الانتفاضة العراقية الى اين؟؟


توما حميد
الحوار المتمدن - العدد: 6422 - 2019 / 11 / 28 - 13:34
المحور: ملف: الحراك الجماهيري والثوري في العالم العربي، موقف ودور القوى اليسارية والديمقراطية     

لقد حققت الانتفاضة العراقية لحد الان، ما كان يعتبر لوقت قريب شيئ من الخيال. قبل كل شيئ، لقد بثت روحية ثورية انسانية وتقدمية في المجتمع لاتعرف الحدود وقد همشت الكثير من المظاهر والسلوكيات والمواقف السلبية والرجعية والمتخلفة. كما كسرت حاجز الخوف من السلطة، وكشفت عن امكانات الجماهير ومايمكن ان تحققه، واعادت ثقة الجماهير بنفسها. وفي نفس الوقت ستترك هذه الانتفاضة تاثير على السلطة الحالية واي سلطة قادمة، وستشعر السلطة بان الجماهير تراقبها وتشكل خطر دائمي عليها مهما كانت نتيجة هذه الانتفاضة. لن يعود العراق بعد انتفاضة تشرين الى وضعه السابق. لقد أحدثت تغير كبير في المجتمع ووعيه ونظرته للحكم.
لقد اثبتت هذه الانتفاضة بان المجتمع العراقي وخاصة الجيل الجديد متمدن قادر على تنظيم حركة متمدنة مغايرة تماما لما تروجه التيارات الاسلامية والقومية بان المجتمع العراقي مجتمع محافظ ملتزم بالعادات والتقاليد والقيم الدينية والطائفية والاثنية والعشائرية الرجعية. في الحقيقية لقد ضربت هذه الانتفاضة كل التقاليد والعادات والقيم التي فرضتها القوى الاسلامية والقومية في الماضي عرض الحائط وارست تقاليد وقيم جديدة في المجتمع. ان درجة الاستعداد للتضحية و الشجاعة والمظاهر الإنسانية والمدنية التي تم عرضها في هذه الانتفاضة تصل درجة الاسطورة.
ومن انجازات هذه الانتفاضة هو بقائها سلمية لحد الان، وهكذا فقد سحبت اي حجة من ايدي المليشيات لتحويل مسار الاحتجاجات باتجاهات كالتي سادت في سوريا او اليمن.
كما تكمن اهمية هذه الانتفاضة في انها لاتقف خلفها السلطة او اي من القوى الحاكمة. لقد شهد العراق حركات واحتجاجات ضخمة في الماضي، الا انها كانت بتحريك من القوى الحاكمة مثل التيار الصدري وحزب البعث من قبله، الا ان هذه الانتفاضة لاتقف خلفها اي حركة سياسية لها يد في السلطة. من جهة اخرى يجدر الاشارة، بان اغلب المتظاهرين هم من المصنفين كشيعة ضد سلطة تقودها احزاب الاسلام الشيعي، فهي ليست من المحسوبين على طائفة ضد حكم طائفة اخرى.
ومن الامور المهمة ايضا هو مطالبة هذه الانتفاضة لحد الان بتغيير جذري في تركيب النظام السياسي في العراق ولاتقبل بتنازلات واصلاحات سطحية. فليس لقادة هذه الانتفاضة توهم بالسلطة والقوى المشاركة فيها وبالمليشيات الاسلامية والمرجعية الدينية وبتعهداتهم. لقد سحبت الشرعية من السلطة الطائفية- القومية الحاكمة التي اثبتت بان ههمها الوحيد هو التربح من الفساد والسرقة والمحسوبية غير ابهة بظروف الجماهير التي ترزح تحت الفقر والبطالة وغياب الامان وانعدام الخدمات.
ولكن رغم كل الذي حققته، تعاني هذه الانتفاضة من نواقص اذا لم يتم تجاوزها قد تمنعها من تحقيق الاهداف المرجوة منها. من هذه النواقص، هو بقاء الاحتجاج في الشوارع والساحات الشكل الطاغي على هذه الانتفاضة. ان نزول ملايين الناس الى الشوارع قد يكون كافيا لاستقالة حكومة تعير اهتمام لرأي الجماهير والرأي العام المحلي والعالمي، ولكن هذا لاينطبق على حكومات رجعية ليس لها ربط بالمجتمع مثل الحكومات في العراق وايران.
ان اقرب مثال لماهو مطلوب للاطاحة بالحكومة في العراق، هو ما حدث في مصر في 2011. فبالتزامن مع الاحتجاجات في الشوارع والساحات العامة، شهدت مصر موجة واسعة من الاضرابات واحتلال مواقع العمل، وهذا المزيج هو الذي اجبر حسني مبارك على ترك الحكم. فالحشد في الشوارع والساحات العامة خطوة مهمة ولكن يجب ان ترافقها الاضرابات واحتلال مواقع العمل وتعطيل الحياة الاقتصادية وكل مردودات الدولة القمعية. اذ تكمن نقطة ضعف السلطة الرأسمالية في تعطيل مواقع الانتاج. فالسلطة والقوة في اي مجتمع تعتمد في المطاف الاخير على التحكم بقوى الانتاج. الاحتجاجات في العراق، تقتصر الى حد كبيرعلى احتلال الساحات العامة وهي لم تتمكن لحد الان من اسقاط الحكومة الرجعية التي ليس امامها وامام شخصياتها من بديل غير التمسك بالسلطة وهي قد اكدت بان بامكانها العيش وتحمل مع هذا النوع من الاحتجاج وخاصة في ظل غياب ضغط عالمي يذكر. اذ تراهن الحكومة على بقاء الاحتجاج في الساحات وان تتعب الجماهير وتعود الى بيوتها. ليس القصد هنا بان المشاركين في الاحتجاجات في الساحات هم ليس من العمال بل ان هذه النمط من الاحتجاج هو اقل فعالية في مواجهة حكومة قمعية ورجعية ليس لها اي التزام اخلاقي. ان احتجاجات في الساحات العامة رغم أهميتها الا انها اقل قدرة في خلق ازمة للنظام الحاكم وتقديم بديل للحكم وهو أسلوب يسهل على الحكومة الى حد ما احتوائه.
كما ان قيام الطبقة العاملة بالاضرابات و شل الاقتصاد هي خطوة بدائية في تنظيم نفسها والاهم تقديم بديل للحكم.
ان نوع الاحتجاج ضد السلطة مهم في تحديد نوعية القيادة التي تبرز في خضم الاحتجاج. كل احتجاج يفرز قادته وكل الية للنضال تنتج قادة من نوع معين وبشكل عام احتمال ان تكون القيادة التي تبرز من خلال الاضرابات والمبادرات التي تصدر على مستوى موقع العمل قيادة عمالية تمثل العمال واكثر استجابة لمصالحهم واكثر فعالية هي اكبر من القيادة التي تبرز في التجمعات في الساحات العامة ليس لاسباب اخلاقية ونتيجة لصفات الاشخاص بل بسبب اليات العمل و الموقع الاجتماعي للاشخاص المشاركين.
ان فعالي وقادة هذه الحركة يفهمون اهمية توسيع الاحتجاج الى مواقع العمل، لذا نجدهم يصدرون دعوة بعد اخرى لتعطيل مواقع العمل والمدارس والجامعات والمرافق الاخرى ولكن لم يتم لحد الان العمل على هذا الجانب بشكل جدي.
ان تجربة مصر هي مثال قريب، بدون تنظيم الطبقة العاملة سوف يقوم جناح اخر من اجنحة البرجوازية باستلام الحكم والحيلولة دون حدوث أي تغير جدي في حياة الطبقة العاملة
ومن نواقص هذه الحركة هو عدم تقديم افق واضح لبديل الحكم وادارة المجتمع والية تحقيق هذا البديل وخطة عمل مستقبلية لمرحلة مابعد سقوط السلطة. فالجماهير المحتجة واضحة في هدف اسقاط السلطة الحالية والمطالبة بسلطة توفر الخدمات وفرص عمل وتنهي الفساد والفقر، وتضمن الحقوق والحريات ولكن كيف سيتم تحقيق هذه الاهداف، وما الذي سيحدث بعد اسقاط السلطة، وماهي الطريقة التي يدار بها المجتع وكيف سيتم منع تكرار ماحدث في مصر مثلا، اي انتقال السلطة الى جناح اخر من اجنحة البرجوازية القمعية هي امور غير واضحة.
بالتاكيد هناك قادة وخلايا ولجان خلف المشهد، تنظم هذه المظاهرات وتوجه المتظاهرين وتنظم الدعم اللوجستي وقد ابدوا قدرة كبيرة فيما قاموا به. ولكن الية تنظيم المظاهرات وقيادتها هي ليست نفس الالية المطلوبة للحكم وادارة المجتمع.
ولايمكن الجزم او التأويل على ان الحل سيصبح واضحا، اي ان الجماهير المحتجة سوف تاتي بالبديل عندما تواجه الواقع بعد سقوط السلطة، لسبب وهو انه لم يتم تحديد الية لتحقيق هذه الامور. التجارب السابقة قد اثبتت بان عدم وجود بديل للحكم والية واضحة لتحقيق هذا البديل لاتنتهي بشكل ايجابي حتى في الحالات التي يتمكن النضال الجماهيري في اسقاط النظام .
هناك اعتقاد بان مشكلة الحكومة الحالية الاساسية هي كون الشخصيات المساهمة فيها فاسدة وغير نزيهة، وسيتم تجاوز المشاكل التي تواجه المجتمع عن طريق اختيار شخصيات نزيهة. ولذا فان جزء من المحتجين ينتظرون بروزشخصيات نزيهة، ربما من خارج هذه الحركة تخلص العراق من الفساد المستشري في كل مكان. ولكن في الحقيقة ان تركيب النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والية عمله لها دور اكبر في تحديد النتائج. فالاشخاص يعملون حسب متطلبات النظام وليس العكس بدون تغير جدري في النظام ليس بمقدور الشخصيات مهما كانت قدراتها وعزمها ودرجة نزاهتها من خلق واقع مغاير بشكل كبير.
ان الالية التي يتم من خلالها اختيار البديل مهمة جدا. كما قلت في مكان، بالتاكيد العراق مليئ بالعقول والشرفاء ولكن هذا غير كافي لتحقيق البديل الذي ترنو له الجماهير.
وهناك بديل يطرح يتمثل باسقاط الحكومة من قبل الجماهير او حتى من خلال تدخل الجيش ومن ثمة تشكل حكومة مؤقتة من شخصيات مستقلة تقوم بسن دستور جديد و تاخذ على عاتقها تظيم انتخابات عامة تحت قانون انتخابات جديد وباشراف المؤسسات الدولية.
هذا البديل ياخذ المبادرة من الجماهير و يفرغ الانتفاضة من ثوريتها ويرسل الجماهير في مرحلة معينة الى بيوتها لتنظر النتائج التي لن يكون هناك اي ضمان بان تكون لصالحها. ان الدعوة الى تسليم السلطة ولو بشكل مؤقت الى الجيش فيه مشاكل جمة. فمن جهة الجيش نفسه قد لايكون متماسكا وقد يضعه في مواجهة الميليشيات وتبدا مرحلة من العنف. كما انه في احسن الاحوال، تسليم السلطة الى الجيش، ستعني اهداءها الى الجناح القومي، فبشكل عام وعبر التاريخ يمثل الجيش الجناح القومي.
كما ان اجراء الانتخابات في وضع مثل اوضاع العراق، وخاصة مع عدم وجود تهديد مباشر من قوى الانتفاضة الحالية، قد يعني ايصال نفس القوى الى السلطة بطرق جديدة و بوجوه جديدة. ان القوى البرجوازية الراسخة في المجتمع، لن تقف مكتوفة الايدي وهي ترى بان السلطة تنتزع منها. فهي ستستخدم القوة والمال والتضليل والخداع للسيطرة على السلطة المقبلة. فحتى في مجتمع مثل المجتمع الامريكي تقوم الرساميل الكبيرة من خلال مساعدة الاعلام ومؤسسات البرجوازية الاخرى التي تمتلكها اصلا من شراء النظام السياسي، فكيف الحال بالنسبة لدولة مثل العراق، حيث هناك ميليشيات مدججة بالسلاح وهناك ضعف كبير في سلطة الدولة وفي المؤسسات الاجتماعية.
يجب ان تبدأ عملية اختيار البديل للحكومة الاسلامية-القومية الحالية في العراق الان عن طريق تنظيم الجماهير نفسها في مجالسها واختيار ممثليها بشكل مباشر على مستوى موقع العمل والدراسة ومستوى المحلة والمنطقة والمدينة والمحافظة وصولا الى اعلى سلطة في البلد، اي من خلال الديمقراطية المباشرة. انتظار انتخابات برلمانية يعني تفريغ الانتفاضة من طاقتها الثورية. كما قلنا ستؤدي الانتحابات البرلمانية في وضع العراق الى صعود نفس البدائل القديمة بوجوه جديدة او بدائل شبيهة لها.
ومن نقاط ضعف هذه الانتفاضة هي انه في الوقت الذي حسمت امرها مع الاسلام السياسي وحكمه وسحبت الشرعية منه الأ انها لم تحسم امرها مع التيار القومي ولاتزال هنالك توهمات بالتيار القومي وفكره وبديله وان يكن لم يتجسد في حزب او تنظيم سياسي.
من جهة اخرى هناك توجهات فوضوية داخل صفوف هذه الانتفاضة، تقدس العفوية وتنبذ السياسة والتحزب والنتظيم. فتدعو الى نبذ التحزب والاحزاب وترفض تدخل الاحزاب وتعتقد بان هذه الانتفاضة هي حركة نظيفة واي تدخل من قبل الاحزاب واي تحزب هو تلويث لها. فبينما يمثل النضال من اجل فصل الصفوف مع الاحزاب الرجعية وخاصة المشاركة في الحكومة الحالية نقطة قوة هذه الانتفاضة فان نبذ التحزب وتدخل كل الحركات والاحزاب السياسية هي نقطة ضعف مميتة. ان اي تغير سياسي في المجتمع لن يحدث بدون تنظيم وبدون سياسة وبدون احزاب سياسية ثورية.
نعتقد بانه من اجل ضمان نجاح هذه الانتفاضة لاسقاط النظام في العراق يجب ان يتم توسيع الاحتجاج ليشمل الاضرابات العمالية وشل الانتاج. كما ان افضل وسيلة تلجا اليها الجماهير من اجل ادامة حركتها الثورية وتمارس ارادتها وتقدم بديل حكم وتختار قيادتها هي ان تنظيم الجماهير المليونية نفسها في مجالس جماهيرية ولجان ثورية وانتخاب ممثليها وقادتها بشكل مباشر على مستوى المحلة والمنطقة والمدينة والمحافطة وصولا الى اعلى سلطة الخ وان تقوم بهذا العمل الان وان لاتنتظر يوم الانتخابات.

ان سلطة تستند على المجالس ستكون اكثر فعالية و قابلة للمحاسبة وستقضي على هذه الهوة بين السلطة اي قلة قليلة تتحكم بكل مصادر القوة والجماهير الواسعة المحرومة من كل قوة وهي الهوة التي تشجع وتغذي الفساد وغياب القانون وعدم تلبية حاجات الجماهير اليومية.
كما ان تنطيم الجماهير في مجالس ولجان المحلات ومواقع العمل ترد على مسألة كون جزء كبير من الطبقة العاملة في العراق من العمالة الهشة. فهذه الالية لاتنظم عمال في القطاع الانتاجي فحسب بل في القطاع الخدمي والعاطلين الخ.
ستكون المجالس مصدر للتنظيم ووحدة بين الجماهير على كيفية ادارة المجتمع و شكل الحكومة المسقبلية. اعتقد انه امر حياتي ان تفصل هذه الحركة صفوفها عن التيار القومي الذي اثبت بشكل واقعي بانه بديله للمجتمع هو بديل رجعي وقمعي. ان الوطن الذي يبنيه التيار القومي هو وطن حزب البعث وبقية الانظمة القومية الرجعية والقمعية. سيقوم هذا التيار بإعادة انتاج السيناريوهات التي شهدناها عبر تاريخ هذه المنطقة. مثل هذا الوطن ليس له ربط بتلبية مطالب الجماهير بالامان والحرية والرفاهية.
لقد اثبتت التجارب في مختلف انحاء العالم بان حركات بحجم الانتفاضة العراقية تحتاج الى تنظيم و خط وافق واضح لعملية التغيير والبديل وهذا لن يتم بدون التنظيم و التحزب ووجود حزب ثوري يصبح اداة في يد الطبقة العاملة والكادحين وقيادة اشتراكية ثورية لها اعتبار، قادرة على توجيه التغيير وقادرة على التعبير عن مصالح الطبقة العاملة والكادحين وامالهم. الحركات غير المنظمة والتي ليس لها بديل واضح وتسود فيها توجهات مختلفة بغض النظر عن حجمها هي غير معلومة المصير ويمكن ايهامها و حرفها عن المسار الذي يخدم مصالح العمال والكادحين وفي الغالب لايتجاوز ماتكسبه بعض الاصلاحات السطحية. ان الفراغ و الفوضى التي قد يسود بعد سقوط النظام سوف تقوض الدعم للتغير وتجعل الانتفاضة فريسة للقوى السياسية الراسخة وستدخل البلد في ازمة طويلة الامد ولن تتمكن من الاجابة على المسائل الاساسية التي انتفضت الجماهير من اجلها الا وهي ايجاد فرص عمل وتأمين سبل العيش اولا وقبل كل شيء. يجب العمل بجدية الان من اجل منع حدوث هذا الامر.