رَحِمْ الزَّبَرْجَدْ (3)... الرِّسالة


حنان بن عريبية
الحوار المتمدن - العدد: 5278 - 2016 / 9 / 7 - 03:50
المحور: الادب والفن     

إنتابت الشّيخ نَبْهَانْ موجة غضب عارم وصرخ بعَاقِلْ:

ماذا تخال نفسك فاعلاً ؟ هيّا إرحل من هنا ولا تعد ثانية.. ودفعه بكلتي يديه.. كان عَاقِلْ يَرمُقُ زَبَرْجَدْ وكأنّه ينتظر منها أن تقول شيئا لكنّها لم تنطق بكلمة بل شعر من خلال نظراتها أنّ عليه أن يبرح المكان.. استدار عَاقِلْ نحو الباب وهمّ بالخروج.. فلقد كان بقدر حبّه أن يبقى خائفا على زَبَرْجَدْ سُخط الشّيخ نَبْهَانْ... عند الباب بدأت أيادي أهل المنطقة تتلقّفه ملقية به خارج الحشود وكان لا يسمع سوى عبارات استنكار...
توّجه عَاقِلْ نحو بيته بسرعة وجلب من محفظة أخيه قلم حبر وبعض الأوراق وجلس بطاولته المتواضعة يخطّ رسالة لزَبَرْجَدْ.. ولم يشعر بالوقت بعد أن أعاد قراءتها عدّة مرّات وكأنّه يقول لنفسه تفحصّي طيّاتها يا زَبَرْجَدْ...

قبع بالغرفة ينتظر حلول المساء بفارغ الصّبر ولمّا تأكدّ من خلّو الطّريق حمل رسالته وتوّجه نحو بيت زَبَرْجَدْ وبمجرّد إقترابه من نافذتها سمع أنّات مكتومة تصدر من غرفتها...فالتصق فمه كليّا بالنّافذة وأردف يقول:

زَبَرْجَدْ أتسمعينني.. أنا عَاقِلْ فخيّم الصّمت بالغرفة...حسنا أنا واثق ألان أنّك تصغين إلي.. سأترك لك رسالة.. أرجو أن تمدّي يدك وتستلميها...
لم يتلقّى عَاقِلْ جوابا فأعاد تكرار ما قاله مضيفا ثقي بي.. لكن كان ردّ زَبَرْجَدْ واضحا في عدم الإجابة.. فقال بنبرة فيها الكثير من الإصرار على أن تستلم رِسالته: لن تَخسرِي شيئا إذا أخذت الرّسالة.. على كلّ سأتركها هنا إن شئت قرأتها وإن شئت تركتها لِلرّياح....

وهمّ عَاقِلْ بِالمغادرة وفي كلّ خُطوة يخْطوها يلتفت للنّافذة وقفز كالمعتوه فجأة بعد أن رأى نافذة زَبَرْجَدْ تُفتح على مصراعيها لتكون رسالته بين أناملها...
كانت زَبَرْجَدْ مُتعبة جدًّا ورغم ذلك انزوت بغرفتها وفتحت الرّسالة بلهفة...

"إِلى حُرّة نال مِنها الشّجنْ واجتَاح بمُحيّاها كَدَرُ المحنْ
انهال عليها القَاصِي والدَاني وعبثت بِدَربها ضِباعُ الزّمنْ
عُنفوانكَ تَرامتْ عليه صَحْراء وتَقاسيمُ جَسدك جَعلوا منه ضرب بلاء
هَكذا فعَلوا.. هَكذا كان بَيني وبَينك لِقاء..."

أمّا بعد:

لسْت لأعرض عَليك أسْرًا ولا لألقّبك سَاحتي...لستُ لأسْترق مِنكِ تَوّهجًا ولستُ مِمّن يقبض على حُضُورَكِ بقَبْضة راحتي ....كُنت يوماً أراك كإكليل من مخدَعْ غصْن الحَياة ...بتطلّعهِ ...برونقهِ ...بمعاجمِ الفردَوس وطوْق النّجاة...سمعتُ عنْكِ وقسمًا بمحرابك الجلّي ...وتُرابك البهيّ...لم اسألْ...كنْت أُواسيك عَبْر نَسمات الصَّباح...كُنت أُهْديكِ شِعْرًا من عطر السّكينة ومُقلة الرِّياحْ...يا زَبَرْجدْ نالَ مِنّي التّعب في منطقة تحقنُ فِي أوردة الحقّ الغَضَبْ...يَوْم أبصَرْتُكِ تُصارعين جَهْلاً بِمعاناتك وكَثُر الصّخب...شيء بِدَاخِلي طَاف بكِ وحَمَاك ألْسِنَةَ اللَّهبْ...يا زَبَرْجدْ أنا رَجُلٌ عُنوانه بلا صيت...ومَكانُه بلا مَخيط الماسْ والذّهبْ...عِندما حَلَلْتُ بِمقامَكِ .... وَحَدَّثْتِنِي بصمت بَيْنَ ذِارعيْ سَجّانك عن القَهر والمظَالِم عن أشجانكِ...حينها عَبث بوِجْداني رُوح الانصَاف...واعْتراني دَفْعا لِنبذِ المكذُوب مِن العَفافْ ... لمْ أكن لي ولمْ أقبع تحتَ جدار سوى الواحِدْ الأحدْ...تلاقفتني الأيّام ...والقت بي في ذهابكِ ومجيئكِ...بابتسامة مِن سِحر العجب ...حدثّت عَنك الخِلَّ الخليل...وهو بدوره رآك أسطورة نَحتتها مَخازن الكون مَزّهوة وبِطربْ...لا يا تَاج البَركهْ ويا قِبْلة الرِّقة وتجلّيات الحركةْ وبَلسم تَناثر أشلاء الخَرز ...لا تليني ولا تَقبعي بكهوفِ المكتوم من الصُّراخْ....ولا تستسلِمي لِنطفةٍ عشواء تنهشك كَداء الكلبْ...
توقّفت زَبَرْجدْ عن قراءة رسالة عَاقِلْ وفتحت باب غرفتها وأخذت تركض نحو الباب لا تلين على شيء ولا تفكرّ سوى أن تتنفّس بين ذراعي عَاقِلْ .....