أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف الاول من آيار 2008 - أفاق الماركسية واليسار ودور الطبقة العاملة في عهد العولمة - سعد محمد رحيم - ماركس الحالم.. ماركس العالم















المزيد.....



ماركس الحالم.. ماركس العالم


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 2268 - 2008 / 5 / 1 - 11:04
المحور: ملف الاول من آيار 2008 - أفاق الماركسية واليسار ودور الطبقة العاملة في عهد العولمة
    


رأى كارل ماركس في الإيديولوجيا عقيدة مضللة، مخادعة مهمتها حجب الواقع ببشاعته وصراعاته وتناقضاته عن نظر الناس، لا سيما الطبقات المضطهدة ( بفتح الطاء ). أو هي وعي زائف، يصدر عن عالم زائف، وبذا هي أداة من أدوات الطبقات المهيمنة والسلطات الحاكمة لإدامة هيمنتها وحكمها. وأخطر تلك الإيديولوجيات هي التي يجري إضفاء طابع القداسة عليها، كما لو أنها رسالة قوة علوية، مفارقة، جبارة تخدِّر النفوس والعقول، وتزرع القناعة بأن ما هو واقع هو في الوقت نفسه حقيقي ومعقول، ومقدّر، لا محيد عنه. ولكن؛ أليس في فكر ماركس ذاته عوالق إيديولوجية، وأحلام هي وليدة الجانب العاطفي الانفعالي من شخصيته، ولا سيما في المرحلة المبكرة من حياته السياسية والفكرية.. عوالق إيديولوجية وأحلام لا يمكننا مطلقاً إثباتها بالتحليل العلمي المستند إلى معطيات واقع تاريخي عياني؟.
حاول المفكرون البرجوازيون النيل من علمية الماركسية بجريرة استطالاتها الإيديولوجية على يد كثر من المتمركسين الدوغمائيين. وها هو ريمون رويه في كتابه ( الممارسة الإيديولوجية ) والذي يصف الإيديولوجيا ( العقائدية ) بأنها ؛ " نظرية، مزورة، مبسطة، غير متحققة، منظومة تأويل يتكئ أصحابها عليها بصورة اعتقادية كيما يطلقوا أحكامهم على المجتمع، وعلى الحياة الإنسانية" يضع الماركسيين إلى جانب العرقيين وعلماء التحليل النفسي ( كذا ) عادّاً إياهم ( جميعهم) عقائديين "يعتنقون تعريفاً مشوهاً بجرأة عن العلم، لا على اعتبار العلم طريقة تجريبية مشفوعة بالتحقيق، بل على أنه قراءة مسلحة تُرجع ( الجلي ) الظاهر، إلى ( الكامن ) وتعتبر الكامن وحده هو الواقع".
يضع التوسير العام 1845 فاصلاً حاداً بين ماركس الشاب/ الإيديولوجي الحالم، وماركس الناضج الذي بات يتخلى عن النزعة الإنسانية ذات الطابع البرجوازي الطوباوي، ويضع أسس (المادية التاريخية ) بعدِّها علماً يرتكز على جهاز مفاهيمي مبتكر انتقل معه إلى إشكالية علمية جديدة. ويستند ذلك الجهاز إلى مصطلحات من قبيل ( أسلوب الإنتاج، قوى الإنتاج، علاقات الإنتاج، البنية التحتية، البنية الفوقية، الصراع الطبقي، الخ ). وعلى وفق هذا المنظور فرّق التوسير بين مثالية النزعة الإنسانية التي لا يمكنها أن تتوافق مع أطروحة الاشتراكية، وبين الاشتراكية التي هي مفهوم علمي. فالنزعة الإنسانية ذات محتوى أخلاقي مثالي "تؤسس التاريخ والسياسة على ماهية الإنسان". وتستعير مصطلحات من قبيل الاستلاب، والنزعة أو الغائية التاريخية، وتفشل في التعرف على الواقع التاريخي، بل إنها تموهه فيما الأمر يتطلب طرح المشاكل وتسميتها بأسماء علمية. وهنا يتحدث التوسير عن نزعة لا إنسانية، نظرية ( علمية ) عند ماركس.. يقول:
" إن النزعة اللاإنسانية النظرية عند ماركس تعني إذن، رفض تفسير التشكيلات الاجتماعية وتاريخها، تأسيساً على مفهوم عن الإنسان له ادعاءات نظرية ( = علمية )؛ أي الإنسان كذات مالكة لرغباتها، ولأفكارها، ولأفعالها ونضالاتها".
فكانت القطيعة التي أسس لها ماركس هي مع النزعة الإنسانية المثالية. هذه القطيعة، ويا للمفارقة، جعلته لا ينطلق بحسب ( التوسير ) من الإنسان، من أجل أن يصل إلى البشر الواقعيين.وكان التوسير قد استنجد بمفاهيم ومناهج البنيوية والابستمولوجيا كي يعود بنا إلى ماركس ويزيل عنه ما علق به من بقايا الفلسفة المثالية ( الألمانية )، فالتاريخ كما يؤكد، ليس له ذات بل محرك هو الصراع الطبقي، وأن التشكيلات الاجتماعية وتكوين معرفة ( علمية ) عنها لا تتحدد بالطبيعة الإنسانية، وإنما هي "علاقة؛ علاقة الإنتاج التي تشكل وحدة مع البنية التحتية".
فالنزعة الإنسانية هي أداة بيد البرجوازية لحجب الجوهر الاستغلالي للنظام الرأسمالي، وإخفاء ضراوة الصراع الطبقي الذي تتلخص به حركة التاريخ كما جاء في ديباجة ( البيان الشيوعي ). وقد تفانى التوسير "في بناء تصور خاص عن ( العلم الماركسي ) الذي لا تعرف كنهه وأسراره إلا تلك الفئة المتخصصة، المتنورة، المالكة للحقيقة، والمؤهلة وحدها للممارسة النظرية، والعارفة الخبيرة بالحدود بين العلم والإيديولوجيا".
ارتأى التوسير قراءة كتاب ( رأس المال ) من وجهة النظر الفلسفية، وتبيان مكانته في تاريخ المعرفة، فأخضع قراءته لمنهجية علمية صارمة تستعير، كما قلنا، من البنيوية والابستمولوجيا كثراً من مفاهيمها. ومنطلقاً من فرضية أن الماركسية تنطوي على نزعة مضادة للإنسان والتاريخ، مثلما قالت البنيوية. فماركس لم يبدأ من الذات الإنسانية وإنما من البنية الاجتماعية، فالتاريخ لن يكون نتاجاً لفعل الإنسان وإرادته، بل هو حصيلة تفاعل قوى وبنيات محددة. إي أن حركته موضوعية، مستقلة عن إرادة البشر، وحتمية في مسارها.
من حقنا أن نفرّق بين ماركس المستغرق في الرؤية التاريخية، وماركس المهووس بالرؤيا.. بين ماركس ( العالم الاقتصادي والمنظّر الذي يدرس ويفسّر الواقع والتاريخ ليكشف عن حركتهما الداخلية وقوانينهما ) وماركس الحالم بمجتمع ( من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته ). ولكن بين ماركس العالم/ دارس الواقع، وبين ماركس الحالم/ النبوئي خيط رابط. وعموماً تعرّض ماركس النبوئي للتسفيه، من قبل منتقديه، أكثر مما تعرض له ماركس الناقد للمجتمع الرأسمالي، والعالم المحلل الذي وضع نظرية في الاقتصاد السياسي. ولكن، في نهاية المطاف، ليس من الصواب إدانة ماركس الإيديولوجي الحالم لمصلحة ماركس العالم، ورفض الأول كلياً والاحتفاء بالثاني كما لو أننا أمام كائنين مختلفين مثلما فعل التوسير. ولقد احتفظ ماركس العالم بقدر متوازن من ماركس الإيديولوجي، فيما كان ماركس الإيديولوجي المتحمس يرهص لماركس العالم.. لأن شيئاً من الإيديولوجيا ضروري وإلاّ وقعنا في فخ العلموية، وفي فخ القراءة المجردة للواقع الحي.
وأظن أن لا أحد متحرر تماماً من سطوة الإيديولوجيا. صحيح أن الإفراط في الإيديولوجيا قاد دوماً إلى التخبط والفشل في التعاطي مع متغيرات العالم حيث نكّلت التجربة بالتنظير، وسخرت منه، بيد أن التبجح العلمي غيّب بعداً مهماً من أبعاد الوجود الإنساني، ذلك الذي يتعلق بالحلم بعالم أفضل.. بالهدف الذي نرتئيه، والذي لا يخضع كلياً للحسابات العقلانية المجردة.. هدف عالم أفضل ذلك الذي يقع في خانة الممكن التاريخي، حتى وإن لم يتم البرهنة عليه بدقة.
في كل عقل مكوّن إيديولوجي. ولا شك أن أية رؤية للواقع الإنساني والاجتماعي لن يتخلص تماماً من تداعيات الإيديولوجيا، فلكل إنسان، مفكراً كان أو غير مفكر، له منظومته القيمية ورأسماله الرمزي وتحيزاته ورؤيته الخاصة. وعلينا أن نفرّق بين إيديولوجيا مدعومة بالنظر العلمي والتجربة الحية، تصحح منطلقاتها وعناصرها ومحتواها في ضوء الممارسة، وبين إيديولوجيا جامدة تتجلبب بالأوهام، وتوحي بهالة قدسية زائفة وتخطّئ معطيات التجربة العلمية والعملية لصالح الأفكار المسبقة.
الاستغراق بالحلم وحده مؤذٍ، غير أن التنصل منه يحيلنا إلى جزء من الطبيعة الصماء ليس إلاّ.. إن الجزء الإيديولوجي من وعينا لابد أن يحفز ملكتنا العلمية، بشرط أن تقبل الإيديولوجيا هذه بنتائج النظر العلمي مهما كانت. وأن تكون مرنة وقابلة للتغير والتطور في ضوء تلك النتائج.
ارتكزت الفلسفة الماركسية على مبدأ وحدة النظرية والممارسة، وعلى أولوية المادة على الفكر، حيث للمادة وجودها الموضوعي المستقل عن الفكر، وحيث الفكر قادر على معرفة الحقيقة الموضوعية ووعيها. وفي مقدمته لكتاب ( رأس المال ) يقول ماركس؛ "لا يختلف منهجي الجدلي في الأساس عن منهج هيجل فقط، بل هو نقيضه تماما. إذ يعتقد هيجل أن حركة الفكر التي يجسدها باسم الفكرة هي مبدعة الواقع الذي ليس هو سوى الصورة الظاهرية للفكرة. أما أنا فاعتقد. على العكس، أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت إلى ذهن الإنسان".
تبجح كثر من الماركسيين بأن الماركسية هي النظرية العلمية الوحيدة في العالم، وها هم مؤلفو كتاب ( أصول الفلسفة الماركسية ) يقولون:
"كما أن الفلسفة الماركسية نظرة علمية للعالم، وهي النظرة الوحيدة العلمية أي التي تتفق وتعاليم العلوم. فما هي هذه التعاليم؟ تعلمنا العلوم أن الكون حقيقة مادية، وأن الإنسان ليس غريبا على هذه الحقيقة، وأنه يمكنه معرفتها، ومن ثم تغييرها كما تدل على ذلك النتائج العملية التي توصلت إليها مختلف العلوم".
بالمقابل نجد مفكراً عراقياً معاصراً هو الدكتور فالح عبد الجبار يلخص تعريفه للنظرية الماركسية بالقول أنها "نظرية تحليل النظام الرأسمالي ونقده، ونظرية البحث عن الإمكانات التاريخية لنقد وتجاوز الرأسمالية". ويرى أن هذا التحليل انحصر موضوعياً في أوربا الغربية، وكرس مادة أبحاثه للفترة من القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر... "ومهمة نقد الرأسمالية وتحليل أشكالها المتطورة، المتحولة باستمرار، والبحث عن سبل تجاوزها مهمة راهنة، وهي أساس استمرار الماركسية ما بعد ماركس". وهذا ما راهنت وتراهن عليه الماركسية بعد رحيل ماركس.
كان الميدان الذي كرس له ماركس جلّ وقته وجهده الفكري هو ميدان المجتمع والاقتصاد السياسي. وعندئذ لم ينطلق من مسلمات إيديولوجية مسبقة، بل خاض معاناة قراءة الواقع ( الرأسمالي ) ليكتشف أن "العلاقة بين رأس المال والعمل هي المحور الذي يرتكز عليه كامل نظامنا الراهن" وأن "العمل هو مصدر كل أنواع الثروات ومقياس كل القيم.. إن قيمة أي سلعة تقاس بالعمل اللازم لإنتاجها". وأن الرأسمالي يسطو على القيمة الزائدة التي ينتجها العامل بالعمل الزائد، الأعلى والأكثر من الوقت الضروري للتعويض عن الأجر. وكل القيمة الزائدة، مهما كانت الطريقة التي تتوزع بها كربح رأسمالي، أو ريع عقاري أو ضريبة.. الخ هي عمل غير مدفوع الأجر كما يلخصه أنجلس.. وبحسب ماركس فإن القيمة الزائدة ليست من اختراع المرحلة الرأسمالية؛ "فحيثما يكون هناك جزء من المجتمع مهيمناً هيمنة مطلقة على استثمار وسائل الإنتاج، فإن الشغيل عبداً كان أو قناً أو حراً مرغم على أن يؤدي ( إلى جانب العمل الضروري لبقائه الخاص ) عملاً زائداً بغية إنتاج وسائل البقاء لمالك وسائل الإنتاج سواءً كان هذا المالك أرستقراطياً أثينياً أو ثيوقراطياً ايتروسكياً، أو سيداً رومانياً، أو باروناً نورماندياً، أو مالك عبيد أمريكي، أو نبيلاً من والاشيا، أو ملاك أراضٍ معاصراً، أو رأسمالياً".
* * *
كان القرن التاسع عشر قرن الحلم أيضاً، إلى جانب كونه قرن الثورة الصناعية وتبلور الطبقة العاملة وثوراتها المتواترة. كانت النزعة السائدة ( لا تلتفت وراءك ) هي الصدى للشعار البرجوازي الكاسح ( دعه يعمل.. دعه يمر ) فالثورة الصناعية، مع الثورة الاجتماعية التي رافقتها، وفلسفة الثورة نفسها تغوي بالنظر إلى الأمام.. كانت المغامرة الغربية تمضي بلا هوادة نحو الثراء بمعناه المركب..كانت الحداثة مدفوعة بماكنة ( القطيعة والزحزحة ) حتى وإن لم تكن مثل هذه المصطلحات قيد التداول بعد.. يقول جاك ديريدا؛
"لا تستطيع الثورة الاجتماعية في القرن التاسع عشر أن تستخلص شعرها من الماضي، ولكنها تستطيع ذلك من المستقبل فقط. وإنها لا تستطيع أن تبدأ مهمتها الخاصة قبل أن تكون نفسها قد تخلصت من كل خرافة إزاء الماضي. فثورات الماضي كانت تحتاج إلى ذكريات تاريخية لكي تخفي عن نفسها مضامينها الخاصة، ويجب على الثورة في القرن التاسع عشر أن تترك الموتى يدفنون أمواتهم لكي تحقق شيئها الخاص، لكي تحقق مضمونها الخاص مجدداً". غير أن ماركس كان يدرك مدى ومغزى سلطة الماضي على الحاضر والمستقبل؛ ثقل التاريخ إن شئت.. المخزون الضاغط على الذاكرة.. الماضي الذي يتسلل إلى الحاضر والمستقبل ليلونهما بلونه، بهذا القدر أو ذاك، ولكن أبداً من خلال البشر صنّاع التاريخ، حتى وهم يتوجهون إلى المستقبل، ويحاولون النسيان أو التنكر لما خلّفوه وراءهم، فمثلما يقول ماركس؛
"فإن تقاليد جميع الأجيال الميتة تثقل بعبء باهظ دماغ الأحياء، وحتى حينما يبدو البشر منهمكين في التحول والتطور، هم والأشياء، وفي إنشاء شيء جديد تماماً، ففي هذه الأوقات بالضبط من الأزمة الثورية، يبتغون في خوف أرواح الماضي، مستعيرين أسماءها، وشعاراتها، وملابسها، وذلك لكي يظهروا على المسرح الجديد للتاريخ ضمن هذا اللباس التنكري المحترم ، وبهذه اللغة المستعارة".
ويخترق اللباس التنكري المحترم واللغة المستعارة شكل القناعات والعقائد ( الإيديولوجيات )، لتغدو الأخيرة حالة هوس ووسيلة سلطة في ملعبة السياسة.. تتحول الإيديولوجيا إلى أداة سيطرة من طريق جعل "عناصر السحر اللاعقلية تتغلغل في نظام الإدارة المخطط والمسيّر بصورة علمية، وتصبح جزءاً لا يتجزأ من التنظيم العلمي للمجتمع" على حد تعبير ماركوز. وهنا لن يكون البحث عن الحقيقة الموضوعية هي المبتغى، بل الأداء الطقسي الذي يصون الجوهر العقائدي بالضد من إفرازات التجربة الداحضة. فالوعود المرجأة بفعل معاكسات الوقائع ستحوّل إلى وسيلة قمع وتعبئة وتخدير في آن معاً. وسيجري تكذيب الواقع مهما كانت درجة صراحته ووضوحه لمصلحة الوعد الإيديولوجي مهما كشف الأخير عن هشاشته ولاتاريخيته ولامعقوليته واستحالته المنطقية والواقعية، فتتلاشى الحدود بين الصحيح والخاطئ، وبين الوهم والحقيقة، وبين الصدق والكذب. وللأسف هذا ما وقع فيه أكبر تجربة ماركسية تطبيقية ممثلة بالشيوعية السوفياتية.
إن مقتضيات السلطة في الدولة السوفياتية والظروف التي أحاطت بنشأتها وتقلباتها داخلياً ودولياً، فرضت تأويلات بعينها للماركسية في المنظور السوفياتي، وتخريجات من المشكوك فيه أن ماركس كان يرضى بها كلها إن كان حياً. فقد سُحب ماركس عنوة في أحايين كثيرة إلى مناطق شائكة وجرى تفسير مفاهيمه وتصوراته لتسويغ سلوكيات وقرارات وإجراءات سياسية هي بالضد في جوهرها من مفاهيمه وتصوراته. أو حصل تحريف في الرؤية للواقع، وهذا أدهى وأخطر، بعيداً عن الحقائق الحاصلة على الأرض، لتتلاءم مع اتجاهات النظرية كما فُسرت.
ربما ، كان بعض الماركسيين يستعيدون اليوم، بشيء من التأمل الذاهل ما صرح به كاوتسكي مذ كانت ثورة أكتوبر في فجرها؛ "إذا ما نجحت الثورة الروسية فذلك دليل على فساد الماركسية".. أعتقد أن هذا القول يخفي قولاً آخر، مسكوتاً عنه: ( ستفشل الثورة الروسية ) أو: ( ستكون الثورة الروسية أي شيء سوى أن ننعتها بالماركسية ) أو: ( الثورة الروسية الناجحة ستقوض أسس النظرية الماركسية ). غير أن الثورة الروسية فشلت في نهاية المطاف؛ فهل من حق الماركسيين، أو بعضهم أن يتشدقوا بالقول: ( لقد كان ماركس على حق إذن ). أظن؛ نعم إلى حد... ولكن ليس على سبيل العزاء أو التسويغ أو الهرب من المسؤولية. بل، وهذا ما يجب؛ عبر تحرير ماركس الناقد الجدلي العلمي من سجن الدوغمائية والأرثوذكسية التي وضعه فيها كثر من المتمركسين، وموضعته تاريخياً في مكانه الحقيقي، ناقداً لنظم الاستغلال والاستعباد والفساد والظلم الاجتماعي والفوارق بين البشر بأشكالها كلها.
تحيلنا مقولة كاوتسكي إلى السؤال الآخر الصادم؛ هل خان لينين الماركسية بقصد أو من دون قصد؟ هل كانت اللينينية وبالاً على الماركسية مثلما يدّعي بعضهم؟. وأيضاً: هل أعاقت الثورة الروسية وما أحدثته من تخلخل في المحيط الرأسمالي الثورة الاشتراكية المرتقبة في ألمانيا وإنكلترا، بعدما خلقت فضاءً سياسياً جعلت الرأسمالية في تلك البلدان تعيد حساباتها وتغير من إستراتيجيات المواجهة؟ أم أن الماركسية ــ اللينينية هي مقترح تاريخي واحد، في سياق ممتد، يحبل بمقترحات أخرى تنهل من فكر ماركس؟.
لم يطلق لينين على الثورة الروسية صفة الاشتراكية منذ البدء، وإنما نعتها؛ كونها "ثورة برجوازية بقدر ما أن صراع الطبقات في الريف لم يتطور بعد.." مؤكداً أن الثورة الاشتراكية ستكون نتيجة انفجار التناقضات في بلد رأسمالي كامل النضج. ومعلقاً بفكرة "أن الثورة الروسية لن تنقذها إلاّ الثورة الألمانية".
بقي لينين مخلصاً؛ ولكن ليس إلى نهاية الحد لنبوءة ماركس ورؤياه عن الثورة المرتقبة في البلدان المتقدمة صناعياً التي بلغت فيها قوى الإنتاج درجة كافية من التطور تؤهلها لتغيير علاقات الإنتاج الرأسمالية إلى اشتراكية. ففي أي مكان، مع قاعدة إنتاجية متخلفة، وبروليتاريا غير ناضجة ومحدودة، وعدم توفر شروط صراع طبقي حاسم يصعب التحدث عن الانتقال إلى الاشتراكية، وهذه من بديهيات الماركسية الكلاسيكية. ولذا فإن الدولة السوفياتية طرحت ماركسية سوفياتية؛ هي مقترح واحد ( للماركسية ) له عثراته الكثيرة، في تجربة شائكة ودراماتيكية وثرية بمعطياتها ودروسها، لا بد لأي توجه ماركسي حالي ومستقبلي أن يدرسها بتمحيص وتجرد وموضوعية إلى جانب التجارب الأخرى التي وصفت بالاشتراكية على مدار قرن تقريبا،ً لإغناء المفاهيم الماركسية الأساسية من جهة، وتوطيد أسس نظرية عمل أخرى مرنة تكون في مستوى التحديات التي يفرضها التطور الذي بلغته الرأسمالية بآفاقها العولمية، في الحاضر والمستقبل.
إن الجنة التي على الأرض، كما تخيلها ماركس، ما زالت ممكنة، ولكن ليس في المستقبل القريب.. خطأ ماركس أنه رأى أن فرصة تحقق فردوسه سانحة وقطوفه دانية. ولأنه لم يحسب حساب: مرونة الرأسمالية العالية وقدرتها على التكيف مع أزماتها، ونهبها للعالم الثالث والتي بها استطاعت أن تقلل من غلواء إفقار البروليتاريا ( النسبي والمطلق ) والتقدم الهائل في قوى الإنتاج في ظل الرأسمالية، والدخول في مرحلة الموجة الثالثة، ( إذا ما استعرنا اصطلاح الفين توفلر ) وتوسع أعداد أصحاب الياقات البيض على حساب أعداد أصحاب الياقات الزرق. ولكن إلى أي مدى يمكن أن يبقى مفعول قانونه ساري المفعول؛ ( إن تطور القوى المنتجة سيطيح بعلاقات الإنتاج القائمة بعد أن تغدو الأخيرة عقبة أمام ذلك التطور ).. هل سيحدث هذا على المدى البعيد. وهل أن رؤيا ( من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله، أو حتى حاجته ) ستصبح ممكنة في ظل التقدم الهائل للعلم وتكريس مؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن السلطات القديمة الراسخة، وصعود كتلة تاريخية جديدة تستثمر مساوئ الرأسمالية وتناقضاتها للإطاحة بها؟.
* * *
يتحدث كورنيلوس كاستورياديس في فصل من كتابه ( التأسيس المتخيل للمجتمع ) عن أولئك الذين يمتهنون مهنة ( الدفاع عن ماركس )، "ويهيلون في كل يوم فوق جثته طبقات جديدة كثيفة من أكاذيبهم أو من غبائهم". ومقصد كاستورياديس، هنا، هو هذا الميل إلى تحجير ماركس، وتحويل فكره الحي إلى إيديولوجيا، وبالتحديد إلى معنى الإيديولوجيا التي مجها ماركس نفسه، حين رأى فيها وعياً مضللاً زائفاً؛ "جملة من أفكار تتعلق بواقع ما، لا لتضيئه وتغيره بل لتحجبه وتبرره ضمن المتخيل الذي يتيح للناس أن يقولوا شيئاً ويفعلوا شيئاً آخر، وأن يظهروا على غير ما هم عليه".
بقي ماركس الذي يتململ تحت الركام الكثيف من الأكاذيب والغباء يُهاجم بجريرة لم يرتكبها؛ جريرة وجود هذا الركام فوق جسده ولا أريد أن أقول؛ جثته.. جريرة حسب حسابها، وأنكرها ودانها وحذّر منها، ونصب عينه البديل الذي هو الفكر الحي الجدلي المتوسل بالعلم، لا غيره، والناظر إلى التاريخ أبداً.
يريدنا كاستورياديس أن لا نكتفي في البحث عن معنى الماركسية فيما كتبه ماركس حصراً، وإلاّ نكون قد تنكرنا لمبدأ في الماركسية ذاتها يقول أن "دلالة نظرية ما لا يمكن فهمها بمعزل عن الممارسة التاريخية والاجتماعية التي تتوافق معها، والتي تتغلغل داخلها أو تشكل ستاراً لها" فإذن؛ ولكي نجري حساباً ختامياً مع الفكر الماركسي لابد أن نفحص مصير المذهب داخل التاريخ حيث غدت الماركسية إيديولوجية "بوصفها مذهباً للعديد من الشيع،التي أدى انحطاط الحركة الماركسية الرسمية إلى تكثيرها". وبحسب كاستورياديس نفسه فإننا لا نعثر طوال أربعة عقود على تطبيقات "مثمرة للنظرية، بل حتى على مبادرات لتوسيعها وتعميقها". وهنا تقتضي مسؤوليتنا الأخلاقية إعادة نظر جذرية بالماركسية وتحليلها "ذلك أن الماركسية ذاتها في أفضل ما تعبّر عنه روحها، وفي إدانتها الصارخة للجمل الجوفاء، وللإيديولوجيات، وفي مطالبتها بالنقد الذاتي المتواصل، تجبرنا على الانكباب على مصيرها الواقعي". وإن كان كاستورياديس، في النهاية، لا يعزو مسؤولية هذا المصير إلى ماركس إلاّ أنه يمضي قدماً، رافضاً عزل المنهج ( الماركسي ) عن المحتوى التاريخي مثلما حاول جورج لوكاش أن يفعل. وطارحاً سؤالاً حاسماً مؤداه "إذا لم يقدم التصور الماركسي التفسير المطلوب للتاريخ، فإن هناك ربما تصوراً آخر في وسعه أن يقدم مثل هذا التفسير. وفي هذه الحالة، ألن يكون العمل على بناء تصور جديد ( أفضل ) هو المهمة الأكثر إلحاحاً؟". ولا نعلم إن كان كاستورياديس يدفعنا إلى نبذ الماركسية ( التي ورثناها ) جملة وتفصيلاً ونحن ننكب على البحث عن بناء تصور آخر، أم علينا أن نوسع الماركسية ونعمقها للوقوع على التفسير الأفضل؟.
وماركس الوفي للعلم والحقيقة لابد أن يقر بما يقتضيه قانون المعرفة من السعي للإجابة على السؤال الابستمولوجي؛ ما الذي يجعل نظرية ما تتجمد وتكف عن التوسع والتعمق؟ لماذا تكون نظرية ما مغلوطة أو ناقصة؟. وبطبيعة الحال؛ لن يسوِّغ نبل الهدف وثقله الأخلاقي والإنساني، أو يرمم ويصحح خلل المنظور التاريخي الذي يقدّمه؟ وقد تكون نظرية ما صحيحة ومنطقية، ولا تكون كذلك حين تُحاكم بمعطيات وإفرازات الواقع التاريخي. إذ تتجلى دلالة أية نظرية وصحتها عبر علاقتها بالممارسة التاريخية. فالنظرية نفسها حتى تكون مرنة وقابلة للتوسع والتعمق، وقادرة على تجاوز نقاط ضعفها، لابد أن تقرأ الواقع التاريخي في كل لحظة.. تغنيه وتغتني به.. تتطور وتتحول وهي في خضم سعيها لتطويره وتحويله. وفي الأحوال كلها فإن؛ "الفكر لا يستطيع أن يحقق مثل هذا التغير إلا إذا تجاوز نفسه في الممارسة" كما يقول ماركوز.
هنا، علينا أن نكون حذرين؛ كي لا نقع في مطب الرضوخ لمقولة أن الواقعي معقول وحقيقي. هذا ما يسعى ماركوز إلى دحضه ليلقي على أسماعنا هذه العبارة المستفزة "إن ما هو كائن لا يمكن أن يكون حقيقياً". بعدما وُظفت العقلانية التكنولوجية سياسياً لتكريس حالة السيطرة والتحكم. وحتى العلم نفسه "قد أُتخذ، بفعل منهجه ومفاهيمه، وسيلة لتعزيز عالم ظلت فيه السيطرة على الطبيعة مرتبطة بالسيطرة على الإنسان". فحجبت المنجزات العقلانية للرأسمالية، عن الأنظار، لا عقلانية النظام القائم. وبالتالي تكون وظيفة الماركسية هي أن تكون تلك النظرية النقدية الكبرى، كما يقول جورج طرابيشي في مقدمة ترجمته لكتاب ماركوز ( الإنسان ذو البعد الواحد )، وهذا لن يحصل من وجهة نظر طرابيشي "إذا لم تتمثل وتدمج بها كل أشكال النقد الموجهة إلى المجتمع القائم حتى وإن كانت منطلقات هذا النقد غير ماركسية. وإذا كفت الماركسية عن أن تكون تلك المحصلة النقدية الكبرى، فلن يكون لها من مآل غير المتحف أو كتب التاريخ".
فالمعبر بين ماركس الحالم وماركس العالم هو ماركس الناقد، وقد تنبه ماركس إلى هذه الحقيقة مبكراً، يوم كان شاباً يعمل في الصحافة ( في بروسيا، ومن ثم في فرنسا ) ويضيق ذرعاً بخواء وسطحية الحلقات الفكرية المحيطة به.. يقول في هذه المرحلة تحديداً ( 1844 ) وهو يشجب موقف الاشتراكيين الذين كانوا يأنفون عن المشاركة السياسية والاهتمام بمسائلها؛ "ليس هناك ما يمنعنا من بدء نقدنا بنقد السياسة، وبالاشتراك في السياسة، أي في النضال الحقيقي. وبذلك يجب علينا أن نتجنب تقديم أنفسنا للعالم بصورة دوغماتية، وبمبدأ جديد يعلن: هذه هي الحقيقة، فلتنحنوا لها ولتعبدوها. علينا أن نطور للعالم مبادئ جديدة انطلاقاً من مبادئه القديمة. يجب علينا أن لا نقول للعالم: أوقف صراعاتك فهي حمقاء، وأصغ لنا فنحن نملك الحقيقة. بدلاً من ذلك يجب علينا أن نبين للعالم السبب في صراعاته، وهذا وعي يجب على العالم أن يصل إليه سواء أكان يحب ذلك أم لا". وقد سعى ماركس مثلما يقول فرانز مهرنغ إلى مساعدة العصر ( عصره ) على إدراك صراعاته ورغباته في ضوء ( فلسفة نقدية ). وفي سبيل هذا نذر حياته حتى مماته.
المصادر:
1ـ ( موجز رأس المال ) فردريك أنجلس.
2ـ كتابا هربرت ماركوز ( الماركسية السوفيتية ) و ( الإنسان ذو البعد الواحد ).
3ـ (موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر ) د. عبد الرزاق عيد.
4ـ ( أطياف ماركس ) جاك ديريدا.
5ـ ( كارل ماركس ) فرانز مهرنغ.
6ـ ( 18 برومير لويس بونابرت ) كارل ماركس.
7ـ ( هكذا تكلم ماركس ) أرنست فيشر.





#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فتاة في المطر
- حواف الإيدز، أو؛ خالد في الصحراء
- ماريو بارغاس يوسا في؛ ( رسائل إلى روائي شاب )
- شبح ماركس
- أخلاقيات الحوار
- حواف الإيدز؛ أو خالد في الصحراء
- الإعلام القاتل
- ضد ماركس
- كلام في الحب
- هنتنغتون وفوكوياما ومسار التاريخ
- المثقف ومعادلة السلطة المعرفة
- فقدان حس الحاضر
- موضوعة -السأم- في الأدب الروائي
- أفواه الزمن؛ هذا الكتاب الساحر
- شتائم ملوّنة
- مشكلاتنا ومشكلاتهم
- إيان مكيوان في -أمستردام-
- قصة قصيرة: ضاحية التيه
- هناك مع الوردة حلم زنزانة
- السرد وميثاق التخييل


المزيد.....




- إعلام: وفد مصري إلى تل أبيب وإسرائيل تقبل هدنة مؤقتة وانسحاب ...
- -أنصار الله- تنفي استئناف المفاوضات مع السعودية وتتهم الولاي ...
- وزير الزراعة الأوكراني يستقيل على خلفية شبهات فساد
- ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب عنف- في ...
- دراسة حديثة: العاصفة التي ضربت الإمارات وعمان كان سببها -على ...
- -عقيدة المحيط- الجديدة.. ماذا تخشى إسرائيل؟
- مصر: بدء التوقيت الصيفي بهدف -ترشيد الطاقة-.. والحكومة تقدم ...
- دبلوماسية الباندا.. الصين تنوي إرسال زوجين من الدببة إلى إسب ...
- انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض ...
- الخارجية الأمريكية لا تعتبر تصريحات نتنياهو تدخلا في شؤونها ...


المزيد.....

- افاق الماركسية واليسار ودور الطبقة العاملة في عصر العولمة-بق ... / مجلة الحرية


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف الاول من آيار 2008 - أفاق الماركسية واليسار ودور الطبقة العاملة في عهد العولمة - سعد محمد رحيم - ماركس الحالم.. ماركس العالم