أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - نظرات أولى في أطوار التاريخ السياسي الإيديولوجي المشرقي المعاصر















المزيد.....


نظرات أولى في أطوار التاريخ السياسي الإيديولوجي المشرقي المعاصر


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1960 - 2007 / 6 / 28 - 12:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


قد يمكن تقسيم التاريخ السياسي الإيديولوجي للمشرق العربي بعد الحرب العالمية الثانية إلى ثلاث أزمنة، نصطلح على تسميتها الزمن القومي، ثم الزمن الإسلامي، وأخيرا زمن قد نصفه بزمن الدول القائمة أو الإقليمية. والمشرق الذي نتحدث عنه هو متمركز حول إسرائيل/ فلسطين، موقعا وصراعا وقضية، ومن ثم فهو يشمل بلاد الشام (سورية ولبنان والأردن وفلسطين) ومصر، وربما العراق. ومعلوم أن هذا المجال كان في الزمن الأول، القومي، المركز السياسي والثقافي الذي تنجذب إليه وتتأثر به البلدان العربية الأخرى، في المغرب كما في الجزيرة العربية.

الزمن القومي الاشتراكي
تمثلت البداية الحقيقية للزمن الأول في قيام إسرائيل في فلسطين عام 1948. دشن هذا الحدث التاريخي الكبير عهدا من الاضطراب السياسي والفكري والنفسي في المشرق، تظاهر في انقلابات عسكرية متكررة بدءا من سورية، وبالأصح في عسكرة انقلابية للحياة السياسية والإيديولوجية، كما في عداء عنيف للغرب لم يلبث أن وجد (أو طوّر) سنده الفكري في كل من القومية العربية وشيوعية الحرب الباردة. في هذا الطور، سيتمحور تفكير قطاع مهم من النخب السياسية والثقافية المشرقية حول احتلال فلسطين وقيام الدولة اليهودية، وسيشكل "تحرير فلسطين" و"الوحدة العربية" الهدفان الجوهريان للحركة القومية العربية التي وجدت لنفسها قيادة ومركزا مبادرا في مصر الناصرية بعد حرب 1956. وطوال عقدين بين 1947 و1967 كان إزالة الواقعة الإسرائيلية، الطارئة والمهينة والمزدراة وغير المستوعبة، هدفا عمليا انبنت عواطف جيل عربي كامل حوله، انشغل التفكير السياسي المشرقي والعربي به، وسوغت النخب الحاكمة حكمها بالعمل من أجل تحقيقه. على أن الزمن القومي هذا لم ينته في عام 1967، بل بالأحرى في منتصف عقد السبعينات بعد أن كانت حرب 1973 أخفقت في الرد على حرب حزيران. ونميل إلى اعتبار تفجر الحرب اللبنانية وتمزق لبنان نقطة النهاية للزمن القومي من تاريخ المشرق السياسي المعاصر. هذا لأنه التقى في الحرب تلك تفجر البلد الصغير غير المحارب من جهة، وتورط الطرف الفلسطيني في صراعاته الداخلية من جهة ثانية، وأخيرا انخراط سورية، مهد القومية العربية المشرقية، في تلك الحرب ضد التحالف الفلسطيني اليساري اللبناني، المتماهي إيديولوجيا مع القومية العربية لتلك الأيام. فكأن لبنان دفع متأخرا ثمن اعتزاله "الحروب القومية" (الحروب حول فلسطين)، وكأن الدول المحاربة التي خسرت جميع حروبها فازت رغم ذلك بتثبيت كياناتها السياسية. بيد أنها ستخضع لدكتاتوريات عاتية بالتزامن مع تفجر الحرب اللبنانية.
الزمن القومي هو أيضا زمن صعود الماركسية في المشرق. وهذا صعود مزدوج: هيمنة الفكرة واللغة الماركسية في أوساط واسعة من المثقفين المشارقة، في سورية ولبنان والعراق وفلسطين، وبدرجة ما في الجزيرة العربية؛ ثم هو ظهور وتنامي أحزاب شيوعية مهمة في كل من العراق وسورية ولبنان، وإسرائيل/ فلسطين، فضلا عن منظمات فلسطينية.
وبينما سينهل مثقفون قوميون غير قليل من أدوات التحليل الماركسي وأساليب التنظيم الشيوعي، فإن الماركسية الشيوعية المشرقية ستنطبع بنزوع قومي عربي في الغالب، بالخصوص في البلدان المجاورة مباشرة لإسرائيل، سورية ولبنان والأردن والشتات الفلسطيني. كان الحزب الشيوعي العراقي والشيوعية المصرية أقل عروبية، لأسباب لا يصعب تخمينها (ولا مجال للتطرق إليها هنا).
الشيء المشترك بين القومية العربية المشرقية والماركسية هو ما قد نسميه بـ"المسألة الغربية" أو مشكلة الامبريالية. القومية العربية تعرف نفسها بلغة يحتل دال "الاستعمار" (الغربي طبعا) موقعا مركزيا فيها. والشيوعية المشرقية، بنت الحرب الباردة والموالية للاتحاد السوفييتي، كانت قومية ومعادية للامبريالية (الأميركية والأوربية، الغربية بداهة)، وتشغل هذه موقعا مركزيا جدا في قاموسها. يمكن القول، إذن، إن المسألة الأساسية في الزمن القومي هي "المسألة الغربية"، وفي قلب هذه، المسألة الإسرائيلية. فقد غلب تصور إسرائيل كقلعة متقدمة للامبريالية في قلب "الوطن العربي"، بينما سيغيب البعد اليهودي (أو سيحضر حضورا متنحيا، ومستثمرا إسلاميا من قبل "الرجعية العربية"، ما لا يساعد بالطبع على فهم الواقعة الإسرائيلية).
المشترك الآخر بين القوميين والماركسيين في مرحلة صعودهم تلك يتمثل في النظرة إلى "المجتمع". لقد بدا هذا لهما صلصالا قابلا للتغيير والتشكيل وفق ما تشاء النخب أو "الطلائع الثورية" ("ورقة بيضاء"، حسب ماو تسي تونغ). والطلائع هذه "صانعة للتاريخ" و"مغيرة للعالم" بـ"الإرادة الثورية"، تحقيقا لـ"التقدم" الذي كان يعني وقتها تلبية مصالح الأكثرية (ما كان يسمى "مصالح الشعب الحقيقية")، وموافقة "اتجاه التاريخ"، وتحقيق العدالة والمثال الأخلاقي.
ويتمثل المشترك الثالث في قاعدة اجتماعية متقاربة، مكونة من أبناء البلدات الريفية المتوسطة ومتعلمين مدينيين من غير طبقات الأعيان، أصحاب ملكيات زراعية متوسطة يعملون فيها بأنفسهم أو محلات تجارية متوسطة بدورها. يتعلق الأمر بـ "البرجوازية الصغيرة"، فئات اجتماعية متنوعة ريفية ومدينية، فلاحية وصاحبة منشآت صناعية وتجارية متواضعة، تضمن لها استقلالا نسبيا وتستطيع تأمين التعليم المتاح لأبنائها، لينخرطوا من ثم في الجيش أو في الوظيفة الحكومية (موظفي مكاتب أو معلمين بالخصوص)، ويذهب قسم منهم إلى الجامعات القليلة القائمة.
وما من شيء كان يعبر عن هذه "المرحلة" ووحدة القوميين والماركسيين فيها أكثر من فكرة "الاشتراكية العربية" كما تجسدت في الناصرية خصوصا، لكن أيضا في حزب البعث. ووجهها الآخر، الفكري، تمثل في تطلعات تعريب الماركسية التي عبر عنها ماركسيون سوريون مثل ياسين الحافظ وإلياس مرقص. إن ياسين الحافظ بالذات هو المثقف المشرقي (السوري اللبناني على الأقل) الذي يكثف روح هذا الزمن ومسائله وكتلته القومية الماركسية التي لطالما انتقدها نقدا لاذعا دون أن يخرج منها.
خسارة فلسطين وتأسيس إسرائيل هما وجها التجربة المكونة للزمن القومية. وبعد ثلاثة حروب إضافية، 1956 و1967 و1973، انطوت هذه البرهة التي ابتدأت بحرب 1948 في حرب خامسة: الحرب اللبنانية، وقد كانت أهلية وشامية وإسرائيلية ودولية.

الزمن الإسلامي الديمقراطي
بدأ الزمن الثاني في أواسط السبعينات. وصفناه بالزمن الإسلامي بسبب الحضور الكبير لتنظيمات وحركات إسلامية عنفية أو نزاعة للعنف، مع أسلمة متصاعدة للمجتمعات المشرقية بدءا من مصر، ومع حضور الاهتمام بالشأن الإسلامي السياسي والتراثي (لكن ليس الديني!) في أوساط مهمة من المثقفين العرب والمشارقة. كان هذا الشاغل، وليس السياسة، هو مجال المبادرات الفكرية المهمة في الربع الأخير من القرن العشرين.
على أن الزمن الثاني هذا تميز أيضا بصعود الفكرة الديمقراطية في أكثر البلاد العربية، حتى لقد هيمنت هيمنة تامة في أوساط المثقفين العرب المحدثين في أواسط الثمانينات. والمشترك بين الإسلاميين على تنوعهم، من عنفيين إلى سياسيين إلى ثقافيين، وبين الديمقراطيين، هو ما نسميه "مسألة الدولة"، أي اعتبار أن المشكلة الأساسية في مجتمعاتنا هي المشكلة السياسية أو نوعية النظم السياسية، أو تأهيل الدولة وضبطها. فإذا كانت "الكتلة التاريخية" القومية الماركسية تشاركت في مواجهة الامبريالية و"ربيبها" الإسرائيلي، فإن "الكتلة التاريخية" الإسلامية الديمقراطية تشترك في مقاومة "الدكتاتورية" أو "الاستبداد".
هذا الالتقاء ولد قواسم مشتركة بين الطرفين. الإسلاميون اقتبسوا تنديد الديمقراطيين بالاستبداد، وانتحلوا لغتهم في كشف "طبائعه" وآثاره المخربة؛ والديمقراطيون أخرجوا الإسلاميين من دائرة العداء، وربما اعتبروهم حليفا ممكنا. هذا ثمرة متوقعة لكون الاستبداد هو العدو المشترك للطرفين. وقد يكون خير من عبر عن إشكالية هذا الزمن وحساسياته هو المثقف السوري برهان غليون الذي تميزت أعماله بين أواخر السبعينات ونهاية القرن بالتركيز على المسألة السياسية، وإعادة النظر في الموقف من الإسلاميين (وقد كانوا مرفوضين ومزدرين في الزمن القومي الماركسي) واستصلاح الديمقراطية مفهوما وبرنامجا وشعارا للتغيير السياسي.
التجربة المكونة في الزمن هذا هي تجربة عنف الدولة المستبدة. كان انكفاء "المد القومي" قد تمخض عن دولة بلا فكرة موجهة، وفكرة بلا دولة. الدولة نكصت إلى جهاز حكم محمي بـ"الأمن"، أي بخوف السكان. أما القومية فقد ارتدت بانفصالها عن الدولة إلى "هوية". لقد برزت فكرة الهوية في عقد الثمانينات فحسب لأنها قبل ذلك كانت منحلة في العمل القومي الاشتراكي لصنع التاريخ وتغيير الواقع. ولقد كانت القومية، أي "مواجهة الامبريالية" و"بناء الاشتراكية" هي "دستور" الدولة. انتهت العمليتان معا في أواسط السبعينات، بإخفاق المواجهة وباستنفاد الإجراءات الاشتراكية من تأميم وإصلاح زراعي وتحطيم طبقة الأعيان القديمة.. فأضحت الدول هذه بلا دستور، وأخذ عنفها يظهر فاجرا ووحشيا ومطلقا. وفي أواخر السبعينات سيعاني السوريون والعراقيون الويلات من وطأة الدولة الجهازية هذه، كما ستسيل دماء اللبنانيين والفلسطينيين مدرارا على يد بعضهم وعلى يد الإسرائيليين.
منذ تكونت دولنا الحديثة، مرورا بالمرحلة الاستعمارية، لم تشهد بلاد المشرق عنفا داخليا كالذي شهدته في عقد الثمانينات من القرن العشرين، سواء على يد أنظمة دكتاتورية أو في حروب أهلية، أو في عنف تنظيمات إسلامية "مجاهدة"، كذلك في حروب عبثية كالتي خاضها نظام صدام حسين.
وكما تحطمت الكتلة القومية اليسارية في المواجهة مع عدو لم تكن مؤهلة للفوز عليه، تحطمت الكتلة الديمقراطية الإسلامية في مواجهة عدوها الاستبدادي الذي لم تكن أفضل تأهيلا للتغلب عليه. ونتحدث عن كتلة بالمعنى التاريخي، أي كتشكيلة اجتماعية سياسية إيديولوجية تميز حقبة تاريخية بعينها. معلوم أنه لم يتشكل تحالف سياسي حقيقي في أي وقت بين القوميين والماركسيين، ومثل ذلك ينطبق على الديمقراطيين والإسلاميين.
لكن، كما كانت الحرب الباردة غلّبت عنصر القومية و"مناهضة الامبريالية" على عنصر التحديث الاجتماعي والثقافي في الشيوعية، فإن صعود الفكرة الديمقراطية على خلفية إخراج المجتمعات المشرقية من السياسة على يد الدكتاتوريات، أو تفككها في الحروب الأهلية، رد الديمقراطية إلى قول في "المجتمع" (وليس قولا في الدولة)، وجعلها أقرب إلى إيديولوجية مطابقة أو "تعبير" عن "المجتمع". كذلك جنح الحقل السياسي الإيديولوجي في ثمانينات القرن العشرين العربية إلى تصور مجتمعاتنا كهويات بسيطة لا كتكوينات تاريخية معقدة، علما أن هذا هو المفهوم الوحيد الذي يمكن أن يكون أساسا لسياسات ديمقراطية. وبينما قد يكون تصور المجتمعات كهويات أسس لنزع شرعية الدكتاتوريات الحاكمة التي بدا أنها غير معنية بغير دوام سلطتها، إلا أنه فتح الباب لتعزيز شرعية حركات ومنظمات "إسلامية"، لا لقيام ونهوض حركات ديمقراطية. ستبدو الديمقراطية "تمثيلا" لمجتمع متجانس أو يكاد، فيما سيغيب التفكير في ما توفره الديمقراطية من ضمانات ضد الاستبداد و"طغيان الأغلبية" المحتمل. والواقع أن اعتبار المجتمع قابلية للتمثيل لا إشكال فيها، ليس مبدأ تتأسس عليه الديمقراطية. هذه تفترض، بالأحرى، أن قابلية التمثيل هي نتاج شغل تربوي وسياسي وقانوني واقتصادي تقوم به الدولة. وكان تغوّل دولنا ووحشيتها وارتدادها إلى سلطات محض وفئوية وقف عائقا أمام تفكير أشد تعقيدا في مجتمعاتنا وفي الديمقراطية.
لقد كانت كل من القومية والماركسية الشيوعية إيديولوجية عمل، تعنى بتغيير الواقع والثورة عليه، باتجاه الوحدة العربية وتحرير فلسطين وبناء الاشتراكية..، وتجعل من الدولة عربة التقدم، بالمقابل كانت الإسلامية أيديولوجية هوية، مهتمة بمطابقة الدولة لـ"الأمة"، بعد تعريف هذه بأنها إسلامية. كذلك نزع الديمقراطيون إلى التفكير بالديمقراطية كمطابقة للدولة مع المجتمع، الأمر الذي يتأسس تفضيليا على أرضية إسلامية. إذ ثمة هنا على الأقل عادة لغوية وفكرية تنزع لوصف مجتمعاتنا بأنها إسلامية.
كانت القاعدة الاجتماعية للديمقراطيين (وأتكلم هنا على سورية) مكونة بالخصوص من مهنيين مستقلين (أطباء، مهندسون، محامون...) ومثقفين وطلبة جامعيين، أي فئات أفرزتها بصورة ما "المرحلة القومية الاشتراكية"، لكنها أضحت أحرص على استقلالها و"حريتها" مما كان يتيحه نظام كان يزداد انغلاقا وعنفا. وربما كان أكثر هؤلاء مدينيون. أما قاعدة الإسلاميين ففيها، فضلا عن المهنيين والجامعيين، قطاعات من البرجوازية التجارية والصناعية المحلية كانت "فساد" نخبة السلطة واقتصادها "الأوامري" البيروقراطي يخنقانها ويكبحان تطورها.

زمن جديد مختلف
انتهى الزمن الثاني في أيلول 2001 أو نيسان 2003 مع احتلال العراق. قد لا نرى بوضوح الآن انطواء زمن وتدشين آخر لأن التاريخ لا يحتفل بصخب بوداع قديمه أو الترحيب بجديده. لكن لعله أعلن بصخب لا مزيد عليه، ولم ننتبه. فهل نريد طقسا أبلغ مما شهد العالم يوم 11 أيلول 2001، أو أقسى من سقوط عاصمة العباسيين بيد الأميركيين في ربيع 2003؟
ومهما بدا أن الإسلاميين حاضرون، بل أقوياء في أكثر بلدان المشرق، وأن الفكرة الديمقراطية راهنة، إلا أن تجربتنا اليوم، وربما خلال العقدين القادمين، ستكون مختلفة كليا. وكما انطوت المرحلة القومية في لبنان الذي كان هامشيا فيها، قد نرى يوما أن المرحلة الإسلامية انطوت في البلد الذي بدا أنه لم يعرفها: العراق، أو في فلسطين، البلد الذي يقوض الإسلاميون اليوم معناه ويخربون ذاكرته ويدوسون تاريخ حركته الوطنية.
ونخمن أن فكرتي الجيل الحالي ستكونان الدولة الوطنية المحلية والإصلاح الديني. ربما يحظى كيان الدول المشرقية القائمة بمزيد من العطف والاهتمام، بعد طول إهمال وجفاء، لكونها معرضة اليوم للانهيار على يد تشكيلات ما دون الدولة، من منظمات وميليشيات إرهابية أو من طوائف وعشائر. كانت فكرة الوحدة العربية في الزمن الأول مدركة في تقابل مع "التجزئة" التي يفترض أن الاستعمار تسبب بها، أو إنها من مفاعيل السيطرة الامبريالية. اليوم نميل إلى إدراك دولنا القائمة لا بالتقابل مع الفكرة القومية الوحدوية بل مع مخاطر تفكك الدول على غرار ما نشهد في العراق، وبصورة مختلفة في كل من فلسطين ولبنان.
القضية الأخرى التي نرجح أن تستقطب جهود قطاعات كبيرة من المثقفين هي المسألة الدينية. إن الاشتغال على الدين والتدين الإسلامي ومسائل الإصلاح الديني والعلمانية تثير منذ الآن اهتماما كبيرا يبدو لنا مرشحا للاتساع.
ورغم أن الديمقراطية هي راية الموجة الجديدة للتدخل الغربي في منطقتنا المشرقية والعربية، إلا أن محصول المقاربة الديمقراطية آخذ بالتراجع. ولعل التدخل الغربي هو أحد أسباب تراجعها، إن عبر إفقادها طاقتها الاحتجاجية التغييرية وجعلها عميلة للسلطة (العالمية)، أو عبر اقترانها بحرب طائفية قذرة وبمخاطر انقسام العراق. ثم، من لم يعد ديمقراطيا في هذه الزمن الجديد؟ النظم الحاكمة ذاتها، وكذلك الإسلاميون، فضلا عن الأميركيين، يعلنون أنفسهم ديمقراطيون. في سورية النظام يتحدث عن الديمقراطية أكثر من "الاشتراكية" وأكثر من "الديمقراطية الشعبية". ومثل ذلك نشهده على يد طائفيين وفاسدين وسلطويين في كل من لبنان والأردن وفلسطين ومصر والعراق.. وحتى نقاد الديمقراطية من قوميين ويساريين سابقين يفضلون إعطاء الانطباع بأنهم ديمقراطيون، لكن ينتقدون إضفاء صفة مطلقة على الديمقراطية فحسب. بالنتيجة، تفقد الديمقراطية قيمتها السياسية والفكرية لأن الجميع غدوا ديمقراطيين. نقد الواقع والعمل من أجل تغييره بات يقتضي شعارا مختلفا.
ثمة سبب آخر، "جيلي"، لتقادم إشكالية الديمقراطية: إن المشكلات التي لا تحل خلال جيل، تأخذ بالتحلل. لا تزول لكن يتغير تصورها. هذا ينطبق على المرحلة القومية ومواكبها الماركسي، كما على المرحلة الإسلامية ومواكبها الديمقراطي.
أما المكون الإسلامي للكتلة الإسلامية الديمقراطية فيتحول إلى تنظيمات سياسية شبه شرعية ("الإخوان" وما شابه)، أو إلى شظايا جهادية صغيرة، لكن مؤذية وبالغة الخطر، من نوع ما نرى في العراق، وفي لبنان اليوم. أي أنها إما تندرج (بعسر ومشقة في الواقع) في أوضاع فات أوانها، أو تغدو عنصر تفجير وتخريب لهذه الأنظمة كما للكيانات المحكومة بها.
وكما كان انتهاء الزمن القومي بإخفاق جعلنا أقل تأهيلا على دخول الزمن الديمقراطي، فإننا ندخل الزمن الجديد دون محصول يبنى عليه في مجال تأهيل الدولة، ما ينذر بأن تكون الثمرة هذه المرة أيضا هزيلة. ولا نعني بإخفاق المرحلة القومية الهزيمة أمام "التحالف الامبريالي الصهيوني"، بل بالأحرى إخفاق عملية بناء الدولة الوطنية المنظمة للمجتمع، والتي تؤهل شروط ما يمكن أن يوصف بالقاعدة المادية والسياسية والقانونية للديمقراطية. عبر انشغالها الذهني بهدف يتجاوز إمكاناتها الاقتصادية والسياسية والفكرية، الوحدة العربية، وجدت نخب الحكم المشرقية نفسها عاجزة عن توحيد مجتمعاتها، أو قل إنها لا تضمن بقاءها في الحكم دون تمزيق مجتمعاتها أو الاستفادة من انقساماتها. هنا تغدو الديمقراطية غير ممكنة، فإن فرضت تمزق المجتمع كما يثبت المثال العراقي.
ونميل إلى تصور أن طابع الزمن الذي دخلناه في السنوات الأخيرة سيكون فكريا، وأن "المسألة الدينية" ستكون المسألة المركزية فيه. وأعني بهذه التفكير في موقع الدين في الحياة العامة، لكن كذلك النظر في تاريخ الدين الإسلامي وبلورة مفهوم الدين والإيمان، والإيغال أعمق من أي وقت سبق في مسائل اعتقادية وفلسفية وحقوقية وتاريخية تخص الإسلام ووضعه التاريخي. وليس الانشغال بالفكر سيئا، فقليل من الفكر وكثير من العمل في الزمن الأول أدى إلى كارثة. وربما تحسن وضع الفكر في الزمن الثاني، لكنه كان منقطع التأثير على الحياة العامة التي ظلت مفاتيحها بيد الدولة الجهازية، مع بقاء الفكر فكرا للعمل. سنكون أخذنا عبرة اليوم إن فكرنا للفكر، دون تعويل على ثمرات عملية دانية من أي نوع. ترى، هل يمكن أن نقول إن الزمن الأول كان متمركزا حول الدولة (كفاعل لا كمؤسسة)، والثاني حول المجتمع (كهوية لا كتركيب)، وسيتمركز الثالث حول الفكر..؟ إن صح ذلك فهو خبر جيد.

أزمنة أم مراحل؟
المسألة الغربية ومسألة الدولة ومسألة الدين، هي المسائل الثلاثة غير المحلولة التي تصنع حاضر المشارقة ومستقبل جيل شبابهم الحالي. ولعل مصر، أكبر الدول العربية وقائدة المرحلة القومية تعاني من الوطأة الأشد لهذه المشكلات الثلاثة معا: غرب أميركي إسرائيلي يسيطر عليها أمنيا واستراتيجيا ويتحكم بنظامها؛ ودولة مترهلة، رغم أنها عنيفة، وعلى رأسها حاكم بليد؛ ودين مفرط التمركز حول ذاته ومغترب عن زمانه. مصر تختنق بسبب هذا الثالوث.
لكن كيف يجري الانتقال من زمن إلى آخر، بينما لم تحل أي من مشكلات الزمن السابق؟ لعل السمة الأبرز لتاريخنا خلال ستين عاما تتمثل في أن المبادرة للواقع، يتغير فيبدل بتغيراته معنى الأقوال والأفعال، كما كان رأى عبد الله العروي في مقدمة الترجمة العربية لكتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة" في مطلع سبعينات القرن العشرين، أي حين كان الزمن القومي الاشتراكي يحتضر. كذلك يحاول المثقفون وذوي الألباب تنويع مقارباتهم لأن محصول المقاربات الموروثة يتدنى والثبات عليها لا يثمر. ثمة قوميون وماركسيون اليوم، لكن يصعب القول إن لهم إسهاما فكريا وسياسيا مهما في حياة العرب المعاصرين. ولن يتأخر الإسلاميون والديمقراطيون عن الالتحاق بهم إن ثابروا على مسائل الربع الأخير من القرن العشرين وحساسياته. هذا وقت لتحرر الفكر ووعيه لذاته.




#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أية أكثرية جديدة لحل المشكلات الطائفية؟
- حين تكون المذابح أداة سياسية.. السياسة تموت!
- في نقد العلمانية والديمقراطية أو مشكلتا الدين والدولة
- في عقلانية الدول وغبائها المرشح، في أغلب الظن، أن يستمر طويل ...
- أية دولة تقتضي العلمانية فصلها عن الدين؟
- هزيمة حزيران: من حدث تاريخي إلى شرط ثقافي
- في شأن الطائفية والدولة والمثقف: تعقيب على موريس عايق
- في اندماج الاقتصاد والسياسة وتحولات اللوحة الاجتماعية السوري ...
- تأملات في السلطة الدينية والسلطة السياسة ومعنى العلمنة في عا ...
- بحثا عن معنى ثقافي لتحولات سياسية عجماء
- ضمائر الحداثة المنفصلة والمتصلة و...المعاقة
- ملحوظات أولية في شأن اللغة والطائفية
- في العلاقة بين الأوليغارشية والطائفية
- أقليات وأكثريات: هويات ثقافية، علاقات اجتماعية، أم عمليات اج ...
- أطوار متعددة في حرب لبنانية واحدة
- نمذجة تاريخية مقترحة للنظم السياسية المشرقية
- -ميدل- إيستولوجية-: في شأن المعرفة والسلطة و.. العدالة!
- انتخابات نيابية في سورية أم موسم لصناعة العصبيات؟
- شاذ، استثنائي، وغير شرعي: المعرفة والمعارضة في سورية
- ديمقراطية، علمانية، أم عقلنة الدولة؟


المزيد.....




- فيديو يُظهر ما فعلته الشرطة الأمريكية لفض اعتصام مؤيد للفلسط ...
- طائرة ترصد غرق مدينة بأكملها في البرازيل بسبب فيضانات -كارثي ...
- ترامب يقارن إدارة بايدن بالغستابو
- الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تضغط على بايدن في اتجاه وقف ا ...
- المغرب: حمار زاكورة المعنف يجد في جمعية جرجير الأمان بعد الا ...
- جيك سوليفان يذكر شرطا واحدا لتوقيع اتفاقية دفاع مشترك مع الس ...
- كوريا الشمالية تحذر الولايات المتحدة من -هزيمة استراتيجية-
- زاخاروفا: روسيا لن تبادر إلى قطع العلاقات مع دول البلطيق
- -في ظاهرة غريبة-.. سعودي يرصد صخرة باردة بالصيف (فيديو)
- الصين تجري مناورات عسكرية في بحر الصين الشرقي


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - نظرات أولى في أطوار التاريخ السياسي الإيديولوجي المشرقي المعاصر