سهرة رأس سنة في أمريكا - أنت كما تحلم أن تكون 11-


لمى محمد
الحوار المتمدن - العدد: 7480 - 2023 / 1 / 2 - 02:34
المحور: الادب والفن     

تحكي الأساطير أن الله خلق الإنسان وفيه من قوته، لكن الناس تجبرت، نافقت، وظلمت، فقام الله بتغيير الوصفة، خلق الإنسان وفيه من روحه، و وضع القوة في الروح..
هكذا حصل على القوة العظيمة فقط من تعامل مع الحياة بروح الله فيه…
*************

أين نسهر في رأس السنة؟ وفي كل عام خيبات جديدة.. هذه هي الحياة، نعلم هذا، لكن ما لا تعلمه أن السنة تتميز بخيباتها و فقدانها أكثر مما تتميز بنجاحاتها..
ستقولون هذا كلام متشائمين، لكنه في الطب النفسي: طبيعة البشر أن يقوموا بالتركيز على ما أحزنهم أكثر بكثير مما فرحوا به.. الحزن يدق الوشم عميقاً في عمق جدار القلب، بينما يطير الفرح فوق القلوب كغيمات صيفية…


بعد كثير من الأخذ والرد، قررنا أن نسهر وبعض الأصدقاء في مطعم شرقي، لم أسهر في مطاعم شرقية منذ أكثر من عشرة سنوات.. ويا ليتني ما فعلت.

بدأت الحفلة في العاشرة، المطعم كبير لكنه صغر بعدد الطاولات التي اقتربت من بعضها لتكتظ بالمدخنين.
في أمريكا تنسى رائحة الدخان لأنه من الممنوع أن تدخن في الأماكن المغلقة، أما في تلك السهرة العتيدة، فتملأ رئتيك بالدخان وكأنهما معامل لحرق أنفاس الآخرين.
تسمع صوت السعال كموسيقى تصويرية في المكان.. لا تعقدونها ما نفع الحكاية بلا موسيقى تصويرية…

أجهزة الهواتف المحمولة على الطاولات.. الرسائل تطل منها على الجميع:

-شكراً على دعمكم لنا، الوضع في البلد بشبابيك على جهنم…
-تعرفينهم هم لا يرقصون، وإذا لم يعجبهم الوضع يصبحون بشخصيات تعرفينها…
-اشتقنا لكم كثيراً، السهرات هنا لا تحلو من دونكم، شكراً على النقود…

جاء المطرب، يبدو لطيفاً، وصوته جيد.. لكنه تقريباً لم يترك أغنية دون : أهل فلسطين، سوريا، العراق، لبنان ..
-ما علاقة القضايا العربية بهز الوسط؟
-لها علاقة بهز الذكريات و زبد المشاعر…

يفترض أن تكون الأجواء الاحتفالية للترويح عن النفس بضع ساعات في العام، فكيف تتحول بقدرة طبول مزيفة إلى تذكارات معاناة؟ في الطاولة خلفنا بكت إحداهن وهي تتذكر موت عائلة أخيها عندما بدأ المطرب:
-سوريا .. تحيات لسوريا العظيمة، أين السوريون؟ إلى ساحة الرقص..؟

-هل نريد الحياة في قواقع من التناسي.. أو أبينا أن نعرف للفرح طعماً دون ربطه بحدود وضعها الاستعمار في البعيد؟
هل يحتاج الرقص والهز إلى إطار.. أم أننا شعوب لا تتقن إلا اللعب على المشاعر.

في مقتطفات لطيفة وضعوا أغاني من دون متعلقات وشعارات تدعيّ الوطنيّة.. رقصتُ مع عائلتي، الأغاني الطبيعية تخدم في لحظات من الفرح.. قالت ابنتي:
-لماذا لا يكملون السهرة هكذا؟
فأجابتها إحداهنّ:
-المطرب يحسّن “الجو”
اقتربت ابنتي مني وقالت:
-ماما هي تمطر في الخارج؟ هل تقصد الجو في سوريا؟


قرابة الساعة الثانية عشرة توالت المعايدات والناس يحتفلون.. على الجوالات رسائل تختصر حكاية زمان.. زمان واحد وأمكنة متعددة، ما يقوله الطب النفسي أن الزمان الواحد يصنع معاناة نفسية متشابهة، بغض النظر عن المكان:

-فستانها قصير جداً.. وتلك فستانها كأنها هاربة من “ضيعة ضايعة”…
-يريد ابني الهجرة، هل يمكنك مساعدته؟
-لا يمكن الحياة هنا بعد اليوم، هل من الممكن أن تساعد في مصاريف السفر؟
-ابنة صديقي مريضة، هل من الممكن أن تتكلموا معها وتنصحوها؟
*************


كان للطعام حكاية أخرى، لا أدري إن كنتم تعرفون أن الطعام العربي في أمريكا غالباً غير جيد، في حالات قليلة ومطاعم أقل يكون للطعام العربي طعماته الحقيقة، باختصار ليست حال أغلب الحفلات..
هنا يسمون “ ماك دونالد” و من لف لفه من المطاعم الأمريكية المشهورة حول العالم، بمطاعم ال junk food (جنك فود)
لكونها رخيصة الثمن مقارنة بباقي المطاعم، وكون المحتوى الغذائي معد من الأطعمة المجمدة والمعلبة، وبالتالي هو غير صحي و ممتلئ بالدهون غير الحميدة المضرة بالصحة…

للمفاجأة: طعام كثير من المطاعم العربية هنا، يمتلئ بالدهون المضرة، يصنع من الأطعمة المجمدة والمعلبة، لكنه باهظ الثمن، يعني “جنك فود” غالي الثمن…

باختصار الطعام في هذه الليلة يحكي قصتنا في الرقص مع الحضارة الأمريكية.. في أحسن الأحوال ليس لدينا الوقت للطبخ ونشر ثقافاتنا الجميلة، فنذهب لحفلات تستوردها معلبة.. تضيف عليها من حدود الاستعمار و تملحها بمشاعر تدعيّ الوطنية.. فتصير الحفلة مكاناً لكل شيء غير الفرح الحقيقي النابع من القلب والذي يريح النفس…
تصير الحفلة كحكاياتنا التي إذا ما تخلت عن بساطة أرواحنا وحقيقة مشاكلنا تتعلب تتجمد أو في أحسن الأحوال تتعفن…

*************
أما عن رأس السنة، وعن العام الجديد، فأعود إلى وصفتي القديمة: السهر في مكان نستطيع التحدث مع بعضنا فيه، الرقص جميل كتوابل للحفلات، لكن حتماً ليس كوجبة رئيسة، إلا لدعاة (الجنك فود).

كل عام وأنتم تتعاملون بأرواحكم بعيداً عن زيف كثير من الحفلات.

تحكي الأساطير أن الله خلق الإنسان وفيه من قوته، لكن الناس تجبرت، نافقت، وظلمت، فقام الله بتغيير الوصفة، خلق الإنسان وفيه من روحه، و وضع القوة في الروح..
هكذا حصل على القوة العظيمة فقط من تعامل مع الحياة بروح الله فيه…

يتبع…