قال الطالب جعفر ..


احمد الحمد المندلاوي
الحوار المتمدن - العدد: 7923 - 2024 / 3 / 21 - 22:25
المحور: الادب والفن     

# قال جعفر:
سألت يوماً الدرويش شيردل وهو رجل من المتصوفة الزاهدين ..يسكن في محلتنا ،يمتاز بالهدوء و قلة الكلام، بهندامه الأنيق الذي يتناغم بالصفاء مع لحيته القصيرة البيضاء و عمامته .وأنا في الحسينية (حسينية الزهراء"ع")التي اعتدنا على ارتيادها لاسيما أيام محرم و ليالي رمضان و هو يخدم الحاضرين بتوزيع الماء البارد و نحن جالسون على حافة الحوض الذي يتوسط الحسينية مع نخلات جميلة:
- يا درويشنا العزيز كيف أنت و الزمان؟؟.
نظر الدرويش ألي بهدوء،وبعد صمت قصير،قال:
- سؤالك لطيف يا بني،له جوانب كثيرة.منها:
حين كنتُ يافعاً تمنيتُ أن أحصل حاجة ما،وبعد اقتنائها هدأت نفسي ؛وواجهت سؤالاً من أعماق الذات :
- وماذا بعد يا شيردل هذا حصانك الرشيق اقتنينه بعد الحاح الطلب على أبيك؟
توقف عن الكلام،وأنا أنتظر المزيد من هذا الكلام حيث يناسب المرحلة العمرية التي أنا فيها -أنذاك كنت في الصف الثالث المتوسط - وكنت أتمنى أن أبتاع دراجة بخارية - جاوة؛حين رأى الدرويش انتظاري للمزيد ،واصل حديثه:
- فإذا بالأمر أصبح شيئاً عادياً جداً،هنا أخذتُ أفكر بأمور أخرى أكبر،فإذا كلُّ ذلك أشبه ببقعة يابسة من الدبس تحوم حولها نملة مسكينة و هي فرحة بها أشدّ الفرح؛لقد أهملها حتى الذباب ؛لكنها تصورت بأنها السعادة المثلى لها في هذه الحياة. توقف الدرويش شيردل مرة أخرى عن الكلام.وأنا في اشتياق لسماع نهاية هذا المحور..
نظر الدرويش اليَّ بلطف و كأنما يريد مني أتهيأ لسماع الشوط الأخير من الحديث ، فبادرته قائلاً:
- أجل يا درويشنا العزيز،مثالك رائع بل لوحة فنية رسمتها في ذهني !!و ماذا بعد؟؟ الدرويش:
- الآن بعد هذه السنين من العمر و كأنها ساعة .. كلّ ما كان لي من هواجس وأحلام وردية كانت تدغدغ الحشايا ..أصبحت في خبر كان ،بل بلا طعم و لا نكهة و لا لون .. و المؤسف جداً لهثتُ خلفها كثيراً،وضاع مني أجمل الأوقات كان مفروضاً مني إستغلالها بأشياء أثمن و أرقى بكثير من تلك الأمور كمن يجهد نفسه في جمع علب مستهلكة فارغة حتى فقدت بريق لونها الزاهي..
واليوم ليس لي من شيءٍ أسعد به الا النظر الى الأعلى،الى السماء و من بناها..الى الملكوت الذي يهب السعادة الكبرى للذات،و يغذي الروح بعطر النعيم الدائم الذي لا يُمل و لا ينفد!!
نظرت الى الشيخ الدرويش و كأنه يحلق في غير فضاء الدنيا و بقربه البراق المهيب..و أحس بأنه يريد أن يطير بثيابه البيضاء ،وأنا أكاد أغرق في شيء أجهله تماماً لكنه مريح جداً للقلب و الروح،فانتبهتُ و ازداد مقامه في قلبي مرات عديدة أكثر من قبل،وإذا بالناس يأتون الى رواق الحسينية زرافات ووحداناً،و هم الدرويش بالمحور التالي.
فاجأته بالقول:
- لا يا درويشنا الكريم احتفظ به لنفسك لا أريد إزعاجك به ..وحان وقت المجلس.أخذ إناءه الكبير والمملوء بالماء المثلج متجهاً نحو الرواق..
هذا الكلام بقي في ذاكرتي ،وهــا يجدُ طريقه للنشر بعد نصف قرن من العمر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ