة عشرة.
وواضح أن لهذه الرسالة أهمية خاصة عند رجاء و دوراً مركزيًا إلى حد أنه جنح إلى المبالغة في التعليق عليها ليؤكد قصة الحب المفترضة. فهناك فرق كبير بين أن يقول أنور لفدوى في هذه الرسالة إنه يشعر بأن ما بينهما في الأيام الأخيرة : " شيء فوق الصداقة، وفوق الإعجاب" وبين أن يأتي رجاء معلقاً على هذه الجملة بقوله: "يقول المعدّاوي إن العلاقة بينهما قد وصلت إلى درجة عالية من الحب العنيف" ! .
وحتى إشارة أنور للحب التي وردت في هذه الرسالة جاءت في معرض تبريره لانقطاعه عن فدوى مدة قاربت العام، فهو يذكر الآن بأن السبب الذي دعاه لينقطع عنها كان شعوره بأن العلاقة تحولت إلى "حب بغير أمل".
لكن من المعلوم أن الإنسان بوعي أو بدون وعي قد يبالغ في إظهار مشاعره إذا كان في موقف اعتذار من شخص عزيز عليه، لأن قراءة ما قبل الرسالة الثالثة عشرة وما بعدها، وأقصد على نحو خاص الرسالة الثانية عشرة، والرسالتين الرابعة عشرة والسادسة عشرة، تبين بشكل جليّ أن المرض كان قد اشتد على أنور، وغني عن القول بأن نوبات الألم الشديد التي كانت تهاجمه ووصفها لفدوى كفيلة بأن تشغله عما سواها، فانقطاعه عنها كان لانشغاله بنفسه أو لدواعي المرض وما يرتبط به من آلام جسدية ونفسية، وليس خشية من "حب بلا أمل" كما زعم لها معتذرًا.
بل إن فدوى ذاتها في الرسالة التي كتبتها لرجاء النقاش حين سلمته رسائل أنور، ذكرت أنها ضاقت ذرعًا في العامين الأخيرين من انقطاعه المفاجئ ثم عودته معتذرًا بالمرض، وهو العذر الذي لم تصدقه.

يتبع
___________

الهوامش:
( 1)رجاء النقاش. (2009). بين المعداوي وفدوى طوقان: صفحات مجهولة في الأدب العربي. القاهرة: دار الشروق.
(2 ) ضم هذه المقالة فيما بعد إلى كتابه التالي:
عيسى الناعوري. (1985). مع الكتب والناس والحياة. عمان: وزارة الثقافة والفنون
(3) رسالة فدوى مؤرخة في 26/1/1985 ، ونشرها الناعوري في كتابه المذكور.
( 4)فدوى طوقان. (1985). رحلة جبلية .. رحلة صعبة. عمان: دار الشروق، ط 2

( 5)فدوى طوقان. (1993). الرحلة الأصعب. عمان: دار الشروق.
( 6) صادق جلال العظم. (2002). في الحب والحب العذري. دمشق: دار المدى، ط 5.
( 7) أنور المعداوي. (1986). علي محمود طه: الشاعر والانسان. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة.
( 8) نجلاء نسيب الاختيار. (1991). تحرر المرأة عبر أعمال سيمون دوبوفوار وغادة السمان. بيروت: دار الطليعة. (الكتاب ترجمة لأطروحة بالفرنسية قدمتها نجلاء الاختيار لقسم اللسانيات والأدب بجامعة باريس الثالثة).
( 9) أنظر في:
Hatfield, E. & Rapson, R.L. (1993). Love, sex, and intimacy: Their psychology, biology, and history. New York: Harper Collins.
Hatfield, E. & Rapson, R.L. (1995). ). Love and sex: Cross-cultural perspectives. New York: Allyn and Bacon.
( 10) أنظر في:
Sternberg, R. j. (1986). A triangular theory of love. Psychological Review, 93 (2):119-135.
Sternberg, R. j. (1988). The triangle of love: Intimacy, passion, commitment. New York: Basic Books.



#لطيفة_الشعلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من لينين إلى نجيب الكيلاني
- “ليه يا بنفسج ب تبهج وإنت زهر حزين”
- باريس تحتفل والرياض تسمح
- حريم الفضائيات
- هل هناك مؤامرة لتحجيب الفن المصري ؟
- بين هند الحناوي ومنى حلمي
- المبتعث السعودي والشرنقة
- منهل السراج بين حماة والسعودية
- الهوية الحجازية
- - لما جت الحزينة تفرح ملقتشي لها مطرح
- بثينة شعبان والبوطي و .. سعوديات
- سيرة أصولي مصري
- المشي في حقل الأشواك
- ردا على الشاعر الليبي صالح قادربوه: - .. وانهم يقولون مالا ي ...
- تزمامارت وأبو غريب
- الرمز بين ابن العلقمي والبرامكة
- طل الصبح ولك ميليس
- شجون الجسد
- عفاف البطاينة: رواية الشرق والغرب
- تجنيد الأصوليين للنساء: تلك الأحجية


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لطيفة الشعلان - أي حب جمع بين فدوى طوقان وأنور المعداوي؟ هل أخفقت علاقتهما لأن أنور كان مصابا بالعجز؟!