ثورة العشرين في منظور علي الوردي (القسم الاول)


سلمان رشيد محمد الهلالي
الحوار المتمدن - العدد: 6630 - 2020 / 7 / 28 - 02:49
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

(بمناسبة مرور مائة عام على ثورة العشرين 1920 – 2020)
المقدمة
شكلت ثورة العشرين الحدث الاهم والابرز في تاريخ العراق الحديث والمعاصر . فرغم مرور مايقارب المائة عام على اندلاع هذه الثورة - او الانتفاضة الشعبية المسلحة - في الثلاثين من حزيران 1920 ضد سلطات الانتداب البريطاني , الا انها مازالت تشكل جدلا محتدما في الاوساط الثقافية والسياسية والاجتماعية حول ماهية الثورة واسبابها ونتائجها وتداعيتها . وثورة العشرين هى الحدث الابرز والاول في عدد المؤلفات والدراسات والبحوث والمقالات في تاريخ العراق الحديث والمعاصر , تجاوزت في ذلك حتى الحدث البارز والمفصلي الاخر في التاريخ وهو ثورة تموز 1958 , وهذا يرجع الى اسباب عدة اهمها ان ثورة العشرين ساهمت بتاسيس نمطين او حدثين مهمين في العراق :
الاول : بلورة مفهوم الوطنية العراقية .
الثاني : تاسيس الدولة العراقية .
الاول : بلورة مفهوم الوطنية العراقية : كان اول نتائج ثورة العشرين هو بلورة مفهوم الوطنية العراقية - او الهوية العراقية - والشعور بالجماعة بين ابناء البلد الواحد الذي اخذ بالتشكل انذاك . فالعراق قبل الاحتلال البريطاني - او تحديدا قبل ثورة العشرين - لم يكن مجتمعا واحدا او شعبا متجانسا , وانما كان عبارة عن ثلاث ولايات منفصلة هى (البصرة وبغداد والموصل) , فيما كانت الانقسامات الاثنية والمذهبية والدينية والمناطقية والقبلية قد خلخلت البنية الاجتماعية للبلد بصورة كبيرة جدا . واكد هذا الراي حنا بطاطو بقوله (في مطلع القرن العشرين لم يكن العراقيون شعبا واحدا او جماعة سياسية واحدة , وهذا لايعني الاشارة فقط الى وجود الكثير من الاقليات العرقية والدينية كالاكراد والتركمان والفرس والاشوريين والارمن والكلدانيين واليهود واليزيديين والصابئة واخرين , فالعرب انفسهم الذين يؤلفون اكثرية سكان العراق كانوا يتشكلون الى حد بعيد من جملة المجتمعات المتمايزة والمختلفة ) ولم يتلمس العراقيون وجودهم كشعب او امة مستقلة لها كينونة خاصة - وان كانت غير مكتملة المعالم او محددة الابعاد - الا بعد الاحتلال البريطاني للبلاد الذي بدأ عام 1914 وانتهى عام 1918 , وبما ان الاخر شرط الهوية , فالعراقيون اعتبروا الانكليز هم الاخر , بحكم الاختلاف الديني والسياسي والمحمولات الاسلامية المتطرفة ضد الغرب والديانة المسيحية ذات الشحن العاطفي والشعبوي , والدليل اطلاق صفة الجهاد على المقاومة او المعارك التي حصلت ضد البريطانيين عام 1914 في البصرة . فيما عززت ثورة العشرين التوحد السياسي والاجتماعي البدائي انذاك حتى وصفت بانها المدرسة الوطنية الاولى في تاريخ العراق الحديث والمعاصر , لانها الحدث الوحيد الذي حاز اعلى نسبة من التاييد والمشاركة في البلاد , رغم ان المساهمة القتالية الفاعلة قد اقتصرت على وسط وجنوب العراق , الا ان مساحة التاييد – حتى لو كان بعضها باثر رجعي – قد شكل نوعا من التضامن العضوي بين ابناء الوطن الذي لم يتشكل في الاصل انذاك , وهذا يعني ان الوطنية في العراق سابقة على الدولة , وليس نتيجة لها - كما حصل في بعض البلدان - ونقصد بالوطنية ليس النمط الخطابي والشعاراتي الذي تبلور بقوة بعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة , من خلال استغلال مقدرات الدولة وامكاناتها الاعلامية والتعليمية كنمط موازي للوطنية الشعبية التي طالب بها رواد الحركة الاستقلالية في النجف وكربلاء وبغداد , وانما النسق الذي يقصد به الشعور بالجماعة والهوية العراقية والتضحية في سبيلها والاعتزاز بتاريخها . وبهذا الصدد يذكر الكاتب الكوردي شيركو كرمانج في كتابه (الهوية والامة في العراق)(اصبحت ثورة 1920 الاسطورة المؤسسة للوطنية العراقية , وثورة الشيخ محمود الحفيد اصبحت الاسطورة المؤسسة للقومية الكردية) .
ان الوطنية التي اسستها ثورة العشرين - او نادت بها - هى عبارة عن (وعي زائف) او (ايديولوجيا) متسامية عن الواقع البدائي الذي يعيشه المجتمع العراقي , الذي تحركه البنى التقليدية كالطائفة والدين والاثنية والعشائرية وغيرها , لانها تفتقد الشروط الموضوعية لقيامها وبلورتها , واهمها الوعي السياسي والتعليم الحديث والمجتمع المتوحد . وهذا (الوعي الزائف) لايشكل اختلالا كبيرا او منقصة جوهرية في هذه الثورة لسبب بسيط هو ان جميع التصورات والمفاهيم الغربية الوافدة الى العالمين العربي والاسلامي من قبيل الديمقراطية والماركسية والوطنية والقومية والوجودية هى في الاصل (وعي زائف) لانها منفصلة عن واقعها الاجتماعي المتخلف , وبالتالي تلقفتها النخبة المثقفة (الانتلجنسيا العصرية) كموضة و صرعة فكرية , عسى ان تشكل حلا لتلك الاختلالات والانقسامات والصراعات البدائية الرائجة في المجتمعات التقليدية , وتنقل المجتمع نحو افق العصرنة والتحديث والتقدم . كما ان مفهوم الوطن الذي من المفترض ان تشتق منه كلمة الوطنية , لم يكن قد تشكل بعد , وان الوعي بالحالة العراقية - او النزعة العراقية - قد شهدت البواكير الاولى لتكوينها وبلورتها , ولم يكن نسقا متاصلا بصورة يمكن اطلاق عليها هذه الصفة بصورة اطلاقية او جزمية . الا انه يمكن القول ان العراقيين قد تعرفوا على الوطنية بمرحلتها (الجنينية) الاولى , وقريب لهذا الراي ماذكره الدكتور وميض نظمي في كتابه (الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية .......) بان العراقيين العرب كانوا خلال 1918 – 1921 قد تجاوزوا مرحلة العشائرية , ولكنهم لم يكتسبوا بعد الشروط الكاملة للقومية او الصفات المميزة للامة بمعناها الاوربي المحدد ( علما ان الدكتور يستخدم مفردتي الوطنية والقومية ضمن سياق واحد ) , وان الذي ساهم بقوة في معرفة العراقيين بذاتهم ضمن كيان سياسي محدد هم الانكليز وبياناتهم ووعودهم واعمالهم وغيرها , فقد عاملت سلطات الاحتلال البريطاني هذا المجتمع العراقي المتعدد الميول والاتجاهات والمنقسم دينيا واثنيا ومذهبيا وقبليا كمجتمع موحد , وظهر ذلك جليا في بيان الجنرال (مود) عام 1917 الذي اشار في خاتمته الى امكانية الادارة الذاتية للمجتمع العراقي , والتصريح الانكلو – فرنسي عام 1918 الذي تضمن وعدا بتحرير الشعوب التي رزحت تحت اعباء السيطرة العثمانية تحريرا تاما , مما عمل على تغذية الوعي الوطني في العراق و(احدث غليانا في بغداد) كما تقول المس بيل , حتى وصفه فيليب ايرلاند بانه (اساس مهم استند اليه المناضلين العراقيين في مطالباتهم بخلق كيان وطني مستقل) .
الثاني : تاسيس الدولة العراقية : ان من اهم نتائج ثورة العشرين هو تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 . وهذا ما اكده اغلب الكتاب والسياسيون العراقيون والاجانب وابرزهم رئيس الوزراء الاسبق ناجي شوكت في مذكراته (في اعتقادنا انه لو لا هذه الثورة العراقية الكبرى لما استطاع العراق ان يحصل حتى ولاعلى شبه استقلال , ولا كان من الممكن ان يدخل عضوا في عصبة الامم الى جانب الدول العظمى . فالعراق اصبح اول دولة عربية مستقلة ,واحتل مقامه بين دول العالم في الوقت الذي لم يكن هناك اي بلد عربي يحلم بالاستقلال) , بل واعترف به حتى الكتاب الانكليز انفسهم وابرزهم المس بيل التي رغم حقدها الشخصي على الشيعة الا انها اكدت (لم يكن يدور بخلد احد ولا حكومة صاحب الجلالة ان يمنح العرب مثل الحرية التي ستمنحهم اياها الان كنتيجة للثورة – ثورة 1920) . فيما كان الدكتور وميض جمال نظمي اكثر تفصيلا عندما اكد (ان العراق الحديث هو النتاج التاريخي لعملية التوحد السياسي والاقتصادي للولايات العثمانية الثلاث الموصل وبغداد والبصرة . وهذه الصيرورة تعززت بعاملين مهمين : اولا سياسات الحكومة البريطانية بعد الحرب العالمية الاولى . وثانيا النمو المتزايد للحركة القومية والاستقلالية . وان تفاعل كل هذه العوامل ادى الى تشكيل الحكومة العراقية المؤقته عام 1920 ومن ثم ميلاد الدولة العراقية الحديثة) . علما ان السياسة البريطانية عن العراق والمنطقة كان يتنازعها مدرستين هما :
الاولى : المدرسة الهندية : وتدعو لاقامة حكم بريطاني مباشر والاستمرار بالحكم الانكليزي الذي يجب ان تكون اوليته تامين الوجود البريطاني في الهند وحمايته من خلال السيطرة على العراق وشرق وجنوب الجزيرة العربية وعدن . ويعد الحاكم العسكري الجنرال ارنولد ويلسن (1918-1920) من ابرز اولئك الدعاة تعصبا لهذا النوع من التعامل , وعرف بعدائه لكل ماهو شريفي (نسبة للشريف حسين بن علي ملك الحجاز) . وقد كتب ويلسن عام 1914 صراحة (اود ان اعلن انه من الضروري ضم مابين النهرين كمستعمرة للهند والهنود , بجيث تقوم حكومة الهند بادارتها وزراعة سهولها الواسعة بالتدريج , وتوطين اجناس البنجاب المحاربة فيها) , وهو العمل المقترح الذي عرف بتهنيد العراق .
ثانيا : المدرسة العربية : التي يمثلها لورنس العرب وفيلبي والمس بيل الذين يطالبون بالادارة المحلية في المنطقة تحت الاشراف البريطاني , من خلال العمل على ايجاد متعاونين عرب قادرين على اقامة حكم توافقي يلائم المصالح البريطانية , ومن اجل ذلك اعتبر انصار هذه المدرسة ليبراليون بالقياس الى المدرسة الهندية السابقة . وحين صدر التصريح الفرنسي – البريطاني في تشرين الثاني 1918 الذي اعلن التزام الحلفاء باقامة حكومات وادارات وطنية في سوريا وبين النهرين , عارض ويلسن الاقتراح بشدة في برقية ارسلها للهند , لانه سيحرم الانكليز من المزايا الاستراتيجية التي يوفرها احتلال مركز حيوي كالعراق . وبقى ويلسن على رايه باقامة حكم بريطاني مباشر في البلاد .
وبعد اندلاع ثورة العشرين في نهاية حزيران عام 1920 عزل ارنولد ويلسن من ادارة العراق واستدعى برسي كوكس من ايران الى بغداد وشكل اول حكومة عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب الكيلاني في اواخر تشرين الثاني 1920 (اي بعد انتهاء ثورة العشرين بعشرة ايام تقريبا) وفيها سجل العراق اقصر فترة احتلال مباشر لمستعمرة بريطانية في العالم , ثم تبعها مؤتمر القاهرة برئاسة وزير المستعمرات ونستون تشرشل في اذار عام 1921 الذي اكد المناداة بالامير فيصل ملكا على العراق . قد حصل التتويج في اب 1921 وتم تاسيس العهد الملكي الذي استمر حتى تموز 1958 , وهذا يعني ان عملية اختراع العراق وصناعته قد حصلت بصورة مباشرة من قبل الانكليز , ومن اجل ذلك قيل (ان العراق لم يصنعه الله هكذا بل صنعه ونستون تشرشل)!!!
وقد عبر عن هذا الراي الكاتب الماركسي زكي خيري في تقديمه لكتاب (من تاريخ الحركة الثورية المعاصرة في العراق 1920 ـ 1958) (الجزء الاول) بالقول ( كانت ثورة "1920" اول ثورة وطنية عراقيه . فمن حيث نطاقها شملت القطر العراقي من شماله الى جنوبه، بعربه واكراده واقلياته وبمختلف طبقاته الوطنية من الملاكين والشيوخ القبليين والبرجوازيين وجميع الكادحين، فكانت ثورة وطنيه، عامه، وكان هدفها المباشر التحرر من الاحتلال البريطاني والحكم الكولونيالي، وإقامة دولة وطنيه ديمقراطية وعصريه، وقد أقيمت فعلا الدولة العراقية المعاصرة دون ان تكون مستقلة تماما او ذات سيادة وطنيه كامله، ولم تتحقق الديمقراطيه او الحرية السياسية بالنسبة لاكثرية السكان الساحقة , فقد احتكرتها الطبقات المالكه العليا، فلم يكن نجاح ثورة "1920" الثورة الوطنية الأولى في العراق نجاحا تاما او فاصلا) . واما الدكتور فالح عبد الجبار فقد اكد في كتابه (العمامة والافندي) (ان الدولة العراقية كانت نتاجا للحقبة الاستعمارية التي بدات في اعقاب الحرب العالمية الاولى . وجاء تشكيل الدولة العراقية بعد اقتطاعها من اراضي الرجل المريض (اي الامبراطورية العثمانية) من تجميع ثلاث ولايات (بغداد والبصرة والموصل) . وكانت هذه الرقعة العشوائية التي قرر حدودها وحماها البريطانيون تضم مزيجا غير متجانس من المجموعات الاثنية والدينية والمذهبية ذوات الخصائص المتباينة باقصى درجات التباين . وجاء اختراع هذه الدولة على يد القوة الاستعمارية من حيث تحديد نظام الحكم فيها (العاصمة , العلم , النظام الملكي والبيروقراطية) والتشريع والتمثيل (الدستور والبرلمان) وانماط اليات السيطرة والدفاع (العسكر والشرطة) والبنى القانونية (القانون الاساسي وقوانين الجزاء مع منظومة المحاكم وترتيبات قضائية خاصة بالقبائل) وتعريف الجماعة الوطنية من حيث الجوانب القانونية والاقليمية (ترسيم الحدود ووضع قوانين المواطنة) واستحداث نظام اقتصادي مركزي (العملة الوطنية , تنظيم التجارة والضرائب) وتوحيد الثقافة الوطنية ( النظام التعلمي والاذاعة والصحافة) واخيرا ادخال الدولة الجديدة في حظيرة المنظومة العالمية للدول القومية ( معاهدات مع دول مستقلة اخرى الانتداب عضوية عصبة الامم) وبكلمة موجزة قامت بريطانيا ببناء دولة قومية حديثة) .
طرحت في السنوات الاخيرة اشكالات نقدية وهجومية كثيرة على ثورة العشرين , واهمها النقد الذي يؤكد ان ثورة العشرين كانت السبب الاساس الاول والمباشر بقيام الانكليز بتهميش الاغلبية الشيعية واقصائهم عن الادارة والحكم في البلاد , او قيام الدولة الطائفية وتاسيسها في العراق التي استمرت حتى عام 2003 . في الواقع لانستطيع ان نعطي جوابا محددا او مؤكدا حول هل ان فعلا ثورة العشرين هى من اعطت المبرر للانكليز بتهميش الشيعة ؟؟ ام ان النية معقودة سلفا في ايلاء السلطة للاقلية السنية العربية في البلاد ؟؟ اذ لو فرضنا ان الشيعة لم يقوموا بتلك الثورة والانتفاضة المسلحة , فهل ان بريطانيا ستشكل حكومة تعبر عن جميع المكونات الاجتماعية العراقية ,وتؤسس لديمقراطية حقيقية يكون فيها للاغلبية الشيعية دورا كبيرا بالادارة والحكم ؟؟ بصراحة لا اعتقد ذلك ... فالعقلية الانكليزية انذاك قد حسمت امرها في العالم العربي باعطاء الحكم للاقليات السياسية والعائلية والمذهبية والحزبية من اجل ان يكونوا بحاجة دائمة لمساعدتهم ودعمهم في مواجهة المجتمع المعادي لهم اولا والتحديات الخارجية ثانيا , وهذا الراي اختاره الكثير من الكتاب اهمهم تنظيم القيادة المركزية المنشق عن الحزب الشيوعي العرقي في تفسيره للظاهرة الطائفية في العراق , ونشره في مجلة (الغد) الصادرة في اذار 1987 من خلال النقاط الاتية :
1 . ان النظام الطائفي ظهر قديما في العراق واتخذ شكله المعروف منذ قرون خلت , ثم جاء الانكليز واقاموه على اسس سياسية وعسكرية حديثة في مواجهة ثورة العشرين . فالنظام الطائفي الذي قام عليه الحكم الملكي المباد , ومن ثم نظام البعث الراهن يمثل تركة سوداء خلفها النفوذ البريطاني .
2 . نرى ان موقف التجاهل واغماض العيون الذي سارت عليه الحركة الوطنية في العراق (يقصد الحركة الشيوعية) - كما في شان لبنان - ازاء النظام الطائفي هو موقف يتهاون بمستقبل البلاد , ويفرط بمصير الثورة الوطنية . لذا نرى من الواجب مواجهة حقيقة النظام الطائفي وكشف الستار عن مقوماته الاجتماعية واصوله التاريخية .
3 . غالبا ماتكون سلطة الاقلية الطائفية بحاجة الى دعم خارجي كقوة احتلال او نفوذ امبريالي , بحكم كونها مهددة داخليا . فتتلمس المساندة الخارجية الامر الذي يوفر الاسس لقيام مصلحة مشتركة بين القوة الخارجية وبين الاقلية الحاكمة لكبت المحكومين , والاستئثار بالسلطة السياسية والثروات الاقتصادية .
4 . من جانب اخر فان فوائد النظام الطائفي للمحتلين لاتقتصر على ربط الاقلية الحاكمة بهم , بل ويشجع ايضا على خلق الطائفية المعاكسة بين المحكومين الذين يجدون انفسهم يضطهدون بسبب انتماءاتهم الدينية والمذهبية , ولذلك تثار النقمة الطائفية ويتسع الانقسام بين الشعب .
واختار هذا الراي ايضا الوزير في العهد الملكي عبد الكريم الازري في كتابه (مشكلة الحكم في العراق من فيصل الى صدام) بالقول (ان السلطات البريطانية المحتلة نتيجة الموقف المتشدد المتصلب للزعامة السياسية الشيعية وجدت نفسها امام خيار واحد , وهو التفاهم مع اي فريق مستعدا للتفاهم معها على تسوية سياسية ... وان الحكم المستند الى اقلية من سكان البلاد يكون - بحكم ظروفه - مضطرا للاعتماد على قوة تدعمه ومستعدا للتفاهم معها اكثر من الحكم المستند الى اكثرية شعبية) . كما اكدته ايضا الكاتبة اوفرا بينغيو في مقالها (العراق من دولة قومية فاشلة الى دولة ثنائية القومية) (بان السنة سيكونون اكثر اعتمادا على البريطانيين ورضوخا لهم بسبب ضعفهم الديمغرافي) .
كما اختار هذا الراي ايضا واضاف له مقاربات اخرى قيمة الكاتب عبد الاله توفيق الفكيكي في كتابه القيم (البدايات الخاطئة قراءة جديدة في تاريخ العراق السياسي الحديث) بقوله ( ان الفلسفة السياسية للادارة البريطانية في العراق تقوم على اساس الاعتماد على الاقليات في المستعمرات , وتهميش الاغلبية , وخلق الزعامات الوهمية والتعامل معها , ورفض التعاون مع القوى الفاعلة خشية الخضوع لمطالبها مستقبلا , وابقاء الاوضاع في المستعمرات هشة . وزرع التنافر بين مكونات شعوبها) . وضرب مثلا على ذلك ان الشهيد رستم حيدر قد ذكر في مذكراته ان احد زعماء الهند المسلمين قال له (ان الانكليز مالوا نحو المسلمين في الهند قائلين لهم انهم الاقلية , وانه واجب عليهم مسايرة الانكليز , اذ لولاهم لايمكنهم ان يعيشوا) .
اعتقد ان هذا الراي يحوي جانبا كبيرا من الصحة , فالعقلية الانكليزية الاستعمارية قبل الحرب العالمية الثانية كانت تعتمد نسق المؤامرات في الغرف المظلمة والابتزاز السياسي . وقارب هذا الراي الكاتب عوني فرسخ في كتابه (الاقليات في التاريخ العربي) ذلك بالقول (ان المستعمرين الانكليز يتميزون عن نظرائهم الفرنسيين والايطاليين والاسبان بانهم في نشاطهم الاستعماري اعطوا الاهمية القصوى للعمل السياسي والاقتصادي , فيما اولى الاخرون الاستيطان البشري والاستلاب الثقافي والتبشير الديني اهتماما لايقل عن ذلك الذي اعطوه للسياسة والاقتصاد) ومن الطبيعي ان العمل السياسي يتميز بالمناورة والمساومات والمؤامرات . ويبدو ان هذا النسق قد ضعف التعامل به بعد الحرب العالمية الثانية وقيام الحرب الباردة بين المعسكر الراسمالي الليبرالي والمعسكر الشرقي الاشتراكي , واصبح التعامل اكثر شفافية ووضوحا من حيث التجاوب مع التعددية والديمقراطية وحقوق الانسان , وكلها من اجل سحب البساط من المعسكر الشيوعي الشمولي والاستبدادي , حتى انها اخذت تتنازل عن المستعمرات تدريجيا وتعطيها الاستقلال . ويمكن اعطاء دليل اخر عن القضية العراقية في اعتماد الانكليز على الاقلية هو قضية الشيوخ والفلاحين . فخلال مرحلة الاحتلال البريطاني للعراق والحكم المباشر (1914-1920) انقسمت الادارة الانكليزية حول طريقة التعامل مع القبائل والشيوخ الى فريقين :
الاول : ويراسه ستيفن لونكريك S.Longrigg ، ويطالب بالتعاون والانحياز الى الاغلبية من الفلاحين الصغار على حساب سلطة الشيوخ الكبار، وملاكي الاراضي الزراعية، ودعم مطالب صغار المزارعين في ملكية الارض ، وتحطيم السلطة التقليدية لشيوخ القبائل.
الثاني: ويراسه هنري دوبس H.Dobbs، ويطالب بالتعامل والتعاون مع الاقلية من الشيوخ والملاكين واصحاب الحيازات الواسعة، من اجل بلورة قاعدة اجتماعية تدعم النظام السياسي الجديد ، وترسخ سلطة الاحتلال في البلاد.
وبعد مداولات بين البريطانيين، تم الاتفاق على اختيار النمط الثاني، وتقوية نظام المشيخة الذي كان في طريقه الى التدهور، من خلال جملة اعمال، اهمها سن نظام خاص لادارة المناطق العشائرية والريفية، فاصدرت الادارة البريطانية قانون او نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية عام 1916. الذي يهدف الى تعزيز سلطات الشيوخ القضائية، واعادة بناء المجتمعات العشائرية واخضاعها للانظمة البدوية والريفية . وطبقت الادارة البريطانية هذا النظام في جميع الاجزاء التي يوجد فيها المجتمع القبلي والريفي في العراق عام 1918 واقرته الحكومة العراقية كقانون مستقل عن القانون المدني عام 1922 وبقي معمولا به حتى ثورة تموز 1958.
وهذا ان دل على شيء فانه يدل على ان الانكليز انحازوا للشيوخ - وهم الاقلية في المجتمع - في مقابل الاغلبية - وهم الفلاحون والمزارعون - الذين اصبحوا مثل الاقنان والعبيد عند اولئك الشيوخ , وكان الثمن هو سكوتهم عن جميع المطالبات السياسية والحركات الثورية التي تنادي بالاصلاح والعدالة والديمقراطية الحقيقية . وكانت المكافاءة لهم اصدار حزمة من القوانين الحكومية التي قدمت باقتراح من قبل الخبير البريطاني ارنست داوسن A.Dowson الذي قدم تقريره عام 1931 حول مشكلة الاراضي الزراعية في العراق وهي (قانون تسوية حقوق الاراضي رقم 50 لسنة 1932 وقانون اللزمة رقم 51 لسنة 1932 وقانون الحقوق وواجبات الزراع رقم 28 لسنة 1933) التي اعطت الحق القانوني للشيوخ بالاستيلاء على الاراضي التي كانت ملكا مشاعا للعشيرة وتسجيلها باسمائهم .
اذا كانت حركة الجهاد التي اطلقها رجال الدين الشيعة ومراجعهم في النجف وكربلاء والكاظمية ابان الاحتلال البريطاني للبصرة عام 1914 لها مايبررها , بحكم العاطفة الدينية والانسياق للحكم الشرعي في الجهاد الدفاعي , فان ثورة العشرين ومواجهة الانكليز بالقوة المسلحة ليس لها اي مبرر او وازع عقلاني وموضوعي , على اعتبار ان الانكليز قد مدوا الكثير من الجسور والتفاهمات مع الناس ورجال الدين والمثقفين وشيوخ العشائر بعد سيطرتهم على البلاد , ويمكن التعامل السياسي والحضاري معهم والمطالبة بالحقوق والاستقلال وغيرها . وهذه السلوك الثوري المسلح هو من اعطى للانكليز الحجة بتهميش الشيعة واستبعادهم عن الادارة والحكم ابان تاسيس الحكومة المؤقتة التي كلف السير برسي كوكس الشيخ عبد الرحمن النقيب بتشكيلها في تشرين الثاني 1920 او بعد التاسيس الرسمي للدولة العراقية في اب 1921 . وكما ذكرت ان ثورة العشرين اعطت الحجة لتهميش الشيعة عن الادارة والحكم , ولم تكن السبب الاساس , اذ لو كان السبب الرئيسي هو الثورة , فلماذا حصل تهميش للكورد ايضا بعد تاسيس الدولة العراقية مثل الشيعة واقتصار السلطة على الاقلية السنية العربية ؟؟ في الواقع ان الانكليز بالاصل لم يتحملوا الكورد والشيعة , حتى نسب القول لونستون تشرشل (بانهم قبائل غير متحضرة) وكان يؤيد بشدة استخدام الغاز السام ضدهم - كما يذكر الكاتب الكوردي شيركو كرمانج - الذي علق على ذلك بالقول ( وبالتالي فقد بنيت هوية دولة العراق على اساس ماتفضله سلطة الاحتلال البريطانية التي استبعدت الى مدى بعيد الكرد والشيعة , وصار هذا واحدا من الاسباب الرئيسية لداء العراق المزمن) . كما ان تعامل الانكليز مع السنة العرب يتميز بالازدواج . فهم من جانب اعتبروهم اقلية في العراق ويجب اعطاهم السلطة وتفويضها اليهم من اجل ان يكونوا بحاجة اليهم مستقبلا في تامين حكمهم وسيطرتهم ونفوذهم , ومن جانب اخر اعتبروهم اغلبية في العالم العربي والاسلامي , ويجب ان يكسبوا ودهم وسكوتهم وعدم اثارتهم , سيما وان الانكليز يحتلون مساحات سكانية واسعة جدا في العالمين العربي والاسلامي .
ان الكثير من الكتاب الذين طرحوا قضية تهميش الشيعة بسبب ثورة العشرين لم يذكروا تاريخ الاقصاء والصيغة المعتمدة في الحكم الطائفي – عدا الكاتب حسن العلوي – الذي ارجعها تحديدا الى تكليف برسي كوكس لعبد الرحمن النقيب بتشكيل الحكومة في تشرين الثاني 1920 واسماها صيغة كوكس – النقيب . ويبدو انه اعتمد المعيار الزمني بطرح الرؤية , فهى اول حكومة عراقية بعد الاحتلال - او بعد اقرار الانتداب في نيسان 1920 - كما انها تشكلت كنتيجة مباشرة بعد القضاء على ثورة العشرين في منتصف تشرين الثاني من هذا العام . فيما يعتبر البعض ان التهميش هو بالموافقة على تعيين الامير فيصل ملكا على العراق , باعتباره سنيا من الحجاز وغريبا على العراق . الا اني اعتقد ان التهميش الحقيقي وامتداده وتوسعه وترسيخه واستمراره حتى ثورة تموز 1958 قد حصل بعد استدعاء الضباط الشريفيين وقدومهم للعراق , ورغبتهم بحيازة المناصب والمغانم في الدولة الجديدة التي اخذت بالتشكل , سيما وان اعدادهم كانت بالاف ويعانون من البطالة والتشرد بعد انهيار الدولة العثمانية في اعقاب الحرب العالمية الاولى , وبقاء اغلبهم دون عمل او وظيفة . كما انهم كانوا يحملون العقلية العثمانية الطائفية والاقصائية بحكم دراستهم الطويلة في المدارس التركية العسكرية , وتاثرهم بالنزعات الطورانية والقومية والعنصرية التي بدات بالتشكل في الدولة العثمانية خاصة بعد الثورة الاتحادية التي قامت بها جماعة الاتحاد والترقي عام 1908 .
اذن نحن امام ثلاث مراحل متتابعة من العمل السياسي , كلها تصب في خانة العزل الطائفي والاقصاء السياسي للاغلبية الشيعية والاقلية الكوردية عن الادارة والحكم وهى :
المرحلة الاولى : (التاسيس) : وهى تكليف عبد الرحمن النقيب الكيلاني بتشكيل الحكومة العراقية الاولى من قبل المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس في تشرين الثاني 1920 وهى اول حكومة اقصائية وطائفية في تاريخ العراق المعاصر , لانها لم تمثل جميع مكونات الشعب العراقي تمثيلا عادلا , ولم تعكس التوجه الحقيقي والموضوعي والعددي للمجتمع , فهى مثلا لم تضم سوى وزيرا شيعيا واحدا في بلد يشكل الشيعة فيه مايقارب اكثر من 51% حسب احصاءات الحكومة البريطانية نفسها التي كان لها الدور الابرز بتشكيلها . وكما قلنا سابقا فان الكاتب حسن العلوي اطلق على هذا النمط من الحكم الطائفي الذي استمر حتى عام السقوط في 2003 صيغة النقيب – كوكس , على اعتبار ان هناك تواطىء وتخادم بين المؤسسة السنية الطائفية التقليدية التي يمثلها عبد الرحمن النقيب , الذي طالما عبر عن مشاعر بغيضة متطرفة ضد الشيعة , وبين سلطات الاحتلال البريطاني التي وجدت في هذا المؤسسة ما يحقق مصالحها واهدافها بالهيمنة والسيطرة غير المباشرة على العراق .
في الواقع ان الصيغة الطائفية التي اسماها حسن العلوي (النقيب – كوكس) تحوي اختلالا كبيرا , لانه اذا اعتبرنا ان النقيب يحمل موروثا طائفيا كبيرا تجاه الاغلبية الشيعية في العراق , وسبق ان اعلن عن صراحة بعبارات شهيرة مازالت حتى الان متداولة عند الباحثين والمؤرخين , فان السير برسي كوكس لم يعرف عنه ان حمل نوعا من الكراهية والبغضاء تجاه الشيعة , ولم تنسب له عبارات تحمل شذرات من تلك الكراهية والحقد , وانما انطلق تحالفه مع السنة وزعيمهم عبد الرحمن النقيب من باب انهم الفئة الاقوى في البلاد . واما التسمية الصحيحة لتلك الصيغة الطائفية بالحكم فهى (النقيب – المس بيل) وليس (النقيب – كوكس) لان المس بيل (السكرتيرة الشرقية للمفوض السامي في العراق) كانت هى العرابة الاساسية في عملية الاقصاء والكراهية ضد الشيعة , وطالما عبرت عن ذلك من خلال اراء وعبارات كثيرة بهذا الشان , وهى من كانت تشير على السير برسي كوكس بالاقتراحات والمبادرات حول اختيار الاسماء ونظام الحكم وغيرها . اي انها اول من لعب على الورقة الطائفية في البلاد في تاريخ العراق المعاصر واستثمارها سياسيا والتحريض عليها . ومن اقوالها بهذا الصدد (ان الموظفين العرب كما تلاحظونهم ـ ويجب أن يكونوا كذلك دوماً ـ من البغداديين السنة بسبب عدم وجود طبقة مثقفة أخرى في البلاد، والعشائر ـ ومعظمها من الشيعة على ما تذكرون ـ تكرههم ) (وأنا متأكدة من أن تسعين بالمئة من أهل السنة ينفرون من الاحتكاك بالشيعة والعكس بالعكس ) (قد تكون مشكلة الشيعة أخطر المشاكل وأشدها إزعاجا في البلاد….. انك لا تستطيع مطلقاً أن تشكل ولايات ثلاثاً مستقلة تمام الاستقلال في حكمها الذاتي، ولذلك يجب أن يُحتفظ بالموصل السنية في ضمن الدولة العراقية من أجل تنظيم التوازن…… على أن السلطة النهائية يجب أن تكون في أيدي السنة ) (ان معكر صفو السلم هو السيد محمد الصدر، وهو عالم طويل القامة، اسود اللحية، ذو تقاسيم شريرة، قفز الى الظهور البغيض بصفته رئيس المحركين خلال الإضطرابات) (واما انا شخصيا فابتهج وافرح ان ارى الشيعة الاغراب يقعون في مازق حرج , فانهم اصعب الناس مراسا وعنادا في البلاد). كما ان الدليل الاخر على مصداقية هذه الصيغة التي طرحناها وهى (النقيب – المس بيل) هو العلاقة السابقة التي تربطها مع عبد الرحمن النقيب ,التي ترجع الى ماقبل الاحتلال البريطاني للعراق . فقد زارت المس بيل النقيب في عام 1909 في بغداد عندما كانت تتجول في المنطقة كعالمة اثار ومستشرقة , فيما ان الواقع انها كانت تجمع معلومات خاصة عن العراق وسكانه وشخصياته ومكوناته وعشائره . كما زارته مرة اخرى في عام 1911 . وبعد الاحتلال البريطاني للعراق زارت المس بيل النقيب مرات عدة , ويبدو ان اخذ يعبر عن مكنونات نفسه اللاشعورية تجاه الانكليز من جانب وتجاه الشيعة من جانب اخر , ولم يكن يعرف – لسوء حظه - ان المس بيل كانت تنقل كلامه نصا الى والدها في هيئة رسائل ومذكرات فضحت بمجملها شخصية النقيب واظهرته بمظهر التابع والطائفي والدوني . فمن عباراته التي نقلتها المس بيل عن الانكليز وتبعيته لهم قوله (ان الانكليز فتحوا هذه البلاد واراقوا دمائهم في تربتها وبذلوا اموالهم من اجلها , فلابد لهم من التمتع بما فازوا به) . كما قال لها ايضا (خاتون : ان امتكم عظيمة وغنية وجبارة . اما نحن فاين قوتنا ؟ اني اعترف بانتصاركم انتم الحاكمون وانا المحكوم , واذا سالت عن راي في استمرار الحكم البريطاني فان جوابي هو اني خاضع للمنتصر) . ويبدو ان هذا الكلام هو الذي جعل حسن العلوي في كتابه (الشيعة والدولة القومية في العراق) يصف النقيب بانه مصاب (بما يسميه علماء النفس (عقدة الشعور بالدونية) فقد كان في معظم تصرفاته واقواله يدور حول هذه العقدة , انه دائما مهزوم خائف يشعر بالاحباط كلما وقفت امامه المس بيل) . والمفارقة ان النقيب لايستوعب العراق مستقلا وغير محتلا , الا ان يكون تابعا اما للترك او الانكليز . فقد عبر للمس بيل عن ذك بقوله (لو كنت استطيع العودة لحكم سلاطين تركيا كما كانوا في الازمان السالفة لما رضيت عن ذلك بديلا , ولكني اشمئز من الحكومة التركية الحاضرة وامقتها والعنها واسلمها الى الشيطان (ويشير النقيب الى جماعة الاتحاد والترقي) . ان التركي قد مات وانه قد هزم وانا قانع بان اصبح من رعاياكم) , كما انه هاجم مبدا تقرير المصير الذي طرحه الرئيس الامريكي ويلسون في مبادئه الاربعة عشر الشهيرة التي اطلقها بعد الحرب العالمية الاولى بقوله (ماكل هذا الكلام الفارغ ؟ وماقيمته ؟ هل يعرف الشيخ ويلسون الشرق وشعوبه ؟ هل يعرف طرقنا في الحياة وفي التفكير ؟ انتم الانكليز قد حكمتم مدة 300 سنة في اسيا , وحكمكم مثال يحتذي به الناس , فاتبعوا طريقتكم ولاتسلموا بنصيحة تاتي من الشيخ ويلسون) .
واما انزياحاته اللاشعورية عن الشيعة وطائفيته الظاهرة , فقد اكد النقيب للمس بيل نصيحته بعدم الاعتماد عليهم بالقول (حذار حذار من الشعة) . فقد ذكر غسان العطية في كتابه (العراق نشاة الدولة) ان النقيب اسر للحاكم العسكري في بغداد قوله (انه يكره ثلاثة اشياء اكثر مما يكره الشيطان , اليهودي والشيعي والفرنسي) . وطبعا لانعرف لماذا يكره النقيب الفرنسيين ؟ واعتقد ان العبارة لاتعدوا ان تكون تملقا للانكليز في صراعهم مع الفرنسيين على مواطن النفوذ والسيطره على منطقة الهلال الخصيب بعد انهيار الامبراطورية العثمانية .
وبهذا الصدد ذكر الكاتب صلاح عبد الرزاق (في 11 تشرين الأول 1920 عاد بيرسي كوكس إلى بغداد باعتباره الحاكم السياسي للعراق، وطلب من المس بيل الاستمرار بعملها كسكرتيرة شرقية Oriental Secretary وعضو ارتباط مع الحكومة العراقية القادمة. كانت المس بيل تلعب دوراً كوسيط بين الحكومة العراقية القادمة والضباط والموظفين البريطانيين. كما كانت غالباً وسيطاً بين مختلف المكونات العراقية من ضمنها الأغلبية الشيعية في الجنوب ، السنة في وسط وغرب العراق، والكرد في الشمال الذين كانوا يطمحون بالحكم الذاتي عن بغداد) .
المرحلة الثانية : (الترسيخ) : وهو ترشيح الامير فيصل بين الشريف حسين ملكا على العراق في مؤتمر القاهرة في اذار 1921 وتتوجيه رسميا ملكا على البلاد في اب من نفس العام . وقد اعتبر النقاد هذا الترشيح والتعيين هو بداية الطائفية السياسية في البلاد على اعتبار ان الملك سنيا من الحجاز , وليس شيعيا , ولايمثل بالتالي الانعكاس الحقيقي للاغلبية الاجتماعية من الشعب العراقي . وقد اراد البعض الخروج بحل توافقي عن ذلك الاختلال في ان الملك من السادة الاشراف العلويين من جانب وسنيا من جانب اخر , وهذا قد يشكل عاملا للتقارب بين الشيعة والسنة . الا ان الواقع التاريخي الذي حصل هو ان الملك فيصل الاول كان يعاني من الازدواجية والحيرة من القضية الطائفية في البلاد , فهو من جانب لايريد استمرار هذه المشكلة الى الابد وانتقالها الى اولاده واحفاده من بعده , لانه في الاخير ملك , والحكم سوف يستمر في ذريته من بعده , ولايريد توريث هذه المشكلة لهم , التي قد تشكل خطرا محتدما ليس على الدولة العراقية فحسب , بل وعلى الهوية الوطنية والتضامن الاجتماعي في البلاد . ومن جانب اخر انه لايستطيع القيام بخطوات اصلاحية جذرية تنهي هذه الاشكالية المعقدة في كيان الدولة , لان النخبة السياسية والاجتماعية والمركزية السنية المتحكمة باغلب مفاصل الحكومة العسكرية والامنية والسياسية , لاتقبل باي مساس بمصالحها وامتيازاتها وسلطتها . فوقع جراء ذلك في معاناة والم نفسي ومخاوف عبر عنها في رسالته الشهيرة المؤرخة في اذار 1933 , والتي اعطى نسخا منها للعديد من السياسيين ورؤساء الوزراء السابقين , وتبيان رايهم في تلك الاشكالية المعقدة وخطوات الاصلاح المقترحة بهذا الصدد .
كما ان موافقة العراقيين – وخاصة الشيعة – على ترشيح فيصل ملكا على العراق لايشكل اختلالا كبيرا وخطا فادحا في ترسيخ الطائفية في البلاد لسبب بسيط هو ان صيغة الحكم المقترح والمسلم به عند الاوساط الوطنية والدينية والثقافية والسياسية في العراق هو ملكيا دستوريا مقيدا بمجلس نيابي منتخب , وهو مشابه للنظام السائد في المملكة المتحدة نفسها . كما ان النسق السياسي السائد انذاك هو تاسيس الحكومات الليبرالية والديمقراطية والنيابية , لان الانظمة الاستبدادية والتوجهات الاقصائية والاحزاب الشمولية لم تكن قد تبلورة انذاك بقوة حتى يمكن الخشية من تقليدها او اعتمادها للحكم مثل الفاشية والنازية والشيوعية . فمثلا نجد ان الرسالة التي نقلها الشيخ محمد رضا الشبيبي الى ملك العرب الشريف حسين بن علي من علماء الدين الوطنيين في النجف عام 1919 حول ترشيح احد انجاله ملكا على العراق اكدت المطالبة (بتاسيس حكومة عربية دستورية على ان يكون احد انجال جلالتكم ملكا على العراق) , او الرسالة التي ارسلها المرجع الديني محمد تقي الشيرازي والمرجع شيخ الشريعة الى الريس الامريكي ويلسون في اعقاب انعقاد مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 حول (المطالبة بدولة جديدة عربية مستقلة اسلامية وملك مسلم مقيد بمجلس وطني) , او المذكرة التي رفعها زعماء التاسيس من الوطنيين وشوخ العشائر في النجف في ايار 1920 حول التفاوض مع سلطات الاحتلال وفق المطالبات على تاسيس (دولة عربية وطنية يراسها ملك عربي مسلم مقيد بمجلس تشريعي وطني) . ومن المؤكد ان الحكم الدستوري والنيابي سيكون المعبر الحقيقي عن توجهات الشعب , وان الملك سيكون موجها وضامنا للنظام السياسي فقط , وليس حاكما او زعيما اوحدا , وان السلطة الحقيقية ستكون بيد الشعب عبر ممثليه في مجلس النواب . وبالتالي لايكون هناك مجالا للاقصاء والطائفية والتهميش والاستئثار بالسلطة من قبل اقلية معينة او جماعة محددة , الا ان ذلك لم يحصل بسبب التوجه الانكليزي باسناد السلطة الى الاقلية السنية العربية التي ستكون بحاجة دائمة لحمايتها ودعمها اولا , ودخول الضباط الشريفيون على خط السلطة والاستئثار بالحكم والمناصب والامتيازات ثانيا .
المرحلة الثالثة : (التوسع) : وهو ادراج الضباط الشريفيون في النظام السياسي والاداري وسيطرتهم على اغلب مقدرات الدولة الامنية والاقتصادية والادارية والمالية . والضباط الشريفيون هم العراقيون – العثمانيون الذين تخرجوا من المدارس والكليات العسكرية في اسطنبول وانضموا الى ثورة الشريف حسين بن علي في الحجاز وشمال الجزيرة العربية بالتعاون والتنسيق مع بريطانيا عام 1916 والمعروفة بالثورة العربية الكبرى , ومن اجل ذلك عرفوا بالضباط الشريفيون . وقد بلغ عددهم مايقارب (300) ضابط . ورغم ان الجذور الاجتماعية لهم ترجع الى اصول وضيعة او متوسطة – كما يقول حنا بطاطو – الا انهم تسنموا اغلب المناصب العليا في الدولة العراقية الجديدة , بدا من رئاسة الوزراء فالوزراء فالنواب والمتصرفون . فضلا عن المناصب العسكرية الكبيرة في الجيش العراقي , واصبحوا خلال عقد الثلاثينات من اصحاب الاملاك والنخبة السياسية . وقد اعتبرتهم بريطانيا من اهم الجماعات التي حرضت على الثورة والتمرد ضد الاحتلال والانتداب , بسبب فقدانهم موارد عيشهم ورزقهم بعد انهيار الدولة العثمانية وهزيمتها في الحرب العالمية الاولى , فارادت باي وسيلة كسبهم واستدراجهم للنظام السياسي الجديد من خلال المناصب الكبيرة والامتيازات العديدة . وقد اكد حسن العلوي ذلك بقوله (وضع السير برسي كوكس في مقدمة اهداف مشروعه لاقامة حكومة محلية عودة الضباط من سورية الى العراق (اذ كانوا مع فيصل ابان حكمه على سوريا) , لحاجته الى محمديين (مسلمين) يتسلمون بعض المناصب في الادارة المحلية , بل قد زاد الاعتماد عليهم حتى في تاسيس الانكليز جيشا عراقيا خاصا بهم , وكل ذلك من اجل هدفين : الاول : تخفيض النفقات الباهضة التي تشكلها الادارة المباشرة على العراق . والثاني : قيامهم بالحماية المحلية في البلاد بدل التورط في النزاعات الداخلية والانتفاضات العشائرية - كما حصل في ثورة العشرين - وقد استحصل كوكس قائمة من القنصل الفرنسي في بغداد تضم اسماء (240) ضابطا عراقيا كانوا في سوريا . وهكذا صدرت الاوامر الخاصة بتاسيس الجيش العراقي في عام 1921 . واهم هؤلاء الضباط (نوري السعيد وجعفر العسكري وعبد المحسن السعدون وياسين الهاشمي وجميل المدفعي وعلي جودت الايوبي وطه الهاشمي ونور الدين محمود) . وقد ارتبط هؤلاء الضباط بعلاقات اجتماعية وتزواج مصاهرة فيما بينهم , بحيث شكلوا جماعة ضغط في الدولة العراقية , ولم يقبلوا باي مظهر من مظاهر الاصلاح التي اراد الملك فيصل الاول القيام بها , خوفا على مناصبهم ومكاسبهم التي حصلوا عليها , وخاصة في المجال الطائفية السياسية , حيث انتقدهم بشدة في رسالته الشهيرة في اذار 1933 بالقول (ان شبان العراق القائمين بالحكومة وعلى راسهم قسم عظيم من المسؤولين يقولون بوجوب عدم الالتفاف الى افكار واراء المتعصبين وارباب الافكار القديمة , ويقولون بوجوب سوق البلاد الى الامام بدون الالتفاف الى اي راي كان .... طالما القانون والنظام بيد الجكومة , ترغم الجميع على اتباع ماتمليه عليهم) . اي انهم يقصدون ان الاصوات التي تطالب بالمساواة والشراكة من الشيعة والكورد والمسيحيين , لايجب الالتفاف اليها والاهتمام بها , طالما ان القوة العسكرية والقانونية والسياسية بيد الحكومة . وهذا يعني رفضهم لاي اصوات اخرى قد تخلخل مركزيتهم وهيمنتهم وسلطتهم النافذة على البلاد . وتنبع قوة الضباط الشريفين في مواجهة الملك فيصل والجماعات الاخرى التي تطالب بالعدالة والمشاركة بالادارة والحكم والمناصب العليا في الدولة العراقية , ليس الى اختراقهم لمؤسسات الدولة الامنية والعسكرية والسياسية فحسب , بل وارتكازهم وتقربهم الظاهر من سلطات الانتداب البريطاني والمندوب السامي من خلال رضوخهم لجميع السياسات البريطانية وتطبيقها في البلاد , واقرار المعاهدات وقمع الاصوات المعارضة والرافضة لتلك السياسات , حتى وصل الامر ان الملك نفسه لايستطيع ان يواجههم او يقف ضدهم .(الدكتور سلمان الهلالي /الناصرية) .