مقابلة مع هربرت ماركوزه عن ثورات الطلاب


وليم العوطة
الحوار المتمدن - العدد: 7579 - 2023 / 4 / 12 - 13:35
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     


المصدر: https://www.marxists.org/reference/archive/marcuse/works/1969/interview.htm
Source: Le Monde, Paris, June 1969
أجرى المقابلة الصحافي الفرنسي المشهور بيير فانسان بونت Pierrre Viansson-Ponte)


ب- لقد وُضعت إلى جانب ماركس وماو. ما هي ردّة فعلك حين يتكلّم الناس عن الميمات الثلاث[ماركس، ماو، وماركوزه]؟
ماركوزه: لا أفهم! ماركس؟ تبحّرت في أعماله. ولكن، ماو؟ بلا شكّ، اليوم، كلّ ماركسيّ ليس شيوعيًا بطاعة صارمة هو ماويّ. لطالما اعتقدت بوجود بديلٍ، وفي كتبي لم أحافظ على الأيديولوجيا الماركسية القديمة. المجتمعات الاشتراكية القائمة بالفعل اليوم لا تبدو لي "مختلفة نوعيًا" عن المجتمعات الرأسمالية الأخرى. تسمح هذه المجتمعات الاشتراكية بأن يوجد نوعٌ واحد من السيطرة بدلاً من أنواع أخرى، هذا كلّ ما في الأمر. مرّة أخرى، الاشتراكية الفعلية أمرٌ مختلفٌ بالمرّة. وأنا مقتنع بأنّه من الممكن ومن هذه اللحظة بناء مجتمع اشتراكيّ فعليّ من دون المرور بالفترة ذات النمط الستالينيّ. يجب على المجتمع الاشتراكيّ أن يتأسس على تضامنٍ حقيقيّ، وعلى تعاونٍ فعليّ: يبدو لي أنّ الثورة الكوبية تسير في هذا الاتّجاه. وبالنسبة إلى "تشي"[جيفارا] فكان رمزًا لهذه الثورة، بعيدًا جدًا عن البيروقراطيات الستالينية، وقريبًا جدًا من الانسان الاشتراكيّ.


ب - هل تحاول فقط أن تشرح العالم الذي نعيش فيه أوتحاول تغييره أيضًا؟
ماركوزه: هذا سؤال مهمّ جدًا. كلّ تفسير حقيقيّ يجب أن يقود إلى بحثٍ عن تحوّلٍ ما، وتوجد، بديهيًا، علاقةٌ داخلية بين التفسير والتحوّل. بالنسبة لي، صحيحٌ أنّني، ومنذ زمانٍ طويلٍ، لم أعد مناضلاً ناشطًا. أكتب وأدرّس وألقي المحاضرات، وأحادث الطلّاب. هذه أنشطة اعتيادية عند مثقّفٍ في الولايات المتحدّة، ذلك أنّ الوضع الراهن في هذه البلاد ليس بالمرّة ثوريًا، ولا حتّى قبل ثوريّ. وعليه، فواجب المثقّف هو، وقبل كلّ شيء، تولّي مهام التربية الراديكالية. في أمريكا، نحن ندخل "فترة تنويرٍ" جديدة.



ب- وفي أوروبا؟
ماركوزه: في أوروبا، الوضع مختلف لأنّ سياسات الأوروبيين ما تزال، وعلى نطاقٍ واسعٍ، تحدّدها الطبقة العاملة. أيضًا، توجد اختلافات كبيرة بين بلدٍ وآخرٍ: تقترب ألمانيا الغربية من النموذج الأمريكيّ، وإيطاليا قريبة إلى حدٍّ ما. فرنسا بعيدةً أكثر. أعرف جيدًا رودي دوتشكه[مناضل طلّاي يساري ألماني] وأصدقاءه، وأعضاء المنظمة الطلابية اليسارية الSDS(الطلاب الاشتراكيون الألمان). رودي شخصٌ لطيف، وحسّاس جدًا وليس بالمرّة دهماوي demagogue. وهو قد وضع الكثير من الأعمال والأفكار. بالنسبة إليه ورفاقه، فإنّ العلاقة بين النظرية والفعل مؤسَّسة بصلابة، وقيل أنّهم استغرقوا أشهرًا لصياغتها، وهذا ليس صحيحًا، إذ نالت منهم عمل ثماني سنوات. في فرنسا، هل عمل الطلاب الغاضبون على هذا النحو أيضًا؟ وهل شيّدوا أسسًا أيديولوجية صلبة؟ ليس لدي انطباع بأنهم فعلوا ذلك.



ب- هل تشعر أحيانًا بأنّ من يجاهرون بطروحاتك قد تجاوزوها؟
ماركوزه: ربّما. وإذا كانوا عنيفين، فلأنّهم يائسون. وقوّة اليأس فعّالة في العمل السياسيّ. خذ مثلاً سكّان الغيتوات السوداء في الولايات المتحدة الامريكية، فهم يضرمون النيران في مناطقهم ذاتها، ويحرقون منازلهم الخاصّة. هذا ليس فعلاً ثوريًا، بل فعل يأسٍ، وعملاً سياسيًا. زد على ذلك، في الولايات المتحدة، لا يقتصر الاضطراب على الطلاب. لا يقوم هؤلاء بثورة ضدّ المجتمع الفقير وسيء التنظيم، بل ضدّ المجتمع الغني وجيّد التنظيم، في رفاهيته وإسرافه، بينما 25% من السكّان يعيشون في فقر الغيتوات. لا تنصبّ ثورتهم على البؤس الذي ولّده هذا المجتمع، بل ضدّ منافعه. هذه ظاهرة جديدة، الانتماء فقط إلى ما يسمّى بـ"مجتمع الرخاء". في ألمانيا، العملية هي نفسها. في فرنسا، لا أعتقد أنّها كذلك، فالمجتمع الفرنسي ليس مجتمعًا ثريًا بعد.


ب- ما رأيك بما سمّيَ تشبّهًا بـ"قوّة[سلطة] السود"، و"قوّة[سلطة] الطلاب"؟
ماركوزه: هذا الشعار يبدو لي خطيرًا. أينما كان، ودائمًا، تكون غالبية الطلاب من المحافظين، وحتّى من الرجعيين. لذلك، فإنّ "سلطة الطلاب" إذا كانت ديمقراطية ستكون محافِظة، وحتّى رجعية. تعني "سلطة الطلاب" أنّ اليسار لم يعد بالمرّة معارضًا لإدارة الجامعة، بل للطلاب أنفسهم. غير ذلك، وإلاّ سيلتفّ بالضرورة على العملية الديمقراطية. يوجد هنا تناقض أساسيّ!


ب- برأيك، ما هو السبب الرئيسي لتلك التظاهرات الطلابية العنيفة في بلدان عدّة؟
ماركوزه: بخصوص الطلاب في أمريكا وألمانيا الغربية، وهم الذين أعرفهم على نحوٍ أفضل، لا يتعلّق الأمر بمجرّد مطلبٍ فكريّ، بل "غريزيّ". يريد هؤلاء الطلاب وجودًا من نوعٍ آخرٍ مختلفٍ تمامًا. يرفضون حياةً ليس إلاّ نضالاً من أجل البقاء، ويرفضون الدخول في ما يسمّى بالانكليزية المؤسسة Establishment، ذلك لأنّهم يعتقدون أنّها لم تعد ضرورية. يشعرون بأنّ حياتهم بأكملها ستطغى عليها متطلبات المجتمع الصناعي، حصرًا مصالح الشركات الكبرى، والجيش، والسياسيين. خذ مثلاً الهيبيين. يتوجّه تمرّدهم ضدّ الأخلاقية الطهرانية، والمجتمع الأمريكي حيث يغتسل المرء عشرة مراتٍ يوميًا، وفي الآن عينه يحرق، بكل معنى الكلمة، الفييتناميين وببساطة، يقتلهم. لذا، فهم يحتجّون بانتظامٍ على هذه الغطرسة بإبقاء شعورهم طويلة، وبإطلاق لحاهم، وبالبقاء غير مغتسلين وبرفض الالتحاق بالحرب. بالنسبة إليهم، التناقضات مخادعة، ولكن، كما الطلاب، ليسوا حقًّا سوى أقلية صغيرة. يعلم الطلاب أنّ المجتمع يستوعب المعارضة ويقدّم اللاعقلانيّ بوصفها عقلانيًا. يشعرون، وبوضوحٍ إلى هذا الحدّ أو ذاك، أنّ الانسان "ذا البعد الواحد" فقد قوّته على النفي، وإمكانيته لأن يقول لا. لذلك، يرفضون الاندماج في هذا المجتمع.


ب- ما ذا سيكون ردّك على الطلاب لو أتوا إليك وسألوك عمّا إذا كانت تظاهراتهم مجدية وتساعد على تغيير المجتمع؟
ماركوزه: سأقول لهم أوّلاً إنّ المرء لا يمكنه أن يأمل أيّ شيءٍ سوى تظاهرات ضخمة مثل تلك التي تحصل في كلّ مكان، حتّى في فرنسا، في وضعٍ ليس أبدًا قبل ثوريّ أو مضاد للثورة. ولكنّني لستُ بالمرّة انهزاميًا. في الولايات المتحدة، نجحت المعارضة المتنامية لحرب فييتنام في إطلاق، على الأقل جزئيًا، تغييرٍ في السياسات الأمريكية. على المرء ألاّ ينخذع، ولكن ليست عليه أن يكون انهزاميًا أيضًا. ومن العبث أن ننتظر، في مواجهةٍ كهذه، أن تنضمّ الجماهير إلى الحركة وتنخرط في العملية. أجد شيئًا شبيهًا في ثورات الطلاب الحالية، ومع ذلك فهي ثورات عفوية تمامًا. في الولايات المتحدة، لا يوجد تنسيق، ولا فعلاً منظّمًا على المستوى الوطني، ولا حتّى على نطاقٍ دوليّ، وما زلنا بعيدين جدًا عن أيّ ضربٍ من التنظيم الأممي. هذا النوع من الثورات لا يؤدي بالتأكيد إلى خلق قوّة ثورية، ولكنّه يتلاقى مع حركات "العالم الثالث" ونشاط الغيتوات. إنّه قوّة جبّارة للتفكّك.