في الحاجة إلى دراسة واستيعاب نظرية المعرفة


التيتي الحبيب
الحوار المتمدن - العدد: 7727 - 2023 / 9 / 7 - 10:06
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الشعور بالحاجة إلى دراسة واستيعاب نظرية المعرفة، بل الحاجة الماسة إلى تطوير هذا العلم الجديد. لقد سبقتها حالة مشابهة، غطت الفترة الممتدة من نهاية القرن التاسع عشر إلى غاية منتصف العقد الثاني من القرن العشرين. صادفت هذه الفترة، المرور المظفر للرأسمالية إلى مرحلة الامبريالية، ووبروز عدم دقة التقديرات الماركسية باندلاع الثورة البروليتارية في عقر دار الرأسمالية بريطانيا وفرنسا وحتى ألمانيا، ووكان من نتائج ذلك تفسخ الأممية الثانية التي عجزت على إدراك جوهر التغيرات التي حدثت في صلب نمط الإنتاج الرأسمالي أهمية اندلاع الحرب العظمى أي الحرب العالمية الأولى مما كان له الاثر البالغ على الحركة الشيوعية الفتية وانقسام الأحزاب الشيوعية بين من مع الحرب ومن ضدها.
على الصعيد الفكري، انتعشت المثالية وتزعمت النزعات الوضعية هجومها على المادية وفي طليعتها الماركسية. ظهرت اولى بوادر التحريفية بقيادة زعماء كان لهم وزن كبير في صفوف الحركة الشيوعية كانوا يطالبون ويلحون على حرية النقد وعلى واجب تنقيح الماركسية وتطويرها. فكان من الضروري تنظيم الرد النظري والفكري على هذه الموجة اكن من منطلقات ثورية ومن داخل الممارسة النضالية للحركة العمالية الناهضة للثورة واخذ السلطة. ولأجل ذلك ظهرت الحاجة الماسة إلى تجديد العديد من الجوانب النظرية والمزيد من تطوير الماركسية الثورية بوضع لبنات جديدة كما أوصى بذلك لينين، لما اعتبر أن ما قام به ماركس وانجلس هو كونهما فقط وضعا أحجار الزاوية لهذا العلم الجديد الذي يجب تطويره في جميع الاتجاهات.
ومن اجل التقدم في هذه العملية الشاقة والمؤسسة، قاد لينين عملية التصدي للمثالية ووضع لبنات وأساسات نظرية المعرفة، التي تناولت الديالكتيك المادي وعلم المنطق الجدلي. فكان من ثمار هذا المجهود، شحذ النظرية الثورية وجعلها سلاح الثورة البروليتارية التي كللت بنجاح تاريخي عبر تأسيس أول دولة بروليتارية على قاعدة ديكتاتورية البروليتاريا، وبرهنت على إمكانية نجاح الثورة الاشتراكية في الحلقة الضعيفة من السلسلة الامبريالية؛ والتي برهن لينين عبر دراسته وتطبيقه للمنهج الجدلي المادي هي روسيا وليس كما اعتقد ماركس وانجلس في بريطانيا وفرنسا...
فإذا كان لينين قد تصدى لمهمة نظرية المعرفة، نظرا للحاجة الموضوعية لها ونظرا لكونها كانت من بين اهتمامات ماركس وسبق أن وعد بالانكباب عليها لكنه لم يستطع القيام بذلك نتيجة كثرة انشغالاته وهو يؤلف كتابه الأساسي رأس المال، ونتيجة المرض والموت الذي لم يمهله كثيرا. إن ما قام به لينين في هذا الشأن – نظرية المعرفة – فإنه بدوره، لم يقم إلا بوضع حجر الأساس لهذا العلم الجديد والقائم الذات والذي يجب تطويره في جميع الاتجاهات.
في تقديري المتواضع، يمكن القول بان المرحلة الجديدة بعد انهيار جدار برلين، وبعد أن انطلقت اكبر حملة دعائية ساهمت فيها كل الأجهزة الأيديولوجية للامبريالية، لتغرق كوكب الأرض بالدعاية الرأسمالية القائلة بنهاية التاريخ، وألا مستقبل للبشرية إلا في ظل مجتمعها ونمط إنتاجها الأزلي. ففي هذه المرحلة، بدأ يترسخ في الأذهان بأن الفكر البرجوازي قد وصل إلى أعلى درجات رقيه، وادعت أبواق الامبريالية، بأن الفكر البروليتاري انهزم، ومعه اندحرت الشيوعية التي كانت طوباوية، وبأن العلوم، كل العلوم تؤكد ذلك.
ولقوة الهجمة، خرج من بين صفوف من كان يدافع على الشيوعية وعلى بناء الاشتراكية أصناف مختلفة ومتعددة من المرتدين ومن التحريفيين الجدد تقر بالفشل، وتعترف بنهاية الطريق وبضرورة المراجعة، حتى ولو اقتضى الحال التخلي عن المبادئ الأساسية، ومن جديد برز رهط من المجتهدين ودعاة التطوير. إنها موجة جديدة من الكاوتسكيين والبرونشتاينيين والبليخانوفيين... ومنهم كذلك أتباع ادورنو وهوركهايمر وهربرت ماركيز... ومنظري الشعبوية الفاشية اليمينية واليسارية وجل الأطياف التروتسكية. انطلقت هذه المرحلة منذ ثلاثينية القرن العشرين ولازالت مستمرة لليوم.
من جديد عادت المثالية ومعها اللاادرية والوضعية واطلاقية النسبية... مما يفرض التصدي النظري والعلمي والسير على نهج لينين في توسيع نطاق نظرية المعرفة الماركسية، ودفعها في الاتجاهات التي تحتاج إلقاء الأضواء الكاشفة، وبذلك تسترجع النظرية نضارتها وحيويتها في توجيه وإرشاد الممارسة الثورية من اجل استكمال مهام الثورة الاشتراكية في المراكز الرأسمالية وشق طريق الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية في بلدان المحيط.
إن دعوتنا هذه، تختلف جوهريا ولا علاقة لها بما نراه اليوم، بالمغرب وفي بلدان أخرى من حملات محمومة، تظهر عكس ما تضمره، كموجة الردة والتخلي عن الرسالة التاريخية للطبقة العاملة في مواجهة الرأسمالية وبناء الاشتراكية وإنقاذ البشرية من الدمار والحروب.
هكذا نفهم واجب الماركسيين اللينينيين في الانخراط النضالي في دراسة علم نظرية المعرفة والدياليكتيك المادي، والمنطق الدياليكتيكي؛ حتى تبقى شجرة النظرية خضراء يانعة، توجه العمل والممارسة والبراكسيس، في جدلية حقيقية تقود عملية تغيير العالم وتمكن الطبقة العاملة من انتزاع السلطة بالعنف الثوري من أيدي مالكي وسائل الإنتاج. وشحذ سلاح النظرية، لن يتحقق إلا بمواجهة هذه الموجة العارمة من المثالية واللادرية، وخاصة المندسين خلف أقنعة الدفاع على الماركسية، وهم يطعنونها في مقتل، لما يتمكنون من حرمان البروليتاريا من سلاح التنظيم في أحزابها المستقلة.

06/09/2023