أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - رَبيعُ طَهْرانَ .. السَّاخِن!















المزيد.....



رَبيعُ طَهْرانَ .. السَّاخِن!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 2731 - 2009 / 8 / 7 - 08:05
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 27 يوليو-2 أغسطس 2009
(1)
منذ الإعلان، في 13/6/09، عن فوز أحمدي نجاد، مرشَّح المحافظين الإيرانيين، بولاية رئاسيَّة ثانية، والعالم يتابع، حابساً أنفاسه، وقائع الانتفاضة الشعبيَّة العارمة التي اندلعت، في ما أصبح يُعرف بـ (الثورة الخضراء)، تحت شعار (أين صوتي؟!)، كناية عن دمغ العمليَّة كلها بالفبركة والتزوير!
لقد ظلَّ الشارع الإيراني، طوال العقود الثلاثة الماضية، مكبَّلاً بالدستور، وبمجلس صيانة الدستور، اللذين يشترطان، للمشاركة السياسيَّة (الديموقراطيَّة!)، شاملة الترشُّح للانتخابات، الالتزام بمبادئ الثورة الإسلاميَّة (تقرأ: سلطة الملالي)، وموالاة المرشد الأعلى، أي صاحب (ولاية الفقيه) الفرد المطلقة، المدجَّجة بترسانة من القوانين السالبة لأبسط الحريات العامَّة، والحقوق الأساسيَّة، بما في ذلك حقوق القوميَّات الأخرى والنساء، وهي القيود التي يتشبث بها النظام لتحصِّنه، أو هكذا يعتقد، من أيَّة معارضة جذريَّة قد تؤدِّي للإطاحة به!
وعلى حين تكاد تنعدم، في ظلِّ هذه الأوضاع المعقدة، أيَّة فرصة معقولة أمام التيار الراديكالي المتمثل في منظمة مجاهدي الثورة، ورابطة أساتذة الجامعات، ومكتب توثيق الوحدة، وجبهة المشاركة، لمواجهة التيار المحافظ القابض على السلطة؛ ظلَّ الإصلاحيون، الذين يُعتبرون الأقرب لإحداث نوع من التغيير، كجماعة العلماء المجاهدين، وحزب كوادر البناء، ورابطة السائرين على نهج الإمام، ودار العمال، يقدِّمون رجلاً ويؤخِّرون أخرى، إلتزاماً بما يسمونه (نهج الاعتدال)، تهيُّباً لكلِّ ما من شأنه (تهييج!) المحافظين، أو إثارة غضبهم!
لذا فإن القيمة الحقيقيَّة لهذه الانتفاضة، حتى لو اتسمت بالمحدوديَّة، إنما تكمن في طاقتها على طمأنة الإصلاحيين، واستنهاض ثقتهم في أنفسهم، وإقناعهم، في المقام الأوَّل، بقوَّة مكامن الحيويَّة في الشارع الإيراني، بما يجلو الصَّدأ عن فكرهم وسياساتهم، ويدفع بتيارهم على طريق التجاسر على المحافظين، حتف أنف ابتزازهم لهم، ومزايدتهم على مواقفهم، بفزَّاعة (الوطن) و(الوطنيَّة) التي لطالما حصرتهم في خانة الخوف والتردُّد التقليديين، فلم يورثاهم سوى ضياع الفرصة تلو الفرصة في ما يتصل بإحداث التغيير المنشود، بالأخص في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وأقرب ذلك ما جرى في انتخابات البلديات في فبراير الماضي، حيث أفضى عزوف الناخبين عن المشاركة فيها، بسبب قنوطهم من أن يحقق لهم التيار الإصلاحي ولو بعض طموحاتهم وتطلعاتهم، إلى خروج هذا التيار منها صفر اليدين، تاركاً تيار المحافظين يمارس الهروب إلى الأمام، ويلغو، بعد ثلاثين سنة من الإطاحة بنظام الشاه، بخطاب ملتبس يهدف، بشكل مفضوح، إلى (الغطغطة!) على إخفاقاته التاريخيَّة في هذين المجالين، بالذات، بإثارة معارك دونكيشوتيَّة في الجبهة الخارجيَّة، ما تكاد تنتهي إلا لتبدأ، شأنه، في ذلك، شأن كلِّ أنظمة البرجوازيَّة الصغيرة في المنطقة، والتي ما تنفكُّ تطالب الجماهير، مباشرة أو ضمناً، بالتخلي، للنظام (المناضل!) أو (المجاهد!)، سيَّان، عن طموحاتها وتطلعاتها المشروعة، أجمعها، لتكتفي بما يحقق لـ (الوطن!) من (انتصارات!) خارجيَّة لحمتها وسداها الشِّعارات الضَّخمة والخطب الرَّنانة؛ وكلُّ من يرى رأياً آخر إما (خائن!)، أو (عميل!)، أو (مرتزق!)، و .. "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"!
لا جدال في أن للغرب مصالح مصادمة لإيران، وهو يتخذ، بالتالي، مواقف ظالمة لها، بالأخص في ما يتصل بحقها في تطوير برنامجها النووي، ولو للأغراض السلميَّة. لكن لا جدال، أيضاً، أن معادلة الأسبقيَّات، لدى النظام الإيراني، مختلة تماماً. فالنظام الذي يعجز عن حلِّ مشكلات شعبه الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة، يفشل، من كلِّ بُدٍّ، في توحيد جبهة بلاده الداخليَّة، ثمَّ يفشل، بالضرورة، في التصدِّي لقضايا جبهتها الخارجيَّة! وبعبارة أخرى، فإن مَن يستخفُّ بالثغرات الفاغرة في جدار سياساته على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي، يسمح، بالنتيجة، للقوى الأجنبيَّة بالتسرُّب من نفس هذه الثغرات إلى شئونه الداخليَّة، فلا يلومنَّ إلا نفسه!
التحدي الحقيقي، إذن، والذي لا بُدَّ أن التيار الإصلاحي قد أدرك، أخيراً، ألا مناص من مجابهته، هو المدى الذي يستطيع فيه (إصلاح) أوضاعه سياسياً وفكرياً، بحيث يكون مقنعاً للجماهير، على قدر استعدادها لتأييده وإيلائه ثقتها. ولأن مثل هذا (الإصلاح) لا يتمُّ بالتآمر في الغرف المغلقة، أو مقاعد الاجتماعات الوثيرة، وإنما وسط الجماهير مباشرة، عبر مسالك نضالها اليومي الصبور، وبالتضحيات الجسام في لهب معارك الشارع، فمن هنا، كما سبق وأشرنا، تأتي أهميَّة هذه الانتفاضة/الاختبار، والتي ربَّما كانت آخر فرصة تمنحها الجماهير الإيرانيَّة للإصلاحيين، خصوصاً بعد الفشل الذريع الذي حاق بحكومة خاتمي، خلال فترتين كاملتين، بثماني سنوات طوال!
على هذه الخلفيَّة، فقط، نستطيع قراءة السخونة غير المسبوقة، والتي شابت الحملات الدعائيَّة عشيَّة الانتخابات، حيث دعا مير حسين موسوي، رئيس الوزراء السابق، لإسقاط حكومة أحمدي نجاد، متهماً إيَّاها "بالافتقار إلى الاستراتيجيات العمليَّة في تسيير الأمور"، وبأنها "تعلن للناس أرقاماً غير صحيحة"، وبأنها "أقحمت إيران في مواجهات لا داعي لها، وأساءت لعلاقاتها مع دول الجوار" (المدينة، 28/5/09)، ومتعهِّداً "بحل مشكلات البلاد بالتركيز على الانتاج الوطني، والاقتصاد الفاعل"، مؤكداً على أنه "لا بُدَّ من التركيز، بالدرجة الأولى، على المشكلات الداخليَّة"، ومشدِّدا على "أهميَّة الحريَّة كحق للشعب، لا كهديَّة تمنحها الحكومة للجماهير" (موقع قناة المنار، 1/6/09).
كما تعهَّد مهدي كروبي، رئيس البرلمان الأسبق، بتلبية حقوق القوميات غير الفارسيَّة، وفي مقدمتها تعليم لغاتها القوميَّة (موقع قناة العربيَّة، 11/5/09)، وبالحفاظ على حقوق المواطنة وحقوق النساء، واعداً بمنع شرطة الأخلاق من النزول إلى الشارع، في إشارة إلى دوريات الشرطة التي تفرض الالتزام بقواعد اللباس الإسلامي على النساء (موقع الإسلام اليوم، 8/6/09)، وإلا كان مصيرهنَّ (الجرجرة!) في المحاكم، والعقوبات (الشرعيَّة!)، وواعداً، أيضاً، بوضع الاقتصاد في طليعة أولوياته، حيث تعاني إيران، وهي المنتِج العالمي الرابع للنفط، من ارتفاع في نسبة التضخم وصلت إلى 26%، وكذا في نسبة البطالة تجاوزت 13%، مِمَّا يعزوه الخبراء لسياسات أحمدي نجاد (المصدر)، كما وعد "بمنح كل مواطن ايراني 70 دولاراً شهرياً كسهم .. من عائدات النفط" (المدينة، 28/5/09)، وانتقد أحمدي نجاد بأن (خطاباته!) الناريَّة، الموجَّهة للخارج، ألحقت الضرر بعلاقات إيران مع المجتمع الدولي، وتسببت في عزْلها، وتعريضها لعقوبات مجلس الأمن (موقع الإسلام اليوم، 8/6/09). كما انتقد، بكثير من السخرية، طريقة الحكومة في إدارة البلاد، قائلاً: "إنهم يتصوَّرون أن الأدعية والتعاويذ كافية لادارة بلد مثل ايران!" (المدينة، 28/5/09).
أمَّا محسن رضائي، القائد السابق للحرس الثوري، فقد أعلن بأن نظريَّته لإدارة البلاد تقوم على تحقيق ائتلاف حزبي عريض، "فالبلد لا يمكن إدارته بحزب واحد". وأخذ على نجاد تصريحاته حول جدارة كرسي الرِّئاسة الإيراني بـ (قيادة العالم!)، حيث يرى رضائي في ذلك "نوعاً من الوهم، لأن .. كرسي الرئاسة الإيراني هذا .. لم يحل مشاكل البلاد الداخليَّة بعد!" (المصدر).
من جهته لم يجد أحمدي نجاد، برصيده الصِّفري على صعيدي القضيَّتين الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، ما يدرأ عنه هجمة معارضيه تلك سوى التشبُّث بأطراف جلباب (الفقيه الوالي) .. فحرصه على ذلك أكبر بما لا يقاس، في ما يبدو، بحرصه على التصالح مع شعبه! ولعلَّ من أبرز الشواهد على ذلك الفضيحة التي انفجرت، لاحقاً، وأسميت (مشائي قيت)، في إشارة إلى سفينديار رحيم مشائي، صهر نجاد الذي عيَّنه نائباً له، وأصرَّ على ذلك حتف أنف الاحتجاجات الشعبيَّة الواسعة! لكن عندما أمره (الفقيه الوالي) بإقالته، إضطر للرضوخ وتنفيذ الأمر، رغم مماطلته في ذلك لبعض الوقت! تلك المماطلة أغضبت عليه (الفقيه الوالي) لأسابيع لم يكن للرَّجلين من لقاءات، خلالها، إلا عبر وسائط الإعلام. لكن نجاداً الذي لم يطق صبراً سارع المرشد الأعلى إلى الإيعاز بحمايته لنجاد ودعمه له (الجزيرة نت، 20/12/08). ثمَّ ما لبثت ماكينة الاستجابة الفوريَّة أن دارت، بأشكال مختلفة، لعلَّ أكثرها إيحاءً تلك الصورة الفوتوغرافيَّة التي تظهر نجاد وقد غزا الشَّيب رأسه وشاربه ولحيته، مقارنة بصورة أخرى سبق أن التقطت له قبل عام! وقد صنف المحلل السياسي علي رضا نوروزي، عن حق، ما جرى لهذه الصُّورة من ترويج على أوسع نطاق، بـ "الدعاية الانتخابية المبكرة!" (المصدر).

(2)
ما لبث الحراك الجماهيري أن بلغ، في العشرين من يونيو نفسه، ذروة دراماتيكيَّته، بالتظاهرة الأكثر دمويَّة، من حيث حجم العنف السلطوي، وعدد القتلى المدنيين، وأبرزهم ندى أغا سلطاني، طالبة الموسيقى إبنة السِّتة والعشرين ربيعاً، والتي هزَّت صور استشهادها، على رصيف شارع كارغار بطهران، وجدان ملايين الناس في القرية الكونيَّة، فأضحت رمزاً إنسانياً وسياسياً ساطعاً وملهماً بالجسارة والفداء والتضحية؛ وقد سرَّبت تلك اللقطات الصَّادمة كاميرات هواة، وأجهزة هواتف محمولة، لتبثها شتى المواقع الأسفيريَّة، بعد أن حظرت السُّلطة الإعلام العالمي عن متابعة الانتفاضة، أو توثيقها، ولو بالصور الثابتة!
لكن، بُعيد الاشتباكات العنيفة التي شهدها يوم التاسع من يوليو، بين قوَّات (الباسيج)* وشرطة مكافحة الشغب، من جانب، والجماهير العزلاء، من الجانب الآخر، والتي كانت تحيي، أمام جامعة طهران، ذكرى تظاهرات 1999م الطلابيَّة، هدأ الحراك شيئاً، إلا من بعض اشتباكات متفرقة، كالتي وقعت بالثلاثاء 21/7/09، في ساحة (هفتم تير)، بين الشرطة وبين من تجمَّعوا لإحياء ذكرى ندى سلطاني.
هكذا بدا للمراقبين، وأجهزة الصحافة والإعلام، وربَّما لدوائر السلطة نفسها، كما لو أن الأوضاع تتهيَّأ للعودة، رويداً رويداً، إلى سابق عهدها، وأن الانتفاضة قد آلت، تحت سنابك القمع المادي الشَّرس، إلى خمود نهائي!
سوى أن نذر العاصفة ما لبثت أن تكثفت، لتنفجر، مجدَّداً، بعد ظهر الخميس 23/7/09، بشعارات أفصح تعبيراً، وأعتى تحدِّياً، وأكثر استعداداً للمصادمة!

(3)
قد تفلح نخبة سياسيَّة ما، تحت شروط تاريخيَّة محدَّدة، في استمالة الجماهير الشعبيَّة، بمخاطبة طموحاتها وتطلعاتها، حقاً كان ذلك أم باطلاً، واستثمار حراكاتها، بإزجاء الوعود البرَّاقة لها بلبن الطير، أو بالأنجم الزُّهر على أطباق الذهب والفضَّة، فتتمكن من تأسيس سلطتها على أنقاض النظام السابق. لكن، ليس أكثر رعباً، لمثل هذه النخبة، من أن تدور عليها الدوائر، فتجد نفسها في مواجهة ذات الجماهير، تنقضُّ عليها بذات الطموحات القديمة، وبذات الأساليب التي كانت ابتدعتها، وأعانتها بها على الإطاحة بالنظام السابق، والحلول محله!
ومن المعلوم أن (ذكرى الأربعينيَّات)، وما تشتمل عليه من زيارات (المراقد والمقابر)، هي من أهمِّ الشعائر المرعيَّة في العقائد الشيعيَّة. وتعتبر (أربعينيَّة الحسين)، بطبيعة الحال، أهمَّها طرَّاً. ومثلما للحجِّ منافع (دنيويَّة)، جعل الشيعة لشعيرة (الأربعينيَّة)، أيضاً، أهدافاً سياسيَّة وإعلاميَّة، حيث يستطيعون، عن طريقها، إظهار منعتهم، وكسب الاهتمام بهويَّتهم، وقضاياهم، وهم يصفون هذه الزيارات، عادة، بـ (المليونيَّة)؛ كما جعلوا لها أهدافاً اقتصاديَّة، حيث أن وجود مرقد أيٍّ من أئمتهم في مكان ما يكون سبباً في إنعاش هذا المكان تجارياً، ومن ثمَّ عمرانياً، بتحويله إلى مقصد للسياحة الدينيَّة. ففي العراق، مثلاً، يُعتبر مرقد الإمام علي، كرَّم الله وجهه، "السبب في نشوء مدينة النجف .. باعتبار أن توافد الساكنين حول هذا المرقد .. وكلَّ إشارة إلى عمل ونشاط وخير في هذه المدينة، إنما يرتبط بهذا الأصل، وهكذا الحال بالنسبة إلى كربلاء" (محمد باقر الحكيم؛ الشعائر الحسينيَّة هويَّة ومرتكز لبناء شيعة العراق، ص 15).
أما في إيران، حيث كان كلب حراسة الشاه السابق، المعروف بجهاز (السافاك)، يواجه أدنى نأمة معارضة لذلك النظام بمستوى من القمع المادي والمعنوي لا نظير لوحشيَّته، وحيث أن (التنظيم)، من زاوية علم الثورة، هو أشد الأسلحة مضاءً في النضال الشعبي، فقد تفتقت العبقريَّة الشعبيَّة عن إضافة هدف سياسي/تنظيمي لشعيرة (الأربعينيَّة)، باستخدامها، أيضاً، كأحد أساليب الاحتشاد ورصِّ الصفوف، استعداداً للانقضاض على ذلك النظام القمئ، مِمَّا وفر للثورة، خلال السنوات التي سبقت انفجارها، تحت قيادة الإمام الخميني، عاملاً تنظيمياً حاسماً من عوامل انتصارها عام 1979م.
قفزت تلك المشاهد إلى الأذهان حين قدَّم مير حسين موسوي ومهدي كروبي، الزعيمان الإصلاحيان، والمرشَّحان اللذان أعلنت خسارتهما، فرفضا التسليم بتلك النتيجة، ودمغاها بالتزوير، طلباً إلى وزارة الداخليَّة، بالأحد 19/7/09، للإذن لهما بإحياء (أربعينيَّة) قتلى تظاهرات المعارضة، وذلك في المسجد الكبير بطهران، متعهِّدَيْن "بعدم إلقاء أيَّة خطابات خلال الاحتفال التأبيني" (القدس العربي نقلاً عن وكالة إيسنا الإيرانيَّة، ‏26/7/09)‏. لكنَّ الوزارة رفضت الطلب؛ فلم يضيِّعا وقتهما ووقت الجماهير في الحجاج الدستوري، واللجاج القانوني، بل وجَّها أنصارهما، على الفور، بتحويل مكان الاحتفال إلى (بهشت الزهراء) في ضريح الشهداء، يوم الخميس 23/7/09، فالصِّراع أصبح على المكشوف، وهو صراع سياسي بالدَّرجة الأولى، وعنوانه الأساسي، من زاوية الجماهير، تخليص (المبدأ الجمهوري الديموقراطي التعدُّدي) من بين براثن (ولاية الفقيه)؛ ولأن سلطة (الفقيه الوالي) تدرك أن ذلك كله كذلك فقد أقدمت على نشر فيالق من قوَّات (الباسيج) والشرطة في الموقع!
في تعليقه على تلك الإجراءات، قال كروبي: "طلبنا ترخيصاً لإحياء حفل صامت في المصلى الكبير، لكن وزارة الداخلية رفضت، ففكرنا بأن المكان الأفضل للقيام بذلك، وتلاوة آيات القرآن، هو (بهشت الزهراء) .. لا أفهم انتشار الشرطة هذا!" (وكالات، 30/7/09).
ورغم ما قد يبدو على هذا التعليق من براءة المنطق، للوهلة الأولى، إلا أنه يرمي، ولا ريب، لكسب نقطة تكتيكيَّة على النظام، بأكثر مِمَّا يعني، على أيَّة حال، أن كروبي "لا يفهم" فعلاً! فمثلما يفهم (الفقيه الوالي)، فإن كروبي، السياسي الإصلاحي الطالع من رحم مؤسَّسة الملالي، يفهم، هو الآخر، قطعاً، كما وأن موسوي، صنوه في الطلوع من ذات الرَّحم، يفهم، أيضاً، والجماهير الإيرانيَّة التي تنشَّأت على ذات الشعيرة (الدينيَّة/السياسيَّة) تفهم، كذلك، وكلُّ من لديهم أدنى إلمام بخبرة الثورة الإيرانيَّة، وما تستند إليه من عناصر الثقافة الشيعيَّة، يفهمون، ولا بُد، أن طلب الإذن بإحياء (الأربعينيَّة)، في مثل هذا المناخ المحتقن بالتوتر، المفتوح على كلِّ الاحتمالات، ليس محض استصدار لترخيص بإقامة (حفل ديني)! لذا فقد حقَّ للنخبة الحاكمة أن تفزع منه، وأن ترتعب له، وأن ترفض التصديق به، بل وأن تستنفر أجهزة قمعها لتمنع، ولو بالقوَّة إذا لزم الأمر، ذات (الفعل!) الذي لطالما استثمرته، هي نفسها، في ما مضى، ضمن الأساليب التي تمكنت، عن طريقها، من الوصول إلى السُّلطة!
لكن أيَّة معارضة جسورة لن يعود أمامها، والأمر كذلك، والصراع قد بلغ هذا الحد، سوى المضي قدماً على طريق التصعيد؛ فحتى لو كان من المستبعد تماماً أن تربح الحرب كلها بضربة واحدة، فإنها، على الأقل، لن تخسر هذه المعركة الرَّامية، من هذه الزاوية، لتحقيق هدف أساسي، بصرف النظر عن حجم التضحيات المبذولة، وهو فضح النظام الذي ما برح يتخفى وراء ترميزات دينيَّة مقدَّسة، ونزع أوراق التوت التي يتدثر بها مدَّعياً اصطفاف الجماهير الإيرانيَّة خلفه، وإرغامه، في النهاية، على الوقوف عارياً أمام شعبه، والشُّعوب المسلمة قاطبة، وشعوب العالم بأسره، كنظام شمولي لا يختلف، في دمويَّته، عن نظام الشاه!

(4)
في الموعد المحدَّد، بعد ظهر الخميس 23/7/09، عمَّت المظاهرات مدن مَشهد وأصفهان والأهواز وشيراز، فضلاً عن طهران التي زحف فيها الآلاف من مناصري الإصلاحيين صوب (بهشت الزهراء)، جنوبي العاصمة، ليُحْيوا، تحت وهج الشمس المحرقة، (أربعينيَّة) ثلاثين من شهدائهم دُفنوا هناك، يسبقهم تحذير الجنرال عبد الله أراجي، قائد الحرس الثوري، بذات التحذير الذي كان يطلقه الاكليروس الكنسي في أوربا القرون الوسطى: "نحن لا نمزح .. سنواجه كلَّ من يريد محاربة المؤسَّسة الدينيَّة"!
ولأن مهمَّة (الحرس الثوري) الدستوريَّة الأساسيَّة هي حماية (الثورة الاسلاميَّة!) من كلِّ (المهدِّدات!) الخارجيَّة و(الداخليَّة!)، وهي عبارة آية في الفضفضة، قصديَّاً، حتى لا تحُدَّ هذه (المهمَّة!) حدود، فقد كانت قوَّاته، بالفعل، للمحتفلين، بالمرصاد، تدعمها فيالق الباسيج والشرطة وغيرها، حيث عمدت إلى استخدام القوَّة لتفريق الحشود، بل وإلى الحيلولة دون دخول موسوي المكان، أو تلاوته القرآن، وإلى منع كروبي من إلقاء خطابه، الأمر الذي فاقم من غضب الجماهير، فاندفعت تشتبك مع الشرطة بالأيدي، وترشقها بالحجارة، وهي تهتف بسقوط الحكومة؛ وبين هذا وذاك تضئ الشموع، وتضع أكاليل الورد أمام ضريح ندى. وكان موسوي وكروبي يعتزمان، بوجه خاص، تلبية دعوة وجَّهتها لهما والدة عروس الانتفاضة للاحتفال بـ (أربعينيَّتها) عند قبرها، لولا حيلولة قوَّات الأمن دون وصولهما، فاحتفل معها الآلاف في تحد سافر لأجهزة القمع!
وفي وقت لاحق تحدَّثت الأم المكلومة باعتزاز يخالطه أسى عميق: "ندى بريئة، وهي شهيدة، وقاتلها يجب أن يمثل أمام العدالة. زارتني، للتعزية، والدتا الشهيدين سهراب أعرابي وأشكان سهراب اللذين أرديا قبلها قتيلين، أيضاً، بالرَّصاص الغشوم؛ كانا في ربيع العمر. نفسياً كنا محطمين. أولادنا كانوا صغاراً على الموت. ما الذي يمكن أن تقول أمَّهات في نفس المأساة لبعضهنَّ؟! كلُّ ما يمكن أن نفعل هو أن نجلس معاً ونبكي. موت ندى كان مؤلماً جدَّاً. الكلمات تعجز عن التعبير عمَّا أشعر به. لكن مجرَّد معرفة أن العالم بأسره بكاها معي تريحني. أنا فخورة بها، وسعيدة لأنها أصبحت رمزاً" (الشرق الأوسط، 31/7/09).
من (بهشت الزهراء) زحفت الجموع إلى قلب طهران، حيث احتشد أكثر من ثلاثة الاف في صحن المسجد الكبير، رافعين أيديهم بإشارة النصر، وانتشر آلاف آخرون في شوارع المدينة، وفي ميدان (والي عصر)، يطلقون أبواق السيَّارات، ويشعلون النيران في مكبَّات النفايات، ويصادمون شرطة تحاول، عبثاً، إسكات ضجيج الأبواق بالتهشيم العشوائي لزجاج المركبات، وتفريق الحشود بالهرَّاوات، والعصي، والأحزمة العسكريَّة، والغاز المسيل للدموع، وزئير درَّاجاتها البخاريَّة يصمُّ الآذان، بينما دويُّ هتافات الكتل البشريَّة يشقُّ عنان السَّماء.
أشرقت شمس الجمعة والأيام التالية على طهران، وفي محابسها المزيد من معتقلي صدامات (بهشت الزهراء)، و(والي عصر)، والمسجد الكبير، والمترو، وفيهم المخرج السينمائي جعفر بناهي، فضلاً عن 50 شخصيَّة سياسيَّة (المدينة، 31/7/09). وما تزال (جهات!) أمنيَّة، بعضها معلوم، وبعضها (مجهول!)، تواصل اعتقالاتها في صفوف الاصلاحيين ومناصريهم؛ حيث رصدت، في يوم واحد فقط، 63 حالة اعتقال لطلاب جامعيين في محافظات مختلفة، ووُجِّهت للمعتقلين تهمٌ بالعمل ضد .. النظام! ويُحتجز كثير منهم، حالياً، في (بيوت سريَّة!) تتبع لمنظمات أمنيَّة، كالحرس الثوري وغيره! وبحسب مصادر إعلاميَّة مختلفة فإن هذه (البيوت) يمكن أن توجد في أي مكان بالمدينة، وأن من يوضع فيها "يخضع، فعلياً، لإشراف أمني مشدَّد!" (وكالات، 31/7/09).

(5)
مع ذلك فإن طهران لم تعد هي ذات طهران الأسيرة! وجماهيرها لم تعُد هي ذات الجماهير الكسيرة! ونظامها لم يعد هو ذات النظام القابض المخيف! فالجماهير المدجَّجة بالغضب العارم، والقبضات المحتشدة بالهتاف الداوي، تكفلت بإسقاط تلك الهيبة المدَّعاة، والرَّهبة المصطنعة: "ندى حيَّة .. أحمدي نجاد ميِّت ـ الموت للديكتاتور ـ أحمدي نجاد الخائن نريدك بلا مأوى ـ أفرجوا عن المعتقلين"! وقد طالت الهتافات، في من طالت، مجتبى خامنئي، نجل المرشد الأعلى للثورة، البالغ من العمر 40 عاماً، وصاحب التأثير الأقوى على والده، كما كلُّ أبناء كبار الملالي، تحمِّله المسئوليَّة المباشرة، جهراً، عن تزوير نتائج هذه الانتخابات، مثلما كان قد اتهم، همساً، بتزوير نتائج انتخابات 2005م! بل إن المحتجين صدعوا، في وسط طهران، بتعبيرات تنذر بأنه لن يخلف أبيه في منصب ولاية الفقيه، حتى لو "لحس كوعه" (!) وقد ظلت المصادر الإعلاميَّة تنقل من العاصمة الإيرانيَّة، خلال السنوات الماضية، بأن لدى مجتبى فريقاً من مستشارين استخباراتيين (!) وأنه أبعَد إلى مناطق نائية كثيراً من قادة الحرس الثوري الذين صوتوا في الانتخابات قبل الأخيرة لصالح رفسنجاني (!) وأنه هو الذي يحدِّد، عموماً، سياسات النظام بحكم نفوذه وسط القادة العسكريين والسياسيين (!)
ولعلَّ من أبرز دلائل اضطراب النظام، وسقوط هيبته، أن الأجهزة الأمنيَّة لم تجد وسيلة (توقف!) بها نداءات "الله أكبر" التي ظلت تتواصل في ليالي طهران، من أكثر من عشر مناطق، سوى مطالبة طلاب جامعة (صنعتي شريف) بـ "التعهُّد خطيَّاً بعدم المشاركة في التكبير!" (المدينة، 31/7/09).
كشفت الانتفاضة، أيضاً، عن انقسامات عميقة داخل صفِّ النخبة التي أسَّست النظام الحاكم. فقد دعا المرجع الإيراني آية الله منتظري إلى محاكمة المسؤولين الذين تسببوا في تعذيب وموت بعض المعتقلين في السجون، محذراً النظام من مصير الشاه! ومشدِّداً على أنه يستحيل فرض حكومة مزوَّرة بالقوَّة على الشعب (المصدر). واضطر إسماعيل أحمدي مقدَّم، قائد الشرطة، للإقرار، حسب وكالة (مهر) الإيرانيَّة، بوقوع "تجاوزات!" خلال التصدِّي للمظاهرات، وأن بعض رجاله تصرَّفوا بقسوة، وكبَّدوا الناس خسائر جسديَّة وماديَّة. غير أن قادة الإصلاحيين رفضوا قبول هذا الإقرار، وما يشتمل عليه من محاولة للتبرير، لأن الشرطة تصرَّفت بناءً على أوامر، وأن تلك الأوامر كانت "سياسيَّة" وليست "أمنيَّة"، وطالبوا بأن يمثل أمام العدالة "أشخاص كصادق محصولي، وزير الداخليَّة، ومسئولين في الحرس الثوري، وفي مكتب أحمدي نجاد"، مؤكدين أن قوَّات الشرطة و(الباسيج) لم تكن لتستخدم كلَّ هذا العنف في الشوارع والسُّجون إلا بأوامر من "شخصيَّات نافذة في الحكومة!" (موقع الشرق الأوسط، 31/7/09).
وانكشف أيضاً، بصورة غير مسبوقة، اختلال موازين القوى داخل النظام، وصوريَّة تعدُّد مؤسَّساته، حيث تؤول السُّلطة كلها، عندما يحزب الأمر، إلى (الفقيه الولي) وحده، وما تواليه من أجهزة! فرغم أن رفسنجاني يشغل منصب رئيس (مجلس الخبراء)، المؤسَّسة الموكل إليها ما يُعرف بـ (تشخيص مصلحة النظام)، إلا أن قوى أخرى، أمنيَّة وعسكريَّة وسياسيَّة، تخاطفت هذا الاختصاص، خلال أحداث الانتفاضة، بل ودمغت رفسنجاني نفسه بالوقوف ضد (مصلحة النظام)، كما سنرى أدناه!
ومن جهته أدان الرئيس السابق محمد خاتمي "الجرائم!" ضد المعتقلين. وفي تعليقه العاصف على أمر مرشد الجمهوريَّة بإغلاق مركز (كاهريزاك) للاعتقال، لأنه "لا يطابق المعايير!"، حسبما أوردت وسائل الاعلام الايرانيَّة في 27/7/09، قال خاتمي: "لا يكفي إغلاق مركز اعتقال والقول بأنه (لا يطابق المعايير). ماذا يعني خامنئي بعبارة (لا يطابق المعايير)؟! هل يعني أن نظام التهوية والمراحيض لا يعمل؟! لا .. ثمة جرائم ارتكبت، وأناس فقدوا حياتهم!" (المصدر).
غير أن أقوى الدلائل على اضطراب النظام، وسقوط هيبته، اضطراره للجوء إلى (أسطرة الواقع!) بصورة آية في التهافت! فوكالة أنباء (فارس) القريبة من الحرس الثوري، والتي كانت سارعت، حتى قبل بدء التصويت، إلى إعلان فوز أحمدي نجاد، في القرى والأرياف، بنسبة 90%، أوردت، صباح يوم (بهشت الزهراء)، في محاولة مفضوحة لإثارة البلبلة وسط الجماهير، أن "ندى آغا سلطاني ما تزال حيَّة، وموجودة، حالياً، في اليونان، وقد اتصلت بالسفارة الايرانيَّة في أثينا، وستعود الى طهران قريباً، ووزارة الخارجيَّة الإيرانيَّة تدعم هذا التقرير!" (وكالة فارس، 30/7/09).
لكن الرَّد الحاسم على تلك الأكذوبة البائسة سرعان ما جاء من والدة الشهيدة نفسها قائلة: "أؤكد أنها قتلت هنا، وبرصاصهم، ودفنتها بيدي!" (الوطن السعوديَّة، 31/7/09).
والواقع أن مقتل ندى شكل، بمفرده، في ما يبدو، ورطة كبيرة للنظام (الحديدي)! فقد تلاحقت تصريحات أعمدته، تمسك برقاب بعضها البعض، محاولة نفي ارتكابه من جانب عناصر (الباسيج) أو الحرس الثوري، وكمثال على ذلك قول الجنرال عبد الله الرَّاقي، قائد (وحدة محمَّد رسول الله) في الحرس الثوري، المكلف بأمن العاصمة، إن "هذا الحادث وقع في شارع كانت هذه القوَّات غائبة عنه"؛ ومحاولته التنصُّل عن مسئوليَّته، وإلقائها على عاتق من أسماهم "أعداء البلاد!" الذين خططوا له، على حدِّ تعبيره (موقع الشرق الأوسط، 31/7/09). غير أن الإصلاحيين رفضوا هذه المحاولة الساذجة المتهافتة، وتمسَّكوا بمطالبتهم بإجراء التحقيق، والكشف عن هويَّة المسئولين، ومحاسبتهم؛ وهو المطلب الذي تؤيِّده، بالمناسبة، مرجعيَّات دينيَّة في قم (المصدر).
الشاهد أن النظام فقد (شرعيَّته) يوم أفقدته الانتفاضة، بتضحيات جسيمة، (صدقيَّته) و(هيبته) في نفوس الجماهير، وأوقفته، عارياً، في مهبِّ عواصفها. وواهمٌ من يتصوَّر (الشرعيَّة) محض (نصوص) دستوريَّة أو قانونيَّة يفتح الناس صفحة كذا، على الفصل كذا، من الباب كذا، ليطلعوا على المادة كذا، في الدستور أو القانون، ليجدوها، فتصبح نافذة على الفور! مثل هذه (النصوص) تتأسَّس على (القاعدة الحقوقيَّة) المطلقة، لكن الاعتراف بها، والانصياع لها، لا يقع ضربة لازب، وإنما يتأسَّس على (السياسة) التي لا تشتغل إلا بمنطق (ميزان القوَّة)! وإذن، لا بأس من تشريع (النصوص) الدستوريَّة والقانونيَّة de jure التي (تنطق) بـ (حقوق) الناس و(حريَّاتهم)؛ لكن على أهل المصلحة في هذه (الحقوق) و(الحرِّيَّات) أن يجعلوا أعينهم مشبوحة، باستمرار، على (ميزان القوَّة) الذي يضمن تحققها؛ فإذا ما اختلَّ هذا (الميزان)، ولو لبرهة، تحتم عليهم استعداله بكلِّ غالٍ ومرتخص، بما في ذلك بذل المُهج والأرواح، وإلا نشأت حالة من (شرعيَّة الأمر الواقع ـ de facto) تقضي على آمالهم، وتردُّهم أسفل سافلين!

(6)
دائماً ما يأتي على رأس قائمة أعدى أعداء أيِّ نظام أصدقاؤه الجَّهلة، إن لم يكن الانتهازيون ذوو المصلحة في بقائه على أيَّة صورة! ولا يملك هؤلاء، في العادة، ما يؤازرونه به، ويظهرون ولاءهم له، سوى البذاءات العريضة، والعبارات المكرورة الماسخة، والاتهامات الممجوجة لخصومه، أيَّاً كانوا، بـ (الخيانة الوطنيَّة!) و(العمالة للأجنبي!)، و(التآمر الإجرامي!)، وربَّما .. (الكفر!) ذاته!
من نماذج ذلك أن حسين شريعتمداري، ممثل مرشد الجمهوريَّة في (مؤسسة كيهان الصحفية)، نسج على هذا المنوال، متهماً كلاً من خاتمي وموسوي باستخدام "المخربين والمجرمين كدروع بشرية لتنفيذ مآربهم"! وكالعادة قال إن هناك (وثائق!) تؤكد "أن الزعيمين .. يستخدمان مجرمينً ذوي سوابق للقيام بأعمال تخريبيَّة لقاء أجر متواضع"! ودعا السلطات (القضائيَّة!) إلى محاكمة هؤلاء القادة "لانهم سببوا وما زالوا يسببون الدَّمار للبلاد!" (وكالات، 31/7/09).
وفي السياق نفث معسكر التشدُّد سموم نقمته على الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، لخطبته في صلاة الجمعة 17/7/09، والتي أيَّد فيها نداءات المعارضة بضرورة تغيير الرئيس نجاد، داعيا لإطلاق سراح المعتقلين. فقد خاطبه، مثلاً، علي أكبر قريشي، عضو مجلس الخبراء، قائلاً: "إن تصريحاتكم اثلجت قلوب أعداء الله ورسوله، وإنني أسمع، لأوَّل مرَّة، مسؤولاً كبيراً في النظام يعترف بوجود أزمة (!) بينما بلادنا لا تشهد أزمة"! وقال، في رسالته التي وجَّهها إلى رفسنجاني: "لا أحد ينكر الدور الذي قمتم به في تاريخ الثورة، لكن ما ظهر منكم في صلاة الجمعة يدعو للتعجب، لأنكم أمرتم بإطلاق سراح من قاموا بحرق مساجد الله وبيوته!" (وكالات، 20/7/09).
وكان حبيب الله عسكر أولادي، الأمين العام لجبهة تابعي خط الإمام ومرشد الثورة، قد سبق أن وجَّه، قبل أشهر من الانتخابات، انتقادات حادَّة للرئيس السابق محمد خاتمي، على تصريحاته بضرورة "إنقاذ إيران"! وشدَّد على أن "مفردات خطاب خاتمي تشبه ما يستخدمه المعارضون بالخارج"! وتساءل، مستهجناً، كما لو كان لا يعلم حقاً: "من أي شيء يريد خاتمي إنقاذ إيران؟!" (قناة الجزيرة، 20/12/08)
وحتى المتحذلقين الذين يحرصون على إظهار اختلافهم عن أولئك باجتراح طروحات تبدو، للوهلة الأولى، أقرب إلى العقلانيَّة والموضوعيَّة، سرعان ما يتكشَّفون عن مجرَّد موالين للنظام بصورته الراهنة، ومعرقلين لأيَّ تغيير فيه، بتشكيكهم في دوافع كلِّ من يدعو لإصلاحه! من هؤلاء علي أصغر محمَّدي، المحلل السياسي الذي لخَّص القضيَّة برمتها، وبتبسيط مُخِل، في أن من ذاقوا السُّلطة، على أيام خاتمي، لم يطيقوا صبراً على مفارقتها، ولذا فالمشكلة تبدأ وتنتهي في شهوة السلطة فحسب (قناة الجزيرة، 2/8/09).

(7)
لم يكن اعتداء أجهزة القمع على رموز الانتفاضة وقادتها، يوم (بهشت الزهراء)، هو الأوَّل من نوعه، بل سبقه، على سبيل المثال، قبل نحو أسبوع من ذلك، أن هاجم رجال باللباس المدني كروبي أثناء توجُّهه لأداء صلاة الجمعة التي أمّها الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني بجامعة طهران، في 17/7/09، وأهانوه، وأوقعوا عمامته أرضاً، وقذفوه بعبارات نابية وبذيئة"! وقد حمَّل كروبي، لاحقاً، عناصر (الباسيج) المسئوليَّة عن الاعتداء (موقع المستقبل، 17/7/09).
فلئن يحدث ذلك، في العلن، مع رجال لطالما اعتبروا من أعمدة النظام، في قامة كروبي، فليس ثمَّة ما يحمل على الاعتقاد بأن ما يرشح عن تعذيبهم، وتعذيب مواطنين عاديين، حدَّ الموت، في المعتقلات السريَّة، محض شائعات مغرضة! هذه الحقيقة المريرة أمَّن عليها نجف علي ميرزائي، مدير مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، قائلاً: "إن التعذيب، الآن، لا يمكن إنكاره!" (قناة الجزيرة، 2/8/09)، وإن يكن بلا معنى محدَّد استطراده قائلاً إن "الدستور يحظر هذه الممارسة!" (المصدر) .. فليحظرها ألف مرَّة، ثمَّ ماذا بعد؟!
الشاهد أن العقل السَّوي يستحيل أن يعتدَّ بـ (الاعترافات!) التي قيل إن بعض رموز الإصلاحيين، كمحمَّد أبطحي وغيره، مِمَّن جرى جلبهم من هذه المعتقلات، مباشرة، إلى المحاكمة، صباح الأحد 2/8/09، قد أدلوا بها! فشبهة انتزاعها بالتعذيب قائمة من كلِّ بُد! والتعذيب ممارسة خسيسة لا تمتَّ بصلة إلى أيِّ خلق إنساني قويم، دَعْ الإسلام. كما وأن الأقوال التي تنتج عنه لا يمكن الاطمئنان إليها، لكون من أدلى بها إنما اضطرته لذلك الضرورة الملجئة التي أجاز، بموجبها، الرسول (ص) نفسه لعمَّار بن ياسر أن يسبَّه، ويأتي على ذكره بسوء، طالما كان مرغماً تحت التعذيب، وقلبه مطمئن بالإيمان، بل قال له: "إن عادوا فعُد"، فنزل قرآن كريم يوافق ذلك ويدعمه.
والظروف ذاتها التي انعقدت فيها هذه المحاكمة ظروف استثنائيَّة، غير طبيعيَّة بالمرَّة، ومحفوفة بهوس المتشدِّدين، وصيحاتهم المتشنجة، كدعوة بعض الملالي (للقضاء!) أن "يأخذ هؤلاء المعارضين بغير رحمة"! وقد صدق ميرزائي حين دمغ مثل هذا النداء بأنه "لا أصل له في الإسلام!" (المصدر).
ولو أمكن للنظام الإيراني أن يدرك من أمره رشدا، في أيَّامه السَّوداء هذه، لاتخذت عدالته مجراها، لا في مواجهة الإصلاحيين، بل في مواجهة المسئولين عن القتل، والتعذيب، والاختفاءات، والاعتقالات، وجُلهُم من شذاذ الآفاق الذين انطلقوا بـ (الأزياء المدنيَّة) يعربدون، كالحُمُر المستنفرة، في حُرُمات الناس وحرِّيَّاتهم، معتقدين أن ما يقومون به هو من (التكاليف الشرعيَّة!) التي لا تستوجب أخذ الإذن، أو انتظار صدور الأمر بها من أحد!
وقبل ذلك ينبغي أن تتحقق الدولة من تبعيَّتهم، ليتسع نطاق المساءلة كي يطال رءوس الإجرام الحقيقيين! فقد أفاد أمير موسوي، مستشار وزير الدِّفاع السابق، بأنهم يتبعون لجهات، أو أشخاص، أو مراكز قوى، داخل النظام، أوعزت إليهم بأن من حقهم أن ينشطوا، في أداء مهامهم الوضيعة هذه، خارج الشرعيَّة، وخارج رقابة الدستور!
هذا بعض ما ينبغي التركيز عليه في مسألة المعتقلين، لا الاحتفاء الإعلامي المخجل بمحاكمات صوريَّة تقوم على اعترافات منتزعة تحت التعذيب!
على أن الواجب الأسمى أكبر من ذلك بكثير. فالانتفاضة أنجزت هدفها الأساسي، يوم زلزلت طهران زلزالها، وأخرجت من باطن المسكوت عنه أثقالها! وما من مخرج أمام الملالي، الآن، رضوا أم أبوا، سوى أن يتخلوا، طوعاً أو كرهاً، عن عنادهم القديم، وأن ينتبهوا، جيِّداً، إلى إعادة الاصطفاف الجارية، وأن يضعوا عقولهم في رءوسهم، فيشاركوا، بإخلاص، في عمليَّة (الغربلة التصحيحيَّة) المحتومة، فإيران، بعد الانتفاضة، غيرها قبلها .. ذلكم هو منطق التاريخ!

* (الباسيج) قوَّات التعبئة الشعبيَّة. أسسها مصطفى الخميني. وعدد أعضائها ثلاثة ملايين رجل وامرأة. ومهمتها الدِّفاع زمن الحرب، والبناء زمن السلم. والكلمة فارسيَّة وتعني: التعبئة (من ويكيبيديا).




#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَنْ يَنْقَعُ غُلَّةَ الصَّادِي؟!
- عُلبَةُ الأَقلامِ الخَشَبِيَّةِ المُلوَّنة!
- المُتَهَادِي كَمَا القَمَر!
- أَيُّ الكُلْفَتَيْنِ أَفْدَحُ؟!
- المَارْتِنيكي!
- هَذِي .. بِتِلْكْ!
- بَيْضُ الأَوزِ فِي أَحْشَاءِ الكَرَاكِي!
- يَايْ .. مَساكينْ يَا بَابِيْ!
- قِيَامَةُ الزِّئْبَق! - فَصْلٌ مِن سِيرَةِ مَرْجَانْ مُورْغَ ...
- رُوليت رُوسِي!
- تَنَطُّعَاتُ البَاشَا!
- مُعَلَّقَاً بِخُيُوطِ الشَّمْسِ الغَارِبَةِ .. مَضَى!
- دَائِرَةُ الطَّبَاشِيْرِ القُوْقَازِيَّةْ!
- غَابَةُ المَسَاءِ تَحْمِلُ العُشَّاقَ للنُجُوم!
- عَمَلُ النَّمْل!
- هُولُوكُوسْت!
- كَدُودَة: ذَاكِرةُ الأَبَديَّة!
- كُونِي: هَجَمَ النَّمِرُ!
- المَتَاريسُ الَّتي ..!
- مَنْ اشتَرَى التُّرام؟!


المزيد.....




- شاهد.. رجل يشعل النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترامب في نيوي ...
- العراق يُعلق على الهجوم الإسرائيلي على أصفهان في إيران: لا ي ...
- مظاهرة شبابية من أجل المناخ في روما تدعو لوقف إطلاق النار في ...
- استهداف أصفهان - ما دلالة المكان وما الرسائل الموجهة لإيران؟ ...
- سياسي فرنسي: سرقة الأصول الروسية ستكلف الاتحاد الأوروبي غالي ...
- بعد تعليقاته على الهجوم على إيران.. انتقادات واسعة لبن غفير ...
- ليبرمان: نتنياهو مهتم بدولة فلسطينية وبرنامج نووي سعودي للته ...
- لماذا تجنبت إسرائيل تبني الهجوم على مواقع عسكرية إيرانية؟
- خبير بريطاني: الجيش الروسي يقترب من تطويق لواء نخبة أوكراني ...
- لافروف: تسليح النازيين بكييف يهدد أمننا


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - رَبيعُ طَهْرانَ .. السَّاخِن!