أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعدون محسن ضمد - اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة الرابعة)*















المزيد.....

اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة الرابعة)*


سعدون محسن ضمد

الحوار المتمدن-العدد: 2686 - 2009 / 6 / 23 - 06:29
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


دوامة الانقلاب
تناولت الاجزاء السابقة علاقة التصوف بالنبوة، وقد مر خلالها صاحب الاعترافات على صفتين من الصفات التي اعدها ضرورية في الشخصية النبوية، هما: الولع بالبحث والاخلاص بالصدق، ويأتي الكلام في هذه الحلقة حول الصفة الثالثة:
ثالثاً: التمرد
عندما يتميز إنسان ما، بولع عال بالبحث وصدق تام، فسيكون حتماً صاحب وعي نقدي. ومثل هذا الوعي لا يستطيع أن يبقى على حال ثابتة، أو يدين بدين واحد عمره كله. والسبب واضح: ذلك أنه لن يكف عن تقليب أفكاره على جميع وجوهها. لن يكف أيضاً عن التشكيك بمدى صدقها، ومطابقتها للواقع الذي تحكي عنه، وعند أي وعي من هذا القبيل لا تستطيع أي فكرة ومهما كانت كبيرة أن تصمد ولا تترهل أو تكشف عن تناقضاتها، أو تتفكك لمجموعة من الأسئلة المثيرة للريبة.
عندما يؤمن الوعي التقليدي (غير النقدي) بفكرة ما، فإنه سيكرس نشاطه للتعرف على حدود هذا الإيمان وممارسة طقوسه، والعناية بكيفيات تطبيقه، وسبل إقناع الآخرين به، وأساليب الدفاع عنه ضد المعترضين عليه أو المشككين به. أما الوعي (النقدي) فإنه إذا آمن فلن يجد نفسه أكثر الأحيان مهتماً لا بتطبيق إيمانه ولا بإقناع الآخرين بجدواه، بقدر ما أنه سيركز اهتمامه بالتساؤل عن حقيقة هذا الإيمان، صدق مقولاته، قدرته على برهنتها، وأخيراً قدرته على أن يكون مجدياً ومستمراً. بالنتيجة الوعي النقدي أشبه بمحكمة دائمة الانعقاد، دائمة التساؤل والاتهام والتشكيك.
عرفت الكثير من الأصدقاء ممن يمتلكون مثل هذه الطاقة النقدية، ووجدت أنهم جميعاً محرومون من الإيمان المستقر الخالي من المتاعب، وعند لقائي بأي منهم كنت أحصد كمّاً هائلاً من علامات الاستفهام وعدداً من الطرائف المضحكة التي تحاول أن تترجم حجم المأساة التي يعاني منها إنسان ضائع لا يستطيع أن يجد مساحة من الإيمان كافية لاحتضان تمرده وإسكات ضجيج أسئلته الصاخب، ولذلك هو يفزع لإفراغ جزء كبير من هذه الطاقة على شكل أسئلة وطرائف.
إذن للنبوة علاقة وثيقة بالشخصية المتمردة وانقلابات أفكارها، ولولا هذه العلاقة لما كان الأنبياء أصحاب تيه فكري وغربة روحية. النبي شخصية انقلابية بالتكوين، هذا ما تؤكده سير الأنبياء، موسى انقلب على الديانة السائدة في مصر وكاد أن يتسبب بإهلاك بني إسرائيل. وعيسى انقلب على اليهودية، يوم وجد أنها، كديانة، قد ترهلت أكثر مما تحتمل الرسالة التي هي بصدد إيصالها للإنسانية.. ولو استمر الزمن بالمسيح لا نقلب على المسيحية. وعندما نقوم بتفكيك دين من الأديان فأننا لن نجد بأنه دين واحد، بل مجموعة من الأديان، ولذلك نجد في كل دين مقومات اتجاه باطني تأملي روحاني، ونجد فيه بنفس الوقت مقومات اتجاه تطرفي متشدد وأحادي النظرة. ذلك أن كل دين يحمل بطيات أفكاره جزء من تيه الصوفي وضجيج أسئلته، ونجد فيه جزء من استقرار النبي وتعاليمه الصارمة. ونجد فيه أيضاً أوامر الملك وقوانينه. في الأديان صوفية النبوة، الصوفية التي ينقلب عليها النبي بمجرد الانتقال من هموم الصوفي الباحث عن العزلة إلى هموم النبي المنهمك بالإصلاح. في النبوة نَفَس انقلابي يستهدف هموم الصوفي وجدواها. النبوة، ولاشك، تحتضن بداخلها مقولات لا تؤمن بجدوى الانقطاع عن الناس والتعبد في الكهوف والبراري، مع أن هذا الانقطاع هو الذي أسس للنبوة ووفر مقدماتها..
وهناك من الأنبياء من انقلب على نبوته يوم تحول إلى ملك وأسس لدولة، والدليل على أن التحول من النبي إلى الملك هو نحو من أنحاء الانقلاب هو: أن النبوة فكرة إصلاحية تنطلق من الذات، النبوة إصلاح (تعاليمي) أما الدولة فمؤسسة ضبط اجتماعي.. النبي يعلم الناس والملك يسوسهم. وفي ضني لا تدل هذه الانقلابات إلا على شيء واحد، هو اتقاد نزعة التمرد عند الشخص الذي يتحول من صوفي إلى نبي إلى رسول ثم إلى ملك. وأكاد أجزم بأن لو امتد الزمن بالملك النبي لترك دولته ومهما كانت مترامية الأطراف ولترك أصحابه ووحيه وكتابه وحوارييه وعاد إلى كهفه أو صحرائه أو صومعته يبكي من شدة الوحشة التي يسكبها عليه شعوره بلا جدوى كل هذا الذي صنعه.
يبدأ الصوفي زاهداً إلا بالمعرفة، ثم يزهد بكل المعارف إلا بتلك المتعلقة بالمطلق، أو المحبوب كما يسميه بعد حين. وخلال رحلة البحث والضياع وإشباع نهم الأسئلة لا تجد الصوفي معنياً بغير نفسه.. هل سمعت بأن صوفياً اعتنى بتلاميذ وصنع حلقات وأسس لمدارس قبل أن يهوى ببئر الفناء ويسقط على قاع التوحيد الموحش وحيداً فريداً إلا من جهل مطبق وغربة بلا ملامح؟
أبداً، الصوفي وقبل أحوال الفناء والتوحيد لا يعتني بغير حاله هو، والسبب؛ أنه لا يؤمن بجدوى الإرشاد، بل يكفر بأي تعليم أو تعاليم، ولذلك هو يتنكر لها. لو كان الصوفي يؤمن بالتعاليم لاستقر على دينه الذي ولد عليه، ولما أجهد نفسه بالبحث عما ورائه. في الأديان إجابات شافية لكل من يستطيع الاقتناع باجاباتها، بالأحرى لكل من يؤمن بها، ولذلك تجد أصحاب الوعي التقليدي لا يرف لهم جفن أزاء أي سؤال مهما كان ملحاً أو عميقاً أو مشاكساً. سل المتدين عن أي شيء وسيبتسم أمامك ابتسامة الواثق من إحاطته بكل شيء. وسل الصوفي عن أي شيء وستجد بأنه يسرع بإعلان أفلاسه أمامك وعجزه عن الإحاطة بأي شيء.
لكن ما يلبث الصوفي حتى يتحول إلى أستاذ، ما يلبث حتى يتنكر إلى اللاجدوى التي كان يصدح بها، يكفر بدين التشرد الذي كان يرتل آياته قبل حين، الدين الذي كان يستهزئ بحلقات الفقهاء ومدارسهم، التي يعتقد بأنها تكفر بالنبوة لأنها تترجمها لمجموعة تعاليم. الصوفي يكفر بهذا الدين عندما يعمد هو إلى التأسيس لدينه وتعاليمه. وهذا الكفر هو نحو من أنحاء الانقلاب. هكذا يتحول التلميذ الذي لا يحسن غير طرح الأسئلة إلى معلم لا يفعل شيئاً غير ملاحقة أسئلة تلاميذه. لكن ما الفائدة، ما فائدة تأسيس المدارس (الباطنية) ونشر حلقات الذكر، إذا كان الوعي النقدي أشبه شيء باللعنة. فبعد حين لا بد للعنة التمرد من أن تُحرج (الصوفي/ الملك) وتعيده (صوفياً/ زاهداً) من جديد. تعيده إلى غربته وضياعه. ولذلك سرعان ما تجده يضحك من نفسه ومن هذا الذي صنعه تواً، ينظر إلى مجموعة تلاميذه فلا يكاد يتذكر ملامحهم ولا يعرف السبب الذي يجعلهم يحتشدون حوله. وهنا يكون الصوفي أمام خيارين، أن يخون تمرده ويستمر معلماً الأمر الذي يقوده إلى الانهيار شيئاً فشيئاً، كما فعل الجنيد. أو يتحول إلى مجنون ملعون بالذهاب بعيداً خلف الأسئلة الكبرى، مهما كانت نتائج هذا الذهاب موحشة ومخيفة، وهذا ما فعله الحلاج.
ــــــــــــــــــــــــــ
* ليست رواية بالتأكيد، مع أن فيها الكثير من السرد، وعذري أن الذي اعترف بهذه الاعترافات، أمامي، اشترط علي أن اسردها كما قالها هو ما، أمكن؛ يقول: لأن تجربة النبوة حساسة لدرجة تحتم علينا التعامل مع اعترافاتها بحساسية كافية.. إذن فهذه الكلمات هي ما استطعت الاحتفاظ به، وما أحاول إيصاله، من سرديات خاصَّة توثق اعترافات آخر متصوفة بغداد.





#سعدون_محسن_ضمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتحار سياسي
- اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة الثالثة)*
- خطر الكويت
- علامة تعجب
- لعنة ابليس
- أدباء ومعاول
- اعترافات آخر متصوفة بغداد الحلقة الثانية*
- افتى بها سعد وسعد مشتمل
- اعترافات آخر متصوفة بغداد* (الحلقة الأولى)
- حارس مرمى
- الدين والانثروبولوجيا
- أدونيس يبحث عن العراق.. ثلاث لقطات من مشهد كبير وواسع
- لقد ذهبت بعيدا
- من المسؤول عن عودتهم
- إحساس ومسؤولية
- ناقل كُفْر
- اسمه الوحي
- الخائفون، ممن؟
- من لي برأس هذا الفتى الصخّاب*؟
- كذبة الحرية


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعدون محسن ضمد - اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة الرابعة)*