قمر الجزائر 6


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5850 - 2018 / 4 / 19 - 16:44
المحور: الادب والفن     

حث سعدي خطاه أمام البريد المركزي ليجاري التواتر المُرْهِب للعابرين المُرْهَبين، دون أن يوفق إلى التخلص من قدره الملعون. بدا شارع العربي بن مهيدي –بطل أبطال آخر بطل على بطل- بلون الدم القاني، كالجرح الذي لم يلئتم، ونظرات العابرين تحيد عن منظرٍ مبتذلٍ، مبتذلٍ جدًا، بينما الجرح يضيء الضنى في عيونهم. حاول سعدي الهرب من الدم إلى فترينات الدكاكين، فأعجبته بعض البضائع المستوردة من باريس، بأسعار غالية حتى لملوك فرنسا، مما جعله يشعر برضى عميق، وهو يحس بما يحس به الجنرالات الأقوياء الذين جعلوا لهم من الأبراج الذهبية حصونًا والعاجية. لكن فجأة ضربه أحدهم على كتفه بعنف، وكاد يغمى عليه. اختلطت رؤيته، وكان كل شيء أسود من حوله، كما لو كانوا يريدون تذكيره بأن الزمن قد توقف عند منتصف الليل في يوم الاستقلال. عندما استدار، كان الرجل الذي ضربه قد ذاب بين الأفواج. ولضيقه، بقي تحت الصدمة، فأخذه دَفْقُ المارة معه على الرغم منه. كان منهكًا، وكان يجر قدميه جرًا، بينما كانت عيناه تدمعان. فكر فيها، في حَسِي، لكن بشكل آخر عما فكر فيها منذ قليل. فكر في بشرتها الملساء ملاسة الوليد، في جسدها الناعم نعومة المخمل، في عطرها اللاسع لسع البرق. فكر في حَسِيِّهِ، وأحس بالعذوبة في نفسه. ليتعزى؟ ربما. غير أنه كان غاضبًا من نفسه: كيف يجرؤ على التفكير فيها بمثل هذه الطريقة؟ هي التي أصبحت ماخورًا ينظر الكل إليها بعين الاحتقار، كلبة قذرة تفتح ساقيها لأول قادم، حائكًا دمويًا ملوثًا بالخطيئة! لم يُرِحْهُ ذلك. كانوا في رأسه، عساكر كل الشياطين أولئك. هم الذين كانوا يحتلون روحه. إن لم يكونوا من حوله، كانوا فيه أفكارًا، صورًا خليعة، هذيانات، فلم يعد يفكر في جريمة حسيبة التي اقترفتها في حقه بل في الجريمة التي اقترفها في حقها. في أعين العساكر، في أعين السلطات التي لا تُرى ولا تُقَدَّر ولا تُدْرَك، كاللصوص المتعذر إمساكهم، سلطات الانقلابات العسكرية الإلهية، عليه أن يكون وحده المذنب. في كلتا الحالتين، كان واثقًا من مطاردة الخطيئة إياه. تأوه، وتابع لحس الفترينات. كانت البضائع المستوردة تشد انتباهه أكثر في زمن تجتاح فيه المنتجات المحلية غير الجذابة الرفوف. لكن هل توجد منتجات حقًا؟ ومحلية فضلاً عن ذلك؟ خزعبلات! عاير بنظره أرداف بعض النساء المحجبات، ونظر إلى السماء، فانتبه إلى أن الشمس على وشك الغروب أمام لامبالاة المارين. كان الغروب مدمى، فأسرع الخطى، بعد أن أعجبته بدلة إيف-سان لوران في الواجهة الأنيقة الوحيدة التي التقط اسمها: "كلوديت".