أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الفلسفة لجميع الناس...(الحلقة الثالثة)















المزيد.....


الفلسفة لجميع الناس...(الحلقة الثالثة)


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 2894 - 2010 / 1 / 20 - 06:51
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ماذا علينا أن نعرف؟

في هذه المقالة سنقرأ عن عملية التفكير بدون الرّجوع إلى التجربة (النزعة العقلانية Rationalism)... وسنرى كيفية اعتماد الأفكار على عملية التجربة (النزعة التجريبية Empiricism)... الاستنباط، الاستنتاج، التذكر (المذهب الجدلي Dialectic)... العلاقة بين العقل والتجربة... الفكر والتاريخ.

كما سبق وأوردنا في الحلقة الماضية وقلنا أنّ الفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت" أقترح فلسفة تقوم على مبدأ ثنوي، أو طريقة في التفكير ترى العالم منقسماً إلى عالم فيزيائي، مادّي، موجود خارج عقولنا، وعالم آخر روحاني، ميتافيزيقي، موجود داخل عقولنا. من جهة كان ديكارت ينوي تقديم إجابة عن السّؤال الذي يلفّ موضوع العلاقة بين الوجود والمعرفة. وقد توصّل ديكارت ومعاصريه إلى أنّ الفلاسفة إذا استمرّوا في التساؤل عن الوجود فعليهم أن يتعاملوا مع مسألة كيف أنهم علموا بهذا الوجود، أي كيفية إدراكهم ومعرفتهم لهذا الوجود.
الأبستمولوجيا Epistemology هي البحث في نظرية المعرفة.
فما هي المعرفة؟ وما الذي نعرفه؟ وكيف نعرفه؟...
لذلك كانت مسألة الأبستمولوجيا هي شغل الفلاسفة الشاغل منذ عهد ديكارت عندما جذب الانتباه إلى أهمّيّة هذا المجال في القرن السابع عشر.
في عهد ديكارت، كانت الآراء والمعتقدات تتغيّر بشكلٍ عميق. فعمليّة الطباعة كانت قد بدأت تنتشر منذ مدّة حتى أنّ الكتب كانت منتشرة بشكلٍ كبير وكان بإمكان الناس قراءتها وتأليفها بشكلٍ أسهل من ذي قبل. ولأنّ الناس كانوا مطّلعين بشكلٍ أكبر، فقد كانوا يواجهون الأفكار القديمة بشجاعة، خصوصاً الأفكار الدّينيّة منها. بالإضافة إلى ذلك، كان العلم قد قدّم للناس أخباراً صادمة هزّت كيانهم: فالأرض ليست مركز الكون! لكنّ أغلب الناس لم يتقبّلوا هذا الأمر.
وكان الأمر الأكثر إرباكاً هو إخبار الناس أنّ الأرض هي التي تدور حول الشمس وليست الشمس هي التي تدور حول الأرض، لذلك خاف الناس وأصابهم الإرباك والتشويش، وكانوا بحاجة إلى أرض صلبة وثابتة ليعرفوا أين يضعون أقدامهم.
خلال عصر النهضة، استمرّ بعض الفلكيين بالاعتقاد بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض، حتى بعد الاعتراف من قبلهم بأن حساباتهم الرياضية كانت مغلوطة وأنها تشير إلى العكس تماماً، والتي تقول بشكل صريح وواضح بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس وبأنّ الأخيرة ثابتة. ففكرة مركزية الإنسان في الكون كانت تمنحهم طمأنينة وسكوناً نفسياً، لذلك كانوا غير مستعدّين للتخلّي عنها ببساطة.
والأمر الذي زاد الطّين بلة أنه لم يكن الجميع يعلم أنّ عليهم أن يذهبوا إلى العمل ليكسبوا قوت يومهم كما نفعل نحن اليوم. فبعض الناس (النبلاء) كانوا يعتقدون أنّ العمل يجب أن يقوم به أناسٌ آخرون (العامّة). وقد آمن النبلاء أنّ عليهم أن يعيشوا بترف وأن يتمتّعوا بالمال الذي جمعوه من عرق جبين العمّال. لكن تمّ التصدّي لهذه الفكرة فيما بعد. وفي كلمات للمؤرخ "كريستوفر هيل" يصف كيف أنّ العالم كان مقلوباً رأساً على عقب! فقد كانت الأمور خارجة عن السّيطرة لدرجة أنّ الناس لم يكونوا متأكّدين أنّ بإمكانهم الثقة بحواسّهم الخاصّة.
ثمّ انتصر ديكارت الذي أراد الوصول إلى حلّ نهائي لمعضلته، وهي عدم معرفتنا بالأمور التي علينا أن نؤمن بها. كان ينوي أن يستنبط الأمور التي بإمكاننا أن نعرفها بدقّة وبدون الاعتماد على العادة، على السّلطة الخارجيّة، أو حتى على ما تخبرنا به حواسّنا.
يرى ديكارت أنه بالرغم من أننا لا نستطيع أن نصدّق كلّ ما نقرأه، وحتى إذا كنا لا نستطيع الوثوق بأحاسيسنا الخاصّة، فبإمكاننا أن نثق بعقلنا إذا جلسنا بهدوء وعزلنا أنفسنا عن العالم الخارجي وجنونه. فالعقل بالنسبة إلى ديكارت يمكن الاعتماد عليه والوثوق به للتمييز بين ما هو حقيقي وبي ما هو زائف وغير حقيقي. لقد فكّر بأنّ الحقيقة ذاتها التي يفكّر بها أخبرته بأنه موجود بشكلٍ أكيد، وقد استعمل كلماته الخاصّة للتعبير عن هذه الفكرة فقال: "Cogito ergo sum" ومعناها "أنا أفكّر، إذن أنا موجود" [الكوجيتو الديكارتي].
إنّ تأكّد ديكارت من وجوده الخاصّ دفعه للتأكّد من وجود الأشياء الأخرى، بالإضافة إلى وجود الله. وعندما وصل إلى المرحلة التي صار فيها متأكّداً بأنّ الله موجود، فقد شعر بأنه يمكن أن يكون متأكّداً من وجود بقيّة الأشياء العاديّة الأخرى، كحقيقة أنّ السّماء زرقاء وأنّ للنّمل ستة أرجل، وهلم جرا.
سمّي هذا الحلّ الديكارتي للمشكلة الأبستمولوجية لنظرية المعرفة "بالعقلانية". وهي الاعتقاد بأنّ العقل قادر على معرفة الأشياء من دون اللجوء إلى التجربة.
*******************
بينما كان ديكارت يتفلسف حول العقلانية في فرنسا، كان هناك فيلسوف آخر في بريطانيا يفكّر بالتوصّل لحلّ آخر للسؤال عمّا يمكننا معرفته. ويعرف هذا الحل البديل باسم "النزعة التجريبية". وهي الاعتقاد بأنّ أفضل وسيلة لنكون متأكّدين من شيء ما هي في أن نضعه تحت اختبار حواسنا _من خلال التجربة الفعليّة. وقد أصبحت التجريبية مفهوم أساسي لما يمكن أن نسمّيه الآن باسم "العلم Science"، والتي تقوم على استخلاص معلومات عن الأشياء عن طريق إجراء التجارب والاختبارات عليها.
خلال العصور الوسطى لم تكن التجريبية ذات معالم واضحة كما هي اليوم. فقد مال الناس إلى الارتباك حول مسألة كيف تعمل أشياء، وما الذي فعلته أشياء بالفعل، وما الذي تعنيه أشياء معيّنة، وكيف شعر الناس تجاهها. الذهب على سبيل المثال، لم يكن مجرّد معدن يمكن أن نصنع منه المجوهرات، بل لقد أعطى الناس معاني خاصّة واعتقدوا أنّ للذهب قدرات خارقة وخاصّيات روحية. لذلك فمشاعر الناس تجاه الذهب أبعدتهم عن دراسة هذا المعدن دراسة تجريبية بحتة. في الواقع وقبل أن تنتصر التجريبية وتنتشر، نزع الناس إلى الاعتقاد في أنّ العالم بأجمعه وكلّ شيء فيه يعمل من خلال السّحر والطاقات الماورائية السحرية.
خلال أواخر القرن السابع عشر وما بعده كان التجريبيون أمثال "فرانسيس بيكون" و"جون لوك" يرفضون الآراء والمعتقدات القديمة البالية كالأفكار السّحرية ويقدّمون حججاً وبراهين يثبتون فيها أنّ العالم الفيزيائي (التجريبي) يعمل وفق مبادئ ميكانيكية. ومن خلال دراسة الأشياء بطريقة تجريبية، آمن هؤلاء الفلاسفة أنّ بإمكانهم استخراج تلك القوانين والنواميس ومعرفة ماهيتها.
لقد كانوا محقّين إلى حدٍ ما، وقد كان العلم هو المشروع المزدهر منذ ذلك الوقت. ورغم ذلك فإنّ التجريبية لوحدها لا تستطيع إخبارنا كلّ شيء نرغب في معرفته عن العالم الواقعي وهي بعيدة أن تكون الكلمة الأخيرة التي تقولها الفلسفة.
بالرغم من أنّ العقلانية والتجريبية قد قدّمتا حلول بديلة للإشكاليات الأبستمولوجية، وبالرّغم من أنهما مفهومان مختلفان تماماً، إلاّ أنهما بالغا الأهمية، فهما بمثابة أدوات يبلغ عمرها قروناً عديدة استخدمها الفلاسفة في تعاملهم مع المشاكل الأبستمولوجية التي واجهتهم: كالمنطق Logic.
*******************
يعتمد كلٌ من العقل والتجربة، العقلانية والتجريبية، على المنطق للانتقال من فكرة إلى أخرى. فالمنطق Logic هو أداة لاستخراج أيّ شيء يمكن أن يقال عنه أنه موثوق، وذلك يعتمد على ما نعرفه من مقدّمات صحيحة وثابتة.
قد تجد نفسك في خضم حديث منطقي مع أحد الأشخاص الذين يختلفون معك في الرأي، فإنّ المنطق يمكن أن يكون هنا مراوغاً. ويكون المنطق فعّالاً جداً ضمن مجال الرياضيات، ولكن عندما تستبدل الأفكار بالأعداد، ستلاحظ حصول الكثير من الأمور الممتعة... لكن هناك جزء من المشكلة يقول أنّ الكلمات يمكن أن تحمل أكثر من معنىً واحداً. فإذا ما تمّ استخدام كلمة واحدة في أكثر من معنى من دون أن تلحظ ذلك، فإنّ منطقك سيتخلخل ويتداعى.
وهناك مشكلة أخرى تتعلّق بالمنطق وهي أنك عليك أن تبدأ بمجموعة واحدة من الافتراضات على الأقل. وهذا يعني أنه حتى ولو كان منطقك متماسكاً بشكلٍ جيّد، فإنّ افتراضاتك قد تكون خاطئة، وقد تقودك إلى نتائج كاذبة.
أخيراً، هنا تدخل شخصيات الناس في اللعبة, فبعض الناس يحبّون أن يجعلوا من الآخرين أغبياء، إمّا بنيّة التسلية أو بغرض التغلّب عليهم وتجاوزهم. لذلك، قد يستخدمون بعض الكلمات الزلقة والمراوغة ويلجأؤن إلى مقدّمات خاطئة بغية خداع أحد ما. وهذا هو السبب في أنّ المنطق يعمل بشكلٍ جيّد عندما يبتعد عنه الناس ولا يطبّق إلاّ على مجال الرياضيات.
وعلى الرغم من ذلك هناك عدّة طرق يمكن فيها استخدام المنطق للتعامل مع الأفكار. ومن بين أهمّ تلك الطرق بالنسبة للفلاسفة، هناك طريقتان هما: الاستنتاج والاستقراء.
الاستنتاج Deduction هو العملية التي يتمّ فيها استخلاص التنائج الحقيقية بالضرورة، بشرط أن تكون المقدّمات Premises التي انطلقنا منها هي صحيحة وصادقة وحقيقية. فعلم الهندسة قائم على التفكير الاستنتاجي، بالإضافة إلى كل المشكلات المتعلّقة بالكلمات التي تتعامل معها في صفّ الرياضيات.
أورد "أرسطو" مثالاً شهيراً عن نوع خاص من الاستنتاج يدعى "القياس المنطقي syllogism". وهذا النوع من القياسات يتضمّن على ثلاث تصريحات: مقدّمتان، ونتيجة.
ونورد هنا قياس أرسطو حيث استخدم اسم سقراط ليوضّح قياسه:
كــــــــل إنسان فـــــان
ســـــقراط إنســــــــان
ســـــقراط فــــــــــــان
الذي حصل هنا أننا إذا انطلقنا من مقدّمتين، فيمكننا استنتاج نتيجة حتماً.
سنرى لاحقاً أنّ أرسطو قد طوّر نظاماً فلسفياً كاملاً _يتضمّن الأبستمولوجيا، الميتافيزياء، والأخلاق_ بمساعدة القياس المنطقي الذي أكّد له أنّ أفكاره متناسقة ومترابطة وثابتة منطقياً. طبعاً إنّ أفكار أرسطو ثابتة من الناحية المنطقية. ولكن لسوء الحظ فذلك لا يجعلها صحيحة وصادقة جميعها، فقد اتضح أنّ هناك الكثير من مقدّمات أرسطو المغلوطة.
وبالرغم من ذلك، كان لطريقة أرسطو الفكرية تلك تأثير كبير وواسع، جزئياً لأنه ساعد غيره من الفلاسفة على منح أفكارهم ميزة الثبات المنطقي. لذلك فإنّ الاستنتاج هو أفضل طريقة لتوسيع حدود معرفتنا الحالية. فإذا كنّا متأكّدين من صحّة مقدّماتنا ومعنى الكلمات التي استخدمناها، فذلك سيقودنا إلى معلومات موثوقة وصحيحة.
هناك عملية منطقية بنفس الدّرجة من الأهمّية تدعى "الاستقراء Induction"، وهي طريقة في إطلاق صفةّ "العمومية generalization" على الأشياء. والاستقراء كالاستنتاج، ينتقل من مقدّمات إلى نتائج. لكنه يختلف عن الاستنتاج في أنّه يقود إلى نتائج قد تكون كاذبة وغير صحيحة حتى ولو كانت المقدّمات صادقة وحقيقية. فالنتائج الاستقرائية هي نتائج محتملة فقط، وليست أكيدة.
فمثلاً إذا أردنا أن نعرف ما هو اللون الذي يمكن أن تكون عليه الغربان وذهبنا إلى الخارج ثمّ وجدنا مجموعة كبيرة من الغربان على إحدى الأشجار ولاحظنا أنّ كلّ غرابٍ منها لونه أسود. هل بإمكاننا أن نكون متأكّدين من ذلك؟ حتى أنّ رؤية مليون غراب أسود لا يعني ذلك أننا متأكّدين من أنّه لا يوجد غراب قد يكون لونه أبيض أو أخضر زيزفوني. وأفضل ما يمكننا أن نفعله هنا هو أن نقول أنّه من المحتمل أن تكون جميع الغربان سوداء.
نستنتج من ذلك أنّ الاستقراء أقلّ تأكيداً من الاستنتاج بشكلٍ أو بآخر. لكنّ بوسع الاستقراء أن يفعل الكثير ممّا لا يستطيعه الاستنتاج. فالاستقراء على سبيل المثال يساعدنا على توليد "الفرضيّات hypothesis". والفرضية هي عمليّة تعميم، حيث أننا نعتقد أنّ تلك الفرضية قد يكون صحيحة، لكنها قد لا تكون.
*******************
إنّ الفرضيّات أمور مفيدة تحدث داخل العقل عند محاولة استنتاج أمور جديدة. وإحدى الطّرق التي يتعلّم بها الفلاسفة والعلماء هي عبر إجراء اختبار بشكلٍ ثابت لفرضياتهم باستخدام أفكار ومعلومات جديدة. فإذا قامت المعلومة الجديدة بدعم الفرضية عندها من المحتمل أن تكون تلك الفرضيّة صحيحة. لكن ماذا لو أنّ المعلومة الجديدة فنّدت الفرضية وأثبتت أنها كاذبة وخاطئة؟
إنّ ذلك يعتمد على ماهية شعورك تجاه الفرضية. ففي هذا الأيام، غالباً ما يبتهج العلماء والفلاسفة ويتحمّسون إذا وجدوا قطعة صغيرة من دليل يفنّد الفرضيّة التي يتعاملون معها. وهذا يعني أنهم سيكونون مشهورين وبإمكانهم أن يبدؤوا العمل في تطوير فرضيات جديدة قادرة على تفسير الدّليل الجديد.
والمثال الأكثر شهرةً على ذلك هو اكتشاف "الأشعّة السينية X – Ray"، فلم يفهم أحد الأشعّة السينية في بادئ الأمر، فلم تكن أفكار تلك الحقبة التي تدور حول كيفية عمل العضلات قادرة على تفسيرها. ولتوضيح ماهية الأشعّة السينية قام العلماء بنبذ الأفكار القديمة عن العضلات وجاءوا بأفكار جديدة قادرة على تفسير الأدلّة الجديدة. وكنتيجة لذلك، طوّر الناس كافّة أنواع المعرفة الجديدة حول النشاط الإشعاعي والتي كانت أفكارهم القديمة تمنعهم من فهمها وتفسيرها.
إنّ الفكرة التي تقول أننا نتعلّم أكثر عندما نكتشف عدد الأمور التي نجهلها، هي الفكرة المفتاح في العلم الحديث، حيث يبحث الناس عن طرق لتحدّي بعضهم البعض من خلال فرضيّاتهم عن كيفية عمل العالم _وهذا يختلف كثيراً عمّا يجري في عالمنا العربي ـ الإسلامي من مختلف أشكال التبعية العقلية والثقافة الشفهية النقلية.
وذلك مرتبط بالعمل الذي قام به الفيلسوف النمساوي "كارل بوبر Karl Popper" الذي قال أنّ العلم يعتمد في أساسه على مبادئ التكذيب والمغالطة Falsifiability. فنحن لا يمكننا إثبات أنّ التصريحات العموميّة صحيحة دائماً، لكننا قد نكون قادرين على إثبات خطأها. فنحن لا يمكننا أن نثبت بأنّ كلّ الغربان سوداء، فقد يكون هناك غراب أخضر مختبئاً في مكانٍ ما. لكن إذا وجدنا في يومٍ من الأيام غراباً أخضر، عندها نكون قد خطّئنا وكذّبنا الادّعاء العام الذي يزعم أنّ كلّ الغربان سوداء.
*******************
لقد أصبح الفيلسوف الإغريقي "سقراط Socrates" شهيراً جداً بفضل قدرته على إيجاد ثغرات مميتة في فلسفات وأفكار الناس الآخرين. وقد كان يعتقد أنّه عندما يضع الناس الآخرين أمام حقيقة أنفسهم التي تقول أنهم لا يعرفون شيئاً فتلك أفضل طريقة لتحصيل المعرفة. وقد طرح سقراط على الناس الأسئلة بغية دفعهم للتفكير حول محدوديّة معرفتهم. وفي النهاية، أوصلهم إلى استنتاجات بيّنت لهم أنهم كانوا مخطئين.
وقد سُمّي هذا الإجراء في التعليم الذي يقوم على عمليّة طرح الأسئلة "بالطريقة السقراطيّة Socratic Method" _بعد سقراط. وكما سنلاحظ لاحقاً أنّ الطريقة السقراطية تتضمّن على الاختبار المنطقي للمقترحات أو المقدّمات. بطريقةّ ما فكّر سقراط بنفس الطريقة التي يفكّر فيها العلماء المعاصرين ما عدا أنه لم يطرح الأسئلة حول الأشعّة السينية أو علم الفلك، لكنه ركّز تفكيره على السّلوك المستقيم والفاضل.
عمل سقراط على اختبار الأفكار بطريقة منطقية عن طريق ملاحظة ما إذا كانت تعيق الأفكار الأخرى. فالتقدّم إلى الأمام والرجوع إلى الخلف بين الأفكار ساعده على اختبار مدى صحّتها ودقّتها. وهذه الحركة إلى الأمام والوراء أطلق عليها اسم "الجدل Dialectic"، وقد أضحت من أهمّ المفاهيم عند الفلاسفة منذ ذلك الوقت.
*******************
مصطلح "الديالكتيك" هو عبارة عن لفظة يونانية بمعنى "المناقشة أو المحاورة discussion" وهذا النوع من المناقشة قد يتخذ إلى حدٍ ما الشّكل المشتّت للطريقة السّقراطيّة، أو قد يكون أكثر تنظيماً كما هو عند "أرسطو": المواضيع topics حيث أنه يمعن في صدق أو كذب العديد من المواضيع المنصوصة.
إنّ أفكار أرسطو حول صدق وكذب الديالكتيك ما زال يتمّ اللجوء إليه حتى يومنا هذا ضمن المناظرات الرّسميّة حيث أنّ المتناقشين يتناقشون في حجج متعارضة في موضوع معيّن. وبعد انتهاء حلقة المناظرة هذه، يبقى الجمهور هو الوحيد القادر أفضل من غيره ، نظرياً، على فهم المشكلة التي سبق التناقش بها وتحديد الجهة التي يرون أنها الصحيحة.
قد يكون الجدل مفيداً ليس فقط في طرح أسئلة محدّدة، كتحديد ما إذا كانت عملية رضاع الكبير أومفاخذة فتاة قاصرة هي عملية قانونية أم غير قانونية أو ما إذا كنا جميعاً لدينا مسؤولية أخلاقية للعناية بالفقراء، بل إنّ الجدل قد يساعدنا في توضيح واستيعاب كافّة الطّرق التي يمكننا من خلالها أن نفهم الأشياء.
فالفكرة هنا هي أنّه سيكون من الأسهل عليك فهم أمرٍ ما عندما تكون قادراً على رؤيته من خلال علاقته مع غيره من الأمور. هل يمكنك أن تفهم "الأيس كريم بالشوكولا" إذا لم تجرّب الفانيلا؟... طبعاً لا.
إنّ الديالكتيك لا يساعدنا على فهم الأفكار المتعارضة فحسب، بل يمكن أن يوصلنا إلى طرق جديدة للجمع بين الأفكار المتناقضة والدمج فيما بينها في وحدة جديدة. دعونا نعود إلى المثال الذي تحدّثنا فيه عن العقلانية والتجريبية. فطالما كان هناك نزاع حاد استمرّ لأكثر من قرنٍ كامل بين هاتين الطريقتين في دراسة عملية المعرفة. فلكلٍ منهما نقاط قوة ونقاط ضعف. فبإمكان العقلانية أن تصنع أشياءً لا تقدر على صنعها التجريبية والعكس صحيح.
فالعقلاني يقول بأنّ التجريبية لا تخبرنا كلّ شيء عن الأشياء التي كانت تشكّل مواضيع بالغة الأهمّيّة بالنسبة للفلاسفة، مواضيع مثل: هل الله موجود؟ أو هل الإنسان ذو طبيعة خيّرة أم شرّيرة؟.
من جهةٍ أخرى يقول التجريبي بانّ العقلاني لا يملك أيّة دلائل دامغة ليثبت فيها صحّة نظرياته. ففلسفة العقلاني كانت ذات طابع تخميني صرف. فالعقلانيين كانوا يخدعون أنفسهم بالإيمان بأنّ عقولهم كانت قادرة على تحصيل المعرفة الميتافيزيقية.
وبالرغم من أنك تستطيع القول أنّ إحدى هذه النزعات بإمكانها تغطية نقاط ضعف الأخرى والتعويض عن نقاط الضعف فيها، فليس بإمكانك أن تجمع هاتان النزعتان في فلسفة أكبر وأشمل لأنهما نزعتان متعارضتان ومتنازعتان فيما بينهما. فالعمل الذي تنجزه إحدى النزعتين يلغي عمل النزعة الأخرى.
لكنك إذا نظرت إلى الأمر بطريقة جدلية وضربت كرة الطاولة في عقلك إلى الأمام ثمّ إلى الخلف لتتأرجح بين التجريبية والعقلانية، فقد تتمكّن من رؤية أنّ كلّ نزعة من هاتان النزعتان وكأنها جزء من الأخرى.
*******************
وهذا بالضبط ما فعله الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت Immanuel Kant". فقد جمع بين المذهب العقلاني والمذهب التجريبي وقارب بينهما بطريقتين: الأولى أنه نظر إلى الأفكار العقلانية كظروف تجريبية للعقل. أمّا الثانية فقد فكّر في حقيقة أنّ رغبة الفلاسفة بالإيمان بالله (فكرة عقلانية) تبيّن لنا حالة العقل (حقيقة تجريبية). فالفكر العقلاني هو مجرّد حقيقة تجريبية للعقل.
ثمّ نظر "كانت" إلى الأمور التجريبية وفكّر في أننا يمكن أن نعرفها فقط عن طريق عقولنا. وكنتيجة لذلك، فهناك الكثير ليقال عن "العالم كما هو" وذلك يعتمد على كيفية عمل عقولنا. وتدعى وجهة النظر هذه "بالمثالية Idealism".
سنبحث أفكار"كانت" في مقالة أخرى. أمّا في الوقت الحالي فالنقطة التي تقول أن الجدل ليس مفيداً فقط في الأمور الصّغيرة كتحديد ما إذا كانت الكعكة أو الفطيرة هي الأنسب في رحلتنا إلى الصّحراء، بل هو أيضاً مفيد للأمور العميقة والكبيرة، أمور مستعصية كملاحظة العلاقة بين العقل والعالم الخارجي. تلك قد تكون طريقة كاملة لمعرفة ورؤية ماهية المعرفة.
********************
لكن تمهّل قليلاً، إذا كنت تعتقد أنّ "كانت" قد بلغ القمّة في استخدامه للجدل، فتمالك أفكارك! فقد مضى أحد تلامذة "كانت" وهو الفيلسوف الألماني "جورج فلهلم فريدريك هيغل Hegel" إلى أبعد من ذلك في استخدامه للجدل للبحث في عملية المعرفة.
بالنسبة لهيغل، إنّ الجدل ليس عبارة عن عملية يقوم بها العقل أثناء معالجته للعالم الخارجي، بل الجدل شيء يمارسه العالم الخارجي على العقل. لقد اعتقد هيغل أنّ الوعي الإنساني يتطوّر ويتغيّر خلال مسيرة التاريخ، وأنّ هذه العمليّة التاريخية جدليّة. يمكننا استخدام العلاقة الجدلية بين العقلانية والتجريبية كمثال واضح.
ويريد هيغل أن يقول هنا ليس فقط أنّ "كانت" قد أنجح هذه العلاقة الجدلية، بل إنّها نجحت بنفسها ضمن الوعي الإنساني. بالنسبة إلى هيغل، إنّ تفكير الأفراد أقلّ أهمّيّة من تفكير المجموعة ككل. فما يفكّر فيه الجميع يتأثر بالخلافات الناشئة بين الأفكار المتعارضة التي تأخذ لها شكلاً في التاريخ. وقد عرض هيغل أفكاره على أنها عبارة عن أساليب لفهم العالم الخارجي من جهة، ولإعطاء العالم شكلاً معيناً كشيء متغيّر خلال مسيرة التاريخ من جهةٍ أخرى.
إنّ استخدام هيغل للجدل أدخل حلقة جديدة كاملة في دراسة عمليّة المعرفة عندما اقترح أنّ كل ما نعرفه، والطّريقة التي حصّلنا فيها هذه المعرفة، يتعمد كلّ ذلك على موقعنا في التاريخ. فالعقل Reason الذي يقوم بالاستنتاج والتفكير ليس هو عقل الفرد Individual s reason، كما هو عند "ديكارت"، بل هو الضمير/ الوعي الإنساني الجمعي بنشاطه ضمن مسيرة التاريخ. آمن هيغل أنّ معرفة كل شخص على حدة هي جزء من معرفة أكبر وأشمل. وبدلاّ من أن نقول: "أنا أفكّر، إذن أنا موجود"، يقول هيغل: "إنّ التاريخ يعمل بنفس الطريقة التي يعمل بها الفِكر، إذن الوعي الإنساني الجمعي موجود" [الكوجيتو الهيغلي].
*******************
والآن لنلقي نظرة فلسفية أخيرة على بحث المعرفة، نظرة يمكن أن تكون مشتقّة من استعمال هيغل للجدل. حيث أنّ الفيلسوف والمفكّر الاقتصادي والسياسي الألماني "كارل ماركس Karl Marx" استخدم بعض أفكار هيغل بطريقة جديدة من خلال تغييرها بطريقة جذرية.
قال ماركس أنّ تاريخ الجدل لم يكن هو الدّليل على الوعي الكوني الإنساني كما وصفه هيغل. وبدلاً من ذلك، إنّ الحركة الجدليّة في التاريخ تتضمّن التغيّرات في أساليب تلبية المجتمع لحاجات البشر المادّيّة.
وهذا يعني أنّ ماركس كان مهتمّاً بشكلٍ أقلّ في العلاقة الجدليّة بين العقلانية والتجريبية من اهتمامه بالعلاقة الجدلية بين الصّناعة والزراعة. واعتقد ماركس أنّ الجدل قائم على التغيّرات الطارئة في العلاقات الاقتصادية، وقال بأنّ هذه العلاقات الاقتصادية أثّرت على تفكير البشر.
كما فعل هيغل، اعتقد ماركس أنّ عقل الفرد كان مجرّد جزء من صورة أكبر أثرت على تفكير البشر. بالنسبة لهيغل، تلك الصورة الكبيرة هي الوعي الكوني الإنساني. أمّا بالنسبة لماركس، فالصّورة الكبيرة هي القوى الاقتصادية المادّيّة التي حدّدت العلاقات الاجتماعية للبشر.
يرى ماركس، بما أنّ العلاقات الاجتماعية أثرت على تفكير البشر، "فالمعرفة" نُظّمَت وحُدّدت من خلال الطريقة التي ننظر بها إلى حاجاتنا المادّيّة. وقد أطلق ماركس على هذه المعرفة المنظّمة اسم "الإيديولوجيا Ideology".
إنّ رؤية المعرفة "كإيديولوجيا"، مختلف تماماً عن رؤية المعرفة "كفكر". لذلك فإنّ نظرة ماركس إلى المعرفة مختلفة تماماً عن نظرة ديكارت. فديكارت يرى أننا يمكن أن نحصّل المعرفة عن طريق التفكير بشكل مستقل عن تجربة العالم. أمّا ماركس فيقول أنّ الإيديولوجيا تتطوّر داخل استجابتنا للقوى الاقتصادية. ديكارت يفكّر في المعرفة كنشاط من داخل العقل، متسائلاً عمّا يمكن أن يفعله العقل بذاته، أمّا ماركس فإنه يفكّر في المعرفة من المجتمع في الخارج، متسائلاً كيف أنّ القوى الاقتصادية تعمل على قولبة تفكير الناس.
في هذه الحلقة تحدّثنا عن كيف أنّ العديد من الفلاسفة تعاملوا مع المسألة الأبستمولوجية: من خلال العقل، التجربة، المنطق، والجدل. وسنعود إلى مناقشة هذه لأفكار عندما نلقي نظرةً أقرب إلى كل فلسفة على حدة. ولكن أولاً سنلقي نظرة أخيرة على أحد المفاهيم الفلسفية الهامة، الأخلاق، أو السلوك المستقيم، في الحلقة التالية...

يتبع...



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسفة لجميع الناس (لحلقة الثانية)
- الفلسفة لجميع الناس (الحلقة الأولى)
- فيروس العقل: ليس مجرد كتاب
- من الإنجيل إلى الإسلام: مقابلة مع كريستوف لوكسنبرغ
- حدذ الرّدّة وحقوق الإنسان... ابن الورّاق
- الإسلام والإرهاب الفكري... ابن الوراق
- الحور العين، وما أدراك ما الحور العين؟!... ابن الورّاق
- العار في الإسلام: نزع حجاب الدموع... ابن الوراق
- تهافت المقال: مقالة محمد علي السلمي أنموذجاً
- الحوار المتمدن... إلى أين؟
- منكر ونكير: ملكان أم شيطانان ساديان؟!!
- هل علم النفس -علم-؟
- الدر المعين في معرفة أحوال الشياطين!!!؟
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الرابعة)
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الثالثة)
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الثانية)
- هذا هو ردي
- ما العدمية؟
- دكتور عالم أم شيخ مفتي؟!!
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الأولى)


المزيد.....




- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الفلسفة لجميع الناس...(الحلقة الثالثة)