أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - حين يكتب رجل الدين قصائد الغزل!















المزيد.....

حين يكتب رجل الدين قصائد الغزل!


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 2440 - 2008 / 10 / 20 - 08:19
المحور: الادب والفن
    


فجأة تحوّل السيد مصطفى جمال الدين إلى كتلة من الانفعال.. فلم يكن يتحدث بلسانه ويديه وعينيه وحسب، بل بقلبه وكلّ كيانه، وذلك عندما بدأ ينشد قصائد الغزل.
في ديوان الكوفة بلندن، التأمت في أوائل التسعينيات أمسية أدبية، وبدا ذلك الوجه السمح متعباً قليلاً، حزيناً كثيراً، لكنه تغيّر إلى حضور مشرق ومتألق حين اختار قصائد غزل وحب، كانت الأقرب إلى نفسه، بعد ذلك قرأ علينا قصيدة «يقظان» بتأثر كبير. وملخصها أن الشاعر كان قد ترك ابنته في العراق يوم مغادرته في أواخر السبعينيات، وكانت حينها طالبة ثم أكملت دراستها الجامعية وتزوجت وحملت، لكن أحداث حرب الخليج المروّعة داهمتها كما داهمت العراقيين والكويتيين، وتبعها تدمير العراق واستمرار فرض الحصار عليه وتكبيله بقرارات مجحفة ومذلة.

وسرعان ما اندلعت هبّة شعبية أغرقتها القوات الحكومية بالدم، فاضطرت ابنة الشاعر إلى مغادرة العراق، ومعها ثلاثة وستون من أهلها إلى منطقة الأهوار ثم إلى الجزيرة، فصحراء نجد، وهناك جاءها المخاض حيث وضعت وليدها البكر، وأطلقت عليه اسم يقظان لأنه من صفات الذئب، وليذكّرها أنها ولدت في الصحراء في تلك الرحلة العجيبة.
نبئوني يا من بـ «رفحاء» باتــوا
كيف يغفو بليلها اليقظان
كيف هزّت عواصف الرمل مهداً
ضجرت من بكائه الأوطان
ضاق فيه حضن الفراتين ذرعـاً
فتلقّته هذه الكثبان

اندهش بعض حضور تلك الأمسية: كيف أجرؤ على أن أطلب من «السيد» و»رجل الدين» قراءة قصائد غزل بعد أن كانوا ينتظرون ما يشفي غليلهم، خصوصاً تعقيد أوضاعهم السياسية وظروف المنافي الجديدة، ولأن الشاعر لا يكتب تقريراً سياسياً ولا يعلن بياناً، فقد انفرجت أسارير «السيد» وعالج الموقف بدهائه المعهود، خصوصاً وهو يدرك مدى «الرتابة» لجمهور ليس كله معنيّاً بالشعر والأدب، لكن حضوره لاعتبارات أخرى، وبعد قراءة نماذج من شعره، انتقل إلى قصائد الغزل، تلك التي نشرها في ديوان «عيناك واللحن القديم»، وبالمناسبة، فإن هذا الديوان احتوى على اثنتي عشرة قصيدة، ونشرته وزارة الثقافة والإعلام في بغداد عام 1972، وتصدرته قصيدة «بغداد» التي اشتهرت كثيراً ويقول فيها:

بغداد ما اشتبكت عليك الأعصرُ
إلاّ ذوت ووريق عمرك أخضرُ
مرّت بك الدنيا وصبحك مشمس
ودجت عليك ووجه ليلك مقمر
وقست عليك الحادثات فراعها
أن احتمالك في أذاها أكبــر
وحينما عالج السيد الموقف، بدأ يقرأ قصائد الغزل فقال: «نكحلها أبو ياسر.. شوية وطنيات.. وشوية غزل»، وهنا بدأ جو القاعة بالتغيّر، وانزاح الطابع الرسمي المتوتر الذي غالباً ما يطبع علاقة المتحدث أو المحاضر بجمهوره، فكثير من الحاضرين لا يعرفون آراء جمال الدين، والأكثر منهم لم يقرؤوا أشعاره، ولم يتعرفوا عليه سوى كونه يعتمر العمامة وينتسب إلى «الحوزة العلمية»، وكان يعمل أستاذاً جامعياً.
لم تكن سوى القلة القليلة جداً التي تدرك أن وراء هذه القامة الفارعة الباسقة كنخلة عراقية شامخة، قصائد غزل وآراء في الحب وشعراً رقيقاً وحواراً مع الذات والآخر على نحو إنساني جميل.
في استعادة تلك الواقعة توقفنا مرة في لندن في شارع «Edgware Road»، وكان المطر يهطل علينا رقيقا، شفيفاً.. وهو يتحدث عن آرائه في الحب وقصائد الغزل التي كتبها في فترات مختلفة، ولفت انتباهي إلى قصائده في أواسط الستينيات، إذ كان يعيش فترة «حلم حقيقي» على حد تعبيره! ومع قصائد الحب، كانت النجف تشاركنا ذلك الحضور الأنيس، حيث كان شذاها يملأ الأجواء، وتفوح رائحتها باستعادة الأمكنة والذكريات البعيدة، وهو ما استعدناه في دمشق في نوفمبر1993، إذ كان يقود سيارته، فقد اصطحبنا لرؤية بيته الجديد في «قرية الأسد العصرية» في ضواحي دمشق، ثم قصدنا المصايف السورية الشهيرة في الزبداني وبلودان، واستمعنا في السيارة إلى تسجيل صوتي لتلك الأمسية الأدبية المتميزة التي نظّمها غاليري الكوفة، وما زالت بحوزتي نسخة منه أهداني إياها الشاعر.
في بيتنا في لندن استعدنا أيضاً «رملة النجف»، ووقائع وأحداث الرابطة الأدبية، وذلك بحضور السيد محمد بحر العلوم الذي كانت تربطه بالشاعر صحبة مميزة وصداقة عميقة وذكريات طرية.
كنت أرى في قصائد الغزل التي نظمها وكذلك في بعض «إخوانياته» الأكثر جمالاً ورقة، وحسب معرفتي المتواضعة، فإنها كانت الأكثر قرباً إلى قلبه، رغم أنه لم ينشر جميع القصائد الإخوانية التي حفلت بها المناسبات النجفية وغير النجفية، تلك التي كنّا نسمعها منه في النجف، وفيما بعد في بغداد، وكان يرددها صديقا العائلة طيّبا الذكر المرحومان صادق القاموسي وعبدالغني الخليلي، بما فيها بعض قصائد الغزل التي نشرها في ديوان «عيناك واللحن القديم».
لم أكن متيقناً أن أجد بعد زمن قصير ما كان «السيد» عازماً على إبرازه في أحاديثه المتنوعة، وقد احتواه «الديوان»! هل كان الحديث حافزاً؟ هل هو حديث العمر وعصارة التجربة؟ هل شعر «الطائر الغريد» أن «الذئب» بدأ يترصده «على حد تعبير الجواهري الذي اجتمعنا أكثر من مرّة في حضرته وحضرة الشعر في الثمانينيات الدمشقية»؟ هل حدس جمال الدين أن استحقاق الزمن لا مردّ له، وأن الرحيل قد أزف، فسارع لتدوين سيرته الشعرية العذبة، وحياته المتنوعة، ومسيرة الشقاء والكدح والعوز، وبخاصة في سنوات الأربعينيات والخمسينيات وتقديمها في نوع من المتعة والشفافية، خصوصاً باكتساب المعرفة والغنى الثقافي والروحي؟
«الديوان» بقدر ما يتناول السيرة الذاتية والشعرية لجمال الدين، فإنه يتحدث عن الطفولة والنشأة، هكذا يغدو الطفل «رجلاً» مرة واحدة، فابن الأحد عشر عاماً، وهو ينتقل من قرية «المؤمنين» إلى أطراف «ريف» قضاء سوق الشيوخ، ومن ريفه حيث تتربع قريته الصغيرة على ضفتي نهر «الحميدي» حيث ولد الشاعر في عام 1927، إلى النجف حيث التكوين والنضج والروافد الأدبية والروحية، مرة أخرى، المكان شديد الحضور وقوي منذ البداية وحتى النهاية في رحلة حياة الشاعر الخصبة.
وإذا كانت القرية نقطة تماس بين سكان سوق الشيوخ في لواء الناصرية «محافظة ذي قار» فقد كان ذلك على نحو محدود بين القرويين والفلاحين وبعض التجار والكسبة، ومن جهة أخرى، كانت الأسرة تشكل «مرجعية دينية» لأبناء الريف القريب والمحاذي حيث كان جد الشاعر «السيد ميرزا عناية الله جمال الدين» من آل حِسَن قد أقام علاقات عبر بعض ممثليه أو من تتلمذوا على يديه.
ثم ينتقل الشاعر إلى النجف، حيث نقطة التماس الكبرى في حياته، ويظهر عليه تأثير المكان كبير ومؤثر، فالنجف بحد ذاتها مدينة مفتوحة وإن بدت «منغلقة» أو «مغلقة»، إنها مدينة الوافدين، ففيها إضافة إلى العرب -وهم أكثرية السكان من أبناء العشائر والعائلات الدينية الكبيرة والوجهاء- فيها الإيراني والتركي والهندي والأفغاني والتبتي، إضافة إلى السوري واللبناني والإحسائي والقطيفي والبحريني والخليجي عموماً، النجف مدينة أممية تتلاقى فيها أمم وشعوب وحضارات وثقافات وذلك بحكم الحوزة العلمية وجامعتها الشهيرة التي مضى على تأسيسها ألف عام، ومرقد الإمام علي والمركز الفكري والثقافي الإسلامي العريق.
يقول الشاعر في علاقته بالمكان، حين يتحدث عن «صاحبنا» في الديوان، وهو كناية عن نفسه: «عاش في كنف جده طفولته الغضه، حتى إذا قويت النبتة ساقها، وتمكنت في التربة جذورها، اختار لها أهلها حقلاً آخر أقرب إلى طبيعتها، وليس غير النجف يومئذ، مزدرع يمكن لمثلها أن تنمو فيه وتعطي ثمارها في ظلاله». هكذا تتداخل الصور في ذهنه، وتتوالى المشاهد. فقد ترك الشاعر المدرسة الحكومية في القرية عام 1938، وهو في الصف الرابع الابتدائي، لينتقل إلى المدرسة الدينية في «جامع الهندي» في المدينة الأممية الجديدة والمفتوحة للزوار والوافدين، وهو طفل صغير، وبدلاً من قضاء الوقت مع الأطفال في اللعب، كان الطفل يستظهر «متن الأجرومية» ويطوي تحت عباءته الخفيفة «قطر الندى» لابن هشام وهو يتطلع بلهفة إلى «عالم الرجال» حيث يطمح إلى حفظ «رجز الألفية» لمحمد بن مالك.
وفي عنوان فرعي «النجف منبتنا الحقيقي»، يعود الشاعر بعد حوالي ستة عقود ليؤكد هذه الحقيقة، فتشعر وكأن الديوان كان مكرساً لتخليد المكان، للنجف وخدّ العذراء كما تكنّى أحياناً، للغري و»المشهد»، لعالمها الروحي وحياتها الثقافية الأدبية ومناسباتها التاريخية وغير التاريخية.
عندما يذكر الشاعر النجف، فهو يراهن على شفاء روحه ويحاول تطهير النفس والأجواء مما علق بها. استذكرنا «شط الكوفة» والنخل العراقي وخبز التنور والرطب البرحي ذا المسحة الذهبية، تلك القضايا الصغيرة التي تعطي نكهة للمكان، ولعل كل منّا كان يتخيّل أنه يمدد قدميه وربما جسده المتعب على ضفاف الفرات العظيم وتحت تلك «التكية» (شجرة التوت) التي نعرفها قرب «قصر الملك» في الكوفة، بعد زيارات لجامعها الشهير وضريح مسلم بن عقيل!
والأكثر من ذلك أن تلك الذكريات التي تعصف بالشاعر تزداد قرباً منه كلما ابتعد عنها.. وكلما عشنا الأيام التوالي ببلادتها وخوائها ولاعفويتها، كلما كانت الأجواء الثقيلة هي المخيمة، في موجة ضبابية ملتبسة.
يقول الروائي حليم بركات في روايته الرائعة «طائر الحوم»: «إن شجرة الصفصاف تنحني نحو جذورها كلما تقدمت بالعمر»، ذلك ما يفسر الحنين إلى الطفولة.. إلى الأمكنة الأولى، لدرجة تصبح ملحّة أكثر من أي وقت مضى، بحيث تطغى على ما عداها.




#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثرثرة الديمقراطية
- كيسنجر وموعد الانسحاب من العراق!
- هل جاء دور أوكرانيا بعد جورجيا؟
- انها الرأسمالية.. يا صديقي
- هل ثمة يوم للديمقراطية؟!
- ما بعد الصهيونية
- الحرب من الداخل والبرنامج السري!
- الأبعاد الأخلاقية في حقوق اللاجئين!
- النووي الصالح والنووي الطالح
- أربعة خيارات في حل مسألة كركوك!
- الحُصيري: الشعر والتمرد الدائم!!
- بين الواقعية السياسية والاستهلاك الشعبي
- التحدي الإيراني بين المناورة والمغامرة
- حالة تسامح!!
- آثار العراق ذاكرة العالم
- محاكمة كراديتش.. «شيطان الشعر» أم لوثة التلذذ بالدم؟
- القنبلة النووية الباكستانية والإرهاب!
- الدب الروسي والمشاغب الجورجي
- روسيا واللحظة الجورجية
- من إرهاصات ربيع براغ!


المزيد.....




- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - حين يكتب رجل الدين قصائد الغزل!