أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - عُلبَةُ الأَقلامِ الخَشَبِيَّةِ المُلوَّنة!















المزيد.....


عُلبَةُ الأَقلامِ الخَشَبِيَّةِ المُلوَّنة!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 2716 - 2009 / 7 / 23 - 11:04
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 13-19 يوليو 2009
(1)
كقارئ مداوم للكاتب السعودي الكبير فهد عامر الأحمدي، لم أستغرب تصنيفه، عن جدارة، كأغلى كاتب عمود صحفي في بلده، بصرف النظر عن مدى اتفاقي، أحياناً، أو اختلافي، أحياناً أخرى، مع ما يخطه يراعه؛ وما ذلك إلا لسبب واحد في غاية البساطة، هو أنه (جليس أنيس) بحق. فالمبدع، كاتباً كان أم غير ذلك، ليس هو، بالقطع، ذيَّاك الذي يحتقب، في صباحاته ومساءاته، (قائمة) موضوعات واحدة، ثابتة، لا تتغيَّر، تماماً كقوائم الطعام في المستشفيات! كما وأنه ليس ذيَّاك الذي تقبل على تلقيه، وأنت ضامن، مسبقاً، وعلى طول الخط، توافق رؤاكما وتصوُّراتكما وأفكاركما، حذوك النعل بالنَّعل، ولك أن تتأمَّل القدْر الذي تنطوي عليه ممارسة كهذي من الملل والسآمة! إنما المبدع (الجليس الأنيس) هو مَن يشحذ وجدانك، المرَّة بعد المرَّة، ويرود بخيالك آفاقاً غير معتادة، في كلِّ مرَّة، فيوعز إليك بالذي يعينك على شطب الكسل من قاموس نشاطك الذهني، بالمرَّة، ويغويك، دائماً وأبداً، بالتفكير الطليق من كلِّ قيد أو شرط .. وكفى بذلك مجداً فنياً، وسؤدداً إبداعياً!
وتحضرني، هنا، حكاية الشاعر والكاتب السوفييتي الكبير ميخائيل سفيتلوف، صاحب (أغنية القرن ـ أنشودة غرينادا)، والذي لقب بـ (شاعر الأمميَّة) في عشرينات القرن الماضي، مع واحد من قرائه جمعته به الصدفة؛ فبينما كان يستقلُّ البصَّ الأخير، ذات ليلة، عائداً إلى بيته، فوجئ بأن الراكب الوحيد معه منهمك في قراءة نسخة من كتاب له كان قد صدر، آنذاك، للتوِّ. وفي ما بعد روى سفيتلوف قائلاً:
ـ "جلست أراقبه، صامتاً، كي لا أقطع عليه خيط انشغاله بالمطالعة، حتى بلغ البصُّ محطتي، فاضطررت للنزول وفي النفس شئ من تشوُّق لم يبرحني طوال الرحلة، لا لأنْ أعرف مَا إنْ كان يتفق مع أفكاري، بل لأن أسأله سؤالاً واحداً فقط: هل وجدتني جليساً أنيساً"؟!
كاتب في قامة سفيتلوف يخاف أن تستحيل قراءته إلى ما يشبه (القراية أم دَقْ!)، كما في المثل السوداني، فلا يرجو، أكثر ما يرجو، سوى أن يكون (أنيساً) لقارئه، قبل أن يزعم أنه يفيده بشئ ذي بال! وبذا فإن (الإمتاع) يسبق (الإفادة)، إذن، في جدول أولويات مبدع كسفيتلوف. وهذا، أيضاً، هو ما شدَّد عليه، في وقت لاحق، برتولد بريشت، الشاعر والمسرحي الشيوعي الألماني، في كتابه (الأورغانون الصغير). ومعلوم أن بريشت ظلَّ يحلم، حتى آخر يوم في حياته، بأن ينجز سِفراً يضمِّنه نظريَّته في الفن، بما يكافئ سِفر (رأس المال) لكارل ماركس! واستطراداً، فقد تولى صديقه وزميله في مسرح (البرلينر انسامبل)، الموسيقار آيسلر الذي لطالما قام لبريشت مقام إنجلز لماركس، تقديم شروحات وافية للكثير من جوانب تلك النظريَّة السديدة، وذلك في حواره المطوَّل مع د. بونقا؛ وكان د. محمد سليمان قد عكف على ترجمة أكثر فصوله لنا، من الألمانيَّة، صفحة صفحة، أوان اعتقال مطوَّل، هو الآخر، بسجن كوبر، في مغارب سبعينات القرن المنصرم، وإني لأرجو أن تكون تلك الترجمة قد اكتملت، الآن، لترفد المكتبة العربيَّة بكتاب هي في أمسِّ الحاجة إليه.

(2)
نعود إلى الأحمدي، فقد كان روى، قبل سنوات طوال، في 19/4/01، وضمن عموده اليومي (حول العالم)، بصحيفة الرياض، عن بقال من معارفه تعرض لحادث سرقة عجيب، حيث تمكنت سيِّدة غريبة من السيطرة على إرادته، طالبة منه تسليمها مبلغ خمسة آلاف ريال .. فأطاعها بلا أدنى تردُّد أو جلبة! لكنه، وهو يدلي بإفادته في ما بعد، لم يستطع تذكر أيِّ شئ يمكن أن يعين الشرطة على التحرِّي حول الأمر!
إستدعت هذه الحادثة إلى ذاكرتي، وقتها، حادثة مشابهة وقعت، على أيام طفولتنا، في خمسينات القرن الماضي، ونشرتها صحف ذلك الزَّمان، ولاكتها ألسنة كبار العائلة والحيِّ والمدينة كثيراً. فقد دلف، ذات نهار صيفي قائظ، ثلاثة رجال، أظنُّهم، إن لم تخنِّي الذاكرة، من الشوَّام، حسني الملبس، محترمي المظهر، إلى دكان خالنا عبد الكريم العجلاتي الذي لطالما اشتهر، منذ الثلاثينات، كمَعْلم أمدرمانيٍّ بارز في أوَّل شارع أبروف من جهة السوق، ولا تجهد نفسك في محاولة البحث عنه الآن، بلا جدوى، فقد أخلته منه (محكمة الخيمة) في أوائل التسعينات، فمات محسوراً، كسير الخاطر، عليه رحمة الله؛ الشاهد أن ثلاثتهم حيُّوه، وطفقوا يحادثونه في شتى أمور تجارة الدَّرَّاجات، وقطع غيارها، وصناعة تجميعها محلياً، وكان أوَّل من راد مجالها. غير أن عينيه، بحسب ما روى لاحقاً، ظلتا مشدودتين إلى نظرات واحد منهم لم تتحوَّل عنهما ولو للحظة! لكنه، في بلاغه للشرطة، قال إنه لا يعرف كم من الوقت استغرق ذلك كله، بل لا يذكر سوى أنه أفاق، كمن يستيقظ من نومة عميقة، ليجد خزانته مفتوحة، وأمواله منهوبة!
ما كادت تنقضي سوى بضعة أشهر على قراءتي لحادثة بقال الأحمدي، حتى قيِّض لي أن أحضر محاضرة عجيبة قدَّمها صديقنا الفريق شرطة (م) أحمد المرتضى أبو حراز، ذات أمسية من أماسي منتداه الأنيق الذي كان ينظمه لنا، أسبوعياً، بداره بحي الملازمين بأم درمان، خلال عقد التسعينات الجافِّ إلا من تلك اللمع النادرة! أذكر من الحضور، يومها، الشاعرين عبد القادر وعبد المنعم الكتيابي، والناقد محمد الربيع محمد صالح، والصحفي عبد اللطيف مجتبى، والمنظم الثقافي محمد صديق عمر الإمام المحامي، وآخرين أنسيتهم. كانت المحاضرة عن الباراسيكولوجي، وقد شهدنا، في نهايتها، وبأمّهات أعيننا، بياناً بالعمل، استطاع أبو حراز، من خلاله، أن ينوِّم شاباً من الحاضرين تطوَّع بنفسه للتجربة، ربَّما لكونه كان الأكثر جدلاً في حقيقة هذا العلم، وأن يسيطر على إرادته، فيجعله يرتدُّ إلى طفولته الباكرة، يحبو، ويلثغ، ويصرخ، ويرضع إصبعه، تماماً كصغير لم يبلغ فطامه بعد!
لا شكَّ أن أغلبنا، إن لم نكن كلنا، مررنا بخبرات شخصيَّة قد تتفاوت تفسيراتها، على نحو أو آخر، بين (العلم) الصحيح وبين (الدَّجل) الصريح! ويذكر أبناء جيلنا، ولا بُدَّ، أفاعيل عمنا المرحوم خضر الحاوي، وكان يجترحها، باقتدار وإعجاز، في عروض دَرَج على إحيائها لنا في مدارسنا، بالعصاري، ونحن، بعد، زغب حواصل بكتاتيب أم درمان، يذبح ولده حسيناً، مثلاً، ثمَّ ما يلبث أن يحييه، مجدَّداً، أمام أعيننا الواجفة، وأنفاسنا المبهورة، من شدَّة المتعة والتوتر، فاتحاً أخيلتنا الطفلة، أوان ذاك، على عوالم لا حدود لإلهاماتها؛ دَعْ عجائب العروض السحريَّة التي تقدِّمها كبريات فرق السيرك، وقد قدِّر لنا أن نشهدها، كباراً، خارج السودان. لكن، لئن كانت تلك العروض، وغيرها من سنخها، مصمَّمة، بطبيعة الحال، للمسامرة وجلب المتعة، فثمَّة عروض أخرى شريرة مِمَّا درجت على تقديمه فرق (الحراميَّة) الذين لم تكن تخلو منهم الموالد، ولست أدري إن كانت ما تزال لا تفعل، وبالتحديد في أسواق (زلعتها) خلف خيام الذاكرين، يمارسون إغواءك بلعبة (الملوص) و(الورقات الثلاث)، لتستفيق، آخر الليل، على مرارة حقيقة وحيدة فحواها أنك وردت المولد لـ (الحلوى)، لكنك عدت إلى البيت بـ (الغبار!)، أو كما أنشد المجذوب، عليه رحمة الله ورضوانه. سوى أنَّ القليلين منا فقط هم مَن جرَّبوا مضاهاة كلِّ ذلك بما يدور حولنا، يومياً، وما تنضح به الحياة العاديَّة نفسها، من غرائبيات مشابهة لتلك، بجامع ما تورثه من حيرة وتوتر، وإن كانت، في معظمها، لا تمتع! فكثير من الأنظمة الحاكمة، على سبيل المثال، هي، في حقيقتها، اللاعب الأكبر لـ (الملوص) و(الورقات الثلاث)، والآكلة الأكثر نهماً لحقوق الناس بالباطل، في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والقانون، والقضاء، وما إلى ذلك، لولا أن شقيَّ الحال وحده هو الذي يقع في القيد! وعندما نجرِّب مثل هذه المضاهاة، يتضخم السؤال الملحُّ الذي ما ينفكُّ يتقافز من بين كلِّ تفصيلة وأخرى مِمَّا يواجه الإنسان البسيط: كيف يتأتى له أن يميِّز بين (العلم) وبين (الدَّجل)؟! بين (الحقيقة) وبين (الوهم)؟! بين ما هو (واقع) وبين ما هو محض (كابوس)؟!

(3)
كان الأحمدي قد أشار، في عموده ذاك، إلى نموذجين مشهورين لأصحاب هذا النوع من الطاقات، أوَّلهما هو القس الروسي راسبوتين .. غريغوري يافيموفيتش راسبوتين (1869 ـ 1916م)، أو الشخصيَّة التاريخيَّة المعروفة بـ (الرَّاهب الشيطان)، وقد وُلد في قرية بوكروفسكوي بسيبريا، وعُرف باستغراقه في الجنس، والفسق، والمجون، وأصناف الرذائل كافة، كونه كان يؤمن إيماناً لا يتزعزع بأن الله سيكتب له ذلك كله في ميزان حسناته! لكن راسبوتين امتلك، مع ذلك، قدرات عجيبة على علاج الأمراض المستعصية من خلال السَّيطرة على عقول مرضاه، مِمَّا جعله مقرَّباً من عائلة القيصر نيقولا الثاني (1895 ـ 1917م)، وأثيراً لديها، بعد أن استطاع علاج وليِّ العهد من مرض غلب الطبَّ والطبَّابين! ثمَّ ما لبث أن سيطر أيضاً، وبالتدريج، على عقل القيصر نفسه، وزوجته، وكلِّ حاشية البلاط، إلى الحدِّ الذي صار فيه هو من يدير شئون روسيا، فعلياً، ويتحكم في عزل وتنصيب وزرائها، وكبار موظفيها، من خلال سيطرته على زوجة القيصر الذي كان قد غاب في أخريات أيامه! هل تذكرون حكاية الدَّجالين الذين امتلأت بهم مكاتب القصر وأروقته في أخريات سنوات حكم النميري؟! غير أن راسبوتين، بعد أن عاث في الدولة فساداً، انتهى قتيلاً، بسانت بطرسبورج، في ظروف غامضة، شتاء عام 1916م، وقد ألقيت جثته، بعد أن رُضرضت وشوِّهت تماماً، من أحد الجسور على نهر النيفا!
أما النموذج الثاني فهو وولف ميتسنخ، وهو شخصيَّة غير معروفة كثيراً، بل وقد اختلف الناس في ما إن كان حقيقة أم خيالاً! أياً كان الأمر فإن مِمَّا ساق الأحمدي عنه، بالاستناد إلى مصادره، أن قدراته الاستثنائيَّة على غسل أدمغة الناس، وقراءة أفكارهم، والايحاء لهم بما يريد، تجلت، أكثر ما تجلت، خلال الحرب العالمية الثانية. سوى أنه كان قد اكتشف قدراته تلك، في الواقع، منذ صغره؛ فقد حدث، مثلاً، أن تعلق، وهو، بعد، طفل، بقطار متجه إلى برلين. ولأنه لم يكن لديه ثمن التذكرة، فقد اختبأ تحت أحد المقاعد! لكن الكمساري سرعان ما لمحه، فما كان من ميتسنخ إلا أن خرج من مخبئه، وقدَّم إليه، بكلِّ رباطة جأش، قصاصة من جريدة يوميَّة على أنها تذكرة! ثم كان هو أوَّل المستغربين حين ختمها الرجل قائلاً له بهدوء:
ـ "وإذن .. لماذا تختبئ مادمت تملك تذكرة"!
وخلال الحرب تنبأ ميتسنخ بهزيمة هتلر، وبأن الدبابات الروسية ستدكُّ برلين. وحين سمع الفوهرر بذلك غضب، وطلب إحضاره أمامه حياً أو ميتاً! لكنه هرب إلى روسيا، حيث استدعاه ستالين بعد أن بلغته أخبار قدراته تلك، واختبره بأن طلب منه الذهاب إلى أحد البنوك وإحضار مبلغ مائة ألف روبل! ولدهشة ستالين عاد ميتسنخ، بعد ما لا يزيد على ساعة واحدة، ومعه المبلغ! ولما طلب منه ستالين أن يشرح له كيف فعل ذلك، أجابه قائلاً:
ـ "بسيطة .. قدمت لهم ورقة بيضاء على أنها شيك منك فصرفوا لي المبلغ فوراً"!
كانت لعبة ميتسنخ المفضلة أن يطلب من الآخرين التفكير بشيء، في سرِّهم، كي يقوم بتنفيذه لهم! وأورد الأحمدي أن ميتسينخ كان صديقاً لعالم النفس الشهير فرويد. وحدث أن اجتمعا ذات يوم في مكتب عالم الفيزياء انشتاين، ففكر فرويد في سرِّه: "لو أن ميتسنخ يقص شيئاً من شارب انشتاين الكث"! فما كان من ميتسنخ إلا أن نهض، من فوره، واقتلع ثلاث شعرات من شارب انشتاين، الذي كان، لحظتها، مسلوب الإرادة تماماً! فضحك فرويد كثيراً، وقال:
ـ "لو قدرت لي حياة أطول لخصصتها لدراسة ميتسنخ"!

(4)
عند هذا الحدِّ من رواية الأحمدي خطر لي، فجأة، أن ميتسنخ هذا ربَّما كان شخصيَّة حقيقيَّة، بل لعله هو نفس الشيخ العجوز الذي رأيته، وحضرت عرضاً له، بمدينة كييف في مطلع سبعينات القرن المنصرم، ولكنني أنسيت اسمه!
وأصل الحكاية ـ كما وقعت، أو كما قد أكون تصوَّرتها، أو ربَّما حلمت بها .. لست متأكداً تماماً! ـ أن أستاذنا في مادة (التحقيقات الجنائيَّةCriminology )، وكنت شغوفاً بها، قال لنا، عَرَضاً، بعد أن أكمل الكورس المرسوم في المناهج المختلفة لهذا العلم:
ـ "لم يبق إلا منهج فلان (ولعله ذكر اسم ميتسينخ أو هكذا يخيَّل لي الآن) .. لكن هذا المنهج ليس علماً، لكونه غير قابل، في الوقت الراهن على الأقل، للانتقال للآخرين عبر التعليم والتعلم"!
أثار ذلك الكلام فضولنا، فرُحنا نستزيد أستاذنا منه، فحدَّثنا عن شخص قال إنه معروف في الاتحاد السوفيتي، وقتها، ولديه مقدرات فوق العادة على قراءة أفكار الآخرين، والتأثير فيها، ولكن هذه الممارسة تسبِّب له إرهاقاً شديداً، فلا يقوم بها إلا لماماً! ولمَّا وجد الأستاذ أن فضولنا تضاعف، وأسئلتنا تكاثرت، والوقت المحدَّد للمحاضرة قد انتهى، ختم كلامه قائلاً:
ـ "لا ينفع أن أحدثكم عنه، لا بُدَّ أن تروا ذلك بأنفسكم .. إنه، لحسن الحظ، يقدِّم، أحياناً، عروضاً في بعض المدن، لكن الحجز لمشاهدتها صعب نوعاً ما، ولذا فسأوصي لدى العمادة المختصة كي تحرص على الحجز لكم جميعاً، أو، على الأقل، للرفاق الطلاب الأجانب هنا، لمشاهدة أقرب عرض يُنظم له بكييف"!
بعد أقلِّ من شهرين، ورغم أننا كنا في ظروف امتحانات نهاية السَّنة، إلا أن عمادة الطلاب الأجانب ألصقت إعلاناً، على لوحة الإعلانات بالكليَّة، تدعو فيه الراغبين من الطلاب الأجانب لتسجيل أسمائهم لحضور العرض المنتظر بإحدى قاعات المدينة.
وبالطبع كنا كلنا راغبين، فاشتعلنا حماساً، وسجَّلنا أسماءنا، وشرحت لنا سكرتيرة العمادة بعض فقرات البرنامج، ومن بينها فقرة يتقدَّم فيها متطوِّعون اعتباطيُّون من بين الحضور، ليطلبوا منه، في سرِّهم، الواحد بعد الآخر، القيام بأعمال محدَّدة، فينفذ طلباتهم، فيقرُّون بذلك أمام الجمهور في الصالة!
ولأن ذهنيَّة الغريب ميَّالة، في العادة، للمبالغة في التذاكي، والادعاء العريض بأن أحداً لا يستطيع أن يخدعه، فقد اقترح خناتا شويشي، الصديق الياباني المشوطن في دفعتنا، خطة (عبقريَّة!) نفضح عن طريقها (دجل!) الرجل، ونمرمط به الأرض! كانت لخناتا علبة أقلام خشبيَّة ضخمة جاء بها من بلده، تحوي أكثر من أربعين لوناً، أكثرها مخلوط بشكل معقد، فاقترح أن نوزِّعها، اعتباطياً، على المشاهدين في الصالة قبل بداية العرض بوقت كافٍ، على أن نجهِّز ورقة نسجِّل فيها أمام كلِّ لون إسم الشخص الذي أودعناه لديه!

(5)
يوم العرض فتحنا علبة الأقلام الخشبيَّة الملوَّنة داخل الصَّالة، ووزَّعنا محتوياتها بشكل دقيق، وسجَّلنا كلَّ ذلك، ثم جلسنا، بحماس متوتر، في مقاعدنا المخصَّصة. وما لبثت الأضواء أن سُلطت على منصَّة جانبيَّة وقفت عليها أكاديميَّة في منتصف العمر، تلقي محاضرة قصيرة في علم الباراسايكولوجي، أذكر منها أن العقل البشري يختزن طاقات هائلة، لكن الإنسان لم يستخدم منها، حتى الآن، سوى أقلِّ من السُّدس، ولم يكن بإمكانه أن يتوصَّل لاستخدام هذا القدر نفسه، إلا بفضل العمل لتلبية حاجاته التي ما تنفكُّ تتزايد مع التطوَّر التدريجي عبر التاريخ. على أن ثمَّة استثناءات لهذه القاعدة تتمثل في ظهور بعض هذه الطاقات لدى أفراد قليلين يعتبرون شذوذاً في هذه المرحلة من التطوُّر، وضربت أمثلة لذلك، أذكر منها طفلة سيبيريا التي تستطيع أن ترى ما وراء الجدران ومصاريع أبواب الحجرات والخزائن، وأيضاً الرجل، ألماني الأصل، الذي سنشاهده بعد قليل؛ وروت عنه أنه حدث أن اعتقل، أثناء الحرب الثانية، في أحد المعسكرات الألمانيَّة، غير أنه استطاع أن يقنع حرَّاسه بأنهم هم المعتقلون، وأنه هو حارسهم، وهكذا نجح في الهروب حتى بلغ الجبهة السوفيتيَّة، فتمَّ ترحيله إلى موسكو، حيث وُفرت له الحماية حتى وضعت الحرب أوزارها؛ لكنه، بعد ذلك، فضَّل الاستمرار في العيش هنا.
لحظات، ثمَّ أزيحت الستارة عن المنصَّة الرئيسة، ودخل (ضحيتنا) الذي سنكشف زيفه للعالمين، نحن مجموعة التلامذة الأفارقة والآسيويين واللاتينيين، بما عجزت عنه الدَّولة السوفيتيَّة، بكلِّ قضِّها وقضيضها! كان الرجل شيخاً ثمانينياً، يخطو بتثاقل وبطء، في بزَّة رماديَّة داكنة، شديد النحول، قصير القامة، بشاربين كثين، وشعر فضِّيٍّ منسدل على كتفيه. إستقبلته الصالة بالتصفيق. حيَّانا، بوقار، وبدا غير راغب في تضييع الوقت في الكلام، فأعلن، مباشرة، عن بداية العرض. هل كان هو ميتسينخ كما في رواية الأحمدي؟! أظنُّ ذلك، أو، في الحقيقة .. لا أدري!

(6)
لم أعد أذكر تفاصيل الفقرات. على أن الفقرة التي رسخت، أكثر من غيرها، في ذاكرتي، بالإضافة إلى (فقرتنا) بالطبع، هي تلك التي استدار فيها الشيخ العجوز ليتجه، بكل جسمه، ناحية سبُّورة سوداء في الخلفيَّة، ثمَّ جئ بحامل من النوع الذي يستخدم للنوتة الموسيقيَّة، ونصب بينه وبين الصالة، بحيث لا يمكنه أن يراه، وتقدَّمت سيِّدة أربعينيَّة متطوِّعة، فطلب منها أن تضع عليه جواز سفرها مفتوحاً على صفحة بياناتها الشخصيَّة، وجئ بجهاز بروجيكتر وُجِّهت عدسته إلى الجواز، فانعكست الصفحة على شاشة مثبتة على الجدار الأيمن من الصالة. وبدأ الشيخ العجوز في توجيه أسئلته، جهراً، إلى السيِّدة حول بياناتها، طالباً منها أن تجيب في سرِّها فيسجِّل إجاباتها بطبشورة بيضاء على السَّبُّورة، بحيث يستطيع الجمهور أن يقارن بين ما يسجِّل هو وما يظهر على الشاشة.
كانت المقارنة تكشف، في كلِّ مرَّة، عن صحَّة قراءة الشيخ العجوز لأفكار السيِّدة، فيتفاقم خوفها واضطرابها الواضحين، بينما تشتعل الصالة بالتصفيق! إلى أن سألها عن تاريخ ميلادها .. هنا وقعت المفارقة بين سنٍّ أكبر في السَّبُّورة مِمَّا هي عليه في الشاشة! وكما لو أن الجمهور كان يتحيَّن الفرصة ليطمئن إلى استتباب الأمور في هذه الحياة إلى مسار عادي لا إعجاز يقلق فيه، فقد انفجرت الصالة بآهة ارتياح جماعيَّة ممطوطة، استدار الشيخ العجوز، في إثرها، يمسح الجير الأبيض عن أصابعه، ويحدِّق في الشاشة، ويهمهم، كمن يحدِّث نفسه، مردِّداً عبارة واحدة:
ـ "غير معقول .. غير معقول"!
طلبت مديرة العرض من الجمهور أن يلتزم الهدوء، فعمَّ الصالة صمت مطبق، بينما أخذ الشيخ العجوز يجيل بصره، في حيرة، بين الشاشة والسَّبُّورة، وأخيراً أطرق صامتاً. إستغرق ذلك حوالي دقيقة، رفع بعدها عينيه إلى السَّيِّدة بادية الوجل حدَّ الذعر، وخطا نحوها بهدوء، ليحيط كتفيها بيمناه، ويجعلها تقترب معه من مقدِّمة الصالة، قائلاً، في أبوَّة حانية:
ـ "سأسألك يا عزيزتي سؤالاً واحداً، راجياً أن تجيبي عليه جهراً. وأحبُّ، قبل ذلك، أن أطمئنك على أننا لسنا في مقام رسميَّات .. نحن نمرح فحسب، وما نقول ونفعل هنا لن يغادر أثره هذه الصالة .. هل تفهمينني جيِّداً"؟!
هزَّت رأسها بالإيجاب، دون أن يبدو أن القلق قد زايلها! إبتعد الشيخ العجوز ليواجهها على مسافة خطوة واحدة، وهو يشبك كفيه ويرفعهما إلى أعلى صدره، ويميل، قليلاً، برأسه إلى اليسار، وجذعه إلى الوراء، ويسألها، ضاغطاً على كلِّ حرف:
ـ "حسناً! إذن قولي لي .. عندما استخرجت هذا الجواز، هل كنت ترغبين، يا بنيَّتي، في التقدُّم إلى وظيفة تشترط سنَّاً أصغر مِمَّا كنت عليه"؟!
تردَّدت السَّيِّدة برهة، ثمَّ ما لبثت، في لجَّة خليط حزمه وتشجيعه، أن حزمت أمرها وأجابت، هامسة، بالإيجاب!
ـ "لا .. أعلى قليلاً لو تفضَّلت"!
ـ "نعم"!
ووسط الهمهمات التي عادت تنفجر في الصالة، مضى الشيخ العجوز يقول، مبتسماً، في رقة وتهذيب:
ـ "يكفيني هذا .. أشكرك كثيراً .. والآن يمكنك العودة إلى مقعدك"!

(7)
ما حدث كان ينبغي أن يقنع صاحبنا الياباني المشوطن، مثلما اقتنع أغلبنا، واقتنعت شخصياً، بأن جدل (القاعدة والاستثناء) ماض في هذه الحياة إلى الأبد. ولئن كنا، نحن في تلك الصالة وفي خارجها، نمثل (القاعدة)، فلا جدوى، إطلاقاً، من محاولة تحدي ذلك الإنسان (الاستثنائي)! لكنَّ خناتا العنيد أصرَّ على تنفيذ خطته حتى آخر قطرة!
هكذا نهض، وعرَض نفسه، مع بداية الفقرة التالية والأخيرة، كمتطوِّع. وبالفعل استقدمه الشيخ العجوز من بين الصفوف، وأحاط كتفيه بيمناه، بذات الرِّقة الأبويَّة، وسأله عن بلده، وعن دراسته، وعن مدى إلمامه باللغة الرُّوسيَّة. وكان أكثر ما لفت نظري أنه، لمَّا علم أن خناتا يتقن هذه اللغة، نبَّهه إلى ضرورة عدم التفكير بغيرها حين يريد أن يطلب منه، في سرِّه، عمل أيِّ شئ!
سارت الفقرة، في بدايتها، بسلاسة وهدوء، حيث وقف خناتا يفكر صامتاً، مستعيناً بالورقة التي كنا أعددناها، والشيخ ينظر إليه، برهة، ثمَّ ما يلبث أن يتوجَّه إلى هذه الناحية أو تلك من الصالة يجمع الأقلام الخشبيَّة الملوَّنة .. قلمين .. ثلاثة .. أربعة .. خمسة، وفجأة بدأ خناتا يضطرب، ويرتبك، وتنشف شفتاه، ويضيق محجرا عينيه المتلاصقتين، أكثر فأكثر، بينما الشيخ العجوز يعرق ويجفُّ، ويجفُّ ويعرق، ويشدُّ شعره، ويغضِّن وجهه، ويصيح، وجسده الناحل يهتز كقصبة، من قمَّة رأسه إلى أخمص قدميه:
ـ "لا لا .. أرجوك يا بني .. بالرُّوسيَّة .. بالرُّوسيَّة"!
وكان خناتا يزداد ذعراً واضطراباً كلما ازداد اهتزاز الشيخ العجوز وصياحه، حتى لقد حاولت مديرة العرض، أكثر من مرَّة، إيقافه، إشفاقاً على كليهما، لكن الشيخ العجوز كان، في كلِّ مرَّة، يمنعها بإشارة حازمة من يده، فلكأن أشعَّة كهرومغناطيسيَّة قد سرت من أدمغتنا إلى دماغه، فاضحة له خطتنا البائسة، وتربُّصنا بصدقيَّته، فقرَّر، من جانبه، أن يخوض معركته تلك معنا .. كمعركة حياة أو موت!
في النهاية، ووسط صخب الجمهور المشتعل بالقهقهات الحماسيَّة، والتصفيق الداوي، استطاع الشيخ العجوز أن يجمع أقلامنا الخشبيَّة الملوَّنة من مشارق الصالة ومغاربها، ويعيدها إلى علبتها، ليسقط، بعدها، على أقرب كرسي، لاهثاً يتصبَّب عرقاً! أما خناتا فقد وقف متسمِّراً وحده هناك، شاحباً، كتمثال من الملح، تحت الأضواء المسلطة عليه، ووجهه المستدير، بالشعر الأسود الكثيف الذي يغطي جبينه، خال من أيِّ تعبير محدَّد، بينما عيناه قد ازدادتا ضيقاً والتصاقاً، حتى لقد بدا كشخص أحول بالكامل!



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المُتَهَادِي كَمَا القَمَر!
- أَيُّ الكُلْفَتَيْنِ أَفْدَحُ؟!
- المَارْتِنيكي!
- هَذِي .. بِتِلْكْ!
- بَيْضُ الأَوزِ فِي أَحْشَاءِ الكَرَاكِي!
- يَايْ .. مَساكينْ يَا بَابِيْ!
- قِيَامَةُ الزِّئْبَق! - فَصْلٌ مِن سِيرَةِ مَرْجَانْ مُورْغَ ...
- رُوليت رُوسِي!
- تَنَطُّعَاتُ البَاشَا!
- مُعَلَّقَاً بِخُيُوطِ الشَّمْسِ الغَارِبَةِ .. مَضَى!
- دَائِرَةُ الطَّبَاشِيْرِ القُوْقَازِيَّةْ!
- غَابَةُ المَسَاءِ تَحْمِلُ العُشَّاقَ للنُجُوم!
- عَمَلُ النَّمْل!
- هُولُوكُوسْت!
- كَدُودَة: ذَاكِرةُ الأَبَديَّة!
- كُونِي: هَجَمَ النَّمِرُ!
- المَتَاريسُ الَّتي ..!
- مَنْ اشتَرَى التُّرام؟!
- مُتَلازِمَةُ هُوبْرِيسْ!
- غَرَائِبيَّاتُ حَضَرَةْ!


المزيد.....




- سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا ...
- اكتشاف آثار جانبية خطيرة لعلاجات يعتمدها مرضى الخرف
- الصين تدعو للتعاون النشط مع روسيا في قضية الهجوم الإرهابي عل ...
- البنتاغون يرفض التعليق على سحب دبابات -أبرامز- من ميدان القت ...
- الإفراج عن أشهر -قاتلة- في بريطانيا
- -وعدته بممارسة الجنس-.. معلمة تعترف بقتل عشيقها -الخائن- ودف ...
- مسؤول: الولايات المتحدة خسرت 3 طائرات مسيرة بالقرب من اليمن ...
- السعودية.. مقطع فيديو يوثق لحظة انفجار -قدر ضغط- في منزل وتس ...
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة نفط بريطانية وإسقاط مسيرة أمير ...
- 4 شهداء و30 مصابا في غارة إسرائيلية على منزل بمخيم النصيرات ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - عُلبَةُ الأَقلامِ الخَشَبِيَّةِ المُلوَّنة!