|
تلك اليد
الهام ملهبي
الحوار المتمدن-العدد: 2529 - 2009 / 1 / 17 - 07:53
المحور:
الادب والفن
طوال طريق عودته من العمل ، كان صدى الصوت يتردد شديدا في ذهنه ، لا تريد تلك العبارة العنيدة أن تفارق مسمعه : " إذا كانت هناك يد ما تسيء إليك و أنت عاجز عن قطعها فعلى الأقل لا تقبلها" ، الكلمات تفرض نفسها بقوة في ذهنه ، يحاول طردها و تظل تحاصره . فيتذكر صورة الصديق الذي سمع منه يوما هذه الكلمات . كان يزوره باستمرار في حانوته الصغير، حيث يعمل طوال النهار و جزءا من الليل في زخرفة الأواني الفخارية و المعدنية ، كلماته كانت كلها إبداع ، لم تكن أصابعه فقط هي الفنانة ، و لكن لسانه كان يبدع ما يشبه شعرا أو غناء . كان يزوره ليتعلم منه فن الزخرفة و النقش ، و استطاع فعلا أن يتقن الصنعتين ، غير أنه لم يستطع أن يتعلم و لو القليل من الصنعة الثالثة : فن اللسان. تذكر كيف كان يحلم دائما بالحصول على شهادة الباكالوريا . ما الذي كان سيفعله بهذه الشهادة ؟ ربما دخل بها الجامعة ، ربما استطاع أن يجد عملا آخر أفضل من عمله في مصنع الأواني ، و ربما لم يستطع أن يفعل بها شيئا ، و لكنه كان حلما لم يستطع تحقيقة مثل الكثير من الأحلام الأخرى. أثناء هروبه من التفكير في الجملة التي تتردد في ذهنه ، تذكر يد المدير مساء هذا اليوم حين ارتفعت في وجهه تريد لطمه . طرق الباب بهدوء و دخل إلى مكتب المدير مطأطأ الرأس : ـ هل طلبتني سيدي ؟ ـ نعم . من تظن نفسك ؟ لماذا لا تزخرف الأواني بحسب التصاميم التي نعطيها لجميع العمال ؟ أجابه بنفس النبرة المنخفضة و الرأس المطأطأ : ـ لا أعرف سيدي ، يدي وحدها تزخرف و تنقش بعيدا عن إرادتي ؟ ـ مالي أنا و مال يدك ؟ نحن نستأجر هنا مصممين لوضع هذه التصاميم . و أظنك تعرف أننا لا ندفع لهم أجرتهم مجانا كي نترك ليدك الحرية الكاملة في التصرف . ـ و لكنني فنان يا سيدي ، و يجب أن أمتلك بعض الحرية في الإبداع . صاح المدير فجأة في وجهه : ـ إخرس ! و ارتفعت يده عاليا تريد صفعه ، كانت يدا قوية و كبيرة برغم نعومة الجلد الذي يكسوها . وقف هو ينظر إليها بخوف و صمت و كأنها جزء مقدس من هذا العالم يستحق التبجيل . ـ لم يبق سوى لعامل حقير مثلك أن يتفلسف . انصرف من أمامي الآن ، و مرة أخرى إذا كررت نفس الخطأ لن تدخل المصنع أبدا . انصرف بصمت . و بعد خروجه من العمل فضل أن يعود راجلا إلى البيت ، لم يرد أن يركب الشاحنة مع زملائه حتى لا يسألوه عن السبب الذي جعل المدير يستدعيه إلى مكتبه . أثناء سيره كانت تلك اليد تتبعه أينما اتجه ، فاكتشف أنها ليست أول مرة يراها فيها . صحيح أنها تختلف من مرة لأخرى : مرة تكون سمراء متسخة ، و مرة بيضاء نظيفة ، و مرة خشنة ، و لكنها تظل نفسها ، هو متأكد أنها نفس اليد. هي نفسها اليد التي ارتفعت أمام وجهه حين دخل عليه أبوه الغرفة و وجده يقبل صورة امرأة في مجلة مصورة ، هي نفسها اليد التي كانت تضربه على قفاه حين كان يضع يده اليسرى في طبق الطعام ، هي نفسها اليد التي صفعته حين وجده معلمه يكتب أشعارا للمتنبي في الصفحة الأخيرة من كتاب الإسلاميات ، هي نفسها اليد التي صفعته بشدة ذلك اليوم حين كان سهرانا مع أصدقاءه في حانوت صغير بالسوق ، كان أصدقاءه يدخنون الحشيش و لم يكن يشاركهم ، كان فقط يفضل التسامر معهم . انسحب بهدوء من السهرة ، و بمجرد ما خطا خطوتين تفاجأ بسيارة الشرطة أمامه ، فصاح به شرطي : ـ ما الذي كنت تفعله هناك ؟ ـ كنت مع اصدقائي ...... فارتفعت يد ضخمة و صفعته بشدة حتى اختلطت عليه الألوان . ـ تدخن حشيشا يا ابن الكلبة ؟ فركض مذعورا و لم يتوقف حتى باب منزله . يوم سمع أول مرة تلك الكلمات من صديقه النقاش : " إذا كانت هناك يد ما تسيء إليك و أنت عاجز عن قطعها فعلى الأقل لا تقبلها" ، فكر مليا ، و لماذا لا أقطعها ؟ فتخيل أن لون الدم سيكون مقرفا عندما سينفر منها . و لكن كيف يستطيع قطعها ؟ إنها يد متعددة ، جذورها ضاربة في الأرض ، إن قطعها ستنبت من جديد . قادرة هي و قوية ، تستطيع التشكل باستمرار دون أن تتغير . غير قادر على قطعها ، و لكنه أيضا غير قادر على ألا يقبلها و يطأطئ أمامها . تصيبه بالرعب و الإرتباك كلما رآها ، و لا يستطيع سوى الركوع و الصمت . سمع في صغره حكايات عن عفريت إذا قطع رأسه ينبت له من جديد و يحيا ، و لكنه لم يسمع عن هذه اليد . لم يقرأ يوما عن أسطورة اسمها اليد ، يد تشبه يديه فعلا ، و لكنها ليست مثلهما . بها خمسة أصابع ، و لكن قوتها تفوق خمسة فيالق أو خمسة جيوش . حمل سترته و اتجه صوب الباب يريد الخروج ، فركضت زوجته باتجاهه : ـ إلى أين تذهب ؟ ـ و ما شأنك أنت ؟ ـ أسألك لأنني خائفة عليك ، أعرف أنك ستذهب عند أصدقائك الحشاشين. ـ و من أنت لتنصحيني بهذا الشكل ؟ فرفع يده عاليا يريد لطمها ، و لكنه أرجعها في آخر لحظة و فتح الباب و انصرف . في طريقه صادف طفلين يشحذان أما المسجد ، كلما أعطاهم شخص صدقة يمسكان يده و يقبلانها أكثر من مرة . اقترب منهما ، فركض احدهما باتجاهه يطلب صدقة ، فرفع هو يده عاليا و لطمه بقوة صارخا : ـ لماذا تقبلون الأيادي ؟ وقف متسمرا ينظر إلى يده . اكتشف فجأة أنه يملك نفس اليد ، نفس اليد التي سقته العذاب لسنوات ، نفس اليد التي حيره وجودها دائما . رآها قبل قليل عندما ارتفعت في وجه زوجته تريد لطمها ، و لكنه لم يصدق . الآن أصبح متأكدا أنه يراها أمامه ، مغرورة فخورة بإنجازها . فطرقت في رأسه مطرقة حادة ، و سمع صوت صديقه النقاش : ـ و لكنك لم تستعملها إلا في وجه من هم أضعف منك.
#الهام_ملهبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نساء يكتبن
-
قصيدة : الابتسام داخل صورة
-
سليم بركات : سحر اللغة يفضح تشظيات الواقع
-
الكلمة
المزيد.....
-
“ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام
...
-
محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة
...
-
الممثلة الإباحية ستورمي دانييلز تتحدث عن حصولها عن الأموال ف
...
-
“نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي
...
-
بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
-
“مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي
...
-
-النشيد الأوروبي-.. الاحتفال بمرور 200 عام على إطلاق السيمفو
...
-
بأكبر مشاركة دولية في تاريخه.. انطلاق معرض الدوحة للكتاب بدو
...
-
فرصة -تاريخية- لخريجي اللغة العربية في السنغال
-
الشريط الإعلاني لجهاز -آيباد برو- يثير سخط الفنانين
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|