انت ايها العلماني العراقي .. انت (فولتير) في المكان الخطأ


سلمان رشيد محمد الهلالي
الحوار المتمدن - العدد: 7911 - 2024 / 3 / 9 - 00:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

تصاعدت بعد السقوط عام 2003 حمى انتقاد الدين والمطالبة بالدولة العلمانية والمدنية وفصل الدين عن الدولة , واغلبها جاء لدوافع سياسية لمواجهة الاحزاب الاسلامية الحاكمة التي بدأت تهيمن على المشهد السياسي في العراق , والخشية من قيامها بتأسيس دولة دينية .... وكنت من ضمن اولئك الافراد الذين انساقوا بقوة في الهجوم على الدين , واعتباره معرقلا للحداثة والتنوير , سواء اكان ذلك في المقالات والكتابات او المحاضرات التي كنت القيها على الطلبة في مناهج الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ , والتي كنت استغل فيها اي فرصة لنشر تلك الافكار العلمانية والتحريض على المفاهيم الدينية والمقدسات والمقامات والطقوس الحسينية وغيرها , الا انه وبعد تلك السنوات , عرفت اننا كنا نحارب (طواحين الهواء) , ونخوض حربا وهمية في المكان الخطأ , وان معركتنا كانت سياسية اكثر مما هى فكرية , وان تنويرنا هو فاشلا وغير مجديا للاسباب الاتية :
1 – الخطأ في الاعتقاد بان التنوير ينجح من خلال المقالات بالانترنت والدراسات بالصحف والمجلات والمنشورات بالفيس بوك وغيرها ... ويبدو ان الاوربيين كانوا يسخرون من هذا التوجه عندنا , فقد قيل بان الاديب الفرنسي اندرية جيد قال للكاتب المصري طه حسين (مسكين انت يا طه ... انك تعتقد انك يمكن ان تنشر التنوير من خلال الكلمات) وهى عبارة معبرة وبليغة ... فالعراقي العلماني يعتقد انه ما ان ينشر مقالا تنويريا في نقد الدين والمقدسات بالانترنت او بالفيس بوك , ويطلع عليه الناس او المتدينون حتى تنقلب افكارهم راسا على عقب , ويصابون بالارق والتوتر والاضطراب , ويتركوا الدين وراء ظهورهم ويصبحوا متنورين مثل (جون لوك) , وفاتهم ان الاغلبية من العامة اصلا لاتقرأ .. واذا قرأت فانها لاتفهم ماتقرأ ... واذا فهمت فأنها لاتطبق ... وعندنا الدليل العملي ومن الواقع هو نفسك انت ايها المثقف العلماني ... فانك اذا قرات مقالا او كتابا او منشورا عقليا ومنطقيا يخالف افكارك وأرءك السياسية والاجتماعية , فهل تغير افكارك ؟؟؟ وهل تبدل قناعاتك الفكرية ؟؟ بالطبع كلا ...اذن كيف تطالب الناس بما لا تستطع انت ان تفعله ؟؟؟!!! فالجميع يعرف ان الناس تغير افكارها وقناعاتها ليس من خلال الادلة العقلية والموضوعية والكتب الفكرية , وانما من خلال التحولات السياسة والمصالح الاقتصادية وغيرها , (الا اللهم القليل القليل)
2 – الخطأ في الاعتقاد بان العراقيين هم مسلمون حقيقة او متدينون واقعا , فيما ان الصحيح هو انهم عشائريون حقيقة ... وهذا الخطأ ناجم عن رؤية المشاهد المليونية للطقوس والزيارات الحسينية التي يقوم بها العراقيون سنويا , رغم المعرفة واليقين بان تلك الممارسات والطقوس هى اصلا ليست من ضمن الدين , وتدخل فيها مسارات اجتماعية وسياسية وعدوى وجدانية وفلكلورية واستعراضية وغيرها .. ويمكن الاحالة بهذا الموضوع الى المختص بالشأن العراقي , وافضل من كتب عنه الدكتور علي الوردي , فقد اكد (ان العراقي مسلم ظاهرا وبدوي باطنا) , اي ان قيمه وعصبيته وهويته وافكاره الحقيقية هى عشائرية وليس دينية .. وكلنا يعرف ان القيم العشائرية هى ليست بعيدة عن الدين فحسب , بل انها ضد الدين . وان الفرضيات الثلاث التي ذكرها الوردي في تفسير الشخصية والمجتمع العراقي وهى (صراع البداوة والحضارة وازدواجية الشخصية والتناشز الاجتماعي) لم يذكر فيها الدين - او القيم الدينية - كمحرك لتوجهات العراقيين . كما ان العصبية التي تسير العراقيين هى العصبية القبلية وليست الدينية , والتي عرفها الجابري بانها رابطة اجتماعية سايكولوجية شعورية ولاشعورية تربط افراد جماعة ما , قائمىة على الرابطة المشتركة . ولا حاجة الى القول ان العراقي اذا هاجمت عشيرته او شيخه فانه ينتفض ضدك بقوة , وربما يقتلك .. ولكن اذا هاجمت دينه ورسوله ورموزه , او شتمت الذات الالهية التي من المفترض انه يقدسها فلا احد يمسك او يرد عليك , وتجد مثلا المنشورات التي تهاجم الدين والمذهب الشيعي لايرد عليها الا القليل من الافراد من الاسلاميين المؤدلجين والمخلصين , لانها لاتستفز الفرد العراقي العادي او تنال منه شخصيا , فيما تجد المنشورات التي تهاجم عشيرة معينة او شيخها , فانها تنال الاف الردود والتعليقات والتهديدات .
3 – ان السبب الاساس لفشل مشروع التنوير عندنا هو انه لايستند الى اسس فكرية , وانما غرضه سياسي او يغلب عليه الجانب السياسي . وهذا النمط يشكل اكثر من 90% من الكتابات العلمانية في العراق . بل ان بعضها يعتمد الاسلوب الاستعراضي والخطابي والعبارات القصيرة مثل الشعارات في نقد الدين , دون بيان الدليل العقلي والمنطقي لها , واذا طالبتهم بالدليل او ناقشتهم حول منشورهم فانهم اما لا يردون عليك او يهاجموك شخصيا بدعوى انك تدافع عن الدين ورجاله , فيما ان الواقع هو انهم يهربون من النقاش ولا يمتلكون الحجة والدليل الفلسفي او الردود العقلية والمنطقية .
ان الدين والقيم الاسلامية التي - كما قلنا – هى بالاصل بسيطة وغير فاعلة في المجتمع العراقي , ورغم ذلك , فانها تشكل النظام الاخلاقي للافراد والجماعات , بل ربما هى النظام الاخلاقي الوحيد في المجتمع . فالقيم الحضارية هى بالتاكيد ضعيفة جدا , فيما ان القيم العشائرية القائمة على التغالب والتنافس والعصبية والتنازع والصراع هى قوية وفاعلة , لذا لم يبقى لنا سوى القيم الدينية التي هى بالواقع لاتوفر حصانة مطلقة عن الانحراف والفساد , الا انها توفر الحد الادنى من دوافع العمل الايجابي . وقد سألت الكثير من الافراد في المجتمع عن سبب عدم قيامهم بهذا العمل الخاطىء كالسرقة او التجاوز , فانهم يقولون ان السبب هو الخوف من الله . والعكس ايضا , فان جوابهم عن سبب فعل الخير او مساعدة الناس والفقراء , بل وحتى مساعدة ابائهم وامهاتهم الكبار في السن , فان دافعهم هو البحث عن الثواب والاجر والجزاء الدنيوي او الاخروي من الله . وتجد مصداق ذلك ان الفرد العراقي ما ان يتخلص من الدين حتى يرتكس في اتون السقوط عندنا , ووجدت هذا شخصيا عند الطلبة الذين درستهم والقيت عليهم المحاضرات العلمانية التي تنال من الدين , بانهم اصبحوا منعدمين القيم الايجابية كليا , واخذوا يتجاوزون على الناس وكبار السن ,ولاسيما الكوادر التعليمية من المدرسين والمعلمين واساتذة الجامعات , وربما شعرت بالاسى والاسف بأني قد ساهمت بصورة او باخرى في الترويج للسقوط الاخلاقي عند اولئك الطلبة دون وعي . ولازلت اتذكر لقطة معبرة في احدى الافلام الامريكية حيث قال احدهم (ان الحرية التي كنا نطالب بها ليست هذه) في اشارة الى انتشار التحلل والمخدارات والالحاد في اوربا وامريكا , وهذا ينطبق على واقعنا العراقي باجلى صورها , فالحرية التي كنا نطالب بها ابان الحكم الاستبدادي البعثي والطائفي والعنصري ليست هذه , ليست حرية احمد البشير وحسحس وابو شاهين وام الول وحسوني الوصخ ومجيد الاعرج الذين اصبحوا رموزا للجيل الجديد , وانما الحريات المسؤولة والفكرية والتعددية الثقافية التي تطور المجتمع وتطرح الاراء السديدة والتنويرية الحقيقية .
بعد انتشار الافكار الحرة بعد سقوط النظام البعثي الاستبدادي عام 2003 واستغلال مساحة الحرية التي وفرها النظام السياسي الجديد للكتابة والنشر بالصحف والمجلات والانترنت , شمر الكثير من العلمانيين العراقيين اقلامهم لمهاجمة الدين ورموزه واعلامه وخطابه , والرغبة العارمة بتقمص شخصية الفيلسوف الفرنسي (فولتير) بصفته اكثر المفكرين مهاجمة للدين ورجاله ومفاهيمه , وتقليدا لما حصل في اوربا ابان عصر النهضة والتنوير , والاعتقاد الخاطىء بان الفرد العراقي ما ان يتخلص من سطوة الدين والتحرر من وصاية رجال الدين والمؤسسة الدينية , فانه سيصبح تنويريا ومتحضرا وحداثويا , فيما وجدنا بان الفرد العراقي ما ان تخلص من الدين حتى اصبح اكثر عشائرية وبدائية , وهيمنت عليه القيم البدوية اكثر واكثر ... ويبدو ان هذا حد اسباب نجاح التنوير في اوربا , وهو انها ليست مجتمع عشائري , وانما برجوازي تنعدم فيه القيم البدوية , فجغرافيته ليست صحراوية , والطبقة الوسطى البرجوازية بدأت تتلمس وجودها وطريقها نحو الحداثة والتنوير , وحملت لواء الديمقراطية والليبرالية , وللدولة سطوة كبيرة وصلت حتى التقديس , حتى وصفها هيغل بانها (اله يمشي على الارض) .
لقد انبهر العلمانيون العراقيون – وخاصة في خارج العراق – بالتطور والتقدم والحداثة في اوربا وامريكا التي لجئوا اليها , واعتقدوا خطأ بان سبب هذا التقدم الهائل والاسطوري هو مجرد تركهم للدين وتحررهم من المؤسسة الدينية , وبالتالي فان مجتمعاتهم المتخلفة ودولهم النامية التي وفدوا منها ما ان تترك الدين , فانها ستكون حتما مثل اوربا وامريكا (اوتوماتيكيا) , وتماهوا مع هذه الدعوة كليا , واخذوا يروجون لها ليلا ونهارا , وبما ان اغلبية هؤلاء العلمانيون من الشيوعيين او البعثيين او الاسلاميين الاصلاحيين الذين عندهم بالاصل خلاف ايديولوجي وسياسي مع الدين بعامة والاسلاميين بخاصة , فانهم وجدوا في هذه الدعوة تناغما مع تواجهاتهم ومعتقداتهم , واصروا عليها اصرارا عجيبا , وفاتهم بان مابين المجتمع العراقي والدول الغربية هو (فجوة حضارية) التي ذكرها علي الوردي , وليست دينية او علمانية فحسب , فما يسمى بالدولة الوطنية التي تبلورت ما بعد الكولنيالية (الاستعمار) كانت علمانية , بل ان (علمانيتها جامحة) - حسب وصف فالح عبدالجبار - وتبنت جميع المسارات العلمانية المتطرفة بالتعليم والثقافة والفنون والاداب والسلوكيات الشخصية والايديولوجيات المستعارة كالماركسية والقومية والليبرالية والوجودية والعدمية والعبثية والفاشية والنازية والاختلاط وغيرها , الا انها لم تتطور او تتقدم نحو افق الحداثة حقيقة , وبقيت التصورات التقليدية والبنى المتخلفة قائمة من خلف الستار . بمعنى ان المجتمع العراقي قد دخل مسار العلمانية وفصل الدين عن الدولة طيلة عقود طويلة , وخلال العهدين الملكي (1921 – 1958) والجمهوري (1958 – 2003) , الا انه لم يصل الى مصاف الحداثة والتقدم الحقيقي , الا اللهم تلك المظاهر القشرية والبراقة التي تروج لها الدولة وماكنتها الاعلامية . وعندما تذكر هذا الرأي امام العلمانيين العراقيين كدليل يؤكد بان العلمانية بحد ذاتها ليست الحل السحري لتقدم المجتمع , وان الدين بحد ذاته ايضا ليس السبب الاساس بالتخلف او مقياسا للتطور والتقدم , فانهم يردون عليك من خلال مسارين :
الاول : ويرفض اصل الاطروحة القائلة بان المجتمع او الدولة العراقية كانت علمانية , وانما يؤكد بانها كانت متدينة في صميم هويتها وكينونتها , ويعطون بهذا المجال ادلة معينة يمكن العثور عليها من قبيل الاوقاف وبناء الجوامع ودروس الاسلامية بالمدارس وغيرها .
الثاني : ويؤكد بان المجتمع والدولة العراقية كانت متقدمة حقيقة , وان الحداثة كانت منتشرة في جميع مرافق الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية , وان النكوص قد حصل لاحقا بعد تسلم العسكر السلطة بعد ثورة تموز 1958 واسقاط النظام الملكي , او بعد تولي صدام حسين الحكم والحروب والحصار الاقتصادي والحملة الايمانية واعادة ترويج العشائرية التي حصلت خلال حكمه بين عامي (1979 – 2003) . فيما يرجع العلمانيين البعثيين واهل السنة حالة النكوص الى ما بعد السقوط عام 2003 .
الامر الاخر في اطروحة العلمانيون العراقيون - الذين ذكرنا سابقا ان اغلبهم يعيش في دول اوربا وامريكا واستراليا - هى ان الاعتقاد بسهولة الاستغناء عن الدين كما فعلوا هم - او كما فعل الاوربيون قبلهم - فكلنا يعلم بان المجتمعات والدول التي تصل الى مراحل متقدمة من التطور والتحضر والحداثة والقانون والعلمانية , فانها لاتحتاج الى الدين . فالدين ينتشر بالمجتمعات التقليدية والبدائية والمتخلفة والفقيرة والمحرومة , فهو حسب تعبير ريجز ديبري (ليس افيون الشعوب وانما فيتامين الضعفاء) , وكما قال غوتة (من عنده العلم والادب لايحتاج الدين , ومن ليس عنده العلم والادب فهو بحاجة الى الدين)(بتصرف) . الا ان العلمانيين العراقيين لم يفهموا هذا الواقع , واعتقدوا خطأ بانه يمكن للاخرين الاستغناء عن الدين مثلما فعلوا هم بسهولة , وفاتهم بانه من اجل تغيير طريقة تفكير مجتمع ما يجب ان تغير واقعه اولا , وبجميع مساراته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية , مع التاكيد على ضرورة وجود نخبة من الانتلجنسيا العصرية والبرجوازية الفاعلة والكتلة التاريخية لقيادة عملية التحول نحو افق الحداثة . فقبل عملية الغاء الدين يجب انتفاء مبررات وجوده اولا , فالدين ينمو بالخوف والحرمان والمرض والفقر , ويعيش مع الالم والمعاناة والاغتراب , وبما ان الدول الغربية قد تجاوزت تلك الاختلالات والاستلابات , فانها تجاوزت الدين والتدين , فيما يطالب العلمانيون في الخارج من العراقيين تجاوز الدين مع وجود تلك الاختلالات والسلبيات , وهذا خطأ كبير لايغتفر , وعندما تصارحهم بهذه الحقيقة او تطرحها عليهم , يهربون الى الامام بالقول (ان تلك الاختلالات موجود بسبب الدين , ويجب بالتالي ان نستغني عن الدين حتى تتلاشى كليا) وهو طبعا كذب وتضليل وتزييف واضح , لان تلك الاختلالات نتاج تطور تاريخي طويل الامد تراكم عبر قرون طويلة من التخلف والبدائية , وهى حصيلة عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية تفاعلت فيما بينها , واخرجت تلك التركيبة المشوهة من الواقع .
من تمظهرات الاصرار على السبب الديني في تخلف المجتمع العراقي عند بعض العلمانيين العراقيين هو التعمية على الاستبداد والتغطية على تاثيره كفاعل اساسي للتردي المدني والتخلف الحضاري , ومن ثم تبرير اعماله وسلوكياته الاجرامية ضد الاسلاميين او المتدينين . فكلنا يعلم ان الاستبداد والديكتاتورية هى (أس الاساس) في التشظي ونكوص الامة نحو الدين والهويات الفرعية وزرع الطائفية والعنصرية والانقسام والاحتراب في المجتمع العراقي , الا ان بعض العلمانيين العراقيين من اصحاب التوجهات والميول القومية والبعثية والطائفية والدونية الشيعية يعملون على التعمية والتغطية على التاثير السلبي للاستبداد والديكتاتورية في ترسيخ مظاهر النكوص والتخلف , والتركيز بدلا عن ذلك على الدين , او نقل المعركة والمواجهة الى الدين فقط . ولاحاجة الى القول انهم يقصدون بالدين المذهب الشيعي او الاسلاميين الشيعة فقط , وليس المذهب السني او الاسلاميين السنة , لان التلازم بين البعثيين والمذهب السني مثل التلازم بين الروح والجسد , فكلاهما واحد تجمعهما الحياة والمصير , وهذا الامر ليس عند البعثيين السنة فحسب , بل وحتى البعثيين الشيعة , فعندهم تقديس غريب وانبهار عجيب للمذهب السني والجماعة السنية في العراق , والدفاع عنها وتبرير اعمالها ورموزها وقادتها وتاريخها وعشائرها , وحنين كبير واسطوري لعبوديتها وخدمتها وتبعيتها . وقد تصاعد ظهور هذه الاراء بعد سقوط النظام البعثي الاستبدادي عام 2003 , فقد استغل البعثيون الحرية التي اعطت لهم في مواجهة التوجه الاسلامي الشيعي واعتباره سبب التخلف المدني والحضاري للتعمية على الحكم البعثي , وليس لاغراض علمانية – كما معلن – وانما لدوافع بعثية وسياسية وهى :
الدافع البعثي : وهو مواجهة الاسلاميين الشيعة لدورهم في معارضة صدام حسين والحكم البعثي ومواجهته , وخاصة ابان عقد الثمانيات والتسعينات من خلال التحالف مع ايران .
الدافع السياسي : وهو معارضة النظام السياسي الذي تأسس بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 , واضعافه ومحاولة اسقاطه من اجل اعادة الحكم البعثي والطائفي والعنصري من جديد , من خلال التحريض الاعلامي والتخوين والتكفير والارهاب .
وهذا الامر كان واضحا بصورة جلية عند العلمانيين اصحاب النوايا البعثية الخفية الذين حتما سينكرون هذا الكلام , والادعاء بان دوافعهم علمانية واصلاحية فقط , وان الرد عليهم من خلال اختبارين :
الاول : الموقف من الاستبداد البعثي والديكتاتورية الصدامية الطائفية والعنصرية . فهل ظهرت عندهم كتابات او مقالات في نقد تلك الحقبة الاجرامية وتعريتها ومهاجمتها ؟ ام ان الامر لم يحصل مطلقا , وربما هى كتابات خجولة او شذرات متفرقة للتعمية .
الثاني : الموقف من الاسلاميين السنة الذين ارتكسوا الى اشد التفسيرات والتصرفات سلفية ورجعية , من قبيل الارهاب والقاعدة وداعش , وعدم مهاجمتها او تبرير اعمالها .
ولاحاجة الى القول ان كلا الاختبارين قد فشل فيهما العلمانيون العراقيون من اصحاب النوايا البعثية الخفية من المخصيين الشيعة , او العلمانيين السنة من اصحاب التوجهات البعثية العلنية فشلا ذريعا .
من التمظهرات الاخرى عند العلمانيين العراقيين هى استلاب العلمانية . والاستلاب هو رد الفعل السلبي الذي يقوم به الفرد او المجتمع تجاه الاتهامات والاستهدافات التي يروجها الاخرون ضده , او الاستسلام للفكرة السلبية التي رسخوها ضده او الرضوخ للصورة النمطية التي الصقوها به. وسبق ان ذكرنا ان المثقف الشيعي العراقي - وخاصة الشيوعي والقومي والبعثي - يعاني من استلابات عدة لاحصر لها , تبلورت نتيجة الاستهداف الطائفي والعنصري والبعثي الطويل الذي كانت تقوم به الانظمة الاستبدادية السابقة قبل 2003 من اجل تدجينه وترويضه واسعباده , ومنها استلاب الوطنية واستلاب الحرية واستلاب الشجاعة وغيرها , لذا فهو يحاول المزايدة عليها والتطرف في تبني تلك المفاهيم والتصورات والمناداة بها . وذكرنا ذلك في مقالات ودراسات خاصة ومفصلة في موقع الحوار المتمدن . ومن بين تلك الاستلابات ايضا التي يعاني منها الفرد الشيعي هو (استلاب العلمانية) . فكلنا يعلم ان الجماعة الشيعية في العراق بعامة والمثقف التي ينحدر منها بخاصة تعرضت على مدى عقود طويلة من الاتهامات السلبية والمكافحات الثقافية والاستهدافات المنظمة من اجل اخضاعه وتدجينه وترويضه, ومنها الاتهام بالتدين والتبعية للمؤسسة الدينية الشيعية المعارضة تاريخيا لتلك الانظمة , والحجة الرئيسية بهذا الاتهام والسند الاساس لها هو الزيارات والطقوس الحسينية في عاشوراء , رغم انها – وكما سبق ان ذكرنا – انها ليست من الدين , وانما هى سلوكيات اجتماعية وعدوى وجدانية وتصرفات شعبوية , الا ان القوى الاستبدادية والطائفية والبعثية توجه الاتهامات بان المثقف الشيعي هو منغمس بالدين والطقوس , وانه ليس علماني او تقدمي او مدني حقيقي , وغرضها الرئيسي بهذا الاتهام هو تحريضه على مذهبه وهويته وتاريخه ورموزه , والتمرد عليها ومهاجمتها ونقدها , ناهيك عن الطعن بها والسخرية منها , رغبة منهم في تسريع انسلاخه عن مجتمعه وتحييده في الدفاع عنه , بل واعتباره الخط الاول للهجوم عليها والنيل منها , وفق مبدأ (الضد النوعي) وليس كما تشيع بان هدفها تحضره وعلمنته , والدليل هو عدم انسلاخ تلك القوى الطائفية الحاكمة من الاقلية السنية عن هويتها ومذهبها ودينها , والتواصل معها وتعزيزها من خلال الاوقاف العامة والمناهج الدراسية . الامر الذي جعل المثقف الشيعي يعاني من استلاب العلمانية – كما قلنا - والشعور بالنقص والدونية امام تلك الاتهامات والاستهدافات , لذا كان رد الفعل العام عنده هو محاولة ابعاد تلك التهمة عنه , من خلال اليات معينة تعتمد المزايدة في التصرفات العلمانية التي تنال من المذهب الشيعي وطقوسه ومهاجمته ونقده , واثبات نفسه امام تلك القوى بانه ليس شيعي , ولو كانت تلك القوى تقبل النيل من الاسلام , لفعل ذلك واعلن الحاده , ولكنها ترفض ذلك وتعتبر نفسها الاسلام نفسه . لذا تجد ان كتاباتهم ليست غارقة بالعلمانية فحسب , بل والسخرية والاستهزاء من المفاهيم والتصورات المذهبية الشيعية , ومحاولة اثبات نفسه امام (الاخر) المختلف بالثقافة والتوجه بانه علماني اصيل وتقدمي حقيقي , والرغبة بارضاء السيد الوهمي في ضميره وسريرته , والاقرار امامهم بانه ليس شيعيا او مسلما , ويبرء نفسه من هذا المذهب الذي الصقت به كل سلبيات الارض واختلالات التاريخ , فالسني عندما يكتب مقالا او كتابا او منشورا في مواقع التواصل الاجتماعي فانه يستحضر هويته وتاريخه ومذهبه ورموزه ومجتمعه , فيما ان الشيعي عندما يكتب مقالا او كتابا او منشورا في مواقع التواصل الاجتماعي فانه يستحضر ايديولوجيته ودونيته ووطنيته وعلمانيته والسيد الوهمي القابع في ضميره . وهذا الامر تجده بصورة كبيرة وظاهرة عند المثقفين من السادة العلويين الشيعة باعتبارهم اكثر الناس تعرضا للاستلاب والاستهداف من الانظمة البعثية والطائفية والعنصرية الحاكمة , لذا تجدهم اشهر العلمانيين واشرسهم في العراق , وعندنا نماذج عزيز السيد جاسم وهادي العلوي ومحسن الموسوي وحسن العلوي واياد جمال الدين واحمد القبانجي وغيرهم (وحتى علي الوردي هو سيد علوي وكتاباته تنويرية وعلمانية , الا انه لم يتعرض للاستلاب والدونية رغم الاستهداف الكبير الذي تعرض له من قبل تلك الانظمة الطائفية) .
الامر الاخر الذي يشجع انتشار الكتابات العلمانية هو ان مهاجمة الدين والمؤسسة الدينية في العراق فيها بريق وتباهي وكشخة , وتظهرك بمظهر المتنور والعلماني المتحرر اكثر من مهاجمة البنى المتخلفة والحقيقية الاخرى في المجتمع - ومن اهمها القيم العشائرية - فانت تهاجم مؤسسة لها تاريخ وثقافة وعلوم ورموز وحضور فاعل , فيما ان القيم العشائرية ليس في مهاجمتها ذلك البريق والتباهي , فهناك بالاصل شبه اجماع على اختلالاتها وسلبياتها وبدائياتها وتخلفها , رغم سطوتها وقوتها وفاعليتها اكثر من المؤسسة الدينية في عرقلتها قيم الحداثة والتنوير والتحضر . وهذا ما اكدته عبارة الكاتبة احلام مستغانمي (اننا العرب نريد ان نبدو ... لا ان نكون) أي نريد ان نبدو امام الاخرين اننا علمانيون وتقدميون ومتحضرون , فيما ان الواقع هو اننا ابعد الناس من تلك المسميات والعناوين , ولانعرف من العلمانية سوى مهاجمة الدين سياسيا او طائفيا .
ان هذا المقال لايعني باي حال من الاحوال هو ترك الاراء العلمانية والتنويرية ونشرها في المجتمع , (فبأقوى اسلحة الحاضر يجب ان نحارب الماضي) - كما يقول نيتشة - ولكن في الوقت نفسه نريد من العلماني العراقي ان يكون موضوعيا ومنطقيا وعقليا في النقد والتقوييم , ويستند على اسس فكرية وعلمية , وليس استفزازيا وشعبويا وسياسيا , هدفه الاستعراض وتفريغ طاقة الحقد الكامنة عنده ضد مجتمعه وهويته ومذهبه .. مع ترك التباهي بالتوجهات العلمانية واعتبارها امتياز نادر او اعطائها بعدا اكبر من حجمها من حيث تاثيرها او واقعها .. وان لاينسى المثل الشعبي الذي يقول (منو يعرف فطيم بسوك الغزل) .