أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - وديع العبيدي - (حجيّة غُرْبَتْ)















المزيد.....

(حجيّة غُرْبَتْ)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2460 - 2008 / 11 / 9 - 07:17
المحور: سيرة ذاتية
    


هي الوحيدة، التي عرفتها بهذا الاسم، في سنّ لم أعِ فيها معناه. لكن ليس لسبب إسمها، كانت حجيّة (غُرْبَتْ) دالة مميّزة في الدائرة الاجتماعية لعائلتنا الكبيرة في مدينة (قرغان) القديمة. وانما لأنها هيَ (حجيّة غربة) نفسُها. في مجتمع ذلك الماضي لم تكن هي امرأة فحسب، بل كانت إنسانا، كائنا مستقلا بذاته، ولم تكن مفردة يتيمة في هذا الاتجاه، فقد عرفتُ عديدَ النساء عصرئذ ممن كانت احداهنّ دالة بذاتها ومرجعا للجماعة في أمور ومسائل حياتية شائكة.
إمرأة جادّة، ذات وجه باسم، قليلة الكلام، شديدة الاعتداد بنفسها من باب العُصاميّة وليس الغرور. لا تتأخر في معروف، ولا تتدخل في ما لا يعنيها.
ملفّعة بالسواد في عاشور لا نهائي. وشأن نساء ذلك الزمان لم تكن تكشف عن شعرها المصبوغ بالحنّاء، إلا حين تكون في وحدتها الرهبانيّة، فإذا توجّست خطى مقبلة تلفّعتْ بخرقة سوداء هي جزء من ثيابها المتشابهة اللون.
لم تتجاوز عقدها الرابع، ذات وجه دائري ممتلئ، عينان مضيئتان وخدّان دائريان يشكل بروزهما مع الذقن الدائري الممتلئ دالة غير قابلة للانزياح من الذاكرة. تتحدث لغة تركمانية طافحة بالدفء وغمرة المشاعر المذكرة بلكنة أرمنية مليئة بحيوية وصفاء.
أسترق النظر إلى شعرات زلفها الصفراء أو الحمراء المتمرّدة على فوطة الرأس وراء صدغيها، فأستشعر طمأنينية وألفة عالمِها المستوحش ذاك.
عالم يسودُه صمت وسكون، وتغلِّفه السرّية والغموض. أناس ذلك العالم كانوا ينتمون للصمت أكثر من الكلام، والوحدة أكثر من الاجتماع، والجدّية المفرَطة أكثر من المجاملة. أما المزاح وما يخرج عن الضرورات، فقد عرفته متأخرا، بعين لا تخلو من الاستهانة والنقدية والترفّع.
لقد تشكّلتْ ذاتي في تفاصيل ذلك العالم الأكثر انتماء لما أسمته الكاتبة العراقية لطفية الدليمي (عالم النساء الوحيدات) والرّجال الوحيدين. هناك وقعت بذور تشكّلي وفي شمسِها ترعرعت وكبرت، في قصة أشبه بقصص الحواديت والسوالف، وحين أستذكر، في غفلة الزمن، بعض تلك التفاصيل، فأنني أعود (أستعيد) ملامح عوالم طفولة بعيدة، يندر أن يجود بها زمان مرتين.
(حجيّة غُرْبِتْ) إمرأة وحيدة، أرملة، مات عنها زوجها في وقت مبكّر، فلم تخلع السواد من بعده، ولم تتكشّف لأحد. قرّرت أن لا تغادر بيتها الصغير إلا إلى قبرها. عندما ألحفت النساء عليها لتخرج من حزنها، قالت: لن أغادر بيت المرحوم ولا إلى الحجّ من بعد فلان (زوجها). فسرَت جملتها تلك بين السكان، فقال رجالات المدينة: لقد حجّت هذه المرأة في بيتها، ومن يومها صارَ إسمها (حجيّة) التي تعني (حاجّة)، أما (غربة) فلا أدري أكان ذلك إسما أم صفة التصقت بها مثلَ إسمها الأول، إسوة بغربة ابراهيم، أيها الأول.
ولأنها كانت عزيزة في قومها وعند زوجها، فقد رفضت قبول مساعدة أو صدقة من مخلوق. وحين عسرت الظروف، وضاقت ذات اليد، صارت السيدة تقوم بطبخ (الباقلاء) في منزلها الصغير وباستخدام (البريمز) في قزان كبير ممتلئ بالماء، دون أن تغادر المنزل، فكانت العوائل تقصدها لابتياع الباقلاء المطبوخة بسعر زهيد. ولكن أحداً، لم يخطر له يومئذ، أن يغير إسمها أو كنيتها إلى (أم الباقلاء) كما يحدث في حالات تتحول صفة المهنة كنية على الشخص. وكان في المدينة شخص آخر كلّ مورد رزقه من بيع الباقلاء أو الحمص أو الشلغم صيفا وشتاء، في عربة يدفعها أمامه في السوق، وبين أزقة المدينة، لكن أسمه (كريم) لم يتحول (إلى كريم أبو الباجلا أو أبو الحمص أو أبو الشلغم). كان العمل مضمونا وإسلوبا يحظى باحترام وقدسيّة اجتماعيّة لارتباطه بالرزق والمعيشة، دون أن تنفصل عن منظومة القيم الاجتماعية التي وظيفتها الارتقاء بالكائن الانساني وتوثيق عرى المجتمع وانسجامه مع نفسه.
وفي صبحيّات الجمعة، حيث تبقى العائلة في البيت ذلك اليوم، ويستطيع البعض التأخر في النوم، كنت معتادا النهوض المبكر دون بقية أفراد العائلة. وكانت الوالدة تصحو باكرا وتدخل في دوّامة يومها الروتينية.. يومها تضع في يدي صحنا كبيراً وكيسا مليئا بخبز يابس مما تجمّع خلال الأيام الفائتة ، وفي جيب قميصي (عشرة فلوس)، عندها أعرف أن عليّ التوجه إلى بيت الحجيّة غُرْبَةْ لتنقيع الخبز وشراء فطور (الباجلا).
كان بيت (حجية غربة) في طرف الوادي القريب من محل صيانة القاطرات وتحت خزان الماء، قريب من بيت (شكر أوتجي) صاحب المكوى الأول والوحيد في المدينة يومذاك.
رائحة فوران الباقلاء تفوح في الدّربونة عبر فتحة الباب الخشبية.. أطرق الباب مرّة ومرّتين.. ثم أدفعها ببطء وأمدّ عنقي للداخل، فأجدها جالسة أمام القزان، تلتفت إليّ وتحييني ابتسامتها الدافئة بالحزن.. وقبل أن أنبس بشيء تمدّ ذراعها نحوي وتأخذ كيس الخبز ثم تلقمه القزان الفائر وتعيد الغطاء عليه.. تأخذ الصحن وتضعه على الأرض جنب البريمز، أمدّ يدي وأضع (العشرة فلوس) في راحة يدها الصغيرة المليئة بالغضون العميقة، فتدسّها في جيب سترتها القديفة السوداء دون أن تنظر فيها، ثم تسألني عن أمي وتمتدحها كالعادة مستذكرة (أيام زمان). كنت يومها خجولا قليل الكلام، ولكن محبوبا من الجميع، فتسألني عن المدرسة وعن جدّي وشقيقتي، وهل والدي هنا أم في مكان عمله البعيد. تدور الدقائق والخبز يغلي في قزان الباقلاء، حتى يطفح على حافات القزان حينها ترفع الغطاء شيئا فشيئا، وتتناول (الجفجير) مقلّبة الخبز داخل القزان وتعيد الغطاء.
كانت تلك اللحظات المتكرّرة في صبحيّات الجمعة فرصتي الجميلة لاقتسام الحجيّة غربتْ وحدتَها الدافئة وأجاديثها القليلة وصمتها العميق.
يغلي القزان مرة أخرى، وتبدأ في وضع الخبز في الصحن وتصبّ فوقه الباقلاء بكميات تجعله يتدحرج من فوق الخبز. فأرجوها أن تكفّ عن ذلك.
عندما يصادف أن كمية الخبز المرسَلة إليها قليلة، وهي تعرف حجم العائلة، تضيف خبزا من عندها في القزان، وياما تكرر ذلك. تضع غطاء على الصحن ثم تلفّه بإحكام بقطعة القماش أو (البشكير/ الخاولي) وتضعه فوق يديّ وترافقني لتفتح لي الباب وهو تودعني وتحمّلني بالتحيات والأمنيات والأدعية. في البيت تقوم الوالدة بغلي الزيت وترشه على الخبز، ثم تضيف إليه (البُطنج) أو البيض المقلي بالزيت عند توفره، وهو يومئذ من البيض الحرّ، فلم يكن بيض الدواجن ودجاج الدواجن قد دخل الحياة العراقية.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى وسام هاشم
- الانتخابات العراقية.. أكبر صفعة لآلام العراقيين (لكي لا يُلد ...
- منفيون(14)
- مقامة نَسِيَها الواسطي
- منفيون(12)
- منفيون من جنة الشيطان
- منفيون(11)
- منفيون(10)
- منفيون(9)
- منفيون(8)
- منفيون..(6)
- منفيون.. (5)
- منفيون (4)
- (4)منفيون
- منفيون..(3)
- منفيون..(2)
- منفيّون..(1)
- الشاعر والعالم/ راهنية الشعر العراقي
- هادي العلوي و عصرنة (المشاعية)-
- الشخص الثالث في الملحمة


المزيد.....




- فضيحة مدوية تحرج برلين.. خرق أمني أتاح الوصول إلى معلومات سر ...
- هل تحظى السعودية بصفقتها الدفاعية دون تطبيع إسرائيلي؟ مسؤول ...
- قد يحضره 1.5 مليون شخص.. حفل مجاني لماداونا يحظى باهتمام واس ...
- القضاء المغربي يصدر أحكاما في قضية الخليجيين المتورطين في وف ...
- خبير بريطاني: زيلينسكي استدعى هيئة الأركان الأوكرانية بشكل ع ...
- نائب مصري يوضح تصريحاته بخصوص علاقة -اتحاد قبائل سيناء- بالق ...
- فضيحة مدوية تحرج برلين.. خرق أمني أتاح الوصول إلى معلومات سر ...
- تظاهر آلاف الإسرائيليين في تل أبيب مطالبين نتنياهو بقبول اتف ...
- -فايننشال تايمز-: ولاية ترامب الثانية ستنهي الهيمنة الغربية ...
- مصر.. مستشار السيسي يعلق على موضوع تأجير المستشفيات الحكومية ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - وديع العبيدي - (حجيّة غُرْبَتْ)