العدمية بإعتبارها تحررًا - جياني فاتيمو


وليم العوطة
الحوار المتمدن - العدد: 6147 - 2019 / 2 / 16 - 22:08
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

العدمية بإعتبارها تحررًّا

الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو (1936)
مصدر النص: https://www.researchgate.net/publication/42766785_Nihilism_as_Emancipation

(ترجمة: وليام العوطة)

كيف يمكننا التكلم عن التحررّ، والذي هو، عملية تحرير من قيود نحو حرية ، استقلالية و امكانية إختيار أكبر ، في حين نربط هذا التحررّ بمفاهيم كتلك الخاصة بالعدمية والهرمنوتيكا؟
علينا أولاً ان نشير – كما تسنّى لي أن أبيّن وأعرض في عدد من الكتب- انّ مصطلحيْ العدمية والهرمينوتيكا يُستعملان هنا كمترادفين.
تُفهَم مقولة العدمية بالمعنى التدشيني الّذي أوجزه نيتشه : إنفضاض كل الأسس المطلقة، الوعي - في تاريخ الفلسفة و الثقافة الغربية بشكلٍ عام – بأن " الله قد مات" و أنّ " العالم الحقيقيّ قد أصبحَ خرافةً" . هل يصلحَ ذلك على الفكر و الثقافة الغربييْن فقط؟
هذه الصعوبة الأولى لا تُناقش هنا بشكل ممنهج؛ مع ذلك، فإن نيتشه و هيدغر، وماركس قبلهما وحتى هيغل، قد علمّونا أنّ نمو الوعي الذي نعتقد بانحصاره ضمن حدود الثقافة الغربية فقط هو فعليًا جزءٌ من هذه الثقافة، وأنّ عدميته، منذ الفكرة الصحيحة عن حقيقة كونية [كلّية] وانسانوية تثاقفية [عبر ثقافية] ( مثل عقيدة القانون الطبيعي و الأسّ المطلق) قد نضجت داخل الثقافة المعطاة. عندما تعي الفلسفة الغربية هذا الأمر، تصبح عدمية؛ نلاحظُ أنّ تعقّلها هو دائمًا في وضعية تاريخية - ثقافية، حتى أنّ مثال الكونية [الجامعية - universality] "يُفهم" من وجهة نظرٍ محددة.
ولكن تبعًا لذلك، تصبح العدمية هرمينوتيكا : كتفكير يعلم أن بإمكانه ان يقصد الكوني فقط بالمرور عبر الحوار، الإتفاق، او المحبّة caritas (انظرْ كتابيَ إيمان و بعد المسيحية ). إنّ قولَ الحقيقة عبر الحبّ ‘Veritatem facientes in caritate’ بترجمته الى مصطلحات فلسفة اليوم، يعني هذا الشعار البولسي [نسبة الى القديس بولس او بول] – الذي علاوة على ذلك يردد ـ ليس من بعيدٍ، صدى قول الحقيقة aletheuein عند ارسطو في الاخلاق النقوماخية- [يعني] أن الحقيقة تولد في الاتفاق ومن الاتفاق، وليس العكس ، و اننا سنصل الى الاتفاق فقط عندما نكون قد اكتشفنا كلّنا الحقيقة الموضوعية عينها.
إنّ التحرر ،بالنسبة إلينا، هو معنى العدمية المناسب إن قرأنا هذا المصطلح النيتشوي على ضوء عبارة حاسمة اخرى لدى الفيلسوف الالماني :" مات الله، والآن نتمنى لآلهة كثيرة أن تحيا". ما يحررنا هو تحلُلّ الأُسُس ( حيث يمكن لنا حتى ان نميّز لحظة الانتقال من الحداثة الى ما بعد الحداثة)- مرة أخرى، مع صدى عميق لكلام الإنجيل: " إنّ الحقيقة سوف تحررّك".
هل هذا يعني أنّ "معرفة كيف هي الأشياء "بالفعل" سوف تحررك"؟ - إكتشافَ نظرية فيتاغوراس في نهاية المطاف ؟ النظام الهندسي الضروري للعالم؟ نسبية آينشتاين؟ كلا. هذا يعني، بالأحرى، أنّ " الحقيقة هي فقط ما يحررك"؛ هكذا، فالحقيقة هي، و قبل كل شيء، "إكتشاف" بأن لا وجود لأسس مطلقة على حريتنا ان تقف عندها، والتي، عوضًا عن سلطاتٍ من كل نوعٍ تريد أن تحكم ،على وجه التحديد، بإسم هذه الاسس المطلقة التي سعت دومًا الى أن تجعلنا نثق [بها]. الهرمنوتيكا هي تفكيرُ عدميةٍ منجزة، التفكير الذي يسعى الى اعادة بناء العقلانية بعد موت الله، في معارضة كلِّ انزلاق نحو عدمية سلبية، اي نحو يأس هؤلاء المستمرّين بالحِدادِ لأن "لم يعد هناك من ديانة بعد". من الواضح أن لكلِّ ذلك آثارٌ هامة على كيفية تصوّر الاخلاق، القانون والسياسة.
بعد موت الله، هل من الممكن الكلام عن إملاءات أخلاقية، عن قوانين غير مؤسَّسة إعتباطيًا، وعن أفق تحرّري للسياسة؟
إنّ عملي لا يضلل ذاته معتقِدًا بتقديمه أجوبة متعمّقة عن هذه الاسئلة، ولكن لا يحدّ نفسه أيضًا بتكرارها ببلاغةٍ- وهذا ما تقوم به الى حد كبير التراجيديا المعاصرة ، التي تستنزف نفسها في التشديد البلاغي على إشكالية الشرط الانساني، غالبًا من أجل التحضير لـ "وثبةِ إيمان" (تصبحُ لاحقًا وثبة نحو اللاعقلانية المحضة و ردّةً لاحقةً نحو التسلّطية الدوغمائية للكنائس، للّجان المركزية وللزعماء الكريزماتيين)، أو، في أحيانٍ اخرى، ولكي تحفظ نفسها في الوعي البسيط و المحض بأن "ليس هناك من حلّ"، مع الذريعة الضمنية، ، بأنّ من الأفضل دائمًا ، وعلى طريقة سقراط، أن نعرِف أننا لا نعرف شيئًا (وقد كان نيتشه محقًا عندما كشف القناع عن العقلانية المتفائلة لسلوك كهذا).
إنّ الخروج الهيرمنوتيكي من العدمية المأسوية والسلبية طبيعيًا، يستلزم ايضًا استرداد العديد من سماتها؛ يجب القول مع نيتشه أنه ليس بالامكان البناء من دون تدمير. أو حتى، و بواقعية أكثر، يجب القول أن أمّ كل التسلطيّات الميتافيزيقية دائمًا حبلى، من هنا تكون مَهمة العلمنة- اي تعرية قداسةِ ايّ حقيقة مطلقة ونهائية - بعيدةً جدًا عن كونها قديمة الطراز.
تشهد القوانين والسياسة والحياة الاجتماعية بإستمرار على هذا الادعاء، ليس في ايطاليا فقط، حيث تستمر الكنيسة الكاثوليكية بـ(المطالبة بـ) فرضِ قيود غير عقلانية على قوانين الدولة ( في ما يخص الزواج المدني، الابحاث حول الجنين، والموت الرحيم...)، ولكن الآن ،ايضًا، في السياسة الدولية، حيث تتخفى الهيمنة الاميركية خلف قناع التهديدات الانسانوية الديموقراطية لتفرض شكلاً من أشكال دولة شُرطة عالمية "تُشرَّع" باحترام مزعوم لحقوق الانسان، او لمن تعتبرهم الامبراطورية كذلك. ألن تثير النابوليونية الجديدة بعض التمردات "الرومانسية" الجديدة للقوميات، وللثقافات، للشعب (مع كل التحفظات الموجبة على هذه المصطلحات) ضد السلم الاميركي pax Americana المسلّح؟
في محاولةٍ للإرتقاءِ بمشاكلَ كهذه – ولو بطريقة جدًا نظرية - ترثُ الهيرمنوتيكا، بهذه الطريقة، قبل كل شيء، المضامين النقدية و "التهديمية" للعدمية الدرامية. ولكنها تخبّىء أيضًا فجوتين نحو البنّائية. بادئ ذي بدء ، لا تدّعي [مقولة] موت الله كونها حقيقة مكتملة نهائيًا، على أساسها يمكن للمرء أن يجد، بشكلٍ دوغمائيّ، بعض القوانين الطبيعية للإلحاد، لعالمٍ " بلا أساسٍ"، أو لبعض النماذج النازية من الإنسان الأعلى Übermensch. ليس على العدمية البنّاءة للهيرمنوتيكا فقط أن تدفع عن نفسها العودةَ العُصابية للتسلطية، بل أيضًا التصلّبَ الميتافيزيقي للضد-أُسُسِيّة antifoundationalism (مثلاً، تسير هذه الأخيرة يدًا بيد مع فرضِ الحرية والديمقراطية بواسطة التدخلات العسكرية ضد ما سمّاه الرئيس بوش [الإبن] "الدول المارقة"- و هذه هي ،بالعادة، كذلك، ولكن ليس لبوش أو للأمم المتحدة أن يتحوّلوا إلى محكمة أخلاقية للقانون بإمكانها إصدار حكمٍ على هذه الدول).
أمام كل تشويهات العدمية هذه ، تعارضُ الهيرمنوتيكا ،قبل كل شيء، المبدأ الأول لتعددية التأويلات، أي مبدأ احترام حرية الجميع في الاختيار. بالتأكيد ، ليس هذا بأكثر من العقلانية التواصل تَبَع هابرماس ، ولكنّ هذه الأخيرة هي هنا مجرَّدة من بقايا العقلانية الميتافيزيقية التي لا تزال تُبطِلها - إنّ النظرية كهذه، مع مثْلَنتِها (idealization) لمعرفة متحررة من الحجبِ، وفي نهاية المطاف مصاغة وفقَ المنهج العلمي، تخاطر دومًا بشرعنة عالمٍ آتٍ يهيمن عليه "الخبراء" من كلِّ الأصنافِ. هكذا، تظل الاسلحة النقدية للعدمية السلبية حاسمة لبنائية الهيرمنوتيكا. إن محاولةَ صياغة قوانين، دساتير، وتدابير سياسية معتادة استنادًا الى فكرة تحرير تدريجيّ للمعايير و القواعد من كلّ قيدٍ "طبيعية" مزعومة ( تلك التي تظهر فقط لهؤلاء الذين يملكون السلطة) [هذه المحاولة] يمكن أن تشكّلَ، فورًا، مشروعًا سياسيًا ايجابيًا. فلنتذكر أنه، ومنذ عدة سنوات، منظّرٌ قريب من هابرماس ككارل أوتو آبل Karl Otto Apel وصل إلى حدّ تفسير الكفاح ضد الجوع العالمي على اساس احترام الحقوق المتساوية لمُحاورِنا، الذي يُفرَض علينا عند ايّ استعمال للغة، تحت خطرِ التعرّض لألم التناقض الإجرائيّ.
بعبارةٍ أٌخرى: حتّى حين أتحدث مع ذاتي فقط عليّ ان احترم بعض القواعد؛ أنا مسؤول عن احترامٍ كهذا أمام اي محاوِر، ما يعني انني امنح أيَّ محاوِرٍ حقوقي عينها ؛ ولكن من ثمَّ عليَ أيضًا أن أضمن له، و بشكلٍ إيجابيّ، شروط ممارسة هذه الحقوق، وبالتالي الظروفَ البشرية للبقاء على قيد الحياة.
الآن، يقتضي المثال الهيرمنوتيكي (و "العدمي") في تأسيس كل قانون و سلوك اجتماعي على اساس إحترام حرية الجميع وليس على اساس معايير "طبيعية" أو موضوعية مزعومة، نتائجَ ايجابية هي ارحب بكثير من تلك التي اشار اليها أوتو آبل في عمله في أعوام الستينات- وبعد كل شيء، بدون أن يعطيها نموًّا مبرمجًا بشكلٍ صريح. على سبيل المثال، إن السلام- حتى حين لا يُفهَم لاهوتيًا على إنّه "سكينة نظامٍ "، وفقًا لقول اوغسطين الذي استخدمته الكنيسة الكاثوليكية لتبرّر أسوأ سكوتها عن الفاشية والنازية- هو [اي السلام] حق انساني اساسي يتم ،بكلّ أسفٍ، التصرّف به، موضَعيًا و إشكاليًا، تبعًا للمواقف. أليس إصلاح الدساتير وصياغة القوانين التي تاخذ بعين الاعتبار حقوقًا كهذه هي، أيضًا، اساس برنامجٍ سياسي ايجابي؟ في نهاية المطاف، هذا ما يؤشّر على الانتقال (الضروري) من الليبرالية الى الديموقراطية، و ،بالنسبة لنا، الاشتراكية؛ من أجل الوصول فعليًا إلى حقوق الحرية التي بشرت بها الليبرالية، علينا الا ندع الأمور تتموضع "تبعًا لمبادئها الخاصة"، على سبيل المثال في قوانين السوق ( هناك "طبيعانية" naturalism’ غير مقبولة عند آدم سميث!). بدلاً من ذلك، علينا ان نبني ظروفًا للمساواة ليست، بالفعل، مُعطاة "طبيعيًا".
إن أردنا ان نلخصّ في بضعة كلمات معنى الهيرمنوتيكا العدمية- والتي هي قبل كل شيء مشروع مفتوح بالكامل- ما أراه فيها حتى هذه اللحظة هو تأكيد لأطروحة هايدغر حول الكينونة كـ"حدث"، وليس كبنية مستقرة تُعطى لمرة واحدة و أخيرة (ما يسميه هايدغر "الميتافيزيقيا"). يكون حدثٌ ممكنًا فقط حين "لا تكون" الكينونة، أو انها لم تعد- بشرط أن يكون الله قد مات و أن تكون البنية الأزلية للقيم قد تم فضحها بإعتبارها كذبة. فقط بشرطِ اجتياز تجربة العدمية المفهومة بهذا الشكل يمكن التخطيط لمجتمع حيث لن تكون الحرية مقولة فارغة: الحقيقة "تُصنَع" دائمًا، وبالتالي فالقيم تُبتكَر دومًا من جديد. فقط في عدميةٍ مفكَّر بها بهذا الشكل تؤسِّس المساواة ذاتها أخيرًا، وما يسمّيه ريتشارد رورتي تضامنًا يصيرُ ممكنًا- أو بالضرورة أفضلَ- للحياة، الأساس الوحيد الممكن لحقيقةٍ لا تدّعي التملّص من الشروط التاريخية حيث الوجود "مرميّ".