الهيمنة وإفراغ جوهر النظام من أساسه


حنان بن عريبية
الحوار المتمدن - العدد: 6572 - 2020 / 5 / 24 - 20:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

إن تعقب الإنسان في أدق تفاصيل خصوصياته لم يحقق للمنظومة التقليدية المجد الذي عن طريقه تروم إثبات أنها الأصلح لتماسك المجتمع.. فالمحاولات المستديمة لضرب مكامن نشاط العقل البشري وتكبيل الطاقات الإبداعية للإنسان جعلت التمرغ في السائد والرتيب يزهق شعلة مفهوم ثقافة الحياة ككل ليقع استبدالها بثقافة شروط البقاء التي تملي على الإنسان كيف يحيا وبالتالي يكون تنازله عن حريته الفردية والفكرية بالخصوص أول بند عليه الخضوع له ليضمن السلامة والأمان.

إن التعامل مع صنف الإنسان المستهلك فقط يمكن لنفوذ السلطة بصفة عامة سواء الفقهية أو الوضعية طالما نلحظ امتدادا لتهالك الشريحة المجتمعية وتفككها.. وعلى ذلك نلحظ أن أشكال الهيمنة التي تمارس بالعالم العربي كلها تنصب في بوتقة إبقاء الإنسان مقادا وخاضعا..
والدليل على ذلك انتهاك علوية الدستور الذي يكفل كل الخطوط العريضة في حياة الفرد وبالتالي تتحول هذه العلوية مجرد حبر على ورق إذا كان الواقع المعاش لا ينطبق مع أسس الدولة المدنية.. فيكون ضمن إستراتجية مسبقة تخدم وجهات معينة.. فالدستور الذي يكفل حق الحياة هو نفسه يعدمها في العقل البشري وبالتالي يكون إجهاض ديناميكية هذا الأخير تخوفا من صحوة فكرية بالانتقاص من كينونة الفرد كسلاح يجمد كل طاقاته..

إن تباعد الفجوة بين ما تكفله الدساتير والواقع المعاش يطرح فرضيات متعددة منها النفوذ الكاسح من أجل خدمة مصالح معنية.. فالهيمنة في أشكالها المتعددة لا تريد حراكا فكريا بقدر صراعات لا تنتهي.. وهنا نطرح مسألة التداخل بين النظام والهيمنة.. إن هذه الثنائية لم تنصف المفهوم والغايات المرجوة منهما.. فالنظام إذا تحول فقط لخدمة مصالح خاصة وحصرية يتجرد من كنهه ويتحول لهيمنة كاسرة لا تنجو منها الشعوب وتمتد لتضرب كل سبل العمل لخدمة الأجيال القادمة.

إن النظام ضروري لامتداد تواصل الدولة فالمجتمعات غير المنظمة لا تصلح للريادة والتغيير بما تتسم به من تكالب فقط على احتكار السلطة بطريقة متعسفة.. فالنظام كعنصر أساسي في تركيبة الدولة لن يقوم بدوره على أكمل وجه لتحقيق التعايش السلمي وتحقيق الأمن والاستقرار إذا تداخل والهيمنة في بعدها المحتكر.. وبالتالي عدم توفر عنصر الاستقرار المجتمعي ينعكس آليا على الطبقات المجتمعية فتكون قابلة للتفكك بسهولة.. ما يطرح بدوره فرضيات عدة حول الأسباب المباشرة لقصور النظام في تحقيق الدور الأساسي له وهو الاستقرار وتتمثل هذه الفرضيات الواقعية إما في هشاشة الطبقة السياسية أو قصور القيادة في مواجهة الانفلات أو الانقسامات التي يفرزها التعصب سواء الديني أو الحداثي

إن العوامل التي تجعل من الدولة كيانا لا يتجزأ عن عقلية تركيبة العشيرة عديدة.. منها حجب جوهر الدولة المدنية وتهميشه في الأذهان عبر فزاعة أن التمدن خطر على الدين وبالتالي نجد تجاذبات لا تنتهي إبان التغطرس المفرط خاصة وأن تكاتف الجهود لتوحيد فكرة دولة القانون والمؤسسات وإرساء سبل المواطنة يضعف أمام استنزاف أي نوع من المجهود الفعلي في التغيير.. فمنطق الترهيب والتنكيل المعنوي يقوض جوهر الدولة المدنية

ومع الحصار المشدد على الفكر وتهميشه تتأصل الفوضى وتتغذى من الانقسامات التي لا تنتهي.. فالفوضى لا تسمح بالأفضل وهو عكس وجهة النظام.. كما نلحظ أيضا منطقا هجوميا في مجابهة أي شكل من أشكال الطرح الفكري.. على ذلك يتدخل النظام ليوقف انشقاقات مشطة تتسبب في تفكك العقد الاجتماعي الذي يربط الدولة بالمجتمع.. إن المخاض الفكري مهما كان نوعه هو سمة المجتمعات المتطورة.. فالحراك كزبد البحر خاصة إذا كان يسعى لتوحيد مفهوم التعايش السلمي.. ففسيفسائية الدول في تنوع شرائحها لا اختلافاتهم.. أما ثقافة اللون الواحد واعتماد استراتيجية التركيع لتكبيل كل سبل النشاط الفكري والإبداعي فهذا منطق الهيمنة لا النظام.. فكيف تتداخل المفاهيم في الأذهان وتتحول الهيمنة لصيقة بالنظام لدرجة أن لا تفرقة بينهما..

إن عنصر المصلحة هو مفتاح الإجابة فالمصالح تتعدد وتتفاوت ولكن أن تختزل كلها لمصلحة شخصية أو لمصلحة فئة وإقصاء وجود الآخر يفضي شللا على كينونة الفرد ويتحول حقه المشروع ككيان حر مجرد هامش.. على ذلك تتنوع الآليات المعتمدة لتحقيق الغاية الحقيقية من المصلحة عبر تواجد الفوضى
إن الصراعات ذات الخلفية الإيديولوجية من أول المسائل التي يمكن عن طريقها إرساء أنشوطة الهيمنة وتغلغلها.. وكلما زادت حدة الصراعات نجد فوزا ساحقا لاحتكار السلطة.. فوسيلة زرع الفوضى تؤصل التعصب وهذا لا يقتصر على الجانب الديني بل حتى دعاة الحداثة التي ومع الأسف تحمل نفس مصلحة منطق العشيرة.. ويبرز هذا في عقلية متهالكة تتجسد في منطق إن لم تكن معي فأنت ضدي .

فالتعصب لشيء يلغي الآخر طالما تغلب فيه نزعة الأنانية المرضية وحب التملك وقد طرحت هذه النقطة في مقال سابق.. ثم تأتي الآلية الضامنة لجمود الفكر وإبقائه في غيبوبة لا يصحو منها وهو تهميش التعليم.. إذ نعلم أن المنظومة التعليمية بالعالم العربي لم تلامس بعد كيفية إنجاب مجتمعات متماسكة من ناحية القدرات الفكرية لا المعرفية.. بقدر ما هو نلحظ تصنيع للقوالب.. فيكون الهدف الغالب مجرد نيل شهادة للالتحاق بميدان العمل أما الإضافة التي سيحققها المتعلم فهي لا تهم غايات الهيمنة والتسلط.. هو مطالب بالنجاح لنيل شهادة لا تحقيق نجاح فعلي خارج الجامعة يلامس سبل السعي الدؤوب للتغيير.. لذا نبتلى بجيوش أكاديمية مدجنة لا تملك تقديم الإضافة ولا الإبداع وتخضع لا للوعي بل لنزعة التعصب فيلتقي ما هو ايديولوجي بما تفرزه منظومة تصنيع القوالب..

فالتعليم العاجز عن تطوير مهارات الفرد الفكرية هو تعليم عاجز عن تغيير استراتيجيات فشلت في إرساء التغيير الايجابي وهو ما طرح الفرق الواضح بين المثقف وبين المتمدرس.
ويتجلى هدا الأمر باحتكار الثقافة واختزالها في مجموعات معينة تحركهم ماكينة الشهرة السريعة لترويج أفكارهم التي تتخذ نسقا واحدا مهما تعددت مشاكل الدولة الاجتماعية والاقتصادية ويكون هذا النسق منحصرا بين استفزاز العواطف أو تحريك مفتعل لمتاهة تبادل الجدالات العقيمة عبر خوض متاهة تبادل الشتائم والانشقاقات.
والفكر براء فهو لا يتعمد استفزاز العواطف بقدر استفزاز العقل ليفكر.. وانجاب تواصلا لا قطيعة مع الاتصال بالمشاكل الحقيقية للمجتمع.. إن الهيمنة لها تمظهورات عديدة تنخر كل ما من شأنه أن يطور العقل البشري والتعايش السلمي وبالتالي تفرغ جوهر النظام من أساسه.