أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - سلام عبود - نقد المثقف الشيوعي.. من ديالكتيك ماركس الى جدلية رامسفيلد















المزيد.....


نقد المثقف الشيوعي.. من ديالكتيك ماركس الى جدلية رامسفيلد


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 2202 - 2008 / 2 / 25 - 10:14
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


الجزء الثاني
شعراء يغتصبون ضمائرهم!

في الحياة الاجتماعية لا تجري الأمور دائما باستقامة وتناسق. ففي إطار الظاهرة العامة السابقة حدث استثناء غير متوقع. فقد أنتجت الحياة الثقافية ميلا خاصا على درجة عالية من الغرابة والنبوّ، يستحق أن يكون مبحثا خاصا قائما بذاته. فإذا كان انسداد الأفق السياسي يدفع الجماعات والأفراد الخيّرين نحو اليأس أو الخروج من المشهد اليومي، وإذا كان المناخ السياسي العام يمارس دور القوة الطاردة ضد " المخالفين"، فإن هذا الميل يتغير تغيرا جذريا، حينما يتعلق بالمشتغلين في مجالات الأدب، الشعر على وجه خاص. ففي هذا الموقع يمارس الواقع الشرير دور الجاذب، لا الطارد، ودور القمّام الثقافي، وجامع النفايات العنفيّة والسقطات الشخصية والعامة. حينما نقوم بدراسة ظاهرة الزعامة الشعرية في الثقافة العراقية نعثر على هذا الاستثناء الغريب واضحا، جليّا. فلم ينس الناس بعد الخصومة التقليدية، التاريخية، بين علمين بارزين من أعلام النهضة الشعرية العراقية: الرصافي والزهاوي (امتدح الزهاوي الغزو البريطاني، لكنه امتدح لاحقا الثورة العراقية)، وهما شاعران من أصول غير عربية، منحا العربية مجدا كبيرا.
وحينما نتابع سلسلة القيادة الشعرية اليسارية: الجواهري، محمد صالح بحر العلوم، السياب، البياتي، سعدي يوسف، عبد الرزاق عبد الواحد، يوسف الصائغ، والصراع داخل الحلقات القيادية الثقافية الأصغر كمجموعات قائمة بذاتها، مثل مجموعة مرحلة التحالف مع البعث ومجموعة مرحلة الاحتلال، نجد أن ظاهرة الانسحاب تسلك سلوكا مغايرا تماما لدى هذه الجماعات. فحالما "يسقط" شاعر من حضن حزب ما، حتى يتم التقاطه وتنظيفه وتقميطه وإعادة تلميعه وتنصيبه من قبل جماعة سياسية مناوئة. وحتى الشعراء أصحاب العمر والتجربة السياسية - الثقافية الطويلة الخاصة والمتفردة، كالرصافي والجواهري، مرّوا بهذه التجربة وخضعوا لقانون الجذب والطرد نفسه، وإن كان في صورة معقدة وملتوية، على شكل رحلات مؤقتة، أو زيارة مواقع استطلاعيّة.
ومن المعلوم للجميع أن المعركة الثقافية الأخيرة، أو حملة الصيد الأخيرة، ( نسخة مكررة من حملة صيد السياب)، التي خاضها التحالف "الجديد" ضد الشاعر سعدي يوسف (بصرف النظر عن أقنعة المعركة السياسية وانتماءات المتخاصمين وصواب أو خطإ توجهاتهم السياسية)، والتي بدأها موقع "عراق الغد"، بتجميع مقالات ثأرية، تحريضية، تطالب بـ " دق مسمار في نعش المدعو سعدي يوسف"، كانت مجرد تواصل للتقاليد المتوارثة، الرامية انتزاع القيادة الشعرية بالاسقاط الأخلاقي، ولكن في زمن ملتبس، وبواسطة مطارِدين جدد ضعاف المواهب والنفوس.
لماذا يحث هذا في تاريخنا؟ لماذا يتكرر حدوثه؟ ولماذا يحدث لفئات محددة من المشتغلين بالأدب والثقافة؟ ألا يحق للبحث الثقافي أن يقف عند هذه الظاهرة ويبحث أسبابها التاريخية بعمق وتجرد؟ متى يرتقي العقل الوطني ويبدأ بتنقية تراثه من كل ما علق به من شر وعنف واستهانة بالإنسان كفرد وكهوية! فمن غير المشكوك فيه أن للشعر مكانة خاصة، خفيّة، في نفوسنا. فلم يزل كثيرون ينظرون الى الشاعر، حتى السوريالي، كناطق رسمي باسم القطيع. ولا يجد المرء غرابة في ذلك، فالمؤسسة تميل دائما الى إخضاع الأفراد وتطويعهم لمصالحها. بيد أن المعضلة الكبرى تكمن في الشاعر نفسه، الذي قبل الدور طوعا، وعدّه احتكارا حقيقيّا يختص به وحده. فلم يزل الشاعر نفسه، ينظر الى شخصه نظرة التابع لسلطة القبائل الحزبية. فهو أقل ثقة بنفسه من سواه، وأقل مقدرة على الاستقلال، وأكثر نزوعا الى مخالفة فطرته وإرادته الخيرة، قياسا بغيره من فئات المثقفين. لقد ثبّت لنا التاريخ عددا كبيرا من الوقائع المثيرة للجدل، التي تؤكد هذه الظاهرة، منها تقلّب الجواهري النفسي والعاطفي، وتقلبات السيّاب والبياتي. فقد رثى الجواهري أخاه جعفرا، ضحية النظام الملكي عام 1948، رثاء مترعا بالحزن والوعيد، ثم غيّر مشاعره الحزينة بأخرى تناقضها عاطفيا، ناهيك عما تضمنه هذا الانقلاب من موقف سياسي يثير الحيرة. وعلى الرغم من ذلك، ربما لا نبالغ إذا قلنا إن الجواهري كان سباقا في تصوير دورة إنتاج العنف المغلقة ومعايشتها، ولم يكن انقلابه العاطفي سوى استراحة نفسية عابرة، وهدنة مؤقتة، في مناخ العنف المتوارث:
أتعلم أن جراح الشهيد تظل عن الثأر تستفهم
تمص دماً ثم تبغي دماً وتبقى تلح وتستطعم
ستبقى طويلاً تجرُّ الدماء ولن يبرد الدم الا الدم
ولم يكن للجواهري فضل السبق في تصوير دورة العنف المغلقة الكامنة في الوجدان العراقي فحسب، بل كان أيضا أقدر من صورها كفعّالية ذاتية، تنبع من الداخل وتصب فيه: " لن يبرد الدم إلا الدم" ، لأن الدماء لا تؤمن إلا " بنفســــها "، وما الفرد سوى "صبيغ" بالدماء، أمّا الحياة فهي مشهد مرعب يختلط فيه القاتل بالقتيل والضحية بالجلاد، فيتم اقتياد "زيد باسم زائدة" ويصطلي "عامر والمبتغى عمر". والجواهري في هذا يختلف عن شعراء آخرين صوّروا دورة الشر المغلقة مستعينين بالبعد التراثي أو الأسطوري. فالجواهري لا يستقدم الخارج ليملأ به فضاء الداخل، لأن داخله مملوء بالضجيج والانفعال الى حد التخمة. إن أقصى ما يفعله الجواهري بالتاريخ هو العودة الى اللغة مصحوبة بامتداداتها الزمانية، والى التعبير البلاغي المضمخ بالايحاء الدال على القدم وعلى الثبات المرجعي. والجواهري، حاله كحال المتنبي، ينأى بنفسه عن التصوير الحسي، ويلجأ الى البعد العقلي في صياغة المشهد السياسي، معتمدا اعتمادا جوهريا مباشرا على الخزين العاطفي الداخلي، الذاتي، وعلى مقدرة اللغة، ككيان تعبيري وغلالة بلاغية للمهارات الذهنية، وطاقة للامداد بالمفاهيم والرؤى. إن أعظم خصوصيّات الجواهري تكمن في مقدرته الفريدة على تحشيد طاقات الانفعال الداخلي وتثويرها، صانعا سلسلة متواصلة من الانفجارات العنيفة الصغيرة، المتتالية، التي تخلق بدورها انفجار القصيدة الشامل، أي وحدتها الانفعالية التامة. في قصيدة "الموت في غرناطة" يسجل عبد الوهاب البياتي دورة العنف العراقي ذاتها، لكنه يستعين برمزين، الأول من التجربة العالمية المعاصرة: لوركا، والثاني من التراث العربي الإسلامي والعراقي: الحسين. يستخدم البياتي الرمزين لغرض إنتاج صور تُحكم السيطرة على اللحظة الراهنة وتأسرها بقوة، جاعلا منها حلقة مأساوية عبثية غير قابلة للكسر: "أرض تدور في الفراغ ودم يراق/ ويحي على العراق/ تحت سماء صيفه الحمراء/ من قبل ألف سنة يرتفع البكاء/ حزنا على شهيد كربلاء/ ولم يزل على الفرات دمه المراق/ يصبغ وجه الماء والنخيل والسماء". ويسير سعدي يوسف في الاتجاه نفسه في ديوان " الساعة الاخيرة"، مستعينا ببابل، لكي يمدّ لحظة الموت الراهنة ويوصلها ببداياتها البعيدة، ليعيد نظمها كقلادة بشعة معلقة في عنق التاريخ الوطني: " تحت الأسوار ولدنا/ وعلى الأسوار نموت/ لم نعرف في بابل/ غير القتل لأجل القوت".
إنها دورة الجوع العراقي القاتل، التي رصدها السيّاب من قبل، مستعينا بدورة الطبيعة وخياناتها المتوارثة، لكي يرسم لنا، من خلالها، صورة لخيانات البشر الدائمة وهم يدنسون قوانين الحياة:
"...منذ أن كنّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطلُ المطر
وكلّ عامٍ - حين يعشبُ الثرى- نجوع
ما مرَّ عامٌ والعراقُ ليسَ فيه جوع".
إنه جوع الى المطر، وجوع الى الأمان، يرافقه دائما، ينبع ويصب فيه، جوع الى الدم أيضا.
ولكن للنفس أحكامها الخاصة، ولها دوراتها الحبيسة، المكبوتة، غير المتوقعة. بعد خمس سنوات حسب على مشهد الجراح المفتوحة مثل الأفواه الصارخة، بردت دماء الجواهري، فعقد هدنة مفاجئة مع متغولي "رواءَ الربيـعِ" و " زهرة الخلود"، تنازل فيها طوعا عن " كفارة الدم". فحينما برد دم الأخ الموجوع، "ذو الثأر"، الذي ظل "يقظان لا يحلم"، دهمه إغراء الزهو الذاتي، زهو الشاعر الذي يتوق الى تخليد اسمه في صفحة واحدة مع ملك متوج، فنضا عنه ذاته "الصبيغة" بالدماء، وراح يتغنى بـ "ربيع" الملك فيصل، فأنشده في يوم تتويج الملك قصيدته الاحتفالية، الموشاة بأجمل جواهر التعبير الشكلي: " ته يا ربيع". ومن الضفة المقابلة جاءه الرد سريعا ،حازما، صارما، حينما عارضه محمد صالح بحر العلوم بقصيدته الغاضبة " صه يا رقيع". ولكن، سرعان ما سكنت روح بحر العلوم الغاضبة أيضا. فقد استكانت في أحضان نظام استبدادي جديد، جعلته يستمتع بربيع الحروب ويتيه بها زهوا، في الوقت الذي أنهى الجواهري شهر العسل المر مع الحلفاء البعثيين وتوجه الى منفاه الأخير.
تبادل الأدوار العجيب، والانقلابات العاطفية غير المحسوبة، تشير الى قلق دائم واضطراب في بنية الشخصية، والى سوء فهم جدي للدور الفردي والاجتماعي الذي يلعبه الإنسان في الحياة وفي الممارسة الفنية، وهي مؤشر أكيد على سوء فهم الذات. فقد روى بعض متابعي سيرة الجواهري أنه أحس بالندم جراء نظمه قصيدة " ته يا ربيع"، وأنه وصف نفسه قائلا إنه " اغتصب ضميره" عند تأليفها. فالجواهري، الذي يطالب الحاكم الانقلابي بالبطش والتنكيل، يرى في الوقت نفسه أن العراقيين ألين الناس طبعا، وأكثرهم رقة وانغمارا في عبادة الفنون. جاء هذا في قصيدة قالها في الشاعر محمد صالح بحر العلوم، حينما سجن الأخير على يد النظام الملكي: "أبا ناظم نحن أرقُ الناس طبعاً ونحن عبادُ فنّ". لكن قصيدة "صه يا رقيع"، التي قذفها أبو ناظم في وجه الجواهري، لا تؤكد تماما رقة الطبع هذه، وربما لا تزكي عبادة الفن أيضا. فالقوة، وما يلازمها من عنف واغتصاب ضمائر،هي المعبود الأعلى والأسمى، كما تؤكد الوقائع. إن اقتران "الدم" بـ "اغتصاب الضمير" في وحدة نفسية وعاطفية متكاملة هو المؤشر الأصدق المعبّر عن الازدواج النفسي والاجتماعي العام: العنف والخضوع.
ويروى عن الموضوع ذاته أن عبد الكريم قاسم عيّر الجواهري مرة، قائلا:" لانريد في عهد الثورة رئيسا للادباء كان يمدح الملك. فقال الجواهري : صحيح انني امتدحت الملك لكنني لم اكن اخذ التحية له ". ولا يعلم المرء مقدار صحة أو دقة هذه الرواية. بيد أن رد الجواهري، على ذمة ناقلي الخبر، يلخص تلخيصا شافيا ما ذهبنا اليه. فالشاعر يوازي بين تحية عسكرية يؤديها ضابط لملك بلاده، وقصيدة يكتبها معارض سياسي يمتدح فيها رمز نظام حكم ورأسه. فالجواهري، لو صحت الرواية، يرى في مديح رأس المؤسسة السياسية ورمزها الأعلى قوة إرغامية تشبه قوة الواجب العسكري، أو ربما تفوقها. فالشعراء لهم التزاماتهم العسكرية، الداخلية، أيضا، حالهم كحال ضباط الجيش!
ما مصدر هذه الهشاشة الروحية؟ إن الواقع القاسي، ممثلا في المؤسسة الكبيرة، حزبية أو حكومية أو اجتماعية، يجيد اصطياد الفرائس، ويحسن التنبه الى مواضع ضعفها ومراكز التأثير عليها. لذلك تغدو شخصية الشاعر القلقة، الذاتية، الفردية، والأنانية، أقل مقدرة على التمرد تحت ذريعة ضرورات الاستمرار والعطاء الفني، وأقل ميلا الى القطيعة والانعزال عن أبوة ورعاية وحنان المؤسسة الثقافية الاحتكارية: السلطة أو الحزب، وحتى المحتّل، كما أظهرت السنوات القليلة المنصرمة.
من هذا كله نخلص الى أن الرغبات والأخيلة والكلمات الفنية التي قمنا بعرضها لم تكن سجالا لفظيا، ومشاكسات لغوية، أو معركة شعرية خالصة، بل كانت في جوهرها بنية ثقافية جرى توارثها واستحضارها وإعادة صياغتها، لكي تطابق اللحظة التاريخية الراهنة. أي أنها استعادة وتوظيف شعبي أو جماهيري للموروث التاريخي العنيف وما يرافقه من نوازع عدائية، بصرف النظر عن صحة أو صواب الموقف السياسي. فهذا السجال سلسلة متصلة من تقاليد القسوة، والتعصب الأناني، والتخلف العقلي، مصاغة في هيئة محددة: آحادية الفكر، وآحادية الوسيلة، وفظاظة طرق التعبير.

أصدق الشعر أكذبه: من ديالكتيك ماركس الى ديالكتيك رامسفيلد!

إذا أراد المرء تطبيق قوانين الجدل الماركسي، كقوانين التطور وسبل حل التناقضات، على الماركسيين أنفسهم، وعلى الشيوعيين العراقيين تحديدا، يعثر على مفارقات غير سارّة، لا يقبلها العقل الماركسي وغير الماركسي. ففي إعادة تجربة "ضيّق الحبل" يعثر المرء على ثلاث قضايا عقلية أساسيّة تميز الفئة التي تصرّ على احتكار لقب الشيوعية الرسمي، وحصره فيها: الثبات، والاستمرار، والتجديد. عنصر الثبات يكمن في تأصّل موضوع العنف كمحرك داخلي، وكمشروع مضمر ومعلن يرتبط ايديولوجيا بفكرة الثورة. فالعنف هو قاطرة التاريخ، والثورة هي وسيلة التغيير الوحيدة الممكنة لحل التناقضات المستعصية، وهذا موضوع نظري خالص. أما عنصرالاستمرار فيظهر حينما تنشأ حالة ( وضع) سياسية لا تتوافر فيها الامكانية لتحقيق فكرة الثورة عمليا، لأسباب ذاتيّة وموضوعية. وهذا موضوع تطبيقي وعملي خالص. إن معضلات الواقع المعقدة، ومشاكل عملية التطور الاجتماعي، تخلق صداما دائما بين الثوابت النظرية وشروط الواقع، بين الهدف السياسي وسبل تحقيقه، بين الأنا المفكرة والواقع الموضوعي، الموجود خارج وعينا. مثل هذا التناقض أو الإشكال بحثه الفكر الماركسي كثيرا، وطبّقه روّاد الماركسية بعبقرية على الثورات "الكلاسيكية" وسبل حل التناقضات الطبقية في المجتمعات النموذجية. لكن المؤسسة الشيوعية الرسمية أخفقت في تطبيق الماركسية وقوانين الجدل على تجاربها الخاصة. فظلت تجاربها تقوّم وترصد وتحلل من قبل خصومها. وحتى المعالجات النظرية التي قام بها ماركسيون، والتي بحثت التجربة الماركسية، تم النظر اليها كأفكار معادية حينما تناقضت مع السياسات الإجرائية الخاطئة والممارسات المنافية للماركسية، التي ارتكبتها الأحزاب الحاكمة. فكل من شخّص الخلل القائم بين النظرية والتطبيق أضحى خائنا وتحريفيا وعميلا. نتيجة ذلك أضحت معروفة للجميع، ولا تحتاج الى أمثلة: سقوط المنظومة السياسية الحاكمة كلها. لكن المفارقة التاريخية الكبرى تكمن في أن النظم التي عرفت بنقاوة الممارسة الماركسية هي النظم التي فقدت سيطرتها على الواقع قبل غيرها. وفي عين الوقت تأخر انهيار التجارب التي اتهمت بالتحريفية، وتم انهيارها بعملية قيصيرية من الداخل كرومانيا، أو من الخارج كاليفدرالية اليوغسلافية. أمّا النظم الأكثر إيغالا في التحريفية كالصين وكوبا وفيتنام وكوريا فلم تزل باقية! كيف يفسر الشيوعيون هذا التناقض على ضوء قوانين الجدل الماركسي؟ (قائد أساسيّ من قادة الحزب الشيوعي المؤثرين انجذب الى الشيوعية وهو أميّ، لم يتعلم القراءة والكتابة: عزيز محمد. وبصعوده قياديّا، وتزامنا مع انتشار سمعة وتجذر تاريخ الحركة الشيوعية عالميا، ظهر مؤشر جديد رسم بعضا من ملامح التجربة الثقافية الشيوعية العراقية. فقد أضحت الأفكار العاميّة هي المقرر الحاسم والوحيد للشؤون التنظيمية والسياسية المفصلية، ومنحت بعض الشؤون الثانوية كالاعلام والدعاية والثقافة للحزبيين الأكثر تنورا - نسبيا- دراسيا وعلميا وتمرسا مهنيا، تحت رقابة داخلية فظة من حزبيين أميين معينين رسميا على الملاك الثقافي. وهذا العامل سبب إضافي من أسباب تدهور مكانة الشيوعيين في الوسط الثقافي، ومن أسباب تعاظم هشاشة وضحالة ونفعية كثيرين ممن بقي منهم في صفوف الحزب. لقد خضع المثقف التابع لمقاييس القائد الأميّ من أعلى، ورقابة الحزبي المكلف ثقافيا من أسفل، وليس العكس. وأدى هذا الى انحطاط الممارسة الثقافية كلها. ففي مقابلة صحافية مع عزيز محمد، يؤكد الزعيم الشيوعي بقوة على نقاوة فكره من المفاهيم التحريفية والامبريالية قائلا: إنه أكثر الشيوعيين بعدا عن تلك الأفكار، لأنه حتى القراءة والكتابة تعلمها من خلال منشورات حزبية، ولم يتدنس فكره بنظريات غريبة!! ومما لا شك فيه أن نقاوة عزيز محمد العقلية هذه لا تضيف الشيء الكثير للماركسية، سوى أنها تلقي بماركس حيّا وميتا الى أقرب سلة أوساخ!!) إن سوء فهم وابتذال قوانين الجدل قلبت فكرة الثورة من قانون للتغيير الاجتماعي الى عنف محوّل، أي عنف عاطفي ونفسي مكبوت، غير قابل للتنفيس واقعيا إلا على نحو محدود. وتحت ضغط الشعار الآيديولوجي، كنظرية دعائية، وضغط الواقع المستعصي على الحل، وضغط العوامل الذاتية وما يلازمها من تأثيرات نفسية وعاطفية وشخصية، لجأ الشيوعي الى العنف بالنيابة، لكي يحل به أزمته المستعصية وتناقض فكره ورغباته مع الواقع. فاضطر الى الاتكاء على الآخر، القوي، لتحقيق مشروع العنف المضمر، من طريق الوقوف خلف حكومة بكر صدقي، أو عبد الكريم قاسم، أو صدام حسين، أو بريمر، أو غيرهم.
أما العنصر الثالث فهو التجديد، والتجديد يعني ولادة الجديد من رحم القديم. والجديد الماركسي يحمل بعض صفات النقيضين، لكنه يغايرهما تماما في الخصائص الأساسية، كما تقول ماركسية ماركس. ما جديد الشيوعيين في لحظة معقدة، عصيبة، فريدة، كلحظة تصادم مشروعي القوة الظالمة المحلي (الديكتاتورية) ومشروع القوة العالمي (الاحتلال)؟ هنا حلّت القيادة الحزبية الصراع بين قطبين سياسيين ظالمين متعاديين بالانحياز الى أحدهما. في هذا الحل نشأ توافق حقيقي، للمرة الأولى في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، بين القرار السياسي النفعي ومرحلة فقدان الأفق الآيديولوجي وفقدان الزخم والدعم العالمي جراء سقوط منظومة الشيوعية عالميا. لأن التوافقات السابقة: تأييد انقلاب بكر صدقي، فكرة الاندماج في الاتحاد الاشتراكي، التحالف مع البعث، على الرغم من خطئها جاءت في الوقت الذي كان الحزب يعتمد اعتمادا كبيرا، ولو لفظيا، على ثوابت الشيوعيين السياسية الأساسية: رفض المشاريع الاستعمارية، رفض التكتلات الطائفية والعرقية، رفض الظلم والتمايزالاجتماعي. لقد اعتاد المثقف الحزبي على تزييف ذاته وإرادته في سبيل تحقيق التوافق مع ثوابته التاريخية والنظرية: الاستقلال، الجمهورية، بناء الاشتراكية أو السير في طريق التطور اللا رأسمالي وغيرها من الثوابت والشعارات. أما في مرحلة الاحتلال فقد قلب المثقف الحزبي المعادلة التاريخية التي عاش عليها طوال حياته. فللمرة الأولى يقوم بتزييف تاريخه وثوابته النظرية لينسجم مع حقيقة ذاته الراهنة، المضطربة: فقدان الأفق الآيديولوجي والسياسي. لهذا يرى بعض المنتقدين أن الدخول في ما أسموه بالعملية السياسية، أي العمل ضمن مشروع الاحتلال والمحاصصة العرقية الطائفية، تأكيد حسي يجسد عملية استخدام الثوابت والموروثات السلوكية (الممارسة) لغرض التلاؤم مع متطابات الواقع. اي استخدام العنف بالنيابة لمصلحة قاهر جديد، لكنه مغاير ايديولوجيا هذه المرة. فلم يأخذ "حلفاء" مرحلة الاحتلال من الثوابت سوى العنف، ولم يأخذوا من عنصر الاستمرار سوى إنابة القوي، ولم يأخذوا من التجديد سوى لبس قناع جديد، من طريق إبدال واقع فاسد بواقع لا يقل فسادا. فبدلا من أن يشق الشيوعيون طريقهم الخاص المستقل، وبدلا من أن يكونوا حاضنة، ولو لفظيا، للجديد المستقبلي، وللمشروع الوطني الديموقراطي الحر، وللتصالح الاجتماعي، والسلم الأهلي، راح الشيوعيون يلغون ثوابتهم الثورية والإنسانية، التي تغنوا بها طويلا، ولم يبقوا منها سوى تعابير العنف والقتل بالتمني. بيد أن قطاعا واسعا من الماركسيين والاشتراكيين واليساريين العراقيين، داخل وخارج الحزب، يرون أن الحفاظ على كيان تنظيم وطني لا يتم من طريق الاحتماء بالأقوياء الظالمين، وإنما يتم من طريق الاحتماء بقوة الحقيقة، وبمصالح الشعب التاريخية، وبالإرث والتقاليد الوطنية الصادقة. إن الانسجام مع الذات يشترط السير في طريقين لا ثالث لهما: رفض الإرث والثوابت النظرية التاريخية السابقة كلها والبحث عن اتجاه سياسي جديد مغاير تماما، أو الاحتفاظ بالجوهر التاريخي للنظرية ومدّها بأفق جديد ودم جديد. أما الاحتفاظ بالنظرية من غير تطوير وتطعيمها بما يعارضها نظريا، فهو ازدواج في لبس الأقنعة، لا يصنع حزبا شيوعيا تقليديا، ولا يصنع حزبا يساريا وطنيا متحررا من جمود الفكر الشمولي. لكنه يصنع، من دون شك، هجينا سياسيا لا جنس له، ولا ضرورة لوجوده في الحياة. إن هذه الملاحظات النقدية لا تهدف الى تقويم خط وسياسة حزب سياسي له تاريخ عريق وصفحات وطنية مؤكدة، فهذا شأن لا يدخل ضمن أهداف الدراسة المباشرة، لكننا نرسم صورة من الداخل لتأثير العوامل السياسية والثقافية ببعضها، وكيف تؤثر هذه الميول على صياغة اللغة الثقافية والخطاب الثقافي الدعائي اليومي، وكيف تتصل الأشياء المبعثرة ظاهريا، بوعي أو من غير وعي، ببعضها من جهة وبموروثات العنف التاريخية من جهة أخرى. ستتضح هذه الصورة أكثر فأكثر في الفصول القادمة من البحث.
فحينما يدعو كادر شيوعي سلطة الاحتلال الى المزيد من شد الحبل، فهو يعني عمليا المزيد من دك المدن، والمزيد من السجون الجماعية، والمزيد من القتل اليومي، والمزيد من نهب الثروات. وإذا كان الممدوح قد دك حتى الآن أغلب مدن العراق بالقنابل، وضمت سجونه البشعة أكثر من سبعين ألف معتقل لسبب ومن غير سبب، وسقط جراء سياسته وممارسته عدد اختلف الناس في حجمه، منهم من جعله نصف مليون ومنهم من رفعه الى مليون. فما العدد الذي يرضي نفسيّة قاتل بالتبني؟ كم عدد البيوت المقنبلة، والأجساد الممزقة، والأرواح السجينة، وكم من البطش والتنكل يتمنى المرء لمجتمعه حتى تتحقق الحرية والسعادة؟
في هذه الدرجة من درجات استخدام الموروث والأقنعة لم يعد الصدام محصورا بين الذاتي والاجتماعي، وبين النظرية والتطبيق، بل تعدى ذلك وأضحى أكثر عمقا. فقد تغلغل عميقا داخل الجسد الحزبي وصار صداما بين أجزاء البنية التاريخية الشيوعية، بين الماضي، ذي البريق الثوري، الذي هو هوية وثروة الشيوعيين التاريخية وأرثهم الحقيقي الوحيد، وبين قناع الحاضر الباهت، المشكوك في سلامة هويته. لقد غدا الحزب الشيوعي العراقي في نظر الدارس المتعمق، المتجرد، مثل مهرج في "سيرك" يلبس قناعين: الأول يستجدي العطف ويثير الرثاء، والثاني يبعث على الضحك. وهذا سر اضطراب وتعثر لغة المثقف الشيوعي.
فلم يعرف التاريخ كرما دمويا كمشاعر القتل بالنيابة. إنها أسخى أنواع الكرم السياسي وأوضعها، قدمت الى قادة الجند والمتسلطين من الحكام والمجرمين طوال الحقب الماضية، وها هي تقدم على طبق من شعر الى الغزاة. هنا تكمن أزمة القيادات الشيوعية وأزمة المثقف الشيوعي الحزبي العصبوي: تقمص دور القمّام السياسي والثقافي، آكل الجيف.
مثل هذه النصائح الثقافية السخية ليست غريبة على مجتمعنا في محتواها العام، لكنها تأتي الينا دائما مصحوبة بأقنعة جديدة، لم يألفها تاريخنا قط! أقنعة جديدة، وربما خامات جديدة، ورماة جدد: ثيران سماويّة، وحبال شيوعيّة، ومجازر وحروب بعثيّة، وفوضى بربرية أميركيّة، ومثاقب وسواطير تكفيريّة وظلاميّة. أليست هذه الثقافة هي فأس سركون بولص، التي قُذفت في حياتنا منذ مئات السنين، ولم تزل تنشر أزيزها المميت في أعماق نفوسنا المضطربة؟
"فأس التتريّ المقذوفة من على ظهر الفرَس... ما زالت تطيش منذ ألف سنة في فضاء أيّامي"
فأس التتري هي الدم العراقي مسفوحا بسخاء. أما الصبيغ به فهو العراق.
من يقوم بمهمة ايقاظ المستبد النائم في أعماق حكامنا؟ من يصنع الطغاة؟
محترفو الشر الأصلاء، وحدهم، هم الذين يعتقدون أن الحكّام الطغاة يصنعون أنفسهم بأنفسهم!



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد المثقف الشيوعي
- محاكمة الأدب الفاشي عالميا
- إنهم يصرعون الله بالضربة القاضية
- تحالف الحكّام الشيعة والكرد: شراكة وطنيّة أم زواج متعة؟
- عراقي في لوس انجلس .. الحلم الأميركي والكابوس العراقي
- المذبحة الأخيرة على الأبواب: معركة كركوك
- قميص بغداد!
- الثقافة بين الإرهاب وديموقراطية الاحتلال
- زورق الأزل! من أساطير عرب الأهوار في جنوب العراق
- شهداء للبيع! البحث عن رفات الشهيد كاظم طوفان
- من أوراق مثقف عراقي من سلالة اليانكي
- حنين الى زمن أغبر! رد على نقد ثقافة العنف المنشور في صحيفة ا ...
- مشكلة كركوك أم مشكلة الحرب على العراق؟
- الجنس بين الرقيب الداخلي والرقيب الرسمي
- من زعم أن العراقيين لا ينتحرون؟ - دعوة رسمية لحضور حفلة انتح ...
- اجتثاثا البعث بين الحقيقة والوهم
- هل التربة العراقية صالحة لإنبات ثقافة مقاومة العنف؟
- اغتصاب الزوجات وانعكاسه في النص الأدبي
- هل العراقيون مؤهلون لخلق حركة ثقافية معادية للعنف؟
- تناقضات سياسة الاحتلال الأميركي المستعصية في العراق


المزيد.....




- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...
- مقتل عراقية مشهورة على -تيك توك- بالرصاص في بغداد
- الصين تستضيف -حماس- و-فتح- لعقد محادثات مصالحة
- -حماس- تعلن تلقيها رد إسرائيل على مقترح لوقف إطلاق النار .. ...
- اعتصامات الطلاب في جامعة جورج واشنطن
- مقتل 4 يمنيين في هجوم بمسيرة على حقل للغاز بكردستان العراق
- 4 قتلى يمنيين بقصف على حقل للغاز بكردستان العراق
- سنتكوم: الحوثيون أطلقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر ا ...
- ما هي نسبة الحرب والتسوية بين إسرائيل وحزب الله؟


المزيد.....

- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم
- في نقد الحاجة الى ماركس / دكتور سالم حميش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - سلام عبود - نقد المثقف الشيوعي.. من ديالكتيك ماركس الى جدلية رامسفيلد