أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد سمير عبد السلام - تجاوز ما بعد الحداثية ، أو التفاعل المفتوح بين المحلي و العالمي















المزيد.....



تجاوز ما بعد الحداثية ، أو التفاعل المفتوح بين المحلي و العالمي


محمد سمير عبد السلام

الحوار المتمدن-العدد: 2049 - 2007 / 9 / 25 - 10:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بقلم : إيهاب حسن
ترجمة : محمد سمير عبد السلام
أولا : مقدمة الترجمة :
يصف إيهاب حسن في هذا المقال ، تحولات اللحظة الحضارية الراهنة ، انطلاقا من صيرورة سياق ما بعد الحداثة ، و قد تجاوزت نفسها كظاهرة في الهندسة المعمارية ، و الأدب ، و الفلسفة ، و الفنون منذ الستينيات ، فيما يعرف بظاهرة ما بعد الحداثية . و ينطلق إيهاب حسن من خاصية انعدام الحدود الواضحة فيما بعد الحداثية كما بدأ بوصفها مع آخرين منذ أكثر من ثلاثين عاما ، ليبدأ بوصف التناقضات ، و أسئلة الهوية المحلية ، و العالمية ، و اللغة التفاعلية الجديدة بين المحلي و العالمي على الإنترنت ، و من ثم فهو يتوقع لسياق التفاعل المفتوح أن يعيد التساؤلات الحضارية القديمة و المتجددة ، حول الهوية الثقافية ، حيث يسهب في شرح أصولها البيولوجية ، و القبلية القديمة ، ليصل إلى امكانية انفتاح الحدود بين الثقافات ، و الأفكار في تفاعلية إبداعية تجمع بين المحلي ، و العالمي ، و تتجاوز وحشية القوة المؤكدة للأنا في مقابل الآخر .
و يعد هذا المقال بيانا ينتقل فيه إيهاب حسن من تكرار ظهور شبح الظاهرة ما بعد الحداثية ، و التحقق التأويلي التاريخي المتجاوز لما بعد الحداثية ، و فيه تتحرر نقاط التفاعل ، من حدود التميز القديمة التي بدأت تتسلل لظاهرة ما بعد الحداثية ، إذ يشترك الجميع بوعي أو بغير وعي في معايشة التحول الراهن لسياق ما بعد الحداثة .
و يختلف وصف إيهاب حسن للسياق الثقافي / التاريخي الجديد عن غيره من المفكرين و النقاد الذين ترتكز رؤاهم حول علامات فارقة في الحقبة الراهنة بين ما بعد الحداثية ، و ما يتجاوزها ، فهم يضعون ظواهر جمالية ، و ثقافية جديدة ، أو يتحدثون عن عودة جديدة للحداثة التكنولوجية ، لكنه يجعل من تحول سياق ما بعد الحداثة مجالا مفتوحا للتفاعلية ، دون وضع لحدود أخرى .
و تتميز كتابة إيهاب حسن بتأكيد تعددية الهوية ، و الجمع بين المجاز – مثل شبح ما بعد الحداثية – و السياق الثقافي ، أو التاريخي ، أو ما يدعى بالحقيقي ، كما يعيد تركيب بعض المصطلحات بشكل إبداعي ، مثل كلمة Glocal التي تجمع المحلي و العالمي معا .
إن الشبح يتجانس مع خاصية انعدام التحديد التي يؤكدها حسن من بداية البيان إلى نهايته ، و أرى أنه همزة اتصال خفية بين ظاهرة ما بعد الحداثية ، و السياق التفاعلي الجديد بين الثقافات و الأفكار ، حيث يميل الآن إلى تجسد غير واع من داخل تكراره الملح في السابق ، و معاينته لأفول يحتمل بدايات جديدة .
كما تتداخل في كتابة إيهاب حسن الأخيلة السردية المولدة عن الأعمال الأدبية ، و مظاهرها الواقعية على الخريطة دون انفصال ، أما اللغة التفاعلية التي يقترحها تتجاوز تأكيد الأنا لإدخاله في الروح الكونية ، و من ثم نجد الأدب حاضرا في الجغرافيا السياسية ، و النسيج الكوني معا .
و لي ثلاث تعليقات على بيان إيهاب حسن :
الأول : عندما وصلت نزعة الشك ، و اللامبالاة و اللعب السوداوي ، في الفن إلى الحدود القصوى بدأ إيهاب حسن يتحدث عن نهاية هذه النزعة ، و استبدالها بشيء من التصديق تنفتح فيه الحدود ، و لكن من داخل سياق التفاعل الجديد يمكن لهذه النزعات أن تعود بصور جزئية ، و ممزوجة بعناصر تاريخية ، و فنية أخرى .
الثاني : خصص حسن جزءا من البيان حول علاقة ما بعد الحداثية ، بالبراجماتية الأمريكية ، و لم يتطرق للآلية السلوكية التي ميزت فكر بعض روادها مثل بيرس و ديوي و سكنر ، حيث يرتكز حسن على الأداء المتجاوز للقضايا العقلانية الكبرى ، و هنا تبدو نقطة اللقاء ، و التداخل ، و تصير احتمالا مضافا لما بعد الحداثية يدفع بها إلى ما يتجاوزها ، دون أن تكون عنصرا تكوينيا ، فاللغة التفاعلية التي تبدأ من نبذ التمركز حول القوة الذاتية تنفتح أدائيا ، في مجال النصوص ، و الجغرافيا ، و العناصر الكونية لتتلاشى النزعات الحتمية ، أو تتحول إلى فضاء أكثر اتساعا هو فضاء تجاوز ما بعد الحداثية .
الثالث : مثلما يفكك إيهاب حسن العنصر الزمني المتضمن في تعبير ما بعد الحداثية ، بما يتجاوز التاريخية ، فإنه يحرص ضمن السياق الجديد أن يفكك أحادية الهويات الثقافية بما تتضمنه من احتمالات الآخر بداخلها .

محمد سمير عبد السلام – مصر
سبتمبر 2007
تجاوز ما بعد الحداثية ، أو التفاعل المفتوح بين المحلي و العالمي
إيهاب حسن
ترجمة : محمد سمير عبد السلام
أولا : ماذا كانت ما بعد الحداثية ، و ماذا تمثل الآن ؟
أعتقد أن ما بعد الحداثية صارت الآن شبحا ، أو عودة لمدلول منفلت من الحدود ، و كلما نظن أننا قد تخلصنا منها ، ينهض شبحها مرة أخرى ، فهي تماثل هذا الشبح ؛ إذ تستعصي على التعريف ، أو محاولة وضعها في إطار .
أعرف اليوم دونما شك – القليل عن ما بعد الحداثية ، مقارنة بما كنت أعرف منذ أكثر من ثلاثين عاما ، عندما بدأت الكتابة عنها ؛ ربما لأنها قد تغيرت ، مثلما تغيرت ، و تغير العالم .
هذا التغير يؤكد نفاذ بصيرة فريدريك نيتشه ؛ إذ يرى أنه إذا كان للفكرة تاريخ ، فإنها تصير تأويلا ، أو موضوعا للمراجعة ، و التنقيح في المستقبل . أما الفرار من التأويل ، و من ثم إعادة التأويل ، فهو مفهوم أفلاطوني ، أكثر انتماء للتحليل النظري ، مثل الدائرة ، و المثلث ، و الإنسانية ، و الرومانسية ، و الواقعية ، و الحداثية ، و ما بعد الحداثية ، و سوف تخضع هذه المفاهيم للتحول المستمر ، خاصة في فترة صراع الأيديولوجيات ، و النشاط المفرط للميديا .
و لكن أفكار ما بعد الحداثية مازالت تتردد في خطاب الهندسة المعمارية ، و الفنون المختلفة ، و العلوم الإنسانية ، و أحيانا الفيزياء ، كما أنها لم تقتصر على المؤسسات الأكاديمية ، بل نجدها أيضا في الخطاب الشعبي ، و عوالم السياسة ، و البيزنس ، و الميديا ، و صناعات التسلية ، كذلك شاعت في لغة الأساليب الشخصية للحياة ؛ مثل طريقة طهو ما بعد حداثية ، و مطبخ ما بعد حداثي . و الخلاصة ، ليس هناك إجماع حول معنى ما بعد الحداثية .
إن المصطلح ، فضلا عن المفهوم ينتمي إلى ما يطلق عليه الفلاسفة الفئة المتنازع عليها جوهريا ، و بلغة أبسط ، إذا وضعت أهم المفكرين الذين ناقشوا المفهوم مثل ليسل فيدلز ، و تشارلز جنكس ، و جان فرانسوا ليوتار ، و برنارد سميث ، و روزاليند كراوس ، و ليندا هاتشون ، بالإضافة إلي ، في غرفة واحدة ، ثم أضفت الإرباك الملازم للمفهوم ، و أغلقت الغرفة ، و ألقيت بالمفتاح بعيدا ، لن يحدث اتفاق بين المناقشين ، و لو مر على اجتماعهم أسبوع ، بل ستجد خيطا من الدماء يبدو أدنى عتبة الغرفة .
دعنا لا نستسلم لليأس ، فإذا كنا غير قادرين على تعريف شبح ما بعد الحداثية ، أو التخلص منه ، فيمكننا أن نقترب منه ، أو نفاجأه من أكثر من زاوية ، فربما نثيره ليدخل نطاقا جزئيا مضيئا ، و خلال هذه العملية نستطيع الكشف عن عائلة من الكلمات تتجانس مع تعبير ما بعد الحداثية ، و أشير هنا إلى بعض الاستخدامات الحالية للمصطلح :
1 - بعض أعمال الهندسة المعمارية ، درست كأمثلة لعمارة ما بعد حداثية ، مثل متحف جاجنهيم لفرانك جاري في مدينة بيلباو الأسبانية ، و قصر أشتون ريجات مكدوجال في ميلبورن بأستراليا ، و مركز سكيوبا لأرتا أيسوزوكي في اليابان ، و أصحاب هذه الأعمال تجنبوا خشونة الزوايا الهندسية للباوهاوس ، و نقاءها التجريدي ، فمثلا الأطر ذات الحد الأدنى من المعدن مع الزجاج عند فان دير روه تخلط العناصر الجمالية ، بالتاريخية ، كما تعبث بالشظايا ، و تستخدم العناصر الرديئة .
2 – في كتابه الصادر مؤخرا الإيمان و النسبية ، يستخدم البابا جون بول تعبير ما بعد الحداثية ؛ لإدانة النسبية المفرطة في النظر إلى القيم و المعتقدات ، و كذلك النزوع إلى السخرية ، و الشك في العقل السببي ، و من ثم إنكار فكرة الحقيقة .
3- في مجال الدراسات الثقافية انغمس مصطلح ما بعد الحداثية بشدة في الحقل السياسي ، و عادة ما يستخدم في مقابل ما بعد الكولونيالية ، فقد اعتبر الأول غير مبال ، و غير فعال من الناحية التاريخية ، و السياسية ، فهو الأسوأ لأنه لا يحمل تعديلا سياسيا .
4 – في نطاق الثقافة الشعبية تشير ما بعد الحداثية ، أو بو مو كما يسميها بعض المحترفين – إلى مدى واسع من الظواهر ، و الأحداث ، من أندي وارهول حتى مادونا ، و لصوق الموناليزا الكبيرة ، و قد شاهدت صورة العملاق لديفيد ميكلانجلو في إعلان شركة باشينكو في طوكيو ، و كان من الضخامة بحيث تمر الكاميرا على كل جزء من كتفه المفتولة بمعزل عن الجزء الآخر ، و كذلك شاهدته في إعلان شركة الرحلات كونتكي في نيوزلندا .
في أي شيء يشترك هؤلاء ؟
حسنا يمكننا الإشارة إلى سمات مثل اختلاط الأساليب ، و الشظايا ، و النسبية ، و المحاكاة الساخرة ، و القص و اللصق ، و مقاومة الروح الشمولية ، و الأيديولوجيا .
و لهذا سوف نبدأ في بناء عائلة من الكلمات تتلاءم مع ما بعد الحداثية ، و سوف نبدأ بإنتاج السياق ، إذا لم يكن هناك من حد له ، و يمكن للقارئ الذي يريد التوسع أن يراجع كتاب فكرة ما بعد الحداثية ، لهانز برتنز ، فهو أوسع مقدمة أعرفها عن الموضوع ، لكنني الآن يجب أن أقوم بحركتي الثانية ، الخدعة الثانية للاقتراب من ما بعد الحداثية من منظور مختلف .
ثانيا : ما بعد الحداثية ، و ما بعد الحداثة :
لم أرتكز بقدر كاف في أعمالي المبكرة ، على كشف الاختلاف بين ما بعد الحداثية ، و ما بعد الحداثة . هذا الاختلاف سيشكل النقطة الرئيسية في هذا البيان ، و سوف أعود إليه بالتفصيل لاحقا .
دعني أقول ببساطة في هذه اللحظة ، بأنني أعني بما بعد الحداثية الإشارة إلى المجال الثقافي ، خاصة الأدب ، و الفلسفة ، و الفنون المختلفة ، متضمنة الهندسة المعمارية ، بينما تشير ما بعد الحداثة إلى مجال الجغرافيا السياسية ، و قد كانت أقل أهمية من تعبير ما بعد الكولونيالية المربك ، و قد انتشر في العقود الأخيرة ؛ ليبرز نطاقي العولمة ، و التموضع المحلي ، و يدمجهما بأساليب غريبة .
الاختلاف هنا ليس بين بناء فوقي ، و آخر تحتي كما هو في الماركسية ، ذلك أن الحقول السياسية و الدينية ، و التقنية ، و الاقتصادية الجديدة يصعب أن تتلاءم مع الفكر الماركسي .
و لا تستوي ما بعد الحداثة بتعبير ما بعد الكولونيالية ؛ فقد تشكل الأخير من خلال القلق إزاء الإرث الاستعماري .
يمكننا إذا التفكير فيما بعد الحداثة بوصفها عملية عالمية ، لا يفترض أن تتماثل في كل مكان على الإطلاق ، كما أنها ليست شاملة ، و يمكن تخيلها كمظلة واسعة ، تقف تحتها مجموعة من الظواهر المختلفة ، مثل ما بعد الحداثية في الفنون ، و ما بعد البنيوية في الفلسفة ، و النسوية في الخطاب الاجتماعي ، و دراسات ما بعد الاستعمار ، و الدراسات الثقافية في الأكاديمية ، و كذلك تضم الرأسمالية العالمية ، و تكنولوجيا الاتصالات ، و الإرهاب الدولي ، و الاختلاط العرقي ، و القومي ، و الحركات الدينية ، كل هذه الظواهر تقع في سياق ما بعد الحداثة ، دون أن تكون متضمنة فيها بشكل سببي .
و يمكننا أن نستنتج نقطتين مما سبق :
الأولى : تتواءم ما بعد الحداثية كظاهرة ثقافية مع التقنية العالية ، و المستهلك ، و قيادة الأجهزة الإعلامية الاجتماعية .
الثانية : تشير ما بعد الحداثة كعملية جغرافية سياسية عالمية ، إلى ظاهرة كوكبية تفاعلية ، يتخلل نسيجها القبلية ، و الإمبريالية ، و الأساطير ، و التكنولوجيا ، و الهوامش ، و المراكز هذه المفاهيم غير المتكافئة تخرج طاقاتها المتصارعة ، في أغلب الأحيان على شبكة الإنترنت .
ذكرت من قبل أنني لم أميز بقدر كاف بين ما بعد الحداثية ، و ما بعد الحداثة ، و للإنصاف فقد لاحظت وقتها – سمة داخلية في ما بعد الحداثية نفسها ، تتفق مع السياق الكوكبي الجديد لما بعد الحداثة ، ففي مقالي المعنون ب " الثقافة ، و انعدام الحدود ، و أصالة الهوامش في العصر ما بعد الحداثي " سنة 1977 ، صغت التعبير " أصالة انعدام التحديد " لوصف ميلين متباينين في ما بعد الحداثية ، يشير الأول إلى انعدام التحديد في المجال الثقافي ، و الثاني إلى أصالة المجال التكنولوجي . مثل هذه الميول ذات الطابع الاختلافي تصير بديلا عن الجدلية ، إذ تتغير باستمرار خارج التركيب الهيجلي ، أو الماركسي . و من ثم أعتقد أنه ليس هناك شخص ينتمي إلى سياق ما بعد الحداثة بدرجة أقل من الآخر .
تتضمن العناصر غير القابلة للتحديد مفاهيم عديدة منها ؛ النزوع إلى الانفتاح ، و التجزؤ ، و الغموض ، و اللامركزية ، و التعدديه ، و انقطاع المتوالية الاتصالية ، و الهرطقة ، و نقد البنية الشكلية ، أو إرجاء المدلول ، و سنجد أن المفهوم الأخير وحده يتضمن دستة من المصطلحات مثل التفكيكية ، و الإزاحة ، و التفكك ، و الاختلاف ، و الاختفاء ، و الغياب ، و مقاومة المتوالية الاتصالية ، و مقاومة التعريف ، و الحقيقة ، و النزعة الاستعمارية ، و الفكر الشمولي .. ، و بواسطة هذه العناصر ، و الحركات ستبطل مؤثرات التجسد السياسي ، و تجسد الإدراك ، و الجنس الجسدي ، و الروح الفردية ، و العالم الكامل الحقيقي في الفكر الغربي .
و في مجال الأدب وحده سوف تتغير أفكارنا جميعها ، حول المؤلف ، و الجمهور ، و القراءة ، و الكتابة ، و الكتاب ، و النوع ، و النظرية النقدية ، و الأدب نفسه .
كل شيء يخضع للتساؤل ، و المراجعة ؛ ليس بسبب العجز ، و إنما لإعادة الإنشاء في مسارات عديدة ، و مختلفة ، كما أن هذه العناصر فضلا عن انعدام التحديد ، و المراجعة المستمرة ، ذات طبيعة تناثرية ، و انتشارية ، نظرا لتدفق التقنيات المعاصرة .
و هذا هو الميل الثاني فيما بعد الحداثية ، و أستخدمه هنا دون أصداء أيديولوجية ، لتعيين قدرة العقل على دمج نفسه في الرموز ، و يتخلل هذا الميل الطبيعة ، أكثر فأكثر ، كما يؤدي من داخل تجريده الحاص ، و يبني مشروعه الإنساني الواعي في نطاق كوني .
هذا الميل العقلي يوصف بكلمات مثل الانتشار ، و التناثر ، و التغيير الأساسي ، و التفاعل ، و الاتصال ، و كلها مشتقة من حالة انبثاق البشر كحيوانات لغوية ، أو جنس تصويري إشاري ، أو مخلوقات تعيد إنشاء نفسها ، برموز جعلت ملكها ، و يمكننا أن نطلق عليها هرطقة نصية خارقة للمعرفة ، إذ يختلط الحقيقي و القصصي ، و يصير التاريخ حدثا إعلاميا ، إذ تؤخذ نماذجه كوقائع يسهل الحصول عليها ، أما علوم الاتصالات فتتحدانا بلغز الذكاء الاصطناعي ، فكمبيوتر الأزرق العميق يتحدي كاسباروف بطل الشطرنج ، كما تضع خطوط التقنية مدركاتنا الحسية على الحافة ، في أبحاث الذرة ، و الإطار الواسع للكون معا .
تتفاوت هذه الميول – بلا شك من بلد لآخر ؛ ففي الولايات المتحدة ، و استراليا ، و ألمانيا ، و اليابان صارت ما بعد الحداثية مألوفة داخل الجامعة ، و خارجها ، و في أغلب المجتمعات الكبرى نراها كظاهرة ثقافية تشير إلى ميل مضاعف لتجاوز الحدود ، و الأشكال الأقرب للمتاهة ، و التشابك ، و تعود جذورها لجيل دولوز ، و غتاري .
و رغم ذلك فالأرض أكثر أهمية من كوكب هوليود ، أو بنك دويتش ، أو ميتسوبيشي ، لقد تغيرت صلة ما بعد الحداثة ، بانعدام التحديد على المستوى الثقافي لما بعد الحداثية ، إلي سياق جديد من صراع النزعات المحلية و العالمية ، مثل الإبادات الجماعية ، في البوسنة ، و كوسوفو ، و ألستر ، و روندا ، و الشيشان ، و كردستان ، و سيريلنكا ، و التبت و غيرها .
في الوقت نفسه تحول الجانب الثقافي في ما بعد الحداثية ، إلى التجسد في مجموعات ساخرة ، و ألعاب مسدودة النهايات ، أو مجرد إثارة في وسائل الإعلام .
لقد أضفنا هنا بعض المصطلحات الجديدة لعائلة ما بعد الحداثية مثل أصالة عدم التحديد ، و النزعة النصية ، و التشابك ، و التقنية ، و المستهلك ، و القيادة الاجتماعية للإعلام ، فضلا عن مفردات أخرى ثانوية ، فهل دفعنا شبح ما بعد الحداثية إلى دائرة الضوء ؟
ربما نحتاج لدفعه أبعد من ذلك بسؤال آخر .
ألم تكن هذه المقالة فحصا للأفكار و الدوافع التاريخية ؟
ألم تقترح بأن عقل ما بعد الحداثية يميل إلى الانعكاس الذاتي ، كما لو كان هدفا لكتابة سيرة ذاتية ملتبسة ؟
ثالثا : سيرة ذاتية ملتبسة :
نشر إيمانويل كانط في عام 1784 مقالا بعنوان " ما هو التنوير ؟ " ، و قد تناوله بعض المفكرين ، و بخاصة ميشيل فوكو ، ليمثل المرة الأولى التي يرتد فيها الفكر إلى نفسه ، فيسأل من نحن ؟ من زاوية تاريخية ، كما يتساءل عن معنى المعاصرة ، و من ثم يتساءل العديد منا في الوقت الحاضر ، هل كنا ما بعد حداثيين ؟
و بينما يخفق فوكو في ملاحظته ، يمكننا أن نعيد طرح السؤال نفسه ، و لكن من دون ثقة كانط في إمكانية تحقق المعرفة ، و كذلك ثقته بالذات التاريخية .
من الصعوبة بمكان أن نميز ما بعد الحداثية مثلما ميز كانط تعبير التنوير ؛ فهناك الشكوكيون ، و أنصار التعددية ، و اللامركزية ، و مبدعوا المحاكاة الساخرة ، و الأعمال المناهضة للهوية ، و البراجماتيون ، و غيرهم .
يمكننا بدلا من محاولة التحديد ، أن نراوغ حماسة المعاصرة ظاهريا ، و كذلك قلق التسمية و المصطلحات التي انتشرت ، و ارتبطت بما بعد الحداثية مثل ما بعد الحداثية الكلاسيكية ، أو العالية ، أو البوب ، أو بو مو ، و التفكيك ، و إعادة إنشاء الرؤى ، و النبوءات ، و بعد ما بعد الحداثية ، و ما قبلها . مثل هذه الكلمات الجديدة تؤدي إلى انفجار في معمل اللغة .
على أي حال يمكننا أن نتخيل بصعوبة عصرا يتعذب كثيرا حول نفسه ، فقط ليخترع صوتا تمثيليا لمهرج يدعى ما بعد الحداثية ، و مع ذلك يمكن أن نميز ما بعد الحداثية كسؤال مستمر لفكرة التحقق الذاتي ، و لا يقتصر هذا الاندفاع على ما يسمى بالغرب فقط ، و لكن يشمل تفاعلات عديدة في الكرة الأرضية ، فكثير من السكان يتحركون ، و يتدافعون ، و يتصارعون .
إنه عصر التشتت ، و الاختلاف ، إذ تثار فيه الأسئلة الكثيرة حول الهوية الثقافية ، و الدينية ، و الشخصية ، و قد يصير الإحساس بها حادا و أحيانا خادعا .
و في التحول من ما بعد الحداثية ، إلى ما بعد الحداثة يمكنك أن تسمع البكاء حول العالم ، مع طرح أسئلة مثل من نحن ؟ و من أنا ؟
لهذا يمكننا إضافة كلمات عديدة ، إلى عائلة ما بعد الحداثية ، مثل المعنى التاريخي ، و الانعكاس الذاتي المعرفي ، و قلق التعيين ، و التسمية ، و الأعمال متبدلة الهوية ، و الإحساس بالمعاصرة ، و تشتت الإحساس بالزمن الخطي ، و الدوري ، و النبوئي ، و الحلم بالزمن . كل هذه الأوقات الرؤيوية ، هناك ، تصاحبها هجرات ضخمة ، و مفاهيم أخرى مثل الحرية ، و القوة ، و أزمة الهويات الثقافية ، و الشخصية .
رابعا : تاريخ قصير للمصطلح :
هذه المحاولة من الإدراك الذاتي ، و التي أطلقت عليها سيرة ذاتية ملتبسة لما بعد الحداثية ، تبدو في التاريخ الفريد للمصطلح ، فهو يسهم في توضيح المفهوم الذي نستعمله في الوقت الحالي ، و لهذا يجب أن أحدد هذا التاريخ بدقة ، خاصة أن كلا من تشارلز جنكس ، و مارجريت روز ، قدم تفصيلا له في موضع آخر .
في عام 1870 استعمل الرسام الإنجليزي جون واتكنز شابمان المصطلح ، في سياق الحديث عن ما بعد الانطباعية ، و في عام 1934 استخدمه فريدريكو دي أونز ، ليقترح من خلاله حركة مضادة للصعوبة ، و النزعة التعبيرية في الشعر الحداثي ، و يقر أرنولد توينبي المصطلح في عام 1939 ، بمدلول مختلف ، إذ يشير إلى نهاية الوضع الحداثي ، و الطلب البورجوازي الغربي الذي يعود إلى القرن السابع عشر .
و في عام 1945 يستخدمه برنارد سميث ، للدلالة على حركة في الفن التشكيلي تتجاوز التجريد ، و التي نطلق عليها الواقعية الاشتراكية . و في الخمسينيات تحدث عنه في الولايات المتحدة تشارلز أولسون ، بالاتحاد مع مجموعة من الشعراء في كلية بلاك مونين ، و يرجع أولسون ما بعد الحداثية بدرجة أكبر عند عزرا باوند و ويليم كارلوس وليم ، عن الشعراء الشكليين مثل ت . س . إليوت . و في نهاية ذلك العقد جادل كل من أرفنج هاو ، و هاري ليفين على التوالي بأن ما بعد الحداثية تعني انحدارا للثقافة العالية للحداثة .
و قد بدأت مع لازلي فيدلر ، و آخرين في أواخر الستينيات ، و أوائل السبعينيات في كتابة مقالات ، تناولنا فيها المصطلح بشكل متميز ، و قاطع أحيانا ، و متطور في الثقافة الأمريكية ، كتعديل نقدي للحداثية ، إن لم يكن نهاية فعلية لها .
و أعتقد أنه وفقا لهذا المعنى مازالت وجوه ما بعد الحداثية ، و أقتعتها تتغير حتى اليوم .
ليس في الأمر انحياز للستينيات ، لكنها بالفعل حملت كل الافتتاحيات ، و الانكسارات التي حدثت في تطور مجتمع المستهلك ، و قد دعا أندريس هايسين ذلك العقد الذي يقع بين الستينيات ، و السبعينيات ، بالخط الفاصل العظيم ، ففي خلال عشر ، أو خمس عشرة سنة واجهت الولايات المتحدة سلسلة متوالية من حركات التحرر ، و حركات المقاومة الثقافية مثل خطاب الحرية عند بركلي ، و الحركات المناهضة لحرب فيتنام ، و مجموعات السود ، و الحركات البيئية ، و النسوية ، و كذلك مسرح الشارع ، و أحداثه ، و التأليف المبني على الصدفة ، و موسيقى الروك ، و شعر العوالم الملموسة ، و المجموعات اللغوية ، و فن البوب ، و انتشار الأحداث الإعلامية ، و تعددها .
و بدأت الحدود تذوب بين الثقافة العالية ، و الثقافة الشعبية ، و الفن و النظرية ، و النص و النقد ، الأطفال و الرجال ، كما يزدحم كل من رجال المقاومة ، و رهبان الزن في المشهد الطبيعي ، و نهاية التسلسل الهرمي ، كما انتقلت أشكال الفن و التفكير من الاستاتيكية ، إلى الأدائية ، و من التكنيك العالي ، إلى ما يتجاوز التكنيك ، و لهذا لم يفضل ضمن هذا السياق هيدجر ، و لكن دريدا ، و ليس ماتيس ، و لكن دوشامب ، و ليس شونبرج ، و لكن جون كيج ، و ليس همنجواي ، و لكن بارثليم ، و بشكل أوضح ليس جروبيوس ، أو ميس ، أو لي كروبيوسير ، و لكن فرانك جاري ، و رينزو بيانو ، و أيسوزوكي في الهندسة المعمارية ، و غيرهم .
على أية حال ليست ما بعد الحداثية متماثلة في الفنون المختلفة كما سأناقش ذلك لاحقا .
في هذا المناخ الثقافي غير المحدد ، فضلا عن مقاومة النزعة الكلية عند فرانسوا ليوتار ، نما مصطلح ما بعد الحداثية ، و اتخذ مظهره الأخير ، و أعتقد أنه مات رغم أن شبحه مازال يطارد أوربا ، و أمريكا ، و استراليا ، و اليابان . هذا الشبح يجد الآن حياة جديدة ، و اسما جديدا ، فقد ضغطت على مصطلح ما بعد الحداثية ، في محرك البحث على الإنترنت ، فتحولت إلى اثنين و تسعين ألف رابط في ست ثوان فقط .

خامسا : صعوبات مفاهيمية :
مازال شبح ما بعد الحداثية يلازمنا ، لكن تأثيره أقل ؛ فهو يتصدع من الناحية الدلالية ، و ذلك منذ أن اكتشفت الصعوبات النظرية الكامنة فيه ذاتيا ، كما أن الزمن لا ينتظره ، و سوف أشير هنا إلى خمس من هذه الصعوبات :
1 – لم يكن مصطلح ما بعد الحداثية مربكا ، و ملتبسا ، و حسب ، و لكنه أوديبي أيضا ، إذ يشبه المراهق الثائر الذي لا يستطيع عزل نفسه كليا عن والده .
إنه لا يبتكر لنفسه اسما جديدا مثل الباروكي ، و الركوكي، و الرومانسي ، و الرمزي ، و المستقبلي ، و التكعيبي ، و الدادي ، و التفكيكي .
تظل إذا العلاقة ملتبسة ، و أوديبية طفيلية بين ما بعد الحداثية ، و الحداثية ، أو كما يشير برنارد سميث في كتابه " تارخ الحداثة " إلى بقاء حوار متصارع دائما مع الحركة الأقدم ، فالمصطلح يحمل إشكاليات عديدة بداخله .
2 – الاستعمال الخاطئ لما بعد الحداثية من قبل برنارد سميث ، و الذي يصر عليه ، يصلها دوما بالحداثية ، و ليس أبعد منها ، و حتى وقت متأخر ليس أبعد من وصف نتاج الثقافة العالية ما بين 1890 ، و 1940 ، فتعبير الحداثي في شكله النموذجي يتضمن حفظ التقدم إلى الأمام ، و التقدم التاريخي الحاد ، منذ ان استعمله كل من شكسبير و أبوت سوجر حتى وقتنا هذا .
3 – مصطلح ما بعد الحداثية غير متجانس بشكل مضاعف ، أي لا ينتمي لما بعد الحداثية ، فما بعد الحداثي ، و بخاصة ما بعد البنيوي يرفض الامتداد الخطي للزمن ، من الماضي للحاضر ، و المستقبل ، و من ثم البادئات مثل قبل ، و بعد .
و قد قلت إن حقبة ما بعد الحداثية بحد ذاتها خارقة للهوية ، و تبطل التكرار المطلق ، و الخطي للزمن . و على سبيل المثال هناك متوالية مفيدة في دراسة تاريخ الأدب الإنجليزي من العصر الإليزابيثي ، و اليعقوبي ، و الكلاسيكي الجديد ، و الرومانسي ، و الفيكتوري ، و الإدواردي ، حتى الحداثي ، و ما بعد الحداثي .
4 – الأكثر أهمية أن ما بعد الحداثية لا تتجانس مع فترة زمنية معينة ، أو مع تركيب دياكروني متطور تاريخيا . فهو يعمل نظريا بشكل سنكروني ظاهراتي ، فالكتاب الأقدم مثل صمويل بيكيت ، أو خورخي لويس بورخيس ، أو رايموند راسل ، أو فلاديمير نابوكوف من الممكن أن يكونوا ما بعد حداثيين ، و ذلك في مقابل بعض الكتاب المعاصرين الأحياء مثل جون أبدايك ، أو توني موريسون ، أو نايبول الذين لا ينتمون لما بعد الحداثية .
كما لا ندعي أن الأعمال التي سبقت 1960 حداثية ، و التي تلتها ما بعد حداثية ، فقد ظهرت مورفي لصمويل بيكيت عام 1938 ، و يقظة فينيجان لجيمس جويس 1939 ، و كلاهما من وجهة نظري ما بعد حداثي بامتياز .
لا يمكننا إذا أن نقول إن جيمس جويس كان ينتمي للحداثية ، أو ما بعد الحداثية . أي جويس ؟
إنه في " الدبلنيون " قبل حديث ، و في " صورة الفنان في شبابه " حداثي ، و في " يقظة فنيجان " ما بعد حداثي .
كل هذا يؤكد أنه يتطلب لوصف نموذج ما بعد حداثي ، مجموعة من الأساليب ، و الخصائص و الحالات توضع في سياق تاريخي بعينه . و أي واحدة من هذه الخصائص بمفردها ، مثل المحاكاة الساخرة ، أو المرح الأسود ، قد نجد من سبق إليها منذ مئة عام ، أو ألف ، مثل ستيرن ، أو يوريبيدس ، و لكن تجمعها في السياق الحالي هو ما يجعلها تنتمي إلى الظاهرة التي ندعوها ما بعد الحداثية .
5 – هل تتطور ما بعد الحداثية ، وفق الخطوط نفسها ، في الحقول الفنية و الثقافية ، بعد بناء هذا النموذج ؟
هل تظهر نفسها بصور متشابهة في الهندسة المعمارية ، و التصوير ، و الموسيقى ، و الأدب ؟ و في الأخير بمفرده ، في الشعر ، و القصة ، و المسرحية ، و المقالة ؟ و كذلك في الحقول المتباينة مثل العلم ، و الفلسفة ، و السياسة ، و الثقافة الشعبية ؟ .
إننا نهاب تحديات بناء نموذج شامل لما بعد الحداثية . و لكن هل نحتاج بالأساس لهذا النموذج ؟
هل نحتاج هذا المصطلح ؟
سادسا : ما بعد الحداثية كمقولة تأويلية :
يجب أن نتساءل حول نقطة الإرباك فيما بعد الحداثية ، سواء أكنا في القاهرة ، أم سيدني ، أم كوالالمبور ، و قد اقترحت إجابة واحدة هي تحول ما بعد الحداثية ، إلى ما بعد الحداثة في سياقنا المحلي / العالمي الراهن ، و سأعود لهذه النقطة لاحقا لأختتم بها فكرتي الرئيسية .
و لكن هناك إجابة أخرى أكثر إلحاحا ، و هي تحول ما بعد الحداثية بحد ذاتها - بصورة واعية ، أو غير واعية - إلى أداة تفسيرية ، فهي تمس عملنا كطلاب ثقافة ، و أدب ، و فنون ، نظرا لدراسة أكثر من فترة ، و مجموعة من الأساليب ، و الاتجاهات الفنية .
لقد أصبحت ما بعد الحداثية – بعد زوالها الجزئي – طريقة نرى من خلالها العالم ، و ربما كان رأي برنارد سميث صائبا حول حوارها المتصارع مع الحداثية .
و لكن كلا من الحوار و المقاومة ، يصبحان مصفاة ننظر من خلالها للتاريخ ، و بها نترجم الحقيقة ، و ننظر إلى أنفسنا . ما بعد الحداثية هي الآن ظلنا الرفيق .
إن كل جيل بالطبع يؤول أسلافه ، و يعيد ابتكارهم ، فإذا نظرنا للوراء سنجد أسبقية لتوجه ما بعد حداثي في أعمال مثل " تريسترام شاندي " 1759 - 1767 للورنس ستيرن ، و كذلك قلعة فرانز كافكا 1926 ، و الغثيان لجان بول سارتر ، و يقظة فنيجان لجيمس جويس 1939 . هذا يعني أننا قد قبلنا فرضيات ، و مميزات ما بعد الحداثية ، و أننا الآن نعيد قراءة الماضي ضمن شروطها . هذه النزعة حتمية لكنها من الممكن أن تصير عدوانية عندما تفكك أيديولوجيا ما بعد الحداثية الماضي ، و تدمجه كليا في نسيجها .
نحتاج لاحترام آخرية الماضي ، مثلما نعيد مراجعته .
من الممكن أن تصير نظرية ما بعد الحداثية مفيدة في نطاق الدراسات الأدبية بشكل عام ، فهي تمثل نموذجا قويا للإدراك الذاتي ، و كذلك النقد الذاتي لأساطيرها ، و لاهوتها السري ، و كذلك قدرتها على التسامح ، و احتمال ما لا يتطابق معها . و سنصل عند هذه النقطة للحديث عن البراجماتية ، فهي تتجنب الحدود القصوى لكل من الدوجماتية ، و الشكية المتأخرة .
و كما قال ت س إليوت في ملاحظاته لتعريف الثقافة ، أن الشكية المطلقة تدفع الحضارة العالية إلى الانحدار .
سابعا : ما بعد الحداثية ، و البراجماتية :
نتحدث هنا عن البراجماتية في الفلسفة ، و هي من أكثر الكلمات حسما ، لكي تضاف إلى عائلتنا اللفظية المتزايدة حول ما بعد الحداثية .
عندما نشرت كتابي " التحول ما بعد الحداثي " في عام 1987 ، كنت قد بدأت بالتساؤل – مثل الآخرين – عن كيفية استعادة النبض الإبداعي لما بعد الحداثية ، دون الارتداد إلى نوع آخر ، أو العودة إلى فكرة الأصل ، دون انتكاس للأشكال الأضعف ، أو الدوجماتية القاسية ، أو التعصب المذهبي .
لقد افتقر الوثوق في نزعة الشك ، إلى نوع من التصديق ، مثلما كانت السياسات الأيديولوجية مملوءة بالحماسة الكاذبة .
إن كلا من البراجماتية الفلسفية عند وليم جيمس ، و البراجماتية في الفن عند جون كيج ، يسمح بمساحة من التصديق ، أو روحانية غير مرتبكة ، فالبراجماتية في الفلسفة مجرد عروض ، و ليست دواء شافيا أبدا ، لكن اتساعها الفكري ، و المعرفي يجنبها الجدل حول العقل ، و القضايا الكبرى مثل ، الحرية ، و الضرورة ، و الطبيعة ، و الغذاء ، و هي تتصل بفكرة المجتمعات المفتوحة ، و المتعددة الثقافات ، و تؤيد حل القضايا بالوساطة ، و التفاهم كبديل عن القوة الديكتاتورية ، و المراسيم المقدسة . كل هذا يجعلها متجانسة مع ما بعد الحداثية ، دون قبول للعدمية المتأخرة ، و روح اللامبالاة ، و اللعب السوداوي . و إن مزايا الإمرسونيين ، و الجيمسيين فيها أعلى تأثيرا بكثير من الرورتيين ، في الدراسات الأدبية بوجه عام ، و ليس فقط على نظرية ما بعد الحداثية .
إن المزايا الروحية السابقة تقاوم كبرياء النظرية ، و نفاد صبر الأيديولوجيا ، و حماسة رغباتنا ، و حاجاتنا . إنها باختصار تغذي قابلية السلب التي اعتبرها كيتس ضرورية للأدب العظيم .
لقد حمل جون كيج – أحد أهم طلائع ما بعد الحداثية في الموسيقى ، و الرقص ، و الفنون البصرية – قابلية سلبية براجماتية ، تؤسس بدايات انعدام التمييز ، و التعصب ، فهو ينحدر من التفوق الأمريكي ، و كذلك من تأملية مذهب الزن .
إن رؤية كيج الطقسية تطرد الغرور الذاتي ، و التمركز حول الأنا من البدء ، إلى المنتهى ، فمركباته المبنية على المصادفة ، تتفق مع السعادة الصينية ، فالفم الضاحك يحاكي المرح الصاخب للمولعين بالدين في العصور الماضية . إضافة إلى اللطف القوي الواسع في فلسفة وليم جيمس .
هذا هو صوت البراجماتية الذي أحلت إليه ، حيث تهدأ الإيقاعات ، و تصير ملهمة للجميع ، و بخاصة في الدراسات الثقافية ، و ما بعد الكولونيالية .
ثامنا : تجاوز ما بعد الحداثية .. التفاعل المفتوح بين المحلي و العالمي :
كان السؤال المستتر خلف هذا البيان ، هو ماذا يقع وراء ما بعد الحداثية ؟ و بالطبع لا أحد يعرف حقا ، و لكن إجابتي الضمنية كانت سياق ما بعد الحداثة ، و إيجابيته على شبكة الإنترنت .
و لا يدعو هذا للابتهاج ، فالواقعية تعلمنا ، أن الأزمات التاريخية ، لا تأتينا دائما بحل سعيد ، نحتاج أن نتعلم ما يمكن أن يعلمنا إياه التاريخ ، و ما لا يمكن أن يعلمه أيضا .
مازال الجور قائما هناك ، و قد يكون أكثر قسوة ، و لكن ليس كله متعذر العلاج في الأشكال الجزئية التي يكمن فيها .
ثمة عاملان يثيران أزمات ما بعد الحداثة في وقتنا الراهن هما ؛ التفاوتات البارزة للثروة بين الأمم ، و بداخلها ، و كذلك الغضب الذي يرتكز على الهوية الكلية ، و المشاعر الجماعية المتمركزة حول الذات الأولى ، و ما تحمله من عصبية متوقعة .
هذه المشاعر تشارك وحشية علوم الاقتصاد ، و الجغرافيا السياسية .
و لي بعض الملاحظات حول النقطة الثانية :
يمكن قول الكثير حول الاختلاف ، و الآخرية ، لكن أغلبه يقع تحت دائرة الوعظ ، فمن ينادون بالانحياز لنوعهم لا يقبلون دائما من الأنواع الأخرى .
و الحقيقة أن المخ البشري قد طفر بصورة غامضة ، قبل أكثر من مليون سنة ، لابتكار استراتيجيات سريعة من أجل البقاء ، و قد تضمنت الانفصال بين الأنا ، و الآخر ، نحن و هم .
و يبدو هذا الانقسام واضحا في العالم البيولوجي ، ليس فقط بين الأنواع المختلفة ، و لكن بين أفراد النوع نفسه . تلك أعجوبة حصانتنا .
إن الأنظمة التي تميل – بشكل كهرو كيميائي سريع – بالتمييز بين الأنا و الآخر يمكن أن تخدع أحيانا ، فتهاجم الأصدقاء ، و تهمل الأعداء .
و يتضح الانفصام بين الأنا و الآخر في لغاتنا جميعها ، و في التراكيب التحتية للقواعد ، و في مفردات الضمائر المختلفة ، و لهذا نضع حدا بين ضميري ، أنا و أنت ، نحن و هم ... الخ ، فضلا عن ذلك فالانفصام يعمل أيضا في طبقات العقل ، كما يرى الفرويديون ، و اللاكانيون – حيث تنفصل غرائز الأنا المتمركزة نحو الذات ، و الغرائز الجنسية المتمركزة حول الآخر ، أو الطلب الرمزي في مرحلة المرآة عند جان لاكان ، و هي أكثر ارتباطا بموضوعنا .
على أية حال الانقسام واضح في التطور التاريخي للعائلة ، و الجماعة ، و القبيلة .
كان من الممكن أن ينقرض البشر منذ عهد بعيد في الكفاح من أجل التطور ، أمام الحيوانات الأكثر قوة ، و سرعة مثل النمر حاد الأسنان ، و من ثم كان من الممكن أن ينعدم العقل الإنساني ، و اللغات الإنسانية ، و المنظمات الاجتماعية . و من الغريزة العميقة للقبلية تطورت الهويات العرقية ، و الثقافية المختلفة .
هذه الغريزة أساسية ، لكنها موغلة في البدائية . كتب البلغاري إلياس كانيتي أن الروح الجماعية تتحرك في أنفسنا كحيوان ضخم متوحش ، و بصورة أكثر جدية كتب الأحيائي إي أو ويلسون عن قواعد التخلق الجنيني المتعاقب الذي يحكم علاقات القرابة ، و ممارسات التعاون ، و الإيثار في المجتمعات الإنسانية .
قد تكون الغريزة العشائرية ، و روحها الجماعية أساسية ، و لكن الخيال و الحب ، و العطف ، و الإحساس بشعور الآخرين أساسي كذلك .
ربما كان انعزال الأنا عن الآخر ضروريا من قبل ؛ لأجل البقاء ، لكننا لا نحتاجه الآن كثيرا ، نحتاج لجذب أشكال مختلفة في سياقنا التفاعلي ، حيث يعتمد كل شيء على الشيء الآخر ، و أن نقبل عوالم الإنترنت ، و عصر المحلي / العالمي – هذا التعبير الجديد غير المقبول يمكن أن يستعمل لمرة واحدة في عصر ما بعد الحداثة .
لا أعتقد أن الانقسام بين الأنا و الآخر ، نحن و هم سيختفي قريبا ، خاصة إذا استمرت تناقضات كل من الثروة ، و القوة ، و أفكر أن نستبدل الحديث عن جانب الانقسام ، بإمكانية أن نصنع منه ما يتجاوزه في حياتنا ، و يتطلب هذا صدقا ، و شجاعة ، و قوة في الإدراك لأنفسنا ، و ليس فقط للآخرين ، كما نحتاج لزرع الإحساس بالحوارية ، فيما يتعلق بالثقافات المتنوعة ، و كذلك الطبيعة ، و الكون الكامل نفسه ، كما نحتاج التنوع في أنماط الإعلاء لأجل البؤس الأرضي ، إذ يبطل الاندماج في المجموعات الشمولية القائمة على استبعاد المجموعات البشرية الأخرى .
أعلم تماما أن قول ذلك أسهل من عمله ، خاصة للمهتم بالمسألة الجماعية . و لكنني يمكن أن أبقي التصور الروحي لسياق ما بعد الحداثة مفعما بالحيوية في الأدب و الفنون المختلفة .
و بالطبع يمكن أن نعرف تصور ما بعد الحداثة ببساطة ضمن الشروط السياسية كحوار مفتوح بين المحلي و العالمي ، و الهامش و المركز ، و الأقلية و الأغلبية ، و الجزئي و الكوني ، و كذلك بين المحلي و المحلي ، و الهامشي و الهامشي ، و الأقلية و الأقلية ، و بين عالمية الأنواع المختلفة ؛ و لكن بشرط ألا ينفجر الحوار المفتوح إلى العنف .
ليس لدي علاج للطخة العنف الإنساني القديمة ، و لكنني أتساءل حول إمكانية الإفادة من عملية ما بعد الحداثة .
هل تصير الأرض روحا تنبثق منها القيم البيئية ، و الكوكبية الجديدة التي أسميها في النقد الهامشي " الغنوصية الجديدة " ؟
أعرف أنه خلافا للروح ، و الإحساس بالدهشة الكونية ، بالوجود ، و الفناء في الحافة الأوسع التي نشترك فيها جميعا ، نحتاج أن نطلق سراحنا من قبضة العشائرية ، و قلق التمركز حول الذات . ليست كل الموسيقى من إبداعنا في هذا العالم .
• إيهاب حسن :
1925 - ... ناقد و مفكر أمريكي من أصل مصري ، من أهم المنظرين الأوائل لاتجاه ما بعد الحداثة الأدب و الثقافة ، من أهم مؤلفاته أدب الصمت – نيويورك 1967 ، و الأدب الأمريكي المعاصر 1973 ، و التحول ما بعد الحداثي 1987 ، و بين النسر و الشمس – حول آثار اليابان 1996 . و يعد هذا البيان استشرافا لتحول ما بعد الحداثية إلى ما يتجاوزها ، و قد نشره إيهاب حسن في مجلة الفلسفة و الأدب بالإنجليزية صيف 2001 ، ثم أعاد نشرة بالإنجليزية على موقعه الشخصي على شبكة الإنترنت .



#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الزمن الآخر للظل .. قراءة في مهمل لعلاء عبد الهادي
- أحلام الجسد البهيجة .. قراءة في مأوى الروح لمحمد عبد السلام ...
- إعادة إبداع الإنسانية
- عبث ما بعد الحرب ... قراءة في رواية بلا دماء
- طيف الأنوثة المستعادة .. قراءة في هيكل الزهر ل فاطمة ناعوت
- دالي .. حلم النص و أسطورة الفوتوغرافيا
- جماليات الاختفاء عند مكسويل كوتزي
- لذة الكشف في رواية نوافذ النوافذ ل..جمال الغيطاني
- الحكي كإبداع للوعي .. قراءة في ما لا نراه ل محمد جبريل
- معرفة كونفوشيوس
- توهج النهايات عند صمويل بيكيت
- المحظور و التمثيلي و العوالم الافتراضية .. عن الأنوثة في قصص ...
- العمل ، و إبداع العالم
- الغياب في فضاء المحاكاة .. قراءة في فكر جان بودريار
- العبث ، و أحلام التجدد
- أحلام الأم المقدسة عند نوال السعداوي
- الأسئلة الارتدادية للفن
- القصيدة التفاعلية ، أو الامتداد الكوني للقصيدة - قراءة في لو ...
- صخور السماء .. أنشودة الجسد
- الأنا و تمثيل الآخر / الثقافي


المزيد.....




- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة
- سيناريو هوليودي.. سرقة 60 ألف دولار ومصوغات ذهبية بسطو مسلح ...
- مصر.. تفاصيل جديدة في واقعة اتهام قاصر لرجل أعمال باستغلالها ...
- بعد نفي حصولها على جواز دبلوماسي.. القضاء العراقي يحكم بسجن ...
- قلق أمريكي من تكرار هجوم -كروكوس- الإرهابي في الولايات المتح ...
- البنتاغون: بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة سيبدأ قريبا جدا
- البنتاغون يؤكد عدم وجود مؤشرات على اجتياح رفح


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد سمير عبد السلام - تجاوز ما بعد الحداثية ، أو التفاعل المفتوح بين المحلي و العالمي