النشاطية المأجورة ليست بديلاً عن النضال الثوريّ


وليم العوطة
الحوار المتمدن - العدد: 7603 - 2023 / 5 / 6 - 02:49
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني     

صارت كلمة "نضال" وصفة "مناضل(ة)" تنتمي لدى الكثيرين إلى عالمٍ انقضى. اليوم حلّ الناشط(ة) بدل المناضل(ة) بفعل التغلغل المندفع للمنظمات اللاحكومية المموّلة والتراجع المتسارع للأحزاب والحركات النضالية والثورية، وبالتحديد الشيوعية والاشتراكية منها. تعميم النشاطية activism لم يظهر في بلدان العالم الثالث خاصّة نتيجةَ هزيمة المشاريع الشيوعية أو الاشتراكية والوطنية الثورية بقدر ما أتى حصيلة برامج أوروبية وأميركية منظّمة، ولعقودٍ، من أجل توسيع دائرة سيطرة المتروبول الرأسمالي في شمال الأرض على مجتمعات عالم الجنوب، بالأخصّ تلك التي ما زالت تختزن ميولاً وطاقات ومشاريع بإمكانها التمرّد على النسق الاستغلالي الاستعماريّ الجديد.
من المعلوم أنّ هذه المنظمات تعمل وفق أطر مرسومة مسبقًا، وضعتها مراكز التمويل الأورو-أميركية بما يناسب نظرتها الخاصّة المفعمة في حدّها الأدنى بالنزعة الأبوية وفي حدّها الأقصى بالميل الاستعلائي، وعند الحدّين يحضر النمط عينه من الرغبة بإدامة احتلال الشعوب والجماعات ذات النزعات التمرّدية والثورية.
يتوافق نموذج المنظمة اللاحكومية، سواء أكانت ذات أهداف تعليمية أو جندرية أو إنمائية أو سياسية أو ثقافية، مع ترتيبات الرأسمالية المعاصرة، بكلمة واحدة، تجهيز الأرضية المناسبة لتغلغل القيَم الرأسمالية وأنماط الحياة "الحداثية" التي تظلّلها خطابات تجريدية حقوقية أو نظرة اقتصادية مبنية على مقولة النمو، مع ما يستتبعه من سلوكيات استهلاكية واستلابية.
التدجين هو الكلمة المفتاح للنشاطية المأجورة والمموّلة: بالفعل، ولعقودٍ طويلة، نجحت مراكز التمويل المرتبطة بالسياسات الشمالية بترويض وتدجين أيّ حراك جماعيّ يهدّد استقرار الأنظمة المحلية(العميلة غالبًا) ومن ثمّ استقرار أنساق الاستغلال العابرة للقارات. تحوّل السعي لتأطير العنف الجماعيّ بأفقٍ ثوريّ انقلابيّ حقيقيّ إلى سياسات محكمة التنظيم والهيمنة بفعل التدفّق الهائل للتمويل الذي دفع إلى إنشاء كمٍّ متزايدٍ من المنظمّات والجمعيات والمؤسسات ذات النفع العام "التي لا تبغى الربح" مظلّلة بمفاهيم حقوقية مجرّدة وتبسيطية.
ساهم هذا التمويل المقصود بتكوين تشكيلات طبقية وسيطة، وبروز طبقاتٍ وسطى أقلوية تستمّد رؤاها وتفكيرها بالعالم من نتاجات الفكر الرأسماليّ والليبراليّ اليمينيّ مع بعض "النكهات" الخطابية ذات المضمون القريب من الأطروحات اليسارية الاجتماعية. الوسطية السياسية التي كوّنتها هذه المنظمّات اللاحكومية لا تعترف بالخطاب الطبقيّ، اللهم إلاّ لدواعٍ أكاديمية بحتة، وتقصي أيّ كلامٍ عن صراعٍ طبقيّ أو طبقاتٍ اجتماعية متناحرة، وبالطبع لا ترى إلى أيّ تغيير منشود إلاّ من زاوية مكافحة الفساد و"تحرير" الاقتصاد. إنّها، في خلاصة نتائجها، لا تسعى حقًّا إلى التحرير السياسيّ والاجتماعيّ بل بالأحرى إلى إصلاح الأنظمة العميلة القائمة بهدفٍ تحسين شروط تدفق رأس المال العالميّ وهيمنته.
تجريم العنف السياسيّ كآلية للتحرّر هو من أساسيات الخطاب الاتّهاميّ لهذه المنظمّات المموّلة. وفي حقيقة الأمر، فإنّ العنف الذي يجري تجريمه هو ذلك الذي قد يشكّل خطرًا على النظام العميل ومن وراءه من أنساق أنظمة استعمارية. يُدان العنف الثوريّ الخلاصيّ والتحريريّ ويوضع في خانة "الارهاب" وفق مقاييس ما يسمّى بالمجتمع الدوليّ، أي بمعنى آخر وفق مقاييس الامبرالية الاوروأمريكية تحديدًا. ولكنّ عنف الجيوش الوطنية والامبريالية وعنف القوى الأمنية المحلية والمخابراتية العالمية غالبًا ما يُسكَت عنه، لا بل قد تذهب بعض المنظمّات المموّلة إلى تبريره والدفاع عنه تحت حججٍ مختلفة لا تبدأ بضرورة الحفاظ على الأمن الداخليّ ولا تنتهي عند ضرورة "تحرير" الناتو والجيوش الأمريكية لبلدان الجنوب من الفساد والديكتاتوريات والاستبداد.(هذا على أساس أنّ هذه المنظمّات نفسها هي درّة ما أنتجته الديمقراطية وكأنّها تخلو من لفساد والنهب والاستغلال!)
لذلك، فإنّ أفضل ما يمكن أن نصف به هذه المنظمّات أنّها تعطّل الصيرورة الثورية للشعوب، وفي مركزها العمّال وجموع الكادحين. وهؤلاء الآخرين يُراد النظر إليهم بوصفهم "ضحايا" سياسات الفساد فقط وليس ضحايا الاستغلال المحليّ والدوليّ، أو أحيانًا ضحايا مسلوبي الارادة لحركات ايديولوجية يراها المتروبول الغربي مهدّدة لاستقراره.
ولا يقتصر التعطيل على اختزال القضايا إلى مجرّد "خللٍ" في الأنظمة والقوانين ليُصار إلى الضغط وابتكار أساليب المناصرة والتحشيد من أجل إصلاح هذا الخلل وتعديل هذا القانون، بل يتعدّى التعطيل، وهو في حقيقته تزييف للوعي، الثوري تحديدًا، إلى استبدال صراع الهويات بالصراع الطبقيّ. المنظمّات المموّلة لا تعترف بالصراع الطبقي كما أسلفنا، ومن أجل تسطيح الوعيّ الطبقيّ وتمزيقه تستعين بالصراع الهوياتيّ. الهويات هي الكلمة المفضّلة لهذه المنظمّات ومن ورائها. هكذا، لا يُعلى فقط من شأن الهويات العرقية والمناطقية والجندرية على نحوٍ اختزاليّ ومجرّد وتبسيطيّ يفصلها عن مضمونها الطبقيّ والتاريخيّ، وعن سياقاتها الاجتماعية والثقافية المحلية، على حساب الوعي الطبقيّ الذاتيّ، بل أيضًا تعمل هذه المنظّمات على اصطناع هوياتٍ جديدة، وعلى فبركة انتماءات وانحيازات خالية من المضمون الطبقيّ(أي السياسيّ الاقتصاديّ/الاجتماعيّ) بما يخدم، في المآل الأخير، تجزئة الوحدة الطبقية/السياسية للطبقة العاملة والشغيلة والكادحين/ات المضطهدين/ات وإمكانية بزوغ مشاريع مرتبطة بمصالحها، لمصلحة مكتسباتٍ مجزّأة وهامشية، قانونية ودستورية، لا تهدّد سير الوضع القائم.
مليارات الدولارات تحوّلها سنويًا مؤسسات حكومية وغير حكومية(على أساس يوجد فرق!) أوروبية وأمريكية إلى شبيهاتها(ولكن توابعها) في بلدان الجنوب. مليارات وامكانيات ضخمة وبرامج تدريب مكلفة، وحملاتٍ مبتكرة، وورشات عملٍ في أفضل الفنادق، وإلى ما هنالك من ترفٍ تستفيد منه قلّة قليلة، و"تبييضٍ" لأموال وجرائم عابرة للحدود، وهيمنة لأنماط حياةٍ وثقافةٍ يومية تتشبّه بالـ"متحضّر" الغربيّ...إلخ وذلك بهدفٍ أساسيّ وأوّلي: تحطيم كلّ مسعى تحرّري شامل، وإعاقة أي مسار معارض لهيمنة رأس المال وقواه، بالتحديد أي مسار شيوعيّ أو اشتراكيّ ثوريّ يرفع لواء الحرب الطبقية وقلب العالم رأس على عقب، بدءًا من الجنوب المستعمَر وصولاً إلى الشمال المستعمِر.
النشاط والنشاطية المأجورة، وإن أظهرت أحيانًا عن بعض النزعات التمرّدية، وإن أفصح بعض أصحابها عن ميولٍ ثوريةٍ، إلاّ إنّها لن تكون البديل، كما يزعم كثيرون وبالأخص من اليسار!، عن المشروع الاشتراكي الثوري(والشيوعيّ)، وعن برامج التحرّر الوطنيّ ونزع الاستعمار. صارت النشاطية المأجورة حجرة عثرة أمام مشاريع التغيير الشامل الحقيقية، ولهذا السبب يجب إعاقة مسعاها للسيطرة وتزييف الوعيّ، ويجب فضح حقيقة منشأها وأهدافها، بالتوازيّ مع السعيّ الجدّي لاستعادة تراث الحركات الثورية والتحرّرية وإعادة تحديثها وفق مقتضيات النضال الطبقيّ في عصرنا.