|
الكلمة
الهام ملهبي
الحوار المتمدن-العدد: 2488 - 2008 / 12 / 7 - 01:03
المحور:
الادب والفن
- الرجل متعفن تماما، كيف أمكنكم أن تصمتوا على حالة مثل هذه إلى الآن ؟ حالة طبية غريبة لم يسبق لي أن عاينت أمرا مثل هذا أو سمعت عنه. كل شيء بداخله متعفن ، أحشاؤه، قلبه، رئتيه ، جهاز التنفس ، الحلق ، الشرايين، أ لم تأخذوه إلى طبيب آخر قبلي؟ - انه لا يتكلم ، لم نكتشف أنه مريض إلا بعد أن ساءت حالته و لم يعد يستطيع النهوض. - أمر غريب فعلا ، سأحاول أن أجد تفسيرا طبيا للحالة ، آنذاك فقط يمكن أن أخبركم عن نوع العلاج.
انصرف صديقاه مستغربين حزينين، لماذا لم يشك ألمه؟ لماذا صمت و لم يخبرهم أنه يتألم؟ انه فعلا شخص عنيد، ما الذي كان سيخسره لو نطق كلمة واحدة و قال انه مريض؟ سيموت الآن و يتركهم ، هم بحاجة إليه أكثر مما هو بحاجة إليهم. كانوا أنانيين حين تركوه يشيخ أمامهم قبل الأوان، رأوه يشحب أمامهم يوما بعد يوم، شاهدوا الشكوى في عينيه ، أحسوا الألم في أنفاسه و لم يفعلوا شيئا. أرادوه أن يبقى هكذا صامتا يسمعهم. كان ما يزال شابا حين اتخذ ذلك القرار ، دفعه حماس الشباب إلى الحسم بصرامة في قرار كان يدور في رأسه بإلحاح مثل عصفور صغير. اتصل بأصدقائه و معارفه الأكثر قربا ، و جمعهم في اجتماع طارئ ليبلغهم بقراره، و اخبرهم بحزم و لغة صارمة : " قررت الصمت" ، و صمت . و كانت تلك آخر كلمتين نطقهما. منذ ذلك الزمن و هو لا يتكلم، يسمع فقط. يأتي أصدقاؤه لزيارته ، يتكلمون كثيرا حتى تجف حلوقهم و ينصرفون. مل أغلبهم من زيارته ، و بدأت زياراتهم تقل شيئا فشيئا، انقطع بعضهم نهائيا عن السؤال عنه ، و بعضهم بقي وفيا للصداقة ، ثم في النهاية بقوا أوفياء لتلك الزيارات المتكررة التي أصبحت عادة روتينية . بعضهم وجدها فرصة لتكسير الكتمان و أصبح يذهب لزيارته كلما كان بحاجة للاعتراف بخطأ ، أو لإفشاء سر من أسراره أو أسرار الآخرين. هو لا يتكلم ، و لا يمكن أن يفضح أحدا ، و لا أن يواجه أحدا بكلمات جارحة ، و لا أن يحاسبه على أخطائه ، و لا أن يرفض سماع أحد و هو يتكلم بجانبه. كان ذلك جسرا قادة لاكتشاف أسرار مهولة جعلت الشيب يظهر على شعره قبل . كان كلما سمع أحد أصدقائه يتكلم و يفشي كل تلك الأسرار و تلك الخفايا يحس ألما غريبا يرشق قلبه. كل هذا الحقد دفين بداخلهم و هو لم يره، لا يمكن أن يكون هؤلاء هم اصدقاؤه الذين أحبهم يوما و فرح معهم، لا يمكن أن يكونوا هكذا يطعنون بعضهم باستمرار في الخفاء، و يتكلمون عن بعضهم بهذا الشكل. أهذه هي الحياة؟ كل شيء فيها مزيف حتى الأصدقاء؟ لو كان يعرف هول ما تخفيه الحياة و راء بساطتها لكان اتخذ قرارا آخر غير الصمت. كان يسمع و يتألم ، و الجراح بداخله تتعفن من جراء الصمت. كان يتمنى أن يصرخ في وجههم: " اصمتوا". كانت الكلمة تتحرك بعنف في حلقه تدفع الحبال الصوتية بشدة و تتسلقها بحماس لتخرج إلى النور ، فيزم هو شفتيه بقوة ليمنعها من الخروج. لماذا يطلب منهم الصمت و قد جرب عذابه ، و جرب الألم الذي تسببه الكلمة حين تكبر في جوفه و لا تجد سبيلا للمغادرة. مازالت جراح ذلك اليوم نازفة بداخله ، حين جاءت تلك المرأة لزيارته . كانت قد مرت سنوات قليلة على اتخاذه قرار الصمت. زيارتها بعثت الندم بحرقة في قلبه ، كانت أول مرة يحس فيها بندم كبير على صمته. جاءت لتوقظ الحب بداخله بعدما كان قد طواه و أخفاه داخل درج صغير في قلبه . كانت مسافرة خارج البلد ، و عادت . سمعت الخبر من الأصدقاء: " انه صامت لا يتكلم. قرر ذلك القرار منذ زمن و نفذه دون تردد . هو الآن صامت بمحض إرادته." ، لم تصدق الخبر ، لقد عادت من أجله. كانت قد سافرت هربا من كل شيء، و عادت لتعترف أنها تحبه : " كنت أنانية حين رفضت حبك. لم أدرك آنذاك أنني بحاجة إليك ، كنت أحس حبك و أتهرب منه . أعترف الآن أنني كنت على خطأ ، و أعترف أنني أخطأت في حقك كثيرا. اليوم عدت إليك و أنا غير متأكدة إن كنت ستسامحني ، و إن كنت مازلت اعني لك شيئا. فاجئني ما سمعته من الأصدقاء عن الحياة التي أصبحت تعيشها لماذا اخترت الصمت؟ تكلم و إن كانت كلماتك غير ذات معنى ، و إن كانت لا تجدي شيئا ، و إن كانت سخيفة ، تكلم فقط ،فالكلمات إكسير الحياة . كل كلمة تغادر حلقنا تخلف و راءها لحظة أخرى سنحياها . تكلم ، قل انك تحبني ، قل انك تكرهني ، قل إنني ظلمتك ، حاكمني ، حاسبني ، اطردني من بيتك ، اشتمني و حقرني . قل إن هذه الحياة قذرة و قاسية ، قل إن هذا العالم كومة من الكذب ، و لكن لا تبقى هكذا صامتا . لقد عدت من أجلك ، و يجب أن تكلمني" أحس الكلمة تتحرك بداخله ، تزحف بهدوء و تداعب قلبه مثل ريشة صغيرة . أراد أن ينطقها و لكنها لم تصعد إلى الحلق. أراد أن يقول: " احبك" و خانته هذه الكلمة ، لم تتسلق الحنجرة لتصل إلى اللسان. بقيت في العمق . أحسها تكبر بهدوء و تتحول إلى كرة صغيرة وسط صدره. تنتفخ أكثر مثل بالون كبير ، و هو صامت ينصت إليها تتكلم أمامه . مازالت جميلة كما كانت ، ما زالت مفعمة بالحياة رغم عينيها الحزينتين. صبغت شعرها بالأسود و ازداد وجهها إشراقا. الكلمة تنتفخ أكثر فأكثر بداخله ، تكبر مثل جبل صخري . كيف أمكن لجسده النحيل أن يحتويها و هي بهذا الحجم. أصبحت عملاقة بداخله و مازالت تمارس تضخمها و تضغط على تنفسه حتى انفجرت بعنف مؤلم . أراد أن يصرخ متألما و كان حلقه مسدودا تماما. لم يقم بأي فعل غير الصمت و هو يراها تقف بهدوء و تنصرف من أمامه مودعة. قبل أن تفتح الباب و تغادر استدارت باتجاهه في آخر محاولة منها لاستجداء كلمة منه : " لم أعهدك هكذا جبانا ، تكلم. "لم يتكلم ، و غادرت تاركة إياه صامتا تمر عليه السنوات و هو يسمع اعترافات أصدقاءه ، و الألم يكبر بداخله و تزداد الجراح ، و الكلمات تتعفن في ذاكرته و داخل صدره. في غياب الأصدقاء كان يسمع الراديو و يشاهد التلفاز، و سنة بعد سنة كان يجد اللغة التي يسمعها تتغير، تظهر كلمات و تختفي كلمات . و كلما سمع كلمات جديدة يتمنى لو يجرب نطقها، و يظل يمرر الحروف في ذهنه بشغف و هو يتخيل كيف يمكن أن ينطقها : ( ا.ل.ع.و.ل.م.ة) ، ( ا.ل.ا.ن.ت .ر.ن.ي.ت) ، ( ا.ل.ا.و.ر.و ) ( ا.ل.و.ي.ب.س.ا.ي.ت) تدور الكلمات في ذهنه و هو يتساءل : " إذا أردت النطق فهل سأجيد الحديث بلغة جديدة علي؟" تغيرت عليه اللغة ، و حتى المفاهيم. ما كان يسمى " امبريالية" أصبح يسمى " شرعية دولية" و " مجتمعا دوليا" . ما كان يسمى " عدوا صهيونيا" أصبح يسمى "كيانا إسرائيليا". كل يوم يشغل التلفاز و يسمع نفس الكلمات تتكرر: العبوات الناسفة ، السيارات المفخخة ، الأحزمة الناسفة ، و الانفجارات و صور الجثث و الأشلاء و الدماء تملأ الشاشة ، و لكن كل هذه الوحشية و العنف و الموت لا يسمون حربا في هذه اللغة الجديدة ، لأن البشر أصبحوا يستعملون مفهوم الحرب للتعبير عن أمور أخرى مثل محاربة الفقر و محاربة الإرهاب. أيام كان مازال كائنا ناطقا ، لم يكن ينتبه الى أن اللغة مطواعة بهذا الشكل في يد البشر ، و لم يتصور يوما أنها ستتغير بهذه السرعة ، و تتخلى عن سلطتها و قسريتها . تغيرت عليه اللغة بسرعة و تركته جالسا فوق كرسيه لا يجيد غير اللغة التي تعلمها منذ زمن . لا يعرف الآن إن كان قد يستطيع من جديد استعمال هذه اللغة الجديدة و نطق كل هذه المفردات المستحدثة. و لكن الأمر الذي لا يعرفه هو أنه أصبح عاجزا عن الكلام . لم يعد صمته إراديا ، تكسحت الكلمات بداخله ، منها ما يبس و تفتت ، و منها ما تعفن من جراء عدم الحركة . اللغة كائن حي ، بقدر ما هي قادرة على التحول و التشكل و الاندماج ، فهي أيضا غير قادرة على الجمود و الترسب و الصمت و عدم الحركة. ماتت اللغة بداخله ، و تعفن جثمانها و بقاياها و هو جالس بغباء فوق كرسيه ينتظر فرصة مناسبة ليتراجع عن صمته و يجرب مثل طفل صغير نطق الكلمات الجديدة. إلى أن أصبح يوما و وجد نفسه غير قادر على مغادرة سريره ، لم يستطع الحركة ، كانت قواه خائرة و منهدة . مرت عليه خمسة أيام و هو عاجز فوق السرير. حتى جاء صديقاه لزيارته، نظر إليهما و أراد أن يتكلم: " أنجداني، إنني أموت " و لكنه لم ينطقها ، كانت عيناه فقط تستنجدان بالصديقين اللذين حملاه إلى المستشفى دون حتى أن يعلما بحجم الألم الذي يعيشه.
#الهام_ملهبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف
...
-
-الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال
...
-
-باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
-
فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
-
مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
-
إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر
...
-
مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز
...
-
الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
-
اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|