ميتافيزيقيا المعاناة جياني فاتيمو


وليم العوطة
الحوار المتمدن - العدد: 7358 - 2022 / 9 / 1 - 02:25
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

ترجمة: وليم العوطة
المصدر:‏
‏ ‏https://www.journal-psychoanalysis.eu/the-metaphysics-of-‎suffering‏/‏


‎ ‎خلاصة
ينتقد الكاتبُ التقليدَ الغربي الطويل في تمجيد الألم الجسديّ والذهنيّ بوصفه وسيلةً مفضّلة في ‏تعلّم الحقائق الأساسية. تشكّل هذه المثلنة[الأمثلة] للألم والأسى، وللزهدِ عامّةً، جزءًا أساسيًا من ‏الميتافيزيقيا الغربية، وبوصفها كذلك فقد ألقت بأثرها على الطبّ الغربي والحقول الأخرى، بما فيها ‏التحليل النفسيّ. يمكن أيضًا توسيع نقد هايدجر للميتافيزيقيا الغربية ليطال أيديولوجيتنا الحالية في ‏الإنكار، وبمعارضتها يضع الكاتب قبولَ المرء بتاريخيته الجذرية.‏

هل صحيحٌ أنّ المرء يتعرّف أصدقاءه (نوعًا ما) في أوقات المعاناة؟ هذا، لعمري، رأيٌ شائعٌ ‏جدًا، وتعبيرٌ يُضرب به المثلُ عن حكمةٍ شعبية، كما يلخّص جيّدًا الكثير من الأفكار الميتافيزيقية ‏عن التوجّع ‏dolore‏ [الألم، والحزن]، والّتي، وتحديدًا بقدر ما هي ميتافيزيقية، لا فقط بالمعنى ‏الوصفيّ ولكن أيضًا بمعنى التخفيض التقييمي الّذي ينسبه هايدجر لها، تستحقّ أن يُعاد التفكير بها ‏و، ربّما، أن تُحرَّف، وتُتجاوَز ‏verwunden، كحال الميتافيزيقيا نفسها. إذا فكّرنا بذلك، قد نقول إنّ ‏المعاناة هي جوهر الميتافيزيقيا بحدّ ذاته، وأن لا ميتافيزيقيا من دون معاناة.‏
التعلّم بالمعاناة؟
لهذه العبارة معانٍ عديدة. لماذا يتعرّف المرءُ أصدقاءه الحقيقيين في أوقات المعاناة؟ من الواضح ‏أنّه لو وُجدَت حقيقةٌ ما لهذه الأطروحة فستكمن في الافتراض بأنّنا نعيش في عالمٍ أينَ الظهور ‏والواقع الأصيل متمايزان، وحيث يكون الألم هو ما يتيح لنا أن نعبر "من هنا إلى هناك"، على منوال ‏العبارة الأفلاطونية. يفضّل التقليدُ مصطلح الزهد ‏askesis‏ – السموّ الزهديّ – على مصطلح ‏المعاناة، ولكنّ جوهرهما، كما يبدو لي، واحدٌ. الزهدُ هو، وقبل كلّ شيء وفق المعنى الّذي اكتسبته ‏الكلمة مع المسيحية، معاناةُ الإنكارِ الّذي يلزم المرء تحمّلها من أجل بلوغ الفضيلة؛ وقد أضفى ‏القدماء على هذه الكلمة معنى التمرينات الشبيهة بتلك الرياضية تقريبًا، ولكنّ المسيحية أصبغت ‏عليها لاحقًا مضمونًا أخلاقيًا أشدّ كثافةً، ومتى ارتبط بفداء المسيح، كان تكفيريًا وتعويضيًا.‏
على أيّ حال، حتّى في أحاديثنا اليومية الأكثر ابتذالاً، يبدو واضحًا أنّ من "عانى كثيرًا" يستحقّ ‏احترامًا أكبر ممّن استمتع كثيرًا. يكشف شعار الحكمة الكلاسيكية المأساوية "تعلَّم بالمعاناة" أنّ كلّ ‏التقدير الايجابيّ للألم ليس مجرّد شأنٍ مسيحيّ، لدرجة أنّه، وبقدر ما يمكن للمرء أن يثور على ‏التعصّب الميتافيزيقيّ الّذي يتضمنّه هذا التثمين بالفعل، يبدو صعبًا عليه أن يحرّر نفسه منه كلّيًا. ‏تمامًا كما في حالة "الميتافيزيقيا" بالمصطلحات الهايدجرية. بالنسبة إلى هايدجر، لا يمكن التخلّي ‏عن الميتافيزيقيا مثل قطعةٍ من الملابس المهملة، أو مثل خطأ جرى تعرّفه وتبديده أخيرًا، ذلك لأنّ ‏الميتافيزقيا هي الشرط البدئي لتفعل تفكيرنا بحدّ ذاته، وهي تحدّد البنيةَ نفسها للّغة الّتي نستخدمها ‏لتحرير أنفسنا من تلك الميتافيزيقيا ذاتها.‏
على الأرجح، إنّ الديالكتيك الهيجلي، وفيه تكون التجربة "سلبيةً" دائمًا طالما تدفعنا إلى الصّدام ‏مع ما لا يكون كما نريده أن يكون أو توقّعنا أن يكون، هو نقطة الوصول القصوى للميتافيزيقيا ‏الغربية عن التوجّع [المعاناة].‏
‎ميتافزيقيا تكشف عن نفسها عبر الألم والمعاناة بوصفها، في المقام الأول، افتداءً معزّيًا، وإثباتًا ‏أعلى لإيجابية "الواقع" حتّى ضدّ طريقتنا في إدراكه. لا تشير واقعةُ أنّنا نعاني إلى وجودٍ أمرٍ ‏‏"خاطىءٍ" في الكينونة، بل فقط إلى كوننا مخطئين في اعتبارنا الكينونة على هذا النحو. إذا كان ‏على المرء أن يعترض على أنّ حتّى واقعة كوننا مخطئين في اعتبار المعاناة شيئًا خاطئًا هو ‏بالتحديد علامة على أنّه يوجد في الكينونة، مع ذلك، خطأٌ – خطأنا الخاصّ- فسينتهي المطاف ‏بالمرءِ إلى الوصول لعقيدةِ الخطيئة الأصلية، ومن ثمّ، ومرةً أخرى، فكرةِ ذنبٍ بإمكاننا إصلاحه ‏ويجب علينا فعل ذلك من أجل أن نعيد تأسيس أنفسنا في حقيقة الكينونة.‏
ذهنية "المعاناة" هذه أثرّت في الطبّ
هل أثارت هذه التجريدات شغف الفلاسفة واللاهوتيين فقط؟ نعم، ولا. تلخّص هذه التجريداتُ ‏وتشترطُ العديد من الأساليب التطبيقية – وكذلك الطبّية – لمعالجة الألم، في كلا العلاقات ‏المؤسساتية والخاصّة. يعرف كلُّ من خضع لعمليةٍ جراحيةٍ في الثلاثين سنة الماضية في إيطاليا ‏مثلاً، مدى نفورِ الراهبات-الممرضات من إعطاء قطرةٍ واحدةٍ من المسكّنات في الليلة الأولى التالية ‏للعملية الجراحية. بالتأكيد، توفرّت حصافةٌ بسبب المعرفة المحدودة بعلاج الألم، ولكنّ الحدود هذه ‏جرى تجاوزها في إيطاليا بوتيرةٍ أبطأ بفعلِ ذهنية "المعاناة" تلك، والّتي تغلغلت حتّى في أكثر العقول ‏علمانيةً.‏
حتّى اليوم، وليس في الأطر العلاجية الجسدية البحتة، ما زلنا نواجه المواقف ذاتها. إذا كانت ‏العلاجات الدوائية المكافحة للاكتئاب والأعراض النفسية والنفسجسدية الأخرى قد جرى تطويرها، ‏فلماذا يستمر اللجوء إلى العيادات التحليلنفسية؟ لأنّه حتّى أطروحة أنصار التحليل النفسيّ، وإن ‏كانت مقنعة، فإنّها تكون مشروطةً دائمًا بتحيّزٍ زهديٍّ-ميتافيزيقيّ: فقط تلك العملية المؤلمة(والطويلة ‏والمكلفة) الّتي تتطوّر في العلاقة التحليلية يمكنها فعلاً تحرير الذات، واكتشاف الأسباب العميقة، ‏والوعد بـ"شفاءٍ" أكثر استقرارًا. هذا الموقفُ المطبّقُ في علاج الإدمان على المخدّرات، وهو في إيطاليا ‏يُناط بمعالجين ذوي توجهّات دينية، يؤدّي إلى بناء إدمانٍ نفسيّ جديد لا يقوم سوى بالحلول محلّ ‏إدمان المخدرات السابق(ولم يسبق أبدًا للتماهي القديم للدين مع الأفيون أن كان حقيقيًا بالنسبة ‏للمدمنين كما هو الحال مع كل هذه الجماعات الدينية الكاريزماتية والعنيفة.) ‏
كلُّ ما سبق، وأكثر، يخطر على البال عندما نسعى للتفلسف حول المعاناة. ولكن، وبعد أن ‏اُثبِتَ، أو على الأقل اعتُمد على نحوٍ فرضيٍّ، أنّه توجد طريقة ميتافيزيقية لاعتبار الألم والمعاناة، ‏وأنّنا مشبّعين بها عميقًا، في كلّ من ذهنياتنا الفردية ومؤسّساتنا وعاداتنا الاجتماعية، ما الّذي يعنيه ‏أن نحرّر أنفسنا منها[أي الطريقة] عن طريق ذلك التحريف-الالتواء وهو، وممّا تعلمانه من ‏هايدجر(ولكن ربّما من نيتشه وشوبنهاور حتّى)، الطريقة الوحيدة الّتي نأمل بها أن نصرّف فورتنا ‏revolt؟
درسُ هايدجر
ما "لا يعمل" في الميتافيزيقيا من منظورٍ هايدجري هو فكرة وجودِ نظامٍ مستقرّ في صميم ‏الأشياء، بنية أزلية ضرورية(ومن ثمّ عقلانية بنفسها) مهمّتنا أن نعرفها ونفترض أنّها القاعدة(ولكن ‏حتّى هذا الأمر بالكاد يصمد: فإذا كانت واقعةً ضروريةً، لماذا إذًا تكون قاعدة؟ وقد سميَّ ذلك أيضًا، ‏وعلى نحوٍ غير ملائمٍ، "قانون هيوم": لا يمكن من واقعةٍ ما استخراج قاعدةٍ، فهذه، ببساطة، لا معنى ‏لها). بالنسبة إلى هايدجر في [كتابه] "الكينونة والزمن"، ينطوي التفكيرُ بطريقةٍ "موضوعاتية" ‏بالكينونة الحقيقية على أ) أنّ تاريخية الوجود الانسانيّ "لا" ينبغي ب) على نحوٍ أصيل أن تعني ‏خروجًا من هذه التاريخانية، وأن تمتثل لنظامٍ عقلانيّ ضروريّ؛ ج) ومن ثمَّ أن تميل إلى تخطيط ‏مجتمعٍ معقلنٍ ينفصل عن الشروط الفردية-وهو مجتمع أسماه أدورنو حينها "التنظيم الشامل"، ‏وصوّره [تشارلي] تشابلن في [فيلم] "الأزمنة الحديثة". هذه هي الموضوعات الوجودية والطليعية ‏لبدايات القرن العشرين الّتي ألهمت هايدجر، والّتي شرّعت، لديه قبل أي مفكّر آخر، الجدال ضد ‏الميتافيزيقيا.‏
التاريخانية، أي انفتاح الوجود البشريّ وتعذّر اختزاله إلى بنية أزلية لكينونةٍ حقيقيةٍ (‏Sein‏) لأنّها ‏ثابتة، تعني، ورغم ذلك، الفناء. هكذا وبالمختصر: قد يتطلّب اعتبارٌ غير ميتافيزيقيّ للمعاناة اعتبارًا ‏غير ميتافيزيقيّ للموت. هذا ما سعى هايدجر إلى استكماله حين وضع، في عمله الصادر عام ‏‏1972، وفي محور عقيدته الخاصّةِ فكرةَ "الكينونة من أجل الموت"، والترقبَّ المقرَّر لموت المرءِ ‏الخاصّ كمفتاح للوجود الأصيل. طالما أنّ العالَم يقدّم نفسه كعالَمٍ بعينِ الكينونة البشرية فقط، في ‏‏"مشروعه المقذوف"(وهذا مكسبٌ كانطيّ بالفعل)، وطالما هذا المشروع متناهيٌ بالتحديد، إذ يولد ‏ويموت، فعلى المرء أن يفكّر بأنّ الكينونة ليست بنيةً أزليةً معطاةً لمرةٍ واحدةٍ إلى الأبد، ومتموضعة ‏قبل الذهن الّذي يمكنه، عبر الزهدِ، أن يراها؛ بل، بالأحرى، إنّه حدثٌ يحصل على نحوٍ تاريخيّ.‏
‎‏ في منظورٍ كهذا، المعاناة والموتُ – وهما مصطلحان يمكن النظر إليهما على نحوٍ معقولٍ ‏كمترادفين تقريبًا: فالمرء يعاني دومًا من الفناء، ولأجله؛ وحتّى الاعتلال الجسديّ يكون علامةً على ‏الفناء، ونتيجةً وعارضًا له – يكونان منيعين وغير قابلين للاسترداد. لا يمكن تفسيرهما أو تبريرهما، ‏لأنّهما لا يوصلان إلى أيّ حقيقةٍ خالصة. على العكس من ذلك، هما ما يحرراننا من العبودية ‏والضغينة أمام كلّ حقيقةٍ خالصةٍ (قانون الكينونة، الربّ كخالقٍ أو كحاكمٍ، القدر الطالح...الخ). ‏فكّروا بجواب يسوع بخصوص الصبيّ الّذي وُلد أعمى: "لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ ‏فِيه‎.‎‏"، وهذا ما يجب أن يُفهَم بمعنى الاحتمال المطلق، إذ لا يوجد سببٌ، ولا حتّى إرادة إلهية ‏غامضة للمعاناة.‏

‎ ‎أبعد من ميتافيزيقيا المعاناة
هكذا، تركنُ الأسسُ إلى مفهومٍ مزدوجٍ غير ميتافيزيقيّ وإلى علاجٍ للمعاناة. من ناحية أولى ، لا ‏كرامة للمعاناة، ولا تستحقُ احترامًا بما هي كذلك، فهي وببساطةٍ ما يحصل، ولأنّها على هذا النحو ‏تكون دائمًا حادثةً غير مرغوبةٍ(على عكس تلك الحوادث الّتي ننتظرها ونرغبها، مثل اللّذة ‏والنجاح..إلخ)، وحادثًا محضًا، بكلّ ما للكلمة من معنى، [أي] الحدثُ المطلق ‏schlechthin، ‏والمحضُ والبسيط. (كتب سارتر بعض الصفحات الجميلة عن الموت مفهومًا كحدثٍ بلا معنى، ‏معتقدًا، وربّما على نحوٍ خاطىءٍ، أنّه هكذا ينتقد هايدجر). يوجد التاريخ وينمو طالما الموت لم ‏يُقبِل، ومن ثمَّ كذلك طالما يفلح المرء في الحدِّ من سلطة المعاناة. لا يوجد بمواجهة المعاناة ما يمكن ‏عقلانيًا القيام به سوى محاولة إقصائها.‏
من ناحيةٍ أخرى، تظلّ كلّ أفكارنا التقليدية عن المعاناة، بمعنى محوَّر، تبدأ بتلك الفكرة الّتي ‏تربطها بالصداقة. المعاناة الوحيدة الّتي تستحق الاحترام هي معاناة الآخر، وعليه، موت الآخر هذا. ‏هاهنا ربّما تكمن حقيقة المثل الشعبيّ عن المعاناة والأصدقاء، ولكن أيضًا حقيقة "التعلّم بالألم" ‏pathei mathos‏. في المعاناة والموتِ، وعبر الخوف الّذي يثيرانه يتعرّف المرء ما يعاكس تناهيه ‏الخاصّ؛ ليس لأنّنا نواجه كائنًا متعاليًا وجبّارًا على نحوٍ أساسيّ، وعنيفًا يقف قبالتنا مثل جدارٍ من ‏الغموض، فارضًا نفسه كسلطةٍ علينا القبول بها(دائمًا ما يظلّ الواقع للكثيرين ذلك الّذي "يصطدم به ‏المرء") من دون ادّعاء فهمه. بالأحرى، التناهي هو الوجود مع الآخرين، واكتشاف آخريةٍ لا يمكننا ‏تخطّيها.‏
لذا، حتّى وإن لم يبدُ الأمرُ صريحًا في النصّ، فإنّ القرار المتوقَّع للموت الّذي ينفتح على وجودٍ ‏أصيلٍ، على ما قال هايدجر في الكينونةِ والزمن، ليس سوى قبول المرء لتاريخيته الجذرية الخاصّة: ‏نشأنا من أمواتٍ وسنترك مكاننا لأمواتٍ آخرين، وتكون مسؤوليتنا – مستجيبيتنا ‏responsiveness‏ ‏موجهّة نحوهم؛ [إذ] يلزمنا أن نستجيب للرسائل والقيَم الّتي تركها لنا أسلافنا أو من هم معنا في هذا ‏العالم، ويجب علينا أن نستجيب لهؤلاء الّذي يخلفوننا. إنّ الصفحات الموحية والملغَزة جدًا المستقاة ‏من تقاطعات الغابة ‏Holzwege‏ (1950)، والمخصّصة لـ"شذرة آناكسيمندر"- "يجب أن تدفع ‏الأشياء الغرامة على إجحافها، وعلى بقائها كائنة بدل أن تتيح للآخرين أن يكونوا، بأن تترك لهم ‏مطرحها وفقًا لنظام الزمن"- يجب ربَما أن تُقرأ تحديدًا بهذا المعنى، بالرغم من أنّنا نسمح لأنفسنا ‏بحرّيةٍ تأويليةٍ ما، تجاه كلاّ من آناكسيمندر وهايدجر نفسه. ليست الكينونة غير ضربٍ من أخذِ ‏مطرحٍ ودفع الغرامة.(هل هي زهيدةٌ جدًا؟ ولكن حقًّا، ولنستحضر جاليليو، ألا يكون التفكير بالأجرام ‏السماوية بوصفها صخورًا ثابتةً تفتقر إلى الحياة والموت، وبلا أي مستقبلٍ، أفضلَ أو أكثر توقيرًا من ‏تصوّرها بالمقابل كأماكن تشبه أرضنا حيث يولد المرء ويموت ولأيٍّ كينونة؟)‏
هكذا، من الصحيح أيضًا أنّه في المعاناة يتعرّف المرء الصديقَ، وأنّ المعاناة "تكمّلنا"، ويتعلّم ‏المرء عبرها، وأنّ من يعاني أو من عانى يستحق الاحترام قبل كلّ شيءٍ من أجل معاناته هذه. ‏للكفاح ضدّ المعاناة، أو، وهو الأمر عينه، للبحث عن السعادة، حدٌّ واحدٌ فقط: تحديدًا، التضامن مع ‏الآخرين، واضطلاع المرءِ بتناهيه الّذي يقوده إلى ألاّ يفسح بالمجال لعجرفةٍ ‏hybris‏ ، ولغطرسة من ‏‏"يُأطلِق" ‏absolutize‏ نفسه، ومن ثمَّ يعرّضها لكلّ التضمينات العنيفة للميتافيزيقيا. تنطوي هذه ‏التضمينات على الضغينة في ألاّ يكون المرء غير فانٍ، وعلى الشدّة الخاصّة الّتي تصيبه بها أيُّ ‏معاناة. في الواقع، يمكن للمعاناة أن تَظهر فقط للمرء بوصفها ما ترغب به سلطةٌ غامضةٌ وشرّيرة ما ‏ضدّه.‏
يوجد معنىً آخرٌ لقول آناكسيمندر، من وجهة نظرٍ لا تأبُّ ‏nostalgize‏ رومانتيكيًا إلى الإغريق ‏ولكنّها تعي المعنى التعويضيّ للمسيحية، يجب أن يُستعاد هنا: معارضةُ لأيِّ "ذهنية معاناة" ‏ومأساوتية ‏tragicism‏ (ممتعضة) تتفشّى في الثقافة الحالية لخيبةٍ من فشل الثورات. إنّ الغرامة ‏المدفوعة، وفقًا لنظام الزمن، بأن يترك المرء مطرحه في العالم لهؤلاء الّذين سيخلفونه، هي كلّ ما ‏يُطلب منّا من أجل أن نكفّر عن ذنبنا(المحتمل). أيّ تمجيدٍ آخرٍ للتوجّع وأيّ تقديسٍ للمعاناة هو ‏مجرّد ذريعة، غالبًا ما تكون تسلطّية صريحةً، من أجل استئناف أساسٍ هو، في إطلاقيته، لا يفعل ‏سوى أن يديم – مثل الزهدِ، والعقوبة، ومثل البحث عن أصالةٍ مفترضةٍ – العنفَ الّتي تكون المعاناة ‏مظهره، وأثره وسببه.‏