كورنيليوس كاستورياديس - مقتطف من -الردّ على ريتشارد رورتي-


وليم العوطة
الحوار المتمدن - العدد: 6493 - 2020 / 2 / 17 - 15:45
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

ترجمة عن الفرنسية : وليام العوطة

كورنيليوس كاستورياديس: فيلسوف، محللّ نفسي وأحد الوجوه الفكرية الفرنسية اللامعة. يونانيّ الأصل، وصل الى باريس 1945 وأسّس مجلة "اشتراكية أو بربرية". نشر مع إدغار موران و كلود لفور "أيار 68، الصدع". في نهاية السبعينات من القرن الماضي، انضم الى مجلة "الحر". إلى جانب مؤلفه الرئيسي "المؤسسة الخيالية للمجتمع" (1975)، وضع كاستورياديس مجموعة من المؤلفات الأساسية تم تجميعها في سلسلة بدأت عام 1978 تحت عنوان "تقاطعات المتاهة".





أريدُ أن أبدأ بالإعراب عن إحراجي للردّ على عرضِ ريتشارد رورتي . أولاً، لما أختزنه من مودةٍ له في الوقت الّذي لا أوافق أبدًا على ما يقوله، وهذا ليس بالموقف السهل! ثانيًا، لا أتعرّف على نفسي بالمرّةِ في هذه الـ" نحنُ" الملكية أو تلك الـ"نحنُ" من جلدِ الذات الّتي يستخدمها في عرضه من أجل تصنيف المفكّرين. ومَن يعرف القليل عمّا أكتب سيفهم ما أريد قوله. ثالثًا وعلى وجه الخصوص، ولأنّ عرضَه، خلف السذاجةِ الظاهرة، المثير للتساؤل، يطرح مجموعة من القضايا مع فرضيات مسبّقة عمّا هي الفلسفة أو تاريخ الانسانية التي لم تثر لديه بشكلٍ جليّ أسئلة يناقشها جدّيًا في ثلاثة أرباع الساعة - ولا يوجد في موضعٍ آخر تأسيسٌ ممكنٌ لهذا النوع من النقاش – ولكن التي تحيل إلى ما كتبه في مكانٍ آخر. لا فائدة من الردّ عليه بسلسلة متناظرة من الاثباتات تستندُ على ما قلته وكتبتُه: لن يجد الجمهور فيها سوى تعارضًا بحتًا بين مجموعتين من الطروحات. فضّلتُ إذًا حصرَ مداخلتي في بعض النقاط التي أجدها، كما يُقال، استراتيجية، و التي، ربّما، أثارت بالتحديد حساسيتي السياسية – الفلسفية.
النقطة الأولى حول مفهوم التاريخ الّذي يحاربه رورتي (وأيضًا إرنست لاكلو ، بحسب ما فهمت ولو أنّي لم أقرأ كتابه). هذا المفهوم الّذي يرى في تاريخ البشرية دربًا نحو الخلاص كان و يبقى عبثيًا، مهما كان الشكل الّذي يعطيه هيجل، ماركس، آباء الكنيسة أو أوغسطين لهذا الخلاص. بين هلالين، لم يدر بخلد أفلاطون أو أرسطو يومًا ما أننا موعودون بمستقبلٍ مشرقٍ، - ولا أذكر هذه المعلومة لكي اقصيهما عن دائرة إدانة الفلاسفة. نعلمُ جيدًا أينَ، متى و أين وبواسطة ماذا تبدأ هذه الحكاية - أي هذه المواقف التي نكتشف الآن أنّه يتعيّن محاربتها. نعلمُ أيضًا أنّ كلّ هذا يجد شكله الناجح في النسق الهيجيلي. في نسخته المبتذلة، للتاريخ، ببساطة، معنىً ما. هكذا اتّهم سارتر كامو بأنه لم يرَ بأنّ التاريخ يمتلك معنى، بأنه يتجّه....إلى بانيوليه Bagnolet ، إلى بورت دو ليلاس Porte-des-Lilas ، ولا أعلم أيَّ خطٍّ للمترو كان يأخذ! في القراءة الوحيدة [لهيجل]، من وجهة نظري، التي يجدر فيها أن يُقال أن التاريخ له معنى [هي التي تعتبر أنّ] التاريخ هو لوغوس، هو لحظةُ في التحقق الذاتي للروح. ولكن، أعتقد أنّ هذا الأمر، وهو بالنسبة للبعض، واضحٌ منذ زمنٍ بعيد، أنّ هذه العبارات عبثية: ليس للتاريخ معنى أو لم يعد للتاريخ معنى أكثر من حقل الجاذبية الّذي يزن 14 كيلو. ففي حقل الجاذبية يزنٌ شيءٌ ما 14 كيلو. وعلى نفس المنوال التاريخ هو الحقل، فيه ومن خلاله ينبثق المعنى، الّذي يصنعه البشر. ومن العبث، بالمعنى الحرفي للكلمة، أن نحاول أن نجد معنىً للحقل حيث ينبثق المعنى ومن خلاله ينشأ.

الآن، إذا كانت هذه المحاولة، التي تبدأ فعليًا مع الوضعية العبرية ومن ثمّ استرجعها المسيحيون، ليست سوى يونانية، يجب مع ذلك أن نرى جيدًا كونها ليست سوى تحققًا، في الحقل التاريخيّ، لفرضية فلسفية أكثر عموميةً، أي تلك التي تعتبر أن للكينونة معنى. وهذه الوضعية هي التي تشاركها اغريقيو الانحطاط،أي أفلاطون و أرسطو. بالنسبة لأفلاطون، وأبعد من المثل والجواهر، هناك الخير، مصدر الكينونة؛ كما تملك التراتبية الارسطية للطبيعة Phusis، برغم من لاكمالها، معنىً أو هي معنى، وعاشقة للمعنى الأعلى المفكّر بذاته، أي الفكر الّذي يفكّر. وهكذا فالفلسفة، التي خُلِقت في الأصل لتقلب اللاهوت أي المخيال الديني الممأسس وفحواه أن الحقيقة تأتي من مكانٍ آخر، تحوّلت هي نفسها، عن طريق تلك المسلّمة التي ترى للكائن معنى، الى شكلٍ من اللاهوت، مدّعيةً أنها تمنح البشر معنىً شاملاً يضمن لهم أجوبةً مرضيةً على ثلاث مستويات من التمثيل، والانفعال والممارسة أو الحدس: ما هو صحيح، ما هو جيّد، وما يجب القيام به. نتعرّف هنا على آغاثون الأفلاطوني: الجيّد، المرغوب به، وفي الآن عينه ما يجب أن نريده. وسوف تستمر هذه الخديعة حتّى هايدجر.
حسنًا، فلنردد بالصوت العالي: الكينونة ليست معنى، الكينونة لا تملك أيَّ معنى! ببساطة، هناك بعدٌ للكينونة، للوجود الكلّي، حيث سنجد معنىً مختزلاً. هذا ما أسمّيه المعنى المجموعوي-الهوَوي le sens ensembliste-identitaire: المجمهوي l’ensidique. إذا أضفنا عنزتين إلى عنزتين، أو طاولتين إلى طاولتين، فسنحصل دائمًا على أربع عنوز و أربع طاولات. أمّا إذا تكلّمنا عن أربعة مكعبات من الثلج، فخلال نصف ساعة لن يكون بحوزتنا المكعبات الأربعة بل الماء، ويجب بالتالي أن نلجأ إلى قانونٍ للتحوّل أكثر تعقيدًا من أجل أن نجد معادلةً بين المكعبات الثلجية والمياه. وراء هذا المعنى المختزَل، أحدٌ لم يبرهن أبدًا أن الوجود الكلّي يملك ما نسمّيه معنىً. ومن المسلّي أن نجد شخصًا مثل هايدجر يأخذ على الفلسفة التي سبقته أنّها لم تبحث عن معنى الموجودات Sinn des Seins من دون أن يطرح سؤالاً ثانويًا واحدًا: ما الّذي يمكن أن يكون هذا المعنى للموجودات خارج تأويل مصطلح الوجود Sein في اللغة الفلسفية (التي تبدأ مع أرسطو؟) ؟ وفي أية لغةٍ يمكن لهذا المعنى للمجودات أن يقال؟
لكي ننهي هذه النقطة. إقتبس رورتي جملةً من لاكلو تفيد بأن أطروحة نهاية التاريخ صحيحة بمعنى أن التاريخ يبدأ الآن. لا يمكننا إلاّ أن نبتهج لأن لاكلو، كما يبدو، قد فهِم ما كان عليه التاريخ دائمًا. يبقى الجوهري والبديهي: لم يكن التاريخ يومًا ولن يصبح أبدًا قابلاً للإحاطة. الطبيعة أيضًا ليست كذلك، فلماذا يصبح التاريخ وهو الّذي يفترضُ مسبقًا الطبيعة، قابلاً للإحاطة؟ وإن وُجِدَ التعقيد، فإن التعقيد التاريخيّ لا يمكن له أن يكون إلاّ أكبر بشكلٍ لامتناهٍ. لماذا؟ لأن ما أسميه إبداعيةَ الكينونة بشكلٍ عام تتمظهرُ في التاريخ بتوسّطِ حرية البشر، واللاتحديد l’indétermination النفسيّ في البدء، وحتّى بتوسّط لاتحديد الفرد الواعي.
أصل الآن إلى بعضِ المقولات المغلوطة تمامًا، كما أعتقد، في ما يخصّ الفلسفة. لا أشارك البتّة الفكرة التي تقول أن الفلسفة عبارة عن سرديات متعاقبة. ميتافيزيقيا أرسطو ليست سردًا، ولا هو أيضًا "نقد العقل المحض". نجدُ هنا مزيجًا مشروعًا ممّا أراده بعض فلاسفة التاريخ مع ما هي الفلسفة بحد ذاتها، وذلك كمحاولة لإيضاح ما هو معطى. كما أنني لا أعلم ماذا يدور في خلد لاكلو حين يقول لنا أنّ بمقدرونا الآن الحصول على مفهومٍ أكثر ماديةً من مادية ماركس. لماذا علينا أن نملك مفهومًا أكثر أو أقل مادية من مفهوم ماركس؟ بالمناسبة، أجهل ماذا يعني مصطلح المادية – كذلك أيضًا مصطلح المثالية! هذه مقولات ميتافيزيائية خالية تمامًا من المعنى، والنقاش بهذا الخصوص كان يلزم أن ينتهي منذ زمن بعيد. إن عنينا بالماديّ ذاك "الذي يفتقر إلى بعض الترسيمات الخيالية أو السيكولوجية"، فحسنًا، إذن لماذا نتحدّث عن المادية؟
المادية، كما نعرفها في تاريخ الفلسفة، وماركس فهمها بجلاء، ليست سوى ترسيمة خيالية للجوهر أو لجوفِ الكينونة، والذي هو مادة. ولكن ماذا نعني بهذا؟ فلنتذكر المحاولات اليائسة للفقير لينين، في المادية والمذهب النقدي التجريبي: المادة هي في المقام الأول قطعٌ صلبةٌ من الأشياء، نُشارة الخشب مثلاً. ولكن ماذا بخصوص الالكترونات، وكل تلك العناصر الأوّلية التي تجعل من مفهوم المادة غير قابلاً للإدراك تقريبًا؟ آنئذٍ، يعود لينين إلى الطاقة. ومن ثمّ ماذا؟ ما هي الطاقة؟ لو قلنا هنا أن الشيءَ المهمّ في الهوى Passion ، بحسب سان ماثيو ، هو أن تكوينه و تنفيذه ينطويان على طاقة، فشكرًا جزيلاً! ولكنّ هذا لا يساعدنا كثيرًا. يستلزم الأمر طاقةً، ولكن بمعنى مجازيّ تمامًا: ماهية الهوى لا تكمن هنا.
أخيرًا، أعارض بشكلٍ كلّي تلك الطريقة التي اختزل فيها رورتي تاريخ الانسانية منذ 25 قرنًا إلى سردٍ لتاريخ الفلسفة. ليس تاريخ الانسانية تاريخ أخطاء أفلاطون، ديكارت، هيجل، و كانط...الخ وهنا بالتحديد العيب الهيغيلو-هايدغرو-هابرماسي - الهاءات (هــ) الثلاث إن أردتم، أو الأربع مع هوسرل حين يتحدّث عن الانسانية الاوروبية – [العيب] الّذي يستبدل التاريخ الفعلي بتاريخ الأفكار. ولا يمكننا سوى أن نتذكر الختيار الفقير ماركس... ليست الأفكار سوى انعكاساً للتاريخ، حتى لو كان جزأه الأخّاذ. فهي تسود غالبًا أفعال البشر في مجتمعاتنا المسمّاة "متطوّرة" – وهي صفة أمقتها - لأنها تأخذ مكاناً تزداد أهميته في المخيال الاجتماعيّ السائد أو في المخيال الاجتماعي النقديّ. إذا كان الاغريق قد أنشأوا المدن وبدأوا النضال الديمقراطي، فهذا ليس لأن روسّو اغريقيّ تدخّل ليقول لهم :" الإرادة العامة كذا و كذا..." لقد تشكّلوا في تجمّعات ديمقراطية، وفي هذه التجمّعات الديمقراطية أصبحت الفلسفة ممكنة من حيث هي تشكيك بالمؤسسة الخاصة بالمجتمع.
كذلك، إن كان الغرب يعيش منذ قرنين في نظامٍ ليبرالي نسبيًا، فذلك ليس لأن هذا الفيلسوف أو ذاك كتب هذا الأمر أو غيره. في هذا التاريخ، لم تكن فلسفة الأنوار، مثلاً، سوى التعبير – وليست الانعكاس أو التسامي – عن أقسامٍ من الخيال الجديد الّذي ظهر في الحياة الفعلية للمجتمع و الّذي سوف يتفجّر في الواقع مع الثورة الاميركية، الفرنسية، وحركة العمّال الانكليز منذ 1800...كلّ هذه النضالات الشعبية اختفت في تاريخ الافكار التي يرويها لنا هيجل، هايدجر، وحتّى هابرماس. ومن أين تأتي هذه الانظمة الشمولية المتوحشة لقرننا العشرين؟ يمكننا القول، طبعًا، أنّ لينين هو من اخترع الشمولية، ولكنّ لينين ظهر كلحظةٍ في تاريخ الأممية الثانية، أي الحركة الماركسية. ولكن، ماذا كانت هذه الحركة؟ أحد التيارات فقط، وفي نهاية المطاف نوعًا من المصادرة لشيءٍ أكبر بكثير: الحركة العمّالية. هذه لم يخترعها أفلاطون، أرسطو أو روسّو...ولكن التي صنعها العمّال بأنفسهم، في نضالاتهم ومطالبهم التي بمقدورنا أن نناقشها ونعيد النظر فيها، ولكن التي كان جوهرها بالأساس صائبًا. ومن دون تلك الفتوحات العمّالية، لم يكن للرأسمالية، للمجتمع المعاصر "الليبرالي" أن يصبح ما أصبح عليه. كيف كان له أن يصبح؟ لا أعرف. ربّما شكلاً من الرأسمالية على الطريقة اليابانية. لأن الرحلات الأخيرة لرئيس وزرائنا "إديث كرسّون" بخصوص اليابانيين لا تجعلني أتخلّى عمّا قلته منذ سنوات، منذ أن عرفت اليابان: تحت قشرة مؤسساتية من أصلٍ أميركيّ بالكاد تحوّلت، تبقى دائمًا اليابان الامبراطورية الاقطاعية التقليدية نفسها، باستثناء أنّ مواقع الحاشية القديمة قد استولى عليها البيروقراطيون الدولتيون واصحاب الأعمال كما الاوليغارشية السياسية للحزب الليبرالي الديمقراطي، الوحيد الّذي كان على رأس السلطة حتى اللحظة. وإن كان المجتمع الغربي لم يصبح على هذا النحو، فلأنّ صراعات [الحركة العمّالية] معه واضراباتها وحربها ضده لم تتوقف لأكثر من قرنٍ حتى 1936 ضمنًا وبعدها أيضًا. لقد سمحت الحركة العمّالية للماركسية أن توجد في التاريخ، وليس العكس – حتّى لو بدا أن الحركة أمست اليوم مرهقةً، كما فكّرت وكتبت منذ 1960.

لم يعد بمقدورنا، في خضّم مشروعٍ لتحويل المجتمع، أن نمنح المسيّا [المخلّص] البروليتاري الدور المتميّز والسيّاديّ الّذي أعطاه ماركس في لاهوته التاريخيّ. لا يوجد مخلّص، وليس للبروليتاريا أيّ امتيازٍ. بشكلٍ أعمّ، كذلك ليس للفقراء بما هم فقراء أيّ امتيازٍ سياسيّ. يمكن لهم جميعهم أن يكونوا بكل بساطةٍ طبقة هدّامة subversive – ولكن ماذا تهدم؟ - بقدر ما يمكن لهم أن يتحوّلوا الى فريسة سهلة بين أيدي الديماغوجيين الستالينيين أو النازيين. بالنسبة لماركس، إن إمتلكت البروليتاريا دورًا ما، فليس بسبب التفقير والبؤس فحسب، بل بفعل الأنماط الجديدة من الجمعنة socialisation التي فرضها المصنع الرأسماليّ: البروليتاريا شكّلت إذاً طبقة جديد من الناس، مع ردود الأفعال والتصرفات الاجتماعية الأخرى، تميل الى أن تنتظم ذاتيًا لقطفِ ثمار مطالبها. ما يُظهِرُ لنا، بالمناسبة، كيف فهِم سارتر، تبعًا لعادته، ماركس والماركسية حين أراد، مع فرانتز فانون، أن ينقل دور البروليتاريا الى فلاحّي العالم الثالث. ربما استطاع هؤلاء إنقاذ البشرية. لا أعلم ولا أرى أن ذلك آتٍ. لا يمكننا، بأية حال، دمجهم بالقوّة في الترسيمة الماركسية لجمعنة، هي تارةً سلبية وتارةً أخرى ايجابية، ضد رأس المال، والتي تطرحُ أساسًا أشكالاً جديدة من التعايش الاجتماعيّ - أن "نكون معًا"، كما نقول اليوم – وهذا العنصر الأخير هو الّذي صنع أهمية الحركة العمّالية.
وحول مسألة السياسة، أريد أن أسجّل اعتراضي الشديد على فكرة أن غرض السياسة هو التقليل من البؤس وتحقيق السعادة...


المصدر:
Cornelius Castoriadis
Copyright : Editions du Seuil
http://www.castoriadis.org/fr/readText.asp?textID=36
Extrait du texte "Réponse à Richard Rorty"