أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - كاظم حبيب - لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الرأي الآخر..أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟ الحلقات 6 , 7 , 8 و9















المزيد.....



لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الرأي الآخر..أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟ الحلقات 6 , 7 , 8 و9


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 2184 - 2008 / 2 / 7 - 11:26
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
    


الحلقة السادسة
قوانين الإصلاح الزراعي في العراق

أتواصل حواري مع الصديق العزيز والمفكر المتميز الأستاذ الدكتور سيّار الجميل وأتطرق على موقف من قوانين الإصلاح الزراعي التي صدرت في العراق ولكن بصورة مكثفة جداً. فقد صدرت في العراق ثلاثة قوانين للإصلاح الزراعي مع تعديلات كثيرة بالنسبة للقانون الأول حصلت بعد صدوره بفترة قصيرة وفي فترة عبد الكريم قاسم , ولكن بشكل خاص في الفترة التي جاءت بعد سقوط الجمهورية الأولى ونهوض الجمهورية الثانية (بقيادة حزب البعث) والجمهورية الثالثة بقيادة بعض القوى القومية العربية.
كان صدور القانون الأول رقم 30 لسنة 1958 ضرورة ملحة , كما أرى , لأسباب جوهرية , منها:
1. الوضع البائس الذي كان يعاني منه الريف العراقي عموماً وتخلف القوى المنتجة المادية والبشرية وتخلف أساليب ووسائل الإنتاج والإنتاج الإجمالي والدخل ومعدلات الغلة السنوية لمختلف المحاصيل الزراعية.
2. الوضع البائس الذي كان يعيش فيه الفلاح العراقي وغياب الخدمات الزراعية والخدمات الاجتماعية وضعف الدخل وتأثير ذلك على مجمل العملية الاقتصادية في العراق.
3. الهيمنة على نسبة عالية من الريع المتحقق في الأرض الزراعية دون أن يستخدم لأغراض التنمية والتثمير الإنتاجي بل كان يستهلك بصورة غير عقلانية.
4. أهمية تحرير نسبة مهمة من الفلاحين المرتبطين بالأرض لصالح التحول صوب المدينة لاستخدامهم في التنمية الصناعية كعمال إجراء. وكان لا بد أن تقترن هذه العملية بسياسة تلتزم تطوير الزراعة واستخدام التقنيات والأساليب الزراعية الحديثة للتخفيف من الحاجة على المزيد من الفلاحين. وهذا يعني توظيف رؤوس أموال جديدة في التنمية الزراعية.
5. تطوير الإنتاج الزراعي بما يسهم في توفير المواد الزراعية الأولية لأغراض التنمية الصناعية وتزويد السوق المحلي بالمنتجات الاستهلاكية وتطوير السوق العراقي الوطني , إضافة على تنويع وتحسين بنية الدخل القومي المنتج في العراق , إذ كان الاقتصاد العراقي يتميز بوحدانية الجانب في تطوره وبنيته.
كان صدور قانون للإصلاح الزراعي , على وفق قناعتي سليماً وضروريا ,ولكن الاختلاف يبرز في مضمون ذلك القانون. لا شك في أن هذا القانون لم يكن في كل الأحوال اشتراكياً ولا يمكن أن يكون كذلك بسبب طبيعة المرحلة التي كان يعيش فيها العراق , بل كان مضمون القانون يعبر عن عملية ديمقراطية تحقق مصالح البرجوازية الوطنية والتوجه التدريجي صوب العلاقات الرأسمالية في الريف , وهي في مصلحة الفلاحين أيضاً.
والمشكلة , كما أرى , لم تكن في صدور القانون ذاته , بل في بنيته من جهة , وفي الإجراءات التي كان يفترض أن تصدر لترافق عملية تنفيذ الإصلاح الزراعي من جهة ثانية , وبعيداً عن الفوضى التي سادت الأوضاع السياسية من جهة ثالثة , والتردد الذي رافق العملية ذاتها من جانب أجهزة الإدارة الحكومية والنشاط المناهض للقانون لا من جانب كبار الملاكين والسراكيل وشيوخ العشائر حسب , بل ومن المرجعيات الدينية التي كانت لها علاقات متينة مع شيوخ العشائر والملاكين وكانت هذه المرجعيات تحقق جزءاً من دخلها وإيراداتها من الريف وشيوخ العشائر والفلاحين من جهة رابعة.
لقد أهملت الدولة شئون الفلاحين الفقراء وصغار المنتجين في الريف ولم تساعدهم في عدة مسائل منها على سبيل المثال لا الحصر:
• إنهاء عمليات الاستيلاء والتوزيع بسرعة ومن خلال أجهزة خاصة وليس من خلال الأجهزة الإدارية البيروقراطية التي كانت مناهضة لمصالح الفلاحين وللتغيير المنشود في الريف وملتصقة في سلوكها بكبار الملاكين.
• تشكيل جمعيات تعاونية استهلاكية تساعد الفلاحين في النهوض بالزراعة ودعم جهودهم لأن وضع الفلاح ووعيه وإمكانياته لم تكن ملائمة لزراعة فردية بالطريقة التي كانت سائدة في الريف العراقي.
• تأمين القروض الميسرة لهم وبفوائد واطئة جداً أو حتى بدونها , وكذلك تأمين الإرشاد الزراعي وخدمات المكننة والبذور المحسنة والأسمدة الكيماوية.
• الابتعاد عن استفزاز الملاكين الذين جرت مصادرة أراضيهم من جانب الفلاحين أو الأحزاب السياسية...الخ والذي حصل فعلاً في مواقع غير قليلة عبر عن ضعف الوعي السياسي والاجتماعي.
ولكن لم يحصل كل ذلك , بل بدأ العد التنازلي في موقف الحكومة من هذا القانون وتحت ضغط عوامل كثيرة , وبالتالي كان لا بد من يفشل هذا القانون في التطبيق. وحين سقطت الجمهورية الأولى , اتخذت الجمهورية الثانية والجمهورية الثالثة في زمن البعثيين وعبد السلام عارف جملة من الإجراءات التي كانت في جوهرها مناقضة لمصالح الفلاحين وفي صالح كبار الملاكين وشيوخ العشائر والسراكيل والمرابين وأجهزت على القانون تقريباً.
وفي العام 1970 صدر قانون الإصلاح الزراعي الثاني رقم 117 الذي أعتبر من حيث الجوهر أكثر وضوحاً من القانون الأول , ولكن لم تتوفر له أي فرصة فعلية للتطبيق , إذ أن السلطة لم تصدر هذا القانون إلا لأغراض المنافسة مع القوى السياسية الأخرى , وخاصة مع الحزب الشيوعي العراقي , الذي كان يدعو للإصلاح الزراعي. وعليه فأن أغلب ما تحقق نسف لاحقاً. أما القانون الثالث رقم 90 لسنة 1975 فقد توجه لمنطقة الحكم الذاتي , والذي لم يتسن تنفيذه أيضاً.
من المؤسف حقاً أن يعجز العراق عن تحقيق عملية إصلاح زراعي ديمقراطية تساهم في دفع عجلة التطور الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والثقافي في العراق , إذ أن حل مشكلة الأرض في العراق من شأنها أن تسهم بفعالية في دعم التحول صوب المجتمع المدني وتوفر أرضية أفضل للتوجه صوب التصنيع وحل مشكلة البطالة وتحسين ظروف العمل والحياة وطريقة التفكير , ولكنها ستساهم بشكل خاص في تطوير الوعي الاجتماعي والاقتصادي للإنسان العراقي.
لا أتفق مع من يقول بأن الإصلاح الزراعي كان سبباً في مشكلات العراق , وأنه كان البداية لهذه النهاية , وهو ما طرحه ويطرحه باستمرار السيد الدكتور فاضل الجلبي. أنا مقتنع بأن الإصلاح الزراعي الديمقراطي كان ضرورياً , وكان بالإمكان أن يتخذ صيغة أخرى يبدأ بتوزيع الأراضي التي كانت لا تزال في ملكية الدولة على الفلاحين , وأن تصادر المساحات الواسعة جداً من الأراضي الزراعية التي كانت بيد مجموعة من كبار الملاكين للأرض الزراعية , ولكن ليس بالطريقة التي تم فيها الاستيلاء والتوزيع التي أججت الصراعات الاجتماعية والسياسية , في وقت لم تكن السلطة ولا القوى الاجتماعية قادرة على معالجة المشكلات بروح عقلانية وبهدوء , إضافة إلى الصراعات الحزبية ذات الرؤية الطفولية في السياسة حينذاك.
واليوم نحن أمام حالة لا تسمح بالحديث عن إصلاح زراعي , بل العمل يفترض أن يتوجه ويتركز صوب مكافحة الإرهاب ومكافحة الطائفية السياسية في السلطة وخارجها ورفض المشاريع الطائفية للدولة العراقية , واستعادة الهدوء والأمن والاستقرار والخلاص من وجود القوات الأجنبية وحماية الثروة الوطنية , وخاصة النفطية وإبقائها بيد الدولة , ومساعدة الفلاحين للعودة إلى الريف والزراعة والإنتاج وتوفير الخدمات للمجتمع ...الخ. إلا أن هذا لا يمكنه أن يجنبنا مهمة إيجاد حل فعلي وهادئ وواقعي للمسألة الزراعية في الريف والاقتصاد العراقي. لقد ارُتكبت أخطاء فادحة وكانت الحكومة حينذاك مسئولة عن بعضها الكثير , ولكن كانت مسئولية الأحزاب العراقية التي تصارعت في ما بينها للوصول إلى السلطة دون أن تعي طبيعة المرحلة والمهمات الملقاة على عاتق الدولة والمجتمع. ولكن أكبر الخطايا التي ارتكبت حينذاك هو إصرار القوات العسكرية البقاء في السلطة دون القبول بالتراجع والعودة إلى ثكناتهم العسكرية وفسح المجال أمام القوى المدنية لوضع دستور ديمقراطي وحياة نيابية وأحزاب سياسية حرة ومتعددة ...الخ. وكان الأستاذ الراحل كامل الجادرجي , رئيس الحزب الوطني الديمقراطي , أحد الدعاة البارزين لعودة الجيش إلى ثكناته ورفض التعاون مع عبد الكريم قاسم بسبب إصراره على البقاء في السلطة. ولكن الجادرجي لم يجد التأييد حتى من جمهرة من كوادره الحزبية حيث انشق البعض عنه وشكلوا في حينها الحزب الوطني التقدمي الذي قاده الراحل والشخصية الوطنية المعروفة محمد حديد.
انتهت الحلقة السادسة وتليها الحلقة السابعة.


كاظم حبيب
لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الرأي الآخر..
أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟

الحلقة السابعة : الحزب الشيوعي وقوى اليسار في العراق

قوى اليسار في العراق
يشكل اليسار العراقي تياراً فكرياً وسياسياً متميزاً في نشاطه الفكري والسياسي والاجتماعي وواعداً رغم كل التقلبات التي عاشها العراق في القرن العشرات وبداية القرن الحادي والعشرين. وقد ساهم هذا التيار بوعي ومسئولية كبيرة في النضال التنويري والسياسي ومن أجل تغيير الواقع الذي كان أو لا يزال يعيش فيه العراق. وقد ارتبط الفكر اليساري العراقي ومنذ بداياته بالفكر الاشتراكي والنضال ضد التخلف والاستغلال والقهر القومي والاجتماعي وضد الهيمنة الأجنبية ومن أجل حرية الفكر وتحرير المرأة وحرية الفلاح وتقدمه.
بدأ التيار اليساري الحديث في العراق , كما تعرف أيها الصديق الكريم ويعرف الكثير من القراء أو المهتمين بالشأن العراقي, منذ نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من القرن العشرين. وفي حينها كانت الحركة السياسية العراقية وقد تأثرت بالنشاط السياسي لدول الجوار والعالم , ومنها الحركة التنويرية التي لم تتواصل في مصر طويلاً , ولكن كان لها إشعاعها على توابع الدولة العثمانية, والحركة المشروطية في إيران في العام 1906 , والحركة الدستورية وإعلان الدستور العثماني في في العام 1908, التي كان العراق جزءاً منها وتابعاً لها وتأثيرات ذلك على مجمل توابع الدولة العثمانية حينذاك , والأحد الدامي في روسيا في العام 1905 , ثم ثورة شباط /فبراير وأكتوبر/تشرين الأول 1917 التي هزت العالم وأطاحت بصواب الدول الرأسمالية وسمحت بنشر الوثائق السرية للدول الاستعمارية واتفاقاتها حول توزيع تركة الدولة العثمانية , فشُنت حرب التدخل لدعم القوى المضادة في الحرب الأهلية التي استمرت حتى العام 1921 , وأعقبت الثورة الروسية الثورة الألمانية في العام 1918 والثورة الهنغارية في العام 1919 وحركات ثورية واسعة في دول أوروبية أخرى حينذاك. لقد كانت بداية كبيرة لعصر جديد , فترة نهوض واسعة للشعوب , ومنها شعوب منطقة الشرق الأوسط , نازعة عنها رداء الخمول والكسل وساعية للتغيير. وتجلت في نشاطات كثيرة باتجاهات عديدة بضمنها حركة اليسار العراقي , رغم التخلف الذي كان عليه المجتمع في ظل الدولة العثمانية وصعوبة الحصول على الأخبار والمعلومات عما كان يجري في بقاع الأرض الأخرى. لقد كانت هناك روافد فكرية يسارية واشتراكية عربية وأوروبية كثيرة أثرت على بروز حركة الفكر اليساري والاشتراكي الجديد في العراق. فبرزت تلك الأفكار لدى حمدي الباججي ومزاحم الباججي في بداية حياتهما السياسية , ولكنها تبلورت بشكل واضح في مجموعة من الراحلين حسين الرحال ومحمود أحمد السيد وعبد الله جدوع ومحمد سليم فتاح وإبراهيم القزاز ومصطفى علي وعوني بكر صدقي وكمال صالح وفاضل محمد البياتي وغيرهم ممن شارك بعضهم في إصدار جريدة الصحيفة التي وضعت تركز اهتمامها بعملية التنوير الفكري الاجتماعي والتثقيف السياسي والدفاع عن مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة ومساواتها بالرجل وضد السيطرة الأجنبية والامتيازات. ونشطت مجموعة من الكتاب والمثقفين والشعراء لمبدعين الذين تمسكوا بقضايا التحرر والتقدم والديمقراطية مثل محمود أحمد السيد وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصاف , وأن كان الأخيرين قد اقترنت بقضايا وطنية عامة. وخاضت هذه المجموعة صراعاً فكرياً معقداً وصعباً في فترة كانت ما تزال تحمل بقايا التقاليد والإرث العثماني الفكري والسياسي والثقافي المتخلف , وفي دولة حديثة العهد ومتخلفة اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وثقافياً ومحتلة في آن واحد. ثم تنامت هذه الحركة الفتية بظهور جمهرة من المثقفين والمناضلين الديمقراطيين اليساريين الذين شاركوا في تكوين الحلقات الماركسية في نهاية العقد الثالث وبداية العقد الرابع من القرن العشرين في أكثر من مدينة عراقية , ومنهم يوسف سلمان يوسف وزكي خيري وعاصم فليح وقاسم حسن وعبد الوهاب الأين وعبد اللطيف الشيخ داود ويوسف إسماعيل ويوسف متي ومهدي هاشم وغيرهم. كما توهجت جماعات ديمقراطية إصلاحية ويسارية أخرى خلال تلك الفترة برزت تحت اسم "جماعة الأهالي" ضمت في صفوها يسار الوسط واليسار. وقد ضمت هذه المجموعة عدداً من المثقفين التي أصدرت في العام 1932 جريدة الأهالي وسميت المجموعة باسم الجريدة. كانت المجموعة الكبيرة تضم عبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وحسين جميل وجميل توما ودرويش الحيدري ونوري رفائيل وعبد القادر إسماعيل , إضافة إلى الأستاذ الراحل كامل الجادرجي الذي استقال من حزب الإخاء الوطني والتحق بالمجموعة في العام 1933. وقد صدر عن هذه المجموعة كتاب الشعبية الذي لخص برنامجها والقضايا التي تناضل من أجلها وميزت نفسها عن الفصيل اليساري الآخر الذي شكل الحزب الشيوعي العراقي. وقد كان عبد الفتاح إبراهيم المبادر إلى وضع هذا الكراس في العام 1930/1931 , ثم أجريت عليه تعديلات وإضافات بالتعاون مع آخرين ليصبح المبادئ التي تعتمد عليها جماعة الأهالي في نشاطها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والذي سمي بكتاب "الشعبية". لا شك في أن بين هذه المجموعة الكبيرة كانت مجموعة من اليساريين التي حملت الفكر الماركسي ومنهم عبد الفتاح إبراهيم وعبد القادر إسماعيل ونوري رفائيل وغيرهم , ولكنهم لم يكونوا في إطار الحركة الشيوعية حينذاك. وقد عمل الشخصية الوطنية العراقية المعروفة جعفر أبو التمن مع هذه المجموعة أيضاً الذي كان قبل ذاك يقود الحزب الوطني , الذي كان فهد في أوائل الثلاثينات عضواً فيه وممثله في الناصرية.
وفي العام 1934 تم تأسيس الحزب الشيوعي العراقي من الحلقات الماركسية في كل من بغداد والبصرة والناصرية وعناصر أخرى من العراق تحت اسم "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار". وكان يقود الحزب حينذاك عاصم فليح وكان فهد عضواً في قيادة الحزب. وصدرت للحزب جريدة باسم كفاح الشعب. وفي الأربعينيات من القرن الماضي , وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية برزت مجموعة من الأحزاب السياسية الوطنية ذات الوجهة اليسارية الإصلاحية مثل الحزب الوطني الديمقراطي , أو باتجاهات ماركسية مثل حزب التحرر الوطني , وكان الوجه العلني للحزب الشيوعي العراقي , وحزب النضال بقيادة الراحل الأستاذ عزيز شريف , وعصبة مكافحة الصهيونية وقوى أو كتل أو شخصيات سياسية ماركسية أخرى مثل كامل قزانچي على سبيل المثال لا الحصر. هذه القوى الديمقراطية واليسارية لعبت كلها دوراً مهما في النضال الوطني بعدة اتجاهات نشير إلى أبرزها فيما يلي لأهميتها:
1. دور التنوير الفكري والسياسي والاجتماعي في مجتمع معروفة لنا بنيته الاجتماعية ومشكلاته الاقتصادية والثقافية والتأثير السلبي للمؤسسات الدينية وشيوخ الدين عليه.
2. دور النضال في العملية السياسية من أجل مناهضة الاستعمار والأحلاف والقواعد العسكرية ومن أجل الاستقلال والسيادة الوطنية.
3. مكافحة العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية التي سادت الريف والزراعة في العراق بشكل عام والتخلف الزراعي والطابع الكولونيالي للاقتصاد العراقي.
4. النضال من أجل إنهاء سيطرة الاحتكارات النفطية على اقتصاد النفط ووضعه في خدمة الشعب العراقي.
5. النضال من أجل مصالح الشعب الأساسية وظروف عمل الناس المنتجين وتحسين ظروف حياتهم وتحسين وتطوير وتوسيع الخدمات التعليمية والصحية وغيرها.
6. النضال ضد الفكر الفاشي والقومي الشوفيني والرجعي والتعصب والطائفية ومصادرة الحريات والحقوق الديمقراطية.
7. من أجل الاستجابة للحقوق القومية العادلة والمشروعة للشعب الكردي والحقوق الثقافية والإدارية للقوميات الأخرى.
8. النضال من أجل تحقيق التعاون والتضامن والاتحاد العربي بين الدول العربية ومساندة نضال الشعوب العربية في سبيل حريتها واستقلالها وسيادتها الوطنية.
9. وفي سبيل إقامة علاقات متوازنة مع المعسكرين الشرقي والغربي وممارسة سياسة عدم الانحياز والحياد الإيجابي.
من هنا يتبين بأن الحزب الشيوعي العراقي وقوى اليسار الأخرى والشخصيات اليسارية العراقية قد لعبت خلال فترات مختلفة منصرمة دوراً ريادياً في النضال من أجل التنوير السياسي والاجتماعي والتثقيف بقضايا النضال ضد الاستعمار والأحلاف والقواعد العسكرية ومن أجل انتزاع الثروة الوطنية , النفط الخام , وفي الربط العضوي بين النضال الوطني والنضال المهني لكل فئات الشعب وفي سبيل الاتحاد العربي والحقوق القومية للشعب الكردي. ويحق للحزب الشيوعي العراقي وقوى يسارية أخرى أن تعتز بأن جمهرة كبيرة جداً من المثقفين والديمقراطيين العراقيين قد ولجوا هذا الحزب وعملوا فيه وناضلوا من أجل حقوق الشعب ومصالحه , كما أن نسبة مهمة من مثقفي الأحزاب السياسية العراقية , سواء العربية منها أم الكردية أم الكلدان والآشوريين والأرمن والتركمان , كانوا أعضاء أو كوادر أو قياديين في صفوف الحزب الشيوعي العراقي أو أصدقاء قريبين منه جداً.

الحزب الشيوعي العراقي
كان لي شرف مواكبة النهوض الوطني العراقي والمشاركة في نضال الحركة الطلابية وحركة السلام والحزب الشيوعي العراقي في فترة مبكرة من حياتي السياسية التي بدأت في العام 1950. وتواصلت لعقود عديدة لاحقة. وهذا الواقع يسمح لي بالإجابة , كرأي شخصي , عن بعض الأسئلة التي طرحها الزميل الدكتور الجميل وهي لا تعبر عن وجهة نظر الحزب الشيوعي العراقي , إذ أني ومنذ العام 1993 لست عضواً فيه , كما أنها ليست مهمتي ولا أملك الصلاحية , كما أن من حق الحزب الشيوعي أن يجيب عن بعض تلك الأسئلة إن وجد ذلك مفيداً وضرورياً.
سأكون في إجاباتي صريحاً جداً وشفافاً ومقتنعاً كعادتي في ما أكتبه , ولا يتحمل غيري مسئولية ما أكتبه في هذه الصفحات أو في غيرها , ولا أدعي الصواب في كل الأفكار التي أطرحها , ولكنها تحمل ما توصلت إليه وما أعرفه من معلومات.

حول نضال الحزب الشيوعي وتقييم سياساته
اتفق مع الأستاذ الجميل في ما ورد في حلقته الثالثة وفي تلك الفقرة التي يتحدث فيها عن نضال الشيوعيين وقوى اليسار في العراق وعن معاناتهم الطويلة والاضطهاد الشديد الذي تعرضوا له والتضحيات الكبيرة التي قدموها على طريق النضال ضد الاستعمار والرجعية والتخلف ومن أجل حياة حرة وكريمة وسعيدة , والتجربة الغنية التي يمتلكونها بسبب هذا النضال والفترة الطويلة التي مرت عليه منذ تأسيسه في العام 1934. لقد كانت فتوة الحزب وحيوية مناضليه من النساء والرجال وإشراقة الأمل والتفاؤل الثوري بحياة سعيدة وجديدة للشعب العراقي بكل مكوناته وفئاته هي السمة المميزة لنضال تلك الجمهرة المتنامية من الشيوعيات والشيوعيين في العراق خلال عقود غير قليلة. وقد تحمل الشيوعيون وقوى ديمقراطية وتقدمية ويسارية أخرى غير قليلة شرف المشاركة في هذا النضال وتحقيق الكثير من المكاسب الحيوية للشعب وفي فترات مختلفة. ولكن هذه الفترة النضالية الطويلة لم تكن دون كبوات وعثرات وأخطاء , سواء من جانب الحزب الشيوعي العراقي أم من جانب القوى الديمقراطية الأخرى , ولكن بشكل أخص من جانب الحكام الذين هيمنوا على حكم العراق.
ولهذا لا أختلف مع الدكتور الجميل بشأن ارتكاب الحزب جملة من الأخطاء وبروز نواقص في مسيرة العمل والنضال وحصول انقسامات وانشقاقات أو حتى غلو في المواقف وخاصة في أعقاب ثورة تموز 1959 ورغبة غير ضرورية في المشاركة في السلطة الوطنية في أعقاب ثورة تموز التي شارك في تفجيرها وكان عضواً رئيسياً في جبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت في العام 1957 والتي دعت وعملت وساعدت وساندت انتفاضة الجيش في 14 تموز 1958 , ولكن أغفلت قيادة الانتفاضة العسكرية إشراكه في السلطة الجديدة بخلاف ما حصل مع بقية القوى السياسية التي شاركت في جبهة الاتحاد الوطني وبأكثر من وزير. وعلينا أن نقدر تأثير هذه المشكلة , لا من الناحية السياسية حسب , بل من الناحية النفسية , على حزب شارك طويلاً في النضال وقدم الشهداء ثم تغفل مشاركته في السلطة بعكس قوى جديدة تشكلت بعد عقود من وجوده على الساحة السياسية العراقية ثم تشارك في الحكم وبأكثر من وزير.
ومع ذلك فأنا أدرك تماماً , كما يدرك الصديق العزيز , بأن ليس هناك من حزب سياسي يعمل في الحقل السياسي وفي ظروف وأوضاع العراق المعقدة ولا يرتكب أخطاءً. ومن كان من القوى السياسية العراقية بلا خطيئة , فليرمي الحزب الشيوعي العراقي بحجر! أن الأخطاء التي ترتكب في الحقل السياسي تنشأ عن عوامل كثيرة , بما في ذلك مستوى الوعي العام في المجتمع وفي الحزب ونهج الاضطهاد ومحاولات الإقصاء وفقدان الكثير من الكوادر القيادية من ذوي الخبرة الجيدة والثقافة العالية ...الخ. ولكن لدي الثقة الكاملة بأن أخطاء بعض الأحزاب الأخرى , وخاصة الأحزاب القومية , ومنها حزب الاستقلال وحزب البعث والقوى القومية , كانت أكبر وأكثر غلواً وتشدداً وبعضها أكثر فتكاً , كما أنها تميزت بنهج سياسي شوفيني وبعضها طائفي أيضاً. ولكن هذا لا يبرر بأي حال عدم الاعتراف بما ارتكبه الحزب الشيوعي من أخطاء في هذا المجال أو ذاك. ومن يتابع نشاطات وتقارير الحزب الشيوعي العراقي سيجد أنه قد سجل بجرأة ووضوح اعترافاً صريحاً بتلك الأخطاء في أكثر من تقرير وتقييم لمراحله النضالية السابقة. ولكن كان عليه أن يتجنب تكرار تلك الأخطاء.
لقد قيم الحزب الشيوعي العراقي سياساته في فترة حكم البعث وأدانها موضحاً أسباب قبوله بذلك التحالف وأسباب خروجه منه. ويمكن الإطلاع على ذلك التقييم الذي أصدره الحزب في الثمانينات. وقد شاركت مع المناضلة الراحلة الدكتورة نزيهة الدليمي والصديق العزيز الأستاذ عادل حبة في العام 1981 في وضع مسودته الأولى. ولكن لم يتقدم أي حزب سياسي آخر في العراق بنقد سياساته كما فعل الحزب الشيوعي العراقي , في ما عدا حزباً سياسياً آخر شارك مرة واحدة في توجيه النقد لتجربته هو الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة السيد مسعود بارزاني , الذي انتقد بعض جوانب سياسته في الاجتماع الذي عقد في العام 1976 , حين درس تجربة النضال والحكم والتحالف مع البعث والثورة الكردية للفترة 1970-1976 وقيم هذه التجربة بعد انهيار الحركة المسلحة بسبب التآمر الذي مارسه صدام حسين مع شاه إيران في اتفاقية الجزائر في العام 1975 ومشيراً إلى جوانب الخلل والخطأ في تلك السياسة. ويمكنني أن أشير للصديق الدكتور الجميل إلى جملة من التقارير التي شخص الحزب الشيوعي العراقي فيها الأخطاء التي ارتكبها ابتداءً من عام 1959 وفي العام 1967 ومن ثم في تقييم علاقته مع حزب البعث العربي الاشتراكي للفترة /19731972-1978/1979. واحتفظ في اغلب تلك التقارير والتقييمات في مكتبتي الشخصية.

الحزب الشيوعي العراقي والكومنترن
لا شك في أن الحزب الشيوعي العراقي بعد تأسيسه بفترة قصيرة انتمى إلى الحركة الشيوعية العالمية (الأممية الثالثة أو الشيوعية) التي كانت تتصدى لنهوض الفاشية على الصعيد العالمي وأصبح عضواً في (الكومنترن). واستمر في عضويتها حتى اتخاذ يوسف ستالين قراراً بحل هذا التنظيم الأممي والمركز الدولي للحركة الشيوعية العالمية في العام 1942. إلا أن الحزب الشيوعي العراقي وغالبية الأحزاب الشيوعية في العالم قد ارتبطت بوشائج وعلاقات قوية جداً , فكرية وسياسية , مع الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي والذي اعتبر في حينها المركز الفعلي للحركة الشيوعية العالمية والقطب المناهض للاستعمار والاستغلال على الصعيد العالمي. وكان الحزب مؤيداً ومسانداً للحزب الشيوعي السوفييتي والدولة السوفييتية في آن. ولا شك في أن هذا الارتباط الفكري والسياسي , الناشئ عن قناعة لدى أحزاب المدرسة الماركسية - اللينينية , قد ألحق أضراراً غير قليلة بهذه الأحزاب فكرياً وسياسياً وخلق فيها اتكالية فكرية وقبولاً بكل اجتهادات الحزب الشيوعي السوفييتي باعتباره الأكثر معرفة ووعياً وخبرة وقدرة على التحليل , وبالتالي فهو الأصح دون غيره من الأحزاب , في حين كانت سياسات الحزب والدولة السوفييتية تنطلق من مصالحها الخاصة بشكل ملموس مع تأييد واضح لحركات التحرر الوطني من منطلق العداء للاستعمار والرأسمالية العالمية. لقد خلقت هذه العلاقة ذات الطابع الإيماني اتكالية فكرية وسياسية غير محدودة وغير حميدة , وكانت مؤذية للغاية ومعرقلة للمبادرة والإبداع الفكري والسياسي لبقية الأحزاب , ومنها الحزب الشيوعي العراقي , وبدت وكأنها تبعية فكرية وسياسية. لقد بحثنا موضوع الكومنترن وعضوية الحزب الشيوعي العراقي في هذه المنظمة الدولية بشكل موسع وبنظرة نقدية في كتاب مشترك (كاظم حبيب والدكتور زهدي الداوودي] الذي صدر في العام 2003 عن دار الكنوز الأدبية ببيروت تحت عنوان : فهد والحركة الوطنية في العراق [التفاتة نقدية إلى الوراء من أجل مستقبل أفضل]. وهي دراسة خاصة بنا نحن الاثنين تلخص دراستنا للمصادر وأحداث تلك الفترة والعلاقات الداخلية في ما بين الأحزاب واللجنة التنفيذية للكومنترن واستنتاجاتنا بشأنها , بصرف النظر عن مدى اتفاقها أو تعارضها مع وجهة نظر الحزب الشيوعي العراقي أو الشيوعيين العراقيين.
ولكن علينا جميعاً , ومهما كان نقدنا للدولة والتجربة السوفييتية صحيحاً وصادقاً , الاعتراف بأن الاتحاد السوفييتي , وعلى امتداد سنوات طويلة , قد وقف بقوة وإصرار إلى جانب القضايا العربية وحركة التحرر الوطني ودعم جهود شعوبها لتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وفي المحافل الدولية والإقليمية الأخرى , رغم أنه قد ألحق في الوقت نفسه أضراراً ملموسة من خلال علاقاته غير السليمة مع النظم الدكتاتورية والاستبدادية في العديد من الدول العربية التي كان يطلق عليها بالنظم الثورية , ومنها الحكم في العراق , وفي فترات مختلفة وعدم اهتمامه كلية بالقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في تلك الدول , بحكم مصالحه الخاصة والحرب الباردة التي كان يخوضها ضد المعسكر الرأسمالي في حينها. ورغم ذلك لا بد من القول بأن قيادة الحزب الشيوعي العراقي تبقى هي المسئولة عن رسم سياسات الحزب حينذاك بغض النظر عن مدى تأثير السوفييت عليها وعلى تلك السياسات.
علينا أن نعترف بجرأة ووضوح بأن الارتباط الفكري والسياسي بالمدرسة الماركسية - اللينينية تحت واجهة الأممية ومصالح الاشتراكية العالمية قد خلق إشكاليات كبيرة للأحزاب الشيوعية عموماً , ومنها الحزب الشيوعي العراقي , ومن بينها ذلك التركيز غير المحدود على كتابات ماركس وأنجلز ولينين وستالين , ومن ثم حين غاب ستالين واُنتقد بعد وفاته , حل محله في بعض الأحيان ولبعض القوى الماركسية ماو تسي توتغ , أو ليبقى الثلاثة الأوائل فقط زائداً مسئول الحزب المعني في هذا البلد أو ذاك , أي كانت الثقافة العامة لعامة الشيوعيين , وخاصة في الدول النامية , ومنها العراق , وحيدة الجانب وغير مفتوحة على الدراسات والأبحاث والكتب والأفكار والمناهج الأخرى أو حتى لقوى اليسار الأخرى , إلا من كانت له مبادرات شخصية ويسعى ذاتياً إلى تثقيف نفسه بصورة أوسع مما كان عليه ولسنوات طويلة في صفوف الحزب أو حتى في المدارس الحزبية في الدول الاشتراكية , وعددهم ليس قليلاً , وخاصة في صفوف المثقفين. إذ كانت توصف كتابات الكثير من هؤلاء الكتاب الماركسيين والمفكرين غير الشيوعيين بالتحريفية وأصحابها بالتحريفيين أو المرتدين. ولم يكن في مقدور أي حزب شيوعي أن يخرج على الخط السوفييتي , إذ سرعان ما كان يتهم بالتحريفية والارتداد عن الماركسية – اللينينية , كما حصل للحزب الشيوعي اليوغسلافي أو الحزب الشيوعي الإيطالي أو غيرهما من القوى والأحزاب السياسية الماركسية - اللينينية. وهذا ما حصل لبعض الشيوعيين العراقيين في فترات مختلفة أيضاً الذي تجرأ وانتقد السوفييت أو سياساتهم ومواقفهم. وفي أيامنا هذه , ورغم كل التجارب المريرة والدروس الثمينة , لا يزال البعض من هؤلاء الماركسيين - اللينينيين متشبثاً بل ومهووساً بترديد هذه المصطلحات البائرة وتوجيه الشتائم النابية لمن يفكر ويكتب بغير ما يفكر ويكتب هو , ناسياً هذا البعض أو غير منتبه ومهتم بالتحولات الهائلة الجارية على الصعيد العالمي وعلى المستويين الفكري والسياسي. لقد أشرت في أكثر من مقال أن سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي , الرفيق فهد , كان له خطابان مختلفان تماماً : خطاب وطني عراقي يعبر بصدق وحيوية وواقعية عن مشكلات العراق وعن المهمات التي تواجهه والتي يمكن أن يكتشفها الإنسان حال قراءة كتابات فهد , والخطاب السياسي الأممي الذي كان يعبر عن وجهة نظر السوفييت التي تبناها ويكتب تماماً كما كانوا يكتبون , فهو ليس خطابه الشخصي , رغم تبنيه , بل هو خطاب السوفييت ولكنه كان كما يبدو مقتنعاً به أيضاً. وهو بعيد كل البعد عن واقع العراق ومهماته , وإذ يتجلى الخطاب الأول في كراس البطالة وكراس مستلزمات كفاحنا الوطني أو مقالاته الافتتاحية حول الوضع في العراق والأقطار العربية , فأن خطابه الثاني قد تجلى في كراس فهد الموسوم "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" البعيد كلية عن الواقع العراقي , بل هو تجسيد للواقع الأوروبي.
إن الخطاب الوطني للحزب الشيوعي العراقي كان على امتداد عدة عقود أكثر التصاقاً بالواقع وبالناس وأكثر تدقيقاً لما يطرحه من موضوعات بالقياس مع القوى القومية والبعثية وأكثر تأثيراً في الناس وفي الفئات الاجتماعية المثقفة والفئات الكادحة في المدينة والريف وأكثر تعبئة لهم في النضال. وفي هذا أتفق مع تشخيص الزميل سيّار الجميل. وأرى أن هذا يعود إلى عامل الجهد الطيب نسبياً الذي كان يبذل من جانب الشيوعيين في دراسة الوضع في العراق وعلاقة الحزب بالمجتمع وفئاته المثقفة والكادحة في آن , كما أنه يعود إلى مضمون المنهج الذي كان يمارسه في التحليل وفي وضع سياساته.
هل من تجديد في التفكير الشيوعي العراقي؟

هذا هو السؤال الذي طرحه الأستاذ سيّار الجميل وأجاب عنه بقوله بأن الشيوعيين والماركسيين العراقيين لم يجددوا تفكيرهم السياسي. وهنا نحتاج إلى وقفة تدقيقية. كما أنه في مواقع أخرى شمل الكثير من الأحزاب الشيوعية بهذا الاستنتاج المماثل. من حيث المبدأ يفترض أن يأخذ الحزب الشيوعي العراقي على عاتقه مهمة الإجابة عن هذا السؤال , وكذا الأحزاب الشيوعية في الدول العربية. ومع ذلك سأسمح لنفسي ومن موقعي الفكري والسياسي المستقل أن أجيب عن هذا السؤال معبراً عن وجهة نظري الشخصية.
أتابع بعناية واستمرارية التحولات الجارية على فكر وسياسات وممارسات الأحزاب الشيوعية وقوى اليسار في العالم العربي والعالم. وأجد من غير الصائب إصدار الأحكام المطلقة من خلال القول نعم لقد تحقق التجديد في كل هذه الأحزاب , أو لا لم يتحقق أي تجديد فيها , سواء أكان ما يمس الفكر وطريقة التفكير أو ما يمس وضع وممارسة السياسة. فوفق المعلومات التي لدي فإن الواقع يشير إلى سعي الكثير من الأحزاب الشيوعية إلى ذلك , وبعضها مجبر لا بطل , ولكن الكثير منها لم يخطو خطوات جادة وضرورية في عملية التغيير والتجديد والتحديث فكراً وسياسة , إذ لا يزال مشدوداً إلى الماضي ولا يختلف عن أي سلفي آخر. ولكن البعض الآخر منها حقق نتائج إيجابية على طريق التجديد والتحديث.
وبشأن الدول العربية فقد كتبت في مطلع التسعينات أكثر من دراسة ومقال عن واقع الحركة الشيوعية في الدول العربية وضرورة التجديد والتحديث للفكر والممارسة نشرت في مجلة الطريق اللبنانية أو في مجلات أخرى , كما كتب غيري بهذا الصدد , ومنهم الصديق كريم مروة والصديق الدكتور فالح عبد الجبار وزهير الجزائري , على سبيل المثال لا الحصر , في حين امتنعت مجلة الحزب الشيوعي العراقي (الثقافة الجديدة) عن نشرها في حينه. وقد أشرت إلى أن أغلب هذه الأحزاب ما يزال يراوح في مواقعه ويخشى التغيير والتقدم وما زال بعيداً عموماً عن التجديد الذي تتطلبه المرحلة الجديدة من حياة هذه المجتمعات. وخلال الفترة المنصرمة ظهرت بعض المحاولات الملموسة , ولكنها ما تزال جنينية وبحاجة إلى جرأة وإقدام في معالجاتها , بما في ذلك اسم الحزب.
أما بصدد الحزب الشيوعي العراقي , وكما أرى , فقد بذلت محاولات غير قليلة لعمليات التجديد والتحديث , ولكنها كانت ولا تزال , كما أرى , قاصرة عن بلوغ ما يفترض أن يتجدد في الحزب من حيث الفكر والممارسة السياسية ومن حيث استراتيجية الحزب وتكتيكاته وخطابه السياسي وعلاقاته وحياة الحزب الداخلية , وخاصة المسألة الديمقراطية ودور القيادة والعلاقة بين القيادة والقاعدة وتجديد القيادات , وكذلك من حيث اسم الحزب. وقبل عقد المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي في العام (2007) وجهت رسالة موسعة إلى قيادات وكوادر وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي العراقي بتاريخ 26/6/2006 نشرت في مواقع كثيرة , من بينها موقع الحوار المتمدن وصوت العراق , بينت فيها وجهة نظري كرفيق سابق في الحزب الشيوعي العراقي وكيساري عراقي يهمه نضال القوى اليسارية , ومنها الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي في كُردستان العراق , في ما يفترض أن يتخذه الحزب الشيوعي من تجديد في الفكر والتنظيم والعلاقات وفي السياسة. يمكن لمن يريد العودة إليها والإطلاع على وجهة نظري الشخصية. ولا بد من الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي العراقي , ولظروف تاريخية وآنية , يعيش تجربة جديدة ومعقدة جداً , كما يشهد تراجعاً فكرياً وسياسياً في الحركة الديمقراطية العامة في البلاد ونمواً واسعاً وانتشاراً أو مداً أصفر للفكر اليميني والفكر الديني السلفي المتخلف وللطائفية السياسية والعشائرية , وهي تشكل عوامل ضاغطة وشرسة في آن , وهي التي تجعل من الحزب أيضاً , حتى الآن , هامشي التأثير في الفكر والسياسة العراقية. إن خروجه من هذا الواقع والمأزق لا يرتبط به وحده , بل بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري والوعي الاجتماعي الراهن في العراق , ولكن اتخاذ الحزب مبادرات جادة لتغيير جاد لبنيته وجملة من موضوعاته الفكرية والسياسية ستلعب دوراً مهماً في الساحة السياسية العراقية وستسهم في عملية التغيير المنشودة للمجتمع. إن عملية التغيير ليست سهلة وستواجه مقاومة حادة , ولكن لا بد منها إذا كان الحزب يريد أن يخرج من هامشيته الراهنة ودوره الثانوي في الحياة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية العراقية.
كانت ردود الفعل متباينة , ولكنها كانت عموماً إيجابية ولم تكن متشنجة. وهي بداية طيبة , في ما عدا مجموعة صغيرة من الأصدقاء الطيبين التي قطعت لسوء الحظ علاقتها بي , رغم أن علاقتي بها تمتد إلى ما قبل ثورة تموز 1958 , إذ أنهم اعتقدوا بأن رسالتي موجهة ضد الحزب وتريد إنهاء وجوده , وهذا البعض الطيب من الأصدقاء لا شك كان ولا يزال مخطئاً بتصوره. لا أدعي الصواب في ما قدمته من ملاحظات وليس من حقي أن أدعي الصواب , ولكنها كانت محاولة جادة ومسئولة لتحريك الجو الفكري والمناخ السياسي في الحزب وفي غيره من الأحزاب السياسية العراقية , والتي كلها تحتاج إلى تغيير عميق وشامل. إن مبادئ الديمقراطية التي أعمل على الالتزام بها لا تسمح لي بأكثر من تقديم المقترحات للحزب الشيوعي العراقي وعلى مؤتمراته أن تقرر ما تراه مفيداً ومناسباً لحزبهم. إلا أني , والتزاماً مني بالصدق والصراحة التي أريد أن تكون عليه حواراتي مع الصديق الدكتور سيّار الجميل ومن يقرأها , من جهة , وحرصاً مني على تقدم وتطور هذا الحزب اليساري من جهة أخرى , وحرصاً على تاريخه النضالي الطويل , أقول بأن الحزب الشيوعي العراقي قد تقدم خطوة بالاتجاه الصحيح , ولكنها مجرد خطوة , وهو ما يزال بحاجة إلى الكثير من التجديد والتحديث والتغيير ليكون حزباً يسارياً ديمقراطياً مواكباً لواقع ومتطلبات العصر والمرحلة والمهمات والتغيرات الحاصلة في العالم والإقليم والبلاد. وتبقى المسألة مرتبطة بالحزب ذاته. لقد تخلى الحزب عن دكتاتورية البروليتاريا وعن اللينينية وعن الاعتقاد بامتلاك الحق والحقيقة والصواب والطليعية وعن بعض المسائل الأخرى , ولكنه لا يزال بحاجة , كما أرى , إلى المزيد من التحرر الفكري من قيود وتقاليد وتركة الماضي الثقيلة في التنظيم والسياسة وفي العمل الفردي والتحول صوب القيادة الجماعية وفهم أكبر لدور الفرد .. الخ , وليس كل تراث وتقاليد الماضي سيئة , ولكن فيها الكثير الذي يفترض أن يخلي مكانه لقيم ومعايير ديمقراطية. ولا أخفي القول بان المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي لم يستطع تجاوز الكثير مما كان يمكن بل كان ضرورياً تجاوزه.
وبصدد موقف الحزب الشيوعي من العروبة وقسوة التهمة التي وجهها السيد اللبناني إلى مواقف الحزب الشيوعي العراقي من القومية العربية أو العروبة وخطلها الكامل , واعتقاد الأخ الدكتور الجميل بها , كما يلاحظ من طريقة العرض , فأني سأتناول الموضوع بشيء من التفصيل في الحلقة القادمة من أجل أن أدلل على خطأ ذلك الادعاء وأزيل هذا الحكم الجائر أولاً , ولكي أتفق مع صديقي الفاضل حول أهمية التحري والتدقيق والبحث المضني للوصول إلى تأكيد أو نفي مثل تلك الاتهامات بحق القوى السياسية العراقية , ومنها الحزب الشيوعي العراقي ثانياً , والتي مر على التصريح بها من جانب الأخ اللبناني ما يقرب من 20 عاماً , إذ كان الوقت كاف لمثل هذا التدقيق.
انتهت الحلقة السابعة وتليها الحلقة التاسعة.



لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الرأي الآخر..
[أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟]

الحلقة الثامنة : الحزب الشيوعي العراقي والعروبة
الموقف من العروبة في سياسات الحزب الشيوعي العراقي
ابتداءً لي عتاب أخوي مخلص مع صديقي الفاضل الأستاذ الجميل , رغم أهمية الثقة المتبادلة بين الناس , وخاصة بين الأصدقاء , لا يمكن الاعتماد على قول لمفكر لبناني واحد أشار قبل عشرين عاماً برأي مفاده , كما ورد في الحلقة الثانية من حلقات الدكتور الجميل بتاريخ 15/12/2007 ومنشورة على موقعه الخاص : "إن الشيوعيين العراقيين وحدهم يختلفون عن كل الحركات الشيوعية العربية , فهم وحدهم لهم موقفهم المضاد من (العروبة)..." , إذ كان عليه , كما أرى , أن يعود إلى خمسة مصادر , قبل التصريح بذلك , وهي:
1. كتابات وتقارير مؤتمرات وكونفرنسات واجتماعات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وصحافته , إضافة إلى مواقفه العملية.
2. كتابات المثقفين الشيوعيين على امتداد العقود المنصرمة.
3. تقارير واجتماعات وخطب ممثلي الأحزاب الشيوعية في الدول العربية في الاجتماعات واللقاءات المشتركة لهذا الحزب وعلى المستوى الدولي.
4. الكتب التي صدرت عن باحثين عرب وغير عرب على الصعيدين العربي والدولي التي تبحث في سياسات ومواقف الحزب الشيوعي العراقي , ومنهم الأستاذ الباحث والأكاديمي الراحل حنا بطاطو في كتابه الموسوم "الطبقات الاجتماعية القديمة والحركة الثورية في العراق" الصادر بالإنجليزية في العام 1982 وترجم إلى العربية في العام 1992 وصدر عن مؤسسة الأبحاث العربية ببيروت بثلاثة أجزاء تحت عنوان "العراق". (حين أشير إلى أحد الباحثين فلا يعني هذا أن ما كتبه ينبغي أن يؤخذ كما هو , ولكن يعني أني متفق معه في ما أشار إليه بصدد موضوع البحث. ولا يتعارض هذا مع احتمال اختلاف باحث آخر مع تلك الفكرة التي أيدتها. بالنسبة لي أجد الكثير مما يمكن أن يتطور في أبحاث الكاتب الراحل حنا بطاطو , ولكن هذا الإنسان العلمي الراحل بذل جهوداً كبيرة وأنجز عملاً علمياً متقدماً لم ينجز من غيره قبل ذاك , وهذا وحده يستحق أن نحترم ما كتبه دون أن يعني ذلك أننا نتفق مع كل ما كتبه , إذ أن فيه ما يستوجب التطوير والإغناء والتغيير).
5. الاتصال بالشيوعيين العراقيين والاستفسار منهم عن موقفهم إزاء العروبة أو القضايا العربية بهدف التدقيق في ما ادعاه الأخ اللبناني.
ولنبدأ الآن بمعالجة الموضوع.
أدرك من معرفتي بموقف الحزب الشيوعي العراقي من القضية العربية والعروبة أن هذا الموقف لا يحتاج إلى دفاع , بل يستوجب التوضيح لمن لم يطلع على سياسة الحزب الشيوعي العراقي في هذا الصدد وعلى مواقفه العملية وحصول تشويهات كثيرة على هذا الموقف من قوى سياسية مختلفة. ولي الثقة بأن هذا التوضيح سيشارك في إجلاء واقع هذه السياسة والموقف من العروبة ويقنع صديق بصحة ما أشير إليه.
لا بد أن أبدأ بتوضيح هذه السياسة منذ العقد الأول لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي وبما هو متوفر تحت تصرفي من أدبيات الحزب الشيوعي العراقي.
في العام 1943 نشر يوسف سلمان يوسف (فهد) سكرتير عام الحزب الشيوعي سلسلة مقالات عن الوحدة العربية والاتحاد العربي وعن موقف الشيوعيين من الاتحاد العربي ..الخ في جريدة القاعدة , جاء في مقدمتها النص التالي:
"منذ الانقلاب الدستوري الذي حدث في الدولة العثمانية، أي منذ إسقاط الحكم الأوتوقراطي المتمثل في السلطان عبدا لحميد (1908) واستخلافه بأخيه السلطان محمد رشاد المقيد بالدستور وبمجلس المبعوثان، كانت الحركات الوطنية التي قام بها شباب العرب وزعماؤهم وسياستهم في الآستانة وفي مختلف الأقطار العربية، حركات تستهدف نهضة البلاد العربية عامة وانبعاثها الثقافي والسياسي الخ.. وإن بدا على بعض الجمعيات والنوادي العربية صبغة إقليمية إلا أن الحركة بصورة عامة كانت بجوهرها وحتى بشكلها حركة عربية تهم مباشرة أهم الأقطار العربية التي كانت آنذاك تحت سيطرة الأتراك، وأعني بها العراق والحجاز وسوريا بما فيها فلسطين وشرق الأردن. وكانت النوادي والجمعيات التي أنشئت في الخارج تضم العراقي إلى جانب السوري والفلسطيني والحجازي والمصري. وفي الحرب الإمبريالستية الأولى (1914 - 1918) أخذت الحركة العربية شكلها القومي الواضح (بالنسبة للعرب) وذلك عندما أنضم قادتها المعروفون برجال النهضة العربية إلى جانب الحلفاء مؤملين أن يحققوا بمساعدة الإنكليز استقلال البلاد العربية -الحجاز، العراق، سوريا وفلسطين- وإيجاد حلف بينهما عن طريق شريف مكة (المغفور له الملك حسين بن علي) وأولاده الأمراء فيصل وعبد الله وعلي، ملوكا على هذه الأقطار. وهكذا أطلق الملك حسين في 9 شعبان رصاصته الأولى معلنا ، باسم العرب، الثورة على خليفة المسلمين، أي الثورة على الأتراك المستعمرين للأقطار العربية آنذاك، وأعتبر 9 شعبان، اليوم الذي أطلقت فيه تلك الرصاصة عيدا وطنيا للعرب يعرف بعيد النهضة العربية". (فهد. الوحدة العربية والاتحاد العربي. مؤلفات الرفيق فهد. من وثائق الحزب الشيوعي العراقي. سلسلة رقم (6). مطبعة الشعب. 1973. ص 5/6).
وفي مقال بعنوان "الشيوعيون والاتحاد العربي" كتب يقول:
"لم يكن الشيوعيون أقل حماساً ورغبة صادقة لفكرة التقارب والتعاون فيما بين الأقطار العربية لذلك اجتمع مندوبون من مختلف الأحزاب الشيوعية العربية في خريف 1935 ودرسوا هذه القضية من جميع وجوهها فتبين للمجتمعين أن شعار الوحدة العربية غير عملي لما بين الأقطار العربية من فروق في التطور وشكل الحكم والظروف الداخلية الخاصة ... كما أن ملوك العرب وأمراءهم الحاليين ليسوا مستعدين للتنازل عن ملكهم لواحد منهم ولإدماج أقطارهم في دولة واحدة كبيرة , لذا ارتأى مندوبو المؤتمر الشيوعي العربي عدم الأخذ بشعار الوحدة العربية واستبداله بشعار عملي ممكن التطبيق ومناسب للظروف التي كانت تجتازها آنذاك البلاد العربية (سنة 1935) وهذا الشعار هو الاتحاد العربي. أي أن يتألف اتحاد عربي اختياري من الأقطار العربية المستقلة , على أن لا يمس ذلك الاتحاد شكل الحكم السياسي الذي اختاره ويختاره كل من الأقطار العربية وعلى أن يساعد الاتحاد العربي الأقطار العربية غير المستقلة على نيل استقلالها". (نفس المصدر السابق).
وتحت عنوان: الاتحاد العربي الذي تنشده الشعوب العربية" كتب فهد ما يلي:
"1. أن يكون الاتحاد العربي اتحادا اختياريا للشعوب العربية لا اتحاد ملوك العرب وأمرائهم والطبقات الحاكمة.
2. أن يستمد هذا الاتحاد قوته من مصدرها الحقيقي من الشعب العربي بكافة طبقاته ومن الحركة الديمقراطية العالمية.
3. أن يضم الأقطار العربية ذات السيادة الوطنية والكيان الدولي المعترف به من كبريات دول الأمم المحبة للحرية كالاتحاد السوفييتي والصين.
4. أن يضم الأقطار العربية التي تمارس النظام الديمقراطي بالفعل لا بالادعاء.
5. أن لا يكون الاتحاد العربي موجها ضد أمة من الأمم المنضمة إلى جبهة الأمم المتحدة (أي أن لا يكون سعد آباد (عربيا) وأن لا يكون أداة بأيدي دولة أو دول استعمارية وأن لا يستهدف نوايا توسعية وطنية (شوفينية) اعتدائية.
6. أن يفرض على حكومات الأقطار المنضمة إلى الاتحاد العربي السير على سياسة عملية وسريعة لرفع مستوى الشعب والبلاد الاقتصادي والاجتماعي والصحي.
7. أن يضمن كل قطر يرغب في الانضمام إلى الاتحاد العربي الحقوق المتساوية التامة للأقليات القومية في ذلك القطر ومساعدة تلك القومية في تنمية ثقافتها القومية والثقافة العامة والمحافظة على تاريخها القومي ولغتها وآثارها التاريخية إلى أخره". (المصدر السابق. ص 21/22).
ثم يعالج فهد مسألتين مهمتين في إطار القضايا العربية حين كتب يقول بشأن اقتطاع تركيا جزءاً مهماً من الأرض السورية. وبعد أن يستعرض فهد مواقف وادعاءات ومتاجرة الحكام العرب بفكرة الوحدة العربية وعدم تمكنهم من مساندة القطر الشقيق سوريا عند اعتداء تركيا عليها واقتطاع جزء كبير من أرض الوطن السوري (الاسكندرونة وإنطاكية)، يقول: "ومع ذلك احتكروا شعارها وجعلوه "ماركة مسجلة" باسمهم وجعلوا من 9 شعبان اليوم الذي أطلقت فيه الرصاصة الأولى معلنة الثورة على الأتراك في سبيل استقلال البلاد العربية، عيداً كالأعياد الدينية التي فهم الناس سبب منشئها الأصلي" (نفس المصدر السابق. ص 11/12). ثم لا يتردد فهد في الإشارة إلى انصراف رجال السياسة في العراق عن فكرة الاتحاد العربي إلى الأسباب التالية: "تثبيت كيانهم الطبقي، وتثبيت كيان العراق كدولة بطريقتهم الخاصة، أي بالطريقة التي تمليها عليهم مصالحهم الطبقية الوقتية، تجنب الاصطدام مع الاستعمار الذي ينظر إلى الاتحاد العربي كفاتحة لضياع نفوذه ومصالحه في الأقطار العربية، الانحطاط الصناعي في الأقطار العربية وعجزها عن سد حاجة السوق الداخلية، واعتمادها في التصدير والاستيراد على الأقطار الأجنبية المهيمنة سياسيا على الشركات الأجنبية الموجودة داخل البلاد". (نفس المصدر السابق). كان كل هذه الكتابات في العام 1943. وفي العام 1944 وردت في الميثاق الوطني للحزب الشيوعي العراقي , الذي اقره المؤتمر الوطني الأول للحزب , النصوص الثلاثة التالية عن الموقف من القضايا العربية:
"13- (أ) نناضل في سبيل التقارب والتعاون السياسي بين الشعوب العربية , بين أحزابها وجماعاتها السياسية الديمقراطية , من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية لفلسطين والأقطار العربية المستعمرة والمحمية , ومن أجل استكمال استقلال العراق وسوريا ولبنان ومصر , ضد الصهيونية وضد الدول المستعمرة , مباشرة أو عن طريق المعاهدات والانتداب والحماية للبلاد العربية , وضد محاولات واعتداءات استعمارية جديدة وضد تثبيت النفوذ الأجنبي بأي شكل كان في البلاد العربية.
(ب) نناضل في سبيل إيجاد حلف شريف , أداة تنفيذ لهذه الغايات.
14. نناضل في سبيل التعاون الاجتماعي بين شعوب البلاد العربية بين منظمات العمال والمثقفين والطلاب في البلاد العربية , من أجل تقوية التنظيمات الشعبية وتوحيد جهودها , من أجل رفع مستوى الشعور الوطني , من أجل ممارسة الحريات الديمقراطية كافة , من أجل رفع مستوى الشعب الاجتماعي والاقتصادي والصحي والثقافي , ضد التيارات والمفاهيم والدعايات الاستعمارية المغرضة ضد أساليب الحكم الاستبدادية اللادمقراطية".
15. نناضل في سبيل التعاون الاقتصادي بين الأقطار العربية من أجل المحافظة على ثورات بلادنا وتنميتها واستخدامها لرفع مستوى البلاد العربية الصناعي والزراعي ولغرض سعادة ورفاه شعوب البلاد العربية من أجل رفع الحواجز الكمركية , وتسهيل وسائط النقل والتبادل التجاري , ضد شركات الاحتكار الأجنبية ومصارفها وضد الهجوم الصهيوني والاقتصادي". (فهد. كتابات الرفيق فهد. من وثائق الحزب الشيوعي العراقي). بيروت. دار الفارابي. بغداد. الطريق الجديد. حزيران 1976. ص 136).
وقد ورد في تقرير الكونفرنس الحزبي الثاني الذي عقد في أعقاب استعادة الحزب لوحدته في أيلول/سبتمبر من العام 1956 ما يؤكد صواب موقف الحزب الشيوعي العراقي وتطوره المستمر من العروبة , إذ جاء فيه بهذا الصدد ما يلي:
"1 - إن الأرض التي يقطنها الشعب العربي في العراق و هي جزء لا يتجزأ من أرض العروبة وأن الشعب العربي في العراق جزء لا يتجزأ من كل الأمة العربية التي مزقتها المؤامرات الاستعمارية , فالأمة العربية هي أمة واحدة تمتلك جميع الخصائص القومية للأمة الواحدة". ثم يؤكد التقرير ما يلي:
" 4 - إن الطريق إلى الوحدة العربية ينفتح على أساس زوال الاستعمار عن العالم العربي وتحقيق الإصلاحات الديمقراطية. وأن كل تعاون بين الأقطار العربية على أساس معاد للاستعمار وبعيد عن نفوذه وتدخله وفي جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية خطوة إلى أمام في طريق الوحدة العربية المنشودة"
وبشان القضية الفلسطينية ورد ما يلي:
" 8 – إن ما يطالب به العرب اليوم , كخطوة مهمة في سبيل تسوية سلمية ديمقراطية عادلة لمشكلة فلسطين وهو تنفيذ قرارات الأمم المتحدة. هذه القرارات التي أيدتها 29 دولة آسيوية وأفريقية في مؤتمر باندونغ والتي رفضتها إسرائيل بتحريض من الاستعمار , بغية حمل العرب على الرضوخ للأمر الواقع". (راجع: يوسف, ثمينة ناجي و خالد , نزار. سلام عادل. سيرة مناضل. جزء أول. مقتطفات من وثيقة الكونفرنس الثاني. دار المدى للثقافة والنشر. دمشق. ط 1. 2001. ص 138/139.)
كما عالج التقرير المسألة الكردية بشكل سليم , ولكني لست بصددها في هذا المقال.
هذا كان في البدايات. ولكن تواصل هذا الموقف فيما بعد أيضاً وتجلى في مشاركة الحزب الفعالية والدور المميز في قيادة انتفاضة تشرين 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر بعد صدور قرار الرئيس المصري جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس وإدانة الشعب العراقي كله لهذا العدوان ودعم نضال الشعب المصري وحكومته الوطنية.
وشارك الحزب الشيوعي في صياغة موقف جبهة الاتحاد الوطني إزاء الموقف من حركة التحرر الوطني العربية. وفي العام 1958/1959 اتخذ الحزب الشيوعي موقفاً واضحاً وطرح موضوع الاتحاد مع مصر وسوريا باعتبارها الصيغة الأفضل والأنسب للمرحلة من التلاعب بعواطف الناس وطرح شعار الوحدة الذي لا تتوفر ظروف تحقيقه حينذاك وبأي حال من جانب القوى القومية والبعثية , والذي لم تحققه هذه القوى حين وصلت إلى السلطة بانقلاب عسكري دموي في العام 1963 أو في انقلاب عبد السلام محمد عارف في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس العام , رغم كل الاتفاقيات الشكلية التي وقعت , بل ساهمت الحكومتان على التوالي في المزيد من عدم الثقة والتباعد بين الدول العربية وأكثر من أي وقت مضى. ولم تكن سياسة البعث في فترة حكم البعثيين الثاني بأحسن من سابقاته بصدد الوحدة العربية , ومنها موقف هذا النظام من غزو الكويت والإساءات التي لحقت بفكرة الوحدة العربية من جراء هذا العدوان الجنوني لنظام سياسي فاشي ودموي.
واصل الحزب الشيوعي العراقي موقفه من قضية العروبة الذي أقيم على أسس من التفكير العقلاني الهادئ وقلب دافئ على الأمة العربية وقضاياها المصيرية. وتجلى طيلة سنوات الستينيات وفي المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي الذي عقد في 4-6 أيار/مايس 1976 حين ورد في الفصل الثاني عشر من برنامج الحزب سبع نقاط مهمة نشير فيما يلي إلى الأولىى منها لأنها تكثف الموقف من العروبة بشكل عام.
"1. إن أعداء حركة التحرر والوحدة القومية العربية , هم الإمبريالية والصهيونية والقوى الرجعية في البلاد العربية. ومن هنا فأن التحرر من الاستعمار القديم والجديد وإقامة أنظمة تحررية وطنية , والسير في طريق تصفية مصالح الإمبريالية , والطبقات الرجعية , هو نقطة البدء في الطريق نحو الوحدة. لذلك يكتسب التضامن الكفاحي العربي ضد هذه القوى أهميته الخاصة ولاسيما اللقاء والتعاون بين جميع القوى الوطنية والتقدمية داخل كل بلد عربي , وعلى نطاق الوطن العربي كله". (راجع: وثائق المؤتمر الوطني الثالث للحزب الشيوعي العراقي. بغداد. منشورات طريق الشعب 8. مطبعة الرواد. 1976. ص 163)
وجميع المؤتمرات اللاحقة لهذا الحزب قد كانت على نفس هذا التوجه العام والسليم إزاء العروبة وقضايا الأمة العربية والتي يمكن العودة إليها في وثائق الحزب الرسمية.
هذا على مستوى الوثائق والأدبيات بشكل مكثف. أما على المستوى العملي والنضال الفعلي فيمكن العودة إلى مواقف قوى اليسار العراقي عموماً , وبضمنهم الحزب الشيوعي العراقي , من أول زيارة قام بها الشخصية الصهيونية البريطانية المعروفة السير الفريد موند , وفيما بعد اللورد بيلتشيت , إلى بغداد في 8 شباط/فبراير 1928 والمظاهرة الكبيرة التي نظمها الطلبة الديمقراطيون اليساريون حينذاك والتي شارك فيها زكي خيري وحسين الجميل وعبد القادر إسماعيل وغيرهم التي تصدت لها الشرطة بالضرب المبرح واعتقلت العديد منهم كما طردت مجموعة أخرى من الطلبة من مدارسهم. (راجع: خيري , زكي. صدى السنين في ذاكرة شيوعي عراقي مخضرم. ستوكهولم. 1994ز ص60-63. راجع أيضاً. جميل , حسين. العراق شهادة سياسية 1908-1930 لندن. دار اللام. 1987. ص 203).
ثم كان التأييد الحار للثورة الفلسطينية في العام 1936 و1939 رغم كل العراقيل التي كانت تضعها الحكومات المتعاقبة في طريق نشاط القوى الديمقراطية لتأييد القضايا العربية , ومنها بشكل خاص قضية فلسطين. وتجلى أيضاً في نشاطات الحزب الشيوعي العراقي الذي دعا إلى تأسيس عصبة مكافحة الصهيونية في العام 1946 والتي وافق عليها نوري السعي واعتبرها خطوة جيدة , ولكنها حلت واعتقل أصحابها وأحيلوا إلى المحاكمات (راجع في هذا الصدد: الراوي , عبد اللطيف د. عصبة مكافحة الصهيونية. وثائق ودراسات. دمشق. دار الجليل للطباعة والنسر. ودار وهران. ط 1. 1986. راجع أيضاً: الصافي , عبد الرزاق. كفاحنا ضد الصهيونية . منظمة التحرير الفلسطينية. راجع أيضاً: حبيب , كاظم د. اليهود والمواطنة العراقية. السليمانية. مؤسسة حمدي للطباعة والنشر. 2006).
ومع أني ابتداءً من المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي العراقي الذي عقد في العام 1993 ومروراً بالمؤتمرات السادس والسابع والثامن لم أحضرها بسبب استقالتي , فقد كنت متابعاً لتقارير اللجنة المركزية إلى تلك المؤتمرات أو القرارات الصادرة عنها أو البرامج التي أقرت فيها ويمكن لمن يشاء العودة إليها إذ أنها مطبوعة ومنشورة. وفي البرنامج الذي اقره الحزب الشيوعي في مؤتمره السابع بتاريخ 25-28 آب/أغسطس 2001 ورد بشأن القضايا العربية ما يلي:
" رابع عشر :
- معالجة الآثار المدمرة لحروب النظام والظواهر السلبية في العلاقات العربية والإسهام النشيط في النضالات المشتركة ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية والسياسات التوسعية الإسرائيلية والدفاع عن مصالح الشعوب العربية .
- تعزيز روابط الانتماء واللغة ووحدة الأرض والثقافة والوشائج الروحية وتهيئة المقومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تتطلبها عملية قيام وحدة عربية على أسس ديمقراطية في سياق متدرج تأخذ بالاعتبار الواقع العربي الملموس وتعزيز دور الجامعة العربية في هذه المجالات.
- تنشيط العمل المشترك بين الأحزاب والمنظمات السياسية والثقافية والجماهيرية الوطنية التقدمية في العالم العربي من اجل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتقدم الاجتماعي.
خامس عشر :
- إسناد الجهود والمساعي العربية المشتركة والهادفة لحل الصراع العربي الإسرائيلي على أساس الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة وتحرير جميع الأراضي العربية المحتلة.
- دعم كفاح الشعب العربي الفلسطيني لنيل حقوقه بالعودة وتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على ارض وطنه."
وفي المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي الذي عقد في العام 2007 جرى البحث في تطورات الوضع العربي والمشاريع الأمريكية ومنها مشروع الشرق الأوسط والموقف منها , وحول الصراع العربي الإسرائيلي , والحرب اللبنانية- الإسرائيلية الأخيرة ودور النظم العربية وهزالها إزاء ما يجري في المنطقة , وفي ظل استمرار وتفاقم العجز عن تنظيم مواجهة حقيقية لخطط الإدارة الأمريكية، تزايدت في العالم العربي المطالبة بـإطلاق الحريات العامة والديمقراطية للجماهير كي تتمكن من الدفاع عن استقلال بلدانها والتقدم على طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية... إلا أن تلك المطالب المشروعة لم تجد استجابة لفترة من الزمن ، بل أن بعض الحكومات العربية استغلت بروز ظاهرة التطرف الديني ونشاط الجماعات السلفية ـ الأصولية التي تتمتع بمصادر تمويل سخية، كما استغلت الأجواء الهستيرية والإجراءات التي رافقت "الحرب ضد الإرهاب"، للتضييق على هامش الحرية النسبي في بلدانها. فيما رأت الأنظمة الدكتاتورية في ذلك، لاسيما نظام صدام، ما يبرر ويزكّي نهجها وأساليبها الوحشية وإيغالها في انتهاك حقوق الإنسان... ومن جانب آخر وإضافة إلى قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ظلت قضية العدالة الاجتماعية أيضاً في مركز اهتمام الرأي العام العربي في ظل الأوضاع المعقدة والصعبة القائمة."
ولا بد من الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي العراقي وقف في كافة الاجتماعات التي عقدتها الأحزاب الشيوعية في الدول العربية مع هذه الأحزاب موقفاً واضحاً وسليماً إزاء القضايا العربية ولم يشذ عنها ولم يطرح مواقف مناقضة أو مختلفة عن المواقف التي كانت تتخذها تلك الأحزاب. ويمكن الاستدلال عليها من خلال البيانات والقرارات الصادرة عن تلك الاجتماعات والتي وقع عليها الحزب الشيوعي العراقي كلها والتي كانت تبحث في القضايا العربية وقضية فلسطين. كما كان الحزب الشيوعي العراقي يتبنى ويطرح تلك المواقف في الاجتماعات الدولية للحركة الشيوعية العالمية.
لقد حاولت في هذه الإجابة والمقتطفات التي أوردتها أن أكون مكثفاً بصدد المسالة المثارة بما يسمح للصديق الجميل والقراء بالخروج بثلاث استنتاجات مهمة , وهي:
1. إن مواقف الحزب الشيوعي العراقي كانت منسجمة منذ البدء مع المصالح الأساسية للأمة العربية , سواء أكان ذلك بشأن قضايا التحرر , أم قضايا التعاون والتضامن والوحدة والاتحاد , أم قضايا الدفاع عن مصالح المجتمع العربي في مختلف أقطاره.
2. وأنه كان مبادراً في تطوير العلاقات النضالية مع الحركات الشعبية والأحزاب الوطنية والديمقراطية في الدول العربية من اجل تعزيز النضال المشترك للشعوب والقوى والأحزاب في الدول العربية.
3. وأن الادعاء الذي بشر به السيد اللبناني لم يستند إلى حقائق ووقائع مواقف الحزب الشيوعي العراقي التي تحت أيدينا.
إن هذا كله يسمح لي بان أتمنى على الصديق الفاضل الأستاذ الدكتور سيّار الجميل , الذي أكن له جل الاحترام والود والاعتزاز بصداقتنا الحديثة , وأرجو أن يعيد النظر بما أشار إليه في الحلقة الثانية بشأن موقف الحزب الشيوعي من العروبة , إذ أن ذلك الادعاء الذي روجه السيد اللبناني لا علاقة له بالحزب الشيوعي العراقي ولا بسياساته الفعلية.
لدي الإحساس بان البعض يعتقد بأن الإنسان إن كان ماركسياً في منهجه وأُممياً في نظرته إلى الشعوب كلها , يفترض أن يكون بعيداً عن القومية أو كارهاً لها. وهذا الموقف خاطئ من الأساس. الموقف الأممي لا يعني سوى الإحساس بالأخوة والمساواة والتضامن مع الشعوب الأخرى وعدم التمييز بين البشر على أساس القومية أو أي أساس آخر. والأممية لا تعني اتخاذ موقف مناهض من القومية التي ينتمي إليها الفرد , بل تعني احترام قوميته واحترام القوميات الأخرى على حد سواء , مع دفاعه المخلص عن قضايا قوميته وحريتها وحقوقها وسيادتها. إن احترام القوميات الأخرى ينبع من احترام الإنسان لقوميته , وما يريده لها من خير وسعادة وحرية ورفاهية وتقرير المصير , يريده لغيرها من القوميات ولا يحس بأي كراهية أو حقد أو عداء ضدها.
أن الموقف الوطني والقومي السليم يفترض أن يعترف للقوميات الأخرى بحقوقها ومصالحها ولا يسعى إلى غمط حقوقها أو تهميشها أو الإساءة إليها كما تفعل الجماعات الشوفينية والعنصرية الفاشية. ومع ذلك أشير إلى أن المشكلة لدى بعض العرب و وربما لدى حتى بعض القوى اليسارية والشيوعية , ومنهم السيد اللبناني ترتبط بقضية الشعب الكردي وموقف الحزب الشيوعي العراقي المبدئي منها , وهو موضوع الحلقة القادمة.
انتهت الحلقة الثامنة وتليها الحلقة التاسعة وتدور حول موقف الحزب الشيوعي من القضية من القضية الفلسطينية باعتبارها المسألة التي يدور حولها الصراع منذ أكثر من ستة عقود , ثم تليها الحلقة الخاصة بالموقف من القضية الكردية في العراق.


لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الرأي الآخر..
أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟

الحلقة التاسعة والأخيرة
الحزب الشيوعي العراقي والقضية الفلسطينية

نبذة تاريخية

بدأت القضية الفلسطينية تتخذ أبعاداً جديدة منذ أن صدر وعد بلفور في العام 1917. وقد بدأت بريطانيا منذ ذلك الحين تسعى إلى كسب النخب العربية الحاكمة أو المتوقع أن تحكم في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتقسيم مناطق نفوذ الدولة العثمانية على الدول الاستعمارية المنتصرة في تلك الحرب , وخاصة مع أفراد عائلة الشريف حسين بن علي شريف مكة , الذي خاض تلك الحرب إلى جانب الحلفاء. ولم يكن الاتفاق الذي جرى توقيعه بين الأمير فيصل بن الحسين بن علي مع الدكتور حاييم وايزمن في نهاية العام 1918 حول فلسطين وهجرة اليهود العالم إليها , سوى بداية المساومة على القبول بالهجرة اليهودية إلى فلسطين , علماً بأن الأمير فيصل كان يعلم علم اليقين بوعد بلفور ومهمته المركزية في إقامة دولة عبرية على الأرض الفلسطينية. ومن هنا جاءت تسميته منذ ذلك الحين بـ "الوعد المشئوم". كتب الراحل السيد جورج انطونيوس في كتابه الموسوم "يقظة العرب" الصادر في دمشق عن مطبعة الترقي في العام 1946 بهذا الصدد ما يلي:
"

[يشير الأستاذ الراحل جورج أنطونيوس إلى نشر الاتفاقية في الملحق , ولكن الكتاب المترجم من قبل الأستاذ الراحل علي حيدر الركابي لم يتضمن هذه الاتفاقية ولا أي ملحق آخر , ولم أعثر على النسخة الإنجليزية , ولم استطع الوصول إلى الترجمة الجديدة للسيد إحسان عباس ووناصر الدين الأسد الصادرة عن دار العلم للملايين ولا أدري إن كانت تتضمن الملحق المذكور].
لا يمكن , وفق ما لدينا من معلومات , البرهنة على , أو رفض فكرة , موافقة الشريف حسين على الاتفاقية التي وقعها ابنه الأمير فيصل حينذاك , إذ لا نمتلك ما يؤكد أو ينفي ذلك , رغم وجود قناعة بأن فيصل لم يكن يتصرف في مثل هذه القضية الحساسة دون موافقة والده.
في بداية العقد الثالث من القرن العشرين حين بدأت أفكار الديمقراطية والاشتراكية تدخل العراق كانت هناك مجموعة صغيرة من الشباب التي حملت راية هذه الأفكار، إنها جماعة حسين الرحال. وكانت هذه المجموعة من الشياب ، تحمل فكراً نيراً ورؤية سليمة , سواء أكان ذلك بالنسبة للقضايا العربية أم الدولية أم بالنسبة للقضايا الداخلية رغم الضعف العام للوعي السياسي والاجتماعي في صفوف المجتمع حينذاك ، إذ كان العراق ينهض لتوه من سبات الدولة العثمانية العميق والطويل الذي فرضه الحكام الأتراك على تركيا عموماً وعلى بقية أجزاء الإمبراطورية الخاضعة لها خصوصاً. ولم يكن الاهتمام بقضية الوحدة العربية والقضية القومية حينذاك واسع النطاق ، ولكن هذا القول لا ينطبق بأي حال على القضية الفلسطينية بسبب موقع بيت المقدس في نفوس المسلمين. وقد تجلى ذلك في الموقف الرافض لزيارة ألفريد موند إلى بغداد في شباط عام 1928 , إذ كان الماركسيون والديمقراطيون في مقدمة المتظاهرين ومن الداعين إليها والمنظمين لها والمشاركين فيها (راجع: جميل , حسين. العراق - شهادة سياسية 1908-1930. لندن. دار اللام. ص 203-228. راجع أيضاً: سباهي, عزيز. عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق. الجزء الأول. منشورات الثقافة الجديدة. دمشق. 2002. ص377-378).
وإذا كان هذا موقف جماعة الرحال والجماعات الديمقراطية الأخرى في بغداد من القضية الفلسطينية ، فأن الحلقات الماركسية والجماعات الديمقراطية الأخرى ، سواء في بغداد أم في الناصرية والبصرة أم الموصل أم في غيرها من مدن العراق , قد اتخذت مواقف واضحة تماماً إزاء هذه القضية أيضاً. وكان الحزب الشيوعي، ابتداءً من العدد الثاني من جريدته "كفاح الشعب" الصادر في عام 1935، قد بدأ بنشر سلسلة مقالات عن القضايا العربية وقضية فلسطين على نحو خاص والنضال ضد الصهيونية والاستعمار ومن أجل الاستقلال والسيادة الوطنية. ونظم الحزب، بالرغم من الهجوم الذي كانت تشنه الحكومة العراقية على الشيوعيين والديمقراطيين في أعقاب فشل انقلاب بكر صدقي ، مظاهرة حاشدة بتاريخ 16 تموز/يوليو 1937 ضد مقررات اللجنة الملكية البريطانية التي شكلتها الحكومة البريطانية للتحقيق في الإضرابات التي عمت فلسطين في عام 1936 (الراوي، عبد اللطيف د. عصبة مكافحة الصهيونية في العاق 1945-1946. مصدر سابق. ص 14). وجاءت اللجنة إلى بغداد لشرح وجهة نظرها واستطلاع الرأي العام ، إضافة إلى الترويج للفكرة الصهيونية بتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وانعكست مواقف الحزب الصائبة في سياساته وبرامجه إزاء القضايا العربية ومنها القضية الفلسطينية ، سواء أكان ذلك في المؤتمر الوطني الأول للحزب أم فيما بعد. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية نشط فهد بشكل أوسع لصالح القضية الفلسطينية وضد الصهيونية. وعندما طرح بعض الشيوعيين من يهود ومسلمين أعضاء في إحدى خلايا الحزب في بغداد مقترحاً بتكوين منظمة تعمل على فضح أهداف الصهيونية على غرار ما حصل في كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ومصر ، تبنى فهد هذه الفكرة وشجع الشيوعيين والديمقراطيين اليهود وغير اليهود على السعي لتشكيل عصبة مكافحة الصهيونية في العراق ، حيث بدأ العمل من أجل ذلك وشكلت هيئة مؤسسة قامت بوضع نظام داخلي وبرنامج عمل لهذه المنظمة السياسية والاجتماعية غير الحكومية وغير الحزبية. وساهم فهد في الإشراف على وثائق العصبة من خلال الفراكسيون الحزبي الذي كان يقود نشاط الشيوعيين في العصبة. وقُدم الطلب إلى وزارة الداخلية بتاريخ 12/9/1945. وفي 21/11/1945 قدم فهد مذكرة إلى رئيس الدولة العراقية وإلى البرلمان العراقي وإلى رؤساء الدول الكبرى والعربية أوضح فيها "أن الحكومة تدعي مناصرة عرب فلسطين ضد الصهيونية لكن هذه المناصرة غير ملموسة لدى الشعب العراقي بل ما هو ملموس عكس ذلك تماماً" (نفس المصدر السابق. ص 15). وقد حاول فهد في هذه المذكرة وفي سلسلة المقالات التي كتبها عن القضية الفلسطينية فضح طبيعة الصهيونية باعتبارها حركة سياسية عنصرية تهدف إلى تجريد الفلسطينيين من وطنهم ، وأنها حركة متشابكة في أهدافها مع الأهداف الاستعمارية ومناهضة لحركات التحرر الوطني وحركة الشعب الفلسطيني. وإزاء نشاط العصبة وحصول تأييد سياسي واسع لها وبروز أشكال مماثلة لها في بلدان أخرى وجدت وزارة الداخلية نفسها مضطرة للموافقة على طلب العصبة في الحصول على إجازة عمل رسمية بتاريخ 16 آذار/مارت 1946 ، كما أجبرت بعد ذلك بوقت قصير على الموافقة على إصدار "عصبة مكافحة الصهيونية" جريدة سياسية يومية باسم "العصبة". وخلال هذه الفترة توسع نشاط الشيوعيين والديمقراطيين اليهود وغير اليهود الأعضاء في العصبة في فضح الصهيونية وتعميق الإحساس بخطرها على فلسطين. وكان موقف الحزب ينسجم تماماً مع موقف الأممية الثالثة وأحزابها الشيوعية والعمالية إزاء تحديد طبيعة الصهيونية وأغراضها. وكان للشيوعيين العراقيين والعرب دورهم الإيجابي في تحديد هذه الطبيعة خلال فترة وجود وعمل الكومنترن وما بعدها.
حصد الحزب الشيوعي العراقي ، الذي وقف مساندا الحركة الديمقراطية المناهضة للصهيوني ودافع عن عصبة مكافحة الصهيونية ومدها بالدعم والكوادر النشيطة ورفض سحب إجازتها ومنعها من العمل وإيقاف صدور صحيفتها "العصبة" ، نتائج متباينة باتجاهين مختلفين، خاصة بعد أن مارست الشرطة القسوة الشديدة والعنف والأسلحة النارية لقمع مظاهرة 28/حزيران يونيو 1946 في بغداد التي نظمها حزب التحرر الوطني الذي كان يقوده حسين محمد الشبيبي و عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي وسار فيها 3000 عامل وطالب محتجين ضد الظلم في فلسطين والمطالبة بطرد الإنكليز من العراق ، حيث قمعتها حكومة ارشد ألعمري بالرصاص , مما تسببت في استشهاد عضو الحزب الشيوعي العراقي وعضو عصبة مكافحة الصهيونية، شاؤل طويق فيها ، وهو مواطن عراقي يهودي ، وجرح عدد كبير من المشاركين في تلك المظاهرة ، كما سحبت إجازة عمل عصبة مكافحة الصهيونية وأوقفت صحيفتها "العصبة" عن الصدور. ويمكن بلورة تلك النتائج ، سواء الإيجابية منها أم السلبية، على النحو الآتي:
• إبراز الموقف السليم للحزب الشيوعي العراقي من القضية الفلسطينية ومن الصهيونية ، وبالتالي، استطاع الحزب كسب احترام وتأييد جمهرة واسعة من الناس المهتمين بالسياسة وبالقضايا العربية ، كما وضعت الحزب في مواقع متقدمة في نضاله من أجل القضايا العربية الأساسية والتضامن العربي.
• كشفت عن طبيعة الصهيونية العالمية والأهداف التي كانت تسعى إليها منذ تأسيسها في عام 1897 من قبل اليهودي الصهيوني تيودور هرتسل (1860-1904م).
• فضحت طبيعة وسياسات الحكومات العراقية المتعاقبة إزاء القضايا العربية ، وخاصة قضية فلسطين وإهمالها مساندة الشعب الفلسطيني في نضاله العادل من خلال مواقفها المناهضة لنشاط العصبة ومنع عقد مهرجاناتها أو تظاهراتها أو غلق صحيفتها الرسمية وإيقاف إصدار كراساتها التثقيفية المناهضة للصهيونية.
• وبلورت في الوقت نفسه الفارق الذي لا يجوز نسيانه بين اليهودية كدين واليهود ، باعتبارهم أتباعا لتلك الديانة المعترف بها من جانب الإسلام والمسلمين من جهة ، وبين الصهيونية كحركة سياسية شوفينية معادية للشعب الفلسطيني وبقية الشعوب العربية ومتحالفة مع الإمبريالية العالمية من جهة أخرى .
وتمكن الحزب من كسب عدد كبير من اليهود والعرب وغير العرب من المواطنين العراقيين إلى جانب هذه الحركة وزجهم في النضال الديمقراطي ، إضافة إلى كسب مجموعات جيدة منهم إلى جانب الحزب الشيوعي العراقي وفي صفوفه.
وجني الحزب في الوقت نفسه كره ونقمة الحركة الصهيونية العالمية التي كانت تتابع الحركات المعادية لها ، وخاصة تلك النشاطات التي كان يساهم بها اليهود انتصاراً لقضية العرب العادلة في فلسطين ، وانتصاراً لهم كمواطنين عراقيين يعيشون في العراق ، إضافة إلى كره الاستعمار البريطاني وممثليه في العراق ، وكره الحكومة العراقية التي كانت تدعي دفاعها عن فلسطين ، في وقت كانت الدلائل تشير إلى وجود تواطؤ ضد الشعب الفلسطيني تمثله قيادة النخبة السياسية الحاكمة في العراق والذي تبلور فيما بعد بقانون إسقاط الجنسية عن اليهود ...الخ. ولا شك في أن التاريخ سيميط اللثام عن الكثير من المعلومات والوثائق التي تؤكد أكثر فأكثر مثل هذا الاتهام لا بالنسبة للعراق فحسب ، بل وبالنسبة للعديد من حكام الدول العربية حينذاك.
دأب فهد على فضح سياسات الحكومة العراقية إزاء الشعب الفلسطيني من جهة ، وإزاء الصهيونية من جهة أخرى ، مستخدماً صحافة الحزب وصحافة وأدبيات عصبة مكافحة الصهيونية وأينما تسنى له نشر مقالاته في هذا الصدد أو عبر المذكرات التي كان يوجهها إلى رئيس الحكومة العراقية ويعممها لإحراج مواقف الحكومة العراقية عربياً ودولياً . ففي المذكرة التي وجهها فهد إلى رئيس مجلس الوزراء العراقي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، باعتباره سكرتيراً عاماً للحزب الشيوعي العراقي، كتب يقول:
"موقف الحكومة تجاه الصهيونية: تدعي الحكومة القائمة أنها تناصر عرب فلسطين ضد الصهيونية لكن الشعب العراقي لا يلمس هذه المناصرة واختباراته اليومية تبرهن على أن الحكومة العراقية تمنع الشعب العراقي من مناصرة عرب فلسطين ، تمنعه من مكافحة الصهيونية. وبهذا تسهل على الصهاينة وعلى القوى الرجعية - الاستعمار وغيره - السير بخططهم .. أن الحكومة منعت وتمنع الشعب العراقي من إقامة اجتماع في سبيل فلسطين ، إنها منعت عصبة مكافحة الصهيونية من إقامة اجتماع في يوم وعد بلفور الأسود ، إنها احتلت نقابات العمال في ذلك اليوم لكي لا يجتمع العمال فيها ، إنها منعت المظاهرات في سبيل فلسطين ، لكنها سمحت للأوباش بالاعتداء على اليهود وسكب المواد المحرقة عليهم وهم يمشون في الشوارع. وبدلاً من أن تعاقب الأوباش المعتدين حمتهم وأقامت شرطتها الدعوى على المشتكين لأنهم ادعوا أن الأوباش رموهم بمحلول التيزاب بينما كان ما رموهم به هو "محلول الزرنيخ" واتهمت المشتكين بأنهم عكروا صفو الأمن ، … هذا منطق أناس يدعون أنهم يناصرون عرب فلسطين" ثم يواصل فهد فيكتب:
أن الحكومة العراقية تحاول أن تخفي المسؤولين الحقيقيين عن نكبة شعبنا العربي في فلسطين ، تريد أن تستر الاستعمار البريطاني المسؤول الأول ، أن تخفي الصهيونية ، باعتبارها تمثل مصالح الشركات اليهودية الكبرى في بريطانيا وأمريكا فتظهر اليهود العرب الذين لا صلة تربطهم بالصهيونية الاستعمارية والذين عشنا وإياهم أجيالاً عديدة دون أي تصادم بيننا كأنهم المسؤولون فتوجه النقمة ضدهم. إن الشعب العراقي يريد من الحكومة القائمة أن تقلل من ادعاءاتها حول مساعدة فلسطين وأن تسمح له بأن يكافح الصهيونية في البلاد العربية نفسها وأن يمنعها من تثبيت أقدامها فيها". (فهد. كتابات فهد. مصدر سابق. ص 320/321).
• لم يكن الكره الذي توجه من جانب الاستعمار البريطاني والصهيونية العالمية والحكومة العراقية اعتيادياً وعاماً إزاء الحزب الشيوعي العراقي وقائده فهد ، بل كان ملموساً وموجهاً لشن حملة دامية ضد الحزب من أجل تصفيته واعتقال قادة الحزب وعصبة مكافحة الصهيونية انتقاما منه بسبب النشاطات الواسعة الفكرية منها والسياسية ضد الاستعمار والصهيونية وفضح الحكومة في مواقفها إزاء القضية الفلسطينية وإزاء الصهيونية. إذ ركز فهد ، وهو على رأس الحزب الشيوعي العراقي في نضاله من أجل القضية الفلسطينية ، على شعارات أساسية واضحة جداً كانت مرفوضة من قبل تلك الدول والأطراف ، وهي: (راجع المصدر السابق)
• منح الشعب الفلسطيني الحق في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة ورفع الحماية البريطانية عنه.
• إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
• التضامن مع الشعب الفلسطيني لمواجهة المؤامرات التي تستهدف وطنه ، وفضح أهداف العنصرية والعدوانية في الحركة الصهيونية.
• تعبئة الرأي العام العراقي والعربي إلى جانب الشعب الفلسطيني من خلال النشاط الفكري والسياسي.
• محاولة كسب المزيد من اليهود إلى جانب الحركات المعادية للصهيونية في سائر أرجاء العالم العربي.
• فضح طبيعة الحركة الصهيونية وأهدافها في فلسطين والمنطقة العربية وتحالفاتها الدولية التي اعتبرها مناهضة لحركات التحرر والمرتبطة عضوياً بالرأسمال المالي العالمي وأهدافهما المشتركة.
لقد كانت عصبة مكافحة الصهيونية ونشاطها وفعاليتها الواسعة شوكة في عين حكام العراق ، مما دفع إلى التفتيش عن الحجج ، مهما كانت واهية، لسحب إجازتها وإيقاف نشرها العلني وزج القائمين عليها والنشطين منهم في السجون. ورغم فشل أكثر من محاولة للحكم على قياديي الحركة من خلال المحاكم العراقية التي تمتعت في فترات معينة ببعض الحرية والاستقلالية النسبية, بسبب وجود عناصر ديمقراطية نزيهة على رأس البعض من تلك المحاكم ، لجأت الحكومة إلى إصدار قرار وزاري بحلها ، متجاوزة الدستور والقوانين العراقية. ثم قدمت أغلب قياديي العصبة إلى المحاكمة ، بعد ربط قضيتهم بقضية الحزب الشيوعي العراقي ونشاطه السياسي ودور رفاقه في قيادة ونشاط العصبة.
كان الحزب الشيوعي العراقي ، وكذلك فهد، مقتنعين بأن موقف الاتحاد السوفييتي سيكون إلى جانب الشعب الفلسطيني بسبب عدالة قضيته والعداء المستحكم بين الشيوعية والصهيونية بسبب طبيعتهما المتناقضة تماماً ، وبسبب معرفة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي بأساليب ومناورات القوى الإمبريالية والصهيونية ، وهو الموقف الذي تجلى في مؤتمرات الأممية الشيوعية منذ تأسيسها وأحاديث لينين عنها. ولهذا لم يكن هناك أي تناقض بين موقف الحزب وموقف الأممية الشيوعية وأحزابها المختلفة بهذا الصدد. لذلك فوجئ الحزب وفهد بموقف السوفييت في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة بالموافقة على قرار تقسيم فلسطين في العام 1947 ولم يجدا تبريراً له.
لقد كتب فهد العديد من المقالات التي يكشف فيها عن طبيعة الصهيونية العالمية مستلهماً فكر الأممية الشيوعية وقناعاته الذاتية بالعلاقة القائمة بين الإمبريالية والصهيونية على الصعيد العالمي ، إضافة إلى العلاقات المهمة التي كانت قد نشأت ليس بين الصهيونية وبريطانيا فحسب ، بل بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً ، وكان يرى فيها خطراً أساسياً على حركة التحرر العربية ، إذ أن الولايات المتحدة كانت تريد أن تجعل منها أداة لها في المنطقة. ويمكن لبعض المقتطفات المهمة في هذا الصدد أن تؤكد موقف فهد الواضح من الصهيونية ورفضه لمحاولات التقسيم التي كانت تسعى إليها الصهيونية العالمية. كتب فهد عن طبيعة الصهيونية في جريدة "العصبة" في عام 1946 يقول: "إننا في الحقيقة لا نرى في الفاشية والصهيونية سوى توأمين لبغي واحد ، هي العنصرية محظية الاستعمار. إن الفاشية والصهيونية تنهجان خطين منحرفين يلتقي طرفاهما وتتشابه أهدافهما ، وكل منهما نصبت نفسها منقذة وحامية لعنصرها ، فالأولى بذرت الكره العنصري ونشرت الخوف والفوضى في أنحاء المعمورة وورطت شعوبها وأولعت بهم نار حرب عالمية لم تتخلص أمة من شرورها. والثانية الصهيونية بذرت الكره العنصري ونشرت الخوف والفتن والإرهاب في البلاد العربية وغررت بمئات الألوف من أبناء قومها وجاءت تحرقهم على مذبح أطماعها وأطماع أسيادها المستعمرون الإنكليز والأمريكان ، فتشعل بهم نيران الاضطرابات في البلاد العربية. وقد كان من أعمالها أن حولت فلسطيننا إلى جحيم لا ينطفئ سعيره ولا تجف فيه الدموع والدماء وتهددت الأقطار العربية بأخطارها وبأخطار القضاء على كيانها القومي جراء بقاء وتثبيت النفوذ الاستعماري فيها وجراء المشاكل العنصرية التي تحاول إثارتها" (الصافي ، عبد الرزاق. كفاحنا ضد الصهيونية. ص 29).

وبصدد المصالح المشتركة والعلاقة التحالفية بين الصهيونية والإمبريالية الأمريكية كتب فهد يقول: "إن المصالح الأمريكية الناشئة في البلاد العربية ورؤوس أموالها المستثمرة بالاشتراك مع الرأسمال الصهيوني في فلسطين، ووعد الصهاينة بتوظيف رؤوس أموال أمريكية كبيرة جداً وتطلع أمريكا لاستخلاف الإمبريالزم البريطاني في فلسطين واتخاذها قاعدة لحماية مصالحها في البلاد العربية ، كل هذه حملت الولايات المتحدة على استخدام نفوذها كاحتياطي للصهيونية" (نفس المصدر السابق. ص 30/31).
ولم ينس فهد، وهو يسجل وثيقة الميثاق الوطني للحزب الشيوعي العراقي أن يثبت مسألتين مهمتين بشأن القضية الفلسطينية والطبيعة العدوانية للصهيونية، حين أشار فيه إلى:
" 13- (أ) نناضل في سبيل التقارب والتعاون السياسي بين الشعوب العربية، بين أحزابها وجماعاتها السياسية الديمقراطية من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية لفلسطين والأقطار العربية المستعمرة والمحمية، ومن أجل استكمال استقلال العراق وسوريا ولبنان ومصر، ضد الصهيونية وضد الدول المستعمرة مباشرة أو عن طريق المعاهدات والانتداب والحماية للبلاد العربية، وضد محاولات اعتداءات استعمارية جديدة وضد تثبيت النفوذ الأجنبي بأي شكل كان في البلاد العربية.
15- نناضل في سبيل التعاون الاقتصادي بين الأقطار العربية من أجل المحافظة على ثروات بلادنا واستخدامها …، وضد الهجوم الصهيوني الاقتصادي " (نفس المصدر السابق. ص 30/31 ).
إذن كان موقف الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهد حتى صدور قرار تقسيم فلسطين واضحاً لا غبار عليه بأي حال من الأحوال ، بل يمكن القول بأنه كان من أنشط القوى السياسية العراقية الواعية التي وقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني. وفي عام 1947 صدر قرار مجلس الأمن الدولي بالموافقة على تقسيم فلسطين بين العرب واليهود بحجة أن العيش المشترك بين اليهود والعرب لم يعد ممكناً وأن لليهود حق في العيش في دولة مستقلة في قسم من الأراضي الفلسطينية ، أي الموافقة على إقامة دولتين على أرض فلسطين. ولم يكن القرار ذاته غير عادل وجائر فحسب، بل وكان غير عادل في تقسيم مساحة الأرض بين الأكثرية العربية والأقلية اليهودية لصالح الأقلية. إذ بلغت حصة اليهود، وهم أقلية، 56،5% من أخصب الأراضي الفلسطينية، في حين كانت حصة عرب فلسطين 43،5%، وهم الغالبية العظمى من سكان فلسطين. (بطاطو، حنا د. العراق. الحزب الشيوعي العراقي. الكتاب الثاني. ص 255).
وكان الاتحاد السوفييتي من الدول الدائمة العضوية التي وافقت على هذا القرار. وسبب هذا الموقف إشكالاً وارتباكاً عند الشيوعيين العراقيين وعند بقية الشيوعيين في العالم العربي. وكان الإشكال أكبر عند الشيوعيين اليهود في العراق الذين وقفوا بحزم ضد إقامة دولة عبرية على أرض فلسطين وساندوا قيام دولة واحدة على هذه الأرض.
أشرت إلى أن الشيوعيين العراقيين لم يغيروا موقفهم من القضية الفلسطينية بمجرد صدور قرار التقسيم وموافقة الاتحاد السوفييتي عليه. وكان فهد أول من استقبل هذا الموقف بالاستغراب. وعلى هذا الموقف توجد الكثير من الأدلة الواضحة. كتب زكي خيري يقول: "كان الحزب الشيوعي العراقي منذ تأسيسه يثقف أعضاءه وجماهيره ضد الوطن القومي لليهود وضد الصهيونية التي نمت وترعرعت تحت رعاية الإمبريالية. وكان تثقيفه هذا يسترشد بالماركسية اللينينية التي كانت تدين الصهيونية باعتبارها حركة انشقاقية تعزل العمال اليهود عن سائر العمال الذين يتعايشون معهم في بلدانهم وتضعهم تحت هيمنة رأسمالييهم. وكان استيطان اليهود في فلسطين يعني في الوقت ذاته اغتصاب الأرض من أصحابها الشرعيين الذين عمروها بدمائهم وعرقهم طوال أربعة عشر قرناً ولم يهجروا أراضيهم في فلسطين إلا بالإكراه. فبعد كل ذلك كيف يقدم الاتحاد السوفييتي على اعتبار المستوطنين اليهود من مختلف الأمم شعباً له الحق في تقرير المصير بما فيه إقامة دولة منفصلة على أرض الشعب الفلسطيني العربي المغتصبة بقوة السلاح البريطاني والانتداب البريطاني؟! حتى فهد لم يجد جواباً لهذا التساؤل! وقد جاءني على انفراد وسرني دهشته من ذلك قائلاً: - لا أدري كيف اعترف الاتحاد السوفييتي بدولة اليهود! وفيما بعد كتب فهد رسالة للحزب صرح فيها بصورة قاطعة أن المستوطنين اليهود جماعة من الناس لهم حقوق معينة باعتبارهم أقلية وليسوا شعباً يستحق تقرير المصير وإقامة دولة بأي حال من الأحوال. وقد جاءت هذه الرسالة بعد أن غير الحزب موقفه بما يتوافق مع رأي الاتحاد السوفييتي وصدرت خارج السجن وثائق حزبية تبرر الموقف السوفييتي تبريراً إيديولوجياً". (خيري، زكي. صدى السنين في ذاكرة شيوعي عراقي مخضرم. ص 137).
وجاء في الرسالة التي كتبها فهد من سجنه في الكوت ووجهها إلى قيادة التنظيم خارج السجن، حول قرار التقسيم ما يلي:
"أما عن قضية فلسطين فلم نتوصل إلى أكثر مما توصلتم إليه عدا شيء واحد هو ذكركم لقومية يهودية في فلسطين فهذا ربما كان غير صحيح فكل ما في الأمر أن الاتحاد ربما قال بوجوب الأخذ بنظر الاعتبار بضعة مئات الألوف من اليهود الذين سبق وأصبحوا من سكان فلسطين فهذا لا يعني أنهم قومية، فهذا لا يعني عدم الاهتمام بهم ومع هذا فليست هذه النقطة جوهرية بالموضوع. فموقف الاتحاد جاء نتيجة محتمة للأوضاع والمؤامرات والمشاريع الاستعمارية المنوي تحقيقها في البلاد العربية وفي العالم، فالمهم في الموضوع هو وجوب إلغاء الانتداب وجلاء الجيوش الأجنبية عن فلسطين وتشكيل دولة ديمقراطية مستقلة حل صحيح للقضية ومن واجبنا أن نعمل لهذا حتى الأخير ولكن إذا لا يمكن ذلك بسبب مواقف رجال الحكومات العربية ومؤامراتهم مع الجهات الاستعمارية فهذا لا يعني أننا نفضل حلا آخر على الحل الصحيح ونرى من الأوفق أن تتصلوا بإخواننا في سوريا وفلسطين وتستطلعوا رأيهم في تعيين الموقف". (الراوي، عبد اللطيف د. عصبة مكافحة الصهيونية في العراق. مصدر سابق. ص 232/233).
وفي كانون الأول/ديسمبر 1947، أي بعد أيام من صدور قرار التقسيم أصدر الحزب نشرة داخلية موجهة إلى كافة رفاق الحزب جاء فيها بشأن الموضوع ما يلي:
"لقد وفر موقف الاتحاد السوفييتي بخصوص التقسيم للصحف المرتزقة ومأجوري الإمبريالية فرصة لا التشهير بالاتحاد السوفييتي فقط، بل أيضاً بالحركة الشيوعية في البلدان العربية. ولذلك، فأنه يجب على الحزب الشيوعي تحديد موقفه من القضية الفلسطينية حسب الخطوط التي انتمى إليها والتي يمكن تلخيصها بالتالي:
1. إن الحركة الصهيونية حركة عنصرية دينية رجعية، ومزيفة بالنسبة إلى الجماهير اليهودية.
2. إن الهجرة اليهودية … لا تحل مشكلات اليهود المقتلعين من أوروبا، بل هي غزو منظم تديره الوكالة اليهودية … واستمرارها بشكلها الحالي … يهدد السكان الأصليين في حياتهم وحريتهم،
3. إن تقسيم فلسطين عبارة عن مشروع إمبريالي قديم … يستند إلى استحالة مفترضة للتفاهم بين اليهود والعرب … .
4. إن شكل حكومة فلسطين لا يمكنه أن يتحدد إلا من قبل الشعب الفلسطيني، الذي يعيش في فلسطين فعلاً، وليس من قبل الأمم المتحدة أو أية منظمة أو دولة أو مجموعة دول أخرى …
5. إن التقسيم سيؤدي إلى إخضاع الأكثرية العربية للأقلية الصهيونية في الدول اليهودية المقترحة ….
إن التقسيم وخلق دولة يهودية سيزيد من الخصومات العرقية والدينية وسيؤثر جدياً على آمال السلام في الشرق الأوسط.
لكل هذه الأسباب فإن الحزب الشيوعي يرفض بشكل قاطع خطة التقسيم". (بطاطو، حنا د. العراق. الكتاب الثاني. مصر سابق. ص 257).

ويشير حنا بطاطو أيضاً إلى أن فهد قد وقف ضد الموقف الذي أرسله ، كما هو مشاع ومعروف ، يوسف إسماعيل حول قرار التقسيم والذي يتجاوز الموضوعية والحقائق التاريخية ، وطلب من الرفيق السجين الذي كان يقرأ تلك الرسالة بالتوقف عن الاستمرار بقراءتها ، باعتبارها رسالة غير موضوعية وذات اتهامات غير مبررة للأحزاب الشيوعية العربية. (نفس المصدر السابق. ص 259/260).
إذن الدراسة المتأنية للموقف تسمح لنا بالقول ، بأن الحزب الشيوعي لم يكن مجبراً على اتخاذ نفس الموقف الذي اتخذه الاتحاد السوفييتي كدولة وكحزب إزاء القضية الفلسطينية في مجلس الأمن الدولي ، إذ كان يملك موقفاً صحيحاً وعادلاً إزاء كل القوميات والأقليات القومية والأديان في فلسطين أولاً ، ويمتلك ، كحزب شيوعي مستقل في بلد مستقل ، كل الحق في أن يتخذ الموقف الوطني والقومي الصحيح الذي يمس مصالح شعبه أو الشعوب العربية ، ومنها الشعب الفلسطيني ، من جهة أخرى. (يشير الصديق العزيز جاسم حلوائي بهذا الصدد إلى أن الحزب لم يكن مجبراً مسالة فيها نظر بالارتباط مع طبيعة العلاقة التي كانت قائمة حينذاك بين الأحزاب الشيوعية والحزب الشيوعي السوفييتي , وهو في هذا على حق أيضاً , إذ كان احتمال نشوء مشاكل له في إطار الحركة الشيوعية). ومن هنا كان إصرار فهد في البقاء على موقف الحزب الصحيح إزاء القضية الفلسطينية وذلك بإقامة دولة ديمقراطية مستقلة يتمتع فيها الجميع بالمساواة سليماً ومنسجماً مع توجهاته العامة. وكان فهد في هذا الموقف واضحاً ، كما كان في الوقت نفسه واضحاً عندما أشار إلى ضرورة استطلاع رأي وموقف الحزبين الشقيقين في كل من سوريا وفلسطين من المسألة والتشاور معهما بشأن الموقف. ولكن بعض الكوادر القيادية الشيوعية كان لها موقف آخر من هذه القضية، وخاصة أولئك الذين كانوا خارج الوطن، كما أن هؤلاء قد أثروا بهذا القدر أو ذاك على موقف الداخل، ومنهم زكي خيري، حيث كتب يقول، حول تبرير القبول بقرار التقسيم، ما يلي: "وكان لي شخصياً دور معين في هذا التبرير بعد خروجي من السجن. وكان الجذر الفكري لموقفي هذا هو الاعتقاد بأن كل موقف سياسي يتخذه الاتحاد السوفييتي هو موقف مبدئي وما علينا إلا أن نبحث عن هذا الأساس المبدئي لنفهمه وندافع عنه. وإذا لم نجد ما يبرر ذلك صراحة في التعاليم الماركسية اللينينية كان يأتي دور التأويل والتفسير المؤدي إلى التبرير. فكنا نخضع الأيديولوجيا للسياسة بدل العكس. وكان هذا هو نفس الجذر الفكري لأخطاء الحركة الشيوعية العالمية في المدة الأخيرة حيث كان المنظرون يبررون مواقف السياسيين. ولهذا الخلل الفكري علاقة بالاعتقاد بمعصومية القيادة السوفييتية وفي البدء معصومية ستالين وفيما بعد معصومية "القيادة الجماعية" التي لا يمكن أن يأتيها الخطأ! رغم ما جاء في رسالة لينين إلى أنيسه أرماند يقول فيها عن انجلز زميل ماركس في عمله: أنه لا يعتقد بأن انجلز كان معصوماً من الخطأ. وفي العديد من المناسبات كان يشير إلى ارتكاب السلطة أخطاء خرقاء وأن تكن أقل خراقة من أخطاء الدول الرأسمالية. ولكننا كنا نمر بهذه الأخطاء مرّ الكرام ولم نمارس النقد لأساتذتنا الأكثر تمرساً وخبرة وعلماً كما ينبغي للتلامذة الشيوعيين أن يفعلوا إزاء أساتذتهم وكما يقتضي الواجب الأممي" (خيري، زكي. صدى السنين .. . مصدر سابق. ص 137/138.
ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن الراحل زكي خير غالباً ما كان , وعلى مدى عقود كثيرة , يستخدم كتابات ماركس وانجلز ولينين , وقبل ذاك ستالين للمحاجة باعتبارها مقولات صادقة صائبة ولا يأتيها الباطل أبداً. وكثيراً ما دخل بصراعات حادة مع رفاقه في الحزب وفي القيادة بسبب هذا الأسلوب الذي مارسه في الحوار. لقد كان الرفيق زكي خيري غالباً ما يتناطح بالمقولات المجتزأة من سياقها التاريخي لكلاسيكيي الماركسية ليبرهن على قضايا حوارية آنية. ك. حبيب).
لم تأت موافقة الحزب على قرار التقسيم عن قناعة تامة ، بل صدر عن قناعة أخرى , أي لا بد أن تكون لدى السوفييت مبررات واقعية لمثل هذه الموافقة على قرار التقسيم ، وبالتالي يفرض الموقف الأممي الموافقة عليه أيضاً. وبمعنى آخر فرض الواقع نفسه عملياً على الجميع ، ولكنه أكد أن قيام دولة لليهود في القسم الذي خصص لليهود وعدم قيام دولة عربية في القسم الذي خصص للعرب سيؤدي إلى ضياع فلسطين كلها ، ولهذا فأن القبول بإقامة دولة فلسطينية عربية على أرض فلسطين من ناحية كون القرار لم يعد قابلاً للتغيير مسألة منطقية وضرورة لا غنى عنها ، حتى من منطلق ومنطق الرفض لقرار التقسيم. لا شك في أن النظر إلى موقف الحزب الشيوعي العراقي من قرار التقسيم حينذاك يختلف عن النظر إليه في هذا اليوم. فعدم الموافقة على قرار التقسيم من جانب الحكومات العربية ، التي لم تكن كلها مخلصة في رفضها لقرار التقسيم والتي لم تكن كلها مستعدة للقتال في سبيل قضية فلسطين أو في سبيل مجابهة القرار فعلياً ، والتي كان بعضها متواطئاً حول القضية برمتها ، قد أدت كلها إلى حرب غير متكافئة بسبب الإسناد غير المحدود الذي حصلت عليه القوى الصهيونية المحاربة في إسرائيل من قبل الدول الاستعمارية ، وخاصة بريطانيا والولايات المتحدة ، ولم تحصل على ما يقابله من دعم من الاتحاد السوفييتي ودول الديمقراطيات الشعبية حينذاك. كما لعبت خيانة العديد من الحكام العرب والأسلحة الفاسدة وغيرها دورها في تعطيل قدرة الكفاح العربية للوحدات العسكرية التي أرسلت إلى فلسطين ، وساعدت على إنهاء الحرب لصالح إسرائيل. وبالتالي ، قامت الدولة الإسرائيلية ولم تقم الدولة العربية الفلسطينية. والشعب الفلسطيني يحصد اليوم نتائج تلك السياسات والمواقف. واتخذت السلطات العراقية من موقف الحزب الشيوعي العراقي حجة لشن حملات ظالمة لتصفية الحزب الشيوعي العراقي ، واتخذته مبرراً غير مباشر لتنفيذ جريمة الإعدام بحق فهد ورفاقه حازم وصارم ويهودا صديق وساسون دلال ، كما ساهمت بتأجيج الرأي العام العربي ضد الحزب ، بحيث كانت الحملة لوقف عملية تنفيذ الإعدام بحق قادة الحزب الشيوعي العراقي فهد وحازم وصارم ويهودا صديق في شباط من العام 1949 ضعيفة حقاً. ولكن هذا الموقف لم يفهم بالصورة الصحيحة ولم يلعب الحزب الشيوعي العراقي دوره المناسب ولم يمنح الفرصة الكافية في حينها لتوضيح موقفه من التقسيم. وفي حمى الصراع حينذاك اتخذ الأمر وكأن الحزب الشيوعي مع التقسيم وبقية القوى السياسية العربية ضد التقسيم. وهو أمر أساء كثيراً لعلاقة الحزب بالقوى القومية والإسلامية التي تلقفت الموقف لتبرير صراعها وكرهها الدائم للشيوعية والشيوعيين حينذاك ، خاصة وأن الحركة الشيوعية العالمية كانت قد أيدت قرار التقسيم ووقفت إلى جانبه من منطلق معاناة اليهود في ألمانيا من عمليات الإبادة الجماعية في معتقلات النازية ، رغم أن هذا لم يكن مبرراً أيضاً ، إذ أن جريمة النازية البشعة ذات الخلفية العنصرية والمعادية لليهودية خصوصاً والسامية بشكل عام والقائمة على إيديولوجية مناهضة لكل الشعوب كانت قد توجهت بحقدها لا ضد اليهود والغجر والسلافيين حسب ، بل وضد الشيوعيين والاشتراكيين والديمقراطيين والمسيحيين المناوئين للنازية أيضاً. ولا شك في أن موقف الحزب الشيوعي السوفييتي إزاء التقسيم حينذاك لم يكن سليماً ، إذ كان في مقدوره الرفض وعرقلة التقسيم حينذاك لإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية تجمع العرب من مسلمين ومسيحيين ويهود سوية. كما أن الحجج التي قدمت حينذاك لم تكن موضوعية ولا مبررة للموافقة على قرار التقسيم.
نهاية الحلقة ونهاية الحلقات في آن واحد
أقدم شكري الجزيل للصديق العزيز والأستاذ الفاضل الدكتور سيّار الجميل الذي أتاح بمبادرته الفرصة لخوض مثل هذا الحوار الشيق الذي ساعدني على معرفة الكثير وتعلم الكثير وأرجو لمثل هذا الحوار أن يكون نموذجاً لحوارات لاحقة , إن تسنى لنا مواصلته في فترة أخرى. وأني على استعداد كامل لسماع رأيه القيم حول ما قدمته. وأعتذر إن كان قد صدر عني ما يمكن أن لا يكون مناسباً للموقع العلمي للأستاذ الفاضل سيّار الجميل ودوره المتميز في الثقافة العراقية والعربية وفي النضال من أجل مجتمع مدني ديمقراطي حديث.



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الر ...
- رحل عنا بهدوء الشخصية الوطنية والديمقراطية العراقية والشاعر ...
- أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟لتتسع ...
- في الذكرى الأربعينية لرحيل الأستاذ كامل الجادرجي
- أين تكمن أهمية نداء -مدنيون- في المرحلة الراهنة ؟
- لست أنا المقصود .. بل المقصود غيري ..!
- قتل الناس الأبرياء يعني النهاية القريبة التي تنتظر كل الإرها ...
- لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الر ...
- في الذكرى الأربعينية لرحيل الصديق الشاعر مرتضى الشيخ حسين
- رسالة مفتوحة إلى كافة القوى اليسارية والديمقراطية والعلمانية ...
- ألا تنتهي معاناة الكُرد الفيلية رغم سقوط نظام السياسات الفاش ...
- لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الر ...
- هل من حراك سياسي إيجابي في العراق؟
- تحية إكبار وتقدير للكاتبة والشاعرة بلقيس حميد حسن في دفاعها ...
- بعض الدول النفطية العربية تهيمن على أجهزة الإعلام العربية
- نحو تطبيق إنساني وعقلاني لقانون المساءلة والعدالة
- بين نقد الوعي النقدي والتجريح الشخصي
- ملف خاص في الذكرى العشرينية لمجازر الأنفال وحلبچة ضد الإنسان ...
- ماذا تمخض عن اجتماع قيادتي الحزبين , الحزب الديمقراطي الكردس ...
- ماذا تمخض عن اجتماع قيادتي الحزبين , الحزب الديمقراطي الكردس ...


المزيد.....




- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران


المزيد.....

- مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة / عبد الرحمان النوضة
- الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية ... / وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
- عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ ... / محمد الحنفي
- الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية / مصطفى الدروبي
- جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني ... / محمد الخويلدي
- اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956 / خميس بن محمد عرفاوي
- من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963.......... / كريم الزكي
- مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة- / حسان خالد شاتيلا
- التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية / فلاح علي
- الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى ... / حسان عاكف


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - كاظم حبيب - لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الرأي الآخر..أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟ الحلقات 6 , 7 , 8 و9