أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ابراهيم ازروال - مفارقات المثاقفة بسوس- الجزء الثاني















المزيد.....


مفارقات المثاقفة بسوس- الجزء الثاني


ابراهيم ازروال

الحوار المتمدن-العدد: 2739 - 2009 / 8 / 15 - 10:32
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



الإبداع الشعري :
تكشف المعاينة الانثروبولوجية عن عمق تمثل السوسيين للقيمة الاسطيطيقية للشعروللتعبير المجازي – الكنائي بصفة عامة . ورغم حضور الدينيات والعرفانيات في شعر شعراء "أسايس" ، فإن هذا الشعر يبقى موصولا بنطاقات اسطيطيقية وبعوالم تخييلية ، تتجاوز العالم المغلق للفقه المالكي والانغلاق الرؤيوي للسلوك الصوفي / الطرقي . ف"أسايس" مرتبط أشد الارتباط بفورة المخيلة وبعنف البلاغة وزخم الترميز وبتأجج الرغبة ، فهو استعراض لجمالية القول البشري ، ولقدرة الترميز البلاغي على بناء معنى آخر ، وعلى خلق كون دلالي متفرد وفضاء مجازي لاحب ؛ و تكمن براعة "أمدياز" المطبوع في الربط التخييلي بين الزمان الطبيعي والزمان التاريخي على نحو جمالي يحقق اللذة الفكرية والجمالية في نفس الآن .
لقد تفرد شعراء" أسايس" بصياغة الوجدان السوسي ، وبالتعبير الجمالي عن تطلعات و استشرافات المخيلة السوسية ،فيما توغل النظامون الفقهاء أمثال أزناك و أوزال والحاج احمد الجشتمي والحاج علي الدرقاوي في صياغة معاني وافادات شرعية على نحو وعظي فاقد للجماليات التعبيرية نظير ما نجده في قول سيدي حمو الطالب :
زوند ايغ شان ميدن تيرمت ياكورد ايميك
آت كيت آدونيت ايكورانم آيادغ ليغ


الإبداع التنظيمي : الأعراف
تمكنت القبائل والتنظيمات الاجتماعية بسوس من إدارة شؤونها الاجتماعية والتكيف مع المستجدات الايكولوجية والاقتصادية والديمغرافية ، وبرهن مديرو هذه المؤسسات التنظيمية على الحفاظ على تماسك النسق القبلي أو الفيدرالي أو اللفي بعيدا عن منطوقات النصوص الشرعية وعن املاءات رجال العلم الشرعي . فرغم الاكراهات الايكولوجية والعلاقات الإشكالية بالمخزن المركزي والتوترات السياسية بين القبائل والأحلاف الامازيغية والوجود الدرامي للقبائل المعقلية والهلالية بالسهول السوسية خصوصا ، استطاعت المجموعات السياسية الأمازيغية تطوير مؤسساتها التنظيمية الجماعية ، ووضع اطر وقواعد ضامنة لانتظام الشأن القبلي أو الفيدرالي . ولاجدال في أن ظاهرة" اكودار" تمثل نموذجا للإبداع التنظيمي والاستقلالية التشريعية لإنفلاس بشهادة أبي زيد التمنارتي في ( الفوائد الجمة في إسناد علوم الملة ) .
وقد اضطر الفقهاء وأصحاب العلم الشرعي ،إلى الإدلاء بآرائهم وفتاواهم في موضوع تشريعات "انفلاس" .وفي هذا السياق ، أثار سؤال أبي زكريا يحيي الحيحي في القرن السابع عشر ، إشكالية الموقف الفقهي والشرعي من أحكام "انفلاس" وخروجهم الصريح عن مقتضيات قانون العقوبات والمنظومة التشريعية الإسلامية عموما .
يقول يحيي الحيحي :
(سيدي رضي الله عنكم وسنا في ذرى المجد صعودكم وارتقاؤكم . جوابكم لله تعالى فيما يفعله بعض أهل البادية ، أهل الجبال منهم ، من أنهم يجتمعون عن آخرهم ، ويعملون منهم أهل الحل والعقد ، ويقولون لهم : إنفلاس ، ويسميهم بعضهم الضمان . ويصدر الاتفاق منهم على ضوابط ومصالح عندهم من أن كل من قطع طريقا على الصادر والوارد ببلادهم ، يستردون منه ما سلب من الأموال إن كانت قائمة العين ، وإلا غرموها له ، ويعاقب بالمال أيضا ، ويسمون ذلك أنصافا عندهم . ويهدمون داره ، ويذبحون بقرته ، يأكلونها ردعا له ولأضرابه . وإن لم يكن بيده شيء ، يباع عليه ملكه بحضرته في ذلك جبرا ، و إن لم يكن له ملك ، اخذوا قيمة ما سلب من أقاربه . )
(-سؤال الشيخ يحيي الحيحي – ضمن كتاب – تاريخ المغرب أو التأويلات الممكنة – علي صدقي أزايكو – مركز طارق بن زياد – الطبعة الأولى – 2002- ص. 186) .
ف"انفلاس" أو" ايت اربعين" أو" امزوارن" ، منشغلون بتقدير الظروف والمستجدات السوسيو- سياسية على الصعيد الجهوي ، وإقرار الآليات التنظيمية القيمنة بحفظ هوية الجماعة وتماسك نظامها الاجتماعي . أما الفقيه المالكي المنشغل بالمتون الفقهية والعلم الشرعي ، فلا يقارب الواقع والمستجدات بسوس إلا استنادا إلى المقولات والمعاييرالفقهية واعتمادا على مقاصد السياسية الشرعية . ولما كان الفقيه المالكي عاجزا عن تدبر تاريخية الشريعة والفقه المالكي وتماسك الرمزيات اللاارثوذكسية بسوس ، فإنه يعتبرتشريعات "انفلاس "افتئاتا على الشارع وإتباعا للهوى كما نجد ذلك في جواب أحمد بابا الصنهاجي عن سؤال يحيي الحيحي أو إجراءات لا مناص من تكييفها مع الشرع باسم مراعاة أحكام الضرورات كما نجد ذلك في أجوبة قاضي الجماعة عيسى بن عبد الرحمان السكتاني.


لقد عبرت القبائل السوسية عن ذاتيتها الثقافية في تناولها للقضايا السياسية والمدنية والجنائية وكذلك وفي الإبداع الشعري والموسيقي خصوصا في فترات تقهقر المخزن المركزي وتقلص فعالية المؤسسة الأرثوذوكسية الفقهية المالكية ؛ أما البنيات الفقهية – الصوفية فقد انفردت بالأحوال الشخصية والإرث والنزاعات العقارية وبتأطير المقدس الإسلامي وأسلمة المقدس اللاأرثوذكسي على نحو تدرجي .
ولفهم السياق السوسيو- تاريخي والايكو- ثقافي لازدواجية الثقافة بسوس وانقاسمها إلى جانب أمازيغي وآخر عربي – إسلامي ، لابد من التطرق إلى مواضعات تاريخية ومقتضيات سياسية فرضت على المؤسسات السياسية السوسية اختيارات تنظيمية وثقافية مخصوصة وعلى الثقافة السوسية سمات خاصة .
1- العلاقة الإشكالية بالمخزن المركزي :
مما لا شك فيه أن القبائل والنخب السوسية لعبت دورا هاما في قيام بعض الدول الإسلامية بالمغرب، وتبوأت مواقع الزعامة والريادة أيام المرابطين والموحدين والسعديين . إلا أن علاقة سوس بالمخزن المركزي ، حكمتها العلائق الإشكالية بين مركز ينوس بين القوة والضعف الإيديولوجيين ، بين المطالب المثالية المستوحاة من الطوبى الإسلامية والواقع المنفتح على كل الاحتمالات التاريخية ، وجهة لها من المقومات الفكرانية والبيئية والبشرية ما يؤهلها لتنبي مشاريع إيديولوجية-سياسية مضادة للحكم المركزي أحيانا كما وقع أثناء قيام الإمارة السملالية وإمارة أبي زكريا الحيحي .
فقد تمتعت القبائل السوسية باستقلالية إجرائية كبرى في الغالب ، خصوصا في لحظات التراجع السياسي للسلطة المخزنية وتمزق الأسر الحاكمة ( بعد وفاة احمد المنصور الذهبي ومولاي إسماعيل وسيدي محمد بن عبد الله مثلا ) واستفحال الأزمات الاقتصادية والأوبئة والجوائح ؛ إلا أنها تكون-أحيانا - موضوع عنف مروع حين يستجمع المخزن أدوات القوة الرمزية والعنف المادي .
يقول الضعيف الرباطي :
(وفي يوم الأحد الثامن عشرمن صفر العام استولى السلطان على [هشتوكة ] وقتل منهم نحو الألف ونصف فيما قيل وفي يوم الأحد خامس عشر العام استولى على أهل الساحل وقتل منهم أزيد من أربعة آلاف على ما قيل . وفي مهل ربيع الأول العام أخذ أهل إيليغ دار ملك السيد علي ابن حسون ومات منهم بسفح الجبل نحو الألفين على ما قيل وفي سابع ربيع الأول من العام ورد عليه صاحب أكادير إغير بهدية طائعا . )
(-محمد بن عبد السلام الرباطي –تاريخ الضعيف الرباطي – تاريخ الدولة العلوية السعيدة من نشأتها إلى أواخر عهد مولاي سليمان - دراسة وتحقيق : محمد البوزيدي الشيخي – دار الثقافة للنشر والتوزيع – الدار البيضاء – المغرب – الطبعة الثانية -2007- المجلد الأول – ص . 150)

فلئن ساهم السوسيون في قيام الدولة المرابطية والموحدية والسعدية ، فإنهم انخرطوا كذلك في ثورات سياسية وفكرانية ، مناهضة للشرعية السياسية القائمة نذكر منها ما يلي :
1- ثورة ابن هود سنة (541ه/1146- 1147م )؛
2- ثورةعلي بن ايدر الزكندري (649-664 ه/1252-1267 م)،
3- ثورة بودربالة الولتيثي 1715م،
4- ثورة محمد الكرسيفي (1147ه/1150ه/1734-1738م)؛
5- ثورة الطالب صالح الأولوزي (1161-1165ه/1748-1752م)؛
6- ثورة محمد اوعلي بوتكولا ( 1167ه/1754م)؛
7- ثورة المكاوي ( 1169ه/1755-1756م ) ،
8-ثورة عمر الكلخ 1186ه/1772م) ،
9-ثورة بوحلاس (1207ه-1792)،

فسوس ليس إلا فضاء لتأسيس الدول باسم طوبى دينية مثالية أو مهدوية أو للتمرد عليها ورفض شرعيتها بدعوى استنادها إلى شرعية مدخولة . وقد برع مؤسسو الدول والمتمردون والثائرون في استثمار المتخيل الباطني المشترك بين المرجعيات الفقهية والصوفية العرفانية ، وحولوا تاريخ سوس في العصر الإسلامي ، إلى محض مسرح لاحتضان المفاعيل العجيبة للامعقول الفكري والسياسي .
يقول الضعيف الرباطي :
( وفي هذه السنة ثار بسوس السيد محمد وعلي بتكلا الشريف الكثيري السوسي وذلك لما سمع بطبول ذي القرنين مدفونين [بماسة ] وهم من النحاس ولا يخرجهم إلا مول الساعة فمن حينه أن صنع الطبول من النحاس في بلاد تعدانت ودفنهم بماسة وكتب لقبائل سوس أنه مول الساعة أن يأتوا إليه ليخرج طبول ذي القرنين واجتمعت عليه [أقوام كثيرة و اخرج الطبول التي صنع ودفن وادعى أنه مول الساعة واجتمعت عليه ] الألوف من الطلبة وبايعه الحاج علي بن العروسي والجل من أهل سوس وادعى أنه لا يحتاج للبارود ولا للرصاص تم اتفقت على قتله هوارة وهشتوكة [ فنهضوا له وقتلوه وبعثوا رأسه لصاحب مراكش وتوفيت خلائق لا تحصى ]من الطلبة وبقيت في المعركة الألوف من الهيادير للطلبة [ وتسفرات ] والذي أغرى على قتله هو صاحب مراكش لأن هوارة أصهاره . )
(-محمد بن عبد السلام الرباطي –تاريخ الضعيف الرباطي – تاريخ الدولة العلوية السعيدة من نشأتها إلى أواخر عهد مولاي سليمان - دراسة وتحقيق : محمد البوزيدي الشيخي – دار الثقافة للنشر والتوزيع – الدار البيضاء – المغرب – الطبعة الثانية -2007- المجلد الأول – ص . 278 ) .
وليس استثمار اللامعقول سياسيا ، بجديد في سياق ثقافي تغييب فيه العقلانية الفكرية واللاتعليل ، بعد قرون من التهذيب النقلي ومن التشوف إلى عالم تقوده الخفايا والماورئيات :
( وقد كان لأول هذه المائة خرج بالسوس رجل من المتصوفة يدعى التوبذري ، عمد الى مسجد ماسة بساحل البحر هناك ، وزعم أنه الفاطمي المنتظر ، تلبيسا على العامة هنالك ، بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك ، و أن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته . فتهافتت عليه طوائف من عامة البربر تهافت الفراش . ثم خشي رؤساؤهم اتساع نطاق الفتنة ؛ فدس إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السكسيوي من قتله في فراشه . )
(- ابن خلدون – المقدمة – تحقيق : درويش الجويدي – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – طبعة : 2002- ص . 150).

وهكذا ، عاش سوس زمانا طويلا ، على اهتيامات واستيهامات وطوباويات ألفية واشترافات قيامية من إبداع مخيلة نزاعة إلى اللامعقول الطبيعي والسياسي والتاريخي ، والى الالتصاق الباتولوجي بأصول ميثولوجية محاطة بهالة قدسية يتسابق الفقهاء والصوفية و أطر المخزن المركزي والعوام إلى أمثلتها و أسطرتها ببذخ إتباعي بلا عديل .
والواقع أن المخزن المركزي المرابطي والموحدي والمريني والوطاسي والسعدي والعلوي ، محكوم برؤيا توحيدية حصرية للعالم وللآخرين ، ولا يمكن لأبنيتها النظرية أن تتمثل الفرادة الأمازيغية إلا اضطرارا أو تكيفا أو قبولا بالضرورات الوقتية لا غير .ورغم افتقار المخزن إلى الإمكانيات اللوجيستيكية والمادية والتقنية ، لفرض التوحيد الفكري والثقافي والتعريب الكلي والأسلمة المطلقة لكل مفاصل الفضاء الثقافي الأمازيغي ، فإنه واصل رعاية نظام رمزي مخالف كليا للنظام الرمزي الأمازيغي ، وبوأ الثقافة العربية – الإسلامية صدارة المشهد الثقافي والفكري ، وغيب كليا مأسسة الثقافة الأمازيغية،وكرس التراتبات العرقية – الدينية مما سمح لكثير من ذوي الرأسمال الرمزي العقدي ، بالانفراد بالجاه والمكانة الاجتماعية والسياسية المرموقة . والواقع أن لا فرق ، في هذا الإطار ، بين الإمبراطوريات الإسلامية المستندة إلى العصبية القبلية الأمازيغية والدول المعتمدة على شرعية النسب الشريف (أي الدولة السعدية والعلوية ) ؛ فقد نظرت إلى الموروث الثقافي الأمازيغي ، كتراث برسم التكييف والتلوين الشرعي والاستصلاح الإسلامي ، ونأت عن أي مأسسة وتقعيد وتنظير لقواعده البنائية ومجالاته الدلالية والتداولية .
وهكذا ، عاشت الذاتية الثقافية السوسية في سياق سوسيو- تاريخي ، متوتر وإشكالي ، ينوس بين ترفع الثقافة الفقهية المالكية وتأجج المقدس القبلي المعقلي والهلالي ، ويغرق في انسدادية الزمان المغلق والفضاء المختنق بحرب الرموز وضراوة دورة العنف المستنسخ للعنف المؤسس المحمدي والبحث الصعب عن حاكمية متحررة من دوار التاريخ وترنح الزمان واندحار البداهة.
يقول مارمول كاربخال :
(كانت المدينة ( يقصد تيدسي ) حرة قبل أن يستولي عليها بنو مرين ، ثم استرجعت حريتها عند انحطاط مملكتهم ، ولم تكن تؤدي العشر إلا لأعراب البادية عن الحبوب والخضر ، وكان يدير شؤونها ستة من أكابر السكان ، يبدلون كل ستة أشهر .وقد خضعت طوعا لحكم الشرفاء فاشتهر أمرها بهم اشتهارا عظيما ، و أقاموا بها محكمة مؤلفة من قضاة ومحامين وعدول ووكلاء للفصل في الخلافات القائمة في البلاد ، كما اعتادوا أن يقيموا بها عاملا معه أربعمائة فارس . )
(- مارمول كربخال – إفريقيا – ترجمه عن الفرنسية : محمد حجي / محمد زنيبر / محمد الأخضر / احمد التوفيق / احمد بنجلون – دار نشر المعرفة – الرباط – 1989- الجزء الثاني – ص. 38) .

2- الاكراهات الايكولوجية :
لا جدال في أن الأطلس الصغير أو جبال جزولة ، شكلت العاصم الجغرافي للقبائل السوسية من صولة المخزن المركزي والقبائل المعقلية والهلالية . كما مكن هذا الفضاء الايكولوجي ،الثقافة الأمازيغية من الاحتفاظ بأجزاء من مقوماتها التعبيرية والتخييلية والجمالية في ظرف موسوم بسلطة مركزية ذات أجندة فكرانية عربية – إسلامية أرثوذكسية ، يشكل فيها الإطار الامازيغي اللامفكر فيه الأكبر ، ويتبوأ فيها توحيد المخيال المغاربي وتشكيله بمفردات وصيغ رؤيوية مستقاة من الإرث الثقافي لثقافات للشرق الأدنى الموقع الأرأس .
لقد اعتصمت القبائل الامازيغية بالأطلس الصغير وبسفوح الأطلس الكبير ، دفاعا عن الذات وعن استقلاليتها التدبيرية والسياسية وعن مصالحها الحيوية في محيط مطبوع بهيمنة المخزن وثقل ضرائبه ومكوسه وكلفه وتجاوزات محلاته وحركاته وقواعده ( نذكر من قواد العهد العلوي : أغناج وعبد الصادق المسكيني وعبد المالك أو بيهي و سعيد الكيلولي وامبارك أنفلوس ) .
كما أن سوس عانى كسواه من المناطق المغربية من سلسلة درامية من المجاعات والأوبئة والجوائح والطواعين ، كانت لها انعكاسات كارثية على الديمغرافيا السوسية وعلى التوازنات السياسية وعلى نوعية المثاقفة والتدافع الثقافي بين المكون الامازيغي الأصلي والمكونات الوافدة أو المستقدمة ، طوعا أو كرها ، إلى المنطقة .
3- التعدد الاثني والعرقي :
احتضن الفضاء الجغرافي والتاريخي لسوس ، اثنيات وثقافات ولغات كثيرة ، في سياقات تاريخية عويصة ، وفي ظرفيات موسومة بمثاقفة اشكالية وتذاوت درامي في الغالب . لقد احتضن القطر السوسي ، أقلية يهودية نشيطة اقتصاديا ، على نحو خاص بدلالة مشاركتها الوازنة في إمارة تازروالت وتنشيط لتجارة الصويرة مثلا . كما استقبلت الآفاق السوسية ، كتلا بشرية مستقدمة من السودان الغربي ومن غانا ، خصوصا بعد حملة أحمد المنصور الذهبي على تلك البقاع . ولئن كان مصائر السود المستجلبين قسرا من إفريقيا السوداء تراجيدية في الغالب ، بحكم اثنو- مركزية الفكرانية العربية – الإسلامية ، فإن الكتلة المعقلية / الهلالية ، استماتت في تثبيت مواقعها وحضورها اللغوي والثقافي والفكري بسوس، وتكريس أخيولاتها على حساب الاخيولات الأمازيغية .
فرغم كل التلاقحات الثقافية بين الثقافات والثقافات التحتية ( أي الثقافة الأمازيغية واليهودية والأعرابية والزنجية والأوروبية ) والتذويب التدريجي لسماكة المتخيل والذاكرة الجماعية الخاصة بكل مجموعة ثقافية ، فإن تماسك المنظومة الفقهية المدعومة بالأشعرية والتصوف الطرقي ، فرض السقف الرمزي للثقافة العربية – الإسلامية باعتباره سقف كل محاورة بي- ثقافية ومدار كل تصور رمزي ذي أبعاد انطولوجية. وهكذا انحصرت الثقافة اليهودية في غيتو ثقافي محكم الإغلاق لا تكاد تتسرب منه إلا بعض الباطنيات المشتركة بين كل العرفانيين آنذاك ،فيما غاب التثاقف الخصب والمساءلة الثقافية العقلية المترفعة عن النرجسيات الاصطفائية العقدية وعن القبليات الرسولية للملل التوحيدية .أما الثقافة الزنجية ، فقد تمت أسلمتها وتكييف مخيالها الأرواحي مع المفردات المركزية للمعتقد الإسلامي ؛ ولذلك تمكنت من التسرب إلى الموسيقى والأدب الامازيغيين وزودت الكون الخيالي الأمازيغي بعناصر ثقافية معادة التوظيف والصياغة . أما ثقافة الأعراب المعقليين والهلاليين ، فقد تماهت في الغالب مع المحورية العربية – الإسلامية ، واعتبرت النسب العربي ،رأسمالا رمزيا لنيل الحظوة وسط النخب المخزنية أو الفكرية وفي أوساط الأمازيغيين المفتونين بالجينيالوجيا المقدسة . أما الثقافة السوسية ، فقد اكتفت بتدبر الروافد الثقافية المصاحبة للتساكن الصعب والإشكالي مع اليهود ، والاستيطان الأعرابي للمحيط الحيوي للقبائل السوسية ، والتوطين الاستيعابي والقسري للعناصر الزنجية المستعبدة أولا والمؤسلمة والمعربة تاليا .

4- الحضورالهلالي / المعقلي :
مثل إقدام عبد المؤمن بن علي الكومي(1130-1163) وابنه أبي يعقوب يوسف و حفيده يعقوب المنصور الموحدي (1184-1199)على فتح الأراضي المغربية أمام القبائل العربية المعقلية والهلالية احد الانعطافات التاريخية في التاريخ السياسي والثقافي للمغرب ولسوس خصوصا . لقد تسربت القبائل الهلالية والمعقلية إلى البقاع السوسية ، واستوطنت الأراضي عنوة وأسهمت على نحو درامي ، في رسم المصائر التاريخية و التراجيدية للقبائل والثقافة الأمازيغية .
فالواقع أن الاستيطان العربي المعقلي بسوس منذ عهد الخليفة الموحدي الرشيد ، شكل لحظة حاسمة في خلخلة التماسك النسقي للثقافة الأمازيغية بسوس.فلئن سعى الفاتحون العرب والأدارسة والمرابطون ، إلى ترسيخ التوحيد المحمدي والثقافة الفقهية المالكية بربوع سوس ، فإنهم لم يحدثوا تغيرات جوهرية في الديمغرافيا والاقتصاد واللغة بالمنطقة . وعلى العكس من ذلك ، فإن الوجود المعقلي والهلالي بسوس ، فقد عنى ما يلي :
1- تخلي القبائل السوسية على السهول الخصبة للقبائل المعقلية منذ أن استقدم علي بن إيدر الزكندري عرب بني حسان والشبانات وأولاد جرار إلى سوس ؛
2- تحكم القبائل المعقلية والهلالية بالمسالك والطرق التجارية ؛
3- فرض القبائل الأعراب للمغارم والمكوس ؛
4- محاصرة القبائل الامازيغية مجاليا ولغويا وثقافيا ؛
وقد أشار الحسن الوزان إلى الوقع السلبي للحضور الأعرابي بسوس :
( وفي القسم المجاور للأطلس بهذا الإقليم كثير من القرى والمداشر ، بينما يحتل الأعراب السهول الجنوبية ويرعون فيها ماشيتهم . ويؤدي سكان ترودانت لهؤلاء الأعراب خراجا كثيرا عن الأراضي الزراعية حسب العادة وكحقوق لأراضيهم ولقيامهم كذلك بتأمين الطرق . وقد ثارت ترودانت في أيامنا هذه ضد الأعراب ودخلت في طاعة السلطان الشريف ( السعدي ) عام 920.)
(- الحسن الوزان – وصف إفريقيا – ترجمة : محمد حجي ومحمد الأخضر – دار الغرب الإسلامي – بيروت- لبنان - الطبعة الثانية -1983-ص. 118) .
فقد سيطرت القبائل المعقلية على السهول الخصبة والمسالك الإستراتيجية بسوس وتحكمت في المجال الحيوي التقليدي للقبائل السوسية مما أفقدها قوتها التنظيمية والتدبيرية والتفاوضية . لقد أحكمت العشائر المعقلية ( أولاد جرار قرب تزنيت وهوارة قرب تارودانت واولاد يحيا والمنابهة المستقرتان بشرقي تارودانت والشراردة المستقرة بغربي تارودانت ...الخ ) ، سيطرتها ، تدريجيا ، على الفضاء السياسي والثقافي بسوس الأدنى والأقصى خصوصا في لحظات تراجع هيمنة المخزن الفكرانية والعسكرية . والأخطر من ذلك ، أن هذه القبائل ، شكلت أداة فاعلة ونافذة لقرض الاتساق الثقافي للفكرية الأمازيغية وتعريبه و أسلمة عمقه البنائي ولفرض التعابير والصور والمثالات العربية على الذاكرة التاريخية الأمازيغية .


ابراهيم ازروال
اكادير – المغرب

نقلا عن الأوان



#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفارقات المثاقفة بسوس - الجزء الأول
- الحجاب الإسلامي: من تأنيث الألوهية إلى تذكيرها/الجزء الثاني
- الحجاب الإسلامي: من تأنيث الألوهية إلى تذكيرها
- التمركز العقدي في الرحلات السفارية / المثاقفة المستحيلة /الج ...
- التمركز العقدي في الرحلات السفارية / المثاقفة المستحيلة /الج ...
- التمركز العقدي في الرحلات السفارية / المثاقفة المستحيلة
- في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي(5)
- في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (4)
- في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (3 )
- في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (2 )
- في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (1 )
- جودة التعليم-نحو قطيعة لغوية مع الإكليروس اللغوي
- المحرقة المغربية - تأملات في تراجيديا العصر الطحلبي
- أندريه كونت- سبونفيل-فضيلة التسامح
- في نقد الخطاب الاصلاحي -( نموذج الصادق النيهوم )
- في نقد الفكر الاصلاحي - (نموذج الصادق النيهوم )
- في نقد الخطاب الاصلاحي -( نموذج حسن حنفي )
- في نقد الخطاب الإصلاحي-( الجابري والعشماوي )
- الفكر المغربي وثقافة حقوق الإنسان
- قراءة في - هكذا أقرأ ما بعد التفكيك - لعلي حرب- حين يصير الت ...


المزيد.....




- قصر باكنغهام: الملك تشارلز الثالث يستأنف واجباته العامة الأس ...
- جُرفت وتحولت إلى حطام.. شاهد ما حدث للبيوت في كينيا بسبب فيض ...
- في اليوم العالمي لحقوق الملكية الفكرية: كيف ننتهكها في حياتن ...
- فضّ الاحتجاجات الطلابية المنتقدة لإسرائيل في الجامعات الأمري ...
- حريق يأتي على رصيف أوشنسايد في سان دييغو
- التسلُّح في أوروبا.. ألمانيا وفرنسا توقِّعان لأجل تصنيع دباب ...
- إصابة بن غفير بحادث سير بعد اجتيازه الإشارة الحمراء في الرمل ...
- انقلبت سيارته - إصابة الوزير الإسرائيلي بن غفير في حادث سير ...
- بلجيكا: سنزود أوكرانيا بطائرات -إف-16- وأنظمة الدفاع الجوي ب ...
- بايدن يبدى استعدادا لمناظرة ترامب


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ابراهيم ازروال - مفارقات المثاقفة بسوس- الجزء الثاني