نيتشه و الفكر الرحّال - جيل دولوز


وليم العوطة
الحوار المتمدن - العدد: 5975 - 2018 / 8 / 26 - 12:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

جيل دولوز

نيتشه و الفكر الرحّال


المصدر: Deleuze, Gilles, Pensée Nomade, dans l lle déserte et autres textes : textes et entretiens 1953-1974, les éditions de minuit, 2002, pp 351-364.


ترجمة: وليام العوطه

لو سألنا حول ما هو أو ما أصبح عليه نيتشه اليوم، فإننا نعلم علم اليقين الى من نتوجّه بسؤالنا هذا: الى الشباب الّذين بدأوا للتوّ بقراءة نيتشه، هؤلاء الّذين يكتشفونه. بالنسبة الى الاغلبية هنا، نحنُ اصبحنا كبارًا في السنّ. ماذا يمكن لشابٍّ حاليًا ان يكتشفه عند نيتشه ممّا لم يكتشفه حكمًا جيلي انا، ما لم تكتشفه حُكمًا الاجيال السابقة؟ كيف يمكن اليوم لموسيقيين شباب ان يشعروا بأن نيتشه يجذب اهتمامهم في ما يقومون به، دائمًا بشكل لا يقومون به بإنتاج موسيقى نيتشوية بالمعنى الّذي قام به نيتشه؟ كيف يمكن لشباب من الرسّامين والسينمائيين ان يثير نيتشه اهتماماتهم؟ ما الّذي يحصل؟ أي كيف يستقبل هؤلاء نيتشه؟
كلّ ما يمكننا أن نشرحه، بصرامةٍ ومن الخارج، هو عن الطريقة التي منح فيها نيتشه لنفسه ولقرّاءه، المعاصرين واللاحقين، حقًّا معيّنًا بمخالفة المعنى contresens. وهو على ايّ حال ليس ايَّ حقَ كان، لأنه يمتلك قواعدَ سريّة، ولكنّه حقٌّ بمخالفة المعنى أريد أن اشرحَه الآن، وهو ليس بسؤالٍ يستدعي مناقشة نيتشه كما لو اننا نناقش ديكارت، أو هيغل. ما اريد ان اقوله : من هو اليوم الشاب النيتشوي؟ هل هو من يحضّر عملاً حول نيتشه؟ ربّما. أو بالأحرى هل هو، بإرادته أو رغمًا عنها، ينتجُ ملفوظاتٍ نيتشويةً بحتة في خضمّ فعلٍ ما، أو هوى، أو تجربة؟ ربمّا ايضًا!
وفقًا لمعرفتي، واحدٌ من أجمل النصوص الأخيرة، وأكثرها نيتشويةً بعمق، هو النصّ الّذي كتبه ريتشارد دشايس : أن نعيش لا يعني أن نبقى احياء، تمامًا قبل ان يُصاب بقنبلة يدوية خلال احدى التظاهرات. لا يتسبعد الأول الثاني، [اذ] ربّما أمكننا أن نكتب حول نيتشه ومن ثمّ انتاج ملفوظاتٍ نيتشوية في خضّم تيار التجربة.
اننا نستشعر كل الأخطار التي تحيط بنا في هذا السؤال: ما هو نيتشه اليوم؟ الخطر الديماغوجي (" الشباب موالون لنا..")، الخطر الأبويّ (" نصيحة الى الشاب الّذي يقرأ نيتشه")، ومن ثمّ وبالأخص خطرُ توليفةٍ بغيضة. في قمّة ثقافتنا الحديثة نتخذّ الثلاثيّ: نيتشه، فرويد وماركس، بغض النظر إن كان كلّ ذلك قد فقد اصلاً صلاحيته. يمكن لفرويد وماركس أن يكونا على رأس ثقافتنا الحديثة، ولكن نيتشه، وبالعكس تمامًا، يتصدّر قمّة الثقافة المضادة.
يبدو من البديهي ان المجتمع الحديث لا يشتغل من خلال الشيفرات codes، بل انه مجتمع يعمل وفقًا لقواعد أخرى. ولكن وإن أخذنا بعين الاعتبار، لا رسالة ماركس و فرويد، ولكن صيرورة الماركسية أو صيرورة الفرويدية، نرى انهما اُطلِقتا، بمفارقةٍ، في شكلٍ من محاولة اعادة التشفير recodage: اعادة تشفيرٍ عبر الدولة في حالة الماركسية (" الدولة سبب دائكم والدولة دواءٌ لكم" ولأن هي الدولة عينها) واعادة تشفير عبر العائلة ( ان تجعلك العائلة مريضًا، وان تشفى من خلال العائلة، ولكنّها ليست العائلة ذاتها). هذا ما يشكّل حقًا، في افق ثقافتنا، الماركسية والتحليل النفسي كبيروقراطييْن اساسييْن، الأول منهما عام، والآخر خاص، وحيث يكمن الهدف في تحقيق ،مهما بلغ سوء ذلك، اعادة تشفير لما لم يتوقف في الأفق عن تفكيك شيفراته décodage. لا ينتمي مطلب نيتشه الى ذلك ابدًا. إن مشكلته في مكان آخر.
عبر كل شيفرات الماضي والحاضر والمستقبل، يتعلّق الموضوع بالنسبة اليه [نيتشه] في العبور بشيءٍ ما لا يسمح و لن يسمح بأن يتشفّر. هذا العبور فوق جسدٍ جديد، إبتكار جسدٍ جديد بإمكان ذلك الشيء أن يعبر فوقه ويسيل : جسدٌ هو جسدنا، جسدُ الأرض، جسدُ الكتابة...
نحنُ على درايةٍ بأدوات التشفير الكبيرة. لا تختلف المجتمعات جدًا بخصوص ذلك، انها لا ترتبّ بحد ذاتها أدوات تشفيرٍ. اننا على دراية بثلاثٍ رئيسية: القانون، العقد contrat والمؤسسة. على سبيل المثال، نجد [هذه الأدوات] بشكلٍ واضحٍ في الصلة التي يسندها البشر أو التي اسندوها الى الكتب. هناك كتبُ قانونٍ حيث تمرُّ صلة القارىء مع الكتاب عبر القانون. نسمّي هذه الكتب حينذاك و بشكلٍ أكثر تحديدًا الشيفرات، أو الكتب المقدّسة. ومن ثمَّ نجد الصنف الآخر من الكتب التي تمرّ عبر العقد، عبر العلاقة التعاقدية البرجوازية. يشكّل هذا قاعدة الثقافة العلمانية وصلةَ بيع الكتاب: أبتاع منك الكتاب، انتَ تعطيني اياه كي أقرأه – صلةٌ تعاقدية تلفّ الجميع، المؤلف والمحرر والقارىء. وأخيرًا، هناك الصنف الثالث من الكتب، الكتب السياسية، ذات المرجعية الثورية، والّتي تبدو كأنها كتب المؤسسات، أكانت مؤسسات حالية أو قادمة. تحدث كل أنواع الخلط: تُعامل كأنها كُتبًا تعاقدية أو مؤسساتية و كأنها كتب مقدّسة...الخ. ما يعني ان كل انماط التشفير تكون بحد ذاتها حاضرةً، ضمنيةً، بحيث اننا نجد الواحدةَ منها داخل الأخرى.
فلنأخذ مثالاً أخر مختلفًا كلّيًا، مثال الجنون: لقد اتخذت محاولة تشفير الجنون ثلاثة اشكال: أولاً لدينا أشكال القانون، اي المستشفى والمأوى-انه التشفير القمعي، الحبس، الحبس القديم الّذي استدعى في المستقبل القادم أملاً أخيرًا للخلاص حين سوف يقول المجانين:" كان وقتًا طيّبًا حين كنّا محبوسين، لأن اشياءً سيّئةً تحصل اليوم". ومن ثمَّ، كان هناك شكلٌ من الضربة الرائعة الموفقة هي تلك الّتي للتحليل النفسيّ: سمعنا ان هناك مَن كانوا يفرّون من العلاقة التعاقدية البرجوازية، كما ظهرت في الطب، وهؤلاء، كانوا أنفسهم المجانين، لأنهم لم يتمكنوا من ان يكونوا فرقاء متعاقدين، وحقوقيًا كانوا "فاقدي الأهلية". ان القفزة العبقرية لفرويد كانت بأن يتم تمرير زمرةٍ من المجانين تحت العلاقة التعاقدية، بالمعنى الأوسع لصفة المجانين، [اي] العصابيين، ومن ثمّ أن نشرح انه بإمكاننا ان نقيم عقدًا خاصًا مع هؤلاء ( من هنا التخلّي عن التنويم). لقد كان [فرويد] أول من أدخل ذلك الى الطب العقلي، وهذا ما يشكّل في نهاية المطاف الجِدّة في التحليل النفسي، العلاقة التعاقدية البرجوازية التي كانت حين حينها مستَبعدة. ومن ثمّ، هناك المحاولات الأقرب، مع تضميناتها السياسية وأحيانًا أخرى طموحاتها الثورية البديهية، [اي] المحاولات المدعوّة مؤسساتية. ونجد هنا الأداة الثلاثية للتشفير: إمّا هي القانون، وإن لم تكن القانون فسوف تكون العلاقة التعاقدية، وإن لم تكن هذه سوف تكون المؤسسة. وفوق هذه التشفيرات يزدهرُ بيروقراطيوننا!
بمواجهة الطريقة التي تفكّ فيها مجتمعاتنا شيفراتنا، وحيث تفرّ الشيفرات من كل الاطراف، نيتشه هو ذاك الّذي لم يحاول أن يعيد التشفير. يقول: لا يعني ذلك انه علينا ان نذهب بعيدًا، لستم بعدُ أطفالاً (" ان مساواتية الرجل الاوروبي هي اليوم العملية الكبيرة المتعذّرة الإلغاء: علينا ان نعجّل بها أيضًا"). على مستوى ما كتبه وما فكّر به، يتابع نيتشه محاولة فكّ شيفرات، ليس بالمعنى النسبيّ الّذي يكمن في تفكيك الشيفرات القديمة، الحالية والقادمة، ولكن بمعنى تفكيكِ مطلق للشيفرات – أي تمرير أمرٍ ما لا يكون قابلاً للتشفير، خلطَ كل الشيفرات. وخلط الشيفرات ليس بالأمر الهيّن، حتى على مستوى الكتابة البسيطة، واللغة. و لا أجد [هنا] تشابهًا إلاّ مع كافكا، مع هذا الـ كافكا صانعُ [اللغة] الالمانية، بفعل الوضعية اللغوية ليهود براغ: يركّبُ بالألمانية آلةَ حرب ضدّ [اللغة] الألمانية؛ وبقوّة اللاتحديد و الرزانة، يمرر تحت شيفرة الألمانية شيئًا ما لم تسمعه هذه من قبل. ونيتشه كان أو أراد أن يكون بولنديًا بعلاقته مع الألمانية، يستولي على الألمانية من أجل أن يعتلي آلة حربٍ تريد تمرير ما يتعذّر تشفيره في الألمانية. وهذا هو الأسلوب من حيث هو سياسة.
بشكلٍ أعمّ، على ماذا يتوقّف جهدُ فكرٍ كذاكَ [الّذي] يدعو الى تمرير دفوقه تحت القوانين وهو يجابهها، تحت العلاقات التعاقدية وهو يدحضها، وتحت المؤسسات وهو يهزأُ منها؟
اعود سريعًا الى مثال التحليل النفسي؛ كيف يمكن لمحللٍ نفسيّ، أصيلٌ ايضًا كميلاني كلاين ، أن يبقى، بالرغم من ذلك، في السيستم التحليلي النفسي؟ تقول [كلاين] ذلك بوضوح: الموضوعات الجزئية التي نتكلّم عنها، مع كل انفجاراتها و سيولاتها...الخ هي استيهامات. يجلب المريض حالات معاشة، استثمارات معاشة، وتقوم ميلاني كلاين بترجمتها الى استيهامات. لدينا هنا عقدٌ، بالتحديد عقدٌ: أعطني حالاتك المعاشة و أسلّمُكَ اياها استيهاماتٍ. ويتضمن العقد تبادلاً، تبادلاً للمال وللكلام. لدينا هنا محللٌ نفسيٌّ يصل به فينيكوت الى نهاية التحليل النفسيّ كونه يشعر ان هذه العملية لم تعد ملاءمةً في لحظةٍ ما. توجد لحظةٌ حين لم يعد يتعلّق الأمر بالترجمة ولا حتى بالتأويل، بترجمة الى استيهامات، وبتأويل الى دالّاتٍ أو الى مدلولات...لاّ ليس الأمر على هذا النحو! هناك لحظةٌ حيث يلزم بالأحرى ان ننخرط، ان نكافح مع المريض، يلزمُ أن نذهب اليه وأن نشاركه حالته. فهل يتعلّق الأمر بصنفٍ من التعاطف، أو التقمّص أو التماهي؟
فليكن، ذلك ان الموضوع معقدٌ جدًا. ما نعيه هو بالأحرى ضرورة علاقة لا تكون قانونية أو تعاقدية أو مؤسساتية. هذا ما نراه عند نيتشه؛ نقرأ مقتضَبَة aphorisme أو قصيدةً في هكذا تكلّم زرادشت، أو على نحوٍ جوهريّ أو شكليّ [نقرأ] نصوصًا شبيهة لا تُفهَم من حيث [انها] تأسيسٌ أو تطبيقٌ لقانون، ولا من حيث انها تقدّم علاقة تعاقدية أو ترسّخُ مؤسسة. ان المكافىء المناسب الّذي يمكن تصوّره قد يكون " التوّرط مع ...". شيءٌ من الباسكالية وهو يتوجّه ضد باسكال. لقد تورّطنا: من صنف "طوف ميدوزا Radeau de la Méduse " ، اذ تسقط القنابلُ حول القاربِ، ينعطفُ هذا صوب مجرى تحت أرضي جليديّ، أو صوب سيلٍ حارّ، الأورينوك Orenoque ، الآمازون، اناسٌ يجذّفون معًا، لا يُفترض بهم أن يقعوا في الحب، الّذين يتضاربون، الّذين يأكل بعضهم بعضًا. التجذيف معًا هو المشاركة، التشارك في شيء ما، بعيدًا عن كلّ قانون، وكل عقدٍ وكل مؤسسة. الانعطاف وحركة الانعطاف أو "الإقتلاع الموطني" deterritorialisation : قلتُ ذلك بطريقةٍ جدًا ضبابية، ومشوّشة، طالما ان الأمر يتعلّق بفرضية أو بإنطباع ملتبسٍ حول اصالة النصوص النيتشوية. ..[انه] شكلٌ جديدٌ من الكتُب.
ما هي اذًا سمات مقتضبة نيتشه حتى تعطي هكذا انطباع؟ هناك واحدة اظهرها بشكل خاص موريس بلانشو في المحادثة اللامتناهية. انها العلاقة مع الخارج. بالفعل حين نفتح بالصدفة نصًا لنيتشه، فإنها تكون واحدة من المرات الأولى التي لا نمرّ فيها بـداخلانية intériorité، أكانت داخلانية الروح أو الوعي، داخلانية الجوهر أو الافهوم، اي ما صنع على الدوام مبدأ الفلسفة. ما شكّل اسلوب الفلسفة هي ان تلك الصلة مع الخارج في هذا الاسلوب قد توسطّت عبر الداخلانية وانحلّت فيها. على العكس من ذلك، يؤسس نيتشه الفكر والكتابة على علاقةٍ مباشرة مع الخارج. ما هي اللوحة الجميلة أو الرسم الجميل؟ يوجد إطارٌ، مقتَضبة تمّ تأطيرها. ولكن متى يصبح ما هو داخل الإطار جميلاً؟ من اللحظة التي نشعر ونعرف فيها ان الحركة، ان الخط المؤطَّر يأتي من مكانٍ آخر، انه لا يبدأ في حدود الإطار. لقد بدأ من تحت، أو عند طرف الإطار، انه يمرّ بالإطار. كما في فيلم غودار ، [حيث] نرسم رسمًا مع الحائط. وبعيدًا عن كونه تتخيمًا للمساحة التصويرية، يكون الإطار تقريبًا عكسَ ذلك، [اذ] يكوّن علاقة مباشرة مع الخارج. ولكن، ان نربط الفكر بالخارج هو ، حرفيًا، ما لم يقم به الفلاسفة ابدًا، حتّى حين تكلّموا عن السياسة، حتّى حين تحدّثوا عن النزهة أو عن الهواء الصافي [المحض]. لا يكفي التحدّث عن الهواء الصافي، عن الخارج كي نربط الفكر مباشرةً ومن دون توسطِ بالخارج.
"... يأتون كالقدَر، بلا علةٍ، بلا مسوّغٍ ، من دون اعتبار وذريعة؛ انهم هنا تصاحبهم سرعةُ التوهّج، شديدون جدًا، مفاجئون جدًا، مُقنعون جدًا، جدًا آخرون كي يكونوا هدفًا للكره.." هذا هو النص الشهير لنيتشه حول مؤسسي الدول، "هؤلاء الفنانون بنظرتهم النحاسية" (جينيولوجيا الأخلاق) أو ربّما هل هو نصّ كافكا سور الصين العظيم؟ " يستحيل ان نفهم كيف تغلغلوا حتى العاصمة البعيدة [...]. ومع ذلك، ها هم هنا، وكلّ صباحٍ يظهر ان عددهم يتكاثر [...] يستحيل ان نتحدث اليهم. يجلهون لغتنا [...] ما زالت احصنتهم أكلة لحوم!".
حسنًا، نقول ان نصوصًا كهذه تخترقها حركةٌ تأتي من خارج، لا تبدأ في صفحة الكتاب أو في الصفحات اللاحقة، و لا تكتمل في اطار الكتاب، والتي تكون مختلفة جدًا عن الحركة المتخيَّلة للتمثيلات أو عن الحركة المجرّدة للأفاهيم كما كانت عادةً عبر الكلمات وفي رأس القارىء. شيءٌ ما يقفز من الكتاب ويدخل في تماسٍ مع خارجٍ محض. هذا هو، كما أظنّ، الحق في مخالفة المعنى في ما تعلّق بكل مؤلفات نيتشه.
ان المقتضَبة هي لعبة قوى، حالةٌ من القوى التي تكون دائمًا خارجيةً بالنسبة لبعضها البعض. ان حكمة واحدة لا تريد ان تقول شيئًا، لا تعني شيئًا وليس لها بعدُ دالٍ بقدر ما لها من مدلول. سوف تكون طرائق لإسترجاع داخلانية النص. ان المقتضَبة هي حالة من القوى حيث الأخيرة منها، اي الأكثر حداثةً، الأكثر راهنيةً والمرحلية إطلاقًا هي الأكثرُ خارجيةً. يطرح نيتشه ذلك بشكلٍ واضحٍ: إن اردتم ان تعرفوا ما اريد قوله، ابحثوا عن القوّة التي تعطي معنى، التي تولّد حاجةً لمعنى ما أقوله. اربطوا النص بهذه القوّة. على هذا النحو، لا وجود لمسألة تأويل عند نيتشه، لا توجد إلاّ مسألة تأليل: تأليل نص نيتشه، البحث عن القوة الراهنة التي يمرر معها شيئًا ما، تيار طاقة.
بهذا الخصوص، تعترضنا جميعًا المشكلة التي تطرحها بعض النصوص التي تلقى صدى فاشيًا أو معاديًا للسامية...ولأن الأمر يتعلق بنيتشه اليوم، علينا ان نعرف ان نيتشه غذّى وما زال يغذّي جيدًا الفاشيين الشباب. ظهرت لحظةٌ كان من المهم فيها ان نبيّن ان نيتشه كان مستخدَمًا، محوَّرًا كامل التحوير على يد الفاشيين. تبيّن ذلك في مجلة Acéphale مع جان فال ، باتاي ، كلوسوفسكي . ولكن اليوم لم يعد هذا الأمر هو المشكلة. لا ينبغي النضال على مستوى النصوص، ليس لأننا لا نستطيع فعل ذلك بل لأن هذا النضال لم يعد مجديًا. ينبغي بالأحرى ايجاد و رصد والالتقاء بتلك القوى الخارجية التي تعطي لهذه الجملة أو تلك من نيتشه معناها التحريري، معناها الخارجاني. انه وعلى مستوى المنهجية يُطرح سؤال الصفة الثورية لنيتشه: انها المنهجية النيتشوية التي تجعل من النص النيشتوي، لا شيئًا يلزم أن نساءله "هل هذا فاشي، برجوازي أو ثوري بحد ذاته؟" – ولكن حقلاً من التخارج حيث تتواجه القوى الفاشية و البرجوازية والثورية.
وإن طرحنا المسألة على هذا النحو، فإن الاجابة المتلائمة مع المنهجية ،وهي العثور على القوّة الثورية (هل هي الانسان الأعلى؟) ، [تستدعي] دائمًا قوى جديدة تأتي من الخارج، وتخترق وتسترد النص النيتشوي في إطار المقتضَبة. ها هي المخالفة المشروعة: ان نعامل المقتضَبة كظاهرة ونحن ننتظر قوى جديدة تأتي لـ"تنتشلها"، أو لتجعلها تشتغل، أو بالأحرى لتفجّرها.
ليست المقتضَبة مجرّد علاقة مع الخارج بل لها كسِمةٍ ثانية انها في علاقة مع الكُثّاف (الاشتدادي- l’intensif)، وهو الأمر عينه. وحول هذا الموضوع قال كلوسوفسكي وليوتار كل شيء. هذه الحالات المعاشة التي تكلمت عنها آنفًا كي اقول انه لا يلزم ترجمتها الى تمثلّات أو استيهامات، لا يلزم تمريرها بشيفرات القانون، والعقد والمؤسسة، انه لا يجوز سكّها عملةً monnayer، بل يجب بالعكس ان نصنع منها دفوقًا تأخذنا دائمًا الى البعيد، أكثرَ الى الخارج، وهذا ما هو بالفعل الكثافة (الشدّة)، الكثافات (الشدّات).
ليست الحالة المعاشة بذاتيةٍ، أو ليست بالضرورة كذلك، [فهي] لا تحيل الى الفرديّ، انها الدفق وتقطيع الدفق طالما ان كل كثافة هي بالضرورة في رابطٍ مع كثافةٍ أخرى بشكل أن شيئًا ما يحصل. انها ما يكون تحت الشيفرات، ما يفرّ منها وما تريد الشيفرات ان تترجمه، تحوّله وتسكّه عملةً. ولكنّ نيتشه مع كتابته الكثافاتية يقول لنا: لا تبادلوا الكثافة بتمثيلاتٍ. لا تحيل الكثافة الى مدلولاتٍ تصبح وكأنها تمثيلاتٍ للاشياء، ولا الى دالاّت تصير تمثيلاتٍ لكلمات. . . حسنًا، ما هو اتساقها consistence ، في الآن عينه، كعاملٍ agent و كموضوعٍ لفكّ التشفير ؟ هذا ما هو أشدّ غموضًا عند نيتشه!
لدى الكثافة ما تفعله مع اسماء العلم، وهذه ليست بتمثيلاتٍ للاشياء (أو للأشخاص)، أو بتمثيلاتٍ لكلمات. جماعيةً كانت، أو فردية، أسماء الما قبل السقراط، الرومان، اليهود، المسحي، عدو المسيح، يوليوس قيصر بورجيا ، زرادشت...كلّ هذه الاسماء التي تعاود المرور في نصوص نيتشه، ليست مدلولاتٍ ولا دالاّت، ولكن تعيينات لكثافةٍ، فوق جسدٍ قد يكون جسد الأرض، جسد الكتاب، ولكن ايضًا جسد نيتشه المتوعّك: كل أسماء التاريخ، اّنها أنا...هنا صنفٌ من الترحّل، من التنقّل الدائم للكثافات المتعيّنة عبر اسماء العلم، والتي تخترق الواحدةُ الأخرى في الوقت عينه التي تُعاشُ فيها فوق جسدٍ مليىء. لا يمكن للكثافة ان تُعاش إلاّ بالعلاقةِ مع ترقيمها in--script--ion المتحرّك فوق جسدٍ، ومع خارجيانية نقّالة لإسم علم، ولذلك يكون اسم العلم دومًا قناعًا، قناعًا لمشغّلٍ operateur.
النقطة الثالثة، بخصوص العلاقة بين المقتضَبة مع الفكاهة والتهكّم. هؤلاء مَن يقرأ نيتشه من دون أن يضحكوا، أو من دون ان يضحكوا كثيرًا و غالبًا، وأحيانًا من دون التوقّف عن الضحك، [فإنّ ذلك] كما لو انّهم لم يقرأوا نيتشه. لا ينطبق هذا فحسب على نيتشه، بل ايضًا على كل المؤلّفين الّذي يصنعون، بالتحديد، الافق نفسه لثقافتنا المضادة. انّ ما يشير الى إنحطاطنا، الى انحلالنا هي الطريقة التي نخبتر فيها حاجتنا الى التعبير عن القلق، الوحدة، الذنب، دراما التواصل، وكل تراجيديا الداخلانية. حتّى ماكس برود Brod ، مع ذلك، يحكي كيف ان المستمعين غرقوا في الضحك حين كان كافكا يقرأ السيرورة. و يصعب ايضًا ان نقرأ بيكيت من دون ان نضحك، من دون ان ننتقل من لحظة فرحٍ الى أخرى. انه الضحك وليس الدّال. الضحك الفصامي، أو الفرح الثوري هو الّذي يخرج من الكتب الكبيرة بدل مخاوف نرجسيتنا الصغيرة أو أهوالِ ذنبنا. بإمكاننا ان نسمّي ذلك "فكاهة الإنسان الأعلى" أو "مهرّج الله"؛ هناك دائمًا فرحٌ متعذّر الوصف ينبجسُ من الكتب العظيمة حتى وإن هي تحدثت عمّا هو قبيح، يائسٍ أو مرعب. يشغّل كل كتاب كبير ، في الآنِ، الإستحالة transmutation ويصنعُ عافيةَ الغدِ. لا نستطيع إلاّ ان نضحكَ ونحن نخلطُ الشيفرات. إن أقمتم الفكر بالصلة مع الخارج تتولّدُ لحظاتُ الضحكِ الديونيزية ، انه الفكرُ في الهواء الطلق.
يحصل غالبًا لنيتشه أن يجد نفسه أمام ما يعتبره مثيرًا للإشمئزاز، منحطًا و جديرًا بالتقيوء! حسنًا، فإن ذلك يُضحك نيتشه، حين يحوّرهُ إن أمكن ذلك؛ يقول : فلأحاول قليلاً بعد، لا يبدو انه مقرفٌ كثيرًا..أو ربّما [يقول] : رائعٌ كم هو مقرفٌ، انه اعجوبةٌ، تحفة، زهرةٌ سامةٌ... بعد كل شيء ، "يبدأ الإنسان بأن يصير مثيرًا للإهتمام". فلنأخذ مثالاً، [إذ على هذا النحو] ينظر نيتشه ويتعامل مع ما يسمّه الوعي الرديء mauvaise . حسنًا، هناك دومًا المعلّقون الهيغيليون، معلّقو الداخلانية الّذين لا يتمتعون بحسّ الضحك. يقول هؤلاء: ترون [كيف] ان نيشته يأخذ الوعي الرديء على محمل الجدّ، ويجعل منه لحظةً في الصيرورة-روحًا للروحانية... وحول ما يقوم به نيتشه حول الروحانية فإنهم يغضّون النظر عنه سريعًا لأنهم يشعرون بالخطر. وهكذا نرى ان نيتشه يمنح الحق لمخالفات الرأي المشروعة، وهناك مخالفاتٌ ايضًا غير مشروعة، [تلك الخاصة] بهؤلاء الّذي يشرحون بكامل الجدّية، بروحٍ مثقلة، على نحو قردِ زرادشت، اي بعبادةٍ للداخلانية.
ان الضحك عند نيتشه يستدعي دائمًا حركةً خارجية للفكاهات والتهكمات، وهذه الحركة هي حركة الكثافات، الكميّات المكثّفة، كما استنتجها كلوسوفسكي وليوتار: الطريقة حيث لدينا لعبةُ كثافات متدنية وكثافات عالية، الواحدة في الأخرى حيث بإمكان كثافة متدنية أن تفجّر أعلى الكثافات وأعلى أعلاها وحتى أعلى، وبالعكس. انها لعبةُ السلالم الكثّافة التي تقود صعائد التهكّم وانخفضات الفكاهة لدى نيتشه، والتي تتوسّع كإتساقٍ أو كيفية مُعاشٍ في صلتها مع الخارج. المقتضبة هي طريقةٌ ضحكٍ وفرحٍ محضة ، إذا كنّا لم نجد في المقتضبة ما يجعلنا نضحك، وتوزيعًا ما للتهكمات وللفكاهات، و ايضًا توزّعًا ما للكثافات، فإننا لم نجد شيئًا.
ويوجد ايضًا نقطةٌ أخيرة. نعود الى النص العظيم من الـ جينيولوجيا حول الدولة ومؤسسي الامبراطوريات :" يأتون كالقدَر، بلا علةٍ، بلا مسوّغٍ ، من دون اعتبار وذريعة...الخ" بإمكاننا هنا أن نلتقيَ برجال الإنتاج المسمّى آسيوي. على أساس الجماعات الريفية البدائية، يؤسس المستبد آلته الامبراطورية التي تضاعف تشفيرَ surcodage كل شيء، مع البيروقراطية [اي] الإدارة التي تنظّم الأعمال الكبيرة و تستوحذُ على العمل الفائض (" في كلّ مكان يظهرون فيه، وبقليلٍ من الوقت، هناك ما هو غير اعتيادي، عجلةٌ rouage سياديّة حيةّ، حيث كلّ قسمٍ [منها]، كل وظيفةٍ تكون محدودةً ومحددةً بالعلاقة مع المجموع..."). ولكن، علينا ان نسأل ايضًا حول ما اذا كان هذا النص يوثّق العرى بين قوّتين تتمايزان من منظورٍ آخرَ – وكافكا من جانبه ميّز لا بل عارض بينهما لا بل رسم في سور الصين. لأننا حين نبحثُ كيف منحت الجماعات البدائية المجزّأة مكانها الى تشكيلاتٍ سيادية أخرى، وهي مسألة يطرحها نيتشه في المقالة الثانية من الـ جينيولوجيا ، فإننا نرى مولدَ ظاهرتين متضافرتين بشكلٍ صارم ولكن مختلفتين كلّيًا. صحيحٌ انه في الوسط اُخِذَت الجماعات الريفية وثُبِّتت في الآلة البيروقراطية للمستبد، مع نسّاخه وكهّانه وموظفّيه، ولكن عند الضواحي، دخلت الجماعات في نوعٍ من المغامرةِ، في وجهٍ آخر من الوحدة، هذه المرة رحّالية nomadique، في آلةِ حرب رحّالة nomade، وتحررّت من الشيفرات بدل ان تسمح بأن يتضاعف تشفيرها.
ان مجموعات بأكملها غادرت، ترحّلت nomadiser : عوّدنا الأركيولوجيون ان نفكّر بهذه الترحّلية nomadisme ليس كحالةٍ أولية، ولكن كمغامرة حصلت لمجموعات حضرية كنداءٍ الى الخارج، كحركة. ان الرحّال مع آلته الحربية يتعارض مع المستبد مع آلته الإدارية، والوحدة الرحّالية البرّانية تتعارض والوحدة المستبدة الجوّانية. ومع ذلك، هما جدًا متضايفتان ، أو متداخلتان بحيث ان مشكلة المستبد سوف تكمن في دمج واستدخال آلة الحرب الرحّالة، ومشكلة هذه في ابتكار ادارةٍ للإمبراطورية المحتلَّة. لا تتوقف الآلتان عن التعارض في الدرجة عينها الّتي تختلطان فيها.
ان الخطاب الفلسفي قد وُلِد في الوحدة الامبريالية، عِبرَ آلهةٍ متجسدة avatars، هذه ذاتها التي تقودنا الى التشكيلات الامبراطورية في المدينة الاغريقية. وحتّى مرورًا بالمدينة الاغريقية، فإن الخطاب الفلسفي بقيَ على صلةٍ جوهرية مع المستبد أو مع ظلّ المستبد، مع الامبريالية، ومه ادارة الاشياء والاشخاص (نجد نوعًا من البراهين على في مؤلّفيْ ليفي شتراوس وكوجيف عن الطغيان). لقد كان الخطاب الفلسفي على الدوام في صلةٍ مع القانون، المؤسسة ومع العقد التي تشكّل مشكلة السيادة، والتي تعبر التاريخ الحضري منذ التشكيلات الاستبدادية حتى الديموقراطية.
ولكن، إن لم يكن نيتشه منتميًا الى الفلسفة، فربّما لأنه كان أوّل من تصوّر نمطًا آخرًا من الخطاب كخطابٍ مضادٍ للفلسفة؛ اي خطابٌ هو قبل كل شيء رحّال، حيث لا تتولّد التلفّظات عبر آلةٍ عقلانية ادارية، (الفلاسفة كبيروقراطيي العقل المحض)، بل عبر آلة حربٍ متنقلة.
ربّما بهذا المعنى يعلن نيتشه ان سياسة جديدة تبدأ معه (هذا ما يسمّيه كلوسوفسكي التواطؤ مع طبقته الخاصة). ونعلم جيدًا ان الرُحّل ، في انظمتنا، اشقياء: اذ لا ننكفأ امام اي اي وسيلة من أجل تثبيتهم، انهم بالكاد يعيشون. وقد عاش نيتشه كواحدٍ من هؤلاء الرُحّل المختزَلين الى ظلالهم، متنقلاً من تقاعدٍ مؤثث الى آخر. ولكن ايضًا، ليس الرحّال شخصًا ما يتحرّك بالضرورة: هناك رحلاتٌ في المكان الواحد، رحلاتٌ بكثافات، وحتّى تاريخيًا، لم يكن الرُحّل هؤلاء الّذين يتحرّكون على طريقة المهاجرين، بالعكس هم هؤلاء الّذين لا يتحرّكون، والّذين يترحلون nomadiser كي يبقون في المكان عينه وهم يفرّون من الشيفرات.
نعلم جيًدا ان المسألة الثورية اليوم تكمن في ايجاد وحدةٍ للنضالات الظرفية من دون الوقوع في التنظيم الاستبدادي والبيروقراطي لحزبٍ أو لجهاز دولة: آلة حربٍ لا تحيل الى جهاز دولة، وحدة رحّالية داخلية. هاكم ربّما عمق اعماق نيتشه، وزن انقطاعه عن الفلسفة، كما يتبيّن في المقتضَبةِ: بأن جعل من الفكر آلة حرب، بأن جعل منه اقتدارًا puissance رحّالًا. وحتى لو كانت الرحلة غير متنقلة، حتى لو حصلت في نفس المكان، متعذّرة الإدراك، مخفيةً، تحت أرضية، علينا ان نسأل عمّن هم رحّالينا اليوم، عمّن هم حقًا نيتشويينا؟ (انتهى)

نقاش بعد محاضرة دولوز
- آندريه فليشو : ما اردتُ معرفته هو كيف يعتقد [دولوز] في تأسيس اقتصاد التفكيك، اي كيف يعتقد انه[[إمكانه أن] يكتفي بقراءة رحّايلة لكل مقتضبَة، انطلاقًا من التجريبانية،وكما من الخارج، وهذا ما يظهر لي، من وجهة نظر هايدغرية، مثيرًا للشبهة الى اقصى حد. اسألُ إن كانت مشكلة "الموجود مسبقًا" التي تكوّن اللغة، والتنظيم القائم، اي ما تسمّونه "المستبدّ"، تسمح لنا بأن نفهم كتابة نيتشه على انها صنفٌ من الكتابة الشاذة التي وبذاتها تكشف الحجاب عن كتابة شاذة، في حين ان نيتشه يطبّق على نفسه ما يدعوه نقدًا ذاتيًا، وان المنشورات الحالية تُظهره كشغّيل استثنائي على الاسلوب، حيث، بالنتيجة، ليست كل مقتضبة سوى سيستامًا مغلقًا، ولكن متضمنًا في بنية من الازاحات. هذا المقام في فكركم لخارجٍ من دون تفكيك يلتقي ربَما مع مقام الطاقويةّ عند ليوتار.
السؤال الثاني والّذي يرتبط بالأول: في العصر الّذي أطلق فيه التنظيم الدولاني، الرأسمالي هجومًا (أو ما شئت أن تسمّيه)، [ اي] ما يسمّيه هايدغر الغياب المنطقي بفعل التقنية، هل تعتقد ان الترحلّ الذي وصفته يشكّل ردًّا جادًأ؟
- دولوز: إن فهمتُكَ جيدًا، تقول ان هناك شيءٌ ما يثير الريبة فيّ من وجهة نظر هايدغرية. اوافق على ذلك. بخصوص منهج تفكيك النصوص، ارى جيدًا ما هو عليه، احترمه جدًا، ولكن لا علاقة له بما أقوم به أنا. لا أعرض نفسي بالمرّة كمعلّقٍ على نصوص. ان نصًا ما ليس هو بالنسبة لي سوى عجلةً صغيرةً في ممارسة خارج- نصّية. لا يتعلق الامر بالتعليق على النص عبر منهج التفكيك، أو بمنهج قائم على الممارسة النصيّة، أو عبر مناهج أخرى؛ يتعلق الأمر بمعرفة ما يُستفاد منه في الممارسة الخارج-نصيّة التي تمتدّ بالنص.
تسألنني إن كنتُ أؤمن بالردّ الّذي يقدمه الرحّل. نعم، أؤمن بذلك...جنكيز مثلاً! هل سوف يُعاد احياءه من الماضي؟ لا أعلم، على اي حال يتم ذلك بشكلٍ آخر. في حين يستدخل المستبد آلة حربٍ رحّالة، فإن المجتمع الرأسمالي لا يتوقف عن استدخال آلة حربٍ ثورية. لا يتشكّل الرحّل الجدد في الضواحي (لأن لم يعد هناك ضواحي)؛ لقد بحثتُ عن قابلية مجتمعنا [لصنفٍ ما من ] الرحّل، لا يتنقلّون و[يبقون في] المكان عينه.
- نعم، ولكنك اقصيتَ في عرضكِ ما اسميته الداخلانية....
- انت تلعب على كلمة "داخلانية" ...
- رحلة من الداخل؟
- لقد قلتُ "رحلةٌ غير متحرّكة". انها ليست رحلة من الداخل،بل هي رحلةٌ فوق الجسد، رحلةٌ عند الضرورةِ فوق أجسادٍ جماعية.
- مايك تات : جيل دولوز، وإن كنتُ قد فهمتُك جيدًا، فأنت تعارض الضحك، الفكاهة والتهكّم مع الوعي الرديء. هل توافق ان ضحك كافكا، بيكيت ونيتشه لا يقصي البكاء عند هؤلاء الكتّاب، شريطة ان الدموع لا تكن تلك التي تتدفق من مصدر داخلي أو مستدخَل، ولكنها ببساطة انتاجٌ للدفوق فوق مساحة الجسد..؟
- بالطبع انتَ على حق...
- سؤالٌ آخر ايضًا. حين تعارض بين الفكاهة والتهكّم وبين الوعي الرديء، لا تميّز الواحدة عن الأخرى كما فعلت في منطق المعنى حيث الواحدة انتمت الى السطح والأخرى الى العمق. ألا تظن ان التهكّم يمكن له ان يكون قريبًا الى حد الخطر من الوعي الرديء؟
- لقد غيّرت رأيي في ما تعلّق بذلك. ان التعارض بين السطح والعمق لم يعد يهمني اطلاقًا. ما يثير اهتمامي الآن هي تلك الصلات بين جسدٍ مليء، جسدٍ من دون اعضاء، والدفوق التي تسيل.
- ألا يقصي ذلك الضغينة في هذه الحال؟
- آه طبعًا!



الاعلام الواردة:
1- دشايس: ناشط يساري ثوري فرنسي في سبعينات القرن الماضي، استلهم نيتشه في نصوص.
2-ميلاني كلاين (1882-1960) محللة نفسية فرويدية شهيرة.
3-دونالدز وينيكوت winnicott (1896- 1971) محلل نفسي انكليزي وزميل ميلاني كلاين، كان له أثر كبير في حقل نظرية علاقة الموضوعات والبيئة بالفرد.
4- طوف ميدوزا: -لوحة زيتية شهيرة (1818-1819) للرسام الفرنسي تيودور جريكو. اصبحت اللوحة بمثابة ايقونة للتيار الادبي والفني الرومانسي الفرنسي.
5- الاورينوك: نهر ضخم بين فنزويلا وكولومبيا.
6-موريس بلانشو (1907-2003) اديب وفيلسوف ومنظّر فرنسي, كان لأعماله تأثيرًا كبيرًا لعى مفكّري ما يُعرف بما بعد الحداثة من امثال دريدا.
7-جان لوك غودار (1930) مخرج ومؤلّف سينمائي فرنسي-سويسري، الوجه الأبرز في حركة "الموجة الجديدة" السينمائية.
8-جان فال Jean Wahl (1888-1974) فيلسوف فرنسي وجودي.
9-جورج باتاي :Georges Bataille (1897-1962) مفكّر واديب وفيلسوف وانتروبولوجي وسوسيولوجي فرنسي.
10- بيير كلوسوفسكي: Pierre Klossowski (1905-2001) كاتب وفنان ومترجم فرنسي من المتأثرين بنيتشه ودولوز وباتاي وفرويد.
11- جان فرنوسا ليوتار: Jean-François Lyotard (1924-1998) فيلسوف فرنسي وسوسيولوجي ما بعد حداثي.
12- سيزار بورجيا Cesare Borgia (1475-1507) قائد سياسي ايطالي، كان لصراعه السياسي من اجل الاستحواذ على الحكم الاثر الاكبر في ميكيافيللي وكتابه الشهير " الأمير".
13-ماكس برود: Max Brod (1884-1968) كاتب الماني يهودي اشتهر بالسيرة التي كتبها عن حياة صديقه الشهير فرانز كافكا.
14- ديونيزية: نسبةً الى ديونيزوس Dionysus إله الخمر والجنون والخصوبة والرقص والنشوة الدينية في الديانة الاغريقية.
15 - كلو ليفي شتراوس : Claude Lévi-Strauss (1908-2009) الانتروبولوجي الفرنسي الشهير.
16- الكسندر كوجيف: Alexandre Kojève (1902-1968) فيلسوف ورجل دولة فرنسي من اصول روسية وأحد ابرز شارحي هيغل ومجددي فلسفته.